هذا النظام الخلقي الذي نزل به القرآن للمدينة الفاضلة، لا يدعو إلى حرمان النفس مما خلق الله من أنعم، حتى لا يؤدي بها الحرمان إلى ما يؤدي إليه الإمعان في التقشف من انصراف عن التفكير في الكون، وزهد في العلم بما فيه. وهو لا يرضى أن يسلم الإنسان نفسه للاستمتاع حتى لا يغرقها في لجة الترف وينسيها كل ما سواه. بل هو يجعل الناس أمة وسطا، ويوجههم وجهة الفضيلة الخالصة ووجهة المعرفة للكون وكل ما فيه. والقرآن يتحدث عما في الكون من خلق الله حديثا يوجهنا إلى غاية ما نستطيع معرفته من أمره. فهو يتحدث عن الأهلة، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الأرض وما خلق فيها، والسماء وزينة كواكبها، وعن البحر يزجي الله الفلك فيه لنبتغي من فضله، وعن الأنعام التي نركبها وزينة، وعن كل ما في الكون من علم وفن. يتحدث القرآن عن هذا كله، ويدعو إلى النظر فيه وإلى دراسته، وإلى الاستمتاع بآثاره وثمراته شكرا لله على نعمته. أما وقد أدب القرآن الناس بأدبه ودعاهم إلى السعي وإلى الدأب لمعرفة كل ما في الكون، فما أجدرهم أن يصلوا من نظرهم من طريق العقل إلى غاية ما يستطيع العقل إدراكه! وما أجدرهم أن يقيموا نظامه الاقتصادي على أساس فاضل!
النظام الاقتصادي، الذي يقوم على ما قدمنا من أسس خلقية وروحية، جدير بأن يصل بالناس إلى السعادة، وبأن يمحو من الأرض الشقاء. فهذه المبادئ السامية التي يحرص القرآن على أن تحل من النفس محل العقيدة والإيمان تأبى على صاحبها أن يرى في الأرض شقاء أو نقصا يستطيع إزالته ثم لا يزيله. وأول ما ينكره من تأدب بهذا الأدب، الربا: أساس الحياة الاقتصادية الحاضرة، ومصدر شقاء الناس جميعا؛ ولذلك حرمه الإسلام تحريما قاطعا. يقول تعالى:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس .
28
ويقول:
وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون .
29
تحريم الربا قاعدة أساسية للحضارة التي تكفل للعالم سعادته. فالربا في أقل صوره ضررا إنما هو اشتراك رجل لا يعمل في ثمرات عمل غيره بلا سبب إلا أنه أقرضه مالا، بحجة أنه أعان هذا الغير بما أقرضه على إدراك هذه الثمرات، وأنه لو لم يفعل لما استطاع مدينه أن يعمل وأن يجني هذه الثمرات. ولو أن هذه الصورة كانت وحدها صورة الربا لما كانت مع ذلك مسوغة له. فلو أن الذي يقرض المال كان قديرا على أن يثمره بنفسه لما أقرضه غيره. ولو أنه أبقاه عنده لبقي معطلا لا يؤتي ثمرة، ولأكله صاحبه شيئا فشيئا. فإذا أراد الاستعانة بغيره في تثمير ماله مقابل الحصول على حظ من ثمرته، لم تكن وسيلة ذلك أن تفرض لرأس المال فائدة معينة، وإنما تكون وسيلته أن يشارك صاحب المال من يثمر هذا المال في مقابل حصته من الثمرة. فإن ربح المثمر كان لرب المال من ذلك الربح نصيبه، وإن خسر كان عليه من الخسارة نصيبه. فأما أن تفرض لرأس المال فائدة ولو لم يفد من ثمره شيئا فذلك هو الاستغلال غير المشروع.
ولا يعترض بأن المال عرض كغيره يؤجر كما تؤجر الأرض أو كما تؤجر الدابة، وأن فائدة النقل تقابل إيجار غيره من العروض؛ فبين المال الذي يصلح للإنفاق كما يصلح للتثمير والذي ينتفع به في الخير وتجلب به أسباب الإثم، وبين غيره من الأموال الثابتة والمنقولة فرق كبير. فالإنسان لا يستأجر أرضا أو بيتا أو دابة أو أيا من العروض إلا لينتفع به فيما يصلح له ما لم يكن سفيها أو معتوها لا تلزمه تصرفاته. فأما رءوس الأموال فأكثر ما تقترض في خير الوجوه للتجارة. والتجارة عرضة دائما للكسب والخسارة. أما إجارة العقار أو المنقول لاستغلاله فقل أن تتعرض للخسارة إلا في أحوال شاذة لا يوضع التشريع العادي لها. فإذا حدثت هذه الأحوال الشاذة تدخل المشروع بين الملاك والمستأجرين على نحو ما حدث في بلاد العالم كله غير مرة لرفع الحيف عن المستأجر، وإنقاذه من أن يأكل المالك ثمرة عمله. فأما تحديد فائدة النقد بسبعة أو تسعة في المائة أو بأكثر من ذلك أو أقل، فلا يغير من أن المقترض معرض لخسارة المال نفسه فضلا عن تعرضه لخسارة عمله. فإذا طولب مع ذلك بالفائدة كان هذا هو الإثم ، وكان من أثر ذلك أن تقوم الشحناء بين الناس مقام الإخاء، وأن تحل البغضاء بينهم محل المحبة؛ وذلك مصدر الشقاء، ومبعث ما تعانيه الإنسانية في عصرنا الحاضر من أزمات.
وإذا كان هذا شأن الربا في أقل صوره ضررا، وكانت هذه بعض النتائج التي تترتب عليه، فكيف به في صوره الأخرى حين يكون المقرض أدنى إلى الوحش المفترس منه إلى الإنسان، أو حين يكون المقترض في حاجة إلى المال لسبب غير التثمير؟! فقد يكون في حاجة إلى المال لإقامة أوده ولإنفاقه في قوته وفي قوت عياله. حينذاك يكون إنظاره إلى ميسرة، حتى يتهيأ له عمل يطمئن به إلى العيش ويستطيع أن يرد منه ديونه، بعض ما توجبه الإنسانية في أولى مراتبها؛ وذلك ما يفرضه القرآن الكريم. أليس الإقراض بالربا في مثل هذه الأحوال عملا وحشيا، وجريمة كجريمة القتل سواء؟! وأشنع من هذه الجريمة التحايل من طريق الربا على سلب ثروات الضعفاء الذين لا يحسنون القيام على أموالهم. هذا التحايل لا يقل إثما عن السرقة الدنيئة، ويجب أن يعاقب من يقدم عليه عقاب السارق أو أشد منه.
Unknown page