على أن إذعان أهل خيبر وسائر اليهود لمصيرهم في شبه الجزيرة، لم يقع مرة واحدة بعد هزيمتهم، بل لقد كانت نفوسهم في أثر الهزيمة ملأى بالغل والغضب أخبث الغضب . أهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم إلى محمد شاة - بعد أن اطمأن وبعد أن وقع الصلح بينه وبين أهل خيبر - فجلس وأصحابه حولها ليأكلوها، وتناول عليه السلام فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان بشر بن البراء معه قد تناول منها مثل ما تناول. فأما بشر فأساغها وازدردها. وأما الرسول فلفظها وهو يقول: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بزينب فاعترفت وقالت: لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكا استرحت منه، وإن كان نبيا فيسخبر. ومات بشر من أكلته هذه.
وقد اختلف الرواة، فذكر أكثرهم أن النبي عفا عن زينب وقدر لها عذرها بعد الذي أصاب أباها وزوجها. وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.
وقد تركت فعلة زينب في نفوس المسلمين أعمق الأثر، وجعلتهم في أعقاب خيبر لا يثقون باليهود، بل يخشون غدرهم أفرادا بعد أن قضي على جماعتهم القضاء الأخير. كانت صفية ابنة حيي بن أخطب النضيرية من بين السبايا اللائي أخذ المسلمون من حصون خيبر، وكانت زوجا لكنانة بن الربيع، وكان عند كنانة مما يعرف المسلمون كنز بني النضير. فسأله النبي عنه فأقسم لا يعرف مكانه. فقال له محمد: إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. وكان أحدهم قد رأى كنانة يطوف بخربة وذكر أمره للنبي، فأمر بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض الكنز، فقتل في إنكاره. فلما خلصت صفية إلى المسلمين وصارت بين الأسرى، قيل للنبي: «صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك.» فأعتقها وتزوجها مقتفيا بذلك أثر الفاتحين العظماء الذين كانوا يتزوجون من بنات عظماء الممالك التي يفتحونها ليخففوا من مصابهم ويحفظوا من كرامتهم.
وقد خشي أبو أيوب خالد الأنصاري أن تتحرك في نفسها الضغينة على الرسول الذي قتل أباها وزوجها وقومها؛ لذلك بات حول الخيمة التي أعرس فيها محمد بصفية في طريق عودته من خيبر متوشحا بسيفه. فلما أصبح الرسول ورآه سأله: ما لك؟ قال: خفت عليك من هذه المرأة وقد قتلت أباها وزوجها وقومها وقد كانت حديثة عهد بكفر. على أن صفية أقامت على الوفاء لمحمد حتى قبضه الله إليه. وقد اجتمع نساؤه حوله في مرضه الأخير؛ فقالت صفية: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي. فتغامز بها أزواج النبي. فقال لهن: مضمضن. قلن: من أي شيء يا نبي الله؟ قال: من تغامزكن بصاحبتكن، والله إنها لصادقة. وبقيت صفية بعد النبي حتى خلافة معاوية، وفيها توفيت ودفنت بالبقيع.
ماذا فعل الله بالرسل الذين أوفدهم محمد إلى هرقل وكسرى والنجاشي وغيرهم من الملوك المحيطين ببلاد العرب؟! هل سافروا قبل غزوة خيبر، أو هم حضروها حتى تم النصر للمسلمين فيها ثم سافروا من بعدها كل إلى ناحيته؟ يختلف المؤرخون في ذلك اختلافا كبيرا يصعب معه القطع في الأمر بقول. وأكبر ظننا أنهم لم يسافروا جميعا في وقت واحد، وأن منهم من سافر قبل خيبر ومنهم من سافر بعدها. فقد جاء في غير رواية أن دحية بن خليفة الكلبي حضر خيبر وهو مع ذلك الذي ذهب برسالة هرقل. سافر إليه وكان هرقل يومئذ عائدا يحف به النصر بعد أن تغلب على الفرس واستنقذ منهم الصليب الأعظم الذي أخذ من بيت المقدس، وآن له أن يتم نذره وأن يحج إلى بيت المقدس ماشيا ليرد الصليب الأعظم إلى مكانه، وكان قد بلغ من سياحته مدينة حمص حين حمل الخطاب إليه. هل حمله إليه جماعة من رجاله بعد أن أسلم دحية الخطاب إلى عامله على بصرى، أو أنه اطلع عليه بعد أن أدخل جماعة من البدو ودحية على رأسهم يقدم إليه الكتاب بنفسه؟ هذا ما تضطرب الرواية كذلك حوله. وتلي الخطاب عليه وترجم له، فلم يغضب ولم تثر ثائرته، ولم يفكر في إرسال جيش يغزو بلاد العرب، بل رد على الرسالة ردا حسنا جعل بعض المؤرخين يزعمون خطأ أنه أسلم.
وفي الوقت نفسه بعث الحارث الغساني إلى هرقل يخبره أن رسولا جاءه من محمد بكتاب، رأى هرقل شبهه بالكتاب الذي أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام ويستأذن الحارث في أن يقوم على رأس جيش لمعاقبة هذا المدعي النبوة. لكن هرقل رأى الخير في أن يكون الحارث ببيت المقدس حين زيارته إياه ليزيد في جلال الحفلات برد الصليب إليه، ولم يعبأ بهذا الداعي إلى دين جديد، ولم يدر بخلده أنه لن تمضي سنوات قليلة حتى يكون بيت المقدس وتكون الشام في ظل الراية الإسلامية، وأن العاصمة الإسلامية ستنتقل إلى دمشق، وأن النضال بين دول الإسلام والإمبراطورية الرومية لن تهدأ ثائرته حتى يستولي الأتراك على القسطنطينية في سنة 1453م، وحتى يحيلوا كنيستها الكبرى مسجدا يكتب فيه اسم هذا النبي الذي حاول هرقل أن يظهره مظهر من لا يحفل به أو يعنى بأمره، وأن تظل هذه الكنيسة مسجدا عدة قرون حتى يحيلها المسلمون الأتراك متحفا للفن البزنطي.
أما كسرى عاهل الفرس فإنه ما لبث حين تلي عليه كتاب محمد يدعوه إلى الإسلام أن استشاط غضبا وشق الكتاب، وكتب إلى بازان عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز. ولعله كان يحسب في هذا ما يخفف من آثار هزائمه أمام هرقل. فلما بلغت النبي مقالة كسرى وما فعل بكتابه قال: مزق الله ملكه. وأوفد بازان رسله برسالة إلى محمد. وفي هذه الأثناء كان كسرى قد خلفه شيرويه. وكان النبي قد عرف ذلك فأخبر رسل بازان به، وطلب إليهم أن يكونوا رسله إلى بازان يدعونه إلى الإسلام. وكان أهل اليمن قد عرفوا ما حل بفارس من هزائم وقد شعروا بانحلال سلطانها عنهم، وقد اتصلت بهم انتصارات محمد على قريش وقضاؤه على سلطة اليهود. فلما رجع رسل بازان إليه وأبلغوه رسالة النبي، كان سعيدا بأن يسلم وأن يبقى عامل محمد على اليمن. وماذا ترى يطلب محمد إليه وما تزال مكة بينه وبينه؟ إذن فله الغنم بعد أن تقلص ظل فارس في أن يحتمي بالقوة الناشئة الجديدة في بلاد العرب من غير أن تطلب إليه هذه القوة شيئا.
ولعل بازان لم يقدر يومئذ أن انضمامه إلى محمد كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة، كما دلت الأحوال عليه بعد عامين اثنين.
وكان رد المقوقس عظيم القبط في مصر غير رد كسرى، بل كان أجمل من رد هرقل. فقد بعث إلى محمد يخبره أنه يعتقد أن نبيا سيظهر، ولكنه سيظهر في الشام، وأنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهدية: جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض خيرات مصر. أما الجاريتان فمارية التي اصطفاها النبي لنفسه والتي ولدت له إبراهيم من بعد، وسيرين التي أهديت إلى حسان بن ثابت، وأما البغلة فأسماها النبي دلدل، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي رأتها بلاد العرب. وأما الحمار فأسمي غفيرا أو يعفورا. وقبل محمد هذه الهدية، وذكر أن المقوقس لم يسلم خشية أن يسلبه الروم ملك مصر، وأنه لولا ذلك لآمن ولكان من حظه الهدى.
وكان طبيعيا، بعد الذي عرفنا من صلات نجاشي الحبشة بالمسلمين، أن يكون رده جميلا، حتى لقد ورد في بعض الروايات أنه أسلم وإن أثارت طائفة من المستشرقين الشك حول إسلامه هذا. على أن الرسول بعث له غير كتاب دعوته إلى الإسلام بكتاب آخر يطلب إليه رد المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة. وقد جهز لهم النجاشي سفينتين حملتاهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومعهم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بعد أن مات زوجها عبد الله بن جحش الذي جاء إلى الحبشة مسلما ثم تنصر وبقي على نصرانيته حتى مات. وقد أصبحت أم حبيبة بعد عودتها من الحبشة من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. ذكر بعض المؤرخين أن النبي تزوجها ليرتبط مع أبي سفيان برابطة النسب توكيدا لعهد الحديبية. ورأى آخرون في زواج رملة من محمد وأبو سفيان على وثنيته، ما تألم له نفسه ويغص به حلقه.
Unknown page