182

5

للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به، رجونا عطفه وعائدته علينا؛ وأنت خير المكفولين. ولم يخطئ هؤلاء في تذكير محمد بصلته بهم وقرابته منهم؛ فقد كانت بين السبايا امرأة تخطت الكهولة عنف عليها الجند المسلمون؛ فقالت لهم: تعلموا والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة. فلم يصدقوها وجاءوا بها محمدا، فعرفها فإذا هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى. وأدناها منه وبسط لها رداءه وأجلسها عليه، وخيرها إن أحبت أبقاها وإن أحبت متعها ورجعها إلى قومها؛ فاختارت الرجوع إلى قومها .

طبيعي وتلك صلة محمد بهؤلاء الرجال الذين أقبلوا عليه من هوازن مسلمين، أن يعطف عليهم وأن يجيبهم إلى مطلبهم؛ فقد كان ذلك دائما شأنه مع كل من أسدى إليه يوما من الدهر يدا. كان عرفان الجميل بعض شأنه، والبر بكليم القلب في جبلته. فلما سمع مقالتهم سألهم: أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا! بل ترد علينا نساءنا وأبناءنا فهم أحب إلينا. فقال عليه السلام: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. وإذا ما أنا صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. ونفذت هوازن قول النبي، فأجابهم: أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم. قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله، وكذلك قال الأنصار. أما الأقرع بن حابس عن تميم وعيينة بن حصن فرفضا، ورفض العباس بن مرداس عن بني سليم؛ لكن بني سليم لم يقروا العباس على رفضه. هنالك قال النبي: أما من تمسك منك بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه، وكذلك ردت نساء هوازن وأبناؤها إليها بعد أن أعلنت إسلامها.

وسأل محمد وفد هوازن عن مالك بن عوف النصري. فلما علم أنه ما يزال بالطائف مع ثقيف، طلب إليهم أن يبلغوه: أنه إن أتاه مسلما رد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل. ولم يبطئ مالك حين علم بوعد الرسول أن أسرج فرسه في سر من ثقيف، وأن نجا بها حتى لحق بالرسول، فأعلن إسلامه فأخذ أهله وماله ومائة من الإبل. وأوجس الناس خيفة إن أفشى محمد هذه الأعطيات لمن يفدون عليه أن تنقص من قسمتهم من الفيء، فألحوا في أن يأخذ كل فيأه وتهامسوا بذلك. فلما بلغ الهمس النبي وقف إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» وطلب إلى كل أن يرد ما غنم حتى تكون القسمة العدل، «فمن أخذ شيئا في غير عدل ولو كان إبرة كان على أهله عارا ونارا وشنارا إلى يوم القيامة.»

قال محمد هذه العبارة مغضبا بعد أن ردوا إليه رداءه الذي أخذوا، وبعد أن صاح بهم: ردوا إلي ردائي أيها الناس. فوالله لو أن لكم بعدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا. ثم إنه خمس الغنيمة وأعطى من خمسه الذين كانوا إلى أيام أشد الناس عداوة له نصيبا على نصيبهم، فأعطى مائة من الإبل كلا من أبي سفيان وابنه معاوية والحارث بن الحارث بن كلدة والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى والأشراف ورؤساء العشائر ممن تألف بعد فتح مكة؛ وأعطى خمسين من الإبل من كانوا دون هؤلاء شأنا ومكانة. وقد بلغ عدد الذين أعطاهم عشرات. وبدا محمد يومئذ غاية من السماحة والكرم مما جعل أعداء الأمس تنطلق ألسنتهم بجميل الثناء عليه. ولم يدع لأحد من هؤلاء المؤلفة قلوبهم حاجة إلا قضاها. أعطى عباس بن مرداس عددا من الإبل لم يرضه وعاتبه على أن فضل عليه عيينة والأقرع وغيرهما. فقال النبي: اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه. فأعطوه حتى رضي، وكان ذلك قطع لسانه.

على أن هذا الذي تألف به النبي قلوب من كانوا إلى أمس أعداءه، قد جعل الأنصار يتحدث بعضهم إلى بعض فيما صنع الرسول ويقول بعضهم لبعض: «لقي والله رسول الله قومه.» ورأى سعد بن عبادة أن يبلغ النبي مقالة الأنصار ويؤيدهم فيها؛ فقال له النبي: «اجمع لي قومك في هذه الحظيرة.» فجمعهم سعد وأتاهم النبي فدار الحوار الآتي:

محمد :

يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟

الأنصار :

بلى! الله ورسوله أمن وأفضل.

Unknown page