211

توفي؛ وإنه والله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات. والله ليرجعن رسول الله كما رجع موسى، فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أنه مات.»

واستمع المسلمون بالمسجد إلى هذه الصيحات من جانب عمر يرسل الواحدة تلو الأخرى وهم في حالة أشبه شيء بالذهول، ألا إن كان محمد قد مات حقا فوا حر قلباه! ويا للهم الناصب لأولئك الذين رأوه وسمعوا له، وآمنوا بالله الذي بعثه بالهدى ودين الحق، هم يذهل القلب ويذهب باللب. وإن كان محمد قد ذهب إلى ربه، كما يقول عمر، فذلك أدعى للذهول؛ وانتظار أوبته حتى يرجع كما رجع موسى أشد إمعانا في العجب. لذلك أحاطت جموعهم بعمر وهم أدنى إلى تصديقه وإلى الإيمان بأن رسول الله لم يمت.

وكيف يموت وقد كان معهم منذ ساعات يرونه ويسمعون إلى صوته الجهوري وإلى دعائه واستغفاره؟! وكيف يموت وهو خليل الله الذي اصطفى لتبليغ رسالته، وقد دانت له العرب كلها، وبقي أن يدين له كسرى وأن يدين له هرقل بالإسلام؟! وكيف يموت وهو هذه القوة التي هزت العالم مدى عشرين سنة متوالية، وأحدثت فيه أعنف ثورة روحية عرف التاريخ؟! لكن النساء هناك ما زلن يلتدمن ويضربن وجوههن علامة أنه مات.

ولكن عمر ها هنا في المسجد ما فتئ ينادي بأنه لم يمت، وبأنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، وبأن الذين يقولون بموته إنما هم المنافقون؛ هؤلاء المنافقون الذين سيضرب محمد أيديهم وأعناقهم بعد رجعته. أي الأمرين يصدق المسلمون؟ لقد أخذهم الفزع أول الأمر، ثم ما زالت بهم أقوال عمر تبعث إلى نفوسهم الأمل برجعة النبي حتى كادوا يصدقون أمانيهم، ويصورون منها لأنفسهم حقائق يكادون يستريحون إليها.

وإنهم لكذلك إذ أقبل أبو بكر آتيا من السنح وقد بلغه الخبر الفادح. وبصر بالمسلمين وبعمر يخطبهم، فلم يقف طويلا ولم يلتفت إلى شيء، بل قصد إلى بيت عائشة فاستأذن ليدخل، فقيل له: لا حاجة لأحد اليوم بإذن. فدخل فألفى النبي مسجى في ناحية من البيت عليه برد حبرة،

1

فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أقبل عليه يقبله وقال: ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا! ثم إنه أخذ رأس النبي بين يديه وحدق في معارف وجهه التي بقيت لم ينكرها عدوان الموت عليها، وقال: بأبي أنت وأمي! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا. ثم أعاد الرأس إلى الوسادة ورد البرد على وجهه وخرج وعمر ما يزال يكلم الناس ويقنعهم بأن محمدا لم يمت. وفسح الناس لأبي بكر طريقا. فلما دنا من عمر ناداه: على رسلك يا عمر! أنصت! لكن عمر أبى أن يسكت أو ينصت واستمر يتكلم. فأقبل أبو بكر على الناس وأشار إليهم بأنه يكلمهم. ومن كأبي بكر في هذا المقام؟! أليس هو الصديق صفي النبي ومن لو اتخذ خليلا لاتخذه خليلا؟!

لذلك أسرع الناس إلى تلبية دعوته وانصرفوا إليه عن عمر. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم تلا قوله تعالى:

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .

2

Unknown page