اختلف في سن محمد حين بناء الكعبة وحين حكمه بين قريش في أمر الحجر، فقيل: كان ابن خمس وعشرين، وقال ابن إسحاق: كان ابن خمس وثلاثين. وسواء أصحت الأولى أم الأخرى من هاتين الروايتين فإن إسراع قريش إلى الرضا بحكمه أول ما دخل من باب الصفا، وتصرفه هو في أخذ الحجر ووضعه على الثوب وأخذه من الثوب لوضعه مكانه من جدار الكعبة، يدل على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة ومن تقدير جم لما عرف عنه من سمو النفس ونزاهة القصد.
وهذا الخلاف بين القبائل، وهذا التحالف بين لعقة الدم، وهذا الاحتكام لأول مقبل من باب الصفا، يدل على أن السلطة في مكة كانت انحلت، فلم يبق لرجل منها ما كان لقصي ولا لهاشم ولا لعبد المطلب من سلطان. ولقد كان لتنازع بني هاشم وبني أمية السلطان بعد وفاة عبد المطلب أثره في ذلك لا ريب. وكان الانحلال في السلطة جديرا بأن يجر على مكة الأذى، لولا ما كان لبيتها العتيق في نفوس العرب جميعا من تقديس. وأدى انحلال السلطان إلى نتيجته الطبيعية؛ أدى إلى مزيد من حرية الناس في التفكير والجهر بالرأي، وإلى إقدام اليهود والنصارى، ممن كانوا يخافون صاحب السلطان، على تعيير العرب عبادة الأوثان. وانتهى ذلك بكثير من أهل مكة ومن القرشيين أنفسهم إلى أن زال من نفوسهم تقديس الأصنام، وإن ظل أمجاد مكة وسادتها يظهرون لها التقديس والعبادة، ولهؤلاء من العذر ما للذين يرون في الدين القائم وسيلة من وسائل ضبط النظام وعدم تبلبل الأفكار، وفي عبادة الأصنام بالكعبة ما يحفظ على مكة مكانتها الدينية والتجارية. وقد ظلت مكة بالفعل تنعم من وراء هذه المكانة بالرخاء واتصال التجارة، ولكن ذلك لم يغير من زوال تقديس الأصنام في نفوس المكيين.
ذكروا أن قريشا اجتمعت يوما بنخلة تحيي عبد العزى، فخلص منهم أربعة نجيا، هم زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش وورقة بن نوفل؛ فقال بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور؟! يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه.» أما ورقة فدخل النصرانية، وقيل: إنه نقل إلى العربية بعض ما في الأناجيل. وأما عبيد الله بن جحش فظل فيما هو فيه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وهناك دخل في النصرانية ومات عليها، وأقامت امرأته أم حبيبة بن أبي سفيان على الإسلام حتى صارت من أزواج النبي وأمهات المؤمنين. وأما زيد بن عمرو ففر من وجه زوجه ومن عمه الخطاب. وطوف في الشام وفي العراق ثم عاد ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية. وفارق دين قومه واعتزل الأوثان، وكان يقول وهو مستند إلى الكعبة: «اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك به، ولكني لا أعلمه.» وأما عثمان بن الحويرث - وكان من ذوي قرابة خديجة - فذهب على بيزنطة وتنصر وحسنت مكانته عند قيصر الروم، ويقال: إنه أراد أن يخضع مكة لحماية الروم وأن يكون عامل قيصر عليها، فطرده المكيون فاحتمى بالغساسنة في الشام، وأراد أن يقطع الطريق على تجارة مكة، فوصلت إلى الغساسنة هدايا المكيين، فمات ابن الحويرث عندهم مسموما.
تعاقبت السنون ومحمد يشارك أهل مكة في حياتهم العامة، ويجد في خديجة خير النساء حقا: الودود الولود التي وهبت نفسها له، والتي أنجبت له من الأبناء القاسم وعبد الله الملقب بالطاهر وبالطيب، ومن البنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. أما القاسم وعبد الله فلم يعرف عنهما إلا أنهما ماتا طفلين في الجاهلية لم يتركا على الحياة أثرا يبقى أو يذكر؛ لكنهما من غير شك قد ترك موتهما في نفس أبويهما ما يتركه موت الابن من أثر عميق، وترك موتهما من غير شك في نفس خديجة ما جرح أمومتها جرحين داميين. وهي لا ريب قد اتجهت عند موت كل واحد منهما في الجاهلية إلى آلهتها الأصنام تسألها: ما بالها لم تشملها برحمتها وبرها؟
وما بالها لم ترحم قلبها من أن يهوي به الثكل ليتحطم على قرارة الحزن مرة فمرة؟! وقد شعر معها زوجها لا ريب بالألم لوفاة ابنيه، كما حز في قلبه هذا الألم الحي ممثلة صورته في زوجه يراه كلما عاد إلى بيته وجلس إليها. وليس يتعذر علينا أن نقدر عمق هذا الحزن السحيق في عصر كانت البنات يوأدن فيه، وكان الحرص على العقب الذكر يوازي الحرص على الحياة بل يزيد عليه. وبحسبك مظهرا لهذا الألم أن لم يطق محمد على الحرمان صبرا، حتى إذا جيء بزيد بن حارثة يشترى، طلب إلى خديجة أن تبتاعه ففعلت، ثم أعتقه وتبناه، فكان يدعى زيد بن محمد، واستبقاه ليكون من بعد من خيرة أتباعه وصحبه.
ولقد حزن محمد من بعد حين مات ابنه إبراهيم أشد الحزن بعد أن حرم الإسلام وأد البنات. وبعد أن جعل الجنة تحت أقدام الأمهات. فلا ريب إذن أن قد كان لما أصاب محمدا في بنيه ما هو جدير بأن يترك في حياته وتفكيره أثره. ولا ريب في أنه استوقف تفكيره ولفت نظره في كل واحدة من هذه الفواجع ما كانت خديجة تتقرب به إلى أصنام الكعبة، وما كانت تنحر لهبل ولللات والعزى ولمناة الثالثة الأخرى، تريد أن تتفادى مما ألم بها من ألم الثكل، فلا تفيد القرابين ولا تجدي النحور.
وأما البنات فقد عني محمد بتزويجهن من أكفاء لهن: زوج زينب كبراهن من أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكانت أمه أختا لخديجة، وكان فتى مقدرا من قومه لاستقامته ونجاح تجارته، وكان هذا الزواج موفقا على الرغم مما كان بعد الإسلام، حين أرادت زينب الهجرة من مكة إلى المدينة، من فرقة بينهما سترى من بعد تفصيلها. وزوج رقية وأم كلثوم من عتبة وعتيبة ابني عمه أبي لهب. ولم تبق هاتان الزوجتان مع زوجيهما بعد الإسلام؛ إذ أمر أبو لهب ابنيه بتسريحهما، فتزوجهما عثمان واحدة بعد الأخرى، وكانت فاطمة ما تزال طفلة فلم تزوج من علي إلا بعد الإسلام.
حياة طمأنينة ودعة إذن كانت حياة محمد في هذه السنين من عمره. ولولا احتسابه بنيه لكانت حياة نعمة بمودة خديجة ووفائها، وبهذه الأبوة السعيدة الراضية. طبيعي لذلك أن يترك نفسه لسجيتها، سجية التفكير والتأمل، وأن يستمع إلى قومه فيما كان حوارهم يقع عليه من أمور أصنامهم، وما كان النصارى واليهود يقولونه لهم، وأن يفكر ويتدبر وأن يكون أشد من كل قومه تدبرا وتفكيرا. فهذا الروح القوي الملهم، هذا الروح الذي أعدته الأقدار ليبلغ الناس من بعد رسالات ربه ويوجه حياة العالم الروحية الاتجاه الحق، لا يمكن أن يظل مطمئنا إلى ما غرق الناس فيه إلى الأذقان من ضلال، ولا بد أن يلتمس في الكون أسباب الهدى، حتى يعده الله ليلقي عليه ما قدر في الغيب من رسالته. ومن عظيم توجهه إلى هذه الناحية الروحية وشديد تعلقه بها، لم يكن يريد لنفسه أن يكون من طراز الكهان، ولا أراد أن ينصب نفسه حكيما على نحو ما كان ورقة بن نوفل وأمثاله؛ إنما كان يريد الحق لنفسه، فكان لذلك كثير التفكير، طويل التأمل، قليل الإفضاء إلى غيره بما يجيش بنفسه من آثار تفكيره وتأمله.
غار حراء بمكة.
وقد كان من عادة العرب إذ ذاك أن ينقطع مفكروهم للعبادة زمنا في كل عام يقضونه بعيدا عن الناس في خلوة، يتقربون إلى آلهتهم بالزهد والدعاء، ويتوجهون إليها بقلوبهم يلتمسون عندها الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع للعبادة التحنف والتحنث، وقد وجد محمد فيه خير ما يمكنه من الإمعان فيما شغلت به نفسه من تفكير وتأمل، كما وجد فيه طمأنينة نفسه وشفاء شغفه بالوحدة يلتمس أثناءها الوسيلة إلى ما لم يبرح شوقه يشتد إليه من نشدان المعرفة واستلهام ما في الكون من أسبابها. وكان بأعلى جبل حراء - على فرسخين من شمال مكة - غار هو خير ما يصلح للانقطاع والتحنث، فكان يذهب إليه طول شهر رمضان من كل سنة يقيم به مكتفيا بالقليل من الزاد يحمل إليه ممعنا في التأمل والعبادة، بعيدا عن ضجة الناس وضوضاء الحياة، ملتمسا الحق، والحق وحده. ولقد كان يشتد به التأمل ابتغاء الحقيقة حتى لقد كان ينسى نفسه وينسى طعامه وينسى كل ما في الحياة؛ لأن هذا الذي يرى في حياة الناس مما حوله ليس حقا. وهناك كان يقلب في صحف ذهنه كل ما وعى فيزداد عما يزاول الناس من ألوان الظن رغبة وازورارا.
Unknown page