فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها، وهنالك سجد القوم جميعا لم يتخلف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ الحبشة؛ فقال المسلمون بها: عشائرنا أحب إلينا، وخرجوا راجعين. فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم، فقالوا: ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم ارتد عنها فعاد لشتم آلهتهم فعادوا له بالشر . وأتمر المسلمون ما يصنعون، فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبرا فدخلوا مكة.
وإنما ارتد محمد عن ذكر آلهة قريش بالخير - في مختلف الروايات التي أثبتت هذا الخبر - لأنه كبر عليه قول قريش: «أما إذ جعلت لآلهتنا نصيبا فنحن معك.» ولأنه جلس في بيته، حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبي عليه سورة النجم، فقال جبريل: أوجئتك بهاتين الكلمتين؟! مشيرا إلى «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» قال محمد: قلت على الله ما لم يقل! ثم أوحى الله إليه:
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .
2
وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه.
وهذا حديث الغرانيق، رواه غير واحد من كتاب السيرة، وأشار إليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلا. وهو حديث ظاهر التهافت ينقضه قليل من التمحيص. وهو بعد حديث ينقض ما لكل نبي من العصمة في تبليغ رسالات ربه. فمن عجب أن يأخذ به بعض كتاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين: ولذلك لم يتردد ابن إسحاق حين سئل عنه في أن قال: إنه من وضع الزنادقة.
ولكن بعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه فاستندوا إلى الآيات:
وإن كادوا ليفتنونك ، وإلى قوله تعالى:
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .
3
Unknown page