ولادة قلم
قلم يشق طريقه
الصحافة قبل خمسين سنة
أزمة قلم
بين الأمل واليأس
بين الوظيفة والصحافة
في الحرب العالمية الأولى
بين الموت والحياة
ذكريات وشخصيات
في أرض الميعاد
دين وفلسفة
في الشعر العربي
أدب وفن
المدرسة الرمزية
ولادة قلم
قلم يشق طريقه
الصحافة قبل خمسين سنة
أزمة قلم
بين الأمل واليأس
بين الوظيفة والصحافة
في الحرب العالمية الأولى
بين الموت والحياة
ذكريات وشخصيات
في أرض الميعاد
دين وفلسفة
في الشعر العربي
أدب وفن
المدرسة الرمزية
حياة قلم
حياة قلم
تأليف
عباس محمود العقاد
ولادة قلم
ألا أعرف نفسي؟
سؤال نسمعه كل يوم ولا نجيب عنه، ولا يجيب عنه قائله؛ لأنه في عرفنا جميعا غني عن الجواب، أو جوابه بلسان الحال يغني عن جوابه بلسان المقال، وكأننا نقول لكل من يسأله: عفوا ... كيف لا تعرف نفسك؟ ... تعرفها بالتحقيق!
ومع هذا أقول بعد تجربة طويلة للبواعث النفسية التي تدفعني إلى أكبر الأعمال وأصغر الأعمال على السواء: إن الإنسان يعرف نفسه بالتخمين لا بالتحقيق، وإنه كثيرا ما يكون في تخمينه عنها غريبا يبحث عن سر غريب، ولا فرق في هذا بين البحث عن أعمالنا، والبحث عن أعمال غيرنا إلا في الدرجة والمقدار، بحكم العادة والتكرار.
حديث مع نفسي!
إنني أعمل في تحرير الصحف من خمسين سنة، وكنت أكتب لها متطوعا قبل ذلك بسنوات قليلة ... وأزيد القارئ فأقول: إنني منذ بلغت سن الطفولة وفهمت شيئا يسمى المستقبل لم أعرف لي أملا في الحياة غير صناعة القلم، ولم تكن أمامي صورة لصناعة القلم في أول الأمر غير صناعة الصحافة.
ولكنني مع هذا أسأل نفسي الآن كما سألتها من قبل: لماذا اخترت هذه الصناعة دون غيرها في طفولتي، وجعلتها أملا من آمال الحياة الكبرى ... بل أمل الحياة الأكبر؟ فلا أدري باعث هذا الاختيار على سبيل التحقيق، ولا أستغني فيه عن التخمين أو التخمين الكثير، بعد المقارنة بين ذكريات الطفولة وملابساتها، وبعد الترجيح من هنا والشك من هناك، كما يفعل الباحث في السير والتراجم حين يعمد إلى التخمين عن حياة الآخرين.
وأكثر من هذا: إنني «أضبط» نفسي وهي تروغ مني، وتحاول أن تقنعني بوجهة غير الوجهة التي تعنيها أو تعنيني، ثم نتلاقى مبتسمين، وأكاد أسألها: أأنت هنا؟ وتكاد تسألني: وها أنت يا صاح؟ ... ثم لا نلبث أن نعلم أننا لم يفهم بعضنا بعضا من الكلمة الأولى، وأننا نحتاج بعدها إلى كلمة أو كلمات نثوب بعدها إلى التفاهم والاتفاق. •••
قلت: إنني لم أعرف لي في طفولتي أملا غير صناعة القلم.
وهذا صحيح ...
وهذا غير صحيح ...!
صحيح إذا نظرنا إلى الوجهة القصوى في نهاية الطريق.
وغير صحيح إذا نظرنا إلى عطفة هنا أو منعرج هناك، أو زقاق بين بين في أثناء الطريق ...
كلا! بل تمنيت حينا أن أكون جنديا، وتمنيت حينا أن أكون عالما زراعيا، وهما فيما يبدو صناعتان متباعدتان!
ولكنني لم ألبث أن علمت أنني تعلقت بالجندية لأنني أريد صناعة القلم، وتعلقت بالعلوم الزراعية لأنني أريد صناعة القلم، وأن صناعة القلم كانت تلمحني بعينيها الساحرتين من وراء النقاب، وأنا أحسبني أغازل صناعة السيف، أو أغازل صناعة المنجل والمحراث ...
حادث مع قومندان الإنجليز
كانت لعبة الجيوش في أواخر القرن التاسع عشر لعبة الأطفال المفضلة في أسوان، وكانت دروب المدينة وحيشان المدارس والمكاتب ميادين قتال لا ينتهي بين جيش مصر وجيش السودان وجيش الدراويش وجيش الترك وجيش الإنجليز ... وكلهم بين قادة وجنود من صغار الأطفال الذين لا يجاوزون العاشرة؛ لأن المسألة كانت جدا - ولم تكن لعبا فحسب - مع الأطفال في هذه السن على الخصوص؛ إذ كانوا يسمعون أن الدراويش إذا دخلوا قرية قتلوا رجالها، وسبوا نساءها، وحملوا أطفالها مطعونين على أسنة الحراب، فلا جرم تشغلهم هذه الحرب عن كل شاغل من شواغل الخطر والخوف، فضلا عن شواغل الألعاب ...
ومما أتمثله أمامي حتى الساعة، وأبتسم له كلما تمثلته: منظر زميلنا المقدام «عبد المعطي فرج» قائد الجيش السوداني المغير على مكتب «القومندان» في المعسكر الإنجليزي، وهو يصيح وأذنه في يد القومندان الجبار: «مش أنا يا عمي ... مش أنا والله يا مستر ...» ويكاد القومندان يقهقه وهو يدفعه إلى الخارج، ويزجره قائلا: «سأعلمك كيف تنط يا خنزير!»
ذلك أننا في هذه الهجمة زدناها حبتين، ولعلها زادت في الحقيقة أكثر من حبتين!
قررنا - نحن قادة الجيوش المصرية - والسودانية أن نهجم حقا على القومندان الإنجليزي في معقله بجانب المدرسة، وكان هذا القومندان رجلا صارما يخافه الإنجليز من مرءوسيه، ويستعيذ من شره أهل المدينة الخاضعون لأحكامه العرفية، فما هو إلا أن سمع دبة عبد المعطي تحت السور حتى وثب إلى الباب مستغربا أن يجترئ أحد على اقتحام مكتبه هذا الاقتحام في وضح النهار، وفتح الله على قائدنا المغوار - عبد المعطي - بالعذر الوحيد الذي لا يقبل التصديق في هذا الحرج الشديد: أذنه بين أصبعي الرجل، ولسانه يصيح: إنه ليس هو المقبوض عليه.
على الربابة!
هذه اللعبة - لعبة الجيوش - كانت شغلنا الشاغل في المدينة التي لا لعب ولا لهو فيها، وكانت من جانبي أنا على الأقل لعبة عسكرية أدبية في وقت واحد ... لأنني كنت قائد الجيش المصري الذي يطلب المبارزة من الأعداء، ويطلبها على الطريقة العنترية الهلالية اليزنية المشهورة في ملاحم شعراء الربابة، فلا يبدأ الصدام قبل تبادل الشعر الحماسي على حسب المقام ...
وكان زملاؤنا - أو أعداؤنا - يستعينون في تحضير هذه الحماسيات بشعراء الربابة، الذين امتلأت بهم قهوات البلدة في أيام الحملة السودانية، وأغنوها عن المسارح، وملاعب البهلوانات والقرقوزات؛ لازدحام المدينة بالجنود والباعة من أبناء الصعيد - طلاب هذا الضرب من القصص والأناشيد - ومن لم يجد من الطلاب بغيته عند شاعر الربابة طلبها في بيت هنا أو قطعة هناك من كتب المحفوظات أو روايات التمثيل، وفيها الكثير من مواقف الفخر والحماسة، أو مواقف التخويف والتهويل.
وكنت أنا قد جربت نظم الشعر في بعض المقاصد المدرسية، فشجعتني التجربة على نظم الأناشيد الحماسية لميدان المبارزة، وأردت أن أثبت للسامعين أنني صاحب تلك الأناشيد، فالتزمت في نظمها أن أذكر اسمي كاملا في كل قطعة منها، وانتصرت بها انتصارا أعظم من انتصار القتال؛ إذ أوشكت المناوشة كلها أن تنحصر في الاستماع إلى قصائد الفخر والحماسة بغير قتال ...
وانتهت مدتي في الجندية بنهاية هذه الجندية المتطوعة! ... فلم يعسر علي أن أفهم أن حماسة النشيد هي بيت القصيد عندي من الجندية والتجنيد، وأنها كانت منفسا للملكة الناشئة التي لم تستقر بعد على قرار ...
سر الولع بالزراعة
أما الولع بالعلوم الزراعية، فلم ألبث أن علمت أنه في دخيلته ولع بتطبيق الأشعار التي كنت أقرؤها عن الأزهار والعصافير، والحدائق وجداول الماء والأنهار ... وربما كان مدخلها إلى نفسي أعمق من ذلك، وأخفى مكانا على النظرة الأولى التي نظرتها بها يوم ذاك، فإن علوم الزراعة تعين على مراقبة أطوار الحياة، وغرائب الحيوان والنبات، وليس أوثق من العلاقة بين الدراسات النفسية، وبين تلك الغرائب والأطوار، ولا أراني حتى الساعة أوثر كتابا في سيرة علم من أعلام التاريخ على كتاب في طبائع الأحياء والحشرات، أو آثارها القديمة في بقايا الحفريات ...
كانت أمنية الجندية وعلوم الزراعة إذن ترجمة لأمنية الكتابة مستعارة في صورة من صور الصناعات الأخرى، وبخاصة حين نذكر أنها كتابة لا تخلو من نضال، ولا تخلو كذلك من زراعة ولا من عناية بالحياة والأحياء.
ومثل هذه الترجمة فيما أظن معهودة في كل محاولة ناشئة قبل أن تستقر على قرارها، فلا يزال الناشئ يتمنى شيئا بعد شيء، ويجهل ما يتمناه حتى يثبت فيه على القرار الأخير ... ويومئذ يعلم أنها كانت جميعا أمنية واحدة في باطنها، وأنه كان بينه وبين نفسه في هرب ولقاء كأنهما في طراد البحث والاستخفاء.
أول مجلة
وأحسبني حتى الساعة لم أبلغ من معرفة الباعث الصحفي في نفسي مبلغ اليقين الجازم الذي لا رجعة فيه، ولكنني على يقين جازم من أنني أنشأت صحيفة في طفولتي الباكرة، وأنني لم أنشئها قبل أن أطلع على ودائع دولاب المنظرة في بيتي، وأكثر ما فيه صحف أسبوعية أو شهرية قديمة، وأكثر هذه الصحف القديمة من مجلات عبد الله نديم، وليس بينها أكثر عددا ولا أكبر حظوة عندي يومذاك من مجلة «الأستاذ».
ودولاب المنظرة مستودع عزيز يعرفه أبناء الريف، ولا تخلو منظرة في بلدة ريفية من دولاب منه على الأقل، يفرغ في جوف الحائط، ويقام عليه باب بمفتاح أو بغير مفتاح، ويغلب أن يكون بغير مفتاح؛ لأن الودائع التي يحرص عليها أصحابها لا تودع في المناظر على متناول الداخل الغريب.
وعلى تعداد الصحف في دولاب المنظرة عندنا لم تكن بينها صحيفة أبرع في العناوين من صحف عبد الله نديم، وكان هذا الصحفي المطبوع أستاذ زمانه، بل لعله أستاذ من أساتذة العناوين في كل زمان ...
من عناوينه عنوان «كان ويكون» للترجمة، وعنوان «التنكيت والتبكيت» لاسم صحيفة، وعنوان «المسامير» لكتاب هجاء، وعناوين أخرى بهذه البراعة لعشرات من الفصول والأخبار.
معارضة النديم!
ولفتتني العناوين البارعة فقرأت كل ما وجدته من صحف النديم، ووجدتني ذات يوم أقطع الورق قطعا على قدر المجلة، وأعمد إلى مكان العنوان منها، فأكتبه بخطي متأنقا، وأعارض عنوان «الأستاذ» بعنوان «التلميذ».
أما المقالة الافتتاحية فقد كانت أيضا من قبيل المعارضة لمقالة من أشهر المقالات، التي تردد صداها زمنا في البيئات المصرية، وهي المقالة التي جعل عنوانها «لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا»، وافتتح بها الجزء الثاني والعشرين من السنة الأولى.
فكتبت مقالي الافتتاحي وجعلت عنوانه «لو كنا مثلكم ما فعلنا فعلكم».
وكان فحوى مقال النديم أننا نطلب الاستقلال، وندعي أننا والأوروبيين أشباه وأمثال، ولكن الأوروبيين ينكرون هذه الدعوى، ولا يكلفون أنفسهم غير دليل واحد يثبتون به الفارق البعيد بيننا وبينهم، فإذا قلنا لهم: نحن مثلكم قالوا لنا: تلك دعواكم، ولو كنتم مثلنا لفعلتم مثلنا ...
واستغرقت مقالة النديم أكثر من عشرين صفحة ختمها بقوله:
إن آخر الدواء الكي وقد بلغ السيل الزبى، فإن رفأنا هذا الخرق وشددنا أزر بعضنا ... أمكننا أن نقول لأوروبا: نحن نحن وأنتم أنتم، وإن بقينا على هذا التضاد والتخاذل واللياذ بالأجانب فريقا بعد فريق، حق لأوروبا أن تطردنا من بلادنا إلى رءوس الجبال؛ لتلحقنا بالبهيم الوحشي وتصدق في قولها: لو كنتم مثلنا لفعلتم فعلنا.
وتناولت في مقالي فقرات النديم واحدة واحدة بردود لا أذكرها الآن، ولكني أذكر منها ما يدل عليه العنوان، وفحواه أننا - نحن الشرقيين - لو كنا مثلكم - أيها الغربيون - فاتحين منتصرين لما فعلنا فعلكم من نهب الأموال، واستباحة الحقوق وافتراء الأكاذيب والتعلل بالمواعيد، ولكننا لسنا مثلكم ولا نريد أن نفعل فعلكم، وسترون فعلنا عما قريب ...
ثم أصدرت من صحيفة التلميذ المخطوطة بضعة أعداد لم يكن لها من قراء غير زملائي في المدرسة، وأقاربي المشجعين أو المتندرين المتفكهين، ولم يكن لها من اشتراك غير تعب النسخ لمن يراها مستحقة لهذا الثمن ...
عادة ... من أيامها!
إخالني الآن على حق إذا قلت: إن هذا السر - سر دولاب المنظرة - هو كذلك سر الاتجاه الأول عندي إلى صناعة القلم، ويؤيد هذا الظن الراجح أنني تعودت من أيامها عادة لم تفارقني إلى اليوم في تجهيز ورق الكتابة الصحفية بصفة خاصة ... فهذه الورقة التي أكتب عليها الآن مقصوصة على النحو الذي اخترته لصفحات مجلة «التلميذ» ... ومتى كتبتها طويتها طولا كما تطوى المجلة، ووضعتها في غلاف مستطيل كالغلاف الذي توضع فيه المجلات، وقد اتخذت من هذه الأوراق ومن ذلك الغلاف ذخيرة حاضرة أوصي بصنعها إذا نفدت من السوق، كما تنفد أحيانا في بعض أيام الحروب العالمية. •••
وعلى هذا النحو من التخمين نعرف أنفسنا باحثين مترددين، قبل أن نصل إلى اليقين، إن وصلنا إلى يقين ...
لكنني لا تفوتني كلمة سمعتها من صديق كان يناقشني كلما تساءلت عن سر اتجاهي إلى صناعة القلم، فيقول: وهل من حاجة إلى البحث عن سر لهذا الاتجاه؟ ألا يكفي أنك أنست من نفسك القدرة على الكتابة، فاتجهت إلى صناعة الكتابة؟ ...
ولست على رأي الصديق في هذا التعليل لاتجاهاتنا النفسية، فإن الملكة النفسية تخلق فينا قبل أن تخلق لها أدواتها، وربما كانت سهولة الكتابة عندي نتيجة مستفادة من سهولة القراءة، ولم أكن قارئا إلا لأنني سأكون كاتبا يوما من الأيام متى تيسرت الأداة.
على أن شعور الطفل بقدرته على الكتابة لا يأبى عليه أن يتمنى الوزارة، أو يتمنى الوجاهة الاجتماعية، أو يتمنى صناعة القلم مبتدئا بعمل من الأعمال الكتابية غير الصحافة، ولست أعتقد أن مئات الأطباء والمهندسين والصناع، وذوي الملكات المنوعة الذين ظهروا من أبناء جيلنا قد استلهموا اختيار صناعاتهم من وحي القدرة على علم من علومهم المدرسية، بل لعلهم توجهوا وجهتهم في مستقبلهم على الرغم من جميع تلك العلوم.
جيل وجيل
كان عبد الله النديم أستاذ مدرسته في الصحافة والدعوة الوطنية، وكان كل من نشأ بعده بقليل بين واحد من اثنين: إما تلميذ يقتدى به، وإما خصم يبغضه وينحى عليه ...
ونشأ مصطفى كامل في هذه المدرسة، وكان خصوم النديم يزعمون أن الخديو لم يعرض عن الأستاذ ويقبل على التلميذ إلا لأن أبناء الأسرة الخديوية غضبوا لتقريبه رجلا كان يحاربهم في الثورة العرابية، ويعمل على تقويض عرشهم، فاختار الخديو من تلاميذه شابا بعيدا عن هذه الشبهة، وميزه على أستاذه لمعرفته باللغة الإفرنجية، وقال «ولي الدين يكن» في كتابه «المعلوم والمجهول»:
من أجل هذا قال أكثر الأمراء من الأسرة الحاكمة على مصر: إن مقام الإمارة لا يقرب منه النديم؛ لأنه عدو أسرته وجنسه، وبهذه السياسة المضحكة آل الأمر إلى الاعتماد على «كامل»، وقد كان كامل ممن يرددون نغمات النديم، وإنما ميز المقلد عن المجتهد إلمامه باللغة الفرنساوية، واستطاعته بيان آرائه للغربيين، ولم يفز النديم بمثل ذلك.
إلا أن الأمر لم يكن في هذه المسألة خاصة أمر اللغة الإفرنجية؛ لأن الخديو قرب إليه الشيخ علي سوف الأزهري، وهو ممن أنشئوا الصحف منافسة للنديم، وتطلعوا إلى محاكاته في المنهج والأسلوب، ولكنها مسألة المدرسة الصحفية التي كانت تحمل علم الدعوة أمام الصحافة المسخرة للدعاية الأجنبية، ولم تكن هناك مدرسة تحمل هذا العلم في أول عهد الاحتلال غير مدرسة النديم.
ويصدق هذا على جيل النديم والجيل الذي تلاه، ولكنه لا يصدق على الجيل الذي نشأ بعد ذلك بسنوات؛ لأن هذه الفترة قد اتسعت لعوامل جديدة في السياسة والتفكير تخالف العوامل التي غلبت على الثورة العرابية، أو على جيل المخضرمين بين الثورة والاحتلال.
أنا ... والنديم
ولهذا أرجع إلى ظواهر كثيرة صاحبت نشأتي الصحفية، فلا أستطيع أن أقول: إنني على الجملة من تلاميذ مدرسة النديم، وإن كان النديم أول من لفتني إلى العمل في الصحافة، وكانت مطالعته أول مطالعة وجهتني إلى هذه الصناعة ...
لا بل هناك مشابهات عديدة بين النديم وبيني لا أدري هل جاءت من وحي القدوة الخفية، أو جاءت مصادفة بغير قصد مني ولا من أحد ...
فقد تعلمت صناعة التلغراف كما تعلمها النديم، واشتغلت بالتعليم في مدرسة خيرية كما اشتغل النديم، وجربت الاستخفاء على الطريقة البوليسية أكثر من مرة إبان الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعل النديم عند مطاردته في أعقاب الثورة العرابية.
ولكنني - مع هذه المشابهات - لم أشعر من قبل، ولا أشعر الآن بأن الرجل قدوتي المختارة بين أمثلة النبوغ التي أتمناها، أو بين «الشخصيات» المثالية التي أجلها وأحب أن أنتمي إليها ...
وأحسب أن المرجع في هذا الاختلاف إلى سببين: أحدهما يرجع إلى الأحوال العامة، والآخر يرجع إلى المزاج الشخصي الذي فطرت عليه ...
فالأحوال العامة في عصرنا تخالف الأحوال العامة قبيل الاحتلال، أو في الفترة بين الثورة العرابية والاحتلال؛ لأن دخول الإنجليز مصر كان مسألة دولية تعمل فيها الدولة العثمانية عملا «قانونيا»، يصح الاعتماد عليه باعتبارها صاحبة السيادة القانونية على الديار المصرية، وكانت مناورات الدول المتنافسة على فتوح الاستعمار بابا مفتوحا على مصراعيه، يتسع للمساومات والدسائس والمعاكسات، ويتعلق الأمل به من جانب المصريين ولو إلى حين ...
وهذا فيما نظن أحد الأسباب التي تحولت بأنظار عبد الله النديم وتلاميذه إلى الدولة العثمانية، وجعلت سيادة هذه الدولة على مصر ركنا مهما في برنامج مصطفى كامل، والحزب الوطني الذي قام على يديه ...
أما في عصرنا - نحن الذين ولدنا بعد الاحتلال - فقد أصبحت مسألة الاحتلال من أعبائنا الوطنية، التي لا عمل فيها للدولة العثمانية، ولا للمناورات الدولية، وإنما يقع العبء الأكبر فيها على عواتقنا نحن المصريين ... فلا يجوز لنا أن نفرط في مبدأ الاستقلال من أجل صيغة «شكلية» لا تفيدنا في جهادنا إن صح أنها كانت تفيدنا قبل ذلك ...
هذا هو سبب الاختلاف بين جيلنا وجيل النديم، فيما يرجع إلى الأحوال العامة.
وأما سبب الاختلاف الذي يرجع إلى المزاج الشخصي، فخلاصته في كلمتين: إن الرجل كان ينزع كثيرا أو قليلا إلى شيء من التهريج، وإنني نشأت في بيئتي البيتية بين أبوين محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار و«اللياقة»، ونقلت هذا الخلق منهما بالوراثة كما نقلته بالقدوة والمحاكاة ...
كل الناس ... ولا عباس!
ومما يحضرني من ذكرياتي فيما دون العاشرة أنني رفضت كل الرفض أن ألبس البنطلون القصير يوم دخلت المدرسة في نحو السابعة من عمري، وأنني رفضت أشد الرفض أن أجيب نداء المعلم حين دعاني باسم «عباس حلمي»، جريا على تقاليد ذلك العهد التي بقيت إلى الآن في أسماء المعاصرين ... فلم يكن أحد من التلاميذ يدعى باسم أبيه، ولكنهم كانوا يلقبون بألقاب حلمي وصبري ولطفي وحسني وشكري، وما شاكلها على حسب المطابقة لأسماء المشهورين، أو الموافقة لجرس اللقب ورنينه في الأسماع، فبقيت واحدا من قليلين يذكرون بأسماء آبائهم بين أبناء ذلك الجيل، ولولا إصراري على رفض اللقب المستعار لكان اسمي اليوم «عباس حلمي محمود»، كما كتب في قائمة «التصنيف»؛ أي توفيق الأسماء والألقاب.
وإلى اليوم يذكر شيخاتنا وشيوخنا في الأسرة كلمة الأمهات التي كن يرددنها لأطفالهن، كلما أصابهم ما يسوءهم من التورط في المزاح معي وراء الحد الذي أسيغه، فإذا ذهبوا إلى أمهاتهم يشكون ما أصابهم كان الجواب الذي يقال بين الضحك والغضب: امزح مع من شئت يا بني ... ولكن «كل الناس ولا عباس»!
ومن الطبيعي لطفل في هذا المزاج أن ينظر إلى مثله الأعلى، فلا يراه في صاحب التنكيت والتبكيت وصاحب المسامير، وأحسبني لم أفضل الأستاذ الإمام محمد عبده على صاحبنا النديم إلا لسبب من جملة أسباب ترجع إلى هذا المزاج، فإن وقار محمد عبده هو القدوة التي أرتضيها حين أنظر إلى النديم، فيظفر مني بالثناء ولا يظفر مني بالاقتداء، وكلاهما فيما عدا هذا الخلق صنوان ينتميان إلى الثورة العرابية، وإلى مدرسة جمال الدين وإلى العمامة والبيئة الأزهرية ...
مدرستان!
وأيا كانت أسباب الاختلاف بين النديم وبيني، فالعصر الذي نشأنا فيه لا يسمح لمدرسة واحدة أن تطغى على أفكار الناشئة في كل بقعة من بقاع البلاد المصرية ... لأنه كان عصرا مزيجا مضطربا بين عصرين ذهب أحدهما، ولم يخلفه العصر القادم على رأي واضح مقسوم بين كل فئة من الناشئين وما يوافقها وتوافقه من التفكير الحديث.
كان عصرنا «برج بابل» يبنى ويعاد بناؤه بين عام وعام ...
كنا نعيش في عصر الجامعة الإسلامية على مذاهب، ونعيش في عصر الجهاد الوطني على مذاهب، ونعيش في عصر التجديد الفكري على مذاهب، ولا نرى أمامنا مذهبا واحدا في قضية من قضايانا الكبرى، وكلها مشكلات ...
فالجامعة الإسلامية مدرستان: مدرسة جمال الدين ومدرسة الدعاة الرسميين ...
مدرسة جمال الدين تعني بالجامعة الإسلامية أن تكون جامعة شعوب متيقظة مسئولة عن شئونها مرعية الحقوق مع ملوكها وأمرائها، فضلا عن حقوقها مع الطامعين المتربصين بها ...
ومدرسة الدعاة الرسميين تعمل للملوك والأمراء، وتريد من الجامعة الإسلامية أن تكون وحدة سياسية بزعامة هذا الخليفة أو ذاك من ملوك المسلمين، وأعلاهم صوتا في مصر من كان يعمل لخليفة بني عثمان ...
ومدرسة الجهاد الوطني على هذه الحال: مذهب يعتمد على مناورات الدول وحقوق السيادة الشرعية، ومذهب يستضعف هذا الرأي، ويحسب العمل فيه من ضياع الوقت على غير جدوى، وبخاصة في أمر التعويل على السيادة العثمانية؛ لأن حقوق هذه السيادة لم تكن عصمة للمعتمد عليها، بل كان مجرد الانتماء إلى الرجل المريض صاحب التركة المنتظرة - كما كانت الدولة العثمانية تسمى في ذلك الحين - ذريعة إلى ضياع البلد في معركة النزاع على التركة، أو في مساومات التقسيم والتفريق! ...
بلبال!
ويزيد البرج بلبالا خليط الأصوات المنبعثة من طغمة الدعاة المأجورين المسخرين لخدمة الدسائس الأجنبية ...
فمن هؤلاء من كان يضرب المعول في أركان الدولة العثمانية جاهدا مكابرا باسم الإصلاح، والثورة على الاستبداد، وهو في باطن الأمر صنيعة للدول وسمسار من سماسرة الاستعمار الذين يقصدون في الواقع إلى هدم الإسلام، وتمكين المستعمرين من الدولة المستقلة الباقية بين بلاد المسلمين ...
ومن هؤلاء من كان يعلن الغيرة على حقوق مصر والدولة العثمانية، وهو في باطن الأمر صنيعة السياسة الفرنسية في الشرق يناوئ الاحتلال بأمرها، ويورط البلد في المشكلات تحقيقا لمآربها ...
ومنهم من كان يثير دعوة الجامعة الإسلامية؛ ليتخذها وسيلة إلى إيقاع الشقاق بين أبناء الوطن الواحد، تأييدا لدعوى الدول التي تستفيد من تهمة التعصب الديني، وتلوح بها لإقناع الأجانب بحاجتهم الدائمة إلى الحماية من دولة أوروبية ...
ومنهم من كان يطلب الدستور، ولكنه لا يطلبه حبا للحرية، ولا إنصافا للأمة، بل تعزيزا لسلطان الخديو ... وتمهيدا لإطلاق يده في ميزانية الدولة ووظائف الحكومة بمعزل عن دار المندوب البريطاني ومستشاريها في الدواوين ...
بلبال، وأي بلبال! ...
وأشد منه اختلاطا بلبال آخر في ميدان الفكر والثقافة، ويضطرب فيه القول بين تفكير من يعجب بالثقافة الحديثة، وبين اتهام من يزدريها بالجهل المطبق والبهيمية العجماء، وسوف نعرض لهذا البلبال الفكري في مكانه من الفصول القادمة؛ لأننا نبدأ بالكلام عن الصحافة وموضوعاتها الغالبة عليها قبيل اشتغالي بالتحرير فيها، ثم نقفوه بالكلام على غيره من الموضوعات.
بلبال يهون إلى جانبه ضوضاء برج بابل ... فأين يذهب الطفل الناشئ في دروب هذا التيه وزواياه بين مهابطه ومراقيه ...؟!
وأنا في السادسة عشرة!
لا أعيد هنا كل ما عرض لي في هذا الطريق من حيرة وشك وعثرات وأزمات.
ولكنني أعلم علم اليقين أنني كنت على قرار واضح في كل قضية من هذه القضايا حين بلغت السادسة عشرة، ثم عملت لأول مرة في تحرير صحيفة الدستور ...
الجامعة الإسلامية عندي هي جامعة جمال الدين، أو جامعة شعوب متيقظة متعاونة لا جامعة ملوك وعروش تساق لخدمة هذا الخليفة أو تخليف ذلك السلطان ...
الدولة التركية نتمنى بقاءها وصلاحها، ولكننا لا نتمنى سيادتها، ولا نستمع لمن يحاربها باسم الشورى أو النقمة على الاستبداد ...
الدول الأجنبية لا تنفعنا إن لم ننفع أنفسنا، وسياسة «مصر للمصريين» هي أقوم سياسة يتبعها المصريون، ويهتدون بهديها فيما لهم من حق وعليهم من واجب ...
الحزب الوطني حزب مخلص مجتهد، ولكنه مفرط في مجاملة «يلدز» و«عابدين» مقصر في مساعيه نحو «مصر للمصريين».
الملوك والأمراء يخدمون القضايا القومية بمقدار ما تخدم عروشهم، فإن تلاقت مصالحهم ومصالح الوطن فحبا وكرامة، وإن تشعبت الطريق بين هذه المصالح وتلك المصالح، فلا خفاء بالطريق القويم ...
الحكم الدستوري لا غنى عنه، ولا وجه للمقارنة بينه وبين حكم الاستبداد بحال من الأحوال ...
داخل النطاق
منذ كتبت في صحيفة الدستور لم تخرج كتابتي عن هذا النطاق في قضية من هذه القضايا.
لم أمدح الخليفة «عبد الحميد» إلا في مناسبة واحدة وهي إعلان الدستور، ويومئذ كتبت أبياتا أهنئه بها، وأسجل تاريخ السنة بحساب الحروف الأبجدية، فكان التاريخ هذه الشطرة:
قد أنشأ الدستور عبد الحميد
ومجموع حروفها بحساب الجمل «1326»، وهي السنة الهجرية التي أعلن فيها الدستور ...
ولما توفي مصطفى كامل شيعته صحيفة الدستور - وهي من صحف الحزب الوطني - برثاء أبلغ من رثاء صحيفة اللواء، ولكنني أحجمت عن رثائه بثناء خلو من النقد، وأحجمت في ذلك المقام من نقد سياسته قبل الآستانة، وقبل الخديو وقبل السيادة العثمانية، وكاشفت الأستاذ فريد وجدي بحرجي وحرج صحيفته، وهي لسان الجامعة الإسلامية الأولى ولسان الحزب الوطني الثاني بعد اللواء، فقال لي رحمه الله: إنه يفهم هذا الحرج وإنه يقوم عني بما أتحاشاه، فآثرت الصمت عن الرثاء على ثناء بغير نقد، أو نقد متحفظ، متحرج، بين مضطرب الآراء ... •••
وانقطعت الصلة بيني وبين الصحيفة بضعة أشهر لا أكتب فيها ولا أكتب إليها، ولكنني كتبت إليها مقالي الوحيد من الخارج يوم أعلن الدستور في إيران، وقلت فيه مهنئا للشاه الصغير: لو كنت في فرنسا لكان مصيرك كمصير الصبي ابن لويس السادس عشر، ولكنك تحمد الله؛ لأنك في بلد إسلامي وتحمد لشعبك - ولا ريب - جميل هذا الصنيع.
والآن - بعد نصف قرن كامل - أقول: إنني قد جربت هذا البرنامج السياسي، الصحفي، في مشكلات هذه الحقبة وأزماتها جميعا ... فحمدت مغبة هذه التجربة، ولم أجد فيما وجدته من الحوادث المتناقضة برنامجا أصح منه، ولا أصلح لقضية مصر وقضايا الأمم الشرقية، ولا أعلم أن الحوادث بعد الحوادث كشفت لنا عن خطة أهدى منه للعاملين، وأحق منه باتباع المتبعين ...
وبعد، فإنني لا أحب أن أنافق القارئ باصطناع التواضع الكاذب طلبا للثناء الأكذب، فأقول: إن الحكاية سهلة على كل من يطلبها، وإنها حكاية يطلبها كل من شاء بغير عناء ...
الاستقلال
كلا، ليس من السهل على كل ناشئ في العشرة الثانية من عمره أن يسلك سبيله بين تلك النقائض والشبهات، دون أن يروض نفسه على استقامة القصد إلى الحقيقة، واستقلال الرأي بين شتى الدوافع والمغريات ...
ولكنني أعود فأقول: إنه لا استقلال الرأي، ولا استقامة القصد، كانت كافية لهدايتي إلى سبيلي لو لم أستفد من ظروف الآونة التي نشأت فيها، وظروف البلد الذي نشأت فيه ...
لقد كانت الآونة في مصر آونة نادرة، لم تمتحن فيها العقول بعد بمحنة المحن في العصر الحديث: محنة تكوين الرأي جماعات جماعات، فلا ينطوي الشاب في جماعة صاخبة حتى يحرم القدرة على نقدها ونقد سواها، فهو مع جماعته التي انطوى فيها يقبل خطأها كما يقبل صوابها، وهو مع الجماعات الأخرى يرفض صوابها كما يرفض خطأها، وإنه لخاسر مضلل في كلتا الحالتين ...
وكانت البلدة التي نشأت فيها بلدتي أسوان بأقصى الصعيد، يكاد الناشئ في مثل سني أن يأوي بها إلى صومعة من صوامع الفكر يقلب فيها وجوه النظر في كل ما يسمع أو يبصر من الشئون العامة، بغير تضليل أو تهويل ... وتهب الزوبعة القومية، فلا تفاجئنا في وسط غبارها فتعمى البصائر عما فيها، ولكنها تقترب منا رويدا رويدا فلا تصل إلينا حتى تنكشف على جلاء ...
وهل في ذلك عبرة؟
نعم ... عبر قريبة فيما نرى، فخير ما يصنعه الشاب في فترة تكوين الرأي أن يروض نفسه سنوات على النظر إلى ما حوله مستقلا عن طغيان الجماعات، فإذا دخل في جماعة منها بعد ذلك عرفها بمحاسنها وعيوبها معرفة تمييز وتقدير، ولم يعمل فيها آلة من الآلات ...
قلم يشق طريقه
صحيفة مطبوعة بعد المخطوطة
أصدرت صحيفتي المخطوطة - التلميذ - وأنا تلميذ في الثانية عشرة، لم أبرح المدرسة، ولم أملك في يدي مبلغا من المال يكفي للتفكير في طبع ورقة إن وجدت المطبعة، حيث كنت في الصعيد الأقصى ... وهي غير موجودة! ...
لكنني الآن موظف حكومة، تخرجت من المدرسة الابتدائية، واشتغلت بالقسم المالي في مديرية الشرقية، وعرفت لي مبلغا من المال أقبضه في أول كل شهر: خمسة جنيهات!
ومن هذه الجنيهات الخمسة أستطيع أن أدخر جنيها في كل شهر، وأن أجمع من هذه الجنيهات المدخرة مبلغا يكفي للإنفاق على العددين الأولين من صحيفة مطبوعة، ثم لا حاجة بعد ذلك إلى المال؛ لأن الصحيفة تباع وتأتي بتكاليفها عددا بعد عدد، أو عددين بعد عددين ...
وكنت قد عرفت شيئا عن تكاليف الطباعة في مدينة الزقازيق عاصمة الشرقية؛ لأنني اشتقت إلى بلدتي بعد أن فارقتها يافعا لأول مرة، فنظمت قصيدة على وزن قصيدة «المعري» التي يقول في مطلعها:
عللاني فإن بيض الأماني
فنيت والظلام ليس بفان
فقلت في مطلع قصيدتي:
ذكراني نعيمها ذكراني
حبذا لو علمتما ما أعاني
وقلت منها أذكر أسوان:
لست أرجو عودا إلى أسوان
ولا يحضرني الآن الشطر الأول من البيت ...
وراقت القصيدة من سمعوها من الزملاء المتأدبين، فاقترحوا علي طبعها ليحتفظ كل منهم بنسخة منها ... وتكفل أحدهم بتقديمها لمطبعة المدينة، فلم تكلفنا ورقا وطبعا أكثر من ثلاثين قرشا لمائتي نسخة، وقيل لنا: إنها تكلفنا أقل من خمسين قرشا إذا طبعنا منها مائتي نسخة أخرى، فعرفنا السعر وعرفنا الفرق بين تكاليف طبع القصيدة وتكاليف طبع الصحيفة، وهي في تقديرنا تقع في ثماني صفحات بدلا من صفحتين.
حسبة ميسورة مشجعة، ومرتب شهر واحد يكفي للبدء في طبع الصحيفة على بركة الله!
وماذا يبقى بعد الطبع مما يحتاج إلى التدبير والاستعداد؟
لا شيء!
فالتحرير مضمون بغير كلفة؛ لأنني محرر الصحيفة الوحيد ...
والتوزيع مضمون لا خوف عليه، وكيف لا يكون مضمونا وهؤلاء قراؤنا يتهافتون على اقتناء الطبعة الأولى، ويستنفدون منها مائتين في يوم أو يومين؟ •••
ومن البديهي أنني لا أصدر الصحيفة وأنا موظف بالحكومة ... ولا أطبعها، من ثم، في الزقازيق حيث طبعت القصيدة.
إلا أنها عقبة هينة لا يصعب علينا تذليلها، فليس أهون من الانتقال إلى القاهرة بعد الاستقالة من الوظيفة ، وليس أبناء القاهرة بأقل من أبناء الزقازيق إقبالا على قراءة المنظوم والمنثور ... وكنت أذهب إلى القاهرة مرة في كل أسبوع أو أسبوعين، أشهد التمثيل في مسرح الشيخ سلامة حجازي، وأزور حي الأزهر باحثا عن الكتب الأدبية القديمة بثمن رخيص ...
فذهبت إلى القاهرة، وأحببت أن أحقق وأدقق، وأستوفي المعلومات اللازمة قبل الشروع في العمل ... ووقع اختياري - لاستقصاء البحث في المسألة - على صاحب مكتبة عتيقة عظيم الخبرة بالمطبوعات القديمة والحديثة، كثير الاتصال بالصحفيين والأدباء، تعودت أن أشتري منه ما أجده عنده، وأن أوصيه باستحضار الكتب النادرة من الطبعات المرجوعة.
والواقع أن «الاستقصاء» الذي عولت عليه لم يكن ليعوقني عن المضي فيما نويت، وإنما هو مسألة شكلية على حكم العادة في الاستشارة والاستخارة ... وليقل صاحبنا ما يقول، فإنني أعددت الصحيفة كتابة وتقسيما وتبويبا وتسمية وإخطارا للحكومة، ولم يبق من معداتها شيء غير الطبع والتوزيع ... •••
وكنت أتردد بين اسمين: اسم «البيرق» واسم «رجع الصدى»، ولا أحسبني يومئذ قصدت الفرق بين الاسمين، وعنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تقود الآراء، ويلتف بها الشعراء كما يلتفون بالبيرق، أو عنيت ما فيه من الدلالة على الصحيفة التي تردد أصداء الآراء، ولا تزيد على عرض الحوادث والأنباء.
لا أحسبني قصدت إلى هذه التفرقة، ولكنني انتهيت على غير قصد مني إلى تفضيل اسم «رجع الصدى» على اسم «البيرق» ... وكتبت العنوان بخطي؛ ليخرجه الحفار كما كتبته، بدعة من بدع التجديد في العناوين!
ولست أنسى نظرة الكتبي العتيق إلي من تحت نظارته الملحومة في موضعين أو ثلاثة: «ماذا؟ تترك خدمة «الميري» وتشتغل بالغزازيط والجرانيل؟ إن كنت لا تدرك ما أنت مقدم عليه، فانتظر هنيهة لترى مائة من هؤلاء «الصائعين» الضائعين يتمنون التراب تحت قدميك في وظيفتك ولا يصلون إليه ... لا يا صاحبي ... لا ... إنني أراك أعقل من هذا يا بني ... فلا تخيب أملي فيك ...!»
ولم يقنعني كلامه؛ لأنني لم أسمع منه جديدا عن خدمة «الميري» وقداستها في عرف أبناء جيله، ولم يزحزحني تحذيره قيد شعرة عن نية المضي في الاستعداد والتنفيذ ...
وإنما زحزحني عن هذه النية قيد فرسخ - لا قيد شعرة وحسب - منظر أو منظران من المناظر التي كانت تتكرر في كل حلقة صحفية، ولا يستغربها أحد من المتفرجين؛ لأنها من أدوات المهنة المتفق عليها ومن أدوارها التي تعاد في كل قصة، فلا يجهلها إلا الذين يجهلون الصحف والصحفيين، أو الجرنالجية وجماعة الغزازيط، وتجار التجريس والتنبيط!
كانت بجوار المكتبة مطبعة صغيرة تطبع فيها الصحف الأسبوعية، وكان «مدير» إحدى الصحف يرجو صاحب المطبعة أن يعجل بإصدار العدد، ويأبى صاحب المطبعة أن يخرج العدد، ما لم يحصل على أجرته وأجرة العدد السابق الذي صدر قبل أسابيع، ووقف المدير ينتظر وكيلا له أرسله إلى المشتركين للتحصيل، وعاد الوكيل على صورة يقصر عنها أمل المتسول الذي يريد أن يبالغ في إثبات صناعة التسول، واستدرار شفقة المحسنين والمسيئين! فصاح به المدير: ما وراءك؟
فأخرج له الوكيل إيصالا معادا من أحد المشتركين، وقال: إن الاشتراك مسدد قبل الآن ...
فسأله المدير: وأين الإيصال الآخر؟
قال الوكيل: إن الرجل قطعه ورماه في خلقتي!
فهم المدير بضربه، وهو يقول مختنقا من الغيظ: رماه في خلقتك؟ مستحيل ... إن فضيحة بيته معروفة ويخشى من الإشارة إليها بكلمة، فلا تقل: إنه قطع الإيصال ورماه في خلقتك الشريفة، بل قل: إنك سكرت بالاشتراك كعادتك، وجئتنا برائحة الخمر تفوح من فمك ...
وكان هذا أول الأدوار التقليدية المحفوظة، ولم يكن آخرها ولا أقبحها، وفي واحد منها الكفاية للعدول على الأقل عن الخطوة الأولى، وقد عدلت عنها إلى الآن.
ولكن لم أحتقر الصحافة
إن هذه المناظر المخجلة حقرت في نظري طائفة من المتطفلين على الصحافة، ولكنها لم تحقر صناعة الصحافة، ولا نزلت بأعلامها النابهين إلى منزلة أولئك المتطفلين، ولست أعتقد أنني كنت مستطيعا أن أحتقر هذه الصناعة من أجل ذلك المنظر المخجل، ولو كنت من المستخفين بها والزاهدين فيها؛ لأن قوة الدعوة القلمية في تلك الفترة قد بلغت في القاهرة مبلغا لا يدانيه ما بلغته في عاصمة من عواصم المشرق والمغرب، ولا إخالها تبلغه اليوم ، على عظم الفارق بين صحافة اليوم وصحافة مصر والشرق قبل خمسين سنة ...
كانت القاهرة مركزا لكل دعوة تهتم بها دول العالم ذوات المطامع في الشرقين: الأدنى والأقصى، ومركزا لكل دعوة يديرها دعاة الجامعة الإسلامية، ودعاة الوحدة العربية ودعاة تركيا الفتاة، ودعاة الإصلاح في إيران وأواسط آسيا، ودعاة الحركات الوطنية في مصر نفسها، وفي سائر الأقطار الأفريقية من شمالها في بلاد المغرب إلى جنوبها في بلاد السواحل وزنجبار.
وكانت قوة هذه الدعوة تخيف الملوك والساسة على عروشهم، وعلى أرواحهم وأبدانهم، ولا تمهلهم أن يتجاهلوها أو يغفلوا طرفة عين عن أخطارها وعواقبها، وقد حدث أن حركة في القاهرة زلزلت عرش عبد الحميد في الآستانة، وأن رجلا شهرته دعوة القلم واللسان ذهب إلى إيران لإتمام هذه الدعوة، فطرده الشاه وأهانه اثنان من وزرائه، فقتل الثلاثة جميعا، وقال قاتلوهم: إنهم قضوا عليهم بالحق انتقاما لذلك الداعية الطريد: جمال الدين.
كانت هذه الحقيقة من وقائع الحال الغنية عن المقال، ومن طرائفها المروية أن السلطان عبد الحميد كان ينام في يلدز، وعيناه في شارع محمد علي بالقاهرة، واتفق يوما أن المويلحي الكبير - صاحب «مصباح الشرق» - دخل مكتب «المؤيد»، ووجد فيه نخبة من كتاب عصره وفضلائه، فتوقف عند الباب وقال وهو يرفع يديه إلى سقف الحجرة: قادر أنت يا رب أن تسقط هذا السقف على من تحته، فيستريح عبد الحميد! قال محمد عبده، وكان من زوار الحجرة: نعم ... لو تقدمت أنت خطوتين! وتلك نادرة من نوادر الفكاهة التي تخلقها الحقيقة الواقعة، وما يكون لها أن تخلقها لو كانت محض مزاح ...!
تهيأت القاهرة لاجتماع هذه القوة فيها؛ لامتيازها بين عواصم الشرق بمركزها التاريخي، ومركزها الحديث، ولم تتهيأ لها مدينة أخرى على مثالها من الآستانة عاصمة الخلافة إلى ما دونها من عواصم الولايات المتحدة والحكومات، ولم تكن القاهرة عاصمة الدعوة الكبرى مصادفة، ولا لعلة من العلل العارضة ...
فالآستانة هي عاصمة الخلافة، ومركزها بهذه الصفة أهم المراكز في العالم الإسلامي، وعالم السياسة الشرقية على إجماله ... ولكن قيام الدعوات القلمية أو اللسانية فيها أمر لا يخطر على بال الدعاة لشدة الحجر فيها على الأقلام والألسنة، وحظر الاجتماع فيها وتأليف الجماعات للمقاصد السياسية ...
وعواصم الشرق الأدنى مهمة بشهرتها وموقعها، ولكنها لم تكن قط مركزا يتلقى منه العالم الشرقي دعوة عامة على نطاق واسع، وحكمها حكم الآستانة في حرية الدعوة والاجتماع ...
أما القاهرة فقد كانت، منذ بنيت في أيام الفاطميين، مركز داعي الدعاة، أستاذ الأساتذة في فنون الدعوة بالقول والإشارة، أي: بالخطب والرسائل والرموز السرية والموالد والزفات!
ثم أصبحت مركز الإعلان الاقتصادي والسياسي في الحقبة التي اشتدت فيها المنافسة بين أصحاب التجارة من طريق البحر الأحمر، وأصحاب التجارة من طريق رأس الرجاء ...
ثم جعلها الخديو إسماعيل قطعة من أوروبا بمحاكمها المختلطة، وامتيازاتها الأجنبية، واشتباك المصالح المتعارضة فيها بين الدول، وتلاطم التيارات حولها من داخل البلاد العثمانية في شئون الحكم، أو شئون الثقافة ...
ثم انطلقت فيها حرية الصحافة وحرية الاجتماع، فتمت فيها معدات الدعوة، وترادف عندها نمط الدعوة القديم، ونمط الدعوة الحديث ...
تاريخ الشرق مرتبط بصحافته
وفيما تقدم من العوامل والمهيئات كفاية، ولكننا نحسب أنها لم تكن لتفعل فعلها بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لو لم تكن الدعوة في هذه الفترة مطلوبة من كل صوب، ولو لم تكن بلاد الشرق متعطشة الأسماع إلى كل صوت ينادي بكلمة الأمل، أو كلمة النصيحة والتحذير ...
ولا ننسى سحر «الكلمة المطبوعة» في جدتها قبل أن تبتذلها كثرة التداول، وتدخلها الألفة في عداد اليوميات الرتيبة، التي تنتظر في أوقاتها، ولا تحتاج إلى لهفة الانتظار ...
وإن تعجب لسر من أسرار تلك الدعوة في نفاذها، وبعد مداها، فاعجب للبون الشاسع بين ضخامة أثرها وضآلة وسائلها، وانظر إلى البون الشاسع مثلا في صحيفة كصحيفة «العروة الوثقى» أو «أبو نضارة» أو «اللطائف» أو «الأستاذ». وريقة ذات مقال وبضعة أخبار من قبيل الأخبار البوليسية أو البرقيات المقتضبة، وتحاول أن تتبع أثرها إلى أقصى مداه فلا تستقصيه؛ لأنك قد تسمع صداه في تخوم الصين وعلى متون الرمال في جوف الصحراء ...
ولا محل للمقارنة من الوجهة الفنية بين تلك الصحافة وصحافتنا اليوم، ولكن لا محل كذلك للمقارنة بين دعوة يطلبها الناس ويتشوقون إليها، ودعوة تطلبهم وتحتال عليهم بأفانين الترغيب والتقريب.
إن منظر الحساب بين مدير الصحيفة الأسبوعية ووكيلها قد يصح أن يثنيني عن طبع العدد الأول من صحيفتي المطوية، وأن يضعف أملي في تحصيل تكاليفها بعد عدد أو عددين ...
ولكن هل تراه يذهلني عن هذه القوة الهائلة، وأنا أحسها من حولي كالدوامة المدوية في لجة البحر الموار بالأمواج والرياح؟
إن ألف دجال باسم الطرق الصوفية لا يمسحون من الضمائر قداسة الدين، وإن ألف دجال باسم الصحافة لا يمسحون قداسة «الكلمة» الحية بين أناس يحتاجون إلى الكلمة حاجتهم إلى العمل في ساعة اليقظة من سباتهم الطويل ...
إن الصحف التي تستغل مخاوف الملوك وفضائح الدول لا تستطيع أن تملأ الجو من أعلاه إلى أدناه، ولا أن تستوعبه بجميع زواياه ...
فإذا وجدت هذه الصحف، فهي الشفاعة المقبولة، أو غير المقبولة لوجود طبقات في الجو الصحفي إلى جانبها، تنزل من الملك إلى الوزير ومن الوزير إلى الرئيس الصغير، ومن الرؤساء إلى عمد القرى ومشايخ الحارات، ومن هؤلاء إلى ما دون ذلك في طبقات ذلك الجو الفسيح ...
وليقل العائب العاتب ما شاء، فإنه لن يستطيع أن يقول في النهاية شيئا عن تاريخ الشرق الحديث، دون أن يقول معه شيئا عن الدعوة القلمية، وعن الصحافة والصحفيين.
صحيفة الدستور
كانت صحيفة «الدستور» التي أصدرها الأستاذ «محمد فريد وجدي» منذ نصف قرن، أول صحيفة يومية عملت في تحريرها ...
ولا أقول: إنه كان «عمل ضرورة».
ولا أقول كذلك: إنه كان عمل اختيار.
ولكنه كان ضرورة مختارة بين ضرورات، إذا صح هذا التعبير، وأبادر فأقول: إنه صحيح غاية الصحة؛ لأننا في أعمالنا التي نعدها من معالم حياتنا لا نستطيع أن نقول عن عمل واحد: إنه كله اختيار، أو إنه كله اضطرار ...
وكان في وسعي قبل العمل في تحرير الدستور أن أعمل في تحرير «اللواء»، أو في قلم الترجمة باللواء على الأصح ... لأنني علمت أنهم يطلبون مترجمين يعرفون الإنجليزية أو الفرنسية، بعد تفكيرهم في إنشاء «لواءات» غير «اللواء العربي» تصدر باسم «الاستاندرد» و«ليتندار».
التحرير أو الترجمة
وكانت الترجمة الصحفية من أعمال تلك الفترة التي كان أمثالي يستطيعونها، وكانت ظروف التعليم والنشأة «الأسوانية» مما يرشحني لأدائها، ويجعلني من المفضلين في «امتحاناتها».
فقد كنا نتعلم دروسنا المهمة باللغة الإنجليزية، ومنها دروس الجغرافيا والمعلومات العامة «أو الأشياء».
وكانت صحف المدارس المقروءة في إنجلترا بين «المطالعات» الإضافية المقررة علينا في السنة الرابعة الابتدائية.
وإلى هنا نتساوى جميعا في مدارس القطر كله، ثم يأتي دور النشأة الأسوانية بمزية تنفرد بها مدينة أسوان، ولا تشاركها فيها سائر المدن في الوجهين.
كانت المكتبات الإفرنجية تفتح في موسم الشتاء؛ لبيع الكتب والمجلات والصحف الأجنبية المحلية، وكان كبار الزوار لا ينقطعون عن زيارة المدرسة خلال الموسم الذي كان يمتد من ديسمبر إلى مارس، وتتبع زيارتهم أحيانا دعوات خاصة نجلس فيها مع أبنائهم وبناتهم، ولا نتكلم أثناءها بغير اللغة الأجنبية.
وتضاف إلى ذلك حالتان طارئتان على أسوان - في ذلك الحين - لم تجتمعا لبلد من بلدان السياحة، وهما حملة السودان وبناء الخزان ...
ففي أثناء حملة السودان، كان الحاكم العسكري، ومحافظ المدينة، وقاضي المحكمة، وقادة الفرق الموزعون على المصالح، طائفة من الإنجليز العسكريين أو المدنيين لا يعرفون العربية، وكان كل بيت فيه «ولد من أولاد المدارس» مرجعا نافعا لقراءة الأوراق الرسمية، أو ترجمة العرائض إلى «الحكام» على حسب الاجتهاد، وكان «نصف الفرنك» نفحة سخية يحصل عليها «الولد» المترجم الذي يستطيع أن يخط في الورق بضعة سطور تدل على معنى من المعاني مفهوم بالإشارة أو بالتخمين ... فأما «الولد» الذي تتكرر الشهادة له بحسن الترجمة، فنصف الفرنك قد يصعد في معاملته إلى نصف ريال، ويزداد التقدير مع زيادة القرابة أو الجوار ...
أما بناء الخزان فقد جلب إلى المدينة مئات من المهندسين والخبراء والمفتشين يقرءون الصحف الإفرنجية طوال العام، ويدفعنا حب الاستطلاع إلى النظر في هذه الصحف وفي صحف السائحين، فلا يفوتنا - مع تتابع النظر - أن نعرف أقسام الصحيفة وعناوينها، وأماكن البرقيات والأخبار منها، وأن نختطف عبارة هنا وتعليقا هناك، فلا يخفى علينا معناها بالمقابلة بعد المقابلة، أو التصحيح بعد التصحيح.
مع مصطفى كامل
فلما علمت أن «اللواء» يطلب مترجمين يعرفون الإنجليزية خطر لي أن أستقيل من وظيفتي، وأن أرشح نفسي للعمل فيه.
ولكني ترددت، وطال التردد حتى أحجمت، ثم فضلت ترك هذه «الفرصة» وانتظار فرصة غيرها لسببين: «أولهما» أنني إذا أقدمت على هجر الوظيفة الحكومية مفضلا عليها الصحافة، فليكن ذلك لأكتب لا لأترجم، فإنني ما أحببت الصحافة لأنها مورد رزق أفضل من موارد الوظائف الحكومية؛ ولكنني أحببتها لأنها مجال للكتابة أو صناعة القلم بغير وساطة من صناعة النقل أو الترجمة!
والسبب الثاني شخصية مصطفى كامل - رحمه الله - فإن محادثتي الأولى له لم تشجعني على مزاملته في عمل دائم، وصورته لي رجلا معتدا بذاته، ضيق الحظيرة، لا يسمح حتى للفكاهة أو «للقافية» أن تفتح عليه بابا لتصحح قولة قالها أو رأيا ارتآه ...
كنت أتبرع بالتعليم في المدرسة الإسلامية بأسوان، وحضر مصطفى كامل متفقدا للمدرسة، ومعه الكاتبة الفرنسية مدام «آدم جولييت» وسيدة إنجليزية، وكانت الحصة حصة محفوظات ولغة ... فأملى مصطفى كامل على التلاميذ هذا البيت لأبي العلاء:
والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وترجمه للسيدتين بطلاقة وإيقاع، ثم طلب من التلاميذ أن يشرحوه ويعلقوا عليه، فاضطربوا ولم يحسنوا الشرح أو التعليق ...
والتفت مصطفى كامل إلي، وإلى الأستاذ «محمد شلبي عيد» متسائلا، فأدركته قائلا: إن التلاميذ معذورون ... لأنهم في أسوان يعلمون أن الغيم الذي يظلل الرءوس شيء نافع لا يضربون به المثل لقلة النفع ... فلعله أنفع لهم من شعاع الشمس ومن المطر ... «حسن تخلص» كنت أقدر من «خطيب» مثله أن يتقبله بالاستحسان والارتياح، ولكنه تجهم وزوى وجهه، وبدا لي أن الاستدراك عليه - ولو من باب الفكاهة - أمر كثير على طاقته الفكرية والنفسية، وأرى الآن أنها لم تكن منه فلتة عارضة في زيارة عاجلة؛ لأن حياة الرجل كلها لا تعرض لنا لمحة واحدة فيها شيء من سماحة الفكاهة، أو سماحة التوفيق بين الآراء ...
فريد وجدي ... والدستور
ولم يطل بي الانتظار حتى أعلن الأستاذ فريد وجدي عن عزمه على إصدار «الدستور».
ولم يكن اسم «فريد وجدي» غريبا عني، ولا عن قراء ذلك الجيل من طلاب الثقافة الإسلامية الفلسفية ... فقد كانت له كتابات ضافية يرد بها على كتاب الغرب وفلاسفته المنكرين لحقوق المسلمين، وفضائل الإسلام، وكانت له شهرة بالاطلاع على ثقافة الدين، وثقافة العصر الحديث، فلما لقيته وحادثته لم يكن أيسر من الاتفاق معه على العمل في صحيفته، وخرجت أقول لنفسي: إن أكبر خلاف بيني وبين كاتب كهذا لن يعوقني عن العمل معه؛ لأنني عجبت لحرية فكره، مع اشتهاره بالتعصب والمحافظة، بل بالتزمت والخرج في شئون الدين والدنيا ...
فما من فكرة كان يرى أنها قضية مسلمة، وأنها لا تقبل المناقشة.
وأظن اليوم أن فرط الثقة بقوة الحجة، والقدرة على الإقناع هو الذي كان يسوغ له أن يسمع كل رأي، ويقبل كل تحد، ويجيب عن كل سؤال، ودام عملي في صحيفة الدستور من عددها الأول إلى عددها الأخير إلا أشهرا قليلة فارقتها فيها، ثم عدت إليها ... فأكاد أقول: إن ما خالفته فيه أثناء هذه المرة أكثر مما وافقته عليه، ولكنه لم يغير كلمة واحدة كتبتها لمخالفة رأيه.
كان شديد الإيمان بالجامعة الإسلامية على منهج قريب من مناهج الرسميين، ولم يكن كغيره من طلاب الكسب والجاه من وراء هذه الدعوة، بل كان يخسر الكثير في أحرج أوقات الحاجة إلى المال، ومن ذلك أنه رفض الاتفاق مع حزب تركيا الفتاة اعتبار «الدستور» لسان حال للحزب في سياسته العثمانية، بعد أن تكفل الحزب بالإنفاق على الصحيفة وسداد ديونها؛ لأن الحزب كان يشترط أن ترفع من عنوان الصحيفة كلمة «لسان حال الجامعة الإسلامية» ... ولم تمض أسابيع حتى كان الرجل يبيع كتبه بثمن يضارع ثمن وزنها من الورق؛ ليؤدي مرتبات الموظفين والعمال.
وعلى هذا التشبث بهذه الدعوة كنت أخالفه فيها، وأرى أنها تعمل لنفسها، ويعمل لها الزمن أضعاف ما يعمله المنقطعون لها من دعاتها المخلصين وغير المخلصين، فلم يحاول قط أن يفرض علي رأيا في قضية من قضاياها بغير الإقناع أو السكوت ...
وكانت صحيفة «الدستور» لسانا ثانيا للحزب الوطني بعد «اللواء»، وكان موقف الحزب الوطني معروفا من سعد زغلول، وبخاصة بعد قيام الشيخ جاويش على تحرير اللواء، ولكنني كنت أؤيد سعدا وأرد على ناقديه في الدستور، فلم يمنع كلمة واحدة مما كتبته في هذا الموضوع.
وكان من غلواء الأستاذ وجدي في محاربة الاختلاط الجنسي أنه كان يشجع الهواة على إنشاء فرق تمثيلية، يتم فيها التمثيل بغير ظهور النساء على المسرح، وهذه حذلقة تغري بالسخرية حتى في تلك الآونة ... ولم يكن الرجل على جهل بتاريخ التمثيل في الغرب الحديث أو القديم، فكان إذا لمح مني بادرة من بوادر السخر الخفية لم يزد في حدته على أن يقول: «لقد أجازها شكسبيركم لضرورة من ضروراته ... فهل وقفت ضرورات الدنيا كلها عند شكسبير!»
الغاضبون
وأعتقد أن اختيار اسم الصحيفة وحده كان ميزانا لنزاهة هذا الرجل، ولحريته الفكرية والدستورية، يغني عن كثير من الموازين.
وماذا في «اسم» على رأي شكسبير أيضا؟
فيه كثير وكثير، ولا سيما في العصر الذي سميت فيه الصحيفة باسم الدستور.
كان اسم «الدستور» يغضب قصر «يلدز»، ويغضب قصر عابدين، ويغضب «قصر الدوبارة».
وكان الحزب الوطني يطلب الدستور، ولكنه يتحرج من الدعوة العامة إليه؛ لأنه ينكر مقاصد المطالبين به من رعايا الدولة العثمانية، ويشفق من غضب السلطان عبد الحميد، ويراجع القارئ اليوم صحيفة «اللواء»، فيرى أنها كتبت عن المطالبين بالدستور في تركيا، قبل إعلانه هناك بيوم واحد، فقالت: إنهم قوم يسبحون في الخيال ...
وكان الخديو يحرض على طلب الدستور سرا كلما أراد بالتحريض عليه إحراج الإنجليز، والحد من سلطة المندوب البريطاني والمستشارين، ولكنه كان يرفض الإصغاء إلى هذا الطلب كلما ثاب إلى شيء من الوفاق بينه وبين المحتلين ... ولهذا كان حزب القصر يسمي نفسه «حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية» ... ولا يخفى الفارق بين الدستور، وإصلاح الدواوين على مبادئ الدستور!
وكان حزب «الأمة» كما يدل عليه اسمه يعارض الحكم المطلق للعرش في مصر، وللعرش في عاصمة الدولة العثمانية، وكان ينادي بالاستقلال التام فيهدده «المؤيد» بحكم القانون أن السيادة العثمانية مقررة فيه، ولكن حزب الأمة على مناداته بحصر الحقوق كلها في الأمة لم يخل من أقطاب مخلصين كانوا يحسبون الطفرة في الحكم النيابي خطرا حقيقا بالحذر والاجتناب.
فإذا ظهر من بين هذه الصفوف رجل لا سند له من أصحاب العروش، ولا من جمهرة الأحزاب، فاختار كلمة «الدستور» دون غيرها اسما لصحيفته الوليدة، فهو اسم يدل على كثير، وإن غضب صاحبنا شكسبير!
صحافة المتطوعين
في هذه الصحيفة بدأت عملي الأول، فماذا كان عملي الأول هذا؟ أو بماذا نسميه في «تقاسيم» الصحافة الأخيرة؟
لا يوجد له اسم واحد، وقد يحيط به على الجملة أنني كنت نصف هيئة التحرير برمتها؛ إذ لم يكن في قلم التحرير غير كاتبين اثنين، أحدهما أنا والآخر صاحب الصحيفة!
ولا نبخس في هذا المقام فضل «التطوع» في تحرير صحيفة الدستور، ولا في تحرير غيرها من صحف تلك الفترة ... فقد كان قوام المقالات الصحفية من «تحرير المنازل»، وكانت أشهر الفصول على الإطلاق في ذلك العهد فصولا كتبها المحررون المتطوعون، وكل حامل قلم في البلد محرر متطوع ما عدا الجالسين على مكاتبهم في دور الصحف المحدودة، وهم معدودون على الأصابع.
ولقد كان نصيب «الدستور» من التطوع أوفى نصيب، إذ كان فيها «محرر متطوع» دائم يكاد ينهض بعمل الترجمة الفرنسية وحده، ويكتب إلى جانبها التعليقات، وحواشي الأخبار والمتفرقات ...
كان الأستاذ «أحمد وجدي» شقيق الأستاذ فريد صاحب الصحيفة هو ذلك المحرر المتطوع الدائم، وكان - رحمه الله - شابا ألمعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن مجتهدا في كل عمل تولاه، وقد تولى عملا قليلا في الصحافة، ثم تولى عمله في المحاماة أمام محكمتي الزقازيق والمنصورة، فاشتهر في الإقليمين أيما شهرة، وقامت شهرته على الذمة والعفة، كما قامت على البراعة والبلاغة، ولو أمهلته المنية بضع سنوات لما عرفت مصر اسما أشهر من اسمه في عالم المحاماة.
وكان زملاء الأستاذ «أحمد وجدي » يتطوعون معه بالكتابة والترجمة من حين إلى حين، ولكنهم أضربوا جميعا - أو كادوا - بعد الخلاف الذي حدث بين فريد وجدي ومصطفى كامل ... وكان فحوى هذا الخلاف أن صاحب الدستور اعترض في مجلس إدارة الحزب على اختصاص وزارة الخارجية البريطانية بالاحتجاج على الاحتلال، وقال: إن هذا الاختصاص ربما أعطاها الصفة «الاستثنائية» التي تدعيها في مصر، ولا ضرر من تعميم الاحتجاج على صيغة من الصيغ إذا كانت الصيغة المكتوبة لا تسمح بتوجيهها إلى أكثر من دولة واحدة، فأعرض مصطفى كامل عن اقتراحه وأعرض معه أكثر الأعضاء، وكتب فريد وجدي خلاصة المناقشة في الدستور، فحسبه المؤيدون الآليون منشقا على الحزب، وقاطعوه، ومنهم بعض أولئك الطلبة «النجباء» الذين كانوا يتطوعون للكتابة في صحيفة الحزب الثانية!
إلا أننا - نحن هيئة التحرير - المؤلفة من صاحب الصحيفة ومني، كنا نعمل في التحرير والترجمة والتصحيح، وتهذيب الرسائل والأخبار ... وكان الأستاذ وجدي قليلا ما يبرح داره، فكنت أنوب عنه في أعمال الصحيفة الخارجية، ومنها الحصول على الأخبار وعلى الأحاديث، وبينها أول حديث للوزراء المصريين ...
والأخبار لم يكن خطبها في ذلك العهد بالأمر العسير ...
كان لها مكتب بديوان الداخلية ترسل إليه النشرات من جميع الدواوين، ومعظمها عن التعيينات والتنقلات، وصرف الأموال في المشروعات العامة ... ولم تكن هناك حاجة بالمخبرين إلى استطلاع النيات والتقاط الأسرار، فإن السياسة الكبرى كانت في علم المندوب البريطاني ومستشاريه ومفتشيه، وليس لأحد من الصحفيين صلة بهؤلاء غير أصحاب «المقطم»، وبعضهم وكلاء الصحف الأوروبية، وصلاتهم جميعا لا تفيدهم شيئا من أسرار السياسة العليا، ولا تطلعهم على أخبار الميزانية قبل أوانه.
فالمخبر البارع، والمخبر العاجز، في النهاية على حد سواء، إلا أن طائفة من المخبرين كانت تساوم «الإدارة» على تكاليف المهنة، وتوهم وكلاء الحسابات فيها أنها تحصل على أخبار النقل والتعيين والاعتمادات المالية من قصاصات «المسودات» في سلال المكاتب المهملة، وظلت هذه الحيلة تروج عند بعض الصحف إلى ما بعد أيام الثورة في أعقاب الحرب العالمية، ورأيت بعيني واحدا من هؤلاء المخبرين يبسط هذه القصاصات، ويجمع متفرقاتها ويلصقها ليزعم بعد ذلك أنه قد جاء بالخبر المضنون به على غير المجتهد الأريب. •••
كنت أذهب إلى مكتب الأخبار الصحفية بديوان الوزارة، فأرى هناك على التناوب عشرين أو ثلاثين صحفيا من مندوبي الصحف العربية ...
وليس من هؤلاء جميعا واحد فرد يذكر اليوم، أو يعرفه السامعون إذا ذكر، ولكن القارئ قد يعجب لاختلاف مقاييس النظر والتقدير إذا علم أنني كنت في نظرهم جميعا فضوليا متطفلا على الصناعة، وسمعت أحدهم يتكلم عن «عمر منصور» مندوب المؤيد، و«عبد المؤمن الحكيم» مندوب الأهرام، و«سامي قصير» مندوب المقطم، و«جورج طنوس» مندوب الوطن ... فإذا هو يشيعني بالإشارة الساخرة، وهو يسب الزمن؛ لأنه قضى عليه بالعمل في الصحافة مع أمثالي: «يحرق دين ها «البريس»
ما عاد غير ها الزعران يسود ورقاتها!»
الصحافة قبل خمسين سنة
بعد شهرين من العمل في داخل الصحافة المصرية، أمكنني أن ألخص حياتها عند أوائل القرن العشرين في كلمة واحدة: تلفيق!
فلولا ضرورة قضت بوجود الصحافة يومئذ على صورة من الصور، لكان من أعجب العجائب حقا أن توجد صحيفة واحدة، وأن تعيش - إذا وجدت - أكثر من بضعة شهور.
كانت موارد الصحف كلها من الاشتراكات، وثمن النسخ الموزعة، وأجور الإعلانات ... وكانت هذه الموارد لا تكفي كل الكفاية للإنفاق على الصحيفة إلى أمد طويل، ولكنها مع ذلك لم تكن خالية من عقباتها وموانعها، ولا من جرائر الخلل الدائم في وسائلها ومواعيدها.
فلم يكن للصحيفة المنتظمة بد من مورد آخر غير الاشتراكات، وغير البيع وغير الإعلانات، وهو كذلك مورد مضطرب معرض بطبيعته للفوضى وتبدل الأحوال، ونعني به مورد «الإعانات» السرية من أصحاب الدعايات، ومعظمها دعايات تصدر من قصور الملوك والأمراء، أو من دواوين وزارات الخارجية والسفارات.
فالاشتراكات الصحفية قبل خمسين سنة كانت من الموارد الثابتة المنتظمة بالقياس إلى موارد الصحف في العصر الحاضر؛ لأن الصحف في العصر الحاضر تعتمد على البيع في الأقاليم، ولا تعول كثيرا على الاشتراكات، ولم تكن وسائل البيع في الأقاليم ميسورة للصحف اليومية، فضلا عن الأسبوعية أو الشهرية إلى زمن قريب ...
وكانت الاشتراكات خليقة أن تمد الصحف بمورد نافع لو خلت من موانعها وعثراتها، ولكنها كانت في الواقع مولودة بموانعها وعثراتها، إن صح هذا التعبير ...
كان أعيان الريف يحبون أن يشتركوا في الصحف اليومية؛ لأنها مظهر من مظاهر الوجاهة و«الأهمية» في القرية أو البلدة الصغيرة ... ولم يكن بالقليل من مظاهر الوجاهة اليومية أن يحضر ساعي البريد إلى الدار يوميا؛ ليدق الباب على مسمع من الجيران، وينادي بصوت يشبه صوت المنادي باسم «المحكمة» في ساحة القضاء: بوسطة!
فإذا بالحي كله يترقب «سماعا» جديدا بعد هذا النداء، يحيط بأنباء الأرض والسماء، ويتحدث عن المسكوف و«الإنجلاطيرا» وملك «الفرنسا»، أو الجمهور كما كانوا يسمعون عنه منذ أيام حملة نابليون، ويتخللها بالأسطورة الطريفة التي تسمى بالترنسفال ... وبينها وبين السودان في الجنوب ألوف الأميال، ويا له من «واقع» وراء الخيال!
ولم يكن الوجيه الريفي يبخل بثمن هذا المظهر، أو يماطل الصحيفة بقيمة الاشتراك حبا للمطال ... ولكنه يجود به عن طيب خاطر لو وجد أمامه من يقبضه منه لحساب الصحيفة، وأين هذا الذي يقبضه لحساب الصحيفة، ويؤديه بالأمانة والوفاء؟
لقد كانت الصحف تنشر بين آونة وأخرى خبرا مكررا عن الوكيل «فلان»، الذي ألغي توكيله وأصبح غير معتمد في تحصيل الاشتراكات ... وكانت هذه الصحف تنشر قبل ذلك إعلانا موجها إلى وكيلها في هذا الإقليم أو ذاك تنبهه إلى موعد السداد، وتلوح له بالتهديد والإنذار، وقد ينفع التهديد مرة ولا ينفع مرات، ولكنه يعاد ثم يعاد، ويتجدد مع الوكيل الجديد تارة ومع الوكيل القديم تارات، ولا تستغني الصحيفة عن مراجعة الوكيل القديم لقلة الوكلاء المتخصصين لهذه الصناعة، أو المدربين عليها في معاملة الصحف والمشتركين والموظفين، وأفراد «الجمهور الصحفي» على التعميم ... «حق» الصحيفة
وكانت للوكيل فنون في معاملة الموظفين وإغرائهم بالثناء، أو تهديدهم بالتشهير والانتقاد ... ولا غنى له عن هذه الفنون؛ لأنه كان يستعين على الدوام بالموظف الكبير والموظف الصغير في تحصيل «حق» الصحيفة و«حقه» هو في سوقه السوداء ... من وراء الستار ...
ولا مناص من الوكيل لتحصيل الاشتراكات ...
ولا حيلة في قبول الوكيل على علاته؛ لأن معاملات الصحف لم تكن في ذلك العهد قد ثبتت ذلك الثبات الذي يسمح «بتكوين» طائفة من الأعوان المدربين ينقطعون لها، ويثابرون عليها، فإذا نجح من الوكلاء واحد من عشرات، فإنما ينجح بعد ابتلاء الصحيفة بخسائر هؤلاء العشرات، على دفعات!
ولنذكر أن الوكيل - على عيبه هذا - لا يستطيع أن يعمل في بلاد يجهلها ولا يقيم بين ظهرانيها ... فلا بد له من موطن في إقليم يعرفه، ولا يتسع هذا الإقليم المحدود لأكثر من مائتي مشترك على أكبر تقدير ...
وكم يصل من هذا المحصول إلى خزانة الصحيفة بعد المطال والعمولة، والسوق السوداء؟
قليل، جد قليل!
وكل صحيفة احتاجت إلى هذا القليل، فقد كان عليها أن تقبل وسائله وتتجرع غصصه، وتغضي عما تعلمه من عيوبه ومحظوراته ...
عدة الشغل
ومنها - بل في مقدمتها - أن تنشر الصحيفة كل ما يصل إليها من رسائل الوكيل، أو من مدائحه وأهاجيه في الواقع؛ لأنها «عدة الشغل» التي يعمل بها، ولا عمل له بغيرها، بين الأعيان والموظفين ... فمن تصدى لتحصيل الاشتراكات - وتحصيل غيرها في السوق السوداء - فلا أمل له في محصول ينفعه وينفع الصحيفة بعد تخويف وإغراء، ولا ضير بالتخويف والإغراء في سبيل الخدمة العامة والمصلحة القومية ... ولكنه الضير كل الضير على الوكيل «الأريب» الذي يستطيع أن يجمع المئات من لذعة هنا وأكذوبة هناك، ثم يتركها ليقنع بالعشرات وما دون العشرات!
وأحسب - بعد هذا كله - أن التفاؤل فريضة على الناس يضطرهم إليها الصدق الواقع، إن لم يضطرهم إليها شعورهم بالحاجة إلى الأمل والعزاء.
إن الأمور لا تقاس بأسوأ الظروف في جميع الأوقات، فكثيرا ما تتمخض الظروف السيئة عن حسنات لم تكن في الحسبان، ولقد رأينا في ذلك العهد أناسا عملوا في وكالة الصحف يدينون أنفسهم بنزاهة القاضي وأمانة الطبيب، ويشتغلون بهذه الصناعة؛ لأنها «هواية» تملأ الفراغ بالرحلات والمقابلات في غير عنت ولا اضطرار، ولكنهم شذوذ القاعدة الذي يبعث فينا التفاؤل كلما أطبقت علينا ظلمات الشؤم والقنوط.
أما القاعدة المطردة يومئذ، فقد كانت صفحة من صفحات الصحافة الحالكة في تطورها الأخير ... وكانت «تصنيفة» الوكلاء الصحفيين في القرن العشرين تدل على المورد الذي تتسرب منه اشتراكات الأقاليم، فهي «تصنيفة» يتلاقى فيها الكاتب العمومي المتجول، وقارئ الأعراس والمآتم، ومأذون الشرع المفصول، وصاحب الصناعات التي لا تحصى؛ لأنه «متشرد» عام يشتغل بجميع الصناعات!
التوزيع
أما التوزيع بأيدي الباعة فقد كان موردا للصحف اليومية أهم من مورد الاشتراكات، وأيسر منه في متاعب التحصيل، ولكنه لو اجتمع برمته من جميع الصحف الكبرى التي كانت تصدر في القاهرة قبل خمسين سنة، لما كان فيه الكفاية لإصدار صحيفة يومية واحدة في هذه الأيام.
وكان أربعة أخماس النسخ المعدة للبيع توزع في القاهرة وضواحيها ... ولولا أن الإسكندرية كانت مستعدة بموزعيها المشتغلين ببيع الصحف الأجنبية لما تأتى تدبير مسألة التوزيع فيها ...
ومن المناظر المألوفة اليوم في عواصم القطر أن يرى المارة للصحيفة اليومية أربع سيارات، أو خمسا تتسع الواحدة منها لحمل عشرات الألوف من النسخ، وتتولى نقلها يوميا على خطوط الإسكندرية أو بورسعيد أو الأقاليم الوسطى في الوجه البحري أو أقاليم الصعيد ...
فقبل خمسين سنة لم تكن في القطر المصري سيارة واحدة من هذا القبيل، ولو وجدت فيه سيارة واحدة لفرغت من عملها في حمل صحف القاهرة جميعا بعد نصف ساعة.
المعلم عكريشة
وكان المعلم عكريشة يجلس إلى ناحية المكتب، وفي يده الجوزة التي لا تفارقه، وأذناه إلى الكاتب الذي يسأل «أولا فأولا» عن عدد الوارد من كل صحيفة، إلى أن يتم الوارد من جميع الصحف اليومية ... ثم تبدأ عملية التفريق على المساعدين من المتعهدين، فأنصاف المتعهدين، فالباعة المتفرقين ...
ولا يكلفك الأمر أكثر من جولة سريعة بالنظر في هذه الزاوية الضيقة؛ لتحصر كل ما صدر من صحف مصر الكبرى في ذلك النهار: المؤيد، واللواء، والأهرام، والمقطم، والوطن، ومصر، والظاهر، والراوي، والجوائب المصرية، والمحروسة، في بعض الأحايين ...
وكانت هذه الصحف تصدر معا في وقت واحد بين الساعة الثانية والساعة الثالثة في المساء، ويحملها عمال عكريشة، أو عمال الصحف من مطابعها إلى الزاوية المعروفة، فلا تلبث «عملية» النقل والصف والتفريق أكثر من ساعة واحدة بنصف حمولتها ...
وما كانت صحف القاهرة الكبرى تحتاج إلى مكان للتوزيع أوسع من «زاوية عكريشة»، على جانب من رصيف المحكمة المختلطة بجوار العتبة الخضراء.
ولم تكن «زاوية عكريشة» هذه مكتبا ولا شبه مكتب، ولكنها كانت منضدة من مناضد الكتبة العموميين على ذلك الرصيف ... وكان المعلم «عكريشة» متعهد بيع الصحف جميعا يستعيرها في مبدأ الأمر من كاتبها، الذي يستغني عنها بعد الظهر - أي بعد الفراغ من كتابة العرائض للمحكمة وكتابة الرسائل لصندوق البريد - ثم بدا له أن يشتريها وكاتبها جملة واحدة، لاتساع دائرة العمل وزيادة الإقبال على الصحف اليومية بعد قيام الأحزاب السياسية، على أثر قضية دنشواي ...
ثم يخلو الرصيف إلا من المعلم عكريشة وكاتبه ومنضدته، وقلمه الذي يحمله وراء أذنه، إلى أن يودعه مكانه في الدواة النحاسية الصفراء ... ومتى خلا الرصيف هناك لم يبق مكان في القاهرة خلوا من صبي من صبيان المعلم الكبير، تكاد تحسبهم أسرع من الترام؛ لأنهم يصلون حيث لا يصل الترام، وتكاد تختلط أصواتهم بأصوات بائعي الخضر والفاكهة، ومنها النداء على «الوطن ومصر العال»!
وليس أمامي إحصاء دقيق لتوزيع الصحف في تلك الأيام، ولكنه على الحد الأقصى لا يزيد على خمسة آلاف للصحيفة الواحدة؛ لأنه الحد الأقصى الذي تبلغه طاقة المكنات الطباعية، قبل وصول مكنات البخار والكهرباء!
الإعلانات
ولا نعرف اليوم صحيفة تستطيع أن تسقط الإعلانات من حسابها، ثم تطمع في البقاء واستيفاء أبواب الأخبار والتعليقات، ولكن صحافة الأمس كانت تستطيع بلا تردد أن تسقط إعلاناتها من عددها الأول، ثم لا تفقد شيئا يعوقها أسبوعا عن الصدور.
وكانت التقاليد الموروثة والأمية معا عائقين طبيعيين لظهور «الإعلان» الصحفي إلى سنوات قليلة مضت ... لعلها هي السنوات التي ظهرت فيها أول شركة للإعلان الصحفي في هذه البلاد ...
كان من التقاليد الموروثة أن يشتري الإنسان لوازمه «المهمة»، من حيث اشتراها أبوه وجده.
وكان الريفي ينزل القاهرة لشراء لوازم الفرح، أو لوازم البناء والأثاث، فيذهب إلى أمكنة معروفة بأسمائها لا تتغير من جيل إلى جيل، وكلهم يعرف عناوين مدكور والماوردي والجمال والحمصاني، ومخازن الحدائد والأخشاب في ناحية القلعة وسوق السلاح، ولا نظن أن متجرا من متاجر القاهرة المشهورة نشر إعلانا واحدا ليكسب به «زبونا» لم يكن يعرفه قبل ذلك الإعلان ...
أما المتاجر الصغيرة التي تباع فيها لوازم البيوت اليومية، فقد كانت معروفة في أحيائها وقراها بغير حاجة إلى إعلان مكتوب ...
لهذا بقيت إعلانات الصحف سنوات عدة وهي مقصورة على إعلانات البيوع القضائية وإعلانات الوفيات أو إعلانات «ختمي فقد مني وليست علي ديون ولم أوقع على سندات أو كمبيالات ...»
وإعلانات «الأختام» وحدها عنوان صادق لنصيب الصحف من قراء الإعلانات؛ لأنها عنوان للأمية التي تعجز عن كتابة الأسماء، ومع هذه الأمية لا إعلان، ولا قراء للإعلان!
الإعانات السرية
ونحن الآن نكتب ونقدر ونتذكر لا نرجع إلى الصحف التي عاشت في مصر وانطوت بعد حين، ولكننا لا نجازف إذا قلنا: إن مصروفاتها كانت على التحقيق أكبر من مواردها التي يدل عليها حساب البيع والاشتراك والإعلان ... ولولا أنها اعتمدت في وقت من الأوقات على مورد الإعانات «السرية» لما طال بها الأجل شهورا، فضلا عن سنوات.
وقد تعلم مبلغ الحاجة إلى هذه الإعانة إذا علمت أن شركات البرق - كشركة روتر، وهافاس - كانت تتلقى إعانة رسمية من الحكومة المصرية، وأن مطبوعات الدواوين والسفارات كانت تحال - علانية - إلى بعض الصحف لطبعها، مع وجود المطبعة الأميرية.
ولم تكن مصادر الإعانة مجهولة بين العاملين في الصحافة والسياسة، وإن لم تبلغ من الصراحة في زمن من الأزمان مبلغ الاعتراف المكتوب.
وربما انقسمت هذه المصادر في جملتها إلى مصدرين اثنين على شيء من الدوام والانتظام، وهما القصور الملكية ودواوين السفارات ووزارات الخارجية، وقصر «يلدز» في الآستانة كان مصدر القسط الأوفر من إعانات الصحافة والصحفيين المتطوعين ...
وقصر «عابدين» بمصر كان المصدر الآخر الذي ينافسه يوما، ويعمل معه يدا بيد في عامة الأيام ...
وكان بخل عباس المشهور يغل يده عن التبرع بالمال من خزانته الخاصة، فكان يحيل أعوانه من الصحفيين تارة إلى ديوان الأوقاف، وتارة إلى ديوان الرتب والنياشين ...
أسعار الرتب
وكانت للرتب أسعار مقررة من الباشوية إلى البيكوية من الدرجة الثالثة.
فكانت رتبة الميرمران الرفيعة بألف جنيه، ورتبة البيكوية من الدرجة الأولى تباع بثمن يتراوح بين خمسمائة جنيه وسبعمائة جنيه، وكانت رتبة البيكوية من الدرجة الثانية تباع بأربعمائة جنيه أو ثلاثمائة جنيه، وتقدر أسعار النياشين والأوسمة بمقدار قيمتها من المعدن والجواهر وقيمتها من الأولية في ترتيب التشريفات.
ولقد بيعت رتب كثيرة في القهوات، وبيعت رتب مثلها في مكاتب التحرير والتوكيل ... ولكنها لم تهبط في السوق - على ما نعلم - إلى ما دون مكاتب التوكيل في القاهرة والإسكندرية ... ولو أن سمسارا من سماسرتها خانه الحظ أو غلبه الطمع، فباع رتبة من هذه الرتب لرجل محكوم عليه في جريمة شائنة، لبقيت هذه التجارة موردا للصحافة إلى ختام عهد الخديويين ...
والوكالة البريطانية وسفارة فرنسا كانتا في هذا المجال ندين كفأين أو أكثر من كفأين لقصور الملوك والأمراء، ولكن الوكالة البريطانية كانت تكافئ خدامها بالمنافع الجزيلة من الوساطات والشفاعات في دواوين الحكومة، وقد تجود بالمال من مصروفات «الميزانية» ومن مصروفاتها هي إذا اقتضى الحال، ولا تقصر السفارة الفرنسية عن زميلتها في بذل هذه الإعانات على اختلافها، ولكنها كانت تعوض الخدمات الحكومية بالصفقات التجارية، ومساعدات المصارف والشركات، وقل منها ما لم تكن للفرنسيين مساهمة فيه ...
ومن الوظائف التي كانت تبدو للنظر بريئة من هذه الشبهات وظيفة المدير العام لدار الكتب المصرية، التي كانت موقوفة - باتفاق العرف - على علماء الألمان، ولكن هذه الوظيفة عملت في الدعاية الخفية أحيانا ما لم تعمله وظيفة في السفارات السياسية، وكان اتصال المدير العام لدار الكتب بزمرة الصحفيين وحملة الأقلام أمرا لا غبار عليه؛ لأنهم كانوا يقصدون إلى دار الكتب للمطالعة والمراجعة والنسخ في جميع الأوقات، وماذا يحول دون الاتفاق على حملة منظمة في الصحف خلال مقابلة أو مقابلتين لنسخ هذه الورقة أو استعارة ذلك الكتاب؟
ونعود إلى الدستور
ونعود إلى صحيفتنا التي بدأنا فيها علمنا، نسأل: كيف عاشت من مواردها الصحفية؟ وكيف كانت ترجو أن تعيش كما عاشت الصحف في أيامها؟
نقول اليوم: إن ظهورها بوسائلها التي عهدناها، ولا يخامرنا الشك فيها، كان عجبا من العجب، وخلاصة ما يقال عنها: إن قلة مصروفاتها كانت هي السند الأكبر لبقائها المزعزع في عمرها القصير.
ضاع الأمل في الاشتراكات بعد شهر أو شهرين، ولم يكن صاحب الصحيفة - على شهرته بالنظريات - مجردا من الدراية الحسنة في تنظيم الأعمال، فاخترع طريقة الاشتراك الشهري بالأذونات مع خصم رسوم البريد من بعض هذه الأذونات، وأفادت هذه الطريقة قليلا، ولكنها كانت - على أحسنها - فائدة تأجيل للقضاء المحتوم.
وكسدت سوق البيع بعد الخلاف بين الدستور واللواء، فقصرت الإدارة عدد المطبوع من النسخ على الطلب اليومي، ولم يزل هذا الطلب اليومي يتناقص من أسبوع إلى أسبوع ...
ومن لطائف الأستاذ فريد وجدي - وكان يمزح أحيانا، ولا يقول إلا صدقا - أن موظف الإدارة فاتحه في نقص أجور الإعلان، فقال له متململا: ألا تحمد الله لأننا لا نغرم حتى الآن إعلانات في الصحف عن ظهور الدستور؟!
أما الإعانات السرية فقد كان الدستور خليقا أن يجمع منها الكثير، لولا أن الأستاذ فريد وجدي - رحمه الله - كان يحسب أنه يسخر أصحاب الدعايات لرسالته الدينية، ولا يفهم أنهم يسخرونه لدعايتهم السياسية ... وقد يصل الأمر إلى تبرعات الأفراد، فلا يقبل منها الرجل ما يزيد على قيمة الاشتراك المكتوبة على الصحيفة، وحدث من ذلك أن السيد «توفيق البكري» أراد أن يعرب للصحيفة عن شكره لموقفها منه أمام الخديو في مسألة «زفة المحمل»، وحضور الطرق الصوفية فيها، فأرسل إلى الأستاذ وجدي مبلغا لا أذكره على التحقيق، ولكنه يزيد على قيمة الاشتراك بكثير ... فأمر صاحبنا كاتب الحسابات أن يكتب للسيد إيصالا بقيمة الاشتراك، ويعيد إليه بقية مبلغه مع الإيصال ...
وماذا تكون النتيجة؟
تكون على هذا نتيجة مكتوبة قبل المقدمة، ولولا قلة المصروفات - كما أسلفنا - لاتصلت النتيجة بالمقدمة في أيام، أو على الأكثر في أسابيع!
ستة جنيهات
كانت المصروفات القليلة سببا من أسباب بقاء الصحف المصرية في سنواتها الأولى ...
وتظهر قلة المصروفات من تكاليف التحرير في الصحف اليومية الكبرى، فقد كان قلم التحرير في أكبر الصحف لا يزيد على خمسة من المحررين والمترجمين والمخبرين، وملخصي الأخبار من الأقاليم، يبدأ مرتبهم من خمسة جنيهات في الشهر، ويندر جدا أن يجاوز العشرين ...
وكان قلم التحرير في صحيفة الدستور يشتمل على محرر واحد غير صاحب الصحيفة ...
وهذا المحرر الواحد هو كاتب هذه السطور، يشترك في التحرير والترجمة، وتلخيص الأخبار، ويتناول في الشهر مرتبا لا يقنع به الآن أحد يعمل في الصحف من البوابة إلى السعاية، ونقل الأوراق بين المكاتب، ودع عنك التحرير والترجمة وجلب الأخبار ...
ذلك المرتب «مبلغ قدره» ستة جنيهات، ولم يكن يزيد على مرتبي من وظيفة الحكومة بأكثر من جنيه واحد ... فلم تكن زيادة المرتب أحد المغريات لي على ترك الوظائف الحكومية للاشتغال بالصحافة؛ لأن المرتبين متقاربان مع الفارق في الضمان والترقية، ومستقبل المعاش ...
إلا أن القيمة في هذه المرتبات لا تحسب بحساب الأرقام، فإن الستة ربما ساوت ثلاثين في الوقت الحاضر، أو أربت على الثلاثين ...
كانت خمسة مليمات في ذلك الحين تعطيك مائدة إفطار حسنة في الصباح، وقد ترضيك هذه المائدة عند الضرورة في طعام الغداء أو العشاء ...
مليم ثمن نصف رغيف (شقة من الخبز) يساوي وزن الرغيف في منتصف القرن العشرين ...
ومليمان ثمن الفول والزيت.
ومليم ثمن صفحة من السلطة.
ومليم ثمن برتقالة أو يوسفية أو أصبع موز أو أربع بلحات ...
فإن أردت التنويع أمكنك أن تغير هذه الأصناف بالحلاوة الطحينية، أو العسل والطحينة أو الجبن أو البيض، ومن هذه الأصناف ما يغنيك عن الفاكهة والحلويات!
ولك أن تتوسع في طعام الغداء، فلا تقنع بالأصناف التي تقدم على مائدة الإفطار ... ولكنك لا تحتاج إلى أكثر من عشرة مليمات للصفحة من الخضر المطبوخة، وعشر مليمات للصفحة من الأرز، وعشرين مليما للصفحة من الخضر، وفيها قطعة من لحم البقر أو الضأن.
وقس على ذلك سائر المأكولات.
دروس التلغراف
وكانت مشكلة السكن يومئذ أيسر من مشكلة الطعام.
فكنت أنا من سكان الضواحي الخلوية، لا يكلفني السكن في الشهر أكثر من ثلاثين قرشا لحجرة ذات نوافذ مطلة على الطريق ومروج الخلاء، ولم يقع اختياري على الضاحية التي سكنتها - بجوار حدائق القبة - لأنني كنت من طلاب الترف وسكان المنازل الخلوية، ولكنني كنت أتعلم دروس التلغراف بمدرسته في ضاحية الدمرداش، فاخترت السكن إلى جوارها، وضمنت أجور المواصلات باشتراكات «مجانية» على حساب مصلحة السكك الحديدية، فلما اشتغلت بالصحافة خسرت أجور المواصلات، ولم أعوضها بتذاكر الاشتراك في الترام أو قطار كبري الليمون؛ إذ كان طلب هذه التذاكر مخالفا لمبدأ صحيفتنا «الحنبلية»، فعوضتها بخمسة مليمات في الترام، أو بمشوار على الأقدام، وقد كنت من الفلاسفة المشائين قبل أن أسمع باسمهم بين الفلاسفة الأقدمين، وكنت لا أعجز عن مشوار بين أسوان والخزان، أو بين أسوان وأبي الريش، فلماذا أعجز عن مشوار بين القاهرة وحدائق القبة أو الدمرداش؟
لا موجب لهذا العجز على التحقيق، وبخاصة بعد العلم بمدرسة الفلاسفة المشائين، وبعد ترشيحي بهذه الصفة للتلمذة على أستاذ الأساتذة، ومعلم المعلمين: سيدنا أرسطو كما كان يقول أستاذ الجيل «أحمد لطفي السيد».
ديوان زهير ... بقرش
هذه ضرورات المعيشة المادية، فما القول في ضروراتها النفسية أو الأدبية؟
لقد كانت أيسر من ذلك فيما أعرفه من شئوني الخاصة، ولعلها أيسر من ذلك في شئون الكثيرين ...
ففيما عدا شهود التمثيل مرة أو مرتين عند عرض الروايات الجديدة لم يكن لي مطلب عزيز غير شراء الكتب العربية والإفرنجية.
فهل تراني أعجز عن «قرش صاغ» ثمنا لديوان البهاء زهير؟ أو عشرة قروش ثمنا لديوان المتنبي؟ أو قرشين ثمنا لكتاب المستطرف في كل فن مستظرف، وعلى هامشه، أو في ذيله كتابان آخران؟
وإذا زادت الحسبة إلى الجنيهات، فهل تراني أعجز عن رحلة إلى دار الكتب المصرية لمراجعة المجلدات أو للنقل منها «عند اللزوم»؟
أما الكتب الإفرنجية فقد كانت لها طبعات يباع فيها الكتاب بشلن واحد، وكانت هذه الطبعات تحيط بالنخبة المختارة من كتب المنظوم والمنثور، وما يصعب الحصول عليه في طبعة منها؛ لأنها مخصصة لصنف من الكتب تنتقيه، ولا تعنى بغيره، فليس من الصعب أن تحصل عليه في طبعة مثلها في الثمن، وفي جودة الورق والتغليف ... وعلى هذا أمكنني في خلال ستة أشهر أن أجمع مائتي كتاب من عيون الأدب الغربي في جميع اللغات، مترجمة إلى اللغة الإنجليزية ...
بارك الله في مصطلحات السياسة، وفوارق الأشكال والعناوين في العلاقات الدولية.
فما زلت من ذلك الحين أومن بأنها شيء صحيح ملموس الأثر، وليست حروفا على الورق، ولا ألفاظا تطير مع الهواء.
فالبلاد المصرية كانت - في الواقع - تابعة للدولة البريطانية في سياستها الخارجية وحكومتها الداخلية ...
ولكنها لم تكن كذلك في مصطلحات السياسة، ولا في أشكال العناوين.
ولهذا استطعت أن أشتري كتابا يباع في إنجلترا بثلاثة جنيهات، ولا أبذل فيه أكثر من أربعين قرشا في مكتبات القاهرة؛ لأنه صادر من مطبعة ألمانية حصلت على حقوق طبع الكتب وبيعها في كل مكان غير «الأملاك البريطانية».
ولم تكن مصر قط من الأملاك البريطانية بحكم القانون، فليس في العرف الدولي ما يمنع المطبعة الألمانية أن ترسل إلى مصر جميع مطبوعاتها؛ لتبيع الكتاب منها بمارك واحد، أو بشلن واحد على وجه التقريب ... فاستغنينا بهذه الطبعة زمنا عن الكتب الإنجليزية في طبعاتها الغالية، وهانت مشكلة الكتاب بعد مشكلة الغذاء.
ولم تبق إلا مشكلة الكساء!
وقد كانت حقا مشكلة المشاكل لا مراء!
لأنها تحتاج إلى مبلغ متجمع لا يوجد في اليد ساعة الطلب، ولا تحلها عندي حيلة التقسيط؛ لأنه - على ندرته في ذلك الحين - لم يكن مريحا لمن يبيع الكساء ولا لمن يلبس الكساء.
ومرة واحدة حللت هذه المشكلة بشراء بذلتين قديمتين، ولكن الجوار الصالح هداني إلى حيلة أصلح من هذه الحيلة لتدبير هذه المشكلة، وهي درس خصوصي لتاجر أقمشة يتولى تفصيل القماش وتسليمه كسوة كاملة، ويوفيني الأجر - بذلك - كسوة كل ثلاثة أشهر ... ولم تزد مدة التعليم كله على كسوتين، لنشاط التلميذ أو لبراعة الأستاذ، أو لرغبة الفريقين معا في «فسخ» العقد بسلام!
خصلة مشتركة
وإخال، بعد هذه القصة عن الكفاية، أنني نسيت أن أقول: إن قلة المصروفات كانت خصلة مشتركة بيني وبين الصحافة التي عملت فيها، فقد كنت في سن الحاجة إلى المصروفات قليل الحاجة إلى المصروفات، وأصح من ذلك أن أقول: إن مطالبي في حياتي ليست بالقليلة، ولكنها ليست كذلك من النوع الذي يتوقف على المال.
وكفاية المرتب، على أية حال، مهمة جدا في كل عمل نعمله لنعيش من رزقه.
هي شيء مهم جدا ولا كلام ...
ولكن هل ترانا نفهم أنها هي الشيء المهم الوحيد، أو أن شيئا آخر لا يهمنا مثلها على تفاوت المرتبات والأجور؟
من يفهم ذلك ففي تجاربه نقص يتعبه في عمله ويتعبه في معيشته، فالرغبة في العمل الذي نتوفر عليه مهمة جدا كالمرتب الذي نتقاضاه منه، ونحن نستريح بستة جنيهات نتناولها من عمل نرغب فيه، ولا نستريح باثني عشر نتناولها من عمل نبغضه ونساق إليه، ولا نود أن ننجزه محسنين أو غير محسنين!
وقد بدأت عملي في الصحافة راغبا فيه مقبلا عليه.
ووجدت من اللحظة الأولى أنني أريد أن أفرغ فيه جعبة المعرفة التي حصلتها من مطالعاتي الصحفية، ومن مطالعاتي في الكتب، وفي الحياة ...
وبعض هذه المعرفة صبيانيات مضحكة لا تقدم ولا تؤخر في الموضوع، ولكنها تدل على حكم العادة وتواتر النظر والسماع ... «عم» العقاد
كيف أوقع مقالتي الأولى؟ وكيف يكون توقيعي الملتزم في جميع المقالات؟
وقعتها كما توقع المقالات التي أقرؤها في المجلات الأجنبية، فكان توقيعي باللقب والحرفين الأولين من الاسمين «ع. م. العقاد».
ومثل هذا التوقيع لا ينجو من ألسنة الزملاء الهازلين في بلد «القفش» والقافية؛ فسرعان ما ظهر لي مقالان أو ثلاثة حتى دغموا الحرفين في اسم واحد، وراحوا يتحدثون عن مقالات «عم العقاد ...»!
وماذا قال عمك؟ وماذا تقول يا عم؟ واكتب لنا يا عمنا بما تراه ... وقس على ذلك بقية القافية في مختلف الأوضاع والنداءات ...
ويأبى العناد أن أرجع عن «عم العقاد».
أو لعله لم يكن عنادا محضا ولا صبرا على السخرية بغير مبالاة، فليس من الكسب الرخيص للكاتب الناشئ أن يذكر وأن يكون في توقيعه إغراء بذكره ... وأما السخرية فهي شهرة نابية في جميع الأسماع، ولكنها تهون إذا أصابت الفطاحل النابهين، كما تصيب الناشئين المبتدئين ...
وهكذا مضى «عم العقاد» يكتب بهذا التوقيع من العدد الأول إلى آخر الأعداد!
أما الموضوع فقد كان «المقالة الأدبية» في المرتبة الأولى، ثم تليه المقالة على الإجمال في مختلف الشئون ...
وكان أدب المقالة في تلك الآونة يستوعب مطالعاتي الحديثة أو يكاد ...
كنت أدمن القراءة في كارليل، وماكولي، وهازلت، ولي هنت، وأرنولد، وغيرهم من أئمة فن المقالة في القرن التاسع عشر ... وكان بعض هذه المقالات مما ينشر في الصحف اليومية؛ لأنها تمتد حتى تبلغ في المجلة ثلاثين أو أربعين صفحة، وبعضها مما يصلح للنشر في الصحافة الأسبوعية كما يصلح للنشر في الصحافة اليومية، ومن هذه المقالات كنت أترجم ما يصلح للنشر في الصحيفة السيارة، وعلى غرارها كنت أكتب ما أكتب عن أدباء العرب والفرس، ومسائل النقد والتعليق ...
فن المقالة
ولم يخطر لي أن أخترع جديدا في فن المقالة الأدبية؛ إذ كانت الصحافة المصرية كلها قد قامت على فن المقالة، منذ نشأتها قبل الثورة العرابية، وكانت «الجريدة» قد سبقت «الدستور» في تاريخ الصدور، وكان من كتابها المتقدمين «محمد السباعي» تلميذ «لي هنت» في فن المقالة على أسلوب المدرسة الإنجليزية، فكان رائد هذا الفن في تحرير الصحف غير مدافع، وكان له فيه إبداع يعرفه قراء كتابه الذي سماه ب «الصور»، وأراد أن يعارض به مقالات الترسيم والتخطيط المعروفة باسم «الإسكتش»
Sketch
في أدب الغرب الحديث، فلم أحاول في كتابة مقالاتي جديدا غير تقريب الموضوعات من الدراسة النقدية، ولم أطرق غير القليل من موضوعات النقد الاجتماعي، أو موضوعات المقالة الوصفية والمقالة العاطفية؛ لأنني كنت - مع اشتغالي بالكتابة - مشغولا بنظم الشعر في موضوعاته، وهو أولى بالوصف العاطفي من المقالات ...
على أنني أحمد الله؛ لأن المتقدمين علي في الصحافة لم يغلقوا علي جميع الأبواب، فبقي لي في الصحافة المصرية باب واحد أستطيع أن أقول: إني كنت أول السابقين إليه ...
وذلك هو باب الأحاديث مع الوزراء والساسة، فلا أعلم أن أحدا من الصحفيين المصريين سبقني إلى إجراء حديث عام مع وزير مصري، أو رئيس شرقي يسمع له قول في السياسة، وإخالهم معذورين بعض العذر في هذا التأخير، وإخالني محظوظا بعض الحظ في هذا السبق المقدور؛ لأن الأحاديث أمر مرهون بأوانه لا يدركه أحد قبل موعده ولا بعده، ولا هو بالمعقول في صحافة مصر على عهد الاحتلال قبل حادث دنشواي وقيام الأحزاب ...
من كان يحادث الوزراء المصريين في شئون السياسة العامة؟ وماذا يقول الوزير للرأي العام إذا أراد المقال؟ وأي برنامج له يعرضه على الناس؟ وأي رأي كان له بعد رأي المستشار، ورأي قيصر قصر الدوبارة من وراء المستشار؟
أحاديث الوزراء
إن حديثا يجري مع وزير لا يملك من أعمال وزارته غير التوقيع والسكوت لهو اللغو بعينه، فلا حرج على الصحفيين المصريين إذا تجنبوه ... وقد تجنبوه معذورين حتى خطر لي أن أقتحم هذا الباب لأول مرة، فكان اقتحامي إياه في الحق عنوانا لصفحة جديدة في تاريخ الوطنية المصرية، ولم يكن مجرد سبق في الصحافة يتكرر كل يوم ...
وجرى الحديث الأول مع سعد زغلول في وزارة المعارف، وجرى غيره من الأحاديث مع الغازي أحمد مختار «قوميسير» الدولة العثمانية كما كانوا يسمونه في زمانه، وكان على ضآلة نفوذه في مركزه شخصية من أقوى الشخصيات العسكرية والسياسية التي عاشت في ذلك الزمان ...
وكنت أعلم أن حديثا يتطرق إلى نظام الجيش في عهد الاحتلال، ويفوه به أكبر القادة العثمانيين في مركزه الرسمي بالديار المصرية - لن يخلو من ضربة تقض مضاجع المحتلين ...
ولقد كان ما قدرت، فإن الرجل خبطها خبطة عنيفة، وقال لي لما سألته عن العدوان على المحمل المصري في جزيرة العرب: إن الذنب ذنب النظام لا ذنب الأمن في الجزيرة العربية، وإنه كان يستطيع أن يفتح الجزيرة كلها بفرقة كالفرقة التي تحرس المحمل في كل عام!
يا خبر!
إن كلمة دون هذه الكلمة في المساس بنظام الاحتلال العسكري قد أوشكت أن تطيح بعرش عباس الثاني، وقد حركت الدولة البريطانية بحذافيرها لتهديده وإرغامه على الاعتذار ...
فكيف تراهم يصبرون على تلك الضربة من قائد عسكري يمثل الدولة العثمانية؟
إلا أنهم مكروا ولم يجهروا، وبدأت بينهم وبين القائد الكبير أزمة متواترة متوترة ... نصرهم فيها عليه سماسرة الخذلان في الآستانة، فكان الغازي مختار خاتم «القوميسيريين» في هذه الديار ...
ثورة على الخديو
إذا كنت قد خرجت من صحيفة الدستور بأولية من أوليات الصحافة المصرية، فهذه هي «أوليتي» التي خرجت بها من أول عملي في صحيفة يومية: أول صحفي مصري حصل على حديث من وزير عامل في الوزارة، أو من رئيس شرقي كبير يسمع له رأي في السياسة ...
وقد كدت أن أضيف إليها «أولية» أخرى ذهبت غير محسوس بها، قبل أن تحبو من مهدها ...
كدت أكون أول كاتب يحاكم على حملة صحفية موجهة إلى سياسة الأمير في شئون مصر، وفي شئون الإصلاح الأزهري على التخصيص ...
كانت سياسة الوفاق يومئذ في عنفوانها؛ وكان مدار هذه السياسة على التعاون بين السلطة الفعلية - سلطة الاحتلال - وبين السلطة الشرعية - سلطة الأمير ... وقامت السياسة فعلا - بعد عزل اللورد كرومر - على إطلاق يد الخديو في مسائل الحكم التي تعنيه، ومنها مسألة الأزهر والأوقاف ومسألة الرتب والنياشين ...
وفي هذه الفترة تنمر الخديو للحركة الوطنية، وأدار ظهره لطلاب الدستور، وعمل جهده على استئصال نهضة الإصلاح في الأزهر بعد وفاة الأستاذ الإمام، وأعلن عداءه لمدرسة القضاء الشرعي، وكاد يقضي عليها ...
وثارت الثائرة على الخديو من داخل الأزهر وخارجه، فتكلم مرة عن نهضة الإصلاح الأزهري، وأقسم أنه يغار على الإصلاح غيرة أصدق من دعوى المدعين للغيرة عليه ...
وكتبت يومئذ مقالا مطولا استغرق الصفحة الأولى من صحيفة «الأخبار» التي كان يصدرها الشيخ يوسف الخازن، ويحررها الأستاذ توفيق حبيب، قلت فيه ما فحواه: إن الملوك لا يحتاجون إلى القسم؛ لأنهم يثبتون نياتهم بالأعمال، لا بالأقوال!
براءة المشايخ
وكان في وسعي أن أكتب هذا المقال في صحيفة الدستور؛ لأن صاحبها - الأستاذ فريد وجدي - كان كما أسلفت من أرحب خلق الله صدرا لحرية الرأي وحرية المناقشة، ولكنني قدرت له حريته هذه، فلم أشأ أن أحرجه في مسألة ترتبط بالأزهر والإصلاح الديني، وقد كانت له في العالم الإسلامي مكانة تشبه مكانة الأقطاب الدينيين ...
فلما ظهر المقال في صحيفة الأخبار بتوقيع «ع الأسواني» قلقت له الحاشية الخديوية، وظنوا أنه من إيحاء بعض المشايخ الأزهريين ... فأكبروا هذا «التمرد» من معقل الخديو الأمين في أيامه، فاستدعت النيابة صاحب الأخبار، وسألته عن اسم صاحب المقال، فأذنت له أن يطلعهم عليه، ولعلهم اطمأنوا إلى هذه النتيجة بعد أن علموا ببراءة المشايخ من الشبهة، فانطوت المسألة ووقفت عند هذا الحد، إشفاقا من إثارة القضية الأزهرية في أطوار التحقيق والمحاكاة والدفاع، وتعليقات الصحف وأحاديث المتحدثين.
ولولا ذلك لسبقت نفسي بثلاث وعشرين سنة، فكنت أول من حوكم على تلك العيوب الملكية التي يحملها أصحاب العروش، ويحاسب عليها أصحاب الأقلام.
يومية وغير يومية
كانت الصحف المصرية عند أوائل هذا القرن تنقسم إلى يومية وغير يومية، ولم تكن هناك صحف أسبوعية بالمعنى الذي نفهمه من الصحافة التي تصدر مرة كل أسبوع، فإن لم تكن الصحيفة يومية، فالصحف التي يقال عنها: إنها أسبوعية قد تصدر مرة كل شهر أو مرة كل شهرين، أو تنتظم على الصدور يوما في كل أسبوع إلى أمد محدد، ثم تنقطع دفعة واحدة، أو تعود إلى الانقطاع على دفعات ...
وكانت مواعيد الانقطاع على الجملة أصدق من مواعيد الصدور ... لأنه كان يتكرر على التحقيق حيث يتعذر التحقيق من موعد للصدور ...
وربما انتظمت الصحيفة «الأسبوعية» خمسة أسابيع أو ستة أسابيع متوالية، ولكنك تنتظرها عبثا إذا انتظرتها في يوم معلوم من أيام الأسبوع، فإذا ظهر هذا العدد منها يوم الأحد، فلا مانع أن يظهر العدد التالي يوم الخميس أو يوم الجمعة، أو بعد يومين اثنين فقط من ظهور العدد الذي سبقه، ولا معول في ميعاد من هذه المواعيد على شيء غير «توافر المادة اللازمة للتحصيل ...»
شيء لزوم الشيء
وما هي المادة اللازمة للتحصيل؟
حملة على مشهور أو فضيحة في أسرة تخاف التشهير، أو تهديد مقدور على حسب المناسبات، ومصالح الضحايا المعرضين للتهديد، أو ضجة سياسية أو اجتماعية تشتبك فيها المطامع والدعايات، وتتعدد فيها الفرص للمنتهزين من هنا ومن هناك ...
وكان أفضل هذه الصحف «الأسبوعية» الذي يسرع إلى الاحتجاب، وتمتنع عليه وسائل الثبات والاستمرار.
وقد ظهر من هذه الصحف الفضلى كثير لم يبق منها بعد حين كثير ولا قليل، ولم يقل أحد من الصحفيين الأفاضل أو غير الأفاضل: إنه يصدر صحيفته لمصلحة خاصة أو يصدرها لمحض التشهير والتهديد، ولكنك تراجع الأسماء فلا ترى بها من خفاء ... وماذا يبقى من الخفايا وراء اسم كاسم «الكرباج» أو «البعبع» أو «الجاسوس» أو «اللجام» أو «الصاعقة» أو «المرصاد» أو «العفريت» أو «عفريت المقاولين» على التخصيص؟
هذا إلى أسماء أخرى كالخلاعة والصبوة والغندرة والمرستان والفوضى، وما أشبهها من أسماء يختارها أصحابها، وهم في سعة من الاختيار، وفي سعة من الادعاء كما يشاءون بما اختاروه من كلمات!
ولم يمض غير يسير حتى افترقت الكفايات اللازمة لإصدار الصحيفة الأسبوعية على هذا المنوال ...
فقد يكون الرجل من أجهل الجهلاء، ولكنه من أقدر الناس على التشهير والتهديد، واستغلال الفضائح والإشاعات.
وقد يكون الرجل عاجزا عن كسب مليم من هذه الصناعة، ولكنه قادر على تسويد الصفحات وتلفيق الأقاويل والأباطيل ...
ولا بد من الكفايتين لإصدار الصحيفة في موعدها الملائم، فإن لم توجد الكفايتان في رجل واحد، فقد توجدان في رجلين، وقد يهتدي أحدهما إلى الآخر بحكم المصادفة إن لم يهتد إليه بحكم الضرورة ...
وهكذا كان ...
بين العتبة والفجالة
فقد جدت في القاهرة ثلاثة مكاتب أو أربعة لتحرير المقالات حسب الطلب والاقتراح مقرها حانات وقهوات موزعة بين باب الخلق والعتبة الخضراء والفجالة وحي الحسين، وهي الأماكن التي كثرت فيها المطابع الصالحة لطبع الصحف الصغيرة؛ لأنها تكلف القليل من الأجور، وتتقبل المقالات ...
ورأينا من هذه «المكاتب» قهوة في العتبة الخضراء يجلس إليها محرر مشهور يكاد يرتجل المقالة في دقائق معدودات، وقد يكتب المقالات قبل اقتراحها على وجهين متناقضين، أحدهما للمدح والتأييد والآخر للقدح والتهديد ... ويجلس بهذه المقالات على ثقة من الطلب في حينه، وقد يأتيه الطلب على النقيضين من طالب واحد في ساعة واحدة، ولا يعجزه في اللحظة الأخيرة أن يدخل التعديل المطلوب في القياس والتفصيل، إن كان لا بد من تعديل!
كان المكتب العام من «مكاتب التحرير تحت الطلب» في قهوة على مفترق شارع محمد علي وميدان العتبة الخضراء، وكان المطعم الذي تعودت أن أتناول فيه الغداء إلى جوار تلك القهوة ... فكنت أجلس فيها هنيهة قبل الغداء أو بعده، وكنت ألقى فيها بعض الصحفيين والأدباء، وأحضر مجالسهم ومحاوراتهم، وأستمع إلى أحاديث غزواتهم وأحابيلهم في تحصيل إتاواتهم، فرأيت صاحب صحيفة من أشهر الصحف الأسبوعية في أيامها يجلس إلى مائدة «الشيخ المحرر»، ويبادره بطلب من «البار» على حسابه، ويفاتحه قبل حضور الطلب في موضوع مقالين مستعجلين، يثني في أحدهما على سري معروف من أصحاب القصور الباذخة على مقربة من حي عابدين؛ لأنه يثابر على عمل البر وإسداء المعونة إلى الجماعات الخيرية، وإصلاح المساجد التي تجاور قصره، وإطعام الفقراء الذين يترددون على تلك المساجد لوجه الله الكريم، وينحى في المقال الثاني على ذلك السري بعينه؛ لأنه مبتذل العرض والكرامة يغرر بالأبرياء، فيسوقونه إلى ساحة القضاء، ويطالبونه بالتعويض عما أصابهم به من الأدواء ...
ثمن الفخر والثناء
وخرجت من القهوة إلى المطعم والمقالان يكتبان، ولعلهما عرضا في ساعة واحدة على السري المصلح المفسد، النافع الضار، المحمود المذموم ... ولعله قد بذل الثمن ضعفين: ثمن الفخر وثمن السلامة من الخزي والبذاء.
ومجمل ما يقال في هذه الصحافة: أنها كانت في مجموعها على هذه الوتيرة ... بين صحافة صالحة تسرع إلى الاحتجاب، أو صحافة فاسدة تعيش متقطعة متسكعة، وينقطع لها الحثالة من نفايات البلد، وقل أن تعتمد على بضاعة غير بضاعة الجهل والاحتيال ...
ولنا أن نقول في كلمتين: إنها صناعة مرذولة ولا حرج، وعلينا أن نذكر أننا نتكلم عن الصحافة، وأن الصحافة يومئذ كانت ظاهرة اجتماعية تبحث عن مكانها ... ومن أعجل الأحكام أن تدان الظواهر الاجتماعية بحكم واحد في فترات النشوء والانتقال على نحو خاص، فلا بد من استثناء في هذه الفترات، بل لا بد من حكم متئد يقابل الحكم العاجل ، ويلغيه أو يكاد ...
صناعة مرذولة محتقرة
هذا هو الرأي المجمل في صحافة مصر غير اليومية منذ خمسين سنة ... ولكنك لا تستطيع أن تبخل بوصف الاحترام على صناعة الصحافة يومئذ في مصر إذا التفت من ناحية الصحافة «غير اليومية» إلى ناحية الصحافة اليومية، لما كان في مصر يومئذ من صناعة تضم بين أبنائها أناسا أحق بالاحترام؛ من علي يوسف مدير المؤيد، ومصطفى كامل مدير اللواء، وأحمد لطفي السيد مدير الجريدة، كائنا ما كان المقياس الاجتماعي الذي تقاس به الصناعات.
طبقة من المجاورين
ولا استثناء في ذلك لمقياس الدولة والحكومة، فإن الرتب والألقاب التي حصل عليها أقطاب الصحافة المصرية من الدولة لم تكن تقل في قيمتها الرسمية عن ألقاب الوزراء ... ومن حصل منهم على «البيكوية»، فإنما كان يحصل عليها من الصنف الذي ينادى صاحبه بلقب الباشوية، ولولا أن الأستاذ «أحمد لطفي السيد» كان من المعارضين للسيادة العثمانية لجاءته الرتبة التي أنعمت بها الدولة على صاحبي المؤيد واللواء.
ومن الملاحظات التي لا تهمل في هذا الصدد مسائل الزوجية التي تعرض لها كبار الصحفيين في تلك الآونة، فإنها تدل على إحساس عميق داخل أصحاب هذه الصناعة، أودع في نفوسهم الثقة بمكانتهم الاجتماعية في شئون يتغلب فيها العرف التليد على كل اعتبار جديد، فلولا «الاحترام الاجتماعي» الذي كان يحسه الزعيم النابه في الصحافة اليومية، لما خطر لمصطفى كامل أن يخطب «الأميرة شويكار»، ولا خطر لعلي يوسف أن يتزوج بسليلة بيت السادات، وهو طموح أبعد من الطموح إلى مصاهرة بيت الإمارة؛ لأن اعتداد بيت السادات بشرفه الديني كان في ذلك العهد أقوى من اعتداد الأمراء بمراتبهم الدنيوية.
ولا يرجع شيء من هذا الاحترام الاجتماعي إلى مزية من مزايا الطبقة أو مزايا الثروة، فإن مصطفى كامل كان من طبقة الموظفين الصغار، وعلي يوسف كان من طبقة الفلاحين الفقراء «المجاورين» للجامع الأزهر، ولم يكن لهما من الثروة قسط يذكر بعد أن بلغا في الصحافة قمة النجاح ... •••
من الكلمات التي قرأتها ولم أنسها منذ قرأتها كلمة الروائي العبقري «شارلز ديكنز» في مقدمة قصة المدينتين، حيث يقول عن عصر الثورة الفرنسية:
إنه كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان ... كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام ... كان ربيع الرجاء، وكان زمهرير القنوط، بين أيدينا كل شيء وليس في أيدينا أي شيء، وسبيلنا جميعا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعا إلى قرار الجحيم ... تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات ...
فقد قرأت هذه الكلمة فخطر لي يوم قرأتها أنها لعبة من ألعاب المجانسات اللفظية لا تصدق على زمن من الأزمان، ولا على حالة من الحالات، فما برحت منذ قرأتها أعيدها أو تعيدني إلى ذكراها كلما صادفتني مرحلة من مراحل التاريخ الكبرى؛ لأنها وصف يصدق على كل مرحلة من هذه المراحل، ويصدق على كل جديد، ومنها فترة اليقظة المصرية في أوائل هذا القرن العشرين ...
حائر بين الاثنين
وطالما حيرتني وحيرت غيري هذه المناقضة بين الصحافة اليومية اليومية المحترمة، والصحافة «غير اليومية» التي لم يكن لها حظ من الاحترام ...
وليس مما يدفع الحيرة أن نعلم أن «الفترات الخالقة» بطبيعتها متناقضة مشتملة على المحاولة من طرفيها، إلى النجاح أو إلى الإخفاق ...
ولكنني أحسب أن الصحافة في أوائل هذا القرن قد أصبحت «هامة»، ولم تصبح «عامة» إلا بعد حين ...
وهذا فيما أحسب هو علة التناقض بين صحافة يومية محترمة - بمقاييس المجتمع - وصحافة أخرى غير محترمة بكل مقياس من هذه المقاييس ...
فالصحافة إذا كانت وظيفة هامة، أثبتتها القوة الاجتماعية التي تعرف لها أهميتها، وتحذر من إهمالها، وهذه القوة الاجتماعية تأتي من قمة المجتمع ومركز القيادة فيه ...
وأما «الوظيفة العامة» فلا غنى لها عن «رأي عام» يسندها ويراقبها ويتعهدها، ويتكفل لها كما تتكفل له بالحماية والرعاية ...
ولم يكن لهذا «الرأي العام» وجود في أوائل القرن العشرين، ولم تكن الصحيفة الأسبوعية قد بلغت من القوة أن تؤدي الوظيفة الهامة التي تؤديها الصحيفة اليومية، وتهتم بها قيادة اجتماعية تعرف لها عملها، وتتقي عواقب الإهمال فيه ...
كانت الصحيفة اليومية توجد لأنها لازمة مهمة في اعتبار طائفة تتولى القيادة الاجتماعية ...
أما الصحيفة الأسبوعية، فإنما كانت توجد لأنها لازمة لصاحبها ومن يعمل فيها، فإن لم يتكفلوا بتدبير أمرها، فما من أحد غيرهم يتكفل بتدبيره ...
وعلى كلتا الحالتين كانت الصحافة - يومية وغير يومية - عارضا غريبا على المجتمعات المصرية، ولم تكن هناك بيئة خاصة يقصدها الصحفيون لأنهم صحفيون، بل لم تكن للصحافة نفسها كلمة متفق عليها ... فربما سمي الكاتب في الصحيفة بالتحريرجي، أو الجورنالجي، أو الغازيتجي، أو المحرر من صناعة التحرير في المطابع والدواوين التي تكتب فيها الرسائل ... فأما كلمة «الصحافة» فهي بدعة مستحدثة خلقها اللغويون على وزن «فعالة» كالنجارة والحدادة والملاحة والتجارة، وكل ما يأتي على هذا الوزن للدلالة على الصناعات.
ولو سئل الصحافي يومئذ: ما عملك؟ لما وجد كلمة مفردة يجيب بها من يسأله، ويفهمها السائل والمسئول.
صناعة بغير عنوان، أو عنوان بغير جهة، ولا فرق في هذا بين جهة المكان وبين «الجهة المعنوية» إذا استعرنا هذه العبارة من لغة القانون ...
في «سبلندد بار»
فقد ترى في «سبلندد بار» أناسا من الصحفيين، ولكنهم لا يقصدونه لأنهم صحفيون مشتغلون بهذه الصناعة ... وإنما يقصدونه لأنه ملتقى المهاجرين من سورية ولبنان والعراق وغيرها من الأقطار العثمانية ...
وقد ترى أناسا آخرين في قهوة الشيشة، أو القهوة الوطنية، أو قهوة يلدز أو قهوة متاتيا، أو قهوات الحي الحسيني، وباب الخلق، والفجالة ... ولكنك لا تراهم هناك لأنهم يعملون في هذه الصحيفة أو تلك، وإنما تراهم حيث كانوا لأنهم يدخنون الشيشة أو يشجعون القهوات المصرية في أول عهدها بمنافسة القهوات الأجنبية؛ أو لأنهم يلعبون الشطرنج والدومينة؛ أو لأنهم تناقلوا سنة الجلوس في هذا الحي أو ذاك من أيام الطليعة الأولى بين الأدباء رواد الأندية العامة ...
وعلى هذا الاختلاط بين البيئات الصحفية، أو البيئات القلمية، تتحقق من أمر واحد لا اختلاط فيه، وهو اتصال تلك البيئة بالحركات العامة في الشرق كله ... فلم تعرف حركة عامة في قطر من أقطار الشرق لم تكن لها صلة ببعض الجالسين ...
هنالك ترى الباحث في فلسفة النشوء والارتقاء، أو مذاهب الاشتراكية أو تحرير المرأة، ومعهم ترى رئيس جماعة «تركيا الفتاة»، أو صاحب الصحيفة الإيرانية الحرة، أو مؤلف كتاب طبائع الاستبداد، أو عصابة الحملة على فتوى الترنسفال، وهناك رأينا إبراهيم ناصف الورداني بهياجه الدائم، ولهفته الدائمة على أطباق الأرز باللبن، ورأينا مصطفى الصغير الداعية الإسلامي الهندي الذي جازت حيلته في مصر، واعتقله الكماليون في الآستانة فحكموا عليه بالإعدام، ونفذوا الحكم على الرغم من احتجاج الدولة البريطانية ...
وهنالك كنا نلقى من نلقاهم من الأدباء الذين لا يشتغلون بالصحافة إلا إذا كتبوا إليها، ومنهم كانت صفوة الصحب والزملاء على قلة ترددهم، وترددنا على القهوة لغير موعد أو مصادفة.
وكانت الصناعة كلها عارضا غريبا في بيئات غريبة ...
صناعة بغير عنوان
صناعة بغير عنوان أو عنوان بغير جهة ... ومن هذا التيه بين البيئات تعرف ما يحيط به من القلق، أو من «التوزع» والبعثرة بين مختلف الشواغل والهموم ...
إلا أننا نبرئ الذمة قبل ختام هذه الفاصلة من المذكرات، فنسأل: أكانت الصحافة حقا عارضا غريبا كل الغربة في المجتمعات المصرية والشرقية؟ أيمكن أن توجد صناعة في مجتمع من المجتمعات دون أن تسبقها صناعة مشابهة لها، قائمة على أساسها؟
أكاد أقول: إن وجود هذه الصناعة مستحيل، فلا بد من صحافة قبل الصحافة على صورة من الصور، ولا بد من صحفيين قبل الصحفيين ...
وللصحفي في المجتمع المصري أب أو جد من لحمه ودمه، ومن طبيعته وصناعته، فمن يكون هذا الأب أو هذا الجد الذي ننتمي إليه أجمعين نحن معاشر الصحفيين؟
هو «اللبيب» على أحسنه وأعلاه، وعلى أسوئه وأدناه ... اللبيب الذي يعلو حتى يتبوأ مكان الواعظ المسموع والمستشار المعول عليه، والمعلم الذي يصغي إليه المتعلم المستفيد، كما يصغي إليه «الفهيم» المعجب بسحر الكلام وفتنة البلاغة ... اللبيب الذي يهبط حتى يصدق عليه وصف «الثرثارة» أو «الأدباتي» الذي يفهم بالإشارة، ولا يتورع عن الحيلة في طلب الرزق المباح والمحظور، ولا يبالي ما يصيبه في سبيله من الزراية والابتذال ...
اللبيب هو «جد» الصحفي في المجتمع المصري، على أسوئه وأدناه، وعلى أحسنه وأعلاه.
أزمة قلم
تعطيل «الدستور»
بقيت في تحرير صحيفة «الدستور» حتى فرغنا من كتابة الكلمة الأخيرة في عدده الأخير ...
وقد مضت علينا قبل احتجابه أشهر، ونحن نعلم أننا نكتب أعداده الأخيرة، وإن كنا لا نعلم أيها يكون الأخير الذي ليس بعده أخير ...
وأبت المروءة على صاحب الصحيفة أن يماطل أحدا من أصحاب الديون عليها، أو أصحاب الأجور فيها بدرهم واحد، فاتفق مع تاجر من تجار الورق المشهورين على أن يشتري مؤلفاته جملة واحدة سدادا لثمن الورق وما إليه، واتفق معه في الوقت نفسه على أن يشتري النسخ من الموظفين والعمال بأثمانها المتفق عليها، وأذكر أن ثمن النسخة من معجم «كنز العلوم واللغة» لم يزد في هذا الاتفاق على ثلاثة عشر قرشا، وكانت قبل ذلك بمائة قرش، ثم بيعت بعد أشهر قليلة بخمسين قرشا، ثم بسبعين.
ولقيت الرجل مودعا فقال لي: إنه يرجو أن نتعاون معا في عمل صحفي نحن أقدر عليه وأصلح له من الصحافة السياسية، وأنه يدرس الفكرة ويلخصها لي عسى أن أفكر فيها، ويرجو أن يبلغني نتيجة درسه لها بعد أسبوعين أو شهر على الأكثر، إذا صح العزم على الشروع في تنفيذها ...
مقالاتي مرتين!
كان الأستاذ فريد وجدي يصدر مجلة شهرية تسمى «الحياة»، ويكتب فيها أحيانا مقامات خيالية تسمى بالوجديات، ثم تفرغ لإصدار الدستور، وترك المجلة إلا في فترات متباعدة يعاودها كلما اجتمع لها من مادة الفصول الأدبية ما يملأ عددا من أعدادها، وربما اختار بعض هذه الفصول من مقالاتي التي كنت أنشرها في الصحيفة اليومية ...
أما «الوجديات» فقد كان يكتبها على أسلوب المقامات، ويديرها على المواعظ الاجتماعية، وتقريب المثل العليا التي تصطبغ على الدوام بصبغة الدين أو بصبغة الأخلاق المثالية، وكان لها قراء كثيرون يطلبونها كلما طالت غيبتها، وقد تصدر منها طبعتان وثلاث طبعات.
قال الأستاذ: «إن الحياة» أولى بمقالاتك من الصحيفة اليومية، وإنك تستطيع أن تجرب قلمك في المقامات، فتظهر «الحياة» وفيها مقاماتك ومقالاتك إلى جانب «الوجديات»، ولولا أنني أنتظر حتى أعلم أن هذا العمل يعوض تكاليفه ويغنيك عن عمل آخر لشرعنا فيه منذ الساعة، ولكننا قد نشرع فيه بعد أسابيع ...
بلا عمل
ومضت الأسابيع ولم أسمع من الأستاذ خبرا عن هذه الفكرة، ولم أصل من دراستها بيني وبين نفسي إلى نتيجة تدعو إلى الثقة بنجاحها، فوجب البحث عن عمل لي في الصحافة، أو ما يناسب الصحافة، ولكن ما العمل الذي يتيسر لي عند طلبه على عجل، ولا بد من العجل، ولا طاقة بالانتظار ...
أفق الصحافة في تلك الآونة مظلم يطبق عليه الظلام من قراره، ولا تلوح منه شعاعة برانية ولا جوانية؛ لأن البلاء الذي كانت تصاب به الصحافة من داخلها قد كان أشد عليها من البلاء المسلط عليها من أعدائها ...
كان «اللواء» في حياة مصطفى كامل يعول على موارد يلدز وعابدين، ومعونة بعض الغيورين من سراة الترك والمصريين، وانقطعت موارد يلدز وعابدين من قبل وفاته ... وانقطع الأمل في موارد يلدز بعد زوال عهد عبد الحميد، وفي موارد عابدين بعد إعراض الخديو عباس عن الحزب الوطني في عهد سياسة الوفاق، واستحكام العداء بين الحاشية الخديوية وخليفة مصطفى كامل «محمد فريد» ... وقد كاد فريد - رحمه الله - ينهض وحده بأعباء اللواء المالية والسياسية، لولا ما أصابه من المصادرة بعد المصادرة ومن المحاكمة بعد المحاكمة، حتى أجمع عزيمته آخر الأمر على هجر الديار ...
وكان «المؤيد» يزدهر في إبان نشاط صاحبه «علي يوسف» ... ثم نكب هذا الرجل العصامي نكبة قاسية عصفت بنشاطه قبل أوانه، إذ فجعته المنية في وحيده في مقتبل صباه، واضطربت حياته بعد ذلك بمشكلات الأسرة، أو مشكلات «مشيخة السادات» التي ساقته قضية الزوجية إليها، وما زال دبيب الملل يسري إليه، ويزهده في صحيفته العزيزة عليه حتى تركها بعد حين للمقادير، وهو لا يبالي ما سوف تلقاه، أو ما سيلقاه! ...
وكانت «الجريدة» أسلم الصحف من هذه الزعازع وأشباهها، ولكنها على هذا لم تسلم من ضربات خصومها السياسيين، وفي مقدمتهم الحاشية الخديوية، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية ... فإن حاشية الخديو افتتحت عهد الوفاق بين السلطتين الشرعية والفعلية بمحاربة «حزب الأمة» قبل غيره من الأحزاب؛ لأن أعضاء الأحزاب الأخرى كانوا يلوذون بالقصر ولا يقاطعونه، خلافا لأعضاء حزب الأمة الذين كانوا يقفون من القصر موقف الاستقلال، أو يتعرضون لغضبه في كثير من الأحوال، فسعى رجال الحاشية سعيهم لتحويل الأعضاء من حزب الأمة إلى حزب الإصلاح، ونجح مسعاهم بعد اختيار وكيل حزب الإصلاح للوزارة وتتابع الإنعام بالرتب والألقاب على أعضائه البارزين ... ولم تبق للحزب بقية قادرة على الصمود والمقاومة إلا بجهد جهيد، ولكنه بقاء لم يعصم الجريدة من أزمات المال والخلافات الداخلية، وعرفت من محرريها يومئذ من تركها لأنها اضطرت إلى القصد في وظائف التحرير بعد التوسعة فيها عند نشأتها، حتى كانت تقنع من المحرر بنهر في اليوم، ولا تسأله إذا ونى عن كتابة هذا النهر عدة أيام ...
حياة الظلام
وتلك هي الصحف التي أنظر إليها إذا نظرت إلى عمل في الصحافة اليومية، فأما الصحف الأسبوعية فلم يكن فيها مجال لغير أصحابها أو لغير كتاب المقالات - بالقطعة - على حسب الطلب، وعلى كل لون، وفي عرض الطريق!
وربما تأتى للصحافة في مجموعها أن تغالب هذه المحنة، وأن تتغلب عليها في النهاية لو لم تطبق عليها طامتها الكبرى من قانون المطبوعات الرهيب: قانون الحجر والرقابة، وتقييد الرخص ومحاسبة الكاتب على السطور وما بين السطور، وعلى الأقوال والنيات! ...
وقد انطوى هذا القانون بعد نشره في أيام الثورة العرابية، ثم بطل العمل به زمنا طويلا حتى نسينا نحن الصحفيين الناشئين أن في البلد قانونا للصحافة كان يسمى قانون المطبوعات، وأن الكاتب يسأل عن شيء قاله في حدود النقد المباح كائنا ما كان مقام المنقود في الحكومة أو في البلاد ...
ومما يؤسف له أن نصيب الصحافة من هذه الطامة التي جرتها على نفسها لم يكن أهون من نصيب الحكومة، وأنها جنت على حريتها ولا ريب بما زودت به «السلطة» من معاذير، يقبلها كل من يؤمن بحق القانون ...
فلا نذكر أن أحدا من أعلام الصحافة كتب في صحيفته كلمة تتعلل بها الحكومة لتقييد حرية الكتابة، أو قال في خطبة من خطبه كلمة تتعلل بها لتقييد حرية الخطابة والاجتماع، ولا نستثني من ذلك «مصطفى كامل» على تطرفه واندفاعه في الخطب، وفي المقالات ...
ولكن الصحافة اليومية لم تلبث أن صارت إلى الأقلام التي لا تحسن شيئا كما تحسن أن تسقط معاذيرها، وأن تمهد العذر لمن يتمحلون العلل عليها، ولا نخال أن حاكما حرا أو مستبدا كان يعيبه أن يتمحل العلل للحجر على الدعوة الصريحة إلى القتل وإهدار الدماء، ومن أمثلتها ما نشر في ديوان «وطنيتي» من أبيات يقول فيها ناظمها:
هل سال في مصر الدم
أم هل أفاق النوم
ومضوا إلى أهل الضلا
ل فأعدموا من أعدموا
فإنه لمن سخافة القائل أن يتهم بالاستبداد حكومة تسمح بنشر هذا التحريض، فإن لم تكن مستبدة فمن السخف أن يحاسبها على منع هذا التحريض وتحريمه ... فما كانت حكومة حرة أو مستبدة لتحاسب على هذا المنع وهذا التحريم.
حفرت قبرها بيدها
وكأنما كانت الصحافة الأسبوعية والصحافة اليومية في سباق بينها على تدبير المعاذير للسلطة التي تعمل على تقييدها والحجر عليها ... فقد كان جمهرة الصحفيين الأسبوعيين في ذلك الحين يستبيحون كل محظورة في التشهير، واستغلال الفضائح وافتراء الأكاذيب لاغتصاب الإتاوات التي لا موعد لها ولا حدود لتكرارها باسم «الاشتراكات» أو التبرعات الوطنية، ويشاء لها سوء حظها وحظ الأمة أن يكون ممثلو البلاد أكبر أهدافها وأول من يصاب بسهامها، فكان التشهير بأعضاء مجلس الشورى بابا ثابتا من أبواب كل صحيفة أسبوعية تبحث عن الفريسة بين ذوي الأسماء المعروفة، ولم يكن لأعضاء مجلس الشورى سلطان في الحكم يحاسبون عليه أو يناقشون فيه، وإنما كانوا من أعيان البلاد، وكان أكثرهم بعاصمة البلاد على مقربة من جمهرة الصحفيين الأسبوعيين، فكادوا أن ينوبوا عن البلاد جميعا في مصابها بالصحافة الأسبوعية، وتصدى بعضهم للمطالبة بتقييد الأقلام قبل أن يتصدى لها الوزراء والحكام.
قال أحدهم للأمير حسين كامل مستثيرا لنخوته: هل يرضيك يا صاحب السمو أن يقال عنك: إنك رئيس مجلس الشوربة؟ ...
وعلى هذا النحو تبتلى البلاد بالنكسة وقلب الحال، وينادي بالحجر على حرية الصحف من كانوا أحق الناس بالغيرة على حريتها لو لم يكن قوامها العدوان على حرية الناس ...
في القائمة السوداء
وطالت محنة الصحافة هذه بمن يجنون عليها من أبنائها العاملين فيها، ومن أعدائها الساخطين عليها ...
وطالت حيرتي بين العمل فيها والعمل في غيرها، وأين يكون العمل في غيرها؟
إنه التدريس ولا شيء غيره ... فإن لم يتيسر في المدارس الأهلية، فقد يتيسر بإعطاء الدروس الخصوصية، وأما وظيفة الحكومة فهيهات الآن «هيهاتين» لا هيهات واحدة ... لأنني كنت قبل اشتغالي بالصحافة أتنحى عن وظيفة الحكومة لنفوري منها ... فالآن أطلبها - إن طلبتها - ولا أظفر برضاها، بعد أن ثبت اسمي في سجلات الحكومة بين أسماء القائمة السوداء، وبعد أن صار الغضب على الصحافة والصحفيين غنيا عن الأسباب ...
ولا بد من عمل عاجل على أية حال؛ لأن تكاليف المعيشة على الشاب الذي لا يكسب رزقه من وظيفة، ولا من مورد يملكه، ضرورة ملحة لا تحتمل الإرجاء من يوم إلى يوم ... ولا نقول: من أسبوع إلى أسبوع.
وكرهت نفسي أن ألجأ إلى أحد من الميسورين من أهلي، وهم غير قليلين بحمد الله.
وكرهت نفسي أن ألجأ إليهم؛ لأنني تحديتهم جميعا وخيبت رجاءهم قاطبة بالخروج من الخدمة الأميرية، بعد أن وصلت إليها بين مزدحم الطلاب المتهافتين عليها، وشق علي أن أرفض نصيحتهم ثم أسعى إليهم لألتمس معونتهم، وخيل إلي أنهم قائلون بلسان الحال إن لم يقولوا بلسان المقال: إنك أعرضت عنا وذهبت إلى الصحافة ... فأمامك اليوم صحافتك العزيزة، فخذ منها ما تعطيك ...!
وإلى أين يوجد العمل، ما العمل؟
تبين لي بعد قليل أن المصرف الأكبر بالأمس صالح أن يكون اليوم موردي الأكبر، إن لم يكن موردي الوحيد ...
هذه الكتب الكثيرة لم لا تباع إلى أن تتجدد القدرة على شرائها، إن تجددت الحاجة إليها؟ ...
إنها الآن تعد بالمئات بعد الإقبال على شرائها نحو ثلاث سنوات ... وليس من المنظور أن تباع بثمن الشراء مع الحاجة الملحة إلى البيع السريع، ولكنها تباع بما يكفي لقوت اليوم واليومين والأسبوع ... وقد تكفي خمسة قروش لقوت اليوم في تلك الفترة، ولا علينا من أجرة البيت وأمثالها من النفقة المتجمعة، التي تقبل التأجيل زمنا طويلا أو غير طويل ...
ولقد كان موردا نافعا قد يمتد فيسعفنا - مع الدروس الخصوصية - بضعة شهور ...
لولا حواء، وبنات حواء، جزاهن الله بما هن أهل له من جزاء ...
من سكن الريف عرف خير ما في بنات حواء من مروءة وصفات، ولم يخف عليه شر ما فيهن من كيد والتواء ...
هن الأمهات المتطوعات للشاب الناشئ المنفرد بمعيشته في عقر داره ...
من ترى يهيئ له طعامه؟ من ترى يهتم بتنظيف ثيابه وترتيب أثاثه؟ ولم لا يتزوج؟ ومن تراها تنفعه وتلائمه من بنات الجيران؟
وقد كنت أسكن في حدائق القبة في ضاحية كالقرية الريفية في كل شيء، ومنه - بل أهمه - الأمهات المتطوعات والخطيبات «المزعومات» ...
وكانت لي خطيبة منهن لم أخطبها، ولم أتحدث إليها، ولا إلى أحد من أهلها في حديث زواج ... وكانت لها صاحبة لعوب في مثل سنها متزوجة من بعض ذوي قرباها، قالت لي ذات يوم: إن فلانة لا تأتي إلى ناحيتك في هذه الأيام؛ لأن صويحباتها يعاكسنها ويسمينها خطيبة «أبو طويلة»، ولا تغضب هي من هذه التسمية، بل تقول لهن مزهوة مستخفة: وما له أبو طويلة أليس خيرا من المساخيط؟ ...
ولم أشأ أن أجيب الفتاة اللعوب جوابا يكسر خاطر الخطيبة التي لم أخطبها، ولم أشأ كذلك أن أجيبها جوابا يربط الخطبة المزعومة ويؤكدها! ... ولم أزد على أن قلت: شكرا للفتيات العابثات، فقد أحسن والله الاختيار والانتقاء ... ولو كان في نيتي أن أتزوج أو أخطب لما وجدت في الحي زوجة أجمل في صديقتك الحسناء ...
قالت: كأنك في غير هذا الحي تجد من تخطبه؟
قلت: ولا في غير هذا الحي ... ولكنني الآن في شاغل عن الزواج ... أفلا ينبغي أن أعول نفسي قبل أن أفكر في زوجة أعولها؟
وكأنها خطبة قد انعقدت بهذا الحوار، وكأنه حق مكتسب للسؤال عن الحركات والسكنات، وعن المبيت في المسكن وغيابي عنه بعض ليال ...
ولم أفارق المنزل بحملي من الكتب على دفعتين أو ثلاث حتى اعتقدت الخطيبة أنني أنوي الرحيل، وأهم بفسخ الخطبة التي لم تنعقد قط بكلمة تصريح أو تلميح ... وعزز اعتقادها عندها أنني كنت أحمل كتابي للمطالعة إلى حقل من حقول الليمون بجوار جدول في طريق كنيسة، فقيل لها: إنه يهيم بفتاة قبطية هناك، وإنه يؤجل مسألة الزواج بها لأنها مشكلة لا تنحل إلا إذا انحلت بينهما مشكلة الاختلاف في الدين ...
وأين أنتم يا أصحاب المنازل الغافلين عن سكانه وعن زواره وجيرانه؟ إن ساكنكم الأعزب ليستعد للهرب بالأجرة المتأخرة عليه ... فإن لم تصدقوا فتربصوا له في الطريق، وانظروا إليه وهو يحمل كتبه دفعة بعد دفعة؛ ليترك لكم حجرتكم خواء خلاء، لا يعوضكم عن أجرتكم الضائعة إن حجزتم عليه!
وصدق أصحاب المنزل الغافلون، أو المزعوم عنهم بالباطل أنهم غافلون ...
وحيل بيني وبين أول «رصة» من الكتب خرجت بها بعد هذه الوشاية، وكادت أن تكون مشاجرة ريفية من طراز الشجار بالنبوت على الحقوق الضائعة، ولكن الله سلم، وألهمني أن أسلم الكتب وأمضي بسلام ...
وفي يومها اقترضت أجرة السفر للعودة إلى أسوان ...
وفي اليوم التالي لوصولي إلى أسوان، أرسلت منها حالة بريدية إلى صديق لي من أبناء الإقليم يدير محلا مشهورا لبيع الطرابيش وتركيبها ...
وانتهى كيد حواء ليلحق به كيد المقادير التي لا تقع في حسبان ...
فقد كان صاحبنا الطرابيشي ممن اشتركوا في ترويج الطربوش الأبيض احتجاجا على دولة النمسا التي كانت تصدر إلينا الطرابيش الحمراء؛ لأنها أعلنت ضم بلاد البشناق إليها من أملاك الدولة العثمانية، فقاطعها المصريون، واستغنوا برهة عن الطرابيش الحمراء بالطرابيش البيضاء ...
واضطغنها وكلاء المعامل النمسوية في القاهرة، فنصبوا فخاخهم وحبائلهم لجماعة التجارة الذين اشتركوا في حركة المقاطعة، ومنهم صديقنا الطرابيشي من إقليم أسوان ...
فلما وصلت الحوالة البريدية إلى القاهرة ضاعت في تيه الحراسة، والحجز والتصفية، وإجراءات «السنديك» وأمناء الحسابات ...
ومضت سنوات وأنا لا أعلم مصير كتبي في معتقلها المهجور، إلى أن لقيت الأستاذ عبد العزيز الصدر عرضا، فأنبأني أن جيرانه في حدائق القبة عرضوا عليه تلك الكتب فاشتراها، وأنه على استعداد لردها لي بثمنها إذا أردتها، فشكرته وقلت له: إنني لا أحتاج إليها، ولكنني قد أستردها بثمنها إذا اتسع لها مكان عندي، ولم يتسع لها - بعد - مكان ...
بين الأمل واليأس
وصلت إلى أسوان كالساهر الذي طوى الليالي وصالا بغير راحة، ثم ركن بجنبه لحظة واحدة إلى طرف الفراش.
إنه في سهرته يواصل الحركة ولا يبالي متى يرقد ليستريح، ولكنه يرقد لحظة واحدة فلا يدري متى هو قادر على النهوض.
كنت أجور على جسدي ولا أعرف لهذا الجور حدودا يرجع عنها؛ لأن تلك الحدود لم تصدمني قط بصخرة من صخورها، ولا بحاجز من حواجزها ...
وكنت أحضر ندوة الزملاء عند ميدان المديرية بالزقازيق، ثم أعبر المدينة في ليالي الشتاء إلى مسكني على حافة كفر الصيادين ... فلا أكترث للمطر ولا للبرد، ولا ألبس المعطف، ولا أحمله تخففا من مؤنة حمله على الذراع، وهو معلق في حجرة الدار يعلوه الغبار ...
وكنت أقضي اليوم في حدائق القبة على وجبة واحدة من الخبز والجبن، أو من الخبز والفول، ولا يخطر لي أن إهمال الغذاء ضرر أذكره لحظة بعد ذهاب الجوع.
وكنت أفتح الكتاب الجديد، فيروقني ما قرأته فيه، فلا ألقيه من يدي حتى أفرغ منه آخر الليل، ولا ضياء في البيت غير شمعة أو مصباح ذي فتيل ...
وكنت أحسب أن سفرتي إلى أسوان ضرورة ألجأتني إليها قلة «المصروف» في القاهرة، فلما وصلت إلى أسوان علمت أنها ضرورة ما في ذلك جدال ... ولكنها ضرورة الإفلاس في ذخيرة البنية وأعصابها، وليست بضرورة الإفلاس في ذخيرة الجيب! ...
وقد وقع في خلدي أنني أزداد نشاطا في بلدتي؛ لأنها مصحة للجسم ومصحة للنفس بين الأقرباء والأعزاء، فعجبت بعد أيام حين رأيتني أفقد النشاط لأيسر الأعمال، وكنت أحسبه تيارا متجددا لا يقبل النفاد ...
تجمعت المتاعب دفعة واحدة، وبدا لي كأنني مريض بكل داء، معروف وغير معروف ... ولا مرض هناك غير الركود والإعياء بإجماع الأطباء، ومنهم الفطاحل العالميون الذين يفدون إلى المدينة مشتغلين، أو يفدون إليها في حواشي الأمراء ...
وتملكتني فكرة الموت العاجل، فأدهشني أنني لم أجد في قرارة وجداني فزعا من هذه الفكرة، وكدت أقول لنفسي: إنني أطلبها ولا أنفر منها ...!
وإخال أن صدمة اليأس كانت أشد على عزيمتي من صدمة المرض، أو على الأصح، من صدمة الإعياء ...
وأشد ما أصابني من هذا اليأس أنه كان يأسا من جميع الآمال، ولم يكن يأسا من أمل واحد ...
خلاصة الأمل
كان يأسا من معنى الحياة، ومن كل غاية في الحياة؛ لأنني قبل ذلك بشهر عكفت على القراءة في كتب «الفلسفة المادية»، وأكثرت من النظر في مذهب النشوء والارتقاء، فلاح لي أنه أصدق من أقوال خصومه المتعصبين الذين تصدوا للرد عليه بين الأوروبيين باسم الدين، ولاح لي من النظرة الأولى على غير روية فيه أنه يهبط بالإنسان إلى حضيض الحيوان، ولا يبقي بينه وبين السماء معراجا واحدا يرتفع عليه ...
وكذلك كتبت في مقدمة كتابي «خلاصة اليومية» أن «الإنسان حيوان راق ولكنه حيوان» ...
وقصة «الخلاصة» هذه هي قصة الأمل الذي بقي عندي يومئذ في شهرة الأدب، وفي عدد الأيام التي أقضيها قبل ظهور هذا الكتاب، وكنت أظنني مبالغا إذا حسبتها بأكثر من الأيام!
هو الموت إذن كما استقر في خلدي بلا أثر ولا خبر ... وهو الموت إذن أمضي إليه صفر اليدين من مجد الأدب ومن مجد الدنيا، ومن كل مجد يبقى بعد ذويه ...
وهل هذا يليق؟ يا ضيعة لرجاء المجد المتطلع إلى عشاقه وعباده؟ ... فهل أقل من هدية في اليد تجبر خاطر العرف على أبواب الأبدية؟ وهل يقال: إنه يجلس على الأبواب في انتظار زيارة فارغة اليدين؟
ويجوز أنني كنت أطيق في تلك الغاشية أن أوفي القربان المطلوب بتصنيف كتاب من وحي الساعة والمناسبة، ولكنني عدلت عنه لضيق الوقت، والشك في اتساع الأجل ... ويجوز أنني قنعت بما تيسر ووجدت أن الخطب أهون من أن أتكلف له عملا أحاوله، وأستنفد به الفضلة الباقية من مطالب العمر المحدود ... فإذا كان ما تيسر كافيا فذاك، وإن كان للمجد ضريبة أغلى مما تيسر فله أن يتقاضاها حيث يلقاها ... فلا خير في وجود بغير الموجود ...
وما تيسر يومئذ هو «خلاصة اليومية».
يوميات اليأس!
و«اليومية» هذه هي دفتر صغير كنت أقيد فيه الخواطر والتعليقات، وأبادر إلى إيداعه أبيات الشعر التي نظمتها ولم أتممها قبل أن أنساها، أو رءوس الموضوعات التي نظرت فيها ولم أفرغ من دراستها، أو ملاحظات الطريق ونوادر الأحاديث العابرة التي أعاودها في مناسباتها، وقد اجتمع عندي من هذه اليوميات دفاتر ثلاث سنوات ... فلما وقع في وهمي أنني سأذهب - بغير أثر ولا خبر - تصفحت هذه الدفاتر، ونقلت منها صفحات متفرقة تشتمل على جميع نماذجها، وبعثت بها إلى صديق في القاهرة أقول له: إن هذه الصفحات هي كل ما أتركه إذا تركت الحياة، فإن وجدني أهلا للذكر ووجدها أهلا للنشر فتلك كرامة الصديق الراحل على الصديق الباقي، وإلا فلا حرج عليه أن يهمل نشرها ويسلمها للنسيان يطويها حيث طواها في زاوية من زواياه ...
ولبثت هذه «الخلاصة» المخطوطة سلاحا من أسلحة الفكاهة والنكاية يشحذه إخواننا الذين عرفوا القصة ولم يتورعوا عن استغلالها ... فمنهم من يقول متململا: متى تظهر خلاصة اليومية؟ لقد طال الأمد على انتظارها ... ومنهم من يقول مستمهلا كلما شكرت أو التمست العلاج: على رسلك بالله ...! إن المطابع مشغولة في هذه الأيام ... فاصبر هنيهة حتى تفرغ لطبع خلاصتك وأمثالها ...!
وما برحوا يستعجلونني ويستمهلونني حتى أرحتهم وأرحت نفسي بطبع خلاصة اليومية بعد أن أضفت إليها وحذفت منها، وكان من التوفيقات التي لم أترقبها أنها نفدت في أقل من ستة شهور، فلم يبق من ألفي نسخة طبعتها منها غير مائة أو نيف ومائة، وهو نجاح غريب لكتاب ولدته فكرة يائسة من الحياة ...
الأكاذيب المتفق عليها!
ولقد عاش معي وهم الموت حقبة في أسوان، وعاش معي حقبة أخرى في القاهرة ... بعد أن رجعت إليها في وقدة الصيف، ولكنني التفت فلم أجده معي في شاطئ الإسكندرية يوم ذهبت إليها لأول مرة، بل وجدتني مع عرائس البحر وعرائس الشعر في لجة من لجج الأمل والمغامرة، وبرحت الإسكندرية بعد شهرين لأبحث عن عمل بالقاهرة ... أين؟ أفي الصحافة؟ كلا ... فما زالت الصحافة في مثل محنتها التي عهدتها يوم انتهيت من عملي فيها ... أفي التدريس؟ ... كلا أيضا ... فإن المدارس قد بدأت عملها، ولا معرفة لي بأحد من أصحابها ...
ولم يطل بحثي هذه المرة؛ فإنني وجدت «المأوى» الذي لا بد منه في عمل بين الصحافة والوظيفة، أو بين خدمة الميري والخدمة الحرة، فعملت في قلم السكرتارية بديوان الأوقاف ...
كان الأستاذ «عبد الرحمن البرقوقي» - رحمه الله - قد أصدر مجلته «البيان»، وكتبت فيها بعض الفصول، ومنها تلخيص لكتاب «ماكس نوردو» المشهور عن أكاذيب المدنية الحاضرة ...
وكان من دأب الشيخ البرقوقي أن يسأل شيوخ الأدب رأيهم في مقالات المجلة وأبوابها ... فسأل حافظ عوض، وسأل مصطفى صادق الرافعي، وسأل محمد المويلحي صاحب عيسى بن هشام، فانتقد حافظ عوض عنوان الكتاب كما ترجمته المجلة، وزاد انتقاده في ثقة الشيخ بكاتب هذه السطور؛ لأنني ترجمت عنوان الكتاب «بالأكاذيب المتفق عليها»، واقترح الشيخ البرقوقي أن «نسجعه» ليوافق أسماء الكتب فجعلناه «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة» ... فلما جاءه النقد من بعيد - وهو على عادته سريع التصديق - قال لي: إنه لن يرفض رأيي مطاوعة لرأي السجعة بعد الآن ...
وسأل مصطفى صادق الرافعي فزاده انتقاده ثقة بي كذلك؛ لأنه قال لي: إنه يسمع حكمه في البيان العربي، ويرفضه فيما عداه، ولا سيما كتابه «الفكر ومباحث العصر الحديث»، وقد أنحى الرافعي على «نوردو» وعلى كاتب هذه السطور، فحسنت هذه الشهادة المعكوسة عند الشيخ ...
ولقي صاحبنا المويلحي فسأله عني قائلا: بماذا يشتغل هذا الشاب؟
قال الشيخ: بلا شيء!
قال: أتراه يعيش على شيء من ميراث جده العقاد؟
فأفهمه الشيخ أنني لا أنتمي إلى «السيد حسن موسى العقاد» المشهور، وأنه لا قرابة بيني وبين ذلك البيت، وأنني أعيش بالقليل مما يردني من أهلي، وبالقليل من أجور المقالات أو فصول الكتب المترجمة ... فقال المويلحي مبتسما: «إنه أولى بالوظيفة من أكثر «التنابلة» الذين عندنا في هذا «الديوان»، فطلبتها؛ فأجيب طلبي لساعته بغير امتحان ...»
وقد كان ديوان الأوقاف في تلك الحقبة مجمع الأدباء والشعراء من شيوخ وشبان ... كان فيه محمد المويلحي، وأحمد الأزهري صاحب مجلة الأزهر، وأحمد الكاشف، وعبد الحليم المصري، وعبد العزيز البشري، وحسين الجمل، وحسن الدرس، وعلي شوقي، ومحمود عماد، ومصطفى الماحي، وغيرهم من «المحررين» المغمورين ... وكان عملي الأول فيه مساعدا لكاتب المجلس الأعلى بقلم السكرتارية، وهي وظيفة من أخطر وظائف الديوان في ذلك الحين.
سمسرة الخديو
وكأنما هي قسمة واحدة تلقاني على صور متعددة في جهات مختلفة ... فكلما اشتغلت بعمل من الأعمال وجدته في إبان أزمة من أزماته، أو مرحلة من مراحل الاضطراب في تاريخه، وأول هذه الأعمال عملي في وظائف الحكومة بإقليمي قنا والشرقية ...
ففي هذين الإقليمين بدأت أول حركة من حركات الشكاية الاجتماعية بين الموظفين بعد الاحتلال، ولم تزل قائمة حتى انتهت بزيادة الحد الأدنى لمرتبات الوظائف إلى خمسة جنيهات، والشروع في تعديل نظام العلاوات وقانون المعاشات.
واشتغلتا بالتحرير الصحفي يوم كانت الصحافة المصرية في أحرج أوقاتها بعد قيام الأحزاب، وقبل إعادة قانون المطبوعات ...
ثم هأنذا أشتغل بديوان الأوقاف، وهو ميدان المعركة الحامية بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية، وطلاب الإصلاح، ولست بآسف على هذه القسمة التي تسوقني إلى الأعمال في إبان أزماتها ومراحل اضطرابها، فقد كانت أنفع لتربيتي النفسية من فترات الهدوء والاستقرار ... وكان عملي في ديوان الأوقاف بين سنتي 1912 و1914 أكثر من عملي في وظيفة من وظائف الارتزاق، فقد كنت أجهل الكثير من حقائق بلدي، ومن أسرار شئونه العامة لو لم أقض تينك السنتين في ذلك الديوان ...
كانت يد الخديو مطلقة في وظائفه وأمواله ... وكان مع الأسف الشديد يحتكرها لإشباع نهمه من المال والدسيسة، ولا يأبى أن يسف إلى الاختلاس من أموال الصدقات، واستباحة السمسرة على صفقات الاستبدال ... وشاعت في تلك الأيام قصة أرض المطاعنة التي أخذ فيها الخديو لنفسه ستين ألف جنيه باسم «العمولة أو الوساطة»، وعاد بعدها فتعقب كل من عارضوه ووقفوا له في طريقه من الموظفين النزهاء ، فعاقبهم على الأمانة واليقظة بالفصل والإهمال ... وكان المحتلون يحاربون الخديو على تقليد النزاع بين السلطتين، ويأبون عليه أن يستأثر بهذه الحكومة الصغيرة في داخل الحكومة الكبيرة، ويعلمون أنهم لا يستطيعون المساس بالمعاهد الدينية، فيرجعون سرا إلى الآستانة لجس النبض في دار الخلافة، والتماس الفتوى من شيخ الإسلام بجواز الرقابة الرسمية على نظار الأوقاف، وعلى ناظرهم الكبير وهو أمير البلاد ...
وكان طلاب الإصلاح يهتمون بأمر واحد، وهو القضاء على المفاسد في ديوان يرتبط به نظام المعاهد الدينية أشد الارتباط ... فلا أمل في إصلاح هذه المعاهد، ولا في إصلاح القضاء الشرعي معها، ولا في إصلاح الأزهر بفروعه ما لم تكن إدارة الأوقاف خاضعة للرقابة العلنية خارجة من تلك العزلة، التي جعلتها أشبه شيء بضيعة من ضياع الخاصة الخديوية، مع الفارق بين ضيعة يغار عليها مالكها، وضيعة يبددها من يملك الأمر فيها ...
مقالات بلا توقيع
وبين هذا المضطرب عملت في الديوان ... والقلم الذي عملت فيه هو حومة المعركة في ميدانها؛ لأنه القلم الذي تمر به مذكرات مجلس الإدارة ومذكرات المجلس الأعلى، وهذه هي المذكرات التي تعرض فيها مسائل الموظفين وقضايا الصفقات ...
والسنة التي عملت فيها بالديوان هي السنة التي انتهت بتحويله من ديوان إلى نظارة، وصدور الأمر بعرض ميزانيته على مجلس النظارة، والجمعية التشريعية ...
ولقد كانت فضائح الأوقاف سرا مباحا لكل من يميل إليه بأذنيه ... فليس فيها من باب أولى سر يخفى على موظف في قلم السكرتارية يتصل كل يوم بموظفي الديوان ممن يشتغلون بمسائل المذكرات، التي تعرض على مجلس الإدارة أو المجلس الأعلى ...
وقد هالني ما علمت من فضائح الديوان بعد فترة وجيزة، وإن كنت لا أجهل قبل ذلك أنها شيء يهول ...
وكنت أتكلم ولا أتحفظ ...
وربما كتبت إلى الصحف بعض المقترحات لإصلاح الديوان بغير توقيع، وربما تحدثت بها في المجالس التي أختلف إليها، وكلها في بيئات الأدباء المدرسين بمدارس العباسية الأهلية حيث كنت أقيم ...
وكان الأستاذ حسين روحي الإيراني صاحب إحدى المدارس الكبيرة في العباسية البحرية، وكان يعمل في ساعات من اليوم بالترجمة في دار الوكالة البريطانية، فجاءني عصاري ذات يوم يقول معتذرا: أرجو أن تغتفر لي غلطة وقعت فيها بغير إذنك!
قلت: خيرا ... فما أظن أنني عرضة منك لغلطة تضير؟
قال: إنهم سألوني اليوم عن مقترحاتك في الصحف وأنا أترجمها لهم، فقلت: إنني أعرف كاتبها، وذكرت لهم أنني أراك في كثير من الأيام ... فهل يغضبك ما فعلت؟
قلت: إنني كما تعلم كنت مستعدا أن أكتب في الصحف بتوقيعي لو كنت أستطيع ذلك مرتين، دون أن يبادروني بالفصل من الوظيفة، فلا لوم عليك ولا حرج علي ...
قال: ليس هذا كل ما في المسألة ... فإن السكرتير الشرقي يريد أن يلقاك فهل لديك مانع؟
قلت: لا مانع لديه، فما المانع لدي؟
قالوا: لا يزال صغيرا
وبعد يومين لقيت مستر ستورز مع الأستاذ حسين روحي، فاستهل الحديث بالكلام على الأدب وعلى برنارد شو ... ثم استطرد إلى الكلام على الصحافة، وأكثر من الكلام على صحيفة «المؤيد» وقرائها ومحرريها، ثم مضى مستطردا إلى الكلام على الأوقاف، فسألني عن صفقة منوية على أرض يملكها عين مشهور من أعيان القليوبية، وعجبت لعلمه بخبرها وهي لا تزال في دور التحضير الأول، ولما تصل مذكرة من مذكراتها إلى قلم السكرتارية ...
ثم بدرت منه كلمة جافية لا أدري كيف جرى بها لسانه، إلا أن يكون قد تعود الجهر بأمثالها، ولم يتعود من أحد أن ينكرها عليه، فقال: ألا ترى أن حرمان الأوقاف من الرقابة الأجنبية هي علة هذه المفاسد التي شاعت فيها؟!
فصدمتني هذه الكلمات النابية، ولم ألبث أن أجبتها بحدة ظاهرة، فقلت: إن المجلس البلدي الإسكندري يتمتع برقابة أجنبية من كل جنس وملة، ولا أظنكم تحسبونه مثلا من أمثلة النزاهة والنظام ...
فتنبه وسكت، ثم استأنف الحديث ليختمه بعبارة صالحة للختام، واستأذن هنيهة ثم عاد قائلا: إن اللورد - يعني كتشنر - كان يسره أن يراك لولا أنه يخرج الساعة إلى موعد سريع ...
فنهضت وودعت، وصادفني اللورد على باب المكتب، فأومأ بالتحية ومضى في طريقه، وجاءني الأستاذ حسين روحي في المساء يقول ويضحك : ماذا صنعت يا أخانا ... إن الرجل أجفل من جوابك الصارم، ولكنه قال: إن حديثك كان شائقا جدا ... •••
وأراد الأستاذ روحي أن يصرف الموضوع، فقال: إن مسألة «المؤيد» كانت عندهم أهم من مسألة الأوقاف، ويلوح لي أنهم كانوا يودون لو توليت تحريره، وكانوا يظنونك أكبر سنا من عشرة لعشرين، ولكنهم حسبوا عليك جريرة الشباب، وقالوا: إنه لا يزال صغيرا.
وهكذا عدنا إلى حديث الصحافة من طريق ديوان الأوقاف، وهكذا سنعود إليه بعد قليل ...
بين الوظيفة والصحافة
معركة الأوقاف
عملت في ديوان الأوقاف ... وكان عملي في مكتب السكرتارية أقرب المكاتب إلى دخائل الديوان، ولكنني أعترف اليوم بأن ما علمته في أيام خدمتي بالديوان من خفايا المعركة التي دارت حوله لم يكن غير الفقاقيع التي تطفو على وجه الماء ...
كانت معركة حامية تدور وقائعها بين القاهرة ولندن والآستانة، وتشترك فيها حاشية الخديو ودار الوكالة البريطانية وحزب الأمير حليم وأعوانه من رجال تركيا الفتاة، وأناس متفرقون في القاهرة من طلاب الإصلاح.
وكان الخديو يستميت في التشبث بموارد الديوان، ولا يقبل بحال من الأحوال أن تسحب ميزانيته من ميزانية الدولة، وحجته في ذلك أنه صاحب الولاية على الأوقاف بحكم الشرع، وبنصوص الواقفين في كثير من الأحوال ...
وكان المحتلون يحاربون السيطرة الخديوية على الأوقاف كما يحاربونها في كل جهة أخرى ... ويريدون في حربهم لهذه السيطرة في ديوان الأوقاف - بصفة خاصة - أن يحولوا بين الخديو وبين استخدام أموال الأوقاف في حماية سلطانه ونشر دعوته، سواء كانت مما يخصه ويخص العرش، أو كانت مما يعم الحركة الوطنية لمقاومة الاحتلال ...
وكان طلاب الإصلاح في حرج شديد؛ لأنهم يريدون أن يقطعوا دابر الفساد في الديوان وما يتصل به من المعاهد الدينية، ولكنهم يكرهون أن يتوسلوا إلى ذلك بمعونة المحتلين ...
ثم حدثت في السنة الأخيرة التي عملت فيها بالديوان حوادث مختلفة بين القاهرة والآستانة غيرت وجوه المسألة، ويسرت ما لم يكن ميسورا قبل ذلك بسنة واحدة ...
الخديو بين نارين
نشأت الجمعية التشريعية بمصر فوجد طلاب الإصلاح منبرا «قوميا» ينادون من فوقه بوجوب الإشراف على ميزانية الدولة كلها، ومنها ميزانية الأوقاف ...
وتولى الحكم في الآستانة أناس يكرهون الخديو؛ لأنهم أصدقاء أسرة حليم المنافسة لأسرة إسماعيل؛ لأنهم يذكرون للخديو مصادرته لجماعة تركيا الفتاة تمهيدا للمطالبة بجزيرة «طشيوز»، التي كانت في حوزة محمد علي الكبير، ثم استولى عليها السلطان عبد الحميد الثاني مدعيا أنها كانت هبة شخصية لرأس الأسرة، ولم تكن من أملاكه التي تنتقل بالميراث ...
واستطاع المحتلون في ذلك العهد أن يكسبوا لهم عضدا قويا بدار الخلافة، وأن يحصلوا على وعد من أقطاب الحكومة التركية بمساعدتهم على تقييد سيطرة الخديو في الديوان، ولو اقتضى الأمر خلعه وإسناد الإمارة إلى أمير في بيت حليم ...
وتم أخيرا تحويل الأوقاف من ديوان إلى نظارة أو وزارة، وكان اسم الوزارات يومئذ - وهو النظارات - مما يسوغ إدماج الأوقاف في عدادها، لاشتهار الإشراف على الوقف باسم النظارة ...
أول وزير
واختير للنظارة رجل من أنصار الخديو ترضية له وتغطية لخذلانه، فكان ناظرها الأول في عهدها الجديد «أحمد حشمت باشا» - رحمه الله ... وقد كان قبل دخوله الوزارة وكيلا لحزب القصر بين الأحزاب الثلاثة، وهو حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية ...
وبعد أيام قليلة من قيام الوزير بعمله في الوزارة، جاءتني بطاقة صغيرة من بطاقات الدعوة إلى مكتبه، محدود فيها للمقابلة ساعة قبيل الظهر من ذلك النهار.
وكدت أجزم بالباعث إلى دعوتي لمقابلة الوزير، وأنا موظف في أصغر درجات الوظائف في سلك الخدمة في الديوان.
وماذا يكون الباعث إلا أنني من المشهورين بإدارة الديوان، وأنني ممن تتجه المظنة إليهم في الكتابة عنه بالصحف والعلم بأسراره من المذكرات، وكتابة المذكرات؟
ليس فيها قولان كما هو ظاهر ...
ولكنه في الواقع كان تخمينا نادرا يدل على وجوب التردد في قبول التخمينات مهما تبلغ من الرجاحة والقوة، فإن الوزير لم يتعرض لمسلكي في قضية الديوان بغير التلميح من بعيد ... وإنما خاطبني في أمر مقالة من مقالاتي نشرتها في الصحف، وذيلتها بتوقيعي الصريح، وهي مقالة كتبتها تأبينا للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد - رحمه الله - ونشرتها صحيفة «عكاظ » الأسبوعية التي كنا نخصها برسائلنا النقدية أنا، والمازني، وشكري، وبعض الزملاء ...
ومن أضاحيك المصادفة أن الوزير كان صديقا للشيخ علي يوسف، وكان وكيلا لحزبه وخصما لكثير من خصومه ... وكان من أشياعه القليلين الذين مشوا في جنازته، وأشرت إليهم في بعض ما ذكرته عن وفاء المشيعين له بعد الوفاة.
من فصول الشيطنة
وكان الشيخ علي يوسف قد ترك «المؤيد» وهجر الحياة العامة، واصطلحت عليه العلل والنكبات ... وقضى نحبه غير مذكور من أقرب المقربين إليه، فلم يسر في جنازته منهم غير آحاد معدودين، بينهم وزير الأوقاف ...
وقلت في تأبينه: إن الرجل كان «نفاعا ضرارا»، ولكنه كان ينفع ويضر لتمكين نفوذه، واستصلاح الأعوان في مشكلاته وقضاياه ... فمن وصلت إليه يد من أياديه لم يكافئه عليها بالمحبة وخلوص النية، ولكنه يحس أنه مدين مطالب بدين يوفيه في يوم من الأيام ... فلا جرم يشيعونه غير محزونين، ويمضون في جنازته متحدثين متشاغلين؛ لأنهم في حالة نفسية أشبه بحالة المدين الذي أعفاه موت الدائن من الوفاء له بما عليه ...
خاطبني الوزير بلهجة هادئة كأنها لهجة الأستاذ الذي يلوم تلميذه على فصل من فصول الشيطنة، لا يبلغ عنده مبلغ السخط الشديد، ولا يخلو من بعض الرضا، فقال بعد الإشارة إلى مقال التأبين: «كان أحرى بقلمك الناشئ أن يتخذ له في تأبين الموتى منهجا أطيب من هذا المنهج.
وكان عليك ألا تنسى في هذا المقام قوله عليه الصلاة والسلام:
اذكروا محاسن موتاكم ...»
فاجتهدت أن يكون جوابي في لهجة توائم لهجة الوزير، وقلت ما معناه: «إنني لو علمت للشيخ حسنات غير التي ذكرتها لما فاتني أن أذكرها ...»
فاقتضب الحديث، مصطنعا الجد، وقال: «على كل حال، اجعل لقلمك مستقبلا كمستقبل الشيخ إن استطعت، واستخدمه في عملك، ودع عنك فضول الأقاويل والأحاديث.»
شبح المؤيد
المؤيد ... المؤيد ... المؤيد ...
ما هذا المؤيد الذي يلوح لي أنني ألقى شبحا منه أينما ذهبت هذه الأيام، حيث أريد وحيث لا أريد ...
قبل أسابيع - على ما أذكر - جاءتني تذكرة مطبوعة كتذاكر الدعوة إلى المحافل والمجتمعات يقول كاتبها «سيد كامل »: إنه يتصدى لتحرير المؤيد، ويود لو يستعين بالأقلام الفتية في تجديد حياة «شيخ الصحافة» ... أو كلاما من هذا القبيل ...
فمن يكون «سيد كامل» هذا؟
إنني لم أكن أعلم عنه شيئا، وأشفقت أن يكون مرشحا للقيام على تحرير المؤيد من قبل الإنجليز ... لأنني تبينت من حديثي مع مستر «ستورز» أنهم يهتمون بهذه الصحيفة، ويودون لو يبتعثونها بإشرافهم وتحت رعايتهم، وقال لي الأستاذ «حسين روحي»: إنهم كانوا يظنون أنني «أصلح» لهذه المهمة، ولكنني خيبت رجاءهم ...
مولاه
فهل «سيد كامل» هذا ممن حققوا عندهم هذا الرجاء، فاختاروه لتوجيه هذه الصحيفة، ولو من بعيد؟
خطر لي هذا الخاطر لأول وهلة، ولم يفارقني حتى علمت المزيد من تاريخ «الدكتور سيد كامل»، فعلمت أنه أفضل وأصدق في الوطنية وفي الولاء لمولاه من أن يصلح لتلك المهمة من بعيد أو قريب ... وقد كان مولاه الذي تولى تعليمه في فرنسا على حسابه بتوصية من صاحب المؤيد هو الخديو عباس الثاني، وهو الذي رشحه للقيام على تحرير المؤيد بعد اعتزال الشيخ علي يوسف لعمله في الصحافة ... عسى أن يحتفظ بأمانة التراث الموكول إليه من ولي نعمته، ومن أستاذه الموصى عليه ...
وها هو ذا وزير جديد يفتتح خطابه الأول بحديث عن المؤيد وصاحبه وأصحابه، فما هو شأن المؤيد معنا أو ما هو شأننا مع المؤيد؟
أهو «لحظ الغيب» يرانا على مقربة من تلك الصحيفة من حيث لا نراه؟ ...
يحق لي - لو أردت - أن أصدق هذه الهواتف الغيبية، فإنها لم تنته عند هذه النهاية، ولم تزل تلاحقني بخبر من هنا وإشارة من هناك حتى عادت بي إلى العمل الصحفي محررا بالمؤيد ... وكان السبب المباشر لعودتي إليه قصيدة نشرها المؤيد ... ونظمها شاعر من شعراء السكرتيرية بنظارة الأوقاف، وهو المرحوم عبد الحليم المصري الذي كان يتطلع إلى مكان «شوقي» في القصر الخديو، ووصل إليه ولكن بعد زوال الخديوية ...
فضيحة الأدب
نظم عبد الحليم قصيدة من أحسن قصائده عن «الخصيب» أمير مصر في أيام الدولة العباسية، وقال فيها عن شاعر النيل:
وشاعر النيل دون الخلق يشربه
بينا يشق الصدى منه الحشاشات
وما كان يعني في الحقيقة غير الخديو عباس وشاعره أحمد شوقي، وما كان بالقارئ من حاجة إلى البراعة لفهم هذه المواربة المكشوفة ... فقد فهمها كل قراء المؤيد من الأدباء، ولم يخف مقصدها على أحد غير محرر المؤيد الأول في تلك الآونة: أحمد حافظ عوض الذي ترك منصبه في قصر عابدين؛ ليشرف على تحرير هذه الصحيفة في أدق مرحلة من مراحلها، وخاتمتها ...
أولا: لم تنشر تلك القصيدة عن الخديو وشاعره إلا في المؤيد دون غيره من الصحف اليومية والأسبوعية؟ ...
فضيحة من فضائح الأدب والصحافة لم ينم لها حافظ، ولم ينم لها شوقي، ولم تنم لها نظارة الأوقاف ... وأولهم ناظرها في ذلك الحين - محمد محب باشا - وقد كان متهما في الحاشية الخديوية بمحاباة الإنجليز ...
وحضر «حافظ عوض» ذات يوم إلى ديوان الوزارة، ولقيته في مكتب الوزير، ولا أدري على التحقيق هل دعاني أحد إلى المكتب للقائه، أو ذهبت إلى المكتب بغير دعوة من أحد لسبب من أسباب العمل في مذكرات المجلسين: مجلس الإدارة، والمجلس الأعلى ...
ولكنني لقيت حافظا يبتدرني بالسؤال والسلام، ويقول لي مازحا: ماذا تصنع هنا؟ إن مكتبك مستعد بدار المؤيد، وإن عملك الذي خلقت له أن تكتب المقالات لا أن تلخص المحاضر والمذكرات.
ثم قال: إن صفحة الأدب في المؤيد تحتاج إلى أديب يتفرغ لها، ولا ينظر في عمل من أعمال الصحيفة غير كتابتها، أو الإشراف على ما يكتب فيها ...
قال: ولو أن وقتي كان يتسع للتفرغ لهذه الصفحة لما استغفلني هذا «الولد»، ودرس علينا تلك القصيدة المسمومة التي جعلتنا سخرية المجالس الأدبية.
ولم أتردد في قبول الدعوة إلى تحرير الصفحة الأدبية في شيخ الصحافة العربية، فإنني لم أكن أطمح في الرابعة والعشرين إلى عمل أهم من هذا العمل في الصحافة ... فإن كانت لدي بقية من الرغبة في صناعة القلم من طريق الصحف، فلا انتظار إذن لما هو أولى بالقبول من هذه الدعوة بعد أن جاءتني بغير عناء، وبغير طلب ... ولا محل للتردد إلا أن يكون عملي في نظارة الأوقاف أحب إلي وأجدى علي من العمل في الصحافة، ولم يكن عملي في النظارة مرضيا لي في حياتي الأدبية، ولا في حياتي المعيشية، فعلام التردد؟ وفيم البقاء؟ ...
العودة إلى الصحافة
وامتلأ مكتبي «الخالي» بدار المؤيد قبل أن ينقضي الأسبوع ... ولم يمض أيام حتى عاودني الطالع القديم: ذلك الطالع الذي تحدثت عنه في مذكرة سابقة من هذه المذكرات ... لا أدخل عملا إلا وجدته في مرحلة من أدق مراحل تاريخه، منذ عملت في الوظائف الحكومية، إلى أن عملت في الصحافة، وإلى أن عملت في ديوان الأوقاف، إلى أن عاودت العمل في الصحافة كرة أخرى!
ولا أطيل في شرح تلك المرحلة من حياة المؤيد، فقد يغني القارئ عن شرحها أنها وافقت الشهور الأخيرة من تاريخ الخديوية المصرية قبل الحرب العالمية الأولى، وأنني لم أسلخ في المؤيد شهرا أو شهرين حتى ماجت الدار بالحركة، التي شغلت رئيس التحرير عن الدار، وعن صفحتها الأدبية وصفحاتها الأخرى، وتركتني فيها بين دسائس القصور، ودسائس الصحيفة التي لزمتها من مخلفاتها التقليدية!
كان الخديو يعلم أن لورد كتشنر يصر على خلعه، ويرشح للخديوية أميرا من أمراء بيت حليم، وكان يعلم أن كتشنر لن يغلبه بقوة غير قوة الخلافة في الآستانة، أو قوة الرأي العام في مصر، وفي طليعتها قوة المعارضة من قبل الجمعية التشريعية.
فأما قوة الخلافة في الآستانة، فقد احتاط لها الخديو بسفره في تلك السنة إلى الآستانة، وعدل عن زيارة المصائف الأوروبية كعادته في السنوات الخالية؛ ليبقى إلى جوار الخليفة متأهبا لإحباط المؤامرة عليه.
الخديو يزور سعد زغلول
وأما قوة الرأي فقد احتاط لها برحلة شعبية في الوجه البحري تعمد فيها زيارة الأعيان في قصورهم، وزيارة الفلاحين بين أكواخهم، واستقبال الشعب حول سرادقات الاحتفال حيثما نزل بقرية من قراهم، غير ممنوع منها أحد من الكبار أو الصغار، ولا من الرجال أو النساء، ولج به الحرص على إبراز صداقته للمعارضين في الجمعية التشريعية، فجعل أسماءهم في الصف الأول بين أسماء الأعيان الذين تقع قراهم على خط الرحلة، ودعاهم إلى مصاحبته في غير قراهم، وأولهم سعد زغلول.
ولم يشأ الخديو أن يؤتمن على مراسلة «المؤيد» بأخبار الرحلة أحد أقل من رئيس تحريره، فأخذ حافظ عوض في ركابه، وجاءني حافظ إلى مكتبي قبل سفره يمهد للطلب الذي يريده مني: وهو تنقيح أخبار المراسلين بالصيغة الأدبية، وانتظار الرسائل منه لمراجعتها قبل إثباتها في الصحيفة بالصيغة الأخيرة. وهي الصيغة التي ستظهر بها في الكتاب الذهبي، وكرر كلامه عن الرحلة، وعن الصيغة التي ستظهر بها بعد ذلك في سجل شبيه بالسجلات الرسمية، وانصرف وهو يقول: إنه عمل أدبي خالد على أية حال، وإنه يستحق أن أؤجل من أجله صفحة الأدب إلى حين.
الكتاب الذهبي
وانهالت الرسائل كالمطر المنهمر من المراسلين، وأعيان الأقاليم، وكل من قال له الخديو كلمة أو قال كلمة للخديو، وضاق الوقت عن ملاحقتها بالقراءة والترتيب فضلا عن التنقيح والتصحيح، ثم انطوى الكتاب قبل أن تنفتح صفحة من صفحاته، ولا يزال منطويا إلى الآن.
مشترك من مشتركيه الموعودين ضل طريقه إلى حجرتي بدلا من حجرة المحرر، الذي كان منوطا بتسلم الرسائل، وتسليمها إلي بقائمة مكتوبة لإيداعها في ملفاتها إلى حين الفراغ من تدوينها، فعلمت من خلال كلام المشترك الموعود أنه أعطى المحرر المنوط بتسلم الرسائل عشرة جنيهات باسمي، وأنه حضر في ذلك اليوم ومعه شيء زهيد على سبيل الهدية: ساعة وسلسلة ذهبية ... ولي بعدها هدية على «قد المقام» بعد ظهور الكتاب.
وتركت «الملفات» في أماكنها ريثما يعود رئيس التحرير من الرحلة، وعاد رئيس التحرير، فاستعفيته من العمل في الكتاب وأبلغته ما سمعت، وقلت له: إن محرري «المؤيد» أحرار فيما يأخذونه ويدعونه، ولكنهم لا يملكون أن يزجوا باسمي في معاملاتهم ومبايعاتهم، ويحق لي إذا فعلوا ذلك أن أصحح ظنون الناس، وسأترك له - أي رئيس التحرير - أن يختار طريقته لتصحيح هذه الظنون ...
فتجهم رئيس التحرير وتوعد المحرر المسئول بالويل والثبور، ووعدني أن يكتب غدا في المؤيد كلمة تزيل اللبس، وتبعد الشبهة عني في أمر الكتاب ورسائله واشتراكاته ، ورجاني أن أغض النظر عن المسألة، ولا أنقطع عن العمل في الكتاب.
ويعلم أصحاب الأستاذ حافظ - رحمه الله - أنه كانت له مواطن ضعف في تحياته ومقابلاته، ومنها أنه يتشبه بالأمير في مناورات الرضا والغضب والتقريب والإقصاء، وأنه يجعل من زمرة عمله بلاطا صغيرا تكثر فيه مناوبات التشجيع والإعراض، ولمحات الابتسام والعبوس، وقد شهدنا في مساء ذلك اليوم تمثيلية وجيزة من هذه التمثيليات، كانت هي فصلها الأخير!
آخر عهدي بالصحافة
في مساء ذلك اليوم زارني الأستاذ المازني والأستاذ محمود سعيد الذي أصبح بعد ذلك مستشارا في المحاكم الأهلية، ونزلنا إلى باب الدار ننتظر مركبة خالية تمر بنا لنستقلها إلى ندوتنا المعهودة عند دار القضاء «في الوقت الحاضر» ... ولم نكد ننادي المركبة العابرة حتى مر بنا الأستاذ حافظ يحيينا بيمناه، ويضع يسراه في إبط المحرر «المتهم» وهو مقبل عليه بالضحك والحديث، ثم صدر المؤيد في اليوم التالي وليس فيه كلمة عن الاشتراكات ولا عن تصحيح الظنون.
وكان هذا آخر عهدي بالمؤيد، وآخر عهدي بالصحافة قبل الحرب العالمية الأولى؛ لأنها نشبت قبل نهاية الصيف!
يجوز
أغلب الظن عندي أن قصة خروجي من نظارة الأوقاف ثم من صحيفة المؤيد كانت «قضاء وقدرا» كما يقولون في لغة التحقيقات القانونية.
أما العارفون بتحقيقات الحواشي الملكية، فقد كان لهم رأي آخر في القصة بحذافيرها، وكان من رأيهم أن الخطة وضعت يومئذ في القصر لفصل كل موظف بالأوقاف عرفت عنه المعارضة في نظام الديوان، لا فرق بين أكبر الموظفين وأصغر الموظفين!
وكان أكبر المعارضين من الموظفين لصفقات السمسرة والاستبدال عبد الرحمن فهمي «بك» وكيل النظارة، فخرج محالا إلى المعاش.
وكنت أنا أصغر المعارضين من الموظفين، ولا حيلة لهم في فصلي بالإحالة إلى المعاش، فليكن فصلي «بصنارة» الصحافة، ثم بمائة سبب ميسور بعد الوصول إلى البر ... غير الأمين!
و«يجوز» هي كل ما أقوله في التعقيب على هذه الفكرة القريبة البعيدة، ولولا أنني استقلت من النظارة ورفضت استقالتي قبل ذلك، لرجحت التدبير بفعل فاعل من القناعة «بالقضاء والقدر » في تعبير العارفين بالحواشي الملكية!
في الحرب العالمية الأولى
ساعات بين الكتب
أقمت في القاهرة أياما بعد استقالتي من تحرير «المؤيد» على نية السفر إلى الصعيد الأعلى، وقد منيت نفسي موسما كاملا من المواسم الجميلة في مدينة الشتاء، ورسمت برنامجي لذلك الموسم الموعود بين المطالعة والتأليف والرياضة، والبحث عن التاريخ الطبيعي، ومضامين الآثار في أسوان، وهي غنية بالمضامين المعلومة والمجهولة، من أيام الفراعنة إلى أيام المماليك إلى أيام الدولة العثمانية ...
وأعددت العدة للكتاب الذي نويت تأليفه باسم «الساعات بين الكتب»، وجعلت عنوانه دليلا على موضوعه أو موضوعاته، فهو كتاب أسطر فيه خلاصة ما قرأت وزبدة التعليقات التي وقعت في خاطري واطلعت عليها أثناء القراءة، أو هو كتاب عن الكتب أردت به أن أصل بين عالم الكتب وعالم الحياة وبين آراء المؤلفين وآراء القراء، كما تبدو لي من النظر والمراجعة والأحاديث.
وكان الموسم خصبا حقا بثمرات التأليف؛ لأنني انتهيت من كتاب «ساعات بين الكتب» في نحو خمسمائة صفحة، وأودعته ثمرة الاطلاع والتأمل في أهم مذاهب الفكر الحديث، وأولها مذهب داروين ومذهب نيتشه في السوبرمان ... وهذا الكتاب غير الكتاب الذي ظهر بعد ذلك باسمه وأعيد طبعه مرات؛ لأن «ساعات بين الكتب» التي كتبتها في أسوان ضاعت مرتين، ولم يبق منها غير خمسين أو ستين صفحة.
الإنساني الثاني
وفرغت من كتاب غير الساعات، عن المرأة، سميته «الإنسان الثاني» ولم يبق منه كذلك غير صفحات.
وأتممت رسالتي «مجمع الأحياء» تلخيصا للآراء في فلسفة النشوء، وفلسفة القوة، وفلسفة الفطرة التي تهذبها الرياضة النفسية والاجتماعية، وهو الكتاب الوحيد الذي تم ونشرته تاما بعد تأليفه بفترة وجيزة ...
ونظمت في هذا الموسم الأسواني أكثر من نصف قصائد الجزء الأول من الديوان، ومنها قصيدة دالية مطولة نبذتها بعد ذلك؛ لأنها تعبر عن دفعة من دفعات الفكر لم يبق لها في نفسي سند سليم ولا مسوغ مقبول ...
أما الكتابة الصحفية، فقد ذهبت إلى أسوان وأنا أحسبني في إجازة منها إلى موعد غير مسمى ... وخيل إلي أنها ستكون أقل الشواغل شغلا لي حتى في الاطلاع عليها والعناية بأخبارها، فإن عاودني الحنين إليها فلتكن عودتي إليها بقصيدة من الشعر، أو مقالة في حكم القصيدة الشعرية، توحي بها لمحة من لمحات الخاطر أو عارض من عوارض الشعور ...
وتقدرون فتضحك الأقدار ...
وقدرت أن الكتابة الصحفية لن تشغلني قارئا ولا كاتبا خلال مقامي في أسوان، إلا أنها تسلية من قبيل تزجية الفراغ، فإذا بمقالة واحدة كتبتها - من هذا القبيل - تشغلني أضعاف شغلي بمقالات الصحف سنوات في أحرج أيام القلاقل والقضايا والأزمات، مع أنها قرئت مخطوطة قبل أن تقرأ مطبوعة، ولم تزد نسختها المتداولة أولا على عدد أصابع اليدين ...
تلك هي مقالة «نادي العجول»، كدت أذهب من جرائها إلى جزيرة مالطة، وأنا أحوج إلى المقام بأسوان أو في جو القطر من المشتى إلى المصيف. «شهوة» و«شبهة»!
أدركتني الحرب العالمية الأولى وأنا في أسوان، وأحس الناس بوطأة الأحكام العرفية في هذا البلد النائي على طرف الصعيد الأعلى قبل أن يحسوا بها في سائر البلاد المصرية؛ لأن أسوان على ملتقى الطريق بين مصر والسودان، وملتقى الطريق بين النيل والبحر الأحمر من جانب الصحراء، ومرجع الأحكام العرفية فيها إلى رئيس إقليمي بعيد من الرقابة مطلق التصرف في الأوقات التي تشغل الحكومة المركزية عن تفصيلات الشئون الإدارية في الأقاليم ... وقد كانت شهوة الطغيان، والحجر على الحريات قد ملكت نفوس الحاكمين، وأذنابهم من المسلطين على الرقاب تحت حمايتهم، بعد اشتداد الحركة الوطنية وتتابع القوانين، والأوامر المقيدة لحرية المحكومين، فلما تقررت الأحكام العرفية بكل قسوتها وصرامتها بعد شيوع العمل بالقوانين المقيدة للحريات، أوشكت الرغبة في الاستبداد أن تصبح هوسا في نفوس بعض «الحكام» ... ولا سيما الذين بدا لهم أن الفرصة سانحة لاستغلال هذا السلطان المطلق طمعا في الكسب، وشفاء للضغائن والأهواء، وماذا يمنع الرشوة أن ترفع رأسها وتصيح بين الزوايا وفوق الجدران إذا كان أداء الرشوة هو البديل الوحيد من النفي والاعتقال بغير تحقيق؟ ... وماذا يفيد التحقيق إذا كانت «شبهة» الوطنية كافية لاعتبار «المتهم» من ذوي الخطر والسابقة المحذورة؟ وكانت هذه الشبهة لاصقة بالأكثرين من المصريين؟ ...
لقد بلغ الطغيان بحاكم من الحكام في أسوان أنه أراد أن يقضي يوما مع أسرته في الجزيرة المغربية التي يقصدها بعض الناس للرياضة في أيام الإجازات، فأرسل المنادي «الرسمي» يطوف أرجاء المدينة، وينذر من تحدثه نفسه بالنزول في الجزيرة أن يوطن نفسه على السيف والنار، وخراب الديار ...
وشاعت سيئات الحرب العالمية على أسوئها في إقليم أسوان الآمن الوديع! تجنيد إجباري لفرقة العمال، واعتقال متكرر لشبهة ولغير شبهة، وإتاوات تفرض لعلة من العلل المخترعة، تبرعا للصليب الأحمر، أو ترفيها عن المرضى والجرحى، أو مساعدة على مشروع كائنا ما كان من مختلف المشروعات، وأصبح كل طلب إنذارا بالتهمة المحكوم فيها بغير استئناف، أو إنذارا بالسداد في غير تردد ولا مساومة.
نادي العجول
حدث هذا في بلدي وبين أهلي وعشيرتي، وأنا أنظر إليه بعيني وأستمع إلى أخباره بأذني، وأحس كل مظلمة من مظالمه بإحساس قريب وإحساس إنسان ...
حدث هذا وأنا في الخامسة والعشرين.
وحدث هذا وأنا أقرأ الشعر فلا أزدري أبا نواس لقول من أقوال المجون، كما كنت أزدريه لقوله في الحكمة:
خل جنبيك لرام
وامض عنه بسلام
مت بداء الصمت خير
لك من داء الكلام
لا يا أبا علي، غفر الله حكمتك ومجونك، فإن كان موت يا صاح فما باله يكون بداء الصمت؟ ولم لا يكون بداء الكلام ...؟!
وتكلمت باللسان، وتكلمت بالقلم كاتبا إلى وزيرة الداخلية وإلى السلطان.
وتكلمت بالقلم أيضا، فكتبت ونشرت أو نظمت على الأصح قصيدة منثورة سميتها «نادي العجول» ...
نادي العجول هذا كان «ناديا» للسادة الحاكمين، وسراة القوم في المدينة، «فتحه» الرؤساء بكل معنى «الفتح» ... لأنه كان أشبه شيء بالغزوة في طلب الأسلاب، من طريق المساومات والألعاب.
وكانت له سمعة سيئة غير سمعة المقامرة، وكان الحضور فيه مفروضا على بعض الناس في ساعات معلومة؛ كي يخلو الجو لبعض الناس الآخرين في تلك الساعات.
ولم يكن يسمى بطبيعة الحال بنادي العجول، ولكنني سميته كذلك؛ لأن رؤساءه كلهم من أصحاب الوزن الثقيل؛ ولأنه «حظيرة» من حظائر «الدواب » الآدمية لا تخلو من القرون ...!
وأضعف الأعضاء نفوذا في ذلك النادي الموقر كان يملك الترخيص لي بالسفر على حساب الحكومة إلى جزيرة مالطة، غير مشكور مني ولا ملوم من أحد على ذلك الإحسان بالإكراه ...
ولكنني كتبت المقال، وتناسخه الأدباء، وأرسلته إلى الصحف، وقرأه النادي كله في جلسة حافلة من جلساته، وتقرر في تلك الجلسة مصير الفضولي الجسور الذي يجترئ على ذوات القرون، وعلى ذوات القناطير المقنطرة من الشحوم واللحوم!
مقامة فكاهية
وأعود فأقول: إن القافية هي التي قضت قضاءها في الموضوع - ولا قضاء لي فيه ولا مشيئة - فخرج الموضوع كما ينبغي أن يخرج مقامة فكاهية أو قصيدة منثورة يقرؤه من خلا ذهنه من «الموضوع» فلا يشتم منها رائحة الحملة التي يجترئ بها القائل على الحكم العرفي المخيف، ولا على الحكم القانوني اللطيف ... ويقرؤها من امتلأ ذهنه «بالموضوع»، فتغريه بحفظها وترديدها، وهو يسأل الله السلامة من تلك العجول.
قال رئيس النادي في مقدمة المقامة: «أيها السادة ... إن العجل مدني بالطبع، ونحن معشر العجول قد ميزنا الله على بني آدم بضخامة الأجسام، وصلابة القرون ... وقد غبر بهؤلاء الناس زمان كانوا يعرفون فيه بأسنا ويتمسحون بأذيالنا، حتى أيقنوا أن لن يقوى على حمل هذه الدنيا أحد سوانا، فعبدونا من فرط الإجلال ... وسبحوا لنا بالعشي والآصال، وكانوا يحسدوننا على قروننا، فدعوا أكبر أبطالهم وأشدهم بأسا وأرفعهم ذكرا - أعني الإسكندر المقدوني - بذي القرنين، وما إسكندرهم هذا وما قرناه؟! إن أصغر عجل فينا ليهشم رأسه إذا ناطحه، ويجندله إذا واثبه أو صارعه، فالعجب لك أيتها العجول لم لا تذكرين ذلك المجد الخالد، فتقام لك الصوامع والمعابد، بدل النوادي والمعاهد ...»
وقضى حكم القافية قضاءه في قراءة «الموضوع» كما قضاه في كتابته، فأصبحت المقامة في مدى يومين كأنها بعض المحفوظات المقررة التي يؤدى فيها الامتحان بعد يومين آخرين، وراح أولاد الحلال يتساءلون كلما عرض لهم من يعنونه بالسؤال: لم لا تذكرون ذلك المجد الخالد، فتقام لكم الصوامع والمعابد؟ ومنهم من كان يتخابث ويتجاهل، ويخاطب العضو من الأعضاء التابعين غير المتحدثين، نعني بهم زمرة الأعضاء المسوقين المسخرين، فيقول: أنت مدني بالطبع ... أنت أشجع من الإسكندر ... أنت يقام لك وزن ... أنت مخير على الآدميين، إلى أشباه هذه «التلقيحات» الرمزية التي كانت أصرح عند القائل والسامع من النداء الصريح.
وكانت المناوشات بيني وبين المدير سجالا قبل شيوع تلك الكلمة عن نادي العجول ... كنت أشكوه وأعزز الشكوى بالبينات، ثم تستدعيه وزارة الداخلية، فنقرأ في الصحف أنه قابل عظمة السلطان، ثم يكشف هو بحماقته عن سر هذه المقابلة التي يستدعى لأجلها من أسوان، فتعلم أنه سمع فيها ما ليس يرضاه.
الرشوة والإتاوات
وكانت هذه المناوشات تجري سجالا بين مرتجلة أو مدبرة حتى شاع في المدينة، ثم الإقليم، ذلك المقال المنشور عن نادي العجول ... فإذا بالمناوشات التي كانت قصة مبعثرة الفصول تتركز، وتنتهي إلى مخرجها الذي تحكم به القافية مرة أخرى، فلا مناص لواحد من اثنين: أن يخرج من المدينة المدير أو كاتب المقال عن نادي العجول ...
ويتبين من مجرى الحوادث أن المدير تعذر عليه نفيي؛ لأنه نفى من قبلي ناظرا لمدرسة المواساة، وكنت أنا ناظرها الثاني، فأشفق القوم أن يقال: إنهم يضطهدون المدرسة الإسلامية الوحيدة في البلدة ... وكل ما استطاع المدير أن يقنعهم به هو أن يشدد علي الرقابة ويقيد إقامتي بالمدينة، فلم أكترث لهذه الرقابة ولا لهذا التقييد؛ لأنني بطبيعتي كثير العكوف في المنزل قانع من الحركة بمشوار الرياضة في الخلاء أو في النيل.
وفتقت الحيلة للمدير أن يصدمني بمفتش الداخلية الإنجليزي، فألقى إليه أنني أتهمه بالرشوة، وأذيع عنه أنه يقاسم الموظفين «إتاوات» السلطة على وظائف العمد والمشايخ و«تبرعات» الأعيان، وصفقات التموين، ولم يكذب المدير فيما ادعاه؛ لأنني كتبت في الواقع أقول وأعيد أن المفتش الإنجليزي يقبل الرشوة ويفرضها على مرءوسيه ...
واستدعاني المفتش إلى ديوان المديرية، فقال فيما قال في حديث طويل باللغة الإنجليزية: «لا يوجد إنجليزي مرتش
Corrupt
في الحرب ولا في السلم» ... فبدرت مني كلمة لا أدري ماذا كنت أقول - سواها - لو قصدتها عن روية ... وقلت: إن الإنجليز جديرون بالتهنئة ؛ لأنهم قد تغيروا كثيرا بعد حرب الترنسفال ...
والمعروف أن حرب الترنسفال قد كشفت عن فضيحة من أشنع الفضائح في حالتي الحرب والسلم أثناء القتال وبعد القتال ... فلو أنني تعمدت الروية لما وجدت أمامي مثلا أقرب من ذلك المثل للرد على صاحبنا الفخور بالتعفف عن الرشوة في الحرب والسلم، ولكنني لو تعمدت الروية لكان السكوت عن تلك الكلمة أولى وأحجى ... فإن الرجل بعدها وقف إلى جانب المدير في طلب اعتقالي وإقصائي من المدينة، وقال عني: إنني أخطر من ناظر المدرسة التي نفته السلطة قبلي إلى جزيرة مالطة، وكنت قد تعمدت أن أشغل مكانه تحديا للأمر الذي صدر بعد القبض عليه، فعملت بعده ناظرا لمدرسة المواساة ...
وجزى الله مقال «العجول» خيرا في هذه المرة، فإن قارئا من قرائها الذين حفظوها أطلعنا على خبر التقرير السري الذي كتبه المفتش ونقحه بعد مراجعة المدير ... فوجب الرحيل إذن من المدينة بكل وسيلة مستطاعة ... وقضت القافية أن يكون الراحل في هذا الفصل من الرواية كاتب المقامة ... لا سعادة المدير.
لكن كيف الرحيل من المدينة، والرقيب ملازم باب الدار بالليل والنهار؟
لقد كان الرقيب يلازمني إذا خرجت، ويسلمني في المساء لحارس الدرك، فلا يفارق الحارس مكانه في الصباح حتى يتسلمه منه الرقيب الأول أو رقيب جديد ...
أصبحت من أبطال المغامرات
لست من القراء المغرمين بروايات الهرب والمطاردة، ولكنني أصبحت بطلا من أبطالها على الرغم مني بحكم الضرورة التي لا حيلة فيها ... فوصلت إلى القاهرة قبل أن يعود منها جواب «السلطة» على تقرير المفتش والمدير، وكأنني كتبت بيدي قرار الفصل عقابا لهما واحدا بعد واحد، وبينهما فترة أسابيع.
أرسلت ملابسي من المنزل في مقطف عليه قمح يغطيه، وذهب به حامله إلى بيت في شارع مجاور لنا نقلوا فيه الملابس إلى حقيبة صغيرة، وسافر بها بعض أقاربنا بتذكرة من أسوان إلى القاهرة، وتواعدنا أن ألقاه بالقطار في محطة «الخطارة»، ويعود هو إلى أسوان على المطية التي وصلت بها من أسوان إلى الخطارة ...
وأعددنا عند ظاهر البلدة مطيتين يقودهما من نثق به من الجيران، وبقيت مهمة الخروج من المنزل في الصباح على الرغم من الحارس الرقيب ... وليس أيسر من ذلك إذا تزحزح الحارس من مكانه إلى منعطف الطريق هنيهة قصيرة نخرج فيها، ونتوارى على الأثر في منعطف الطريق المقابل، من ناحية الفضاء، حيث تنتظرنا المطيتان ...
ولم يعسر علينا أن نزحزح الحارس عن مكانه خلال تلك الهنيهة القصيرة، فقد كان من ذوينا فتى نستعيذ بالله من ثورات غضبه، ومن خفته إلى الشجار والخناق، فرجوناه في ذلك اليوم أن يغضب، وأن يبالغ في الغضب وأن يفارق المنزل بعد الفجر كأنه ذاهب للصلاة، فيشتبك في خناقة حامية مع أول عابر من طلاب الصلاة مثله، أو من المبكرين إلى الأعمال.
وقام صاحبنا بالواجب على ما يرام، وعاد الحارس إلى باب البيت، ونحن على المطايا متلفعين متنكرين لا يعرفنا من يرانا، ولو كان من معارفنا.
أكبر مقلب للمدير
وكنت بعد ذلك بيوم في ديوان الداخلية أزور صديقنا الوزير الأديب جعفر والي «باشا» وكيل الوزارة، ثم تتابعت الأيام والتقارير السرية تصل من أسوان بتفصيلات المؤامرات التي أدبرها، والأحاديث التي أذيعها والأقاويل التي أثير بها الخواطر أستحق من أجلها التعجيل بالاعتقال والنفي من الديار ...
أنا في القاهرة يصطحبني وكيل الداخلية كل يوم إلى مكتب المستشار، ويشهده على مقامي بعيدا من أسوان بأكثر من ستمائة ميل، وأنا في الوقت نفسه بأسوان يراني المفتش والمدير أثير الخواطر، وأدبر المؤامرات ...
والنتيجة معروفة ...
في هذه المرة يخرج المدير من البلدة ويتلوه المفتش، ويصدر الأمر بإحالة المدير إلى المعاش قبل موعد الحركة الإدارية، وأعرف اسم المدير الذي خلفه، فأبادر إلى إبلاغ الخبر لأصدقائنا في أسوان بهذه البرقية:
شر مدبر وخير مقبل.
وكان المدير الخلف «مقبل باشا» الذي اشتهر بعد ذلك في مناصب الإدارة.
بين الموت والحياة
كنت رقيبا على الصحافة
كان نصيب التدريس من عملي في سنوات الحرب العالمية الأولى أكبر من نصيب الصحافة، وكانت علاقتي بالصحافة قليلة متقطعة، ولكنها - على ذلك - كانت متعددة منوعة؛ لأنني اتصلت فيها بألوان من الكتابة الصحفية لم أعرفها قبل ذلك، وما لم أعرفه منها عملا واختبارا فقد عرفته وصفا ونظرا، واطلعت على طرف من أسراره وأخباره عن كثب، فكتبت إلى المجلات الشهرية والصحف الأسبوعية، واشتغلت بالصحافة اليومية في غير القاهرة، وقمت على رقابة الصحف أياما معدودة، وندبت «للمراسلة الحربية» في صحراء سيناء، وكدت أن أحيط بالدائرة الصحفية من مراكزها إلى زواياها ونواحيها.
وتشاء الحوادث أن أشتغل بالرقابة على الصحافة، وهي من أبغض الأعمال إلى نفسي وإلى فكري، وتشاء هذه الحوادث أن أهنئ نفسي بالخيبة فيها بعد أيام، فلم أحمد الله على نجاح كما حمدته على هذه الخيبة الموفقة ...!
كانت لي صداقة أدبية بالمغفور له «جعفر والي باشا» وكيل وزارة الداخلية في أيام الحرب العالمية الأولى، وكان من الأدباء «القانونيين الإداريين» الذين يجالسون أحيانا «عثمان فهمي بك»، الذي كان مديرا لأسوان، فمديرا لقنا، فوكيلا للخاصة الملكية، ثم خرج من الخاصة الملكية مغضوبا عليه في عهد الملك أحمد فؤاد، محالا إلى المعاش قبل أوانه؛ لأنه لم يحسن أن يشترك في إدارة الخاصة على الطريقة التي يرضاها صاحب الجلالة! •••
وكان حديث جعفر والي معي في الأدب يكاد ينحصر في المفاضلة بين أبي تمام والمتنبي، فإنه كان يفضل أبا تمام ويفرغ لنسخ ديوانه بخطه، ويملأ حواشيه بالتعليقات والملاحظات التي توافق مشربه في تفضيله، وكنت أنا تلميذا للمعري في هذه الخصلة كما كنت تلميذه في خصال خلقية أو فكرية شتى، وأعني بها خصلة «التعصب» للمتنبي، وقلة الصبر على القدح فيه والانتقاص من أدبه ... أما الأستاذ «عثمان فهمي بك»، فقد كان كلامه في العلميات والفلسفيات أكثر من كلامه في الموضوعات الأدبية، وكان يناصرني أحيانا في تفضيل المتنبي من الوجهة الفكرية، ولكنه يناصر وكيل الوزارة في حملته على «نفخة» الشاعر الكذابة، مع تعرضه للرفت والسؤال، مما يخالف أصول البلاغة على قوله، وهي مراعاة مقتضى الحال، أو المقال حسب المقام!
وعلم «جعفر باشا» أنني أبحث عن عمل في القاهرة؛ لأن حالة «الكبد» عندي لا تسمح بقضاء الصيف في أسوان، وعلمت منه مرة أن الرؤساء الإنجليز يفاتحونه بضيقهم الشديد من مشكلة الرقابة على الصحف العربية، وأنهم يكادون يحملونه تبعة هذه المشكلة؛ لأنه أحق الناس أن يعرف كيف يختار للرقابة أناسا من الأدباء المصريين يصلحون لها، ولا يسيئون فهمها.
وقال لي ذات مرة: إن «يوسف خلاط بك» مدير المطبوعات على حد تعبيره «في ثياب ضيقة» ... ولكنه هو يخشى أن يلبسه القوم هذه الثياب.
وأزوره يوما على موعد، فيقول لي ضاحكا: إنني آمنت بعظمة المتنبي وفضله على أبي تمام.
ثم يلمح دهشتي فيبادر قائلا: ولكنه تفضيل معلق على شرط، وهو أن تستخدم لنا حكمة صاحبك في عمل من أعمالنا هنا بوزارة الداخلية، وهو مراجعة الصحف العربية ...
تكميم الأفواه!
قال: والحيرة في أمر هذه الرقابة أن أكثر الرقابة بإدارة المطبوعات لا يفهمونها، ويحسبون أنها تكميم للأفواه والأقلام ومسابقة بينهم وبين الصحف في المكر والحيلة، فكلما خطر لهم أن صحيفة من الصحف تلعب بالألفاظ لتفويت خبر من الأخبار داخلهم الغرور، وظنوا أنهم يغلبون الصحيفة في المكر واللعب، فيحذفون الخبر ويصرون على منعه ومنع الإشارة إليه، ومن ترخص منهم في السماح بنشر الأخبار التي يحرص عليها الصحفيون، فإنما يترخص في ذلك مجاملة لأولئك الصحفيين من أجل الصداقة، أو من أجل المنفعة المتبادلة.
قال: ولا أدري ماذا أصنع وأنا الوكيل المصري المفروض فيه أنه أقدر من غيره على حل المشكلة، فهل لك أن تؤدي هذه الأمانة الشاقة، وأن تعيننا على تجربة الرقابة كما ينبغي أن تكون، بين العطف على الصحافة ورعاية مقتضى الحال ...
وكانت «رعاية مقتضى الحال» قد أصبحت من القوالب المحفوظة في أحاديثنا حول بلاغة المتنبي وبلاغة أبي تمام، وحظ الشاعرين من الحكمة على مقتضى الحال.
قلت: إنني أقبل العمل في الرقابة ولا غضاضة، ما دامت الرقابة من المصالح العامة في أيام الحروب.
عجزت والحمد لله!
وبعد ثلاثة أيام جاءني تنبيه وسؤال عن بعض الأخبار التي تركتها للنشر، وتحقق لهم أنني لم أحذفها.
وبعد يومين أو ثلاثة جاءتني دعوة إلى مكتب مستر «هور نبلور» الرقيب العام يتقدمها حديث مقتضب من «يوسف خلاط بك»، فلما دخلت المكتب سألني مستر «هور نبلور» مقطبا: هل راجعت هذه الأخبار؟ وقدم إلي رزمة من جزازات الصحف اليومية والأسبوعية.
فقلت بعد إجالة النظر فيها: نعم.
فعاد يسأل: وكيف تبيح نشر الأخبار المقلقة التي من هذا القبيل؟
قلت: إنها تباح فيما أطلع عليه من الصحف الإنجليزية، ويباح لتلك الصحف ما هو أخطر منها بكثير.
فصاح متهكما: الصحف الإنجليزية؟ ثم أردف قائلا: هل أنت من الحزب الوطني؟
قلت: أنا مصري وطني بطبيعة الحال.
قال: إذا كنت لا تعطف معنا، فلماذا تتولى هذا العمل؟
فأجبته بكلام فحواه أنني لا أفهم المقصود بالعطف معهم، ولكنني لا أبقى في هذا العمل إذا كان يتطلب مني شعورا لا أفهمه، وله أن يتقبل استقالتي مشكورا على قبولها ...
وهكذا عجزت بحمد الله عن مهمة الرقابة بعد أسبوع واحد، وكدت أعجز عنها بعد يومين أو ثلاثة.
المراسلة الحربية
أما المراسلة الحربية، فقد ندبت لها من طريق الكتابة في مجلة المقتطف عن المقارنة بين فلسلفة المعري وفلسفة شوبنهور.
وكنت أعمل بالتدريس في مدرسة وادي النيل الثانوية بجوار محطة باب اللوق على مدى خطوات من مكتب المقتطف والمقطم، فزارني الأستاذ نجيب شاهين بالمدرسة موفدا من قبل الدكتور يعقوب صروف وقال لي: إن الدكتور وبعض ذوي الشأن ينتظرونني بعد الفراغ من الحصة قبل فسحة الظهر، ولم يخبرني شيئا عن موضوع الدعوة.
فلما دخلت المكتب وجدت الدكتور وشابا من أصهاره، ومعه الشيخ الغنيمي التفتازاني ورجلا إنجليزيا لا أعرفه، ولم يعرفني به الدكتور، ولكنه قال: إنك تعلم قلق الناس في هذه الأيام من جانب الحدود الشرقية، وكلهم يظنون أن الهجمة منها قريبة على قناة السويس، ثم على جميع البلاد المصرية، ومثلك خليق أن يعيد الطمأنينة إلى نفوسهم بما تراه عيانا، وما تطلع عليه من المعلومات المفصلة وهي حاضرة عند المختصين بالمسألة ... وأشار إلى ناحية الرجل الإنجليزي، وكل ما يطلب منك أن تطلع منها في القاهرة على ما يلزمك، وأن تهيئ نفسك بعدها للرحلة إلى الخطوط الأمامية في صحراء سيناء ، ثم تصفها بأسلوبك المعهود؛ لأن مجرد الوصف الصحفي الشائع لا يكفي للإقناع والتأثير، ولولا ذلك لكان في مخبر من مخبرينا أو مخبري الصحف الأخرى من يغني هذا الغناء.
رأيي الذي لم أعلنه!
وأحب أن أعيد هنا رأيي الذي أعلنته في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولم أستطع أن أعلنه في أثناء الحرب العالمية الأولى، فقد كان من رأيي في الحربين أن تتولى مصر واجب الدفاع عن حدودها موفورة السلاح والاستقلال، وألا تتولاه - بداهة - في ظل الحماية أو الاحتلال.
فلما سمعت اقتراح الدكتور صروف قلت له: إنني لا أكره أن أبث الطمأنينة في قلوب المصريين من ناحية الدفاع عن بلادهم، إذا كان المصريون هم الذين يقومون بأعباء هذا الدفاع، أما وهو - كما يحدث الآن - من عمل دولة الحماية، فليس من المعقول أن أرفض الحماية وأقبل دفاعها.
وكان الدكتور يعلم رأيي هذا في الحماية من أحاديثي معه قبل ذلك خلال زياراتي له في صدد مقالاتي الأدبية، فكاد يعتذر من مواجهتي بالاقتراح؛ لأنه نسي أننا تحدثنا في مسألة الحماية منذ شهور، وانصرفت وهو يكرر قوله: إنه لو ذكر أن في الاقتراح شيئا لا أسيغه لما فاتحني به، وجعل يقول مازحا: إذن تعود إلى المعري وشوبنهور ...!
ولا أذكر أن أحدا من الحاضرين في تلك الجلسة فاه بكلام يخالف هذا المعنى غير الشيخ التفتازاني ... فإنه طفق يقول ويعيد: يا سيدي فيها إيه؟ وماذا في ذلك يا سيد عباس؟ أليس المهم الآن أن تطمئن النفوس على الحدود؟
فلم أجبه ولم يجبه أحد من الحاضرين.
أنا والمازني ... بين الموت والحياة!
وقبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى عدت إلى التحرير في الصحف على غير انتظار، بل على يأس من العمل في الصحافة والتدريس إلى ما بعد الهدنة؛ إذ كان للهدنة موعد قريب.
فالعمل في التدريس لا أمل فيه، بعد أن مارسته سنتين مع صديقي المازني في مدرسة بعد مدرسة من كبريات مدارسنا الثانوية، وجرت العادة في كل مدرسة أن ينتهي عملنا فيها بأزمة من أزمات الخلاف على تصحيح أوراق الامتحان ؛ لأننا كنا نصحح أسئلة وأجوبة، وكانت خزائن المدارس تنظر إلى أوراق الامتحان كأنها أوراق الرصيد المنتظر في حساب المصروفات.
فلما وصلنا إلى الأوان المقدور للأزمة السنوية خرجنا من المدرسة متفقين على سكنى الإمام الشافعي، حيث تقيم أسرة الأستاذ المازني من زمن بعيد، وقدرنا أن اختزال النفقات المعيشية بالسكنى بين عالم الحياة وعالم الموت قد يغنينا عن التعجل في طلب العمل بضعة أشهر، ويفرجها ربك بعد ذلك أو قبل ذلك كما يشاء.
وقلت للمازني: ابحث يا صاح عن عمل في صناعتك ولا ترتبط بي في بحثك، ودعني أنتظر العمل في صناعتي حيثما اتفق، فلا حيلة لنا في استعجاله ولا في البحث عنه؛ لأنه معلق بانتهاء الحرب العالمية فيما قدرناه.
ووجد صديقنا المازني عمله ناظرا للمدرسة المصرية الثانوية، ولبثت أنا بالقاهرة أترقب أوائل الشتاء لأعمل فيما يتهيأ من عمل أرتضيه، أو أزمع الرحلة إلى أسوان.
وكنت أحسبني مترقبا على غير جدوى؛ لأن ركود السياسة الوطنية في إبان الحرب قد ذهب بالصحف اليومية، التي كانت تنطق بألسنة الهيئات السياسية، ثم هبطت أزمة الورق بالصحيفتين الباقيتين - وهما المقطم والأهرام - إلى ورقة واحدة في صفحتين لا متسع فيها لغير البرقيات، وأنباء الدواوين، وما هو من قبيل «المحتويات» التقليدية في الوقائع المصرية، فاكتفت كل صحيفة بمن فيها من المحررين والمترجمين ...
وكنا «نفد» على المدينة من «حي» الإمام الشافعي مرة كل أسبوع، وكان يوم السبت على الأغلب هو موعد هذه الزيارة الأسبوعية؛ لأنه يوم متوسط بين بطالة الجمعة وبطالة الأحد، فلم أكد أقبل على المكتبة التي كنت أتردد عليها في هذه الزيارات حتى تلقاني صاحبها قائلا، بل صائحا: أين أنت يا أستاذ؟ إن الأستاذ عبد القادر حمزة قد حفيت قدماه وهو يأتي إلى المكتبة ويعود ليسأل عنك وقد يئس من لقائك، فأوصى الأستاذ «عبد المؤمن كامل الحكيم» بالبحث عن مكانك، والاتصال بك في شأن هام كما قال، وقد كان الأستاذ عبد المؤمن هنا الساعة، وترك عنوانه لدينا، وكتبت له عنوانك كما أعرفه بالإمام، ولا أدري في أي مكان هو بأنحاء الإمام ...
وعلمت بعد لقاء الأستاذ عبد المؤمن أنني مطلوب للتحرير في صحيفة «الأهالي» بالإسكندرية، وأنني أستطيع أن أعد نفسي للسفر خلال أسبوعين أو ثلاثة، وعنده تفويض بتسليمي مرتب شهر وما أطلبه من تكاليف السفر، وعنده كذلك تفويض بمراجعة الصحيفة في تقدير المرتب، إن كنت لا أرضاه.
قلت له: لا حاجة إلى المراجعة الآن، ولعلها في الإسكندرية أجدر وأيسر، وانثنيت يومئذ إلى الإمام لإعداد حقيبة السفر، واختيار ما أحمله معي من الكتب إلى الإسكندرية، والاستغناء عما هو معد للبيع في يومين أو ثلاثة، ولم يكن طلابه بالقليلين في تلك الآونة ... لانقطاع البريد الأوروبي في الفترات بعد الفترات على غير انتظام.
كانت في الثغر الإسكندري ثلاث صحف يومية هي البصير، ووادي النيل، والأهالي.
وكانت «البصير» صحيفة القطن والتجارة، لا تعرض للبيع في خارج الإسكندرية، ولا تعرض للبيع في الإسكندرية نفسها إلا على مقربة من البورصة ومخازن الميناء، وكانت الصحيفة تعيش باشتراكات التجار والسماسرة، ورسوم الإعلانات القضائية من المحاكم المختلطة، ولا تذكر فيها شئون السياسة المصرية إلا كما تذكر صحيفة «خارجية».
وكانت «وادي النيل» صحيفة المجلس البلدي، أو صحيفة المناورات والمنازعات بين أعضائه وأحزابه، ولها - من ثم - عناية بمسائل الأسواق والدكاكين والشوارع المرصوفة وغير المرصوفة، وما إليها، فكان لها نصيب وافر من الرواج في الإسكندرية، ونصيب «لا بأس به» من الرواج خارج الإسكندرية، بعد انقطاع «الشعب» خليفة اللواء، وانقطاع «المؤيد» و«الجريدة».
أما «الأهالي» فقد كانت في نشأتها صحيفة «شبيهة بالرسمية» يشترك فيها مئات من الموظفين والعمد والأعيان؛ لأنها لسان حال رئيس الوزارة محمد سعيد باشا، وكان «محمد سعيد باشا» أحد الساسة القلائل الذين فهموا في ذلك العهد ضرورة الاتصال بالرأي العام، ووجوب الاعتماد على الصحافة في مناقشة الصحافة التي تعارض الوزارة، فأوعز إلى طائفة من أصدقائه الإسكندريين بإنشاء شركة «الطبع والنشر الأهلية»، واستهلال عملها الصحفي بإصدار صحيفة يومية تدافع عن الوزارة، وترد هجمات الصحف المعارضة عليها، فاختاروا اسم «الأهالي» لصحيفتهم عمدا؛ لأنه اسم قديم لصحيفة كان يصدرها إسماعيل أباظة باشا - رحمه الله - ولأن اسم «الأهالي» يقابل اسم «الشعب» واسم «الأمة» مصبوغا بالصبغة التي تدل على معنى «الرعية»، ولا يفهم منها معنى المقاومة والثورة.
ولم تزل «الأهالي» صحيفة الحكومة «الشبيهة بالرسمية» إلى أن سقطت وزارة سعيد باشا، وقامت بعدها وزارة حسين رشدي باشا التي أعلنت الحماية على مصر في عهدها، فلبست «الأهالي» بعد ذلك لباس المعارضة في حدود الظروف التي تسمح بها الحرب والرقابة، وكانت هذه المعارضة تقوم على أساسين: أحدهما الخصومة الوزارية بين سعيد ورشدي، والآخر إيمان سعيد بفائدة السيادة العثمانية في استنهاض الحجة «القانونية»، أو الحجة الدولية على الاحتلال والحماية، فقد كان سعيد «عثمانيا» في تفكيره وشعوره إلى اللحظة الأخيرة، وكان هو صاحب الرأي القائل بالارتباط بين البحث في مسألة الحماية، والنظر في معاهدة الصلح مع تركيا والدول المنتصرة في الحرب العالمية.
وأوشكت «الأهالي» أن تحتجب بعد اعتزال الوزارة السعيدية، وقيام الوزارة الرشيدية؛ لأن مشتركيها من الموظفين والعمد قطعوا اشتراكها، ثم جاء كساد الصحافة بعد فرض الرقابة عليها، ونشوب الحرب العالمية، فطواها فيما طواه من الصحف المهملة أو المعطلة، ولكن ظروف الحرب أنقذتها بعض الإنقاذ من حيث لا تحتسب؛ لأنها حصرت الإعلانات في أيدي شركة تحتكر الإعلانات القضائية من المحاكم الوطنية، وتتعهد للأجانب بنشر إعلاناتهم في صحيفة إفرنجية وأخرى مصرية، فكانت «الأهالي» هي الصحيفة التي تتسع لنشر تلك الإعلانات في ملحقاتها، وعندها بقية من الورق المخزون غير الورق الذي تدبره الشركة، ولولا ذلك لما استطاعت أن تعيش سنة بعد ذهاب الوزارة السعيدية، وانقطاع الاشتراكات عنها في ذلك المعترك العصيب.
وبقيت في تحرير «الأهالي» إلى نهاية الحرب، وظهور الدعوة الوطنية على يد الوفد المصري بقيادة سعد زغلول، وافترقت الخطة العامة بين الصحيفة والوفد، فتركتها وعملت في الصحيفة التي كانت تجري يومئذ على تلك الخطة، وكانت فاتحة عصر جديد في حياة مصر، وحياة الصحافة وحياتي الصحفية، يقترن بتاريخ النهضة الحديثة فيما علمت من ظواهرها وخوافيها.
ذكريات وشخصيات
صديقي المازني
صديقي المازني أحوج الأدباء إلى التعريف بحقيقة فضله؛ لأني ما رأيت أحدا من المعجبين به إلا وهو يجهل بعض مزاياه ... وليس ذلك لخمول في الذكر، فقد بلغ - رحمه الله - من الشهرة غاية ما يبلغه الأديب في البلاد العربية.
وليس ذلك لغموض في النفس يباعد ما بين ظواهرها وبواطنها، فما عرفه أحد من طول المعاشرة إلا عرف أنه من أصفى الناس سريرة، وأشبههم ظاهرا بباطن، وجهرا بخفاء.
ولكنه لم يعرف بحقيقة فضله - أو بكل حقيقة فضله - لسبب غير الخمول وغير الغموض، وهو قلة الاكتراث والاكتفاء بأيسر ما ينال، وبعضهم يسميها «ملكة السخرية»، ويخيل إليه أنها على مثال السخرية التي اشتهر بها بعض المفكرين الساخرين ... ولكنها فيما أعتقد تشبه السخرية وليست هي بها؛ لأنها تخلو في جوهرها من نكاية السخرية التي تلازمها، فلا تنطوي على النكاية بأحد، ولا تدل على حب للنكاية.
وإنما هي على ما عرفتها واختبرتها، شيء آخر غير السخرية، وإن كانت شبيهة بها:
هي حب المعاكسة البريئة، أو هي الدعابة التي لا ضير فيها على أحد، ولا فرق بين الدعابة على النفس والدعابة على الآخرين.
لم يكن يبالي أن يبرز خير ما عنده، ولم يكن يبالي أن يقدح في أدبه وفنه بقلمه ولسانه، فيسبق المنكر والحاسد إلى القدح والإنكار، وبذل الجهد والعناء ...
لقد كان يرى أن حقائق الدنيا كالخيال؛ لأن غايتها إلى أمل أو ذكرى، وكلاهما خيال ... فليكن متاعه بها ونصيبه منها خيالا بغير عناء ...!
وكان يرى أن الناس يضنون بثنائهم كأنه شيء لا غنى عنه، فكان يريهم أنه في غنى عنه فعلا، وكأنه يقول لهم: «إن استطعتم فقولوا في أدبي وفني، وفي شخصي وسيرتي أكثر مما أقول.»
ويحسب بعضهم أنها فلسفة حياة، ويحسب الآخرون أنها «مظهر» من مظاهر التحدي التي يواجه بها الناس.
وليست هي بفلسفة وليست هي بمظهر، هي طبيعة فيه عهدتها منه في غير عالم الكتابة، ولم تفارقه منذ صباه، كاتبا أو غير كاتب، وغاية ما هنالك أنه كان يطاوعها حينا فيسترسل فيها، وأنه كان يكفها حينا فلا تظهر كل الظهور ... كان ولعه «بالمعاكسة البريئة» تسليته الكبرى .
ولست أحصي ضروب هذه المعاكسات التي كان يرتجلها ارتجالا في أكثر الحالات، ولكنني أذكر حادثا منها له اتصال بجانب نفسي في تاريخ حياته، وهو من قبيل الوقائع التي تفسر الأقوال، أو تفسر مذاهب الكتابة التي يسميها بعضهم فلسفة حياة.
قل من يذكر أن المازني شغل بالموسيقى في عنفوان شبابه، وأنه تعلم العزف على «الكمان»، وتلقى دروسا كثيرة فيه، واستطاع أن يوقع بعض البشارف، وأوشك أن يحسب فيه من مهرة العازفين.
وكنا نقضي السهرة ذات ليلة في ناد كبير من أندية الموسيقى والغناء، وطابت السهرة إلى ما بعد منتصف الليل، وكان يبيت يومئذ بمنزله على مقربة من الإمام، ولم يكن خط الترام قد وصل بعد إلى الإمام، وقد كان الترام الذي يذهب إلى تلك الجهة ينقطع قبل ذلك الموعد على كل حال.
وودعته وهو يتفق مع حوذي ليوصله في مركبته، مركبة خيل؛ لأن السيارة لم تكن شائعة في تلك الأيام.
وكان الجو ليلتها رائقا والقمراء في أوانها، وسكون الهزيع الثاني من الليل يغري بالغناء.
ويظهر أن الحوذي - حين رآنا نخرج من النادي الغنائي - قد بدا له أننا من هواة السمع، فلا حرج عليه إذا طرب وأطرب، وراح يتغنى بما شاء من «الطقاطيق» التي يهواها، ولم ينس أن يعتذر إلى «زبونه» بعد أن رفع عقيرته بالغناء: لا مؤاخذة يا سيدنا البيه، إن محسوبك من هواة السمع، وإني ... وقبل أن يمعن في الاعتذار، بادره «الزبون» قائلا: خذ راحتك ... «أنا والله أحب أسايرك!»
فلم يملك الحوذي نفسه من الطرب والارتياح؛ لأن الجواب الذي سمعه جزء من «الطقطوقة» التي كان يغنيها، وراح يغني تارة ويردد قصته التي بدأ فيها تارة أخرى، وخلاصتها أنه كان - لهوايته السماع - يختار موقفه إلى جانب «تخوت الآلاتية»، ويسترق السمع بين لحظة وأخرى كلما استطاع الإفلات من رقابة البوليس.
وانجلى الحوذي، وخلا له الجو بعد باب السيدة عائشة، ونسي البوليس والزبون، ومضى كأنه في ليلته يود ألا تنقضي به الطريق.
وتدرك أخانا المازني تلك الشنشنة التي لا تفارقه، ويوحي إليه الموقف بالخاتمة الصالحة لهذا «الفصل الغنائي»، الذي أقحمه الحوذي عليه، فأفسد عليه في آخر الليل ما سمعه في أوله: إن المطرب المقتحم قضى ساعة، وهو يقول في الطقطوقة التي يغنيها: «لما أشوف آخرتها معاك ...»
فماذا لو كانت آخرتها أن يلتفت عند خاتمة المطاف فلا يجد الزبون؟
خطر الخاطر فلحق به التنفيذ، وخلت المركبة والمطرب المشغول بغنائه لا يدري؛ لأن خلو المركبة وإخلاءها بذلك الحمل الذي كان فيها يستويان ...!
والتفت الحوذي بعد أن طالت الرحلة، ولم يستمع من الزبون صوتا ولا أمرا بالوقوف ... فطار ما في دماغه من الغناء، وامتلأ بكل ما وعاه في حياته من البذاء.
ولا حاجة بالقارئ إلى ترديد ما ألقاه من لسانه في ذلك الخلاء، وليس من حوله أحد يجيبه إذا استدل به، وغريمه الباحث عنه هو دليله الوحيد.
ويزورني الصديق في اليوم التالي فيسألني: «أتذكر شكل الحوذي الذي ركبت معه بالأمس؟»
قلت: «لا أظن أنني أحقق شبهه، فلماذا تسأل عنه؟ هل فقدت شيئا عنده؟»
قال ضاحكا: «كلا ولكنه هو الذي فقد!»
فلم أفهم ما يقوله وسألته: «وماذا فقد؟»
قال: «فقدني أنا ...» وقص علي تفصيل تلك القصة التي أجملتها هنا بعض الإجمال! •••
انقضى أربه من المعاكسة، وجاء دور الرحمة بذلك المسكين، فإذا هو مهموم بالبحث عنه لإعطائه أجره الذي خيل إليه أنه قد ضاع بغير أمل، فقلت له: إن حوذيا بهذه الصفة لا بد أن يكون معروفا بين زملائه في موقفه وغير موقفه، فهلم إلى الموقف نبحث عنه هناك!
ولم يخطئ ظننا في جدوى البحث هناك؛ لأن القصة كانت حديث زملائه جميعا، وإن لم يكن هو في الموقف تلك اللحظة، فأخبرناهم أين يجدنا إذا عاد، ولم نلبث طويلا حتى أقبل الرجل يهرول، وهو لا يصدق أن زملاءه قد صدقوه الخبر، فلما رأى صاحبه بالأمس أقبل عليه متهللا، وتناول منه ضعف أجره الذي كان يطمع فيه ...!
وانصرف وهو يدعو له ويقسم نادما: «لا عدت إلى الغناء أبدا وأنا مركب» ...
وإلا «فعلى روحي أنا الجاني!»
قال الصديق العزيز: «بل تغني ما شئت، ولكن تعطي وجهك للسميع!» ... هذه هي «المعاكسة البريئة» التي لزمت صديقنا على صور شتى من صباه إلى أخريات أيامه، وتزداد بها الفجيعة أن نذكرها، فنذكر أي نفس طفلة - أي طفولة من طفولة العبقرية الخالدة - قد عاجلها الحمام.
بهذه الدعابة البريئة - التي لا ضرر فيها على أحد - كان المازني يستقبل الدنيا، ويحتمل نقائضها ومفارقاتها، ويعفي نفسه من الجهد الذي يبرز للدنيا خير ملكاته، بل يحاول أن يستر هذه الملكات بيديه غير آسف على شيء!
قادر على نفسه
على أن المازني يصحح في هذا الباب خطأ يقع فيه أولئك الذين يحكمون على الأطوار النفسية بظواهرها وعناوينها، فيحسبون أن طبيعة الاستخفاف تقترن دائما بالعجز عن الجد، وصرامة الأخلاق.
والواقع أن الذين عاشروا المازني وخبروه يعلمون أنه من أقدر الناس على نفسه، وأصبرهم على رياضة طبعه، وأشدهم جلدا على مواقف الشدة والصرامة، وقد عانى من شدائد الأيام ما يقصم الظهر ويغشي آفاق الحياة بالظلام، فلم يكن يتغير لمن يلقاهم ويلقونه في هذه الأحوال إلا بالإكثار من المرح والتبسط ... فلا يعرف جليسه أنه في شدة إلا إذا تحول مزاجه إلى التكلف المحسوس.
وأنا أعلم من عاداته أنه كان مفرط الحس بالشم في مطلع شبابه على الخصوص، وكنا نمشي مسافات طويلة لتجنب المرور ببعض الأماكن التي تنبعث منها روائح الحانات والنفايات، ولكنه راض نفسه نحو ساعة على احتمال رائحة من أبغض الروائح إلى الأنوف؛ لأنه أراد أن يلقي درسا حاسما على محبي «الشيطنة» من التلاميذ.
وكان أولئك التلاميذ يجهلونه، ويجهلون أنهم يحاربونه في ميدانه حين يعمدون إلى ضروب المعاكسات المدرسية التي يغيظون بها طائفة من المعلمين، فانتظروا حصته ووضعوا في المخابر حمضا كريه الرائحة لا يطاق في مكان محصور، وسبق إلى وهمهم أن الحصة ستضيع في السؤال والجواب عن هذه الرائحة وعن مصدرها وعن واضعها، وعن المكان الذي جاء به منها - وهو بطبيعة الحال معمل الكيمياء في المدرسة - ولكنهم لم يلبثوا هنيهة بعد دخوله إلى الفصل حتى أدركوا أنهم في وهم بعيد؛ لأنه لم يسأل ولم يغضب ولم يبد عليه أنه فطن لشيء غريب، ولم يزد على أنه مضى بنفسه إلى النوافذ، فأغلقها وإلى الباب فأغلقه، وأخذ في الدرس وهو على أتم راحة ونشاط، وكلما اشتد الضيق بالشياطين الذين انقلبت عليهم فعلتهم تصايحوا يسألونه فتح النوافذ والأبواب، وهو يزعم لهم في جد وسكون أن الحجرة المغلقة أصح من تيار الهواء، وكان ذلك هو الامتحان الأول والأخير!
ملكة نادرة ...!
وليس أعلم من المؤلفين بالمشقة التي يعانيها الكاتب إذا حاول أن يعيد الكتابة في موضوع من جديد، فإنها مشقة جهد ومشقة ملل في وقت واحد، ولكنني رأيت المازني يعيد كتابة المقرر في التاريخ لبعض الفرق الثانوية تأديبا لرجل من الناشرين خدعه في طبع الكتاب المقرر لتلك الفرق، فأعلن أنه غير راض عن النسخة المطبوعة، وأنه سيطبع المذكرات على التوالي بعد إعادة تحضيرها، وصبر على هذا الجهد الممل ليملي على إخوان الأمانة درسا في عاقبة الخيانة والخداع.
إلا أنني أظلم ملكات المازني كلها إذا رجعت باحتماله لهذه المشقة المملة إلى الإرادة دون غيرها.
فإن الذكاء المفرط في الحقيقة هو صاحب الفضل الأول في صبره على جهد الإعادة ومللها؛ لأنه كان يستطيع أن يفتح المرجع التاريخي الضخم في اللغة الإنجليزية، وأن يلخصه وهو يقرءه، وأن يترجمه وهو يلخصه، وأن يكتبه على ورق الآلة الناسخة في وقت واحد، وهي أربعة جهود يجمعها ذكاء المعلم النابغة في لحظة واحدة: جهد القراءة، وجهد التلخيص، وجهد الترجمة، وجهد التحضير، إلا أن السرعة في الفهم والترجمة الصحيحة أهون ما في هذه الملكة النادرة ...
وأقول: النادرة، وينبغي أن أقول الوحيدة، في تاريخ الآداب العالمية، فإنني لا أعرف في آداب المشرق أو المغرب نظيرا للمازني في هذه الملكة التي أسميها بعبقرية الترجمة.
إنه يترجم النثر في أسلوب كأسلوب الجاحظ وخالد بن صفوان، ويترجم الشعر في أسلوب كأسلوب البحتري والشريف، ثم لا يخرم في ترجمته حرفا من اللفظ، ولا لمحة من المعنى ... بل يأتي بالمقالة المترجمة أو القصيدة المترجمة في طبقة التأليف أو أعلى وأبلغ، ويعرض لك قصيدة الشاعر الأوروبي - العالمي - بلغة عربية لا يزيد عليها صاحب القصيدة شيئا لو أنه نظمها في لغة الضاد.
ولا يقل شعره المطبوع عن شعره المترجم في مزايا البلاغة والصقل والسلاسة، ومن دواعي الأسف الشديد أنه هدر وأنكر على نفسه الشاعرية، ومن دواعي الأسف الشديد أن عبقرية الترجمة التي انفرد بها لم تجد من ينفع بها العالم العربي، ويغني الفقيد بعمل من أعمالها الخالدة عن كتابة الضرورة أو كتابة الظروف ...
ولا تقل عن ملكة الترجمة فيه ملكة أخرى من أنفس الملكات التي يرزقها الأديب والفنان، وهي ملكة الملاحظة الدقيقة، والتعبير السهل القريب عما يلاحظه من المشاهدات والمناظر عن عرض أو روية.
كنز زاخر
ونعود فنقول: إننا نأسف أشد الأسف؛ لأن الفرص لم تهيئ له أسباب النفع بهذه الملكة في غير الأعمال الصحفية العاجلة، ولو تيسرت له موارد العيش، واستطاع أن يتفرغ للتأليف الذي يريده لأمتع الناس بالعجب العجاب في هذا الباب، ولظفر العالم العربي بثروة المازني كلها، وما أنفسها وما أجلها إذا كان هذا الذي اتسع له وقته وتهيأت له أسبابه جد نفيس جليل.
كنز زاخر ضيعنا منه ما ضيعنا وهو فيما بيننا، فإن تعلمنا شيئا من العبر فلنتعلم كيف نصون ما أبقاه، فإنه لخليق أن يبقى بقاء العربية في حرز أمين، وحسب العربية من فضله على أدبها أنه أثبت لها القدرة على مجاراة أحدث الآداب بأسلوبها الصحيح السليم.
ذكريات مع الذكريات
وأي ذكريات؟ وكم من ذكريات؟ وما أكرمها ذكريات ...!
إنها ذكريات الصبا في بواكيره ...
إنها ذكريات الأخوة في حماسة الدعوة الأولى إلى الرأي والمذهب.
إنها ذكريات المشاركة في الجهاد الوطني على خلاف أو على لقاء.
إنها ذكريات العطف المتبادل والفكرة المتجاوبة في جميع الحالات.
ومهما يكن من معرفة عامة يعرفها القراء عن أديبهم المازني، ففي مجال تلك الذكريات أحاديث لا تحصى ...
لكن هذه «الشخصية» المحبوبة: شخصية إبراهيم الكاتب وشخصية أبي خليل الصديق، تعفيني من كل حيرة في موقف الاختيار بين تلك الذكريات، ولا فرق فيها بين ما يقال: أنه شخصي خاص، وبين ما يقال: إنه ترجمة من حق النقد وحق التاريخ. وهكذا تكون «الشخصيات» التي يقول النقاد: إنها «مطبوعة في الصميم»، كل ما تعمله أو تقوله خاصة يعين الناقد والقارئ على فهمها، وتفسيرها في مجالها الفسيح الذي تتصل فيه بعالم القلم، وعالم التاريخ ...
لقد كان المازني الذي يسخر من كل شيء، ويخرج لسانه لعابري الطريق هو المازني الذي يسمي كتبه في أخريات حياته ب «قبض الريح» و«صندوق الدنيا» و«عالماشي» و«حصاد الهشيم»، وهو المازني الذي أعجبه ذلك الشاعر الذي أوصى أن يكتب على قبره هذان البيتان:
أيها الزائر قبري
اتل ما خط أمامك
ها هنا فاعلم عظامي
ليتها كانت عظامك
كأنه يخرج لسانه من تحت التراب لزائر القبر الذي يقرأ - وهو غافل - ما يحدثه به الدفين المزور.
في كل ذكرى من تلك الذكريات الشخصية صورة من صور الدعابة، التي لا يفوتها الاحترام والاستخفاف الذي يعرف مواطن الإعجاب والتقديس.
وكان صديقنا المرحوم عبد الرحمن شكري يقول له فيما بيننا بالإنجليزية ... حين نسمع تعليقاته على ما نقرأ شعرا ونثرا: إن فيك يا أبا خليل لشيئا ملكيا عفريتيا بلا افتراق
Angelic Impish ، وكان هو - طيب الله ثراه - لا يرفض هذا الوصف، ولكنه يجيب عليه تارة إجابة الملائكة، وتارة إجابة العفاريت!
وكان موضع العجب من أمر صديقنا المحبوب المهيب أنه - على دعابته - لم يكن يفقد احترام عارفيه على أوفاه، وأنه مع استخفافه لم يكن يستخف بمواضع التقديس والإعجاب.
كان - رحمه الله - قصير القامة يظلع في مشيته، وكان يدرس التاريخ والترجمة في مدرسة ثانوية اشتهرت بتلاميذها المتمردين؛ لأنها كانت مدرسة أهلية تجمع الذين تجاوزوا السن في المدارس الأميرية، أو طردوا منها لسوء السلوك، ولم يكن أيسر من اجتراء هؤلاء على مدرس شاب قصير القامة يظلع في مشيته ولا يبالي كثيرا بزيه، ولكنه كان على نقيض ذلك مهيبا عندهم إلى حد المخافة، وكان لقب «تيمورلنك» هو اللقب الذي اختاروه له من دروسه في التاريخ!
ولعله كسب منهم هذا اللقب بعد امتحان أو امتحانين، ففهموا بعد الامتحان أي رجل هذا الهزيل الضئيل الذي حاولوا - على غير معرفة به - أن يجترئوا عليه؛ لأنهم فهموا أنه رجل يملك زمام نفسه، فلا يستعصي عليه أن يمتلك زمام الآخرين، وأنه رجل كفء لعمله على مثال لم يعهدوه بين عشرات المدرسين.
وبهذه الكفاءة، وتلك الإرادة، أصبح مدرسهم الهزيل «تيمورلنك» زمانه المخيف، والمحبوب. •••
ولم تكن المدرسة هي الساحة الوحيدة المختارة لهذه الدعابات، بل كانت كل مفارقة يلقاها على ثقة بالجواب السريع لفصل من هذه الفصول.
دخل إلى صيدلية يشتري حامضا من الحوامض السامة التي تستخدم في المنازل للتطهير، وتقضي التعليمات على الصيادلة أن يسألوا من يشتري المادة السامة عما يستعملها فيه، فسأله الصيدلي حسب التعليمات: لماذا تريدها يا أستاذ؟
فلم يجب الأستاذ، بل نظر إلى الصيدلي ورفع إبهامه إلى فمه متلمظا كأنه يقول: أشربها.
وكان الصيدلي الظريف كفؤا لزبونه الساخر، فناوله القارورة وهو يقول: قدحان مرة واحدة كفاية يا أستاذ! •••
وقد كانت دعابة صديقنا الودود سلاحا ماضيا يدفع به الأذى، كما كانت سلاحا حاضرا يطرف به الأصدقاء، وكنا جميعا «المازني وشكري وأنا» عرضة للإساءات السخيفة نتلقاها ممن هب ودب من أنصار القديم، ومنهم من كان يتميز غيظا من دعوتنا، ويتحرق شوقا إلى الفرصة التي تهيئ له سببا من الأسباب للغض من هؤلاء «الطالعين فيها»، كما كانوا يصفوننا في لغو الحديث.
ولقد ثقلت هذه الإساءات على مزاج أحدنا - شكري - فسئم لقاء الناس، وانطوى على نفسه بعيدا عن المجامع والمجالس، إلا من تدعوه ضرورة العمل إلى لقائه ...
أما «أبو خليل» فقد كان بدعابته الحاضرة أمضى سلاحا من أن يتراجع أمام المسيئين أو أمام الإساءات، ولم يكن أخبر منه بأساليب الانتقام العاجل ممن يخيل إليه أنه سيخنقه بالفصول الباردة: الفصول التي تحرج المقصود بها؛ لأنه لا يدري كيف يحتج عليها ولا كيف يسكت عنها. •••
خرجنا ذات مساء إلى ضاحية القبة نتنسم هواء الربيع، وكان لنا صديق يسكن في تلك الضاحية، فلما مررنا به وجدناه بين فئة من صحبه وجيرانه على باب داره، فلبينا دعوته، ولما يكد يستقر بنا الجلوس وإذا بواحد من الحاضرين يتصدى لتوزيع السجائر، ويتخطاني ويتخطى المازني عمدا ليسيء إلينا بهذا الإهمال ... وقبل أن أفرغ من سؤال نفسي: ماذا عسى أن يصنع أبو خليل مع هذا الذي خيل إليه أنه يفحمنا بإساءته، وأنه حر في إفحامنا بها؛ لأنه حر في سجائره يحيي بها من يشاء ويهمل من يشاء ... إذا بالدعابة الحاضرة - تحت الطلب - تسعف أبا خليل، فيمد يده إلى علبة السجائر، ويذهل صاحبها فيسلمها إليه، ويأخذها أبو خليل فيناولني سيجارة ويتناول أخرى، ويضع اثنتين على المنضدة، ويقول لذلك المخلوق المذهول: هاتان السيجارتان للدورة الآتية ... لأننا لا نريد أن نراك مرة أخرى ...
ثم يرفع رأسه كأنه تنبه من سهوة عارضة، ويقول في غير اكتراث: لا مؤاخذة! حسبتك خادم الدار، ولولا ذلك لطردك صديقنا الكريم. •••
ولقد شهد هذه الفصول المازنية كثيرون من صحبه الأقربين، وممن لا يعرفهم بغير تحية المزاملة في العمل أو تحية الطريق، فلم يعرضه فصل من هذه الفصول قط لفقدان الاحترام، ولم يعرضه هو - بينه وبين نفسه - لفقدان الشعور بالاحترام، وكان له قدره المرعي في كل بيئة نزل فيها، ولو نزول الطارئ الراحل، وقد كانت لهذا المستخف الساخر غضبته التي لا يغضبها الكثيرون من الجادين الذين لا يعرفون السخرية والاستخفاف، فإذا مست كرامته فلا مزاح ولا هوادة، وقد استقال من وظيفته الحكومية يوم كانت الاستقالة من «خدمة الميري» شبيهة بالانتحار؛ لأنه لم يعط حقه من التقدير بين قرنائه في الديوان.
وفهم هذا الازدواج المحكم في طبيعته بين فلسفة الاستخفاف وشعور الاحترام ليس بالأمر العسير الذي عرفوه وعاشروه، إن «اللا مبالاة» عنده لم تكن نقصا في الشعور، ولم تكن وليدة النظرة السلبية إلى الحياة، ولكنها كانت عنده وليدة للشعور المفرط، وللنظرة الموجبة إلى العاطفة الإنسانية في شعابها التي لا تحصى، كان ملء النفس عطفا على الأم، وعلى الابن وعلى الأخ، وعلى الزوجة، وعلى الصديق، كان امتلاء نفسه شعورا بالواقع هو سر هذا الضيق بالجد المتصل في حالة بعد حالة، وإحساس بعد إحساس، وكانت نظرته المثالية إلى غير الواقع المتكرر هي التي جعلته يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، كما قال السيد المسيح، أو هي التي جعلته يعطي للواقع ما للواقع، وللمثل الأعلى ما للمثل الأعلى دون أن يمزج بينهما في كل حادث وكل يوم، فإذا جاء دور المقارنة بين الواقع الإنساني وبين الكمال المنشود، فهناك تتفتح الأبواب للسخرية بجميع مصاريعها، ولكنها سخرية عاطفة كسخرية الأب الذي هو أعطف الناس على ضعف وليده، وأوسعهم رجاء له في الكمال.
بهذه النظرة المطبوعة إلى الواقع وإلى المثل الأعلى استطاع أن يعرف السخرية بالواقع في حينه، وأن يعرف الغضب للقداسة التي نرفعها إلى سماء المثل العليا في كل حين.
فمن غضباته التي نذكرها تلك الغضبة التي أشرت إليها في معرض الكلام على تأليف العبقريات، وأولها «عبقرية محمد» صلوات الله عليه. •••
كنا نزور ساحة المولد النبوي على مقربة من مسكني بالعباسية، في جولة من جولاتنا التي كنا نسميها بالتفتيش الفني على أحياء المدينة، فذكرنا مقال البطولة النبوية، وكتاب الأبطال للفيلسوف الأيقوسي توماس كارليل، كان يعرف إعجابي بما يكتب ذلك الفيلسوف، فقال: ولم لا تكتب أنت ذلك المقال من جديد، ونحن أولى بهذا الواجب من كتاب الغرب، مهما يكن من إخلاصهم في تقدير البطولة المحمدية؟
وكان في الجماعة فتى متحذلق يحسب أن حرية الفكر إنما تقاس بمقدار التطاول على المقدسات الموقرة، وعلى مقدساتنا نحن دون سائر العالمين ... ففاه بكلام هازل يشير به إلى السيف وإلى الزوجات الكثيرات ... وما راعنا إلا المازني الوديع الساخر ينتفض غضبا كأنما لمسته لفحة من وقود مضطرم، وإلا حركة يوشك أن يتبعها عمل وهو يقول تعقيبا على صيحتي في وجه ذلك الدعي المتحذلق: كلا، كلا، إن هذا الهجر لا يثبت الحاجة إلى الضرب بالسيف في نشر الدعوات، إنه ليثبت الحاجة إلى ما هو أصلح من ذلك لداء البذاءة والقحة ... إنه الضرب بالحذاء توفيرا للسيف عن مثل هذا المقام ...!
على أن الزمن قد كان يصنع صنيعه في هذا المزاج الذي وفق هذا التوفيق العجيب بين الجد والقداسة، وبين السخرية و«اللا مبالاة» في عالم الأدب الخالد، وفي عالم المعيشة العارضة من يوم إلى يوم، فكان من صنيع الزمن أنه لم يزل يوسع المسافة بين الواقع والمثل الأعلى عاما بعد عام، حتى كاد أن ينتهي بها إلى الطرفين المتقابلين، فلم يكن للواقع عنده في أخريات أيامه نصيب غير التحدي والسخرية والاستخفاف، ولم يكن فيه غير باطل الأباطيل، وغير النظرة «عالماشي» وغير التفويت والإغضاء ... ولم يكن في أكثر الأحايين أهلا للمصالحة بينه وبين المثل الأعلى فوق عرشه الرفيع من وراء المنظور والمأمول. •••
وسكنت في طويته قوة النضال حتى عاد بشيء من الندم إلى نضاله القديم، وحتى استكثر الرد على من ينكرون حقه ويجحدون فضله، حيث هو أحق وأجدر بالاعتراف، وأحق وأجدر بالفضل والتفضيل.
فما كان إنكاره لشعره - فيما أعلم وأعتقد - إلا تحديا منه للإعجاب والاستحسان، ممن يظنون أنهم ينعمون عليه بإعجابهم واستحسانهم، ويسلبونه نعمة يتكالب عليها بما ينكرونه عليه، أو يبخسونه، مؤمنين ومكابرين متعنتين ...
وفي هذه الفترة كان يقول ما يقوله وهو لا يبالي أن يحسب جوابه من الجد، أو يحسب من المزاح: إنني في مصنع النجارة الفني أعطيكم ما تطلبون، وما بالي أعطيكم كرسي الصالون وأنتم تطلبون كرسي المطبخ؟! أو أسومكم ثمن الدولاب وأنتم تبذلون ثمن الصندوق الصغير؟! وخدعته قبل أن تخدع غيره سهولة الكتابة عليه، فنسي أن السهل الممتنع هو الذي يستطيعه مثله بلا مبالاة ... ويطلبه سواه، بكل ما في وسعه من مبالاة، فلا يقدر عليه. •••
كان يجلس إلى المرقم «التايبرايتر» ليكتب القصة أو المقال المطلوب، ساعة الطلب بغير تحضير ... وكان يكتبه في جلسة واحدة ويختمه مع ختام الورقة الأخيرة، فيحس القارئ أنه لم يقل كل ما عنده، ولكنه يحس كذلك أن الذي قرأه كاف، واف، أو يزيد على الكفاية والوفاء.
وهنا - أيضا - نعلم الفارق بين «اللا مبالاة» السالبة و«اللا مبالاة» الموجبة التي تغنيها القدرة عن جهد المبالاة ...
ربما كانت سهولة الكتابة على المازني تقنعه هو نفسه بأنه غير مكترث بما يكتب، ولكنه ينسى أن هذا الذي يكتبه بغير اكتراث يحاوله المكترثون جهدهم فلا ينتهون إليه، وأحسب أنني قرأت له المقال الذي كان يكتبه في نصف ساعة، وقرأت له من قبل ذلك مقالات كان يكتبها ويعود إليها في ساعات، فكان أجود ما كتبه من ثمرات السرعة البالغة، سرعة الكاتب الذي يقول: إنه «لا يبالي»، ولكنه يبلغ غاية الشوط من «مبالاة» الآخرين ...
وهذه هي عبقرية المازني التي لا تجارى، عبقرية تعطي وقائع اليوم حقها، ولا تنسى حقوق المثل العليا في سماواتها، وهي على هذا تعطينا نموذجا منها في النكتة مع التلميذ والصاحب وعابر الطريق، كما تعطينا نموذجا منها في ثمرات الفن والأدب، وتشعر وهي تستخف وتسخر كما تشعر وهي تقدس وتجد؛ لأنها فيما «تباليه» وما «لا تباليه» إنما تصدر عن فرط شعور وعن تمييز بين مواطن النقص ومواطن الكمال.
عبد الرحمن شكري
عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه اطلاعا على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية وما يترجم إليها من اللغات الأخرى.
ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت عنده علما به وإحاطة بخبر ما فيه، وكان يحدثنا أحيانا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ.
وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة، نافذ الفطنة، حسن التخيل، سريع التمييز بين ألوان الكلام، فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير ويميز منه ما يستحسن وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات، يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال.
لم يسبقه أحد فيما أذكر إلى تطبيق البلاغة النفسية - السيكولوجية - المستمدة من أدب الغرب على ما يقرءه من شعر الفحول في اللغة، ولعله أول من كتب في لغتنا عن الفرق بين تصوير الخيال
Imagination
وتصوير الوهم
Fancy ، وهما ملتبسان حتى في موازين بعض النقاد الغربيين، ومن ذلك التفرقة بين تشبيه الشفق، والفجر بدم الشهداء في قول المعري:
وعلى الأفق من دماء الشهيدي
ن علي ونجله شاهدان
فهما في أواخر الليل فجرا
ن في أولياته شفقان
وبين تشبيه ابن الرومي للأصلع حيث يقول:
فوجهه يأخذ من رأسه
أخذ نهار الصيف من ليله
فالأول وهم في خاطر المعري، لا يلتفت إليه أحد غيره لو لم يذكره، والآخر خيال مطبوع يخطر لكل بديهة مصورة تتقن من التشبيه ما يتقنه الشاعر، وقد كان يشمئز من بيت الوأواء الدمشقي:
فأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت
وردا وعضت على العناب بالبرد
ويقول: إن نسبته إلى يزيد بن معاوية بلاء فوق طاقته، فلا تجمع عليه «بين قتل الحسين وقول هذا الشعر الذي لا بأس به إذا أريد للفكاهة والعبث لا للغزل.»
وكذلك كان يحسب من المزاج الغث قول الأنباري:
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوب السافيات
وهو معدود من عيون الرثاء عند من ينظرون إلى اللفظ ولا ينظرون إلى بواعث الرثاء من النفس الإنسانية، فمثل هذا الرثاء يقال للمكايدة أو للعبث، ولا ينم على حزن دخيل، ولا تقدير مفيد.
شكري الشاعر
ولم يكن أمتع من الاستماع إلى شكري وهو يقرأ القصيدة العربية أو الأوروبية، ويعلق عليها بيتا بيتا أمثال هذه التعليقات ... وما كتبه من النقد في مؤلفاته قطرة من بحر من تلك الآراء النفيسة، التي كان يرسلها عفو الساعة ولا يعنى بتقييدها.
وقد نظم شكري سبعة دواوين من الشعر، غير القصائد التي لم ينشرها وتمتلئ بها كراسة في حجم ديوانين آخرين أو أكثر، فمن تخير من هذه الدواوين المنشورة وغير المنشورة أمكنه أن يجمع منها زبدة من أجمل الشعر تضارع صفوة القول في كلام كبار الشعراء، وقد كانت له قدرة على رياضة النظم كما نرى في ترجماته لبعض رباعيات الخيام، فإن الترجمة أدل على قدرة النظم من التأليف لتقيد الناظم بالمعاني المنقولة التي لا يتصرف فيها، فقد أحسن فيما نقله من الخيام غاية الإحسان حيث يقول:
هاج للقلب جدة الحول أشجا
نا لديه قديمة العهد
تأنس النفس بالتفرد والوحد
ة في ظل عيشه الرغد
حيث تحكي الأزهار راحة موسى
في بياض النوار والورد
وله نفحة كأنفاس عيسى
باعثات للميت من لحد
أو يقول:
إرم قد عفت وصوح قدما
في رباها الربيع والزهر
كأس «جمشيد» قد مضت حيث لا حي
ث لدينا من أمرها خبر
لكن الكرم لا يزال جوادا
برحيق حبابه در
ولنا منزل على الروض فينا
ن تروى أزهاره الغدر
أو يقول:
هات لي الكأس يا حبيبي دهاقا
لا تطع عاتبا كئوس العقار
إن ثوب الوقار ثوب شتاء
ليس يغني في الصيف ثوب وقار
اغض عنك الوقار وارم به في
جمرات للقيظ مثل النار
إنما العيش طائر بين غصني
ن فخذه مآخذ المستطار
وهذه طبقة من الطلاوة والجزالة قد سلست له في مترجماته، كانت في مبتكراته أسلس وأوفر، وقد توافرت لشكري مقطوعات أبيات في هذه الطبقة من بلاغة الأداء، وكان خليقا أن تتوافر له في كل ما نظم لولا أن التفاوت طبيعة في أعمال العباقرة والموهوبين، ولولا أنه كان قليل الاحتفاء بالمراجعة والتنقيح يرسل شعره إرسالا كما قال:
أرمي بشعري في حلق الزمان ولا
أبيت منه على هم وبلبال
ولكنه - على قلة احتفائه بالتنقيح - قد خلص له من جيد الشعر ما يسلكه في عداد المجددين من نخبة الشعراء.
وله عدا ذلك في ميدان القريض فضل الرائد الذي سبق زمانه في عدة حسنات مأثورات، فهو من أسبق المتقدمين إلى توحيد بنية القصيدة، وإلى التصرف في القافية على أنواع من التصرف المقبول، فنظم القصيدة من وزن واحد ومقطوعات متعددة القوافي، ونظمها مزدوجات وأبياتا من بحر واحد بغير قافية ملتزمة، وآثر في تجاربه الأخيرة أن يلتزم القافية مع تعديدها في مقطوعات القصيدة الواحدة، وتسنى له في جميع هذه المناهج أن ينظم الكثير من القصص العاطفية والاجتماعية قبل أن يشيع نظم القصص في أدبنا الحديث، وله فيها قصيدة اليتيم التي يقول فيها:
وما اليتم إلا غربة ومهانة
وأي قريب لليتيم قريب؟
يمر به الغلمان مثنى وموحدا
وكل امرئ يلقى اليتيم غريب
يرى كل أم بابنها مستعزة
وهيات لا يحنو عليه حبيب
إذا جاءه عيد من الحول عاده
من الوجد دمع هاطل ووجيب
كأن سرور الناس بالعيد قسوة
عليه تريق الدمع وهو صبيب
عزاءك لا يلمم بك الضيم أننا
يتامى ولكن الشقاء ضروب
فهذا يتيم ثاكل صفو عيشه
وذاك من الصحب الكرام سليب
ونذكر هذه القصيدة خاصة لسبب غير دلالتها على نماذج شعره في هذا الباب؛ إذ كانت من أسباب وجومه الذي لزمه من مقتبل شبابه، وكان من دواعي هذا الوجوم أن هذه القصيدة اختارها الأستاذ محمد أمين واصف في كتاب من كتب المطالعة مستحسنا لها، موصيا بحفظها، من دون أن يذكر اسم صاحبها، فكان هذا الإغفال مما آلم الشاعر أشد الإيلام؛ لأنه كان يفهم - كما قال لنا - أن يغفل ذكره لاستهجان شعره، فأما أن يكون الإغفال حتما عليه مستحسنا ومستهجنا، فذلك كنود عجيب.
ولقد كان بعض الإنصاف خليقا أن يلطف من وحشة الشاعر التي لازمته منذ بواكير شبابه، ولكن التواطؤ على نكران فضله بين من يعرفونه ومن يجهلونه محنة لم يكن ليصبر عليها طويلا، مع ما فطر عليه من الحس المرهف والملل السريع.
ففي نحو العشرين نظم شكري هذه الأبيات:
لقد لفظتني رحمة الله يافعا
فصرت كأني في الثمانين من عمري
وحاول مني الهم صبرا فلم أزل
أدافعه حتى أبحت له صدري
وإني لأدري أن في الموت راحة
وأجنبه حتى كأني لا أدري
ولولا تقى لا يملك اليأس صرفه
لأوردني يأسي على المسلك الوعر
وقد عاش بقية عمره بهذه الوحشة، وهذا الملل، وهذا التردد بين اليأس والرجاء، لا يدري ما يدافعه من خيبة في حياته الأدبية، ولا من خيبة في حياته الوجدانية، وكلها أثقل وأمض من أن تطاق في حالة السليم الجليد، فلما أطبقت عليه العلة الوبيلة - علة الشلل - ران عليه وجوم الأبد قبل الهرم، وقبل الموت، فترك الدنيا ومن فيها وما فيها، ولم يحفل حتى بأن يقول: إنه تركها غير مأسوف عليها ...
شكري الناثر
والشاعر الناقد (شكري) كاتب ناثر على أسلوبه ومنهجه في السهولة والسلاسة، وقلة الاحتفال بالتنقيح والتجميل، لكن نثره شعر، ونقده لا تقرأ مثله لشاعر غير ناقد أو لناقد غير شاعر.
ومن مؤلفاته النثرية كتاب «حديث إبليس» وكتاب «الاعترافات» وكتاب «مذكرات مجنون» عدا فصوله المجموعة في كتاب «الصحائف»، وكتاب «الثمرات»، وطابعها الغالب عليها جميعا أنها وحي نفسه الذي لا يشبهه فيه كاتب يطرق هذه المعاني والأغراض، فهي «شكرية» في كل صفحة من صفحاتها، وكل فقرة من فقراتها يكاد يميزها اللفظ المسترسل، كما يميزها لون الفكر والوجدان.
يقول من فصل له عن هيبة الحياة وهيبة الموت:
إننا إذا أغرينا الناس بأن لا يهابوا الحياة خفنا أن يغريهم ذلك بأن يغالوا في حب الحياة حتى يجبنوا ... وإذا نحن أغريناهم بألا يهابوا الموت خفنا أن يدفعهم ذلك إلى كره الحياة، والرغبة في التخلص منها؛ فخليق بنا أن نحثهم على أن يجعلوا بين الرهبتين موازنة كي لا ترجح إحداهما، ولكن الإنسان لا يملك صحة نفسه وسقمها ... فإن وراء رغبته في صحة نفسه عوامل لا يملك لها دفعا مثل الوراثة والتربية والبيئة، فإذا تحالفت هذه الأسباب على أسقام نفسه بأن تجعله جبانا أمام الحياة، أو جبانا أمام الموت، كان ضحية لها، ولا تنفعه نصيحة الناصحين شيئا.
وخذ ما شئت من صفحاته تجد فيها ما تجده في هذه الملاحظة من استيحاء شعوره وفكره، والاستفادة من مراقبته لنفسه ولغيره، ثم إرسال التجربة على الورق كما يرسل الحديث في مجلس السمر عفوا بلا كلفة، ولا مراجعة بين مصدره من النفس، ومورده من التعبير.
إن «عبد الرحمن شكري» شاعر ناثر نسيج وحده في فنه، ومن توحده في هذا الفن أننا نتلقى تعبيره من «شخصية» فذة لا يحكيها غير صاحبها، وإن جال به الفكر اللماح والاطلاع الواسع في كل مجال.
ولقد عرف شكري الناس معرفة أحزنته أشد من حزنه لجهلهم إياه، فإن عادوا فعرفوه فلعلهم يرضون أنفسهم بإرضائهم لذكراه ...
هؤلاء حادثتهم
نشأت وليس أحب إلي من الاطلاع على تراجم العظماء، ولكنني على فرط شغفي بالاطلاع على تراجمهم لم أشعر قط نحوهم بذلك الشعور الذي يغلب على كثير من الناس، وهو شعور الميل إلى رؤيتهم والاتصال بهم، إن كانوا من الأحياء، وقد يتفق لي أن أقرأ عن أحدهم، أو أقرأ له كثيرا من الأوصاف والآراء، ثم يصل إلى مصر وتتاح لي فرصة لقائه، فلا أكره لقاءه ولا أخف إليه، ولكنني أستطيع أن أفرض أنه لا يزال في بلاده، دون أن يكلفني هذا الفرض أقل عناء.
إنني أحب غاندي وأكبره، وقد عبر بمصر في طريقه إلى لندن، وأرادت صحيفة البلاغ أن تندبني للقائه والتحدث إليه، ومصاحبته في السفر من السويس إلى بورسعيد، فلم أنشط لهذه الرحلة، ولم أشعر بأنني أزداد معرفة بالرجل أو إكبارا لقدره إذا قضيت معه هذه الساعات.
ومرجع ذلك فيما أظن إلى أسباب شتى، منها أنني تعودت أن أرى العظماء والمشهورين في غير «هالتهم» التي تضفي عليهم ما تضفي من الغرابة، وتثير في نفوس الناس نحوهم حب الاستطلاع، أو حب الاستشفاف من وراء الظواهر والمراسم، وقد تعودت ذلك؛ لأنني نشأت في أسوان حيث كنا نرى في كل شتاء زوارا من الملوك وأولياء العهود والنبلاء، وكبار القادة والساسة ورجال الأعمال، ولكنا نراهم على أبسط ما يكونون من البساطة، فيرتفع عن أبصارنا غشاء الغرابة الذي يحيط بهم، ويغري الأنظار بالتطلع إليهم، ونقدرهم من بعيد كما نقدرهم من قريب.
كانت الصحف والأنباء البرقية تتحدث عن ملنر وكتشنر، وكان أهل أسوان يرون ملنر في قهوة بلدية، أكثر روادها من الحمالين والتراجمة والأكارين، ويرون كتشنر على دكة خشبية أمام بيت من بيوت مشايخ العرب.
وكان علماء الأرض الذين تنقل مجلات العلوم آراءهم وبحوثهم، وتعتمد عليهم الحكومة في بعوث الكشف والتحقيق يفدون إلى أسوان أحيانا، فيزوروننا في المدرسة ونزورهم، ونألف أن يكون كبار العلماء أناسا مألوفين.
ذلك سبب من أسباب.
أما الأسباب الأخرى فمنها حب العزلة الذي ورثته وطبعت عليه، ومنها أنني أتطلع إلى معرفة العظمة حقيقة لا صورة، وأحسب أن رؤية لحظة أو لحظات لا تعرفني بالعظيم إن لم تعرفني به قراءة يوم أو أيام.
لهذا لم أنشط كثيرا إلى لقاء مشاهير العالم الذين تهيأت لي الفرص للقائهم ومحادثتهم، ولم أتوسل بعملي في الصحافة إلى محادثة أحد منهم، إلا لغرض غير حب الاستطلاع أو حب التقرب من ذوي الأخطار.
فحادثت أحمد مختار الغازي، وحادثت سعد زغلول، وحادثت إميل لودفيج، وكان باعث الحديث في كل مرة سببا غير حب الاستطلاع من جانبي، أو إرضاء المستطلعين من جمهرة القراء.
أحمد مختار باشا الغازي
ومختار الغازي كما يعلم قراء التاريخ القريب بطل من الأبطال العسكريين الذين اشتهروا في حروب روسيا والدولة العثمانية.
كانت له شهرة عالمية ومكانة موقرة، وأرادت الدولة العثمانية أن تنيب عنها في مصر مندوبا ساميا ملحوظ المكانة؛ ليستطيع بمكانته - فقط - أن يوازن مركز المندوب البريطاني بما في يديه من السيطرة والنفوذ، فاختارت مختارا لهذا المنصب، وعرف في مصر باسم القوميسير.
ولم يكن له عمل في السياسة المصرية، بل كانت كل أعماله من قبيل التشريفات، وحضور الصلاة في يوم الجمعة مع أمير البلاد.
ولكنه كان يسأل: «ماذا تعمل في مصر؟» فكان يقول: «إنني احتجاج حي على وجود الاحتلال.»
ولما خطر لي أن أحادثه كان هذا الخاطر في الواقع «شيطنة شباب» ... لأنني أردت أن أنقل باسم هذا الرجل الجريء كلاما يسمع منه ولا يسمع من غيره، وكان المحمل المصري قد تعرض يومئذ لهجمة من هجمات الأعراب في طريقه إلى مكة، وكانت الجزيرة العربية ولاية عثمانية، فليس أجدر من القوميسير العثماني بأن يسأل عما جرى فيها، وبخاصة حين يجري لأناس من الحجاج المصريين في حماية فرقة مصرية.
كان مختار الغازي ضئيل الجسم قصير القامة، ولكنه كان مهيب الطلعة كأنما تشتعل في عينيه نار موقدة، فلما تحدثت إليه لم يتحفظ ولم يبال أن يقول كل ما عن له أن يقوله عن إهمال الإنجليز للقوة العسكرية المصرية، ولا أذكر تفصيلات حديثه اليوم ولا يتيسر لي أن أبحث عنه في مراجعه لنقله بنصه، ولكنني أذكر أنه قال: «إن الإنجليز أهملوا جيش مصر ، وإنني بقوة كقوة المحمل أفتح الجزيرة العربية!»
وكنت أكتب يومئذ في صحيفة الدستور لصاحبها الأستاذ الجليل محمد فريد وجدي بك، فلما رويت له ما سمعت من الغازي ابتسم وقال: «إنك لا تذكر حادثة الحدود ... فإن كلاما أقل من هذا الكلام قد أثار الإنجليز على أمير البلاد، فكيف تظنهم يتلقون مثل هذا الحديث من رجل يتبرمون به وبمركزه في الديار المصرية؟»
ونشرنا ما تيسر نشره يومذاك، ولكنه على خفته بالقياس إلى ما قيل قد أقام الدنيا وأقعدها في الدوائر الإنجليزية، وأحسبه كان من أسباب سعيهم الحثيث في نقل الغازي، والمساومة على مركزه في الآستانة.
سعد زغلول
وحديثي مع سعد زغلول خليق أن يشار إليه؛ لأنه فيما أعتقد كان أول حديث لصحفي مصري مع أحد الوزراء المصريين.
ونحن في العصر الحاضر نفتح الصحف اليومية والأسبوعية، فلا يفوتنا حديث وزاري في عدد من أعدادها المتلاحقة.
لقد أصبحت محادثة الصحفيين المصريين لوزراء هذا البلد مادة صحفية دائمة، وموردا ميسورا لكل قاصد.
ولكن صحف مصر قد عبرت في الجيل الماضي سنوات بعد سنوات، دون أن يسمع فيها صوت «ناظر» من النظار، كما كان الوزراء يسمون في ذلك الحين.
لأن النظار كانوا في عزلة عن الرأي العام، وكان الرأي العام في عزلة عنهم، فلا يجسر أحد منهم على الإفضاء بحديث عن سياسة «نظارته» إلى جمهور المصريين. •••
وعلمت أن سعدا - رحمه الله - ناظر ولا كالنظار، وأنه لا يبالي ما يباليه زملاؤه من غضب قصر الدوبارة أو غضب المستشار.
فأردت أن أحطم هذا السد بين الوزارة المصرية والأمة المصرية، وهمني أن أحادث سعدا على الخصوص؛ لأنني كنت أعجب به وأترقب لمصر نهضة وزارية على يديه، وكان في تلك الأيام عرضة لحملة جائرة من بعض خصومه، وكنت أعلم أنها جائرة؛ لأنهم زعموا أنه حارب الجامعة وهو الذي رصد لها عشرة آلاف جنيه في ميزانية الدولة، وزعموا أنه حارب التعليم باللغة العربية وهو الذي دفع الطلاب دفعا إلى مدرسة المعلمين، وجعل لهم مرتبات شهرية وهم في سلك الدراسة؛ ليخرج منهم أساتذة يعلمون الدروس باللغة العربية، وزعموا أنه مالأ الإنجليز على تقييد التعليم، وهو الذي كان يطوف البلاد من أسوان إلى رشيد لمحاربة الأمية بتعميم المكاتب الأولية.
فاتخذت من حديثي معه وسيلة لدفع الشبهات بالأسانيد الرسمية، وحصلت فعلا على تلك الأسانيد، ورأيت بعيني ما يثبت لي صدق ما ظننته في عزيمة سعد واحتفاظه بكرامته وكرامة منصبه؛ لأن المستشار العنيد - دانلوب - جاء يستأذن في عرض أوراق عليه، ولم يكن مستشار إنجليزي يستأذن في عرض أوراق، بل كان ينظر في كل مسألة بنفسه، ويعرض ما يشاء من ذلك على الوزير للتوقيع.
نشرت حديثي مع سعد في شهر مايو سنة 1908 بصحيفة الدستور، ولم أحادث سعدا باقتراح من الأستاذ الجليل صاحب الصحيفة، ولكن الأستاذ الجليل من كتابنا القلائل الذين يعرفون حرية النشر، وكثيرا ما خالفته فيما أكتب وأنا يومئذ في مطلع حياتي الصحفية، وربما ذهب في مسألة من المسائل إلى رأي وذهبت إلى غيره، فلا يرى حرجا في نشر ما أكتب كما أراه.
إميل لودفيج
أما إميل لودفيج فلم يكن لقائي له عملا صحفيا، ولا أنا أردت أن ألقاه لأنشر ما يجري بيني وبينه من الأحاديث، ولكنه حضر إلى القاهرة فأقامت له المفوضية الألمانية حفلة استقبال في دار وزيرها، وأحب أن يتعرف لهذه المناسبة إلى أناس من المشتغلين بالأدب والدعوة الفكرية من المصريين، فكنت أحد المدعوين.
وتصافحنا في مزدحم من الأجانب والمصريين والرجال والسيدات، فقال لي: إنه يود لو تلاقينا في فرصة أخرى.
وكان صديقي الأستاذ محمود الدسوقي سكرتيرا شرقيا للمفوضية الألمانية، فدعانا معا إلى اللقاء في حجرة من حجرات المفوضية وآثر لودفيج أن نتحدث على انفراد.
وأحسست من أسئلته الأولى أنه ينزع في مسائل المجتمع والسياسة نزعة اشتراكية معتدلة، فقلت: إنني أوافق الاشتراكيين في كل ما يؤدي إلى تحسين أحوال الفقراء والأجراء، وأخالفهم في كل ما يؤدي إلى حرمان الفرد حريته الفكرية والشخصية.
فقال: «حسن. حسن.» وكررها مرات.
ثم أحسست أنه قد اطمأن إلي بعد لحظات من الحديث وتبادل وجهات النظر؛ لأنه أفضى إلي بأصرح ما دار بينه وبين المصريين والأجانب من الأحاديث العامة في المسائل الوطنية والعالمية.
ثم سألني: «عندكم في مصر قوة تقدم، وقوة محافظة وجمود، وقوة بريطانيا العظمى، فأيها يكون له التغلب فيما تظن؟»
قلت: «أتسأل عن المدى الطويل أم المدى القصير؟»
قال: «بل عن المدى الطويل.»
قلت: «سيكون الغلب لا محالة لقوة التقدم.»
قال: «يسرني أن أسمع منك ذلك.» •••
واستطردنا إلى الكلام عن مؤلفاته فوجدته أقل ما يكون رضا عن قصصه، وأكثر ما يكون رضا عن تراجمه، ولا سيما ترجمة نابليون فيما أذكر، فقلت له أيضا: «يسرني أن أسمع منك ذلك؛ لأنه هو الصواب فيما أراه.»
وتركته وفي نفسي أثر من لقائه يقارب الأثر الذي استخلصته من قراءة كتبه، وهو أنه صحفي راق، وأن تواريخه وأدبياته أقرب إلى تبليغات المجلات أو تعليقاتها، وإن كانت تفوق بعض ما يكتبه المتخصصون من البحوث والدراسات؛ لأنه يكسوها طلاوة لا نجدها كثيرا في تلك البحوث والدراسات.
برنارد شو في أسوان
شمس ربيعية لم تعترف قط بالشتاء، وأرض تحمل في كل بقعة من بقاعها سمات التاريخ الذي يطوي الفصول والسنين، ونيل خالد وقور يوحي إليك أن تقيسه بألوف العهود والأجيال، ولا تقيسه بألوف الفراسخ والأميال، وجبال من حولك كأنها أسوار تدور على صومعة ناسك لا تراه بالعينين، أو كأنك تسمعه بأذنيك يقول في سكينته الأبدية: «ها أنا ذا لم أحفل بشيء في دنياك، فماذا أصابني على مر الزمن؟ لا شيء ... فلا تحفل يا بني بشيء!»
تلك هي أسوان في هذا الشتاء، وفي كل شتاء، وتلك هي أسوان التي أقضي فيها بضعة أيام - وفي وسعي أن أقول: بضعة قرون - حين تغمرني بتلك الآفاق التي لا تعرف حساب الزمن.
إجازة من عالم السياسة، ومن عالمنا الصاخب في غير طائل ...
وهل في العالم من يستغني عن هذه الإجازة من سنة إلى سنة، أو من حين إلى حين؟
ساء حظه إن استغنى عنها؛ لأنه لن يستغني عنها إلا إذا أضاع نفسه فيها.
ولقد سن لنا الله سنة الإجازة من الحياة كلها في كل يوم، فهل نستغني عنها في هذا الشغل الشاغل الذي يبغض الحياة إلى نفوس الأحياء؟
معاذ الله خالق النوم لنا «إجازة يومية» من الحياة، وليته خلق للحيوان «السياسي» بالطبع - كما يقول أرسطو - إجازة قهرية ينام فيها عن سياسته ... فإن غفلة النوم أروح له من هذه الغفلة الدائمة وهو سهران!
وبحمد الله لا أزال أعرف هذه الإجازات، وإن لم أكن في بطالة.
ألا يقدر أناس على الغفوة بعد الغفوة، وهم في وسط الحركة والضجيج؟ بلى يقدرون ... •••
وفي وسط الحركة والضجيج، بل في وسط المعمعة كما كان يفعل نابليون على ظهر جواده، أستطيع أن أغمض عيني في عالم الأحلام، فأذهب في إجازة اليوم أو الشهر أو العام.
وإنني في تلك الغفوة لأيقظ ما أكون ...
لأنني في تلك الغفوة أهيم في أحلام الشعر والفن والأدب، فلا تقوى معركة «المارن» نفسها على إخراجي من ديوان شعر، أو صفحات كتاب أغلق «أبوابه» علي!
وقلت: هي إجازة في كتاب، حين قلت لنفسي: «إلى أسوان ... إلى أسوان.»
لقد كان كتابا حسنا من وجوه كثيرة، وأحسن ما فيه أن كاتبه هو الفيلسوف «جود»، وموضوعه هو الداعية المشهور «برنارد شو» ...
فالكاتب أعظم من المكتوب عنه في أكثر من ناحية واحدة، وهي على الأقل ناحية الفلسفة، وناحية الآراء الاجتماعية ...
وإن شئت فقل أيضا: من ناحية الآراء السياسية والمبادئ الدستورية، وهي اليوم شغل شاغل للصحافة والقراء! •••
بين دوي العجلات، ودوي الدعوات، فتحت الكتاب أطوي صفحاته، والقطار يطوي الأرض «كطي السجل للكتب»، كما جاء في القرآن الكريم ...
ولم تمض أربعون صفحة حتى وجدت نفسي على أبواب البرلمان من طريق آخر: طريق الآراء والنظريات، لا طريق المعارك والأزمات!
صاحبنا الفيلسوف «جود» ينظر إلى «برنارد شو» نظرة التلميذ إلى الأستاذ؛ لأن شو كان شيخا يقود الحركة الفكرية يوم كان «جود» طالبا ناشئا يتلمس طريقه في مضطرب المذاهب والمعتقدات ...
وصاحبنا «جود» يرشح نفسه للنيابة عضوا اشتراكيا مع حزب العمال، فيكتب إلى «برنارد شو» مستشيرا قبل الإقدام على هذه التجربة؛ لأنه أستاذه في هذا الميدان؛ ولأنه زعيمه في النزعة الاشتراكية قبل عدة سنين ...
وأحسب أنني لو كنت في موضع «جود» لما استشرت الداعية الكبير في أمر من الأمور؛ لأنني على ثقة أنه يخالف كل ما تقترحه عليه، فلو كنت عضوا في البرلمان، واستشرته في الخروج منه لسخر من إقدامك على هذه الخطوة التي لا معنى لها!
ولو كنت كاتبا واستشرته في دخول البرلمان لسخر من إقدامك على هذه الخطوة التي لا معنى لها كذلك ...
لأن كل اقتراح تعرضه على الداعية الساخر لا معنى له على الإطلاق!
فلا معنى إذن لأن تعرض عليه أي اقتراح!
ولكن «جود» قد أراد أن «يسأل» على ما يظهر مجرد سؤال، ثم لا يعول على الجواب ...
وهكذا سأل، وهكذا جاءه الجواب الذي لا شك فيه ...
قال له «شو»: إن الفلاسفة الذين دخلوا البرلمان غير قليلين، ومنهم «ميل» و«برادلو» و«وب» الذي كان عضوا في الوزارة ... فهل صنعوا شيئا هناك؟
وقال له: إن «تشرشل» لم يكن عضوا في البرلمان حتى الحرب العالمية، ثم ساقوه إلى دائرة انتخابية أخلوها له؛ لأنهم في حاجة إليه، فقد كان شيئا مهما قبل أن يرشح نفسه للنيابة البرلمانية.
وقال له: إنه هو نفسه قد رفض النيابة يوم عرضوها عليه وكرروا العرض مرات، ثم لم يندم قط على الرفض والإصرار ...
وقال له أخيرا: «إن ورق اللعب لا يزال أمامك على المائدة، فإن شئت فجرب حظك والعب ورقك ...» ثم تواضع «شو» في ختام خطابه؛ لأن التواضع من مثله رياضة محبوبة بين «الادعاءات الكثيرة» ... فقال في شيء من الملل: «وهذه على كل حال آراء رجل كان ينبغي الآن أن يكون ميتا؛ لأنه قد بلغ من الهرم أقصاه!»
ولم ينثن «جود» عن عزمه بهذه النصيحة، بل كتب إلى أستاذه يبلغه أنه ماض في ترشيح نفسه، فجاءته منه تذكرة بريدية يقول فيها: «حسنا ... إنك سوف تتعلم على الأقل شيئا واحدا، وهو أن تعرف كيف لا تعمل!»
ثم شفعها بتذكرة أخرى قال فيها: «امض في عزمك بكل وسيلة، فقد تحصل على تجربة مباشرة لا تخلو من فائدة للفلاسفة السياسيين.»
وبعد هذه النصائح المختلفة عدل «جود» عن ترشيح نفسه؛ لا لأنه لم يرض عن أساليب الأحزاب في الترشيح؛ لا لأنه عمل برأي الداعية الكبير! •••
تلك هي إجازتي في هذا الكتاب ...
إجازة، ولا إجازة ...!
إجازة لأنها رحلة في عالم الفكر والنظر؛ ولا إجازة لأنها تعود بنا إلى السياسة في بعض الطريق ...
وهي من هنا خبرة حسنة؛ لأنني قد أكون في إجازة والقراء «عاملون»!
وما الرأي بعد هذا في نصائح «برنارد شو» لتلميذه الفيلسوف؟
ما الرأي في تقديره لعمل الأديب، وعمل العضو في البرلمان؟
الرأي الذي لا يتسع فيه الخلاف أن الفيلسوف قد يصنع شيئا في المجالس النيابية، ولكنه ليس بخير ما يصنع، وأنه إذا جرب مهنة الترشيح مرة بعد مرة خليق أن ينبذها بعد ذلك لا محالة؛ لأنها تهبط به إلى المساومة الرخيصة والوعود الكاذبة، ولا ترتفع به قيراطا واحدا فوق مستواه ...
وما لنا الآن ولهذه الظلمات؟
إن الشمس ساطعة باسمة، وإن مشاهد التاريخ ومعالم الخلود من حولنا قائمة دائمة ...
فهلم إلى النور ...!
لسان الهلباوي
كان في مصر قبل الثورة العرابية حزبان سياسيان: أحدهما حزب محمد شريف باشا، والآخر حزب أحمد رياض باشا ...
وقد يخطر للقارئ العصري أن تعريف الأحزاب بالأشخاص دليل على أن الحركة كلها شخصية لا علاقة لها بالبرامج السياسية.
ولكن الواقع أن تعريف الأحزاب بالأشخاص كان سنة معروفة في ذلك العصر حتى في أعرق الأمم البرلمانية ... فكان الحزبان المتناظران في إنجلترا يعرفان يومئذ باسم حزب غلادستون وحزب بيكنسفيلد، ولم يكن ذلك دليلا على وحدة البرامج بين الحزبين ...
وقد كان الحزبان المصريان كذلك مختلفين في البرامج، ولم يكن الخلاف بينهما مقصورا على الانتماء إلى هذا الوزير أو ذاك الوزير ...
كان حزب «شريف» أقرب إلى التجديد السريع ...
وكان حزب «رياض» أقرب إلى المحافظة مع التقدم في رفق وأناة ...
وكان الهلباوي بك ناقما على رياض باشا لسبب من الأسباب، فكان يطلق فيه لسانه ويكتب عنه ما لا يرضيه.
فأمر عالما من رجال الدين أن يستجوب «الشيخ إبراهيم الهلباوي» تمهيدا لمعاقبته ... فبدأ العالم المحقق كلامه بتهديد الشيخ الناشئ، واستطرد قائلا: إن ناظر النظار سيخرب بيتك إن لم تكف عن الحملة عليه ...
فضحك الشيخ إبراهيم وأجابه ساخرا: إنه لا يستطيع ...
فعجب العالم المحقق: كيف لا يستطيع وهو ناظر النظار، والحكومة كلها في يديه؟
وقال الشيخ إبراهيم: وليكن ناظر النظار أو أكبر من ناظر النظار، ليكن أمير البلاد ... ليكن خاقان البرين والبحرين، بل ليكن «الله» - جلال جلاله - فإنه لا يستطيع أن يخرب لي بيتا ...
ففزع العالم المحقق، وخيل إليه أن المسألة تنتقل من التمرد والعصيان إلى الكفر بالله، والعياذ بالله!
فصاح بالشيخ الناشئ حنقا: أهذا الذي تعلمتموه من جمال الدين؟
وكان جمال الدين مظنة «الزندقة» عند بعض العلماء في ذلك الحين، فطاب للعالم المحقق أن يجد في كلام التلميذ برهانا على زندقة الأستاذ ...
وكان الشيخ إبراهيم الهلباوي من تلاميذ جمال الدين؛ فلم يكن أسرع منه إلى رد التهمة إلى المتهم، وقال لصاحبنا: «بل هذا الذي تعلمناه منكم قبل أن نتعلمه من جمال الدين!» ...
قال الرجل: أعلمناكم الكفر ... نحن؟!
قال الفتى المتحذلق: بل علمتمونا أن قدرة الله لا تتعلق بالمستحيل ... وخراب بيتي مستحيل لسبب واحد، وهو أنه ليس لي بيت!
على أن تلمذة الهلباوي لجمال الدين لم تكن تمنعه أن يستطيل عليه بمثل هذه الحذلقة إذا «حكمت القافية» كما يقولون، فلعله هو التلميذ الوحيد الذي كان يجترئ على السيد بالدعابة في مجالس الدرس، أو مجالس الحديث ...
قال لي عظيم من عظماء هذا العصر الذين حضروا كثيرا من تلك الأحاديث، أو تلك الدروس - وكانت كل أحاديث جمال الدين من قبيل الدروس: إن السيد كان يتكلم يوما عن بعض الرذائل التي تصيب الجسد والنفس الناطقة، وبعض الرذائل التي تصيب الجسد، ولا تمس النفس الناطقة ...
فقاطعه الهلباوي قائلا: يا خبر! وهل السيد من هؤلاء؟ فانتفض السيد مغضبا وصاح به: اغرب عني أيها الخبيث ... لعنة الله عليك!
والهلباوي الذي تدل عليه هاتان النادرتان هو الهلباوي الذي عرفه الناس طوال حياته ، ويمكنك أن تلخصه في عبارة واحدة، وهي أنه - رحمه الله - كان «ذلاقة لسان لا تطيق نفسها، ولا تريح صاحبها.»
ومن هذه الذلاقة المتعجلة كان يؤخذ الهلباوي في كل ما هو مأخوذ عليه ...
سمعنا عنه قبل أن نراه، أو نستمع عنه ممن رآه ...
كان أشهر المحامين بين الفلاحين بلا استثناء، وكان من آيات شهرته أنها دخلت في «النكتة المصرية» ... فكان الذين يساومون القصابين في شراء لسان الذبيحة يقولون إذا اشتط عليهم القصاب في الثمن: والله ولا لسان الهلباوي.
وسمعنا بشهرته كاتبا كما سمعنا بشهرته محاميا، فكان عنوان مقالاته «إلى أي طريق نحن مسوقون؟» يتردد على كل لسان، وكنا نسمع به وإن لم نقرأ تلك المقالات ...
ثم أدركته آفة التعجل وقلة الاستقرار، فتحول في الوطنية إلى خطة «الاعتدال»، وفسر الاعتدال بمصانعة الاحتلال ...
ثم كانت الطامة الكبرى، ونعني بها «قضية دنشواي» التي وقف فيها موقفا ظل نادما عليه طول حياته ...
وعن قضية دنشواي قلت في كتابي سعد زغلول: «لقد كنا أربعة نقرأ وصف التنفيذ في أسوان، فأغمي على واحد منا، ولم نستطع إتمام القراءة إلا بصوت متهدج تخنقه العبرات.»
ويستطيع القارئ إذن أن يتخيل مبلغ السخط الذي أثارته في نفوسنا رؤية الهلباوي أمامنا وجها لوجه في دار الجريدة، يوم ألقى الأستاذ لطفي السيد بك خطابه الذي أشرنا إليه في الكلام على صاحب «المؤيد».
لقد كان اغتباطي شديدا بما أصابه من الأذى في ذلك اليوم، ولكني أقول إنصافا له: إننا رأينا في الرجل شجاعة لم نرها في غيره من المقصودين بالهتاف العدائي ذلك المساء ... فقد أوى بعضهم إلى حجرات الدار حتى اطمأن إلى انصراف الجمهور الغاضب، وأبى الهلباوي إلا أن يقتحم الجمع خارجا من الدار في إبان الهياج، ولم يحفل بما تعرض له في طريقه من اللكم والإيذاء.
وغاب الهلباوي زمنا عن ميدان السياسة، ثم ظهر بعد الثورة الوطنية معارضا لسعد زغلول، وكانت المساجلات بين الأحزاب يومئذ على أعنفها ... ولكني أشهد القارئ أنني ما وجدت القلم ينبعث في يدي انبعاثا إلى القول القارص العنيف ، كما كان ينبعث في الرد على خطب الهلباوي وأحاديثه، فردودي عليه فيما أعتقد كانت أعنف ما كتبت على الإطلاق ...
ثم مضت الأيام، وشاء القدر أن يكون للهلباوي شأن في موقف من أهم المواقف في حياتي السياسية؛ لأنه الموقف الذي اعتزمت فيه جديا أن أترك الهيئة الوفدية مستقلا عن جميع الأحزاب ...
كان الوفد والأحرار الدستوريون مؤتلفين على عهد الوزارة الصدقية التي عدلت الدستور ...
وجاء اليوم الثالث عشر من شهر نوفمبر، فعقد الأحرار الدستوريون اجتماعا في دار حزبهم، وذهبنا إليهم تأييدا لمظهر الائتلاف ...
وإذا بالهلباوي هو خطيب الاجتماع ...
وإذا بي جالس أمامه على قيد خطوة واحدة، وإذا به يحتال في كلامه ليهملني عند مناسبة ذكري، ويتجاوز الإهمال إلى التعريض ...
وعلقت على الخطبة في اليوم التالي، ورآها فرصة سانحة لإرغامي باسم الائتلاف ...
وجاءتني دعوة إلى بيت الأمة حيث يجتمع طائفة من أعضاء الوفد على رأسهم مصطفى النحاس (باشا).
ما الخبر؟
الخبر - كما قالوا - أن مصير الائتلاف معلق على بيان مطلوب منا، ونحب أن نتلوه عليك ...
قلت: وما شأني في هذا البيان؟
قالوا: بل الشأن شأنك؛ لأن فحوى البيان أن الوفد لا يقر ما كتبت عن الهلباوي بك ...
قلت: إنكم أحرار فيما تكتبون، ولكنني سأرد لا محالة على هذا البيان، وأقول لكم سلفا: إنني أنا المسئول عما أكتب، ولم يعلم الناس قط أنني أكتب بإشارة من أحد ...
ثم ذكرت لهم سابقة سعد مع اللورد جورج لويد حين حملت على اللورد من أجل زياراته للأقاليم، وثار اللورد ثورته التي أوشكت أن تعصف بالبرلمان، وأرسل إلى سعد من يقول له: إن اللورد يعتقد أنه هو الموعز بتلك الحملة، فقال سعد كلمته المأثورة: «إنها تهمة لا أدفعها أو شرف لا أدعيه.» ولم يفاتحني في الأمر حتى انقضت الأزمة؛ لكي لا أفهم أنه يقترح علي الكف عن الكتابة في هذا الموضوع ...
ولكنهم لم يقتنعوا وقالوا: إن صدور البيان من الوفد أمر لا محيص عنه، فإن شئت فاسمعه لتقترح تغييره أو تعديله فيما لا يرضيك ...
قلت: لن أسمعه ، ولن أسكت عن الرد عليه ...
في ذلك المساء زارني مكرم عبيد (باشا) والمرحوم صبري أبو علم (باشا)، وسألاني: «ماذا صنعت؟»
قلت: كتبت ردا على البيان سينشر في عدد الغد من جريدة «مصر» - وكانت من الصحف الصباحية - وفيها كنت أكتب مقالاتي كل يوم ...
فحاولا وقف المقال ...
فقلت لهما: إذا كنت لم أستطع أن أقنعكم بوقف بيانكم، فلن تستطيعوا إقناعي بوقف هذا المقال ...
ثم قلت لهما: إنني أملك أن أنشره في غير الصحيفة الوفدية إذا حيل بيني وبين نشره فيها ...
وكان قد جاءني فعلا من يعرض علي العروض الطوال العراض لأعطيه المقال وينشره حيث يشاء ...
وبعد مناقشة طويلة، قال مكرم باشا: إننا كنا نود لو قبلت رجاءنا، وعدلت عن نشر مقالك ... أما وأنت مصر على نشره فاقبل منا رجاء آخر ...
قلت: ما هو؟
قالا: أن يخلو المقال من الملام الشديد.
قلت: إنني إذا ذكرت الحقائق كما حصلت فلا حاجة لي إلى ملام شديد ...
ومضت سنوات ثلاث أو نحوها والهلباوي بك لا يقع لي في طريق ...
وحدثت في خلال ذلك جفوة بيني وبين المرحوم عبد القادر حمزة لمناقشة دارت بيني وبينه، حين كنت أكتب في صحيفة «الجهاد» ...
ثم زارني يوما بعد طول القطيعة، وهو يقول لي: لقد مررت بدارك وأنا في مصر الجديدة، فحمدت هذه الفرصة وقلت لنفسي: فلنزره إن كان هو لا يزورنا ... فما رأيك؟
قلت: إنه فضل لك سبقتني به، وعلي أن أشاركك فيه ...
وزرته في دار البلاغ بعد يوم أو يومين، فإذا بالهلباوي بك هناك ...
فكدت أهم بالرجوع ...
بيد أن الهلباوي كعادته هجام لا يتردد، فجذب يدي وبدأني بالحديث.
ولقد خطر لي في تلك اللحظة أن واقعتي معه آخر ما يذكره في تلك المقابلة، ولكنها على عكس ذلك كانت أول ما ذكره وأسهب فيه، وجعل يقول وهو يضحك: «كنت والله يا رجل أحب أن يكتب الله لي ثواب إخراجك من تلك الجماعة ... ولكنه فاتني، وأراك خارجا منها على التسعين ...!»
وبعد حديث متشعب دعاني والأستاذ عبد القادر إلى قضاء سهرة في منزله ... فاعتذرت، وخرج معي حين انصرفت حتى افترقنا عند دار محمد محمود (باشا) رحمه الله ...
ويظهر أن رغبته في زيارتي له بقيت تساوره زمنا حتى صدرت صحيفة «روز اليوسف» اليومية وواليت الكتابة فيها، فدعانا جميعا إلى قضاء السهرة عنده، وذهبنا إليه مع السيدة روز اليوسف والدكتور محمود عزمي، وكانت في الحق من أمتع السهرات؛ لأن الرجل محدث ظريف لا يمله المستمع إليه ...
ولقد كانت أحاديثه في تلك الليلة أكثر من أن تذكر ... إلا أنني أذكر من طرائف السهرة أن السيدة روز اليوسف كانت تخاطب قرينته وهي تظن أنها زوجة ابنه، لبعد الفارق بينها وبين زوجها في السن ... ولم تزل على ظنها حتى نبهها إلى خطئها بنكتة من نكاته التي تناسب المقام!
نابغة من نوابغ عصره لا مراء ... كان يسلم من كثير مما يؤخذ عليه لولا تلك الحيوية التي أقلقته، وباعدت بينه وبين الصبر والاستقرار.
طه حسين
للقدماء ضروب من التوقير يستخف بها المحدثون، ولا يحفلون بها، وحق لهم أن يستخفوا ولا يحفلوا؛ لأنها ترجع إلى أسباب خاطئة في زمانها فضلا عن الأزمنة الحديثة، وليس أدل على قلة الحياء من كثرة البحث فيما يجوز وما لا يجوز؛ لأنه دليل على كثرة القيود.
وأول ضروب التوقير التي يحق للمحدثين أن يستخفوا بها اجتناب الكتابة عن الأحياء، وقصر التاريخ والتقدير على من فارقوا الحياة، فربما كان مصدر هذا العرف عند القدماء أنهم كانوا يكبرون السلف، ويحصرون فيه العلم والمعرفة والأدب والخلق والشهرة، وكأنهم كانوا يستكثرون الجمع بين العلم والحياة أو بين الشهرة والحياة في وقت واحد: فإما حياة وخمول وإما موت وشهرة، ولا توسط بين الأمرين في تاريخ العلماء والأدباء، وتقدير حظوظ العلم والأدب.
وقد جرف العصر الحديث ذلك العرف جرف السيل، فكثرت تراجم الأحياء، بل كثرت تراجم الأدباء لأنفسهم بأقلامهم ونشرها في إبان حياتهم، وتلك علامة خير وصلاح؛ لأن ما خف من جانب التوقير إنما يزيد الحياة؛ لأن إساغة التاريخ للأحياء تدل على رحابة الصدر والتفاهم على الطبيعة الإنسانية في جوانب كمالها ونقصها وإطرائها وعيبها؛ ولأن العصر الذي يساغ فيه الاعتراف ببعض العيوب هو العصر الذي تتوافر فيه المزايا والمحاسن، فلا يضار المرء بالنقد؛ لأنه يعرف حدود الطبيعة الإنسانية، وما يبقى له بعد النقد من وجوه التحبيذ والترجيح.
ولست أنا من أعداء القديم حبا لعداوة القديم، ولكنني أكره التحرج الكثير في غير طائل، وأشايع زمني في هذه العادة خاصة، فلا أرى حرجا في الثناء على الدكتور طه حسين، أو اغتيابه على ملأ من الناس ... ولهذا أجبت دعوة «الهلال» حين دعاني إلى إجمال رأيي في الصديق العالم الأديب، وهو يعدني أو ينذرني بمثل هذا النصيب، وقبلت الكتابة وأنا أرجو ألا أكون مغلوبا حين تنكشف الورقتان المطويتان؛ إذ الكلام في كلينا سر مكتوم عن صاحبه حتى يطلع الهلال، وعندئذ تشيع الغيبة وينجلي السر عمن أحسن الحيطة والتخمين.
أنا ضامن أن الدكتور طه حسين سيقول: إنني شاعر، فليضمن الدكتور طه حسين إذن أن أقول فيه: إنه كاتب ناتج في الأدب، وخير ما نتجه كتابه «الأيام» وكتابه «في الصيف»، وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له في حياته، فكان فيهما مثلا في البساطة والثقة التي تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعمل، والتجمل، والطلاء، والتزويق، فالموصوف في هذين الكتابين صادق بسيط، والوصف كذلك على مثل هذه الحال من الصدق والبساطة، ولكني لم أطلع على شيء يصف به الدكتور ما لم يجر له، أو يصف ما يخلقه من الشخوص والحوادث في عالم الرواية، فما علة ذلك يا ترى؟
أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيبا أو عيوبا في شعري يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره، فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف المخلوق في كتاباته القصصية لعيب فيه، هو قلة الخيال ... فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات، ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته، والعوض من ذلك عنده أنه يحسن البساطة التي يندر من يحسنها، ويشعر بالكفاية التي تأتي من الثقة والاطمئنان إلى صدق الشعور، وهو عوض فيه غنى لمن يحسن الاستغناء. •••
أما طه حسين الناقد فماذا أقول له؟
أقول: إنه اطلع على الأدب العربي القديم اطلاعه الواسع الذي لا جدال فيه، واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتين الأقدمين، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوروبيين ولا سيما الفرنسيين، كل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة، ويبغض إليه الزيف والسخف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعين، وينبذ ما يستطيبه المحدودون من أصحاب الاطلاع القليل أو أصحاب الذوق السقيم، وله في ذلك قواعد صحيحة ومراجع وثيقة، واعتماد على فكر لا يتقيد إلا بما يرضاه.
وإلى هنا لا أظن أن الدكتور سيعترف لي بأقل من هذا القدر في ميزان الكتابة المنثورة، فأنا رابح على هذا التقدير.
ولا أظن كذلك أنه سيعترف لي في هذا الميزان بلا تعقيب ولا استدراك، فلنسرع إذن إلى التعقيب والاستدراك، ولا لوم ولا إجحاف.
فالدكتور صحيح الأصول في النقد، ولكنه لا يوفق بين أصوله وطبيعته في كثير من الموضوعات، وهو حين يقرر المبدأ على صواب غالب، ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحيانا عن الصواب.
وعلة ذلك كما أسلفنا أن القاعدة والطبيعة عنده لا تتفقان، فالطبيعة عنده لا تحتكم إلى الخيال والتصوير الخالق، ولكنها تحتكم إلى الرأي والاطلاع، فيقع من هنا التباين والاختلاف.
أليس الدكتور يوصي بمبدأ «الشك» أو مذهب ديكارت؟
بلى! ولكنك حين تقرءه ترى له عبارات من التوكيد واليقين قلما تراها في عبارات الشاكين المترددين، فلا يعجب - أكثر ما يعجب - إلا أشد الإعجاب، أو إعجابا لا حد له، ولا يقنع بما دون الإسراف وترديد كلمة الإسراف، ولا يغضب الذين يتحدث عنهم إلا غضبا شديدا، ولا يضيقون إلا أشد الضيق، ولا يتكلمون إلا بصيغة المبالغة في معظم الأشياء ... ثم تنتقل من هذا إلى تشكيك يذكرك ب «إن شاء الله» التي قالها جحا حين ضاع المال ... فقال: ضاع المال إن شاء الله ...
كأن الدكتور يخاف من نسيان الشك خوف جحا من تلك الكلمة التي نسيها فضاع ماله، فأنت تسمع منه: «أزعم أنني ضحكت ... وقد أزعم ... وقد أتردد ... وقد أقول ... وقد لا أقول.» مع أن المرء لو أقسم جاهدا: «والله لأزعمن، وتالله لأترددن، وبالله لأقولن.» لما خرج بالقسم مع الزعم، من دائرة الشكوك.
والقاعدة تستقر على اطراد إذا كانت هي والطبع على وفاق، غير أنهما عرضة للاختلاف إذا وقع بينهما الخلاف، ومن هنا نرى الدكتور يقول مرة: إن أصول النقد الغربي واحدة قد وضعها اليونان قديما وفرغوا منها، وتلقاها منهم الإنجليز، كما تلقاها منهم الفرنسيون فهم لا يختلفون.
ثم نراه يقول بعد أشهر قليلة: إن النقد ليست له أصول مقررة عند الناقد الفرد فضلا عن الأمم الكبيرة، والعصور الكثيرة، وإن الناقد يستحسن أو يستهجن، والمرجع إلى ذوقه وحده في استحسانه واستهجانه.
ولعل هذا التباين بين القاعدة والطبع هو الذي جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاءه في زي القديم، أو هو الذي جعله يطالب الشعر الحديث بأمور لا يطالب بها في حكم الطبيعة؛ لأنه يجري في مطالبته على القياس.
وأقول للقلم: على رسلك! إلى أين؟ ما أحسبك إلا متوقعا الكثير من تعقيب الدكتور واستدراكه، فأنت تستوفي المثل وتأمن أن تزيد.
ويقول القلم: ما أحسبني والدكتور مغلوبين على كل حال في هذه الصفقة، وليس الحق فيها بمغلوب.
نعم، وحساب الدكتور أو «رصيده» كما يقول في لغة المصارف كثير، ففيه بقية وافرة بعد كل تعقيب واستدراك.
وإذا قلت: إن الدكتور أمن استحسان السخيف من الأدب، فاختلافك بعد ذلك في زيادة القيمة التي يقوم بها الجيد أو نقصها إنما يغير الثمن، ولا يغير جودة الشيء الثمين. •••
ومن حساب الدكتور طه حسين أنه رجل جريء العقل قويه، مفطور على المناجزة والتحدي، يستفيد مما يقتنع بصحته ومما يعينه على التحدي والتفرد فلا يحجم عن اتخاذه؛ ولهذا تغير أسلوبه الكتابي بعد دراسته للأساليب الأوروبية، فاتخذ له نمطا يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل في الكلام الأوروبي، كما يتكلمه من يجمع بين الحديث والكتابة في وقت واحد، فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذي اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعا، وأولها من نوعه في اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر في اللغات الأوروبية.
ولو كانت كتابته حديثا محضا لاسترسلت بلا توكيد ولا تكرير، ولو كانت تقريرا محضا أو درسا محضا لما انحرفت عن أسلوب الكتابة الذي لا يتحدث به القائل، ولو كانت تقريرا أو درسا على الطريقة الشرقية لما ظهرت فيها المقاطع والفواصل الأوروبية، ولجرت على سياق قريب من سياق الدروس الأزهرية، ولكن كتابته حديث فيه محاضرة ومراجعة وتنظيم، فلا يوافقها إلا ذلك الأسلوب الذي استقل بابتداعه طه حسين ولو غضب المنكرون، وقد يكون غضب المنكرين من أسباب ذلك الابتداع؛ ولأجل هذا الابتداع يغتفر ما في كتابة الدكتور من إسهاب وتكرار.
ولقد أفاد بأسلوبه هذا عملا من لم يفدهم الرأي ولم تقنعهم المناقشة، فرأوا أن العربية قد تكتب صحيحة فصيحة على أسلوب غير أسلوب الجاحظ وعبد الحميد وبديع الزمان وابن المقفع، ورأوا كاتبا كبيرا يكتبها كما يشاء هو لا كما يشاء القدماء «فتنكتب»، وتلذ وتفيد، فاستعدوا لاستحسان الفصاحة في غير قيودها القديمة، وألفوا تعديد الأساليب وطرائق التعبير إلى غير انتهاء، وذلك وحده فتح قدير.
وقد جار نصيب القوة في الدكتور طه حسين على نصيب العمق، كما أشرت إلى ذلك في نقدي لكتابه «في الصيف».
وليس بالقليل بين أكبر الأدباء العالميين من هو قوي لا يتعمق، فإني لأكتب هذا المقال بعد أن فرغت من قراءة مقال للشاعر الإسباني ميجويل دي أنامينو كتبه ليمثل به رأي الإسبان بين سائر الآراء، التي نشرتها مجلة «الشهر» الفرنسية عن فكتور هوجو لمضي خمسين سنة على وفاته، فإذا هو يقول: إن عمله في إسبانيا على الأقل كان واسعا أكثر مما هو عميق، وأرجو ألا يحسب الدكتور أنني أعود به إلى التفرقة بين السكسون واللاتين إذا أضفت إلى هذا أن شاعر الأمة الإسبانية اللاتينية يقرر أن «بيرون» والشعراء الإنجليز هم الذين وجهوا أدب تلك البلاد، وليس فكتور هوجو ولا الشعراء الفرنسيون، وإنه ليقرر ذلك في مجلة فرنسية تحتفل بهوجو في عام ذكراه! •••
والآن وقد أبرأت ذمتي وأفضيت بمجمل الرأي مع الحيطة والمعادلة والتربص، فإني على ما أرجح كاسب ولست بخاسر، فإن اختلف تقديري فسأتهم محرر الهلال بإفشاء السر، وإطلاع مناجزي على ما أعددت له قبل أن يتأهب لي بسلاحه، والمناجزة يومئذ بيني وبين محرر الهلال.
من وحي أسوان
هبطت أسوان في هذا الشتاء، وأنا أذكر قول دعبل الخزاعي:
هبطت محلا يقصر البرق دونه
ويعجز عنه الطيف أن يتجشما
وإن امرءا أضحت مساقط رحله
بأسوان لم يترك له الحزم معلما
وذكرت كلام دعبل في هذه الرحلة خاصة؛ لأننا قضينا ساعة من الوقت في القطار، نتحدث عن السفر إلى الصعيد بطريق الهواء، ومسافته لا تزيد في هذا الطريق على أربع ساعات، وقد تنقص غدا إلى ساعتين، ومسافة السفر بسكة الحديد تنقضي ما بين عشية اليوم وضحى الغد ... ثم ينتهي إلى حيث يستمع السامع إذا شاء إلى صوت المتحدث إليه من القاهرة والإسكندرية، كما يتبادل الحديث مع جليسه في ناديه، يدير المفتاح في المذياع فيصغي إلى لندن وواشنطن، ولا يقصر مكان في الأرض عن إبلاغ صوته إليه، أما الأطياف فما أكثرها في دور الصور المتحركة الناطقة هناك! إن منها لأطيافا تنتقل من هوليوود، وأطيافا تنتقل من الجيزة، ولا تعجز عن التجشم، ولا يبدو عليها أنها تعرف الإعياء كما عرفته أطياف دعبل، يرحمها الله.
تلك أطياف وهذه أطياف، وتلك بروق وهذه بروق، وما أكسل البروق والأطياف فيما مضى، وما أسرع البروق والأطياف في هذا الزمان، فلو عاش دعبل اليوم لتمنى ساعة من تلك الأيام التي كان يتبرم بها قبل ألف عام، ولنظر حوله فرأى أناسا يتسابقون إلى المكان الذي قصرت عنه أطيافه وبروقه، ويغبطون أنفسهم على الحزم الذي ساقهم إلى هذا المقام في خاتمة المطاف.
وقصة دعبل في هجاء العالم كله معروفة، أما قصته مع أسوان فخلاصتها أنه وفد مع أخيه عبد المطلب بن عبد الله أمير مصر يومئذ فولاه أسوان، ثم بلغ عبد المطلب هجاؤه إياه فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له، وأوصاه أن ينتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة فينزله ويصعد مكانه، ففعل كما أوصاه!
ذكرت كلام دعبل وذكرت كلام أخ له من قبل في هذا المقام، أهو أخوه في النسب يا ترى؟ أهو أخوه في العربية؟ أهو أخوه في الزمن الذي عاش فيه؟ كلا، ولكنه أخوه في صناعة الهجاء، ولم يكن أخاه في قومه ولا عصره؛ لأنه كان من أمة الرومان، وكان عصره في القرن الأول للميلاد، وهو الشاعر اللاتيني جوفنال
Juvenal .
من توافق المصادفات أن الشاعر اللاتيني كان كالشاعر العربي لا يسلم أحد من لسانه، وأن هجاءه لفنان العصر «باريس» قذف به من روما إلى جزيرة أسوان؛ لأن هذا الفنان الساحر كان حظيا عند العاهل درومسيان!
قدم جوفنال إلى جزيرة أسوان قائدا للحامية الرومانية في ظاهر الأمر، وأسيرا منفيا في حقيقته، ولم يستطع أن يلعن رومسيان، فلعن الجزيرة ومن فيها ومن حولها، ولم يرض عن شيء رآه في ولايته التي فرضت عليه، فكذب وأقذع في شكواه، وادعى على مصر والمصريين ما لم يدعه أحد سواه.
قال: إن المصريين يعبدون كل حيوان، ولا يدعون شيئا إلا عبدوه حتى الثوم، وما كان المصريون يعبدون الثوم ولا البصل، ولكنهم عرفوا خصائص هذا وذاك، فانتفعوا بها في الغذاء وفي العلاج، وجاء المحدثون في عصرنا هذا فاتخذوا من الثوم عصيرا سموه ماء الحياة.
وقال: إن المصريين يأكلون لحم البشر، وقص من أخبار هذه الدعوة أن أناسا من أهل كوم أمبو الذين يعبدون التمساح هجموا على رجل من أهل دندرة قتل تمساحا فأكلوه!
والتمساح - واسمه هذا منقول من المصرية القديمة - حيوان مقدس كالذئبة الرومانية، ولكنه كان مقدسا عند أناس ورجيما ملعونا عند آخرين، أما أن الذين يقدسونه يأكلون لحم قاتليه، فتلك هي الفرية التي اتفق المؤرخون على تكذيبها، وحسبوها «اختراعة» من أفانين الهجاء، جناها السخط على الشاعر الهجاء قبل أن يجنيها بشعره على أبناء كوم أمبو الأقدمين، المظلومين!
ومن عجيب التوافق بين الشاعرين الساخطين أنهما يتفقان في الخاطر كما يتفقان في المزاج، فكان جوفنال يعجب لمن يسأله عن سبب هجائه ، كأنما كان الهجاء عنده أصلا من الأصول التي لا تحتاج إلى سبب، وكان دعبل ينظم القصيدة المقذعة ويسألونه عمن قيلت فيه، فيقول لهم: إنها ستجد صاحبها لا محالة، ويتفلسف فيمضي قائلا: «إن من يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك.»
فهي طبيعة واحدة في الشعراء الهجائين مع تباعد الجنس والزمن، ولا نظلمهم فنحكيهم حين يجنون بالسخط على الحقيقة، فما نحسبهم ظالمين في كل ما تقولوه على الناس، وما نظنهم سخطوا بغير حق في كل مقال، فلعل إصابتهم الناس عن بعض ما أصابهم منهم، ولعلهم شقوا بالعالم كما شقي العالم بهم، ومن دلائل هذا الشقاء أن شاعرا هجاء في اللاتينية وشاعرا هجاء في العربية يرددان معنى واحدا عميقا في دلالته على شقاوة الرجلين، فيقول جوفنال في الأهجية الخامسة عشرة: «إن الطبيعة خلقت للإنسان الكريم قلبا رحيما، فأودعت فيه ينابيع الدموع، وهي أكرم جانب في طوية الإنسان.»
ويقول ابن الرومي:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن
وقد تكون الحاجة إلى الهجاء كالحاجة إلى البكاء، في طبائع الشعراء، فلنقل: إن الشعراء الهجائين ظالمون مظلومون، وكلهم في هذه الخلة سواء. •••
وأعود إلى دعبل فأقول: إن الإعياء الذي ابتليت به أطيافه وبروقه ليست من فعل الزمن وحده، ولكنها من فعل الخيبة التي كانت تلاحقه حيث ذهب، فلا هو استقر في صعيد مصر، ولا هو استقر في صعيد حيث كان.
وقبل أن ينشط العصر الحديث بأصداء الأثير، وأطياف الستار الأبيض نظر الشعراء إلى أسوان بغير هذه العين التي تستعجز البرق، وتتهم الطيف بالقصور، نظروا إليها بعين الرضا، فوجدوا فيها بغية الطلاب على اختلاف المقاصد والآراب، كما قال جعفر بن ثعلب أبو الفضل كمال الدين:
أسوان في الأرض نصف دائرة
الخير فيها والشر قد جمعا
تصلح للناسك التقي إذا
أقام والفاتك الخليع معا
وحسنها ما أراك مبدعة
تروق إلا بأختها شفعا
وقد حببت الحياة إلى أبنائها حتى قال فيها أحد هؤلاء الأبناء من الشعراء:
ما الشيب إلا نعمة
مشكورة فاشكر عليه
ما الغبن إلا أن تمو
ت وأنت لم تبلغ إليه
وقائل هذين البيتين هو الأديب إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، وهو من أسرة عريقة أمرها في النبوغ عجب، ومن هذه الأسرة خالاه النابغان أحمد بن علي الملقب بالرشيد، والحسن بن علي الملقب بالمهذب، وكلاهما شاعر مشارك في العلوم، يدل كلامه على علمه كما قال الرشيد:
ولن يستفيد البدر إكمال نوره
من الشمس إلا وهو في غاية البعد
أو كما قال المهذب في وصف ليلة:
لو لم تكن نهرا لما عامت به
أبدا نجوم الحوت والسرطان
نادمت فيها الفرقدين كأنني
دون الورى وجذيمة أخوان
وترفعت هممي فما أرضى سوى
شهب الدجى عوضا من الخلان
أو كما قال:
لا ترج ذا نقص وإن أصبحت
من دونه في التربة الشمس
كيوان أعلى كوكب موضعا
وهو إذا أنصفته نحس
وكانا لهذا مبلوين بالحساد والأضداد، ولا سيما الرشيد الذي قيل عنه: إنه تطلع إلى الخلافة، وكان يقول عن نفسه: إنه خلق من نار، فقال فيه ابن قادوس:
إن قلت: من نار خلق
ت وفقت كل الناس فهما
قلنا: صدقت فما الذي
أطفاك حتى صرت فحما
وقال فيه شاعر يمني، وكان الخليفة قد أوفده إلى اليمن داعيا وسماه علم المهتدين، فحسده أدباء اليمن وقال فيه أحدهم:
بعثت لنا علم المهتدين
ولكنه علم أسود!
ولكنه كان لا ينظر إلى الحساد نظرة الأقران والأنداد، وقال في أمير رجاه فخيب مناه:
لئن خاب ظني في رجائك بعدما
توهمت أني قد ظفرت بمنصف
فإنك قد قلدتني كل منة
ملكت بها شكري لدى كل موقف
لأنك قد حذرتني كل صاحب
وأعلمتني أن ليس في الأرض من وازرة
عليهم رحمة الله جميعا، من ظفر بالإنصاف ومن فاته إنصاف الناس وفاته هو أن ينصف الناس، فقد بقي بعدهم وحي أسوان ووحي الزمان كما كان، وكذلك يبقيان!
في أرض الميعاد
قصة المدينتين
قلت لبعض الإخوان الفلسطينيين: إن الله أنعم عليكم بحرية الاختيار في أمر واحد، ولعله فأل حسن وبشارة صادقة بنعمة أخرى تملكون فيها حرية الاختيار فيما يشغلكم اليوم وتؤثرونه على كل نعمة، وهو نعمة الحرية القومية.
إنكم تملكون اختيار الأجواء والأهوية في كل فصل من فصول السنة، وترجعون إلى حسابكم أنتم لا حساب الأفلاك والكواكب؛ لتخرجوا من الصيف وتدخلوا في الشتاء ...
فنحن في مصر ننتظر ثلاثة أشهر أو أربعة لنشيع الصيف ونستقبل الشتاء، ولكنكم هنا لا تحتاجون إلى هذا الانتظار الطويل؛ لأن ساعة واحدة تنقلكم من حرارة يوليو إلى برودة نوفمبر أو يناير في بعض الجهات، وعندكم المكان الذي يتذكر فيه السمار معاطفهم إذا طالت السهرة كما تطول أبدا في ليالي الربيع ... وعلى مسيرة ساعة منه مكان يتذكر فيه السائرون مظلاتهم في أبرد أيام الشتاء، وقد أوحى مكان من هذه الأمكنة نغمة الفكاهة إلى قائد من قواد الحرب وهو في ميدان القتال، فكتب منه اللورد اللنبي إلى وزارة الدفاع البريطانية برقية يصف بها إحدى المعارك في أيام الحرب العالمية الماضية، فقال: «حلقت طائراتنا هذا الصباح تحت سطح البحر الأبيض المتوسط بستمائة قدم، ولاحقت العدو عند أريحا من هذا الارتفاع!»
وقد كان الحر هذا العام على أشده في شواطئ البحر الأبيض جميعها، فلم نشعر بوطأته الثقيلة حين تركنا الشواطئ وارتفعنا إلى هضاب رام الله أو «رام إيل» الفيحاء، ولكنني لم أندم على قضاء معظم أيامي في فلسطين بين الشواطئ، حيث تفرط الحرارة والرطوبة هذا العام على خلاف المألوف في السنوات الماضية؛ لأنني لمست فيها عن كثب ذلك الصراع العنيف الذي أحسبه أعجب صراع بين مدينتين متجاورتين في تاريخ المشرق، أو في تاريخ العالم بأسره، وهو الصراع بين مدينة يافا ومدينة تل أبيب ...
إن المدينتين متجاورتان تقيمان في مكان واحد، حتى ليبدأ الشارع أحيانا في يافا وينتهي في تل أبيب، ولكن السباق بينهما سباق بين أقدم ميناء على شواطئ بحر الروم وأحدث ميناء عليه ... أو لعله أحدث ميناء على جميع شواطئ البحار .
كانت «يافا» علما مشهورا في التاريخ القديم قبل نيف وثلاثين قرنا من الزمان ... وكانت «الإسكندرية» جنينا في الغيب يوم كان سوفكليس ويوربيدس وغيرهما من شعراء اليونان يتغنون بجمال «يافا»، وينسجون خيوط القصيد حول عروسها الفاتنة «أندروميد» التي ربطها الأرباب إلى صخرة الشاطئ عقابا لها على رفض البناء بخطابها السماويين! ثم ما زالت حتى نجا بها القدر من وحش البحر، وهو راصد لها ليغتالها ... فأصبحت بعد ذلك كوكبا من كواكب السماء ...
ولا نحسب أن مدينة في الشرق الأدنى عرض لها من تعاقب السعود والنحوس ما عرض لمدينة «يافا» في جميع الدول وعلى جميع العهود ...
فعمرت وخرجت مرات على أيدي البشر، وعلى أيدي الزلازل والجوائح الطبيعية، وصمدت للعراك بين الدول التي تداولتها من عهد تحوتمس وسنحاريب، إلى عهد العرب والصليبيين، إلى هذا العهد الذي لا يحسب في تاريخها من العهود الرخية الميمونة، وإن كنا لنرجو ألا يكون من أقسى العهود؛ لأنها قد صمدت في تجاربها الكثيرة لما هو أقسى، وأصرم من تجارب العهد الذي هي فيه الآن.
كانت «يافا» تعول في معيشتها على الزراعة وعلى الصناعة، وعلى الميناء، وما يدور حوله من حركة السفن وحركة البيع والشراء ...
فأصيبت في جميع هذه الموارد، ولا تزال مع هذا قائمة على قدميها تناضل نضالها المجيد في سبيل البقاء.
فالموالح والثمرات التي عرفت باسمها من قديم الزمن لا تلقى اليوم في الأسواق القريبة ذلك الترحيب الذي تعودت أن تلقاه إلى زمن غير بعيد.
والصناعة - وأهمها صناعة الجلود وصناعة الصابون - قد منيت بالمزاحمين الأقوياء في تل أبيب، وما وراء تل أبيب من بلدن الشرق الأدنى.
أما الميناء فقد تحول عنه أكثر السفن إلى ميناء حيفا الذي تنتهي إليه أنابيب البترول من آبار العراق، أو إلى ميناء تل أبيب الذي بناه مجلسها البلدي، ومد إلى جانبه ذلك «الكرنيش» الطويل محاكيا به كرنيش الإسكندرية في كل شيء ... حتى في «الأذرة الشامية» التي تشوى أو تسلق على زواياه ومنعطفاته، ويقبل عليها المتنزهون والمتنزهات إلى أواخر الليل!
فهي اليوم تتماسك على مضض ، أو على صبر أليم، وحسبك من مدينة تفجع في مواردها جميعا، ولا تزال ناهضة على قدميها في إباء المناضل المستميت. •••
إلى جانب هذه «الشيخة» الصبور فتاة ماكرة لعوب تتيه عليها بدلال الفتنة وجمال الشباب ...
تلك مدينة تل أبيب ...
صبية لم تتجاوز الثانية والعشرين، إذا نظرنا إلى مولدها الصحيح في أعقاب الحرب الماضية، ولم تتجاوز السادسة والثلاثين إذا نظرنا إلى نشأتها في عهد الدولة العثمانية أيام كانت هذه الدولة تحب أن تستعين بالدعاية الإسرائيلية في مقاومة روسيا، ودويلات البلقان، ولم تكن نشأتها يومئذ نشأة مدينة تزخر بالسكان، وتحتوي من الوافدين عشرات الألوف، ولكنها كانت روضة للنزهة وقضاء ساعات الأصيل في أيام الصيف والربيع؛ ولهذا سميت «تل الربيع» حين غرسوها في أول عهدها بالظهور ...
كذلك نشأت منذ نيف وثلاثين سنة على غير حذر من عواقبها السريعة، لا من جانب الراعي ولا من جانب الرعية ...
أما اليوم فليست هي تلك الروضة البريئة التي يتنسم لديها أهل «يافا» نفحات الغروب من نسمات الربيع ...
يا له من صراع عجيب بين شيخة الأمس وفتاة اليوم ...
وإنه لصراع ظالم إذا ترك فيه الندان منفردين على النحو الذي نراه؛ لأن «يافا» تقف وحدها هناك، ولا تقف «تل أبيب» وحدها في ميدانها ... بل تقف هنالك من ورائها أمة موزعة بين جميع أنحاء العالم تعينها بأحدث ما اخترعه العلم من الوسائل، وأخفى ما يعرفه المال من الأساليب، وأقوى ما تسيطر عليه السياسة من الخدع والأحابيل ...
واليافيون لا يغفلون عن الخطر الذي يستهدفون له، ولا يجهلون أن الأساليب القديمة لن تجدي وحدها في اتقاء هذه المنافسة، التي تعتز بأحدث ما عرفه الناس من ضروب التعمير والاستغلال ...
فقد علمت من مدير المجلس البلدي بمدينة يافا أنهم يعدون العدة لبناء الكرنيش الذي يضارع كرنيش تل أبيب، ولتنظيم الطرقات التي لا تزال بحاجة إلى التنظيم ...
وعلمت أنهم يؤلفون شركة كبيرة لبناء فندق فخم وناد حديث يستغني بهما من يريد الاستغناء عن ارتياد الفنادق والأندية في تل أبيب.
وهذا كله حسن واجب، بل هذا كله قليل من كثير ينبغي الشروع في إنجازه قبل أن يطول التفكير فيه ...
ولكن الحقيقة التي ينبغي أن تذكر في هذا الصدد قبل كل حقيقة أخرى هي أن مدينة «يافا» لن تقوى على هذا الصراع العنيف على انفراد، فلا بد لها من عون سريع كالعون الذي ترجع إليه غريمتها؛ ليجري الأمر بينهما على سنة الإنصاف، ويرجى منه اتقاء الهزيمة في هذا النضال.
الصهيونية والجامعة العربية
إذا عبرت «تل أبيب» رأيت في أكثر أوقات النهار زحاما يملأ جوانب الطرق من اليمين والشمال، وخيل إليك أن القوم منصرفون من محفل، أو مقبلون على اجتماع في منعطف الطريق ...
لأن حركة المرور لا تنقطع في «تل أبيب» من ساعات الصباح الباكر إلى ما بعد العشاء ...
ولكنك مع هذا تلاحظ هذا الزحام المتلاحق فتعجب؛ لأنك لا ترى فيه أحدا يلوي على أحد، ولا تكاد تلمح إنسانا يومئ إلى إنسان آخر بالتحية، إلا في العرض النادر الذي يرجع إلى محض الاتفاق ...
وأعجب من ذلك أنك تنظر إلى القوم، فلا ترى على وجوههم ما يدل على السعادة: سعادة الظفر بالأمنية الروحية والمطلب التراثي القديم ... فلا تملك أن تسأل نفسك: ما هذا؟ أهؤلاء قوم يهبطون إلى أرض الميعاد بعد التفرق في جوانب الأرض مئات السنين؟
وتتخيل المسلمين في عرفات، أو النصارى في معاهد المسيحية المقدسة، فلا ترى على وجوه القوم في «تل أبيب» شيئا من دلائل تلك الأخوة الروحانية، التي تفيض على وجوه الحجاج من جميع الأديان، ولا يقع في نفسك إلا أن القوم مسوقون إلى هذه الحجة الموعودة، وأن الذي وجدوه هنالك غير الذي آمنوا به وصدقوه ...
وما في الأمر من غرابة إذا رجعت إلى الواقع، أو رجعت إلى المعقول ...
إذ كانت حجة اليهود إلى أرض الميعاد غير الحجة إلى عرفات، أو إلى كنيسة القيامة أو ما شابهها من الديانة المسيحية ...
فإن المسلمين والمسيحيين يقضون مناسك الحج، ويعودون إلى أوطانهم التي نشئوا فيها وألفوا معالمها ...
أما اليهودي حين يهجر بلاده إلى الوطن القومي بفلسطين، فإنه يترك وطنه الذي نشأ فيه وألف معالمه ليستنبت نفسه في وطن جديد ... ولا يفعل ذلك إلا بدافع قوي من الأمل في تحسين الأحوال، أو بدافع قوي من الحماسة الروحية ... فليس من شك في أن اليهودي الناجح في وطنه - الأوروبي أو الأمريكي - لن يهجر ذلك الوطن ليستأنف الحياة زارعا أو بائعا في ناحية يجهلها من أرض فلسطين، ولن يبيع نجاحه المحقق بأمل بعيد يمنيه به الزعماء الصهيونيون، بالغا ما بلغ من الإيمان بوعود صهيون ...
ولنذكر أن اليهودي قد ألف العمل في التجارة والصفقات المالية، ولم يألف العمل في الزراعة وتربية الدواجن، وما إليها من أعمال الفلاحة ورعي الحيوان ... فهو لا يقدم على تبديل مألوفاته إلا إذا اتفق الشظف والتعصب والأمل في المجهول على إقناعه بالهجرة وإمداده بالبواعث النفسية التي تساعده على هذا التبديل ... وقلما تعمر هذه البواعث إلى زمن طويل ...
والذي نعتقده أن «النقلة الصهيونية» هي نقلة مصطنعة عارضة تخلقها تلك العوامل الموقوتة التي أشرنا إليها، وينفخ فيها عاملان آخران موقوتان، وهما دعاية الزعماء واضطهاد الطوائف الإسرائيلية في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية ... ولولا هذان العاملان لبقيت الصهيونية حيث كانت أملا من آمال الخيال.
ظهرت في الأيام الأخيرة مذكرات اللورد «هربرت صمويل»، الذي كان أول مندوب سام على فلسطين من قبل الدولة البريطانية ...
وهو سياسي فيلسوف ينتمي إلى أسرة إسرائيلية كبيرة في البلاد الإنجليزية، ويتكلم بكثير من الصراحة عن موقف زعماء اليهود من الدعوة الصهيونية عند ظهورها واشتدادها في أعقاب الحرب الماضية، ومن هذه المذكرات يتبين لنا أن ثلاثة من عظماء اليهود الإنجليز، الذين شاورتهم الحكومة البريطانية في إعلان الوطن القومي بفلسطين كانوا معارضين لإعلانه متشائمين من عقباه، وعلى رأسهم «إدوين منتاجو» الذي كان وزيرا للهند في وزارة لويد جورج الائتلافية ...
فحماسة الشعوب الإسرائيلية للوطن القومي هي حماسة مصطنعة مبالغ فيها بغير مراء، وأقل ما يقال فيها: إنها ليست بالحماسة الاجتماعية التي تقاوم جميع المصاعب، وتذلل جميع العقبات ...
وإنما قامت الحركة كلها على دعاية الزعماء، وصادفت هذه الدعاية ما صادفته من النجاح لأمرين لا مناص منهما للمثابرة على نشاط الحركة واستمرارها ...
هذان الأمران هما: «أولا» سهولة الحصول على الوطن العربي القومي في أعقاب الحرب الماضية، و«ثانيا» صعوبة المقام في كثير من الأقطار الأوروبية على اليهود، لما كانوا يلقونه هناك من ضروب الحجر والاضطهاد ...
فإذا تغير الموقف بعد الحرب العالمية الأخيرة، فصعب المقام في الوطن القومي، وسهل المقام في الأقطار الأوروبية بعد زوال الاضطهاد منها وفتح أبوابها لمشروعات التعمير، وصفقات التجارة والمال، فقد تنكشف الحركة المصطنعة عن حقيقتها الباقية، فإذا هي أضعف من أن تقوى على الثبات إلى زمن طويل. •••
نعم إن الصهيونية تعتمد الآن - بعد القيام في فلسطين زهاء ربع قرن - على عاملين آخرين غير تلك العوامل التي بعثت الحركة من مرقدها في دفعتها الأولى ...
تعتمد الآن على الجيل الجديد الذي يولد، وينشأ في تل أبيب وما يحيط بها من المستعمرات الإسرائيلية.
وتعتمد كذلك على الصناعات الحديثة التي تأسست في أيام الحرب الأخيرة على الخصوص، واتصلت معاملاتها بأقطار الشرق الأدنى وما جاورها من الأقطار.
لكن الجيل الجديد الذي يولد وينشأ في تل أبيب خليط من الأوطان المختلفة لا يمتزج بعضه ببعض في زمن قريب.
أما الصناعات الحديثة فلها مزاحم أقوى من الصناعات الأوروبية المتعطشة إلى الأسواق، ولها مزاحم أخرى من الصناعات الوطنية التي تعتمد على الشعور الوطني والضرورات الاقتصادية، ولها بعد هذا وذاك كابح آخر من حراسة الأسواق الشرقية، حيثما تنبهت إلى أخطار الاحتكار، وليست أزمات البطالة فيها بعد انتهاء الحرب بالأزمات التي يسهل علاجها في هذه الأوقات. •••
كنت أقول لإخواننا الفلسطينيين كلما سألوني عن رأيي في قضية بلادهم، وقضية البلاد العربية: إنني متفائل قوي التفاؤل عظيم الرجاء في مصير البلاد الشرقية على الإجمال ...
ولكنني كنت أشفع ذلك دائما بتفسير التفاؤل الذي أعنيه وأعقد عليه عظيم الرجاء ...
فالتفاؤل المحمود هو التفاؤل الذي يقنعك بأن العمل ممكن، وأنه مع إمكانه مفيد ...
ومتى آمنت بذلك فعليك أن تعمل، وأن تحقق الفائدة التي ترجوها وإن كلفك العمل أثقل الجهود ...
فلا فائدة من تعظيم خطر الصهيونية، والارتفاع به إلى ما وراء طاقة الجهود البشرية ...
ولكن لا فائدة كذلك من تهوين هذا الخطر إذا لم يقترن تهوينه بالشروع في العمل المفيد ...
والجامعة العربية خليقة أن تنتهز فرصة العمل في هذه الآونة؛ لأنها فرصة سانحة بعد الحرب الأخيرة، وفي مفتتح الحياة الجديدة التي تستعد لها الأقطار الأوروبية، ممن كانت على صلة بالمسألة الصهيونية أو باضطهاد اليهود، وقد تفتح أبوابها غدا لمن يؤثرون العودة إليها من أرض الميعاد إذا عز عليهم الوفاء بما وعدهم به الدعاة والزعماء ...
ولا غنى للبلاد العربية على أية حال - لخدمة نفسها لا لخدمة القضية الفلسطينية وكفى - من تنظيم الصناعات الحديثة، وتنظيم الأسواق في وجه المعاملات الطارئة عليها، ومن منع الاحتكار في أيدي فريق من الناس كائنا ما كان.
وإذا استقامت البلاد العربية على هذا الطريق، فقد استقامت على الطريق السوي الذي يفضي بها إلى النجاح في جميع قضاياها، ومنها قضية فلسطين.
الحالة الاجتماعية
المجتمع الفلسطيني قريب من المجتمع المصري في تكوينه، وفي معظم آدابه وعاداته، ولا يختلفان إلا في بعض التقاليد التي ترجع أولا إلى امتزاج شعائر الأسرة المصرية بشعائر الحداد الموروث من أقدم العصور، وترجع ثانيا إلى الزراعة المصرية، والبادية الفلسطينية ... فمصر تنقسم إلى عاصمة وقرية، وفلسطين تنقسم إلى حاضرة وبادية، وإن كانت باديتها أخصب من بادية الصحراء، وأقرب إلى العمار ...
ولا يزال سلطان البادية ظاهرا في تقاليد الأسرة الفلسطينية، سواء منها الإسلامية أو المسيحية ...
والبادية كما لا يخفى تشتد في المحافظة الاجتماعية، وتحب البقاء على القديم، وأظهر ما تبدو عليه هذه المحافظة الاجتماعية في حجاب المرأة ونظام الحياة الزوجية ... فإن بنات الأسر في حواضر فلسطين متعلمات على نصيب وافر من الثقافة العصرية، ولا يندر بينهن من تحسن لغة أو لغتين من اللغات الحديثة، ولكنهن قليلات الظهور في الحياة العامة، وقلما تجسر السيدة منهن أو الفتاة على السفور في الطريق إلا أن تكون من أسرة قوية السلطان مهيبة الجانب تحميها بسلطانها وهيبتها أن تتعرض للأذى والمهانة من بعض من ينكرون السفور، وهم كثيرون ...
فإذا سفرت السيدة أو الفتاة من البيوت المتوسطة التي لا تخشى شوكتها، فقد يصيبها ما يسوءها في طريقها، ولا يتقدم أحد لحمايتها؛ لأنها تستحق ما تلقاه في رأي السابلة من طبقات العامة، ومن يحسبون حسابها.
ونحن لا نتمنى لفلسطين ذلك الشطط الذي تمادى فيه بعض السافرات في بعض الأقطار الشرقية ... ولكننا نعتقد أن تيسير الحجاب والتخفيف من قيوده الثقيلة نافعان للمجتمع الفلسطيني في مرحلته الحاضرة، ولعلهما نافعان له جد النفع في مكافحة «تل أبيب» ومغرياتها؛ لأن الفتى الذي يصحب خطيبته أو زوجته في رياضته اليومية يشعر بالأمانة الزوجية ماثلة أمام عينيه في بيته وفي طريقه، وتغنيه هذه الصحبة المشروعة عن تلك الصحبة الموبقة التي تذهله عن كرامته وماله وقضية بلاده.
ولسلطان البادية القوي أثر في السياسة الفلسطينية؛ لأن الزعماء هناك هم - بطبيعة تكوين المجتمع - رؤساء العشائر وعمداء البيوت العريقة في الحواضر، ولهم من النفوذ في السياسة بمقدار ما لهم من الأشياع والأتباع والأقرباء، وأنصار العصبيات، وهم الذين نهضوا بأعباء الحركة في أشدها، وتعرضوا لمخاطر الموت والإبعاد من أجلها ...
وقد أضيف إلى هذا العامل الموروث عامل مكتسب من نفوذ الدين، أو نفوذ الرئاسة الرسمية، بل أضيف إليه ما تقضي به أطوار العصر من رعاية البرامج والمبادئ التي تتعلق بها آمال الشعوب في الزمن الحديث ...
ولا تخلو فلسطين من ذلك القلق الذي يخامر نفوس الشباب، ويعجلهم عن الصبر والانتظار، ومطاولة الأحوال التي درجت عليها السياسة في أيدي الرؤساء والعمداء ...
وقد سألني بعضهم سؤالا صريحا في حفل حاشد عن الزعامة السياسية والبرامج الوطنية، فقال موجها إلي الخطاب: ألا ترى أن ينفرد الشباب بقيادة الحركة القومية دون الرؤساء والعمداء؟
فلمحت على وجوه الحاضرين أن صاحب السؤال ينوب في الحقيقة عن الأكثرين منهم، وأنه يعبر عن خاطر يساورهم ويدور عليه النقاش الطويل فيما بينهم، فقلت: إن الشباب يستطيع أن يسمع صوته فلا يقوى الزعماء على إغفاله، ولا يزال للشباب عمل كثير يضطلع به في خدمة وطنه قبل أن يتصدى لمهمة الزعامة الشعبية، ولكنه إذا رزق الألمعية النادرة التي ترشحه لقيادة قومه، فإن هذه الهبة الفطرية لن تخفى على أحد، ولن تحول الحوائل دونه ودون القيادة التي يستحقها، إذ لا حاجة به يومئذ إلى التوسل والرجاء في طلب الاعتراف له بالكفاءة الممتازة والزعامة الموهوبة؛ لأن الكفاءة الممتازة تفرض مكانتها على من يعرفها ومن ينكرها على السواء. •••
والفلسطيني وسط بين المصري وبين السوري واللبناني في الإقدام على الهجرة، والتمرس بالمحاولات الاقتصادية في بلاده أو في البلاد الأجنبية ... فهو لا يهاجر كما يهاجر السوريون واللبنانيون ...
وهو أجرأ على إنفاق المال من أبناء الأمم التي تعودت المحاسبة على الموارد والمصارف، وانتظمت على الموازنة بين الأرباح والخسائر، منذ عهد بعيد ...
ولم يزل إلى زمن قريب يعول على تربية الماشية والزراعة، ويعول معها أحيانا على التجارة الدورية التي تجري في مواسمها على سنة الزراعة والثروة الطبيعية ...
وفي طبعه استقلال البدوي الذي تثقل عليه رياضة الحياة المدنية، وتعنته بما فيها من الموانع والقيود ...
وقد قال لي رجل من أذكياء السوريين وذوي الغيرة منهم على القضية الفلسطينية: إن إخواننا هنا يتعبون كثيرا مع جماعة الصهيونية؛ لأنها تحاربهم بسلاح لم يتعودوه.
قال ذلك وقد مررنا بخص من القش على شاطئ البحر في جوار «يافا» يملكه رجل يهودي يطهو فيه الطعام لمن يستريحون لديه في أثناء الطريق، أو لمن يقصدونه في طلب النزهة والاستجمام، وقضاء فترة من الوقت في ضواحي الخلاء ... قال الدمشقي الأريب: لو نزل رجل من بلدنا هنا يوما واحدا، وتناول هنا وجبة واحدة، لما فارق المكان قبل أن يعيد حسبته في ذهنه، ويقدر نفقات المكان ونفقات الطعام، ومكسب اليوم الواحد ثم مكسب الأيام ...
فإذا أعجبه الحال وراقه المكسب، فما هي إلا أيام معدودات حتى يرى اليهودي خصا قائما إلى جانب خصه يبيع الطعام الذي يبيعه، ويهيئ المائدة التي يهيئها، وينزل عن بعض ربحه في أيامه الأولى؛ ليحول قصاد الخص القديم إلى الخص الجديد ...
قال صاحبي الدمشقي: فليت الصهيونية تبتلى في هذه الديار بمن ينافسونها هذه المنافسة وينازلونها بمثل هذا السلاح ...
قلت: إن الدرس غير عسير على من يرى الصراع من حوله، ويعلم عاقبة التهاون فيه ... •••
وأحسب أن المصريين والفلسطينيين في مجال الهجرة فرسا رهان، أو فارسان متقاربان ...
فمن فلسطين مهاجرون في مصر، ومن مصر مهاجرون في فلسطين، وقد يعيش الفلسطيني في مصر زمنا ثم يعود إلى بلاده، وقد ترى بينهم من يلقب بالأنشاصي والبلبيسي والطنطاوي، كما ترى بيننا من يلقب بالغزي والرملي والعكاوي، وكأنهم يتسابقون أو يتلاحقون في حلبة واحدة لا يخرجون منها، ولا يسرعون إلى تبديل معالمها، سواء في التقاليد الاجتماعية أو معيشة البيوت ... حتى «الملوخية» - وهي صحفة مصرية لا يتقنها الطهاة في غير وادي النيل - قد أكلناها في بيت أبي خضرة كما تؤكل على أفخر موائدنا التي تعتز بتقديمها في بواكيرها أو معقباتها ... لأن أبناء هذا البيت على تراثهم القديم منذ كانوا بريف مصر، ولا تزال لهم قرابة فيه ...
بين مصر وفلسطين جوار هو أقرب من جوار المكان؛ لأنه كذلك جوار التاريخ وجوار السكان.
مصر والقضية العربية
سألني فنان صهيوني: لماذا يهتم المصريون بمشاكل العرب؟
فاستغربت سؤاله، ولم أكتمه أنه سؤال غريب، فعاد يسأل: وما وجه الغرابة فيه؟
قلت: وجه الغرابة فيه أنك تنتظر الاهتمام من يهود أمريكا بجماعة الوطن القومي في فلسطين، وتحسبه من الأمور الطبيعية التي لا تحتمل السؤال والاستفسار، ولكنك تستغرب من العرب المتجاورين أن يهتم بعضهم ببعض، وهم مضطرون إلى هذا الاهتمام ... نعم مضطرون إليه ولو لم ينظروا إلى المسألة من الوجهة الشعورية، أو العلاقة التاريخية الروحية؛ لأن استقرار السلام في الشرق الأدنى يعنيهم جميعا ويوجب عليهم أن يتداركوا أخطاره قبل وقوعها بشيء من الحيطة والمعاونة، ولا استقرار للسلام في الشرق الأدنى مع تهديد أمة كاملة في استقلالها، ومصالحها ومعالم وجودها.
فلاح عليه أنه كان يتوقع جوابا غير هذا الجواب ...
وكان غيره أصرح منه في السؤال - وهو كاتب في صحيفة «فلسطين بوست» الإنجليزية يراسل بعض الشركات البرقية - فسألني: هل تريد مصر أن تسيطر على سياسة البلاد العربية؟
قلت: كلا ... ولو جاءتها السيطرة طيعة هينة بغير سعي منها ؛ لأن الأساس الذي قامت عليه الجامعة العربية هو استقلال كل أمة من أمم العرب التي تشترك فيها، وبذل المجهود المستطاع لتمكين الأمم الخاضعة للحكم الأجنبي من بلوغ استقلالها، وليست لمصر مصلحة في التوسع أو زيادة التبعات والأعباء السياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكنها ترى المصلحة كل المصلحة في التعاون بينها وبين الأمم التي تقاربها في الموقع الجغرافي، والتراث التاريخي، والوجهة السياسية ... •••
إن الشعوذة السياسية وحدها هي التي تسول لبعض الأدعياء أن ينتحلوا لأنفسهم صفة الزعامة على جميع الأمم العربية، كما ينتحلون لأنفسهم صفة الزعامة المطلقة على الأمة المصرية ...
وإنما يخدم أولئك الأدعياء أنفسهم بتلك الشعوذة البغيضة إلى كل من يطلب الحرية، وكل من يؤمن في الشرق بمبادئ الديموقراطية؛ لأنها تضير القضية المصرية كما تضير القضية العربية، ولا تنتهي إلى فائدة مرجوة لغير أولئك الأدعياء فيما يتخيلونه من الأوهام والأحلام ...
إنهم يتوهمون أنهم يروجون في سوق المناصب على قدر البضائع التي يعلنون عنها، ويدخلون في روع الأجانب أنهم قادرون على تسليمها ...
فهم يبيعون ويشترون في قضية مصر وقضية العرب على السواء، ويخرجون المسألة من حدود التعاون المحمود إلى حدود الزعامة المنكرة، وما وراءها من الدعاوى والشبهات.
ونحمد الله على أن الوقائع قد أفهمت من يفهم ومن لا يفهم أن مصر تبغض هذا النوع من الشعوذة وتتشاءم وتأباه، وأنها تعاف مزاج الدعاة الذين يدقون الطبول وينفخون الأبواق حول أنفسهم، ولا ينزهون مطلبا من المطالب عن صغائر التهريج والتهييج؛ لأنهم لا يعيشون بغير أجراس المزاد في سوق المساومات.
ليس في ساسة مصر اليوم - بحمد الله - من ينطوي على مثل ذلك المزاج، فهم لا يعملون لمصر ولا لغير مصر؛ ليحتكروا الزعامة الأبدية على هذا الشعب أو ذاك، ولكنهم يعملون لأنهم يعرفون الواجب ولا يتجاوزون به حدوده، ويخدمون القضية العربية خدمة الإخوان أو الأعوان، ولا يخدمونها - ولا يستطيعون أن يخدموها - من طريق الضجة الخاوية التي يعلن بها المعلنون عن تسليم البضاعة في أسواق المطامع الأجنبية.
هذا التعاون على أساس الاستقلال الموفور لكل أمة من الأمم العربية هو قوام الجامعة العربية، ولا قوام لها بغيره ...
وينبغي أن يفهم الاستقلال هنا على أوسع معانيه أو على جميع معانيه، فهو يشمل الاستقلال الأدبي كما يشمل الاستقلال في عرف العلاقات الدولية ...
فلا افتيات فيه على حق أمة من الأمم في الاعتماد على نفسها، والتوفر على جهودها، وليس من شأنه أن يحمل أحدا على التواكل، ولا أن يحمل أحدا على تجاوز الحدود ...
لكل أمة عربية أن تنتظر المعونة من أخواتها وجاراتها ...
ذلك حق الأخ على أخيه والجار على جاره ...
وعلى كل أمة عربية أن تعمل ما في طاقتها لتحقيق مطالبها ...
ذلك واجب الإنسان على نفسه، بل واجبه لنفسه ...
وقوام الأمر بين الجميع هو استقلال في الرأي والعمل، وتعاون بين إخوان مستقلين في الآراء والأعمال ...
فلا سيطرة هناك ولا قيادة، ولا إعفاء من واجب ولا تجاوز في الحقوق ... •••
ومن دواعي الغبطة أنني رأيت دلائل الشعور بهذه التبعة العظيمة - على هذا الأساس القويم - في كل من لقيت من ذوي الرأي والمكانة بين خاصة أبناء الأمم العربية.
فهم - مع إيمانهم بجدوى هذا التعاون الأخوي في تخفيف الأعباء، ومضاعفة القدرة على النجاح - يعتقدون أنه قد ضاعف شعورهم بالتبعة، وتقديرهم للواجب، ورعايتهم للحقوق؛ لأن عمل أمة تسأل عنه أمم، وكلمة فريق من المجاهدين قد تحسب على كل فريق.
قلت للكاتب الصهيوني: إن مصر لا تريد السيطرة على الأمم العربية ولو جاءتها السيطرة بغير سعي منها ...
وأحسبني أردد كل رأي رشيد في الأقطار العربية حين أقول: إن الضجة الخاوية التي سولت لبعض الظنون أن تهجس فيها هذه الهاجسة قد ذهبت إلى غير رجعة، وإن العمل الوقور هو العمل الوحيد الذي يليق بخدام هذه القضية الكبرى، وإنه لا يستقيم على أساس كما يستقيم على أساس التعاون الأخوي في حدود الاستقلال المرعي، ومرحبا بآمال الأمم العربية في الأمة المصرية، ولو طالبتها بالحصة الكبرى من المعونة وتوجهت إليها بالجانب الأكبر من الرجاء ... فحبذا مضاعفة الواجب كلما تضاعفت الطاقة، وحبذا أن تزداد القدرة، ويزداد معها التوفيق إلى تحقيق الآمال.
دين وفلسفة
الله
في رأينا أن مسألة وجود الله مسألة «وعي» قبل كل شيء، فالإنسان له «وعي» يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من «وعي» يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية؛ لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه.
والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه؛ لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه هو وما لا يعيه، ولكنه يقوم به قياما مجملا.
ونحن نخطئ فهم العقل نفسه حين نفهم أنه مقصور على ملكة التحليل والتجزئة والتفتيت، وأنه لا يعمل عمله الشامل إلا على طريقة التقسيم المنطقي، وتركيب القضايا من المقدمات والنتائج، وإثباتها بالبراهين على النحو المعروف.
فالعقل موجود بغير تجزئة وتقسيم ... وهو في وجوده ملكة حية تعمل عملا حيا، ولا يتوقف عملها على صناعة المنطق وضوابطه في عرف المنطقيين ... وهو في وجوده هذا يقول: «نعم.» ويقول: «لا.» ويحق أن يقولهما مجملتين في المسائل المجملة على الخصوص.
وقد يخطى القول في بعض الأشياء، ولا يضمن الإصابة في كل شيء، ولكن الخطأ ينفي العصمة الكاملة ولا ينفي الوجود، فقد يكون العقل المجمل موجودا عاملا وهو غير معصوم عن الخطأ الكثير أو القليل، ولن يقدح ذلك لا في وجوده ولا في صلاحه للتفكير؛ لأن «التقسيم المنطقي» يخطئ أيضا كما يخطئ العقل المجمل في أحكامه المجملة، ولا يقال من أجل ذلك: إن التقسيم المنطقي غير موجود أو غير صالح للتفكير.
فإذا قالت البداهة العقلية: «نعم ... هناك إله.» فهذا القول له قيمة في النظر الإنساني لا تقل عن قيمة المنطق والقياس؛ لأنها قيمة العقل الحي الذي لا يرجع المنطق والقياس إلى مصدر غير مصدره أو سند أقوى من سنده، وقد كان العقل المجمل أبدا أقرب إلى الإيمان، وأقرب إلى قولة «نعم.» في البحث عن الله، ولم يستطع التقسيم المنطقي أن يقول: «لا.» قاطعة مانعة في هذا الموضوع.
وقد أسفرت مباحث الفلاسفة المؤمنين عن براهين مختلفة لإثبات وجود الله بالحجة والدليل، ونحسب أننا نضعها في موضعها حين نقرر في شأنها هذه الحقيقة التي يقل فيها التشكك والخلاف، وهي أن البراهين جميعا لا تغني عن الوعي الكوني، وأن الإحاطة بالحقيقة الإلهية شيء لا ينحصر في عقل إنسان، ولا في دليل يتمخض عنه عقل الإنسان، وإنما الترجيح هنا بين نوعين من الأدلة والبراهين، وهما نوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المؤمنون، ونوع الأدلة والبراهين التي يعتمد عليها المنكرون، فإذا كانت أدلة المؤمنين أرجح من أدلة المنكرين فقد أغنى الدليل غناءه، وأدى القياس رسالته التي يستطيعها في هذا المجال، وهي في الواقع أرجح وأصلح للاقتناع بالفكر - فضلا عن الاقتناع بالبداهة - كما يبدو من كل موازنة منصفة بين الكفتين.
ولا يخفى أن قاعدة الإثبات والنفي في مناقشات الخصوم لا تنطبق على هذا الموضوع الجليل، فليس للعقل البشري خصومة في الإثبات، ولا خصومة في الإنكار ... وليس على أحد عبء الدليل كله، ولا على أحد عبء الإنكار كله في البحث عن حقيقة الوجود.
ونحن لا نحصي هنا جميع البراهين التي استدل بها الفلاسفة على وجود الله، فإنها كثيرة يشابه بعضها بعضا في القواعد وإن اختلفت قليلا في التفصيلات والفروع، ولكننا نكتفي منها بأشيعها وأجمعها وأقربها إلى التواتر والقبول، وهي: برهان الخلق، وبرهان الغاية، وبرهان الاستكمال أو الاستقصاء، وبرهان الأخلاق أو وازع الضمير.
محمد الإنسان
من الأقوال المتواترة بين كثير من مؤرخي المسيحية، أنها انتشرت على يد بولس الرسول، ولو لم يعرف المسيحيون قبل ذلك بهذا الاسم لعرفوا في الغرب باسم «البولسيين» نسبة إلى «بولس» الذي كان يدعى قبل ذلك باسم شاؤل.
ويحمل الاستطراد بعض مؤرخي الغرب إلى التماس الشبه بين انتشار المسيحية، وانتشار الإسلام في خصلة كهذه بين محمد - عليه السلام - وخليفة من أكبر أصحابه، وهو الفاروق عمر بن الخطاب، ويزيدهم ولعا بهذا التشبيه أن الفاروق كان أيام جاهليته أشد أبناء قريش إيذاء للمسلمين، وكذلك كان بولس قبل إيمانه برسالة السيد المسيح، فإنه آمن بها وهو يتجرد لاضطهاد أتباعها في حملة من حملاته على الشام.
وهذه مشابهة مغرية بالمقارنة في أكثر ظواهرها وأشكالها، ولكنها تنقضي عند حقيقة واحدة غفل عنها أصحاب المقارنات بين الأديان، وتلك هي الفرق بين أثر الدعوة وأثر الداعي بالنسبة إلى الرجلين، فإن بولس الرسول لم يلق السيد المسيح ولم يعاشره على التحقيق، ولكن الفاروق كان هو نفسه غرسا من غروس محمد - عليه السلام - وكان في كل ما عمله بعد إسلامه طالبا مجتهدا على يد معلم محبوب.
واجتماع الرجال الأفذاذ من قبيل ابن الخطاب هو مقياس العظمة الإنسانية في نبي الإسلام - صلوات الله عليه - فلم يحدث قط في تواريخ الدعوات الدينية، كتابية كانت أو غير كتابية، أن اجتمع حول داع من دعاتها رهط من أفذاذ الرجال يدينون «لشخص» ذلك الداعي بالإجلال والمحبة، ويعترفون له بالتفوق والرجحان راضين مغتبطين كما اجتمع الفاروق وأقرانه حول نبي الإسلام، وقد ظل الفاروق طوال حياته يتحدث بعذوبة قول النبي له: «يا أخي.» مرة وندائه له بكنيته «أبي حفص» مرة أخرى، وظل غيره من الصحابة يحتفظون بكل أثر «شخصي» ظفروا به في أيام صحبتهم له سنوات بعد سنوات ... •••
كان للأنبياء والدعاة أصحاب كثيرون أو قليلون، ولكنهم لم يذكروا بين عداد العاملين أو بين أبطال التاريخ، ولم يجتمع قط في صحبة طويلة للأنبياء أمثال هؤلاء الأصحاب الذين حفوا بنبي الإسلام، ولا نحصيهم في هذا المقام، ولكننا نذكر منهم أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليا، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبا عبيدة بن الجراح، والمقداد بن عمرو، وغيرهم من السابقين المتلاحقين في هذا الطراز، كل منهم أمة في رجل أو قائد على جيش، أو مؤسس لدولة أو سيد بين علية القوم يؤتم به ويهاب، وكلهم يلحظ في عشرته لنبيه أنه يعتز برئاسته وولائه، فضلا عن إيمانه به إيمان المهتدي بهاديه المصدق الأمين.
ذلك مقياس للعظمة الإنسانية لم يتحقق قط لعظيم من عظماء بني الإنسان، ولا استثناء لأحد من العظماء الدينيين كان أو من العظماء الدنيويين.
فالصداقة العالية أكبر برهان من براهين العظمة المحمدية في صورتها الإنسانية، مع صورتها القدسية الإلهية.
ومحمد الصديق هو أعظم العظماء بين بني الإنسان بمقياس هذه «الظاهرة» النفسية الفذة في تواريخ العظماء. •••
ولسنا نقول غير الحقيقة التي تثبت كل الثبوت بمعيار النفوس، إذا قلنا: إن محمدا الزوج أعظم نفسا وخلقا من محمد الصديق.
إن الأراذل من المحترفين بالتبشير الديني قد ابتذلوا كل أدب من آداب الدين، وكل خلق من أخلاق الكرام، حين اتخذوا من زواج محمد - عليه السلام - مذمة يعيبونه بها، حاشاه بين رسل الله، بل يعيبونه بها بين عامة الخلق من عباد الله.
ولو كان محمد كما أرادوا أن يكون طالب متعة في زواجه، لكان على النقيض مما كان، لو كان كما أرادوا لكان في حريمه عشرات من أجمل العقائل والجواري، من بيوت العرب ومن سبايا العجم والروم، يرفلن في الحرير ويتحلين بالذهب والجوهر، ويأكلن على سماط كسماط قيصر وكسرى وبلقيس.
ولكنه كان وحوله من الزوجات الكهلة والشيخة، والتي مات عنها زوجها، والتي عز عليها الزواج من غيره، ولم تكن بين هؤلاء غير فتاة عذراء واحدة هي بنت صديقه أبي بكر الصديق، وكن جميعا يشكين قلة المؤنة، وشظف العيش، ويخيرن بين الطلاق وبين البقاء على هذه الحال:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (الأحزاب: 28، 29).
وإذا بحثنا عن بواعث الزواج النبوي كلها لم نجد بينها غير باعثين اثنين، كان لهما الأثر الأول والأخير في اختياره - عليه السلام - لكل زوجة من زوجاته، وهما مصلحة الدعوة والمروءة العالية.
فقد بنى بثلاث من زوجاته لأنهن بنات أصحابه الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان، وليس للأخوة في الله من سند إنساني في بلاد العرب أوثق من الأخوة في النسب والمصاهرة.
وأولى زوجاته خديجة - رضي الله عنها - كانت في نحو الأربعين يوم بنى بها وهو في نحو الخامسة والعشرين، ولم يكن وفاؤه لها وفاء الحس والمتعة؛ لأنه فضلها على أصغر زوجاته وأحبهن إليه: عائشة بنت الصديق، عليهما الرضوان ...
وكانت أم سلمة مسنة حين قتل زوجها عبد الله المخزومي في واقعة أحد، ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم وتركت وطنها لتهاجر، وفارقها زوجها بغير عائل وهي في الحبشة، فطلبها النبي من النجاشي وتزوج بها لكي لا ترتد وهي عائدة إلى أهلها، وصفية الإسرائيلية خيرت بين العودة إلى قومها وبين العتق وزواج الحرائر غير السبايا ... فاختارت زواجها بالنبي عليه السلام.
وأكرم ما كان من بواعث المروءة في اختيار زوجات النبي قد كان ذلك الزواج الذي خاض المبشرون في حديثه، وزعموه عشقا غلبه على نفسه الكريمة، حاشاه، فطلقها من فتاه زيد ليضمها إليه.
فقد كانت زينب زوجة زيد بن حارثة من بنات عمومته - عليه السلام - رآها منذ طفولتها إلى يوم زفافها، ولم تكن من الغريبات اللاتي يفاجأ برؤيتهن لأول مرة في بيوت أزواجهن، وإنما كان كرم النبي هو الذي حبب إليه أن يرفع من شأن الأسير الغريب، فيجعله أهلا لمصاهرته ومصاهرة بني هاشم من أبناء عمومته، وقد شق على الفتاة أن تسكن إلى العيش مع رجل من غير أكفائها، ثم شق على زيد أن يواجه النبي بتسريح بنت عمته بعدما كرمه بمصاهرته، فكان كرم النبي باعثه على إعفاء الزوج من ضنك هذه العشرة، وإعفاء الزوجة من إهمال يصيبها بعد طلاق يذلها، ثم يقصي عنها الخاطبين الذين لا يتقدمون مختارين إلى مطلقات الأرقاء، وتمت القدوة كما أرادها الإنسان بمروءته وأرادها النبي بتشريف الأسير وجبر الخاطر الكسير ...
وإن الإنسان - حق الإنسان - ليعرف من أمر محمد في اختيار زوجاته جانبا من المروءة المثلى في صاحب الدعوة الإلهية ينبئ عن تلك العظمة الإنسانية، التي تمثلت في مكانة الرجل بين صفوة الأبطال من عظماء الرجال؛ فهو كذلك لأنه إنسان عظيم، غاية ما ترتقي إليه شمائل الرجل العظيم.
ولقد كانت معاملة محمد لنسائه صفحة أخرى من صفحات تلك المروءة التي يسمو بها - إنسانا عظيما - إلى شرف الرسالة الإلهية، فمن وصاياه، نبيا، أن خير الناس خيرهم لنسائهم، ومن رعايته لهن إنسانا، قد ضرب للرجال مثلا يعلو على غاية الغايات في العمل بتلك الوصية ، فما من رجل مضت له في العشرة الزوجية سنوات طوال لم تفلت من لسانه الكلمة النابية، ولم تبد على وجهه اللمحة القاسية، ولم يلق امرأته بحالة من الشدة تبدر من الرجل للمرأة كما تبدر من المرأة للرجل، وهذه سيرة محمد مفصلة مطولة لم يهمل رواتها خبرا من أخبارها، ولم يسقطوا حديثا من أحاديثها التي تؤثر بالنقل والرواية، فما انتقلت إلينا منها كلمة زجر ولا نظرة سخط، ولا لمحة تأنيب أو زراية، ولم يكن له في حالة غير حال الرضا موقف أشد من موقف العتاب في صمت، أو السؤال في غير إقبال، وتلك شيمة من شيم الرفق الإنساني تتلاقى عندها طبائع الملائكة وطبائع البشر من أبناء آدم وحواء.
وليس هذا من صنيع رجل لا يعرف الغضب، فليس من لا يعرف الغضب بإنسان! ولكنها قدرة على النفس حيث تحمد القدرة في موضعها، وهي أحمد ما تكون من رجل إذا غضب حق الغضب استطاع أن يوقع بمن يغضب عليه ما ليس في طاقة الأقوياء، بله الضعفاء، ولقد غضب النبي على أناس خدعوه وكفروا نعمته، وقتلوا الآمنين من رجاله واستدرجوهم ليعلموهم الدين كما زعموا، فغدروا بهم وانتزعوا منهم ما أحسنوا به إليهم، فغضب الإنسان محمد، والنبي محمد، حيث يعاب الرضا والهوادة.
غضب على الغدر والشر والخداع والغلظة، وجزاهم الجزاء العدل وهم غير أهل للرحمة، ولم يحرمهم الرحمة وهي ليست عنده أو ليست من ألزم شمائله، بل حرمهم رحمته ورحمة الله؛ لأن الرحمة بهم قسوة على كل خلق شريف في الإنسان، فكان غضبه سواء لرفقه ورحمته في خير ما يحمد من إنسان.
ولقد يكون الضعف الإنساني خير مقياس للعظمة الإنسانية في أرفع مراتبها، بل هو في الواقع أصدق قياسا للعظمة الحقة من منازلة الأبطال الأشداء من الرجال، فإن من يغلب بقدرته قدرة تصارعها وتضارعها عظيم، ولكن القدرة التي هي أعظم من قدرة القاهر الغلاب قدرة تغلب نفسها باختيارها لترفق بالضعيف، الذي لا طاقة له بقهرها ولا غنى له عن رفقها، ولا أمل له في النصفة من غيرها، ولا حصر لمآثر النبي التي شمل بها الضعفاء في عنفوان قوته ونصره، ولكننا قد نحصرها كلها إذا ذكرنا منها تلك المروءة التي حببت إليه أن يجبر خاطر الأسير الضعيف المنقطع عن أهله، فيرفعه إلى مقام مصاهرته في أقرب الناس إليه، وتلك آية من آيات «الإنسانية» الحقة أروع ما فيها أن تأتي من النبي العربي القرشي الهاشمي، وليس أحق منه باعتزاز النسب في مقام المصاهرة.
وإن محمدا الصديق لإنسان في الذروة من عظمة الإنسانية.
وإن محمدا رب الأسرة لفي الذروة من رفق الإنسانية.
وإن محمدا المنتقم لفي الذروة من بأس الإنسانية، وعدل الإنسانية والرحمة بالإنسانية.
وإن محمدا السيد لفي الذروة من بطولة الإنسانية.
وإن محمدا الأب قد عرف ضعف الإنسان فبكى بكاء الإنسان، فكان في موضع ضعفه نعم الأب الإنسان، ونعم النبي المرسل في آن.
بكى وهو يحمل جثة وليده الصغير إبراهيم على يديه، ونظر إلى الجبل فقال: «يا جبل! لو كان بك مثل ما بي لهدك، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.»
وكان النبي الصادق الأمين أقرب ما يكون يومئذ من الإنسان الباكي الحزين، فلما انكسفت الشمس وقيل: إنها انكسفت لموت إبراهيم، أبت النبوة على الأب أن يبلغ بالبنوة هذا المبلغ في سورة الوجد عليها، فقال الأب الذي انكسفت الشمس حقا في عينيه: «كلا، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا حياته.»
بهذا الحزن الصادق وهذا الصدق الحزين استحق الإنسان محمد بمشيئة الله أن يصبح رسوله إلى الناس: و
الله أعلم حيث يجعل رسالته (الأنعام: 124)، كما قال عز من قال.
ومحمد الإنسان هو الذي استحق كرامة النبوة، فصنع في تاريخ الكون ما لم يصنعه قط إنسان سواه: أربعمائة ألف ألف من بني الإنسان هم اليوم في مشارق الأرض ومغاربها يقرنون اسمه باسم خالق الأرض والسماء كل صباح ومساء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
ليلة القدر
ليلة القدر خير من ألف شهر (القدر: 3).
والمتفق عليه بين جلة المفسرين أن ليلة القدر قد شرفت هذا التشريف لنزول القرآن الكريم فيها، ولا خلاف بينهم على هذا المعنى، ولكنهم - كعادتهم في تحقيق كل دقيقة وجليلة من تفاصيل الآيات والأخبار القرآنية - يفسرون نزول القرآن على كل وجه من وجوهه المحتملة، إذ يجوز أن يكون المقصود به ابتداء النزول، كما يجوز أن يقصد به نزول الكتاب كله جملة واحدة، ويشير القرطبي وابن كثير إلى قول القائلين: إن ليلة القدر اسم جنس لجميع الليالي التي تنزلت فيها الآيات، قد تبلغ عدتها عشرين ليلة أو أكثر من عشرين ليلة على هذا الاحتمال، ولكنه قول لا يأخذ به الكثيرون، وإن أخذوا بتعدد الليالي التي تنزلت فيها آيات الكتاب.
والمفسرون الذين يحققون أن ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان يرجحون أنها إحدى لياليه العشر الأخيرات، وأنها على الأرجح ليلة السابع والعشرين منه لأسباب لا محل لتفصيلها في هذا المقام.
ومن المفسرين من يرى أن نزول القرآن الكريم جملة واحدة هو المقصود بنزوله في ليلة القدر، ويعززون رأيهم بأن ابتداء نزول الآيات كان نهارا، ولم يكن في ليلة من الليالي؛ لأنه من المتواتر أن النبي - عليه السلام - خوطب بأول آية كريمة وهو عاكف بغار حراء، وقيل له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، إلى آخر ما ورد في الحديث المشهور، ولكن الأمر الذي لا خلاف فيه أن سورة العلق التي افتتحت بهذه الآيات قد تمت بعد ذلك؛ لما ورد فيها من الإشارة إلى الأمور التي حدثت كما قال الأستاذ الإمام «بعد شيوع خبر البعثة، وظهور أمر النبوة، وتحرش قريش لإيذائه عليه السلام».
فلا خلاف على وجه من الوجوه في تشريف ليلة القدر لنزول القرآن الكريم فيها آيات متفرقة أو جملة واحدة، وإن حكمتها الكبرى أنها هي ليلة الفرقان كما جاء في سورة الدخان:
إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم .
فهي ليلة القدر؛ لأنها ليلة التقدير والتمييز بين الخير والشر، والتفريق بين المباح والمحظور، والأمر بالدعوة والتكليف، وهو أشرف ما يشرف به الإنسان؛ لأنه هو المخلوق المميز بالتكليف والمخصوص بالتمييز بين جميع المخلوقات، ومن أجل هذا فضل الإنسان على الملائكة؛ لأنها لا تتعرض لما يتعرض له الإنسان من فتنة التمييز بين المباح والمحظور، وفضيلة الوصول إلى الخير والامتناع عن الشر بمشيئة الحي المكلف المسئول، وقد افتتحت دعوة محمد - عليه السلام - بالأمر بالقراءة، واقتران تمييز آدم على الملائكة بفضيلة العلم، كما جاء في وصف الخليفة من الكتاب المبين:
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون * هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم * وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون * وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم * قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (البقرة: 28-33).
وقد جاء وصف الإنسان بهذه المزية بعد الأمر بالقراءة في أول آية خوطب بها عليه السلام:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (القلم: 3-5).
وهكذا ينبغي أن نفهم معنى القرآن ومعنى الفرقان، ومعنى التقدير والتمييز الذي خص به الإنسان، ومعنى الأمر الحكيم الذي يفرق في ليلة القدر، بأمر العليم الحكيم ...
فالشرف الذي فضلت به ليلة القدر إنما هو شرف التقدير والتمييز، وشرف القرآن والفرقان، وشرف التكليف الذي رفع به الإنسان إلى منزلة أشرف المخلوقات وحق عليه أن يذكره؛ لأنه محاسب عليه، فيذكر في كل يوم وليلة أنه مسئول عما يفعل وأنه مشرف بين الخلائق جميعا؛ لأنه مناط السؤال والحساب.
وعلى هذا المعنى وحده ينبغي أن نفهم التقدير الذي يرتبط بنزول القرآن وبأمر القراءة والعلم الذي يفرق به كل أمر حكيم.
ومن حقائق البداهة التي يدين بها المؤمن بالله أنه - سبحانه وتعالى - يقدر الأقدار ويقسم الأرزاق، ويحيي ويميت، ويجري قضاءه في صروف الحوادث وأطوال الحياة والأحياء، ولكن اقتران ذلك بليلة واحدة من ليالي الزمن أمر لا يقول به المؤمن بالإله الواحد السرمد الذي لا أول له ولا آخر، ولا تأخذه سنة ولا نوم، وإنما يتخلص هذا الاعتقاد من بقايا الأديان التي ظلت تعدد الأرباب، وتخص كل رب منها بوقته وسماته، أو تشبهه بما يعده الإنسان من أعمال أصحاب التصريف والسلطان من بني نوعه المحكمين فيه، وتجعل للسعود والنحوس أياما تتعلق بمطالع النجوم، ومدارات الأفلاك، ويستنزلها العارفون بأسرار النجوم عندهم توسلا إليها بشفاعة القرابين والضحايا، ورموز الطلاسم والعبادات.
ومن بقايا تلك العقائد الوثنية تسربت عقيدة التقدير في إحدى ليالي السنة، وسرت إلى بني إسرائيل بعد اختلاطهم بعباد النجوم والأرباب الأرضية أو الفلكية في أرض بابل، فأخذت سبيلها مع سائر الخرافات والإسرائيليات إلى عامة المسلمين، فظهرت في تلك الأساطير التي أحاطت بأخبار ليلة القدر، وعدلت بتلك الليلة المباركة عن معناها الذي يتصل به شرف الإنسان، وشرف التمييز والتكليف إلى معنى يناقضه، ويبطل حكمته ويبطل حكمة الإسلام في جملته؛ لأنه يرتهن السعادة والشقاء والمثوبة والجزاء بغير الأعمال والمقاصد، ويعود بها إلى أرصاد الليالي والأيام، ورموز الشفاعات والقرابين.
كان قدماء البابليين يحتفلون بسنتهم الزراعية، ويبتهلون إلى أربابهم في مطلعها أن يغدق فيها المطر، ويورق فيها الشجر، ويجعلها سنة أمن ورخاء ونعمة وثراء، لاعتقادهم أن أرباب النجوم تقضي في الليلة الأولى من مطلع السنة كل ما يقضى من أمور الخصب والجدب والرزق والحرمان والحياة والموت، وكان من عقائدهم أن للأعمار شجرة تخضر أوراقها أو تذبل مع اخضرار الشجر على الأرض وذبوله، فمن كتب له العيش اخضرت ورقته، ومن قضي عليه بالموت ذبلت ورقته وسقطت فلم يبق منه غير عود كعيدان الحطب بغير روح، وكان من عقائدهم مع هذا أن اخضرار الورقة وذبولها مرتهنان بمراسم الصلاة وطلاسم السحر التي يتولاها الكهان ويفرضون من أجلها القرابين والهدايا على طلاب الصلوات والدعوات.
وقد نقل الإسرائيليون كل ذلك إلى عيد من أعيادهم التي اختلطت فيها عبادة الإله بعبادة الأرباب الوثنية، ثم تسربت منهم إلى عامة المسلمين، وانخدع بها من غير العامة من كان يحسب أن القوم ينقلون ذلك عن مصادر الكتاب الصحيحة، فأضافوا إلى ليلة القدر أكثر ما كان يقال عن مراسم السنة الزراعية عند البابليين، ومراسم التفكير عند كهان إسرائيل.
ولعل انتقال بعضهم بليلة القدر إلى منتصف شهر شعبان، مع وضوح نسبتها إلى شهر صيام في القرآن الكريم، إنما جاء من ذلك الاعتقاد القديم في السنة الزراعية، إذ كان شهر شعبان إنما سمي بذلك لانشعاب عيدان الشجر فيه على ما جاء في روايات الجاهلية، فهو أشبه بما كان يقال في بابل القديمة عن شجرة الحياة وعما يعرض لها من «انشعاب» الأعمار بين الاخضرار والذبول.
لكنه في الواقع «انشعاب» آخر بين العقائد الإسلامية في صميمها وبين العقائد التي تخلفت عن عبادة الأوثان والأرباب من دون الله.
فالعقيدة الإسلامية في صميمها لا تتمثل في شيء كما تتمثل في التكليف والتمييز، وفي المخلوق العاقل المسئول الذي يدان بعمله ولا يصيبه الجزاء أو الغفران من عمل غيره، وهنا تنشعب العقائد بين ليلة القدر في شريعة المسلم، وبين أشباه هذه الليالي في كل شريعة يناط فيها قدر الإنسان بغير الأعمال والنيات، وإن المسلم ليعود إلى إسلامه الصحيح كلما احتفل بليلة القدر، وهو يذكر أنها ليلة فرقان وحساب، وأنه يدعو الله فيها ليشرف بما شرفته به الليلة المباركة من آيات التقدير والتذكير.
القصة في القرآن الكريم
القصص في اللغة هو تتبع الأثر لمعرفة المكان الذي نزل به أصحابه أو سلكوه.
ومن هنا قيل للحكاية عن القوم: إنها قصة؛ لأن من يحكي عنهم يتتبع أثرهم ليعرف خبرهم، فهو يقص سيرتهم في الزمان، كما تقص السير في المواقع والجهات.
وقد وردت الكلمة في القرآن الكريم بالمعنيين في سورة واحدة، فجاء في سورة الكهف:
فارتدا على آثارهما قصصا
بمعنى تتبع الأثر لمعرفة الطريق، وجاء فيهما:
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
بمعنى تتبع الخبر في التاريخ.
ولكن كلمة القصص في القرآن الكريم تنصرف على عمومها إلى معنى الهداية إلى الأخبار والآثار الباقية من سير القرون الغابرة، وهي تساق في الكتاب لمقاصد كثيرة تجمعها كلها هذه المقاصد الثلاثة: فهي تساق للعبرة والموعظة، أو تساق للقدوة وتثبيت العزيمة، أو تساق للتعليم والهداية.
وتتلى قصص العبرة والموعظة في القرآن الكريم لتذكير الأحياء بمصائر الغابرين من الأمم الأولى، وكانت توصف بأنها أساطير الأولين من الكلام المسطور؛ أي المكتوب، وقد تكون الكلمة إحدى الألفاظ التي تعربت عن اليونانية؛ لأن «الأستوريا» عندهم بمعنى الخبر المسجل أو المعروف، ولا يبعد أن يكون اليونان قد أخذوها عن العرب؛ لأنهم أخذوا الكتابة عن الأمم السامية، وسبقهم عرب الشمال وعرب الجنوب إلى رسم الحروف، ولا تزال أسماء «الألفا والبيتا والجاما» عندهم منقولة من الألف والباء والجيم، بل يرجح أن كلمة «كلموس» اليونانية؛ أي «القلم» منقولة عن العربية؛ لأن القلامة أصيلة فيها، ومن مادتها «القصم والقضم والقطم والقحم والقرم»، وكلها تفيد القطع كما يفيده التقليم، وكذلك السطر والشطر بمعنى الخط أو القط في العربية، يقال: سطره وشطره وخطه وقطه بمعنى واحد، فليس من البعيد أن تنتقل هذه الكلمات مصاحبة للكتابة التي لا شك في انتقالها من الأمم السامية إلى اليونان.
وقد ترددت في القرآن الكريم أخبار الأولين على سبيل العبرة والموعظة، وكان مدارها جميعا على تحذير الأمم الباقية من الاغترار بالمتعة، كما اغترت بها الأمم الخالية، وكانت هذه العظات ألزم العبر لتلك الأمم التي آمنت بالأوثان والأرباب، ولم تؤمن بالوحدانية، فإنها إذا علمت أن أربابها لا تحميها من الكوارث، ولا تقدر على إصابتها بها، ذهب إيمانهم بتلك الأرباب، ووجب عليها أن تبحث عن قوة إلهية تملك القدرة التي عجزت عنها معبوداتها.
وفي القرآن غير القصص التي تدعو إلى العبرة بمصير الكافرين أنباء تروى عن الأنبياء، الذين أرسلوا إلى الأمم الغابرة، فكذبتهم وتنكرت لهم، ثم ظهرت دعوتهم وحاقت النقمة بمن كذبوهم وأنكروهم، وبقيت قدوتهم لينتفع بها من يعمل عملهم ، ويقفو أثرهم، ويلقى من قومه مثل ما كانوا يلقونه من أقوامهم ...
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين
كما جاء في سورة هود.
وهذه على الجملة حكمة القصص التي جاءت في الكتاب عن جهاد الرسل، وعاقبة الصبر على الدعوة، تثبيتا للأفئدة وتبشيرا للدعاة والمصلحين بعاقبة الصبر على الجهاد. •••
ومن قصص التعليم والهداية في القرآن قصة موسى والخضر - عليهما السلام - يرى بعض المفسرين أنها درس لأصحاب الشرائع يفرقون به بين شريعة الظاهر وشريعة الباطن كأنهما على اختلاف، كما اعتقد أناس من القائلين: بالأسرار والإشارات الخفية، ويرى الثقات أن القصة درس لأصحاب الشرائع حقا، ولكنهم يفهمون من هذا الدرس أن سعة العلم من شروط القضاء بين الناس، وأن العدل منوط بمقدار ما يعلمه الحاكم من شئونهم، وحقائق أحوالهم، وأسباب مصالحهم، فلا يتساوى في العدل قاض يعرف تلك الأحوال على حقائقها، وآخر ينظر فيها بما يبدو له من ظاهرها، وذلك درس لا غنى عنه لمن يقضي بشريعة من الشرائع تجري على قسطاس واحد، ولا يختلف فيها ظاهر وباطن، كما يعتقد القائلون بالأسرار والإشارات الخفية، فلا حاجة بالقاضي العادل إلى غير العلم بحقيقة القضية التي بين يديه، ثم لا يختلف فيها بعد ذلك قولان.
ومن الواجب أن نذكر أن قصص القرآن جميعا تساق للموعظة والتعليم وحسن القدوة، وأنها تأخذ من التاريخ ما فيه الغنى لكل سياق أو مقصد يعنى به الدين، فليس المقصود بها تفصيل التواريخ ولا تسجيل الوقائع والسنين، وليست حكمتها موقوفة على شيء غير ما فيه الكفاية لهذه المقاصد كما يفهمها الناس.
ولكن الجانب التاريخي المحض من القصص الديني قد كان له درسه النافع للمتعجلين من أدعياء التحقيق العلمي منذ أوائل القرن التاسع عشر، لعلهم لا يستغنون عنه بعد انتصاف القرن العشرين، فقد كان ورود الخبر في كتاب من كتب الدين كافيا عندهم للجزم باختلاقه وحسبانه في عداد الخرافات أو في عداد الخيالات الشعرية التي لم تحدث قط في غير أوهام الشعراء ، فلم تمض سنوات على الشروع في حركة البحوث الحفرية، حتى ثبتت علامات الصبغة التاريخية لكل خبر من أخبار تلك الحوادث المشكوك فيها، وثبت أن علماء التاريخ كانوا خلقاء أن يجهلوا كل شيء عن تلك الحوادث لو لم يعلموا بها من مصادرها الدينية، قبل أن يتوفروا على حركة الحفر والتنقيب في آثار الشرق الأدنى وما جاور بلاد النهرين.
وفي هذه الأخبار ما كانوا يقرءونه في الكتب ويمرون به على غير انتباه؛ لأنهم لم يعرفوا له خطرا جديرا بالاهتمام في غير المصادر الدينية، فشكوا في وجود عاد وثمود، وشكوا في حملة الفيل وهلاك أصحاب الفيل، وشكوا في الزلازل والأعاصير والطوفانات والجوائح والحروب التي سيقت مساق العبرة في قصص القرآن، وانفرد بها أحيانا بين كتب الأديان، فلما حققوا الآثار وصححوا المراجعة تبين أن عادا وثمود من أخبار بطليموس، وأن هلاك أصحاب الفيل من تواريخ الحبش والروم، وأن المدن التي ساخت بها الأرض أو عصفت بها الرياح حقيقة لا تقل في صدقها عن حقائق طيبة ومنف وطروادة ومسيني، وأن بقايا اللغة تقول لنا اليوم بعد المقارنة بين اللغات كل ما كذبوه من الأصول، أو من الصلات بين شعوب الأمس وأعراقه في أحاديث المتدينين، وأنهم هم في إنكارهم وتحقيقهم المزعوم قد أبدعوا لهذا العصر صورة جديدة من صور الخرافة لم تكن مقبولة عند المخرفين الأقدمين، وهي خرافة العالم الذي ينكر ما يجهل ويجهل ما ينكر، ويظن أن كلمة «التحقيق» وحدها سلطة تخولهم دون غيرهم حق الاستئثار بالرفض والإنكار.
وإذا أنكر هؤلاء المتعجلون كل شيء في الدين، فلعلهم لا يستطيعون أن ينكروا اليوم هذا الدرس الذي تعلموه من كتب الدين، فقد تعلموا على غير قصد منهم أن التعجل بالإنكار جهل شائن كجهل المتعجلين بالتصديق.
رمضان شهر الإرادة
كان منا رجل من رجال الأعمال، وسفير، وشاعر، وكاتب، وصحفي، ومنا المسلمون والمسيحيون، وجرى حديث الصحة ونظام التغذية المفضل فقال رجل الأعمال: «إنني تعودت بين حين وحين أن أصوم أسبوعا أو أسبوعين عن كل طعام غير السوائل، وأفضل من السوائل عصير البرتقال.»
وقال السفير: «إنني أصوم فترة كهذه وأكتفي فيها كل يوم بوجبة أو وجبتين من اللبن، ولكني أفضل عليه السوائل الأخرى.»
وقلت: «إنني أعالج الصوم مرة في كل أسبوع، وأختار يوما من أيامه للصوم عن كل طعام غير السوائل، وأفضل منها مغلي البابونج أو عصير الليمون الحلو أو عصير البرتقال، وقد أحتاج في أيام الأسبوع الأخرى إلى إسقاط وجبة من الوجبات الثلاث، وأكثر ما تكون وجبة العشاء.»
ولا أذكر مما قيل في هذا المعنى غير ما تقدم، ولكني على يقين أن القارئ يسمع في مجالسه مثل ما سمعنا في ذلك المجلس وفي غيره، فإن لم يسمع حديثا عن الصيام لإصلاح المعدة سمع حديثا عنه لاجتناب السمنة أو لزيادة نصيب الجسم من بعض الأغذية الحيوية، أو سمع عن الصيام السياسي الذي يراد به فرض رأي أو الاحتجاج على معاملة، فليس أكثر من أنواع الصيام في هذه الأيام.
ولا حاجة إلى الإفاضة عن الكلام على أنواع الصيام التي يعالجها الجنس اللطيف حرصا على الرشاقة واعتدال القوام، أو رياضة له في سبيل الجمال تشبه الرياضة التي يعالجها اللاعبون في سبيل القوة والنشاط، فإن حديث الصيام من هذا القبيل في كل بيت وكل ناد، وبلغ من شيوعه أنه أخاف المصانع التي كانت تعول على الشراب الخفيف كالجعة والمنقوعات وما إليها، وتعلم أن وجود الجنس اللطيف مع الرجال أكبر مشجع على الإكثار من هذه الأشربة، فإننا نقرأ أخيرا عن الجعة التي تخفف السمنة، وعن التي تزيل الرواسب وتحفظ على الجسم «هندامه» واعتدال قوامه.
ووراء هذه المنشورات مصالح تلك المصانع على الأقل في بعض الأحايين.
ليس زماننا إذن زمان الإعراض عن الصيام كأنه عادة من عادات الأقدمين التي عفى عليها الدهر كما يقولون، بل هو في الواقع زمان تزيد فيه ألوان الصيام ولا تنقص، ويكثر فيه اختلاف أنواعه ولا يقل، فما علمنا من عصر قط أنه استحق أن يسمى عصرا «صياميا» كالعصر الذي نحن فيه.
ونقول: «الصيام على اختلاف أنواعه.» لأن الأنواع التي ذكرناها آنفا ليست هي كل الصيام الذي يشتغل به أبناء العصر الحاضر، فتلك جميعا أنواع «جسدية» تراد لحفظ الصحة أو حفظ الرشاقة أو حفظ القوة والنشاط، وغيرها كثير من أنواع الصيام يدرسها أبناء العصر الحاضر، ولا يطلق عليها وصف «الأنواع الجسدية» ... لأنها تراد لتربية الخلق ورياضة النفس، وتعويد الإنسان أن يملك عاداته كما يشاء.
وقد تفتح باب البحث في هذه «الصيامات» على أثر التوسع في دراسة الأديان والمقارنة بينها، وعلى أثر التوسع في الدراسات النفسية وعلاقة العقل فيها بالبنية، وعلى أثر القول بإمكان توليد الأمراض العقلية وشفائها بتعاطي بعض العقاقير أو الامتناع عن بعض أصناف الطعام.
وكثر الكلام على «اليوجا» الهندية، كما كثر الكلام على عادات المتصوفين والنساك التي ملكوا بها زمام أجسادهم وضمائرهم، فلا يقل الكلام على الصيام في سبيل الروح والضمير عن الصيام في سبيل الجوارح والعضلات.
والصيام الذي فرضته الأديان أحق هذه الأنواع بالبحث عن دواعيه وعن معانيه، وقد طال القول في أصل الصيام الديني قديما قبل ظهور الأديان الكتابية، فلا حاجة بنا إلى استقصائه في هذا المقام.
أما حكمة الصيام في الأديان الكتابية، فهي محصورة في أغراض معدودة: وهي تعذيب النفس والتكفير عن الخطايا والسيئات، وتربية الأخلاق على نحو من الأنحاء.
والدين الإسلامي هو الدين الكتابي الوحيد الذي فرض كتابه الصيام فترة معروفة من الزمن على نحو معروف من النظام.
ولا خلاف بين الأئمة في الحكمة المقصودة بهذه الفريضة، وهي تقويم الأخلاق وتربيتها، وإن تعددت الأخلاق التي تذكر في هذا المقام.
فمن الجائز كثيرا أن صيام الغني يعلمه الرحمة بالفقير، ولكنه مقصد لا يشمل الفقراء كما يشمل الأغنياء، وكما ينبغي في كل فريضة عامة لا تخصص بإنسان ولا بطائفة من الناس.
أما الخلق الذي يعم الأغنياء والفقراء ولا يستفاد من فريضة عامة كما يستفاد من الصيام، فهو «الإرادة» ألزم الصفات لكل إنسان، إن الإرادة لازمة في كل تكليف وفي كل تبعة وفي كل فضيلة، فلا قوام للفرائض جميعا بغير هذه الإرادة.
وهي لازمة للفقير لزومها للغني، فإن كان أحدهما أحوج إليها من الآخر فهو الفقير؛ لأن الغني قد يجد عنده ما يعوض التفريط في أعمال الإرادة والعزيمة والحزم والمضاء، وليس هذا العوض ميسورا للفقير إلا بزيادة الجهد والعناء.
الإرادة إذن هي فضيلة الفضائل في الصيام.
ومتى عرفت هذه الحكمة فآداب رمضان كلها محصورة فيها مستفادة من معناها، ولا حاجة بالصائم إلى أدب غير أن يذكر أنه يريد الصيام، وأنه يقوم بفريضة يطلبها ويعلم نفعها، ويحمل جهدها، وإن لم تكن مفروضة عليه.
فليس من أدب رمضان أن يتململ الصائم وأن يتجهم لمحدثيه، وأن يبدو منه ما يدل على الضيق بالفريضة كأنه مكره عليها مطيع لها بغير رضاه.
وليس من أدب رمضان أن يهرب الصائم من إرادته بقضاء النهار كله في النوم تاركا للطعام؛ لأنه غافل عن مواعيده غير متنبه إليه.
وليس من أدب رمضان أن يفلت زمام الإرادة بعد غروب الشمس، فلا يعرف الصائم له إرادة تصده عن الإفراط في الطعام والشراب إلى موعد الإمساك.
وليس من أدب رمضان أن يصوم الإنسان وهو معرض للتهلكة بصيامه، فإن من كان مريضا لم تجب الفريضة عليه، ولا معنى لأداء الفريضة إذن إلا أنه يريد لنفسه الهلاك، وهذا محرم عليه.
كلمة «الإرادة» وحدها تلخص آداب رمضان، ولا تحتاج إلى إسهاب في تفسيرها وتعديد أنواعها.
ومزية رمضان أنه فريضة اجتماعية مع فرضه على آحاد المكلفين، فهو موعد معلوم من العام لترويض الجماعة على نظام واحد من المعيشة، وعلى نمط واحد من تغيير العادات، وليس أصلح لتربية الأمة من تعويدها هذه الأهمية للنظام ولتغيير العادات شهرا في كل سنة، تتلاقى فيه على سنن واحد في الطعام واليقظة والرقاد، وما يستتبع ذلك من أهبة الجماعة كلها لهذا الشهر خلال العام.
وإذا استطاعت الجماعة أن «تريد» ذلك التنظيم وذلك التغيير، فليس ثمة نمط من أنماط المعيشة لا تستطيعه على هذا المثال في الشدة أو الرخاء.
رمضان شهر الإرادة؛ أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، وليست الإرادة بالشيء اليسير في الدين والخلق، فما الدين وما الخلق إلا تبعات وتكاليف، وعماد التبعات والتكاليف جميعا أنها تناط بمريد.
ومن ملك الإرادة فزمام الخلق جميعا في يديه.
لو عاد محمد عليه السلام
من الأماثيل التي تعاد ولا تمل أمثولة للكاتب الروسي «ديستيفسكي» عن السيد المسيح ومحكمة التفتيش في قصة الإخوة كرامزوف.
وخلاصة الأمثولة أن السيد المسيح عاد إلى الأرض، وأخذ في وعظ الشعب وتبشيره بالملكوت، فأقبلوا عليه واستمعوا له، وأوشكوا أن ينفضوا عن وعاظهم ودعاتهم المعهودين، فأشفق هؤلاء على مكانتهم وأوعزوا إلى رئيس محكمة التفتيش، فاعتقله وتوعده بالمحاكمة والحكم عليه لتضليله الشعب، والانحراف به عن تعاليم السيد المسيح! وقال له: إن هؤلاء الذين يقبلون عليك اليوم هم أول الثائرين عليك، وأسبق المبادرين إلى تنفيذ القضاء فيك ...
أمثولة تعاد ولا تمل؛ لأن العبرة بها لا تنقضي في حقبة واحدة، ولا تزال عبرة الدهر كله في أحاديث المصلحين والمفسدين.
ولم يبالغ الكاتب العظيم في تخيله، فإنما يكون مبالغا لو كان ما تخيله بعيدا أو غريبا في بابه، ولكنه في الواقع أقرب شيء إلى الاحتمال مع هذه البشرية التي تختلط فيها الشيطانية والخنزيرية والحمارية في وقت واحد، فلا تزال حربا على من ينفعها وألعوبة في أيدي العابثين بها، وإن كرروا العبث بها كل يوم مرات بعد مرات.
لو عاد السيد المسيح لأنكره كثيرون ممن يعيشون باسمه وينتحلون هدايته.
ولو عاد محمد - عليه السلام - لكان له نصيب كذلك النصيب ممن يرفعون العقيرة بهداية الإسلام والإسلام بريء منهم، وكل ما هنالك من خلاف أن المسألة لا تمر بتلك السهولة التي توهمها رئيس محكمة التفتيش، أو من يتصدى في الإسلام لمثل عمله، وأنه سيندم على فعلته ندما يكفر عن سيئاته، إن كانت سيئاته مما يقبل التكفير.
وأسأل نفسي كيف ينتفع المسلمون على أحسن وجوه النفع بعودة النبي - عليه السلام - فترة قصيرة من الزمن؟ وما هي المسائل التي يرجعون بها إلى شخصه الكريم فيسمعون منه فصل الخطاب فيها؟
أسأل نفسي فتخطر لي مسائل خمس يرجع فيها إلى شخصه الكريم، ويغني جوابه فيها كل الغناء، فلا لجاجة ولا اختلاط ولا حاجة إلى الاجتهاد والتأويل من مجتهد أو مقلد، وما أشبه الاجتهاد والتقليد في هذا الزمان!
تلك المسائل الخمس هي: مسألة الأحاديث النبوية، ومسألة الروايات في قراءة الكتاب المجيد، ومسألة الخلافة والملك، ومسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، ومسألة المذاهب الاجتماعية الحديثة، وحكم الإسلام عليها، وقول نبي الإسلام فيها.
مسألة الأحاديث النبوية
إن رجال الحديث قد بلغوا الغاية من الاجتهاد المشكور في جمع الأحاديث وتبويبها، وتقسيم رواتها وأسانيدها، وقد جعلوا من أقسامها الثابت والراجح والحسن المقبول والضعيف، والمشكوك فيه والمرفوض، وجعلوا لكل قسم شروطه وعلاماته، فأصبح الحديث بفضل هذه الشروط والعلامات علما مستقلا يتفرغ له علماء مستقلون.
وبعد كل هذا الجهد المشكور لا تزيد الأحاديث الثابتة على عشر الأحاديث المتداولة في الكتب وعلى الألسنة.
وكلمة واحدة من فمه الشريف - عليه السلام - ترد الأمور جميعا إلى نصابها: «لم أقل هذه الأحاديث!» وينتهي القيل والقال ويبطل الخلاف والجدال، ويبطل معهما بلاء أولئك المحدثين الذين يستندون إلى الحديث الكاذب في التضليل وترويج الأباطيل.
قراءات القرآن
ومسألة الروايات القرآنية دون مسألة الأحاديث في أشكالها ونتائج الاختلاف عليها، فإن الروايات التي لم يتفق عليها القراء لا تغير شيئا من أحكام القرآن، ويمكن الأخذ بها جميعا ولا ضرر في ذلك ولا ضرار.
إلا أنها لا تحتمل أقل اختلاف مع وجود النبي الذي تنزل عليه القرآن، فما يقوله فيها فهو مجتمع القراءات ومرجع الروايات، ومتى استمع الناس إلى تلاوته - في عصر التسجيل - فتلك ذخيرة الأبد في ذاكرة الأجيال، وسيبقى صوته بتلاوة القرآن أول ما يسمعه السامعون في مجالس الذكر الحكيم.
الخلافة والملك
وتأتي مسألة الخلافة، بل معضلة الخلافة.
تلك المعضلة التي سالت فيها بحور من الدماء وجداول من المداد، وبقيت وراء كل انقسام نذكره في الإسلام حين نذكر السنة والشيعة والإماميين والزيديين والإسماعيليين والنزاريين، وحين نذكر الهاشميين والأمويين والعباسيين والفاطميين وغيرهم من المنقسمين وأقسام المنقسمين.
بم أوصيت يا رسول الله في أمر الخلافة؟ وهل أوصيت بها دينية أو دنيوية؟ وهل تريدها اليوم على هذه أو على تلك من صفاتها وأحكامها؟
فإذا قال عليه السلام: أوصيت بكذا ولم أوص بكذا، فكأنما مسح بيده الشريفة على تلك الصفحات والمجلدات، فإذا هي بيضاء من غير سوء، وإذا هي بقية من بقايا الماضي تحال إلى دار المحفوظات للعبرة والحذر، أو يلقى بها حيث لا حس ولا خبر.
وكفى الله المؤمنين شر القتال وذكرى القتال.
الرسالة بعد خاتم المرسلين
والخطب أهون من ذلك جدا في مسألة الرسالة والنبوة بعد خاتم المرسلين، فإن المخالفين للإجماع في هذه المسألة واحد في كل خمسمائة مسلم، وسينتهي خلافهم عما قريب، ولكن إذا انتهى بكلمة من الرسول الذي يؤمن به المسلمون جميعا، فتلك هي النهاية الفاصلة، وقد تمنع في المستقبل أضرارا لا يقاس عليها ضررها في الوقت الحاضر، وخير من واحد ينشق على خمسمائة أن يتفق الخمسمائة فلا ينشق منهم واحد.
المذاهب الاجتماعية الحديثة
وما قولك يا رسول الله في دعاة المذاهب العصرية من اجتماعية أو غير اجتماعية؟
لا حاجة إلى السؤال عن الديمقراطية، فإن سابقة الإسلام فيها أصلح من كل سابقة.
ولا حاجة إلى السؤال عن الفاشية، فإن الإسلام يمقت الجبارين والمتجبرين.
ولا حاجة إلى السؤال عن الشيوعية الماركسية، فإنها ملعونة في كل دين.
وإنما يسأل النبي - عليه السلام - في الاشتراكية فيقول ما قاله القرآن، حيث نهى أن تكون الثروة «دولة بين الأغنياء» ... ثم يسأل عن شرحها فيتلقاه منه المسلمون على أقوم المناهج وأسلم الحلول.
وتأتي على الهامش أسئلة عن ترجمة القرآن وعن حقوق المرأة، وعن دعاوى المدعين في الأحكام والقوانين باسم الدين، وعن أحاديث شتى مما يتحدث عنه الصحفيون وأشباه الصحفيين.
ويسمع من النبي - عليه السلام - في أولئك كله جواب يغني عن ألف جواب أو عن كل جواب.
ونعود إلى محكمة التفتيش وما يشبه محكمة التفتيش بين المسلمين.
إن كانت هذه السطور آخر من يؤمن بإقناع العقول، أو بسلطان البرهان في الإقناع.
إن كاتب هذه السطور قد رأى بعينيه أناسا أغرب وأصفق ممن ينكرون الشمس في رائعة النهار.
وليس بالمستحيل عندي أن يعاندك المعاند ويكابرك المكابر في «اثنين واثنين يساويان أربعة وفي واحد وواحد يساويان اثنين».
بل ليس بالمستحيل عندي أن يكابرك المكابرون في معنى الواحد ومعنى الاثنين، وأن هذا خمسة وليس بواحد وذلك صفر وليس برقم من الأرقام.
فإذا عاد النبي - عليه السلام - وقضى قضاءه في أحكام الإسلام، فلا والله لا يعدم الناس من يشكك في كلامه وبيانه، وفي ملامح وجهه وعلامات جثمانه، ولا والله لن يسلس المقاد ممن يلج في العناد، ويضيع عليه الجاه أو الغنى بما قضاه الرسول وتلقاه الناس منه بالتسليم والقبول.
غير أنه - فيما نحسب - عناد لا ينفع أصحابه، ولا يطمعون في الرجاء منه حتى تفجأهم الحوادث بالندم عليه، وصلى الله على محمد في الأولين والآخرين، فما هو إلا أن يعود فلا تعز عليه هداية المهتدين ورياضة الذين لا يهتدون، فلا يصدون أحدا عن الدنيا ولا عن الدين.
لو عاد السيد المسيح
في إحدى روايات الكاتب الروسي العظيم - دستيفسكي - بطل من أبطال الرواية يتخيل أن السيد المسيح عاد إلى الأرض في طوفة عابرة، ونزل بأشبيلية في إبان سطوة «التفتيش»، فوعظ الناس وصنع المعجزات، وأقبل عليه الضعاف والمرضى والمحزونون يلثمون قدميه ويسألونه العون والرحمة.
وإنه ليمضي بين الشعب يضفي عليهم حبه وحنانه، ويبسطون له شكاياتهم ومخاوفهم إذا برئيس ديوان التفتيش - المفتش الأعظم - يعبر بالمكان، ويتأمل السيد والشعب من حوله هنيهة، ثم يشير إلى الحراس ويأمرهم أن يعتقلوه ويودعوه حجرة السجناء في انتظار التحقيق.
ويأتي المساء فيذهب المفتش الأعظم إلى الحجرة، ويقول للرسول الكريم: «إنني أعرفك ولا أجهلك؛ ولهذا حبستك، لماذا جئت إلى هنا؟ لماذا تعوقنا وتلقي العثرات والعقبات في سبيلنا؟»
ثم يقول له فيما يقول: «إنك كلفت الناس ما ليست لهم به طاقة، كلفتهم حرية الضمير، كلفتهم مؤنة التمييز، كلفتهم أوعر المسالك فلم يطيقوا ما كلفتهم وشقيت مساعيهم بما طلبت منهم ... والآن وقد عرفنا نحن داءهم وأعفيناهم من ذلك التكليف، وأعدناهم إلى الشرائع والشعائر، تعود إلينا لتأخذ علينا سبيلنا، وتحدثهم من جديد بحديث الاختيار وحرية الضمير؟
ليس أثقل على الإنسان من حمل الحرية، وليس أسعد منه حين يخف عنه محملها، وينقاد طائعا لمن يسلبه الحرية ويوهمه في الوقت نفسه أنه قد أطلقها له، وفوض إليه الأمر في اعتقاده وعمله، فلماذا تسوم الإنسان من جديد أن يفتح عينيه، وأن يتطلع إلى المعرفة وأن يختار لنفسه ما يشاء، وهو لا يعلم ما يشاء؟
إنك منحتنا السلطان قديما وليس لك أن تسترده، وليس في عزمنا أن ننزل عنه، فدع هذا الإنسان لنا وارجع من حيث أتيت، وإلا أسلمناك لهذا الإنسان غدا وسلطناه عليك، وحاسبناك بآياتك وأخذناك بمعجزاتك، ولترين غدا هذا الشعب الذي لثم قدميك اليوم مقبلا علينا مبتهلا لنا أن نخلصه منك، وأن ندينك كما ندين الضحايا من المعذبين والمحرقين.»
قال إيفان كرامزوف بطل الرواية التي تتخيل هذا الملتقى وهذا الحوار: «إن السيد المسيح لم ينبس بكلمة ولم يقابل هذا الوعيد وهذا العداء بعبوس أو ازورار، وتقدم إلى المفتش الأعظم - وهو شيخ فان في التسعين - فلثم شفتيه وخرج إلى ظلام المدينة، وغاب عن الأنظار.»
خلاصة لما تخيله الكاتب العظيم في خطاب طويل مملوء بحكمة الحياة، كما يراها «الحكماء» من الطرف الآخر الذي يقابل الحكمة المسيحية: حكمة الرسول الكريم.
ولا نحسب أن الخيال في هذا الخطاب العجيب بعيد عن الحقيقة، ولا نستبعد ما قاله المفتش الأعظم حين أنذر الرسول الكريم أن يسلمه لمن يثور عليه، ويصب عليه الويل والغضب، بعد أن أحاط به ولثم قدميه وتوسل إليه.
كلا، إن الخيال في ذلك الخطاب غير بعيد من الحقيقة، وأقرب شيء إلى طبائع الناس أن يصنعوا ذلك الصنيع، وأن يتبعوا المفتش الأعظم في نقمته على الرسول الكريم.
وأقرب شيء أن يكون لو عاد السيد المسيح إلى الأرض أن ينكر الكثير مما يعمل اليوم باسمه، وأن يجد بين أتباعه كتبة وفريسيين ينعى عليهم الرياء، ويعلمهم من جديد أن السبت للإنسان وليس الإنسان للسبت، وأن العبرة بما في الضمائر لا بما تفوه به الألسن ويبدو على الوجوه، وأن الوحي في طوية الإنسان لا في طوايا الكتب والأوراق .
أقرب شيء أن يكون أن ينعى على الناس ما نعاه قبل ألف وتسعمائة سنة، وأن يجد إنسان اليوم كإنسان الأمس في شروره وعداوته، وفي نفاقه وشقاقه، وفي إعراضه عن اللباب وإقباله على القشور، وفي استعلائه بالتقوى حين يتقي، ولجاجه في الجحود والعدوان حين يجحد ويعتدي، خمرا جديدة في زق قديم.
ذلك أقرب شيء أن يكون.
وأقرب شيء أن يقال إذا طاف بالخاطر ذلك الخيال، أن يردد اللسان قول أبي العلاء:
تعب غير نافع واجتهاد
لا يؤدي إلى غناء اجتهاد
ففيم يشقى المصلحون؟ وفيم يهلك الشهداء؟ وفيم يأتي الأنبياء ويذهبون؟ وفيم اختلفت الديانات واصطرع عليها المتدينون؟ فيم كان هذا؟ فيم جاءهم رسول بعد رسول؟ وفيم توالى التابعون بعدهم بإحسان أو بغير إحسان؟
جاءوا وعادوا.
وانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
لئن قيل هذا ليكونن أقرب ما يقال بعد تلك الحقيقة التي جاءت في صورة الخيال.
ولكن الحقيقة الكبرى التي توزن بها جميع الحقائق هي أن الحقيقة لا ترى من جانب واحد، ولا سيما الحقيقة التي تخلد على الزمن في أطوار الإنسان منذ كان، وتخلد معه أنى يكون.
ليست حرية الضمير مطلبا محدود المسافة، يرحل إليه الإنسان ثم يصل إليه ويقعد عنده، ويكف بعده عن كل عناء.
إنما حرية الضمير جهاد دائم وعمل دائب، يتقدم فيه الإنسان شوطا بعد شوط، أو طبقة فوق طبقة، ولا يفرغ من جهاده يوما إلا لينظر بعده إلى جهاد مستأنف، ولا يودع الشر في مرحلة من مراحله إلا ليلقاه ويجاهده، ولن يلقاه في سلام.
ومطالبنا المحسوسة تهدينا إلى القياس الصحيح في هذه المشكلة، وهي أولى بأن ندركها من المطالب الخفية التي تعتلج بالضمير، وتبعثه إلى العمل مرة حيث يرى مواقع خطوه، ومرات حيث يبصر فلا يرى غير الحجب والظلمات.
من ذا يقول: إن عناء التعليم باطل، إذا رأى الطفل يحمل الكتاب وهو في الخامسة، ورآه يحمله وهو في العاشرة، ورآه يحمله وهو في العشرين ثم في الثلاثين، ثم رآه مدى الحياة لا يستغني عن علم ولا يقضي على الجهل كل القضاء؟
من ذا يقول: إن عناء الطب باطل، إذا رأى الناس يمرضون بعد علمهم بالجراثيم، وبعد افتنانهم في الطبابة ومواقع الدواء وموانع الشفاء؟
من ذا يقول: إن الغاية عبث؛ لأن الطريق إليها طويل؛ أو لأنها غاية تتلوها غاية بلا انقطاع ولا اكتفاء؟
لا نقول هذا في محسوساتنا التي نلمحها ونلمسها، فهل نقوله في غاية كحرية الضمير، وهي سر الأسرار في حياة الإنسان منذ كان وأنى يكون؟
ليست العبرة أن الشر واقع، ولكن العبرة كيف ننظر إليه، وكيف نواقعه أو كيف نتقيه.
وإذا وقع اثنان في الشر، فليس الذي وقع فيه وهو مستريح إليه مستزيد منه، كالذي وقع فيه وهو مضطر إليه نادم عليه، وليس الذي وقع فيه وهو يعلمه كالذي وقع فيه وهو يجهله، أو يقف منه موقف المغالطة بين العلم والجهل وبين القصد والاضطرار.
إنما الإنسان غير الحيوان البهيم؛ لأنه صاحب ضمير، وإنما يقاس ضمير الإنسان بالقيم التي يقومها والمثل العليا التي يتمثلها، والمطالب التي يطلبها وينالها أو لا ينالها، وما دام المصلحون والرسل يعلمون الإنسان قيمة يغليها، ويرفعون أمامه مثلا أعلى يتسامى إليه ... فهم عاملون وعملهم لازم، ونتيجته محققة، وإن دام الشر ولم ينقص عدد الذنوب والجرائم بأرقام الإحصاء.
وإذا قلنا يوما: إن الإنسان في هذا العصر يطلب الخير ولا يدركه، فقد قلنا على اليقين: إنه أفضل من الإنسان الذي كان لا يطلبه ولا يعرفه، وإن عمله غير مطلوب وغير معروف كما يعمل الحيوان.
إنما تقاس الأديان بما تودعه النفوس من القيم والحوافز، وبما تزيده من نصيب الإنسان في حرية الضمير، أو في حرية التمييز بين الحسن والقبيح، وقد عملت الأديان كثيرا ولا تزال قادرة على العمل الكثير، ولكنها لن تغني الإنسان يوما عن جهاد الضمير.
كان جهلاء الناس فيما غبر ينتظرون ألف سنة يعم فيها الخير، وينقطع فيها الشر ويمتنع الشقاء، ولا يرى في العالم يومئذ غير سعداء أبناء سعداء.
وكان «العارفون» يقولون عن هؤلاء: إنهم جهلاء.
لكن هؤلاء العارفين أجهل منهم إذا اعتقدوا أن دينا من الأديان لم يعمل عملا، ولم يكن غير عبث من العبث؛ لأن الدنيا باق فيها الشر، باق فيها الغي، باق فيها الكفران.
أي فرق بين العارفين الذين ينتظرون من الدنيا دنيا لا تعاب وبين الجاهلين الذين انتظروا السعادة المطلقة في «الألفية» الموعودة آخر الزمان، بعد قرون تعد بالعشرات أو بالمئات؟
لعل هؤلاء الجاهلين أقرب إلى التقدير الصحيح من أولئك العارفين؛ لأنهم يفكرون وينتظرون «الألفية»، وقد انتظرها الجاهلون بغير تفكير!
لو عاد السيد المسيح اليوم لوجد كثيرا يصنعه ويعيد صنعه، ولصنع كثيرا بين أتباعه ومن يعملون باسمه ويتواصون بوصاياه، ولكن الدنيا التي يصنع فيها الهداة صنيعا كثيرا خير من الدنيا التي لا موضع فيها لصنيع الهداة وجهاد الضمير.
ولن يختم المسيح العائد إلى الدنيا رسالة الخير والهداية، فتلك هي شروط الضمير الذي لا ختام له، وهو الغاية وراء كل ختام.
وسيعلم الناس في العصر الحديث - إن لم يكونوا قد علموا حتى اليوم - أن عقيدة الإنسان شيء لا يأتيه من الخارج فيقبله مرضاة للداعي أو ممتنا عليه، ولكنها هي ضميره وقوام حياته الباطنية يصلحه، إن احتاج إلى الإصلاح، كما يصلح بدنه عند الطبيب، وهو لا يمتن عليه ولا يرى أنه عالج نفسه لمرضاته، فالعقيدة مسألة الإنسان، لا شأن للأنبياء بها إلا لأنها مسألة الإنسان، وعليه إذا عالج إصلاحه أن يعالجها كما يعالج جزءا من نفسه، بل كما يعالج قوام نفسه، ولا يعالجها كأنها بضاعة يردها إلى صاحبها ويفرغ من أمرها، فلا فراغ من أمر العقيدة إلى آخر الزمان.
في الشعر العربي
المذاهب العربية
نظم الشعر في اللغة العربية فن مستقل بذاته بين الفنون التي عرفت في العصر الحديث باسم الفنون الجميلة، وتلك مزية نادرة جدا بين أشعار الأمم الشرقية والغربية، خلافا لما يبدر إلى الخاطر لأول وهلة، فإن كثيرا من أشعار الأمم تكسب صفتها الفنية بمصاحبة فن آخر، كالغناء أو الرقص أو الحركة على الإيقاع، ولكن النظم العربي فن معروف المقاييس والأقسام بعد استقلاله عن الغناء والرقص، والحركة الموقعة ، فلا يصعب تمييزه شطرة شطرة بمقياسه الفني من البحور والأعاريض، إلى الأوتاد والأسباب.
وليست هذه خاصة من خواص اللغات السامية أخوات العربية، فإننا إذا أخذنا سطرا على حدة من قصيدة عبرية لم نستطع أن ننسبه إلى وزن محدود أو مقياس متفق عليه، ولا بد من اقترانه بسطور أخرى يتم بها الإيقاع ولا تطرد في قول كل شاعر ولا في سطور كل قصيدة، فهو والفاصلة النثرية التي يمكن أداؤها بالغناء، أو بالإيقاع على حركة الرقص، متساويان.
ومن الشعر الغربي ما يعرف كل سطر منه بعدد من المقاطع والنبرات، ولكنه بغير قافية تنتهي إليها هذه السطور.
أما ضروب النظم التي تلتزم فيها القافية، فكلها في نشأتها كانت تغنى أو تنشد على إيقاع الرقص، ثم استقلت بأوزانها المحدودة على نحو مشابه للأوزان العربية، وهي الموشحات التي اشتهرت عندهم باسم «استانزا» أو اسم «سونيت»، ويدل كلا الاسمين على أصلها من الرقص والغناء ... فإن استانزا كلمة إيطالية بمعنى الوقوف تقابلها ستاند
Stand
بالإنجليزية وسونيت
Sonnet
من كلمة سونج
Song
بمعنى الغناء.
فالشعر الذي لا يضبط بالوزن أو بالقافية موجود في اللغات السامية واللغات الآرية، وبعضه لا يزيد الإيقاع فيه على الموازنة بين السطور بغير ضابط متفق عليه، وبعضه يضبط فيه الإيقاع بعدد المقاطع والنبرات، ولا ينتهي إلى قافية ملتزمة في القصيدة أو المقطوعة الصغيرة.
إنما الوزن المقسم بالأسباب والأوتاد والتفاعيل والبحور خاصة عربية نادرة المثال في لغات العالم، وكذلك القافية التي تصاحب هذه الأوزان.
ومرجع ذلك إلى أسباب خاصة لم تتكرر في غير البيئة العربية الأولى، أهمها سببان، هما الغناء المنفرد، وبناء اللغة نفسها على الأوزان.
فالأمم التي ينفرد فيها الشاعر بالإنشاد تظهر القافية في شعرها؛ لأن السامعين يحتاجون إلى الشعور بموضع الوقوف والترديد، ولكن الجماعة إذا اشتركت في الغناء لم تكن بها حاجة إلى هذا التنبيه؛ لأن المغنين جميعا يحفظون الغناء بفواصله ولوازمه ومواضع النبر والترديد في كلماته وفقراته، فينساقون مع الإيقاع بغير حاجة إلى القوافي عند نهاية السطور، وإنما تنشأ الحاجة إلى القافية، أو وقفة تشبه القافية عند تفاوت السطور وانقسام القوم إلى منشدين ومستمعين.
يقول العلامة جلبرت موري، وهو من ثقات البحث في الأوزان والأعاريض:
إن إحدى نتائج هذا الاختلاف زيادة الاعتماد على القافية في اللغات الحديثة، ففي اللغتين اللاتينية واليونانية ينظمون بغير قافية؛ لأن الأوزان فيهما واضحة، وإنما تدعو الحاجة إلى القافية لتقرير نهاية السطر، وتزويد الأذن بعلامة ثابتة للوقوف ... وبغير هذه العلامة تثقل الأوزان وتغمض، ولا تستبين للسامع مواضع الانتقال والانفصال، بل لا يستبين له هل هو مستمع لكلام منظوم أو كلام منثور، وقد اختلف الطابعون عند طبع الكتب هذا الاختلاف في بعض المناظر المرسلة من كلام شكسبير، فحسبها بعضهم من المنثور وحسبها الآخرون من المنظوم، ومما يلاحظ أن اللاتين اعتمدوا على القافية حين فقدوا الانتباه إلى النسبة العددية، وأن الصينيين يحرصون على القافية؛ لأنهم يلتزمون الأوزان، وأن انتشار القافية في أغاني الريف الإنجليزية يقترن بالترخص في أوزان الأعاريض.
ويستطرد الأستاذ موري إلى الشعر الفرنسي فيقول: «إن اللغة الفرنسية حين رجع فيها الوزن إلى مجرد إحصاء للمقاطع، وأصبحت المقاطع بين مطولة وصامتة - نشأت فيها من أجل ذلك حاجة ماسة إلى القافية، فصارت في شعرها ضرورة لا محيص عنها، ودعا الأمر إلى تقطيع البيت أجزاء صغيرة ليفهم معناه.»
ومن أسباب الاكتفاء بالوزن دون القافية في أشعار الغربيين سبب لم يذكره الأستاذ موري، وهو غناء الجماعة للشعر المحفوظ كما تقدم.
فحيث شاعت أناشيد الجماعة قل الاعتماد على القافية، وكثر الاعتماد على حركات الإيقاع، ولو لم تكن متناسقة الوزن على نمط محدود؛ لأن الغناء بالكلام المنثور ممكن مع توازن الفواصل، وموازاة السطور.
وأناشيد الجماعة قد شاعت بين العبريين؛ لأنهم قبيلة متنقلة تحمل تابوتها في رحلتها، وتنشد الدعوات معا في صلواتها الجماعة، وفي هذه الدعوات ترانيم على وقع الدفوف، كما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج حيث «أخذت مريم النبية الدف بيدها، وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم ...»
وكذلك شاعت بين اليونان أغاني المسرح التي ترجع في نشأتها إلى الشعائر الدينية، ثم انتقلت منها إلى الأمم الأوروبية.
ومما يؤيد الصلة بين غناء الفرد، والتزام القافية أن شعراء الأمم الغربية الذين ينشدون قصائدهم للمستمعين قد لجئوا إلى القافية والتزموا في مراعاتها أحيانا ما يلتزمه عندنا شعراء الموشحات.
أما البيئة العربية فلم تكن فيها قبل الإسلام صلوات جامعة منتظمة بمواعيدها ومحفوظاتها، وإنما كان الحداء هو الغناء الذي يصاحب إنشاد الشعر على بساطة كأنها بساطة الترتيل، ينشده الحادي على انفراد وتصغي إليه القافلة أحيانا في هدأة الليل؛ إذ يعتمد الحس كله على السمع في متابعة النغم إلى مواضع الوقوف والترديد، فتقفو النغمة على وتيرتها، ويصدق عليها اسم القافية بجملة معانيه.
لهذا استقل المنظم بحقه في الصنعة؛ لأن هذه الصنعة لازمة لتمييزه مع الغناء ومع غير الغناء، فانتظمت قوافيه وانتظم ترتيله انتظاما لا بد منه لكفايته، مع بساطة أفانين الغناء.
وإذا التمسنا مدخلا لفن الحركة الموقعة مع الحداء، فهناك إيقاع واحد نتابعه في خطوات الإبل، وفي خطوات الهرولة التي تصاحبها على القدم، وإلى هذا الإيقاع يرجع وزن الرجز على قصد وعلى غير قصد، ومجيئه على غير قصد أدل على تمكن العادة، وعلى أصالتها في الحياة البدوية.
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب •••
هل أنت إلا أصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وقد تكون حركة الهرولة في الطواف بالكعبة ملحوظة في كل دعاء مروي كيفما اختلف المختلفون في صحة الرواية، كما قيل عن امرأة أخزم بن العاص حين نذرت ولدها للكعبة، فقالت:
إني جعلت رب من بنيه
ربيطة بمكة العليه
فباركن لي بها إليه
واجعله لي من صالح البريه
فهكذا يفهم الناظم كيف تكون حركة الدعاء مع الهرولة، أيا كان صاحب النظم أو من ينسب إليه.
هذه المرددات الفردية هي التي ميزت النظم العربي باستقلال فنه، ووضوح قافيته وترتيله، ولو وجدت في الجاهلية العربية صلوات جامعة تنشد فيها الدعوات المحفوظة لوجدت فيها القصائد التي تمثل لنا حياتهم الدينية وحياتهم الاجتماعية، إما من أناشيد الصلاة كما عرفها العبرانيون، أو من أناشيد المسرح كما عرفها اليونان، ولكننا نعرف العرب من قصائدهم الفردية، كما نعرف الأمم الأخرى من أمثال تلك القصائد، فلا يفوتنا منها غاية ما تدل عليه.
هذا سبب من أسباب تلك الظاهرة النادرة التي ظهرت لنا في القصيدة العربية، وكانت نادرة بين الأمم السامية والأمم الآرية على السواء.
أما السبب الآخر فهو أصالة الوزن في تركيب اللغة، فالمصادر فيها أوزان، والمشتقات أوزان، وأبواب الفعل أوزان، وقوام الاختلاف بين المعنى والمعنى حركة على حرف من حروف الكلمة تتبدل بها دلالة الفعل، بل يتبدل بها الفعل فيحسب من الأسماء، أو يحتفظ بدلالته على الحدث حسب الوزن الذي ينتقل إليه.
هذه أصالة في موضع الوزن من المفردات والتراكيب لا يستغرب معها أن يكون للوزن شأنه في شعر هذه اللغة، وأن يكون شأنها في نظم أشعارها على خلاف المعهود في منظومات الأمم الأخرى، ولو صرفنا النظر عن أثر الإنشاد الفردي في تثبيت القافية، واستقلال فن العروض عن فن الغناء في القصائد العربية.
نعم إن اللغات السامية تجري على قواعد الاشتقاق، وتوليد الأسماء من الأفعال، ولكن المقابلة بين هذه اللغات في أقسام مشتقاتها، وتفريع الكلمات من جذورها تدل على تمام التطور في قواعد الأوزان العربية، وعلى نقص هذه القواعد أو التباسها في أخواتها السامية، بل تدل في باب الإعراب خاصة على تفصيل في العربية يقابله الإجمال أو الإهمال في أخواتها، وفي غيرها من اللغات الآرية التي دخلها شيء من الإعراب. •••
وواضح مما تقدم أننا قصرنا القول على النظم من حيث هو أوزان عروضية، أو قوالب تحتوي الكلم المنظوم فيها.
فهذه القوالب هي التي تطورت في اللغة العربية، فأصبحت فنا مستقلا بمقاييسه عن فن الغناء أو فن الحركة الموقعة، أما الكلام المنظوم في تلك القوالب فهو عمل ممتد مع الزمن يأتي فيه كل عصر بما هو أهله من الإبداع أو الزيادة أو المحاكاة، وإنما نعود إلى القوالب والأوزان في كل عصر لنسأل: هل هي صالحة لأداء المقاصد الشعرية ومجاراة الأمم في تطورها الذي يمتد مع الزمن على حسب حالاتها من الشعور والفهم والقدرة على الأداء؟ وهل تتسع للتعديل إذا وجب التعديل للوفاء بمطلب جديد من مطالب التعبير؟
إن تجارب العصور الماضية تنجلي عن صلاح القوالب العروضية لمجاراة أغراض الشعر في أحوال كثيرة، ويبدو منها أن أساس العروض العربي قابل للبناء عليه بغير حاجة إلى نقضه وإلغائه، فقد كانت بضعة بحور من أوزان الشعر كافية لأغراض الشعراء في الجاهلية، أشهرها الطويل والكامل والوافر والخفيف، ثم نشأت من أوزانها مجزوءات ومختصرات صالحة للغناء حين استحدثت الحاجة إليه في الحواضر العربية التي عرفت الغناء على إيقاع الآلات، ثم اتخذت من هذه البحور أسماط وموشحات وأهازيج تتعدد قوافيها مع اختلاف مواقعها، وتطول فيها الأشطر أو تقصر مع التزام قواعد الترديد فيها، واختار بعض الشعراء نظم المثاني أو المزدوجات، وبعضهم نظم المقطوعات التي تجتمع في قصيد واحد متعدد القوافي، أو تتفرق وتتعدد بأوزانها مع توحيد الموضوع، ولما نقلت الإلياذة اليونانية إلى النظم العربي لم تضق بها أوزانه، ولم يظهر سياق الترجمة أن هذه الأوزان قاصرة عن التنويع فيها على نمط غير هذا النمط لمن يشاء التنويع، واستجابت الأوزان لمطالب المسرح كما استجابت للملحمة المترجمة ولما يشبهها من القصائد التاريخية المطولة.
وقد أفرد الموسيقار العصري الأستاذ خليل اللاوردي فصلا وافيا في كتابه فلسفة الموسيقى الشرقية لبحث التوزين والإيقاع، وتطبيق العروض العربي على الضوابط الموسيقية، فانتهى من بحثه إلى إمكان التنويع في الأوزان العروضية، واستطاعة الموسيقي والشاعر أن «يفتتح أشكالا غير محدودة من أشكال الموازين، واعتمد في تجاربه على الجهاز الفني المسمى بالمتروتوم، وهو صندوق صغير من الخشب هرمي الشكل، يفتح من إحدى جهاته الأربع، فينكشف عن قضيب معدني مقسم بخطوط، وعليه ثقل متنقل يحدث حركة متساوية ... فيقسم الدقيقة الواحدة من الزمن إلى نقرات تتراوح بين أربعين ومائتين وثمان، فيمثل الحد الأدنى النقرات المتناهية في البطء، ويمثل الحد الأعلى النقرات المتناهية في السرعة» ... ولم يلجأ الموسيقار إلى وحدات للنغمات غير وحدات الفواصل والأوتاد والأسباب التي يستخدمها العروضيون، ولم يجعل لها أقساما غير أقسامهم المعروفة كالسبب الخفيف والسبب الثقيل، والوتد المقرون والوتد المفروق، والفاصلة الصغرى والفاصلة الكبرى، وإنما استخدم الضوابط الموسيقية لبحث الموضوع بمصطلحات فنه، وترك مجال بحثه للعروضيين يتفاهمون فيه بمصطلحاتهم التي لا تحتاج إلى التخصص أو التوسع في فنون الألحان، فخلص من بحوثه الموسيقية والعروضية معا إلى نتيجة محققة خلاصتها - كما قال - أن أشكال الموازين الشعرية غير محدودة، أو أن حدودها - على ما نرى - أشبه بحدود الكلمات التي تتألف من الحروف الأبجدية، على حين أن الحروف الأبجدية قلما تزيد على الثلاثين.
فإذا نظرنا إلى ما تم من أشكال العروض، وما يتأتى أن يتم منها مع التنويع والتوزين، ثبت لنا أنها قائمة على أساس صالح للبناء عليه وتجديد الأنماط والأشكال فيه، على نحو يتسع لأغراض الشعر ولا يلجئنا إلى نقض ذلك الأساس. •••
وهذا كله مع التسليم بداهة بالتفرقة بين الكلام المنثور والكلام المنظوم في السهولة أو الصعوبة، فإن التسهيل المطلوب لفن من الفنون - كائنا ما كان - ينبغي أن ينتهي عند بقاء الفن فنا مقرر القواعد والمقاييس، وما جهل الناس قط أن الكلام أسهل من الغناء، وأن المشي أسهل من الرقص، وأن الحركة المرسلة أسهل من الحركة الرياضية، ولم يكن ذلك قط مسوغا للاستغناء بالكلام عن فن الغناء أو بالمشي عن فن الرقص، أو بتحريك الأعضاء بغير هدى عن أصول الحركة الرياضية أو الحركة في ألعاب الفروسية، فمهما يكن من تيسير الأوزان بالتنويع والتوفيق، فلا مناص في النهاية من التفرقة بينها وبين الكلام المرسل في سهولة الأداء، وإنما المطلوب أن تكون فنا سهلا، وليس المطلوب مجرد السهولة التي تخرجها من عداد الفنون.
ولا بد في هذا السياق من تفرقة أخرى هي التفرقة بين القواعد والقيود في كل فن من الفنون، فلا سبيل إلى الاستغناء عن القواعد في عمل له صفة فنية، ولا ضرر من الاستغناء عن القيود التي تعوق حرية الفن ولا يتوقف عليها قوامه الذي يسلكه في عداد الفنون.
ومن تجاربنا في تاريخ الشعر العربي يتبين لنا أن قواعد النظم عندنا مؤاتية للشاعر في كل تصرف يلجئه إليه تطور المعاني والتعبيرات في مختلف البيئات والأزمنة، فلا موجب للفصل بين قواعد النظم، وأغراض الشعر في تجربة من التجارب العربية التي وعيناها منذ نشأت أوائل الأوزان إلى أن بلغت ما بلغته في منتصف هذا القرن العشرين.
ذلك شأن التجارب العربية، فما بال التجارب في أمم الحضارة التي تتصل بنا ونتصل بها، وتبادلنا ونبادلها مطالب الفنون والآداب كما يحدث الآن بيننا وبين أمم الحضارة الغربية؟ ماذا تفرض علينا هذه الثقافة المتبادلة في ميدان النظم والشعر على اتصال بينهما أو على انفراد؟
أما في النظم فلا خفاء بالأمر من أيسر نظرة إلى آدابنا وآداب الأمم الغربية التي نتصل بها في العصر الحديث.
فمما لا تردد فيه أن هذه الأمم لم تبدع في موازين النظم بدعا نستفيده منها، ولم نكن قد سبقناها إليه في عصر من عصورنا، فإذا التزموا الأعاريض معتدلين أو مبالغين، فليس عندهم ما هو أدق وأجمل من الموشحة في أوزانها التي تقبل التنويع والتشجير إلى غير نهاية، والتي يعتبر تعدد القافية فيها ندحة وزينة في وقت واحد، فإن إطلاق الحرية للشاعر لتوزيع القوافي حيث شاء يوشك أن يعفيه من قيودها، كما يزيد الإيقاع جمالا على جمال، ولم يبدع الأوروبيون - حتى في شعر المسرحيات الملحنة - فنا من الأناشيد أتم من الموشحة، وأصلح منها للتلحين وحركة الإيقاع.
فإذا ترخص الشاعر الغربي في القواعد، فأسقط القافية واختار الوزن الذي يسمونه النظم الحر أو النظم الأبيض، فجهد ما بلغوا إليه أنهم عادوا إلى الأسطر المتوازية، أو إلى الاكتفاء بالمقاطع التي لا تبلغ في دقتها مبلغ الأسباب والأوتاد والفواصل، وكل أولئك طور من الأطوار التي تخطاها الشعر العربي في الأزمنة الماضية، أو سبقتهم إليه أمة من الأمم الشرقية وتوقف بها التطور عنده؛ لارتباطه بالتقاليد الدينية.
فليس عند الغرب من فنون النظم جديد نأخذه منه في أبواب التوزين والتنويع.
ليس في فن النظم جديد نأخذه من الأعاريض الغربية لم تكن عندنا أسسه العريقة، ولم تكن عندنا أصوله وفروعه أو جذوره وأغصانه على حد تعبير «الموشحين».
لكن الأمر يختلف كثيرا في الكلام على «الشعر»، أو الكلام على الأدب ومدارسه ومذاهبه، ودعواته التي تجيش بها الحياة الغربية في كل حقبة، ولا تتميز منها دعوة واحدة دون أن يتميز لها حكم خاص بالشعر يتناوله قبل أن يتناول غيره من الفنون الجميلة، ولا سيما فنون التعبير.
هذه المذاهب الشعرية تعنينا كما تعنيهم، وتمتد بآثارها إلى أقوالهم وأفعالهم كما تمتد إلى أقوالنا وأفعالنا.
لأنها من أطوار الحياة التي لا تنحصر في دوائر الفن، ولا في أدوار الثقافة على إطلاقها، وإن يكن مظهرها الثقافي هو الجانب الذي يشتغل به النقاد والمؤرخون في ميادين الفنون.
هذه الدعوات أوسع نطاقا من أن يحاط بها في مقال، ولكنها تقترب من الحصر المستطاع إذا جمعناها في أدوارها الإنسانية العامة التي توشك أن تكون أمواجا دورية في هذا المحيط الزاخر؛ إذ هي عالقة بطبيعة الإنسان في جملتها، وطبيعة الإنسان واحدة كما قيل في كل زمان ومكان ...
ونحن نعلم أن أبقراط حصر الطبائع الجسدية في أربعة أمزجة، وهي المزاج الدموي، والمزاج الصفراوي، والمزاج البلغمي، والمزاج السوداوي، ثم جاء العلامة بافلوف - بعد تقسيم خصائص الأجسام بين الهرمونات وعائلات الدم وودائع الوعي الباطن والوعي الظاهر أقساما لا تنفد ولا تحصى - فعاد إلى الأمزجة الأبقراطية تيسيرا للفوارق العامة، وجعلها أساسا لتجاربه النفسية التي تعد إلى هذه الساعة من أحدث تجارب العلماء.
فنحن على هذه الوتيرة نقسم الذوق الفني في الإنسان إلى أقسامه الخالدة حين نقول: إن الناس كانوا منذ فطروا واقعيين وخياليين، ومحافظين على القديم وطلابا للجديد، أو إنهم كانوا إذا اكتفينا بقسمتهم إلى قسمين اثنين: صنفا يمشي في وسط القطيع وصنفا ينزع إلى الأطراف، أمام ووراء وعلى كلا الجناحين من اليمين واليسار، وقد تفكه بعض الجادين فأطلق على الصنف الأول اسم فريق الضأن، وعلى الصنف الثاني اسم فريق المعيز ...
ونرى من تاريخ الأمم الغربية منذ ملكت حرية التفكير أنها دارت دورتها بين مذاهب الآداب خلال القرون الثلاثة الأخيرة، وأنها نزعت في دعواتها المتعاقبة كل نزعة طبيعية تستلزمها أطوار الحياة بعد عصر الجمود والتقليد.
ففي فترة اليقظة الأولى كان من الطبيعي أن ينزع الإنسان إلى استقلال «الشخصية الإنسانية» في وجه التقاليد المطبقة والقيود العتيقة والأحكام التي تطاع بغير فهم، بل بغير شعور في أكثر الأحوال، وهذه هي النزعة التي سميت بنزعة الإبداع و«الحرية الشخصية»
Romanticism .
ومن الطبيعي أن ينتهي هذا الإبداع - من كل جانب على غير هدى متفق عليه - إلى شيء من الفوضى والشرود يستحب معه التوقف إلى حين، وهنا ظهرت دعوة العود إلى الاتباع والاطراد على نحو جديد يناسب مطالب الزمن، فنشأت من ثم دعوة الاتباع أو الاطراد الجديد
New Classicism .
وإذا حكم اختلاف الطبائع حكمه بين أنصار الواقع وأنصار الخيال، فهنا مجال الاختلاف بين الواقعيين
Realists
والخياليين المثاليين
Idealists .
وقد يظهر هذا الاختلاف في صورة أخرى بين الطبيعيين
Naturalists
وبين الفنيين أنصار الفن للفن
Art for Arts sake .
ونقول: إن الواقعيين والطبيعيين متقاربون؛ لأنهم جميعا من أنصار الواقع، وإنما ينفرد الواقعيون بمحاربة النزعات الخيالية، وينفرد الطبيعيون بمحاربة النزعات الصناعية: نزعات الإغراق في التزويق والتنسيق، وإذا اقترنت هذه المذاهب جميعا في عصر من عصور النهضة العلمية، فالانقسام بينها يئول في هذه الحالة إلى قسمين: قسم تغلب عليه الصبغة العلمية، وقسم تغلب عليه الصبغة الفنية، ويتسع كل قسم منها لكثير من الآراء وأشتات من الأساليب.
ولا جدوى من متابعة العناوين التي تنتهي في الغرب بصيغة النسبة المذهبية
Ism ، فإنها تنطوي جميعا في هذه الدعوات، ويحيط كل منها بعالم من الآراء والأسباب، ولكننا نجمعها في حدودها الواسعة إذا اكتفينا منها بالرومانتيزم والنيوكلاسيزم والريالزم والأيدليزم، فلا يخرج من هذه المذاهب مذهب جاد يناط به عمل من أعمال البناء والإصلاح في عالم الفنون، ولا تزال حتى اليوم وافية بأغراض البحث والمناقشة بين المختلفين على الفنون فيما يستحق الخلاف.
وعلى تعدد المذاهب والعناوين في الغرب لا نرى هنالك لبسا على الإطلاق بين المذاهب التي أشرنا إليها، وبين عشرات المذاهب التي ينتحلها الدعاة على عجل منذ الحرب العالمية الأولى، ويندر أن يعيش أحدها أو يستقل عن سواه بصفة من الصفات التي يتناولها التطبيق والتمييز.
فلا لبس على الإطلاق بين مذاهب الجد ومذاهب الهزل في الآداب الغربية، فمذاهب الجد تدعو كلها إلى البناء وتقوم بالبناء فعلا ويعيش ما تبنيه، ومذاهب الهزل لا تتحدث بشيء غير الهدم والإلغاء؛ فلا لون ولا شبه ولا رسم ولا قاعدة في التصوير، ولا لفظ ولا معنى ولا منطق، ولا مدلول في الشعر والنثر، وإنه لمن الحظ الحسن أن تقصر هذه الدعوى عن الفنون التي ترتبط بها ضرورات المعيشة والاجتماع، فإنها لو تناولتها لسمعنا بفن المعمار الذي لا حجرات ولا جدران ولا حجارة ولا طلاء فيه، وسمعنا بمجامع الموسيقى التي لا تميز بين الضوضاء والألحان، ولا محل فيها للمعازف والآلات، من هذه المذاهب ما يطلق عليه اسم المستقبلية
Futurism
أو فوق الواقعية
Surrealism
أو الذئبية
Fauvism ... بل منها ما يسمى بمدرسة التأتأة
Dadalism ، ويقول أصحابه: إنهم اختاروا له هذا الاسم من أول تأتآت الطفل
Da Da ، وتطلق أحيانا على حصان الخشب؛ ليسهل النطق به على ألسنة الأطفال، ومؤدى مذهب هؤلاء الدعاة أن التعبير الصحيح عن النفس الإنسانية إنما يرجع إلى صورة الطفولة، ورموز الأحلام، وخفايا الوعي الباطن، كما تبدو للحالم في المنام، أو كما يرسلها الناطق عفوا بغير تأمل وبغير انتباه!
ومن هؤلاء الملفقين للمذاهب من يختار اللفظة ويسأل عن معناها، فيسخر من السائل؛ لأنه يبحث عن المعنى ولا يكتفي بوقع اللفظة في الأذن، أو من منظرها للعين القارئة، فمن عناوين مارينتي إمام المستقبلية «زانج تمب تيايم
Zang Tumb-Tuuum ، ومن عناوين زميله أردينجو سوفيسي
Bifz +18
ما لا يفهم ولا يترجم، وإنما هو مقابل عندنا لحرف الباء، ثم الياء ثم الفاء ثم علامة موسيقية، ثم زاي ثم علامة + ثم رقم 18.»
وقد عقب صاحب تاريخ الأدب الإيطالي على إمام هذه المدرسة فقال: إنه لم يجاوز حدود السخف في شعره ... ولم يخل كلام المؤرخ من مجاملة؛ لأن السخف معنى يوصف بالرداءة ... ولا معنى هنا ولا وصف لرديء أو غير رديء.
ولا بد من وضع هذه الدعوات في موضعها من تاريخ الآداب الإنسانية والآداب الأوروبية التي تظهر بينها، فما هو موضعها الصحيح ؟
موضعها الصحيح أنها تمثل جانب السخافة الذي لا بد أن يتمثل في بيئة يباح فيها القول لكل قائل والقراءة لكل قارئ، ولا يخجل فيها العاجز من عجزه، ولا صاحب اللجاجة من لجاجته، وهم جميعا في غمرة من محن الحروب والفتن والقلاقل والآفات، فهل تخلو هذه البيئة من جانب سخافة في الأذواق والدعوات؟ وأين هو هذا الجانب إن لم يكن هذا مظهره الذي يتمثل في صوت القنوت؟
ولسنا نقول: إن هذه السخافة جانب يهمل ولا يلتفت إليه، فإنها خليقة أن تدرس كما تدرس عوارض الأمراض والعلل والنكبات، ولكن البون بعيد جدا بين دراستها لهذا الغرض ودراستها للاقتداء بها واعتبارها من مدارس الفن والأدب، ونماذج الذوق والجمال.
ولا تفوتنا في معرض الكلام على الشطط الفني ملاحظة وثيقة الصلة بموضوع الخلط الذي يقال عنه: إنه هو الفن الصحيح أو إنه هو التعبير الصادق دون غيره من الوعي الباطن والسريرة الإنسانية في أعماقها «اللامنطقية» على حد تعبيرهم المأثور.
فالخلط الهاذر مذهب لم يخلقه دعاة «اللامنطقية» في القرن العشرين، ولكنهم خلقوا شيئا واحدا فيه لم يسبقهم أحد إليه، وهو إطلاق العناوين العلمية عليه، واستعارتها من دراسات التحليل النفساني أو من دراسات العلوم الطبيعية، وقديما وجد في الشعراء والفنانين من يجنح به هواه أحيانا إلى رفع الكلفة واطراح الحشمة والابتذال في اللفظ أو المعنى أو في كليهما، فيسترسل في الهذر واللفظ كأنه في إجازة من «نفسه الفضلى» كما يقولون، وينسب إلى هذه النزوات شعر المجانة والهزل وشعر الإباحة والجموح، وينسب إليه كذلك ضرب من الشعر الذي يخيل إلى الناس أنه محدثهم بالحكم والأمثال، وهو في أسلوبه الهازل ساخر بضروب الحكمة والمثل، كما صنع ابن سودون اليشبغاوي (801-868ه) في قصيدته البائية التي يقول فيها:
عجب عجب عجب عجب
بقر تشمي ولها ذنب
ولها في بزبزها لبن
يبدو للناس إذا حلبوا
لا تغضب يوما إن شتمت
والناس إذا شتموا غضبوا
من أعجب ما في مصر يرى
الكرم يرى فيه العنب
والنخل يرى فيه بلح
أيضا، ويرى فيه رطب
زهر الكتان مع البلسا
ن هما لونان ولا كذب
كيهود في دير، خلطوا
بنصارى حركهم طرب
وأدخل من هذا في باب «اللامنطقية» مذهب من مذاهب الزجل في اللغة الدارجة يعاقبون بينه وبين الأدوار المقصودة، فيبدءون بالدور العاقل، ويتبعونه بالدور المجنون إلى نهاية الزجل، ويحفظ من هذه الأزجال كثير في مجموعات هذا الجيل والأجيال القريبة، من أمثلتها في كتاب ترويح النفوس لحسن الآلاتي زجل يقول فيه:
كسرت بطيخة رأيت العجب
في وسطها أربع مداين كبار
وفي المداين خلق مثل البقر
في كل واحدة أربع قواعي حصار
وفي القلاع أقوام طوال الذقون
ودمعهم يجري شبيه البحار
من دمعهم تزرع نجوم السما
في خلقة المشمش عديم المثال
وأحيانا يقسمون الأدوار إلى دور صاح ودور سكران، أو يصوغون فيها المفارقات على ألسنة الصبيان كما يجري على ألسنة العامة:
يا ليل يا عين معرفش أكدب
والضفدعة شايلة مركب
وأبو فصادة ريسها
والقط الأعور حارسها
إلى أشباه هذه «اللامنطقيات» المتواضعة التي يضعها أصحابها في مواضعها، ويسمونها بأسمائها، ولا تعدو عندهم أن تكون «منفسا» يستبيحونه إلى حين، ويعرضون به «اللامنطقية» في صورة فنية، ويعلمون ويعلم الناظرون إليها أنها من قبيل الصور الهزلية أو «الكاريكاتور»، ولا يطلبون من الإنسانية أن تحلها في محل فنونها، وأن تنبذ المنطق في سبيلها.
فإذا كان لا بد من هذه اللامنطقية في الآداب العربية، فعندها منها ما يغنيها، ولها فيها مجال لا يخرج بالعقل من دائرة العقل، ولا بالجنون من دائرة الجنون.
الشعر أسبق أم النثر؟
السيد جوردان شخصية مشهورة من الشخصيات المضحكة في إحدى روايات «موليير»، التي استوى بها على عرش الفكاهة المسرحية في الآداب الفرنسية ...
ومدار الفكاهة في شخصية جوردان أنه غني من محدثي النعمة أراد أن يتشبه بالنبلاء؛ فاتخذ له معلمين يعلمونه الرقص والمسايفة والبلاغة، وجاء بالطرائف التي لا تخطر على البال وهو يحاول أن يفهم دروسهم ويعقب على شروحهم وأقوالهم، فإذا هو كما قال يتكلم «النثر» طوال حياته، ولا يعرف ذلك حتى عرفه من كلام معلم البلاغة!
لقد أفهمه معلمه معنى الشعر ومعنى النثر، فخيل إليه أن النثر هو ما ليس بكلام موزون منظوم، وتخيل إذن أن كلامه طول حياته داخل في ذلك التعريف، وأنه كاد أن يقضي بقية حياته وهو يجهل هذه المعجزة ... لولا أنه تلقى الخبر أخيرا من الأستاذ.
أراد موليير أن يجعل السيد «جوردان» مضحكا بهذه العبارة، فأفلح فيما أراد وضحك الناس مما قال؛ لأنهم أدركوا على البديهة من غير تطويل في البحث والاستقصاء أن السيد «جوردان» مخطئ في تصوره الساذج، وأن النثر شيء غير مجرد الكلام الذي لا ينطبق عليه تعريف الشعر، وهو الكلام الموزون المنظوم.
فإذا لم يكن الكلام شعرا، فليس من الضروري اللازم في هذه الحالة أن يكون نثرا لا محالة، قد يكون كلاما وليس بشعر وليس بنثر؛ لأن المقصود بالنثر هو التعبير الأدبي في غير نظم أو وزن من أوزان البحور الشعرية، وقد يتكلم الإنسان طول حياته، وهو لا ينظم ولا ينثر، إذ كان كلامه خلوا من التعبير الأدبي في المنظوم والمنثور.
وإذا سأل السائل: أيهما أسبق، الكلام أم الشعر؟ فلا محل للخلاف ولا لإطالة الروية قبل الجواب، فإن اللغة سابقة للكلام المنظوم والكلام المنثور على السواء، ولكن السؤال الذي يقع عليه الخلاف هو: أيهما أسبق، الشعر أم النثر؟ ونعتقد نحن أن الشعر أسبق من النثر بزمن طويل، نعتقد هذا ولا نحسب أن الدليل القاطع في تقرير هذا الرأي مستطاع، ولكنه رأي يقوم على القرائن التاريخية والقرائن النظرية، ولا ينقضه من الواقع شيء معلوم حتى الآن.
فمن القرائن التاريخية أن الشعراء أقدم من الكتاب ومن الناثرين على العموم، إذا صرفنا النظر عن الكلام المكتوب أو المحفوظ في الأوراق.
فشعراء العرب في الجاهلية لا يسبقهم ناثر، ولا يحفظ العرب كلاما منثورا يقترن تاريخه بالتاريخ الذي نظموا فيه قصائدهم المروية، وما بقي من كلام الكهان المسجوع، فهو - إن صح - أدل على قدم الشعر والقافية؛ لأن الكلام المقفى محاكاة للشعر الذي تلتزم فيه الأوزان والقوافي، ودليل على سبق الكلام المنظوم للكلام المنثور، ولم يثبت قط أن الشعر هو سجع متطور؛ لأن التاريخ لم يحفظ لنا قط كلاما مسجوعا عن عصر من العصور ليس فيه شعر، ولم نعرف عن الشعراء في أقدم العصور أنهم سجعوا ثم تطوروا فنظموا، ولم تزل أسجاع الكهانة غير أوزان «الشاعرية» في طبيعتها وموضوعها، فالكاهن لا يتدرج من السجع إلى النظم، والشاعر لا يتعلم الكلام الموزون من المرانة على الكلام المسجوع.
والآداب اليونانية هي مرجع الباحثين عن أوائل الآداب الأوروبية القديمة، وهي شاهد آخر على سبق النظم للنثر في جميع الآداب؛ لأن «هومير» قد نشأ في زمن سابق للقرن السابع قبل الميلاد، وكان من معاصريه في بعض الأقوال «أرشيلوكس» الذي أشار في قصائده إلى كسوف الشمس، وحسب الفلكيون أنه كسوف أبريل سنة 648 قبل الميلاد، أو كسوف مارس سنة 711 قبل الميلاد، وليس في المحفوظات اليونانية كلام منثور يرجع إلى ما قبل التاريخ ... وكل ما بقي من الكلام المسجوع الذي يقارب ذلك التاريخ، فهو من قبيل سجع الكهان، أو من قبيل السجع الذي يستعان به في الخطابة، وأقدم ما ورد من ذكره لا يرجع إلى عصر سابق لعصر الناقد المعروف ثراسيماكوس
Thrasymachus ، وهو من أبناء القرن الخامس قبل الميلاد.
أما الأدب اللاتيني فقد كان من الواجب أن تنعكس فيه هذه القاعدة؛ لأنه الأدب القديم الذي امتاز بالرسائل المأثورة لسعة أطراف الدولة، وتجدد الحاجة إلى المراسلة بين سكان تلك الأطراف المترامية، ومنهم الأدباء والبلغاء.
ولكن الثابت مع هذا أن الأغاني اللاتينية سابقة للملاحم والقصائد في لغة اللاتين بعد تطورها، وأن مشاهير الشعراء سابقون لمشاهير البلغاء والكتاب، وأصحاب الرسائل المنتقاة، ومنهم شيشرون الناقد الأديب الخطيب.
وما يؤثر عن قدم الشعر في الآداب العربية والأوروبية شبيه بالمأثور عن آداب الأمم الشرقية في جملتها، فليس في آدابها نثر أقدم من قصائدها المقدسة، وأغانيها الشعبية الأولى، وكل محفوظاتها المسجوعة لاحقة بمحفوظاتها من الشعر الموزون.
وقد يخطر على البال أن السبب راجع إلى الحفظ لا إلى القدم، وأن النثر قد سبق الشعر ولكنه لم يبق كما بقي الشعر؛ لأن الكلام الموزون أيسر حفظا من الكلام المنثور، ولكنه خاطر مردود يسهل نقضه بقليل من الروية فيه، فإن سهولة الحفظ نفسها تحتاج إلى التعليل، وليس لها علة إلا أن يكون الكلام المحفوظ أقرب إلى الطباع، وأدنى إلى الفطرة وأغنى عن الصناعة، وأن الكلام الذي يصعب حفظه بغير التسجيل في الورق يعتمد على صناعات كثيرة ولا يكفي فيه الاعتماد على الفطرة، فهو معلق بمعرفة الحروف ومعرفة الأدوات الكتابية، وتطور المجتمع مع تطور الحاجة فيه إلى التدوين بغير الوسائل الفطرية، وهي وسائل الحفظ والتعويل على الذاكرة.
وقد يبدو للسيد «جوردان» أن تأخر النثر عن النظم شيء غريب؛ لأنه يخلط بين ظهور النثر وظهور اللغة، وهي ولا شك سابقة لظهور الشعراء والبلغاء.
لكن السيد جوردان مضحك كما أراده موليير، ومضحك كما رأينا من فهمه لكل شيء، فالواقع أن تأخر النثر عن النظم ترتيب طبيعي لا غرابة فيه، إذ كانت شروط الشعر تتوافر قبل توافر الشروط المطلوبة للكلام المنثور، ويكفي لظهور الشعر أن تظهر في إنسان من الناس ملكة غنائية، وهي من أقدم الملكات في الأحياء، أما الكلام المنثور فما الحاجة إليه في المجتمعات الأولى؟ وما أكثر الشروط الصناعية التي ينبغي أن تتوافر في المجتمع قبل شعوره بالحاجة إليه!
ولا نخلط بين الخطيب والناثر فهما شيئان مختلفان، فإن الخطابة في المجتمعات الأولى صفة من صفات الزعامة، وليس كذلك صفة الناثر البليغ، ولكننا - على فرض التشابه بين الخطابة والنثر - قد نتصور ظهور الشاعر قبل ظهور الخطيب والناثر؛ لأن ملكة الشعر لا تتوقف على نشوء «القبيلة السياسية» التي تستمع إلى الخطباء في شئونها العامة، بل لعلها توجد مع الدوافع الحيوية التي تهم كل فرد على حدة، ولا تتوقف على سياسة الجماعات.
والغالب أن الشعر فطرة، وأن النثر تعليم، وأن الباعث إلى الكلام البليغ يأتي بعد الباعث إلى الغناء، فقد تغنى الحي الذي لا يتكلم، وليس بالمعقول أن يصل الحيوان الناطق إلى الكلام وهو عاجز عن الغناء وعن صوغ كلامه في النغم الموزون. •••
في حديث مروي عن أستاذ المدرسة الموسيقية القديمة مصطفى رضا بك - رحمه الله - أنه كان يعجب للذين يعرضون أنفسهم بين المقامات الموسيقية وعناوين النغمات، وأنه كان يشبههم بمن يتصدى لكتابة خطاب قبل أن يميز بين الحروف، وأنواع الخطوط، وهذا قياس مع الفارق كما هو ظاهر، فإن الأحرى أن يقال: إن المغني الذي لا يعرف أسماء المقامات والأنغام، كالشاعر الذي لا يعرف أسماء البحور والأعاريض.
وقد وجد الغناء قبل أن توجد أسماء مقاماته وأنغامه، ووجد الشعر قبل أن توجد أسماء بحوره وأعاريضه ...
لكن العجيب حقا هو أن يوجد ناثر قبل أن توجد الحاجة إلى التدوين، فحيثما وجد النثر فهناك جماعة تحتاج إلى تدوين الكلام، ولو لم يكن صاحب النثر نفسه هو الذي يدون ما يقول بالحروف أو بغير الحروف.
ولهذا نرى أن سبق الشعر لا عجب فيه، وأن سبق النثر فيه شيء من العجب، وأن أولاهما بالسبق هو أغناهما عن الصناعة وتطور الجماعة، وأقدرهما على الاكتفاء بالفطرة على أبسط ما تكون.
الشعر لازم
الشعر لازم في عامنا هذا كما كان لازما فيما سلف من ألوف السنين ومئات العصور.
لا ينقص من لزومه شيوع الصاروخ كما قيل ...
بل هو ألزم ما يكون حين تشيع الصواريخ، وتشيع معها أخواتها من صفائح الحديد والخشب، وآلات النار والكهرباء.
وكلما غلبت المادة وصفائحها وآلاتها تحسس الإنسان مكان روحه، وارتد إلى قرارة عواطفه ووجدانه، ويطمئن على نفسه: ألا يزال إنسانا بعد، أو هو قد فقد الإنسانية في كيانه وصار مع الصاروخ وأخواته آلة من الآلات، وقطعة من الخشب والحديد، وشواظا من النار والكهرباء؟
وما كانت بالإنسان حاجة إلى أن يتلمس دخيلة حياته بين جنبيه، يوم كانت عشرته من الأحياء، وطعامه من خيرات الأحياء، ومقامه بين صنوف الأحياء، ورحلته على متون الأحياء.
ولكنه في عصر الصاروخ، أحوج ما يكون أن يتلمس موطن تلك الحياة، وأن يستمع إلى نجوى فؤاده بلسان الحياة، وأن ينظم الشعر ويحن إلى النغم، ويشهد صور الجمال والعطف في كل منظور ومسموع.
وما كان الصاروخ ليحل محل الشعر وأخواته من فنون الجمال ؛ إذ كان الناس لم ينظموا الشعر؛ لأنهم بحثوا عن الصاروخ فلم يجدوه؛ وإنما نظموه لأنهم يحسون وينطقون؛ ولأنهم يترقون مع الزمن فيزدان النطق عندهم بالجمال، ويحسن الإنسان من التعبير الجميل ما لم يحسنه الحيوان، ويستطيع من النظم ما ليس يستطيعه الطير بالتغريد، ولا الخيل بالصهيل، ولا سباع الغاب بالزئير.
ولئن سبق الصاروخ الطيارة لن يسبق الصاروخ سبحات الخيال ...
لقد سبقه الخيال يوم تحدث للإنسان عن حصان الأبنوس، وعن أجنحة واق الواق، وسبق الخيال فأملى على الصناع كيف يكون الطيران بالقوة، وكيف يكون الطيران بالخفة، وقد كان العلماء يجزمون جزم اليقين ألا طيران في الهواء بغير أداة أخف من الهواء، عجزا منهم عن فهم الطير كيف يطير حين لم يعجز الخيال، وإنما هي القوة يطير بها ذو الجناح كما يطير بها الحصان الطيار.
إن الشعر لازم للإنسان الناطق، ما دام ينطق ويعقل، ويترقى بالنطق في معارج الكمال ومعارج الجمال.
إن الشعر ألزم ما يكون للإنسان في عصر الصواريخ ...
وإن حفاوتنا به في هذا العصر شهادة لعصر الصاروخ تشرفه وتعليه؛ لأنه لم يتخلف عن عصور تعلم فيها الإنسان كيف يكون إنسانا بالمنطق الساحر واللسان المبين.
وفي الغرب الذي يدين بالصاروخ علامات كهذه العلامة، وآيات كهذه الآية تنويها بلزوم الشعر عنوانا على اللهج به والحرص عليه.
في السنوات الست الأخيرات - سنوات الصاروخ - صارت الجائزة العالمية للأدب إلى ستة من الأدباء: خمسة منهم شعراء، وهم خيمينيز الإسباني، وباسترناك الروسي وكوسيميدو الإيطالي وبيرس الفرنسي وسيفريس اليوناني.
ومهما يكن من الرأي في إنصاف جائزة نوبل العالمية، أو في نظرتها الناقدة إلى الآداب والفنون، فلا نكران عليها أنها علامة من علامات الزمن بصوابه وخطئه، وبما يراه من لزوم وما لا يراه.
ولا علامة للشعر اللازم في هذا الزمن أصدق من العلامة التي تدل على أمم خمس، بينها من المشابهات والفوارق ما بين الإسبان والروس والطليان والفرنسيين واليونان.
إذا لزم الشعر في لغة من اللغات، فإنما يلزم لألزم ما فيه، وألزم ما في الشعر أنه فن من الفنون .
وألزم ما في الفن أنه ذو قواعد وأصول، توائم في كل لغة ما طبعت عليه تلك اللغة، وتوائمه في اللغة العربية، خاصة أنها لغة الوزن في كل كلمة وفي كل صيغة، فليست فيها كلمة واحدة تنعزل من وزن اشتقاق أو وزن سماع ... لا شعر بغير فن ... ولا فن بغير قاعدة.
والذين يقولون بغير ذلك يقولون عجبا يستغربه السامع، ويستغرب الذي يسمع ويفقه ما يقال كيف يصغي إليه السمع وكيف يستجيب له الفهم، وكيف يتكرر بعد تكرار اللسان فيه!
يقولون: إن قواعد الوزن تدعو الإنسان أن يقول ما لا يلزم، تكملة للوزن حيث لا محل له من الكلام.
هل يقال هذا في الشعر وحده، أو يقال في شتى الفنون عندنا وعند غيرنا من العالمين؟
ماذا يصنع منشد الغناء؟
ماذا يصنع الراقص في حركات يديه وقدميه؟
ماذا يصنع الموسيقار في صوته المرسل بغير كلام؟
ألا يزيد المغني في غنائه ليطابق فيه بين الألفاظ والألحان؟
أنبطل الألحان لأنها تسومنا المد في الصوت وراء ما يلزم كما يقال! أم لأنها تسومنا الزيادة في الحروف والكلمات وراء ما تتم به جملة المبتدأ والخبر أو جملة الفعل والفاعل، أو جملة المحمول والموضوع؟
أنبطل الرقصة التي تسوم الماشي أن يخطو فوق خطوه أو يقصر عنه باختياره؟
إن الفنان لا يضع في مده أو زيادته غير ما يلزم، بل غير اللازم قبل كل لزوم، وهو رعاية الفن والقاعدة في الفنون، وليس الوزن زيادة في المقال بل هو قوام المقال كله، إلا أن يكون من غير الفنون، وإنما الشعر تفاعل كامل بين اللفظ والمعنى وقاعدة القواعد الفنية في وزن أو نظام مقدور.
وملكة الشعر هي الملكة التي تقدر على هذا التفاعل بغير حشو أو فضول، أو يكون الحشو والفضول - إن كانا - زيادة للمعنى وتوكيدا للأثر، لا وقرا محملا عليه، ولا فضولا ملصقا به، ولا لغوا مضافا إليه.
وكل بيت في الشعر المطبوع آية على صدق هذا التفاعل التام بين الألفاظ والمعاني والأوزان، وآية على لزوم الوزن كلزوم لفظ الشعر ومعناه.
أمامنا مثل من أبيات لامرئ القيس وصفا للفرس:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
كميت يزل اللبد عن حال متنه
كما زلت الصفواء بالمتنزل
لا شك أن كلمات «الهيكل» و«من عل» و«المتنزل» قد جاءت لوزن القافية اللامية.
ولكن هل هي زائدة؟ كلا ... ونجرب حذف الهيكل لنرى كيف ينقص المعنى والأثر، ولو كان من الكلام المنثور.
نقول مثلا: «إننا نغدو مبكرين قبل نهوض الطير بمنجرد قيد الأوابد ...»
فنسمع وصفا للسرعة ولا نسمع وصفا للشكل والحجم والمنظر، وإنما يتم ذلك كله حين نقول: إنه قيد الأوابد هيكل؛ أي إنه ضخم جسيم.
ولقد يقال: إن كلمة أخرى تحل محل «هيكل» حين نقول «ضخم أو جسيم أو مكين.»
فهل ترانا نشعر بأثر لهذه الكلمة كما شعرنا بأثر الهيكل فيما حققته الكلمة من وصف الجسامة والصورة والمثال؟
جواب ذلك عند من يتهمون القافية بزيادة الفضول، إن لم يكن جوابهم هنا من فضول المقال.
ونأتي بعد ذلك إلى كلمة «من عل» وهي التي تتمم وصف الجلمود، وهو ينحط مع السيل، فهل يتم الأثر بحذف هذه الكلمة؟ هل التذكير بانحطاط الحجر من الأعلى فضول وزيادة بغير مدلول؟
وهل ذكر المطر دون وصفه بالمتنزل تنزيه للبيت من اللغو، أو هو مما يتمم هذا الوصف للمطر بالتنزل، والزلل عن متن الصفواء في هذه الحال؟
وأبيات غير هذه الأبيات من كلام المعري يقول فيها مفتخرا:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف وإقدام وحزم ونائل
أعندي وقد مارست كل خفية
يصدق واش أو يخيب سائل
تعد ذنوبي عند قوم كثيرة
ولا ذنب لي إلا العلا والفضائل
فمما لا شك فيه أن النائل والسائل والفضائل قد جاءت في مواضعها هنا لأن القافية لامية.
ولكن لماذا نغيرها لضرورة المعنى؟
ولماذا نقول معنى غير هذه المعاني التي تؤدى بهذا النظم وهذه القافية؟
ولماذا نعدد فضائل أخرى تزيد على هذا العدد أو تنقص منه، بعد ذكر العفاف والإقدام والحزن والنائل؟ وإذا كانت كلمة العطاء مثلا تؤدي معنى كلمة النائل، فلماذا نفضلها عليها؟
ويقول ابن الرومي في وصف مغن كريه الصوت والغناء:
أبو سليمان لا ترضى طريقته
لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاور الطنبور محتفلا
صوت بمصر وضرب في خراسان
فمما لا شك فيه أن خراسان جاءت هنا وزانا لصبيان، بل لا شك أن «محتفلا» في الشطر الأول كلمة لازمة لتمام البيت ...
لكن الشاعر يقول بدلا من الشطر الثاني:
صوت بمصر وإيقاع ببغداد
إذا كانت القافية دالية ... فما الذي يختلف بين هذين الاسمين؟
وقد يحذف الناثر كلمة «محتفلا» بعد الطنبور، فيقول له: إذا تناول الطنبور صوت هنا وضرب هناك ... فهل يكسب البيت بحذف هذه الكلمة ويقوى؟ أو يخسر ويضعف؟
إن كلمة «محتفلا» تصور لنا اجتهاد المغني وتأهبه بجلسته وإيماءه، واستعداد السامعين للإصغاء إلى شيء حسن، فإذا بهم يفاجئون بالصوت الرديء، فلا يكون أثره في نفوسهم كأثره فيها، وهم لا يرون ذلك الاحتفال ولا ينتظرون بعده الإتقان والكمال ... فما جاءت «محتفلا» هنا فضولا لأجل الوزن، بل كان تفاعل الكلمة مع الوزن سببا لاستدراك نقص واستكمال أثر، لم يكن لهما في النثر من داع منبه لهذا الاستدراك.
إننا نردد اليقين بالشعر اللازم والفن الألزم ...
لزوما يتم فيه المعنى واللفظ بالوزن والقافية، وتؤدي فيه ملكة الشاعر المطبوع عملها «تفاعلا» حيا بين نغماته وحروفه وكلماته، تتزاوج فيه جميعا لتزداد بلاغة في الأثر وإيناسا للسمع، وإشباعا للأداء، ونفيا للفضول، وتجاوبا بين الوقع والإيقاع ... وعلى ذلك جبلت ملكة الشاعر المطبوع، من رزقها قال وتغنى وأفهم وأثر، ومن لم يرزقها فلا حق له في قول الشعر ولا في القول فيه، ولأن يسكت فلا يقول شعرا ولا يقول عن شعر خير له وللناس، وخير للشعر والفن وللعقول والأسماع.
التجديد في الشعر
إذا أوجزنا قلنا: إن التجديد هو اجتناب التقليد، فكل شاعر يعبر عن شعوره ويصدق في تعبيره فهو مجدد وإن تناول أقدم الأشياء، هل شيء في هذا العالم الأرضي أقدم من الشمس ؟ إن الذي يصفها اليوم صادقا في وصفه غير مقلد في تصويره مجدد تمام التجديد، وإن لم يأت بكلام جديد.
هكذا تجدد الشمس النهار، وتجدد الأرض الربيع، ويجدد الشباب الأمل والحب جيلا بعد جيل.
وليست الدنيا عتيقة بالية لأنها تجيئنا كل عام بربيع كالربيع الذي تقدمه، وليس الشاعر عتيقا باليا لأنه يجيئنا بذلك الربيع كما جاءت به الدنيا في حينه، موصوفا على الصورة التي عهدها آدم في جنة الفردوس، ثم عهدها أبناؤه في جناتهم على هذه الغبراء! ... التجديد - في كلمتين - هو اجتناب التقليد.
أما إذا تعمدنا الإسهاب والتفصيل، وتناولنا عناصر الشعر جميعا، فهي مختلفة في قبولها للتجديد، أو مختلفة على الأصح في حاجتها إلى التجديد.
هذه العناصر هي اللفظ والوزن والموضوع، وهي على هذا الترتيب في حاجتها إلى التجديد مع الزمن: فاللفظ الذي يتألف منه الشعر يبقى ألف سنة، ولا يطرأ عليه تغيير يذكر، ويصلح في هذه الحالة لشعر امرئ القيس كما يصلح لشعر البارودي، مع قليل من التحوير الذي لا يلتفت إليه إلا المختصون بتسجيل أطوار الكلمات.
ونعني باللفظ هنا المفردات في غير الجمل والأبيات، وهي المفردات التي تطرأ عليها الزيادة القليلة كل بضعة قرون، أو يطرأ عليها اختلاف الاستعمال من فترة إلى فترة في حياة اللغة الواحدة، ولا بد للشاعر من متابعة هذه الأطوار، وقد يكون هو عاملا من عوامل الزيادة والتصرف في الكلمات.
إلا أن الجهد في تجديد المفردات يظل على الدوام أقل وأهون من الجهد في تجديد الأوزان، وتجديد الموضوعات، فالمعجم الشعري اليوم قريب من المعجم الشعري في عهد أصحاب المعلقات، أما الوزن فقد اختلف في عدد البحور واختلف في عدد القوافي، ولا يزال قابلا للاختلاف، وفي حاجة إلى الاختلاف.
كانت أوزان الشعر في الجاهلية قليلة البحور، وكانت القصيدة الواحدة قليلة الأبيات، ثم تعددت البحور ومجزوءاتها، وتضاعف عدد الأبيات في القصيدة الواحدة، وطرأ التنويع على القافية في الرجز ثم في التسميط والتوشيح، ثم انتهينا إلى العصر الحديث، فظهر بيننا من دعاة التجديد من يدعو إلى إلغاء القافية ونظم الشعر مرسلا أو مطلقا على الطريقة الأوروبية، ولكنها دعوة لم يكتب لها النجاح، ولا نظنها جديرة بالنجاح في المستقبل؛ لأن أعاريض الشعر العربي تستلزم القافية من حيث لا تلزم في الأعاريض الأوروبية، وقد يكون الإطلاق من القافية في الأعاريض الأوروبية نفسها مقصورا على المطولات والملاحم التي تصلح للقراءة وقلما تصلح للسماع، والشعر قبل كل شيء سماع.
والذي نعتقده أو نشعر به أن تنويع القوافي أوفق للشعر العربي من إرساله بغير قافية، وأنه يقبل التنويع في أوزان المصاريع والمقطوعات على أسلوب الموشحات، فيتسع للمعاني المختلفة والموضوعات المطولة، ولا ينفصل عن الموسيقية التي نشأ فيها ودرج عليها، ولعلنا لا نحتاج إلى تيسير أوسع من هذا التيسير، كائنا ما كان موضوع القصيد، وإن طال غاية المطال.
تجديد قليل في اللفظ، وتجديد أكثر منه في الوزن، وتجديد أكثر من هذين التجديدين في الموضوع، فكيف يكون هذا التجديد في الموضوع؟
إن صرف الشعر إلى الاجتماعات والأحداث العامة رأي من الآراء في تجديد الموضوعات الشعرية، ويقترن به رأي آخر ينادي بالطابع الإقليمي في الشعر خاصة وفي الأدب عامة، ويقول آخرون بالشعر المسرحي أو شعر القصة المسرحية وغير المسرحية، وكل هذه الآراء مقبولة من ناحية مرفوضة من ناحية؛ لأن العبرة في الشعر بالملكة التي توحي معانيه، وليست العبرة بالعنوان الذي نختاره لموضوعاته، كعنوان المسرحية أو عنوان الشعر الإقليمي، أو عنوان الشئون الاجتماعية والمسائل العالمية.
ونحن إذا نظرنا إلى الشعر من ناحية الملكة التي توحيه وجدنا أن ملكة الشعر الغنائي قد لازمت القصيدة العربية من نشأتها الأولى، فهي تتردد بين نغمات الغزل والفخر والحماسة والرثاء، أو تتردد بين ألوان الشعور الفردي البسيط، ويندر أن تتخطاه إلى الشعور المركب المتوشج، وهو الشعور المتجاوب بين عدة نفوس على عدة أمزجة وفي عدة حالات.
فإذا كان للتجديد في موضوع الشعر وجهة، فهذه هي الوجهة التي أمامنا، ولتكن سبيلها الرواية المسرحية أو الحادثة العالمية، أو الأوصاف الإقليمية، فإنما العبرة بالملكة التي توحي المعاني في جميع الموضوعات، وليست العبرة بالعناوين التي نخلعها على هذه الموضوعات.
والفرق بين الشعر الغنائي والشعر المركب المتجاوب هو الفرق بين الربابة والفرقة الموسيقية التي نسمع منها عشرات المعازف في نغمات متعددة مع التناسق بينها والوحدة في مجموعها، وينبغي أن نذكر هنا أن التنوع والتجاوب هما المقصودان بالتصرف والتجديد، وليس المقصود هو كثرة الآلات التي نعزف عليها في وقت واحد، فإن ألف ربابة توقع لنا لحنا واحدا هي أسلوب ساذج بغير تصرف، وقد يكون التصرف كل التصرف في ربابة ومزمار ودف وبيان تختلف وتتجاوب، وتفلح في الارتفاع بالشعور من البساطة والانفراد إلى التجاوب والتركيب.
ولكن الخير أن نبقى كما نحن، وأن نقصر نظمنا على الشعر الغنائي، إذا كنا ننظم في الموضوعات الجديدة تقليدا للذين سبقونا إلى النظم فيها، فإن التقليد نقيض التجديد، والدرهم الصحيح أنفس من الدينار الزائف يحكي الذهب باللون والصورة، ولا يحكيه بالمعدن والقيمة.
ومن أمثلة الدعوات الزائفة إلى التجديد أن يسمع بعضنا بالشعر الإقليمي في اللغة الإنجليزية - وأكثره من شعر الأمريكيين - فيخطر له أن الشعر الإقليمي اختراع واختيار، وينسى أنه واقع طبيعي لا محل لفرضه على الشعراء، حيث لا تفرضه عليهم طبيعة الحياة، وفي أمريكا أقاليم لا تتشابه في الموقع ولا في المكان ولا في المعيشة، فهم لا يختارون الإقليمية في الشعر ولا في الجغرافية، ونحن هنا لن نستطيع أن نزرع قمحا في التربة المصرية دون أن يصبح قمحا إقليميا باختيارنا أو بغير اختيارنا، ومن قال لشاعر: كن إقليميا فقد قال له: كن مقلدا، ولكنه إذ كان من طبيعته منتميا إلى إقليمه فلا حاجة به إلى الأمر والإرشاد.
كذلك يقول بعضهم متعجبا: هل توحي حرب طروادة إلى هوميروس بالإلياذة، ولا تظهر في العصر الحديث إلياذة أضخم منها بعد الحرب العالمية العظمى؟
ولو كان هؤلاء القائلون يفهمون وحي الابتكار في الشعر لما خطر لهم أن شاعرا عصريا ينبغي أن ينظم إلياذة في الحرب العالمية لأن شاعرا قديما نظم إلياذة في حرب طروادة، من أين لهم مثلا أن هوميروس كان ينظم في الحرب العالمية إلياذة لو أنه عاش في زماننا؟
من أين لهم أن ضخامة الحرب هي التي توحي بالنظم فيها؟ فقد تكون الحرب بين عشرين فارسا متقابلين أعنف في إثارة النفس من حرب الملايين بين الخنادق لا يشهد بعضهم بعضا، ولا يعرفون من الحركة غير ضغط الزناد!
كذلك لا يفقه التجديد من يحسب أن الشعر المسرحي حيث كان أرفع من الشعر الغنائي في كل موضوع، فإن الشاعر المسرحي الذي لا يرسم لك شخصية واحدة صحيحة أقل من الشاعر الغنائي الذي يتحدث لك عن غناء البلبل فيصدقك الحديث والشعور، فكل فضل الشاعر في الملكة التي توحي إليه شعره دون العناوين التي يطلقها على موضوعاته، ونحن لا نفضل الشاعر المسرحي على الشاعر الغنائي؛ إلا لأن الشاعر المسرحي يستطيع شعر الغناء، ويستطيع زيادة عليه، وهذه الزيادة عليه هي الحس المتجاوب في النفوس المتعددة، فإن كان يملك هذا الحس فهو صاحب الفضل بهذه الملكة أيا كان الموضوع الذي يختاره لنظمه، وإن لم يملكها فالموضوع لا يعطيه ملكة هو محروم منها.
وإذا كان التجديد هو اجتناب التقليد فالتجديد كذلك هو اجتناب الاختلاق، والمختلق هو كل من يجدد ليخالف وإن لم يكن هناك موجب للخلاف. إن الذي يمشي على يديه يأتي بجديد، ويدل على براعة لا يستطيعها من يمشي على قدميه، ولكننا قد نضع في يده درهما، وقد نزج به في مستشفى المجاذيب، ولا نمشي على الأيدي من أجل تلك البراعة وذلك الاختلاف أو الاختلاق.
نجدد فلا نقلد ولا نختلق، ونحن مجددون كما ينبغي - وكأحسن ما ينبغي - إذا خرجنا بالشعر العربي من لحن الربابة إلى لحن الفرقة الموسيقية، شعورا منا بتعدد النغمات النفسية، لا لمجرد المباهاة بكثرة المعازف وارتفاع الضجيج.
أدب وفن
من هو الأديب؟
كان جماعة من «الأدباء» يتحدثون عن وظيفة الأدب الاجتماعية، فاختلفوا في الفرق بين وظيفة الأديب في المجتمعات القديمة ووظيفته في مجتمعاتنا العصرية، فخطر لي أن أسألهم: ومن هو الأديب في المجتمعات القديمة؟
إننا نتكلم عن الأدب في المجتمعات قديمها وحديثها، كأن الأدب بمعناه الذي نعرفه اليوم قد كان معروفا هكذا بين جميع الأمم وفي جميع الأزمنة، وهو ولا شك خطأ لا يصمد لأول سؤال.
فأنت إذا نزلت اليوم ببلد من بلدان الحضارة، وقلت لهم: دلوني على رجل من أدبائكم لم يجهلوا ما تريد، ودلوك على واحد ممن يصح أن يطلق عليهم وصف الأديب كما تعنيه ...
ولكن على من يدلك أهل الجاهلية مثلا إذا نزلت بينهم، وقلت لهم: دلوني على واحد من أدبائكم؟
إنهم لا يدلونك على الشاعر، ولا على الراوية، ولا على النسابة، ولا على الخطيب، وإن كان العلم بالشعر والتاريخ والخطب مما يدخل في نطاق صناعة الأدب في الأزمنة الحديثة، ولو أنك سألت عن أديب في صدر الإسلام لفهموا أنك تقصد إنسانا بريئا من العنجهية البدوية واللوثة الأعرابية:
وإني على ما في من عنجهية
ولوثة أعرابيتي لأديب
وقد تتحدث إلى هذا الأديب الذي يدلونك عليه، فيخوض معك في سمر شائق وطرائف شتى من أطايب الحديث، ولكنه قد يرضيك من هذه الوجهة، ولا يحسب في زمنه من أهل العلم، ولا يحسب في الزمن الحديث من زمرة الأدباء.
ولعلهم يدلونك على مثله في أنس محضره وظرف معشره لو أنك نزلت بمصر أو بقطر من أقطار العربية في أواخر القرن التاسع عشر، وسألتهم أن يجمعوك بأديب من الأدباء.
أما معنى الأديب كما نفهمه اليوم، فهو من المعاني المستحدثة التي تطورت فترة بعد فترة في العصور الأخيرة، فكان الأوروبيون يفهمون من مقابل هذه الكلمة
Man of letters
أنه رجل مطلع على الكتب دارس للعلوم؛ لأن دراسة الكتب على اختلافها كانت هي الفارق بين العلماء والجهلاء، ثم شاعت الدراسة وتنوعت، فعرفوا الفرق بين عشرات من الموضوعات التي يطلع عليها الدارسون، ومنها الموضوع الذي خصص لمعنى الأدب بمدلوله المصطلح عليه في هذه الأيام ...
ولكن ما هو هذا المدلول؟ ومرة أخرى من هو الأديب؟
أهو الشاعر؟ أهو القصاص؟ أهو ناقد الشعر؟ أهو المطلع على سير الأدباء والقصاصين والنقاد؟
إنك إذا قلت: «فلان شاعر.» فقد وصفته بغير حاجة إلى وصف الأدب بعد ذلك، وكذلك تصف «القصاص» ... سواء كتب القصة المطولة أو النادرة القصيرة ...
فإذا قلت عن العارف بالشعر والقصاص: إنه أديب، قيل لك: حسن.
ولكن ما الفرق بين مؤرخ الأدب وناقد الأدب وبين الأديب؟
حينئذ يلوح لك أن دليلك القديم لم يكن على ضلال بعيد ...
ونعني بالدليل القديم ذلك المرشد الذي كنت تسأله في العصور الأولى أن يرشدك إلى أديب، فيذهب بك إلى رجل حسن الحديث ...
فالأديب بكلمة واحدة هو «المحدث» في جميع العصور، وقيمته في كل عصر تختلف باختلاف حديثه ومن يحدثه، ومن يتطلب منه الحديث، سواء أكان حديثه مما تسمعه الآذان أم تعبره الأعين في صفحات الأوراق.
وبهذه الصفة وحدها يمكن أن تميزه من الشاعر، ومن القصصي، ومن الناقد، ومن مؤرخ الآداب ... أيكون الأديب شاعرا؟ أيكون قصاصا؟ أيكون ناقدا للشعر والقصة؟ ... أيكون عالما مطلعا على تاريخ هؤلاء وتواريخ غيرهم ممن يحفل بهم التاريخ؟
نعم، ولكنه في هذه الحالة يكون شاعرا وأديبا، أو قصاصا وأديبا، أو ناقدا وأديبا، أو مؤرخا وأديبا ... ولا يلزم حتما أن يكون واحدا من هؤلاء ليقال: إنه أديب، فهو محدث حسن الحديث أيا كان موضوع الحديث، وأية كانت صفاته الأخرى التي تقترن بحسن الحديث.
وبهذا المعنى كان أديب الزمن القديم محدثا في مجلس الصحب، أو محدثا في مجلس الأمير ... وبهذا المعنى أصبح أديب الزمن الحاضر محدثا لقرائه ومستمعيه، ولو لم يجمعه بهم مجلس أو مقام.
ولم ننزل بوظيفة الأديب لأننا جعلناه «محدثا» في العصور الأولى أو في هذه العصور ... فإنما العبرة بما يقال وبمن يقال لهم في جميع الأحاديث.
فمن الناس من يحدث ليعلم ويهذب، ومنهم من يحدث ليضرب للناس أمثال البطولة والشرف، ومنهم من يحدث ليروح عن النفس، ومن يحدث ليكشف للنفس سريرتها، ومن يحدث ليسلي ويلهي، ومن يسلي ويلهي كرام الناس، ومن يقصد بالتسلية واللهو غير هؤلاء الكرام.
وكلهم على هذا المعنى أديب، ولكن شتان شتان بين أديب وأديب ...
فلا ينزل الأدب لأنه حديث ...
وإنما ينزل الأدب إذا نزل موضوعه ومن يستمع إليه ...
وقد نزل الأدب في عصرنا هذا، وصعد على جميع هذه الدرجات، فكان من أدباء العربية في أوائل القرن العشرين من يوصف بالأدب لأنه سمير مجلس، ثم شهدنا من أدباء العربية في أيامنا هذه من يحدث قراءه جميعا كما يشاء فيجد من يصغى إليه، وكل ما تغير بين أمس واليوم أن الحديث كان بالأمس موقوفا على سامع واحد أو سامعين قلائل، فأصبح اليوم موجها إلى مئات وألوف، لعلهم لا يجتمعون بالمتحدث في مكان.
وربما صح أن شيئا آخر قد تغير بهذا الصدد، وهو أن الأدب - حيثما كان بضاعة تنتظر الجزاء - لم يكن ينتظر جزاءه فيما مضى من غير الآحاد القلائل، وأن الأديب كان يدون أحاديثه في الورق ليقرأه كل من حصل عليه، ولكنه لا ينتظر الجزاء الذي يغنيه في عيشه من هؤلاء القراء، وإنما ينتظره من فرد يتصل به ويعول عليه.
أما اليوم فالأديب على نقيض ما كان بالأمس، إنه ينتظر هذا الجزاء ممن يوجه إليهم حديثه على يد المطبعة أو المذياع، وهم مئات وألوف في وطنه وفي غير وطنه وفي زمنه وغير زمنه، لا يلقاهم ولا يلقونه في أغلب الأحوال.
وذلك هو باب الخير الكثير ... وذلك أيضا هو باب الشر المستطير ...
لأن استغناء الأديب عن هذا السيد أو ذاك قد فتح له باب الاستقلال في المعيشة، والاستقلال بالرأي، والاستقلال بالشعور.
إلا أنه قد يغني عن هذا السيد أو ذاك، ثم يتقيد بهذه الجماعة أو تلك، واستعباد الجماعة شر من استعباد الآحاد.
وليس من الحتم أن تستعبد الجماعة محدثها؛ لأن الجماعة طوائف شتى من الناس، ولمن يحدث هذه الطوائف أن ينص الحديث لمن شاء منها ويضن به على غيره، وأن يقنع بالمهذب الكريم من سامعيه ويطوي كشحه عن سواه، فله ولا شك أن يختار وإن صعبت عليه الموازنة بين أسباب الاختيار.
وهناك باب من أبواب الحرية يطرقه من يستطيع حين يشاء، فيتحدث «المحدث» العصري وحده، كأنما يتحدث لنفسه ... ويسمعه من يريدون أن يسمعوه، وهو لا يأخذ نفسه بكلفة الجليس في محضر الأمير أو أشباه الأمير.
وهو على كل حال «محدث » على نمط العصر وأسلوبه، وخليفة للمحدث القديم على ما كان لعصره من نمط وأسلوب.
وليس لوظيفة الأدب في اعتقادنا تعريف أصدق من هذا التعريف، فإنه هو التعريف الوحيد الذي يزيل اللبس بينه وبين الشاعر والراوية، والناقد والمؤرخ، ولا يمنعه مع ذلك أن يأخذ بسهم أو سهوم من جميع هذه الفنون، على اعتبار أنه مادة من مواد الحديث.
فمن هو الأديب في كل عصر من العصور؟ هو المحدث في كل مجتمع، على اختلاف العصور ... وتسأل مرة أخرى: هل الأدب إذن وظيفة اجتماعية؟
فإن أردت أن الحديث يجري بين متحدث ومستمع أو مستمعين، فالأدب ولا شك وظيفة اجتماعية ...
ولكنك خليق أن لا تنسى بعد هذا أن الملكة الشخصية شرط لا معدى عنه في كل حديث كائنا ما كان قائله ومستمعوه، فإن الناس جميعا أعضاء في بنية جماعة، ولا يحسن التحدث منهم إلا الآحاد المعدودون ...
كذلك لا تنس أن الأديب في مجتمع هذا العصر يستطيع أن يكلم نفسه ولا يحسب من المجانين، بل من صفوة العقلاء ... أو يضمن المستمعين إليه كلما كان حديثه لنفسه جديرا بالإصغاء ...
الفن بين الصدق والكذب
ما الصدق؟ هو كما عرفوه مطابقة للواقع ...
ولكن ما هو الواقع؟ وكيف نطابقه؟ هل نطابقه بإدراك الحواس؟ أو نطابقه بألفاظ اللسان؟ ... أو نطابقه بوعي القريحة والخيال؟
كل أولئك مطابقة ... وكل مطابقة من هذه المطابقات صدق على حسب ذلك التعريف، ولكنها على هذا تختلف فيما بينها أوسع اختلاف في التعبير والتمثيل.
فإذا رأيت مرجا من مروج الربيع صدقت في وصفه حين أقول: إنه رقعة من الأرض ذرعها ألف ذراع، يتخللها جدول ماء، وفيها ثمر من فصيلة كذا وكذا وزهر من فصيلة كذا وكذا في علم النبات ...
وصدقت في وصفه حين أقول: إنه جميل مريح ...
وصدقت في وصفه حين أقول: إنه يتألق كما تتألق العيون، ويزدهر كما تزدهر الوجنات، ويفتر كما تفتر الثغور، وتمرح فيه النضرة كما يمرح صفو الشباب في الصبايا الحسان، وتتغنى فيه العصافير كما تتغنى الوصائف الثملات في الأعراس ...
أما إذا قلت : إنني رأيت فيه ثغورا ووجنات، ولمحت فيه أحداقا مؤتلفات، واستخفني المرح من قدود حسانه، واستطارني الطرب من ألحان عيدانه، فما أنا بكاذب، وما أنا بمخالف لما قلته في تلك العبارة التي أوردتها مورد التشبيه، وكل ما هنالك أنني حذفت الكافات والكأنات، واعتمدت على فطنة السامع مع فهم هذه التشبيهات ... فعبرت عن الواقع بأسلوب يختلف في اللفظ ولا يختلف في المدلول.
إن كان هذا هو الكذب الذي أرادوه حين قالوا: إن «أعذب الشعر أكذبه»، فهذا هو الواقع بعينه فيما نراه.
وغاية ما في الأمر أننا نطابق الواقع هنا بوعي القريحة والخيال، ولا نحب أن نطابقه بلغة الحس، أو بلغة الحساب والإحصاء ...
وأيا كان نوع المطابقة فهو صدق على أية حال ... •••
مثل آخر قريب من هذا المثل ...
أعرابي غمر يغرب في رحلة مهلكة في مفازة موحشة ...
تسأله فيقول لك: إنها عامرة بالغيلان والسعالي، متجاوبة بأصداء الجن والعفاريت، من يسلكها لا يسلم من شر سكانها هؤلاء، ومن سلم منهم فقد كتب له عمر جديد ...
هذا الأعرابي الغمر كاذب إن شئت، ولكن في حساب واحد، هو حساب الرحلات الجغرافية والمباحث العلمية.
فإن الرحالين والباحثين يجوبون تلك الصحراء، ويعودون منها فيقولون وهم صادقون: ما عثرنا في تلك الصحراء بسعلاة، وما السعلاة التي ذكرها الأعرابي مما يمكن العثور عليه ...
ولكنه إذا كذب في حساب الجغرافيين أفما من حساب آخر هو صادق فيه، أو مطابق للواقع فيما يدعيه؟
بلى! هناك حساب هو صادق فيه كل الصدق، مطابق للواقع كل المطابقة، وهو حساب الشعور والخيال؛ لأنه وصف الخوف من الهلاك، ولا فرق بين الهلاك من الغول والسعلاة، والهلاك من الوحشة والانقطاع، وغاية ما في الأمر أنه وصف الخوف محذوفا منه الكافات والكأنات، ولا يزال صادقا حين قال لنا: إن من يسلم من شر تلك المفازة، فقد كتب له عمر جديد ...
وكذلك قل في عرائس البحار ...
وكذلك قل في كنوز الأرض، وما يحرسها من المردة والشياطين ...
وكذلك قل في همسات النسيم ونجوى الأنفاس ...
وكذلك قل في كل واقع نطابقه بالشعور والخيال، ولا نقصر المطابقة فيه على اللمس والعيان ... •••
وننتقل إلى الشعر الذي يتمثل فيه هذا الضرب من الواقع، فنذكر بيت أبي الطيب في وصف الأسد.
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
فعلماء الطبيعة يقولون لك: إنه كذب ... لأنهم يقيسون سرعة الصوت في الهواء وسرعة الصوت في الماء، ويقيسون المسافة بين البحيرة ومصر والعراق، ويقدرون النسبة التي يتخافت بها الصوت فيجدون أن زئير الأسد الذي وصفه أبو الطيب لا يصل إلى النيل، ولا يصل إلى الفرات ...
أفكاذب أبو الطيب فيما وصف؟
إن قلت: نعم مع علماء الطبيعة، قلت: لا على الأثر مع سامع ذلك الزئير ...
لأن زئير الأسد ملأ جوانب نفسه وشاع في منافذ حسه، فلم يدع فيها فراغا لغير الرهبة والحذر ...
ورهبة تملأ كل مكان في دنياه، خليقة أن تملأ كل مكان على وجه الأرض، ولو في الساعة التي ملأته الرهبة فيها، وذلك حسبه من مطابقة الواقع كما وقع في لحظة من اللحظات ...
ولو أن أبا الطيب قال يومئذ في وصف شعوره بزئير الأسد: إنه وصل في الدقيقة إلى بعد كذا من الأميال لما خالف الواقع في حساب العلم الطبيعي، ولكنه لا يذكر لنا شيئا عن الواقع في طبيعة الشعور.
وهذا هو الواقع الذي يعنينا ويعنيه من وصف الأسد وزئيره ...
كذلك يقول البحتري في وصف البناء السامق:
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه
من منظر خطر المزلة هائل
فيصيب في تمثيل الذعر كما يحسبه الواقف على شرفات ذلك الصرح، ولا يخطئ إلا من ناحية بعيدة من هذه الناحية؛ لأنه يقول عن الحمام المذعور: إنه يترنم، وللترنم حال لا تشبه حال مذعور ...
ويقول أبو العلاء في سخرية الموت والحياة:
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الأضداد
والواقع أن اللحد لا يسخر، ولكنه من حقه أن يسخر إذا استطاع، وأن هناك سخرية في تعاقب الموتى على مكان واحد يكرهونه، ويتزاحمون عليه كأنهم يشتهونه، فإذا أعرنا اللحد سخريتنا فنحن لم نعر من السخرية ولا من الواقع، ولكنها «استعارة» لا تضيع معها الحقوق!
هذه خلاصة القول عن الفن بين الصدق والكذب ...
فلن يكون الفن جميلا إذا كان فنا كاذبا لا يطابق الواقع، ولكن أي واقع؟ وأي مطابقة؟ ...
الواقع في الشعور، والمطابقة لذلك الشعور، وهي مطابقة لا ريب فيها، ومطابقة أصدق من كل مطابقة أخرى، إذا كانت المطابقات الأخرى خلوا من تمثيل ما نشعر به ونؤديه في فن من الفنون، سواء أديناه بالقلم أو بالريشة أو بالإزميل أو بالوتر والمزمار ...
ويصدق على الواقع التاريخي ما يصدق على الواقع الحاضر أمامنا ...
فمن مثل لنا بطلا في غير عصره فأحسن تمثيله، فهو صادق في الفن كاذب في التاريخ، أو هو شاعر حسن ومؤرخ رديء، نلومه على كسله وجهله، ولا ننكر عليه الصدق في حسه وخياله، ولا القدرة على حسن تعبيره وتمثيله، فنمنحه درجة النجاح في الشعر، ونضن عليه بها في التاريخ ...
وكل فن جميل فلن يكون كاذبا أبدا؛ لأنه لا بد له من مطابقة الواقع، على اختلاف صور المطابقة في الشعور ...
ولقد قيل عن أراوح شكسبير وعفاريته: إنها لو برزت إلى عالم الحياة لما برزت في غير الصورة التي تصورها ... وما قيل عن المخلوقات الخيالية في شعر شكسبير يقال عن كل مخلوق خيالي يمثل لنا حالة نفسية نشعر بها ونتصورها فيه؛ لأنه ولد من شعورنا، فإن لم يطابقه فلا صلة بيننا وبينه في عالم الحس ولا في عالم الخيال.
المدرسة الرمزية
(1) حب الأزياء
كانت باريس فيما بعد القرون الوسطى عاصمة الحضارة الأوروبية، وكان بلاطها الفخم مصدر المراسم والتقاليد في أرجاء الغرب كله، تصدر عنه الأزياء والآداب والعرف المتبع في مجالس الطبقات العليا، وكان لها الشأن - كل الشأن - يومئذ في جميع البلدان، فلا تنقضي فترة يسيرة من الزمن دون أن يسفر التنافس بين فرسان البلاط وحسانه عن شارة جديدة وزي جديد، ولم يكن لهم يد من طرافة يتحدثون بها في عالم الأدب والفن كما يتنافسون بالطرائف في عالم الشارات والأزياء، فلما بدأت نهضة الأحياء الحديثة باستحياء الأساليب اللاتينية واليونانية رحب بها طلاب الجديد ريثما طال عليها العهد، فبرموا بها وتطلعوا إلى نمط جديد، فتوالت الأنماط بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن العشرين من المدرسة المجازية إلى المدرسة الواقعية إلى المدرسة البرناسية إلى المدرسة الرمزية، إلى هذه المدارس التي تسمى بالمستقبلية تارة وبما وراء الواقعية تارة أخرى، ولا تستقر طويلا على حال.
ولم يكن التفات الناس إلى عاصمة الأزياء، وانتظارهم منها الجديد بعد الجديد هو الباعث الوحيد إلى تعاقب هذه المدارس بمختلف الأسماء والآراء، وإنما صادفت هذه الحالة معينا لها من حب الاندفاع في السليقة الفرنسية، فأصبح حب التغيير نتيجة لازمة لكل اندفاع بلغ مداه واستنفد قواه.
فلا تجد في غير فرنسا ولعا كهذا الولع بالمدارس الأدبية المتلاحقة، ولا سأما كهذا السأم من أسلوب بعد أسلوب، وصبغة بعد صبغة.
وفي فرنسا نفسها لا تجد هذه المدارس في القمم العالية، أو الأعلام البارزة من أفذاذ الأدب المعدودين، وإنما تجدها في بيئات الأوساط وأشباه الأوساط الذين يخضعون لموجات التقلب وحركات التكلف والاصطناع.
أما أعلام الأدب الفرنسي من أمثال موليير وراسين وفولتير وشاتوبريان ولامرتين، وهوجو ومسيه وأناتول فرانس وبروست، فأنت لا تجدهم تحت راية من هذه الرايات، ولا على شارة من الشارات، وإذا بدت على أحدهم مسحة من هذه الصبغة أو تلك، فهي مسحة لا تنحرف به قط عن اللونين الخالدين اللذين يرجع الانقسام بينهما إلى طبيعة الإنسان لا إلى تقلب الأزياء بين جيل وجيل، وهما لون الواقعية ولون المجازية، أو لون البساطة ولون التنميق، وسمهما بعد ذلك بما تشاء من الأسماء. (2) ظهور الرمزية
وكان الصف الأول من صفوف الطليعة في هذه المدارس هو صف الأحياء، أو صف الأساليب اللاتينية واليونانية القديمة، ولا يخلو من دعوة إلى بساطة «الطبيعة» على ألسنة الفلاسفة والشعراء.
ثم تفنن الأدباء في المجاز على أنماط شتى من الأساليب المجازية، التي توشك أن تتعدد بتعدد الآحاد ... فأسلوب هوجو مجازي، ولكنه مجاز يريك الدنيا كأنها في موكب دائم من الطبول والأبواق، ومن الغنائم والأسلاب، وأسلوب لامرتين مجازي ولكنه يريك الدنيا كأنك تعيش منها أبدا في عالم مسحور تتهامس فيه الأرواح، وتتخافت فيه الأصداء.
واتفق في الأيام الأخيرة من هذه المدرسة المجازية أن شاعت مباحث العلم، ومقررات العلماء المحدثين، فظهرت المدرسة الواقعية والمدرسة البرناسية، ونزعت كلتاهما إلى الأسلوب المدرسي البسيط - أسلوب اللاتين واليونان - ممزوجا بلون الدراسات العلمية التي اشتغل بها كل عقل مثقف في عهد المدرسة البرناسية على التخصيص.
ويدل اسم المدرسة البرناسية على مذهبها بعض الدلالة؛ لأن أصحابها يسمون أنفسهم بالبرناسيين المعاصرين منتسبين إلى البرناس، وهو جبل أبولون وعرائس الفن في اليونان القديمة، فالبرناسيون المعاصرون مدرسيون من ناحية الاقتداء بأعلام الأدب اليوناني القديم، ومحدثون علميون من ناحية التجديد العصري على نمط لم يعرفه قدماء اليونان.
وكان شعارهم «الكلمة المحكمة»؛ أي الكلمة في موضعها الذي لا تتجاوزه للتنميق أو للتهويل، وعقيدتهم «أن الفن للفن» بغير قصد آخر غير إحكام التعبير وحسن الأداء.
وأفرط البرناسيون كما يفرط الدعاة إلى المدارس الخاصة فيندفعون فيها إلى الطرف الأخير، أو إلى حيث يحسن الارتداد والرجوع، وكان إفراطهم هذا مسوغا بعض التسويغ لظهور الرمزيين. (3) مسوغات الرمزية
والتعبير بالرموز عادة قديمة في تعبير الإنسان، بل عادة قديمة في بديهة الإنسان.
فالحالم مثلا يعبر في منامه عن شعور الضيق أو الخوف بقصة رمزية يتمثل فيها شيئا مخيفا في صورة وحش أو مارد مرهوب.
والكاتب الذي لم يعرف الحروف الأبجدية يرمز إلى المعاني بالشخوص والرسوم، ويعبر لك عن الكتابة بصورة الكاتب أو صورة القلم أو صورة المكتوب، وقد يلجأ إلى الاستعارة بعد عرفان الحروف؛ لأنها نوع من التصوير الذي يساعد على اختصار التعبير.
وكهان الديانات يرمزون، ويعمدون كثيرا إلى الكنايات والألغاز؛ لأنهم يجعلون لغة الدين لغة سرية ينفردون بها، ولا يطلعون سواد الناس على دخائلها، فيختارون الرمز في التعبير، وإن قدروا على الإفصاح والتصريح.
والنساك المتصوفون يرمزون؛ لأنهم لا يستوضحون المعاني الغامضة التي تجيش بها نفوسهم في حالة كحالة الغيبوبة أو نشوة من نشوات الذهول، فيؤثرون التشبيه؛ لأنهم عاجزون عن التوضيح، ويخاطبون من يعرف حالهم برمز من هنا وتورية من هناك ، فلا يحتاج منهم إلى زيادة إيضاح.
وكان بعض الدول يقهر الرعية على عقيدة لا يدينون بها، وقد يدينون بغيرها؛ فيشيرون إلى عقائدهم برموز يفهمونها ويجعلون للألفاظ الشائعة معاني غير معانيها المتفق عليها في اللغة المتداولة، ثم ينبذون تلك الرموز إذا ارتفع عنهم الضغط والإكراه.
وقد يكون الرمز اختصارا لعبارة مفهومة أو صورة ظاهرة كرمز الرياضيين والكيميائيين بالخطوط والنقط إلى الأفلاك أو العناصر أو المقادير.
فالرمز شيء مألوف في تعبير الإنسان، وفي طبيعة الإنسان، ولكنه مألوف على حالة واحدة لا يخلو منها معرض الرمز والكتابة، وهي حالة الاضطرار والعجز عن الإفصاح، فلم يرمز الإنسان قط وهو قادر على التصريح والتوضيح، ولم يجد كلمة واضحة لمعنى واضح ثم آثر عليها الالتواء شغفا بالالتواء.
فإذا لوحظت هذه الحالة، فالرمز أسلوب متفق عليه لا يحتاج إلى مدرسة تنبه الأذهان إليه، فالخيال لا يستشير مدرسة من المدارس لتشير عليه أن يحلم بالصور والتشبيهات، أو يحلم بقواعد التحليل والتركيب في معامل الكيمياء، والشاعر لا يعاب إذا مثل لنا الكواكب والأزهار، فألبسها ثياب الأحياء، ومن ضاق به اللفظ فعمد إلى التخييل والتشبيه فالناس لا يحسبونه من هذه المدرسة أو تلك؛ لأن المدرسة التي يصدر عنها في هذه الحالة هي مدرسة البديهة الإنسانية حيث كان الإنسان، وبأي لغة من اللغات، ألغز أو أبان.
وفحوى ذلك أنه لا حاجة إلى مدرسة لتعليم الناس كيف يرمزون ويكنون حين ينبغي الرمز وتنبغي الكناية، ولكنهم قد يحتاجون إلى مدرسة لتذكيرهم بحقيقة واحدة قد ينسونها في دفعة الإفراط والمغالاة، وهي أن الحياة تنطوي على كثير من الأسرار، وأن العالم نور وظلام وجهر وخفاء، وأنه يفاجئنا أحيانا بمعان لا تترجم عنها الألفاظ، ولا غنى فيها عن الإشارة والاستعارة، أو عن تمثيل الظل بالظل، والحجاب بالحجاب.
وقد كانت الآداب الفرنسية بحاجة إلى هذا التذكير في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، ولم تكن هذه الحاجة مقصورة على الآداب الفرنسية في الواقع؛ لأنها كانت حاجة من حاجات التطور العقلي في العالم بأسره، ولكنها أظهر ما تكون حين يكون الاندفاع من الأطراف إلى الأطراف.
فالعالم الأوروبي قد تنقل في ثلاثة أطوار عقلية منذ عصر الإصلاح:
طور لم يكن فيه سلطان للعقل في تفسير الوجود، وطور ثار فيه العقل لحقوقه المشروعة، ثم بالغ في الثورة حتى أوشك أن يستبد بكل سلطان، وطور ثارت فيه البديهة الإنسانية لتذكر العقل بالحقيقة التي نسيها في شططه وغلوائه، وهي أن البديهة الإنسانية تشاطر العقل حقوقه في تفسير العالم والاتصال بخفايا الوجود.
ففي الطور الأول كان السلطان للكهنة ورجال الدين، وكانت النصوص التي يساء فهمها ويساء العمل بها هي مرجع المراجع كلها في العلم والحكمة والفنون والآداب.
وفي الطور الثاني تفرد العقل بتفسير كل شيء، وزعم أن العلوم التجريبية وحدها كفيلة بالكشف عن جميع الحقوق وجميع الأسرار.
وفي الطور الثالث صنع «رد الفعل» صنيعه المعهود في أمثال هذه الأطوار، فثار المفكرون أنفسهم على العقلية
Rationalism ، كما ثار الفنانون على الواقعية
Realism ، وسمعنا بضروب شتى من دعوات المثاليين والنفسانيين والروحانيين، وفلاسفة المنطق الحديث الذي يدين بالبصيرة كما يدين بالقياس والتحليل.
في هذه الفترة ظهر الرمزيون في الآداب الفرنسية، وكان لهم حق في الظهور.
بل ظهروا «متأخرين» عن رواد هذا المذهب في الآداب الأوروبية الأخرى، وفي عالم الفنون التي لها تأثير بين في الآداب ...
فكانت موسيقى «فاجنر» تدوي في أرجاء القارة الأوروبية قبل أن تتحول الموسيقى الفرنسية من لغة الطرب والمشاهد الواقعية إلى لغة الأغوار والكنايات، وكان كولردج وبروننج وسوينبرن وتنيسون من أعلام الشعر الإنجليزي يتناولون المعاني الغامضة تارة بالرمز والكناية، وتارة بالكلمات التي تماثلها في الغموض، ويكفي أن يذكر القراء تأثير دافيد هيوم في روسو وفولتير، وتأثير بيرون في لامرتين؛ ليذكروا أن المدرسة الرمزية في الآداب الفرنسية لم تكن فريدة في الآداب الأوروبية حين ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وراجت إلى أوائل القرن العشرين.
لكنها ظهرت سائغة مدعوة إلى الظهور بدعوة التطور في التفكير والشعور، ثم استحقت الاحتجاب قبل أن تتمكن من الثبات على الأساس الصحيح ... وصدقت عليها الفكاهة التي تحدث بها ظرفاء بغداد عن بهلول المجنون، حين قالوا: إنه كان يغني بدرهم، ويسكت بدرهمين.
فإن المدرسة الرمزية التي وجب ظهورها وجب سكوتها بعد ذلك مرتين، ولم يلبث الفرنسيون أن أطلقوا عليها اسم مدرسة الهبوط والانحدار
Decadents ، ولم يظلموها بهذه التسمية الصادقة؛ لأن شعراءها وكتابها قد جعلوا ديدنهم من الرمز أن يرمزوا إلى كل وضيع خليع، وأن يعتبروا التسمية مطلوبة لذاتها لا لمزية من مزايا التعبير والتقرير، فلو تهيأت لهم للمعنى الواحد عبارتان تؤديانه على السواء لفضلوا الأغمض منهما على الأوضح في غير سبب معقول لهذا التفضيل، بل يفضلون الغموض على الوضوح، ولو كان الوضوح أجمل في اللفظ، وأقرب إلى البديهة، وأثبت في الأفهام.
وما هو إلا أن تلقفوا من الأفواه كلمة عن مذهب فرويد، وأقوال العلماء النفسانيين عن «الوعي الباطن» و«اللا وعي» المكنون في أطواء النفس، حتى اندفعوا من الرمزية المتطرفة الجامحة إلى رمزية أبعد منها في التطرف والجموح، فنشأت بينهم مدرسة يسمونها بمدرسة ما وراء الواقع، تترجم الرموز بالرموز، والألغاز بالألغاز، وراجت هذه البدعة الجديدة في عالم التصوير؛ لأن رواجها في عالم الكتابة والشعر يستلزم جمهورا كاملا من المخبولين والأدعياء، وقلما يجتمع جمهور كامل من هؤلاء، كما يتفق اجتماع الآحاد من طلاب الصور الملفقة بين الأغنياء.
وخلاصة ما وعاه هؤلاء الرمزيون الغلاة من الوعي الباطن أنهم لا يفقهون ما هو الوعي الباطن وما هو الوعي الظاهر على السواء، فإن الوعي الباطن قديم لم تخلقه التسمية الحديثة في كتب العلماء النفسانيين، وقد كان الناس بوعيهم الباطن حين وصفوا ما وصفوه، وصوروا ما صوروه من المناظر والضمائر والوجوه، ومن شأن العقل الباطن أن يظل عقلا باطنا حيث خلقه الله، فإن برزت لنا بعض خباياه، فليس معنى بروزها أنها تلغي العقل الظاهر، وتبطل عمل الحواس، وتقلب معالم الأجسام والأشياء، ولا موجب لتمييز المصورين بالقلم أو الريشة بالتخمين والتنجيم عن الوعي الباطن، أو العقل الباطن؛ لأنهم يستعدون لصناعتهم بمزج الألوان ونقل الأشباه لا بالتدرب على الكهانة، ونقش الطلاسم، ووضع الألغاز.
فالرمزية في حدودها المعقولة - ما لم تجعل الدنيا كلها رموزا وكنايات وأطيافا - تعيش في الظلام ولا تعيش في الضياء، وهي ضرورية ما شعر الإنسان بضرورتها في تمثيل الدقائق والأسرار، ولكنها تخرج من الضرورة إلى الضرر إذا أصبحت مطلوبة لغير سبب، وأصبح شعارها «الرمز للرمز»، والغموض للغموض، والتلفيق للتلفيق.
وهي على الجملة «خطر» حين تصبح مدرسة قائمة بذاتها؛ لأن الإنسان لا يحتاج إلى مدرسة ليكون إنسانا يعبر باللفظ الصريح حين يتأتى له التعبير باللفظ الصريح، ويعبر بالكناية حين لا تسعفه وسيلة غير وسيلة الكناية، وقد عرف الناس «الاستعارة» في جميع اللغات، فلم تكن استعارتهم إلا ضربا من الرمز والتصوير بالكلام، ولم تفسد هذه الاستعارات إلا حين أصبحت فنا مصطنعا، وانقطع ما بينها وبين البداهة الصادقة، والتخيل السليم.
وكذلك أفاد الرمزيون الفرنسيون حين التزموا هذه الحدود المعقولة، ومثلوا ثورة البديهة على غرور العلميين والعقليين، وأطلقوا الشعر الفرنسي والشعر الأوروبي عامة من أوزانه المتحجرة، وقيوده العتيقة، ولكنهم لم يقفوا عند ذلك، فاستحقوا أن يقال فيهم: إنهم غنوا بدرهم وسكتوا بدرهمين.
Unknown page