لكن بدرا أدخلت الرعب في قلوب هذه القبائل. أفتراها تغير على المدينة وتحارب المسلمين، أم ماذا تراها تصنع؟ بلغ محمدا أن جمعا من غطفان وسليم اعتزم الاعتداء على المسلمين؛ فخرج إلى قرقرة الكدر ليأخذ عليهم الطريق. فلما وصل إلى ذلك المكان رأى آثار النعم ولم يجد في المجال أحدا، فأرسل نفرا من أصحابه في أعلى الوادي وانتظر هو في بطنه. فلقي غلاما اسمه يسار، فسأله فعلم منه أن الجمع ارتفع إلى الماء؛ فجمع المسلمون ما وجدوا من نعم فاقتسموه بعد أن أخذ محمد الخمس، كنص القرآن. قيل: وكان ما غنموا خمسمائة بعير أخرج النبي خمسها وقسم الباقي، فأصاب كل رجل بعيران. وبلغ محمدا أن جمعا من بني ثعلبة ومحارب بذي أمر قد تجمعوا يريدون أن يصيبوا من أطرافه. فخرج عليه السلام في أربعمائة وخمسين من المسلمين، فلقي رجلا من ثعلبة فسأله عن القوم، فدله الرجل على مكانهم وقال له: إنهم يا محمد إن سمعوا بمسيرك هربوا في رءوس الجبال، وأنا سائر معك ودالك على عورتهم. فما لبث المغيرون حين سمعوا باقتراب محمد منهم أن فروا فوق الجبال. وبلغه أن جمعا كبيرا من بني سليم ببحران تهيئوا لقتاله؛ فخرج في ثلاثمائة رجل فأغذوا السير، حتى إذا كانوا دون بحران بليلة لقيهم رجل من بني سليم؛ فسأله محمد عنهم فأخبره أنهم تفرقوا وعادوا أدراجهم. وكذلك كان هؤلاء الأعراب في فزع من محمد وفي قلق على مصيرهم، ما يكادون يفكرون في الكيد لمحمد وفي السير لملاقاته حتى تنخلع قلوبهم لمجرد سماعهم بسيره لملاقاتهم.
وفي هذه الأثناء وقع مقتل كعب بن الأشرف على نحو ما قدمنا. فأصاب اليهود كذلك من الفزع ما جعلهم يلزمون دورهم لا يخرج أحد منهم مخافة أن يصيبه ما أصاب كعبا. وزاد في فزعهم أن أهدر محمد دماءهم بعد الذي كان من أمر بني قينقاع مما أدى إلى حصارهم. فجاءوا إلى محمد يشكون إليه أمرهم ويذكرون له مقتل كعب غيلة بلا جرم ولا حدث علموه. فكان جوابه لهم: إنه آذانا وهجانا بالشعر ولو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما أصابه شر. وبعد حديث طال بينهم دعاهم إلى أن يكتب معهم كتابا يحترمونه. وخافت اليهود وذلت وإن بقي في نفسها من محمد ما بدا من بعد أثره.
ماذا تصنع قريش بتجارتها إلى الشام وقد أخذ محمد عليها طريقها؟ إن مكة تعيش من التجارة، فإذا لم تجد الوسيلة إليها تعرضت لشر ما تتعرض له مدينة مثلها. وهذا محمد أراد حصارها والقضاء في نفس العرب على مكانتها. وقف صفوان بن أمية يوما في قريش وقال لهم: «إن محمدا وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه وهم لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعوهم ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسكن. وإن قمنا في دارنا هذا أكلنا رءوس أموالنا فلم يكن لها من بقاء. وإنما حياتنا بمكة على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء.» قال له الأسود بن عبد المطلب: تنكب الطريق على الساحل وخذ طريق العراق. ودله على فرات بن حيان من بني بكر بن وائل يدلهم على الطريق. وقال لهم فرات: طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد، فإنما هي أرض نجد وفياف. لم يخف صفوان الفيافي أن كان الفصل شتاء وحاجتهم إلى الماء قليلة، وتجهز صفوان من الفضة والبضائع بما قيمته مائة ألف درهم. وكان بمكة حين تدبير قريش خروج تجارتها يثربي (هو نعيم بن مسعود الأشجعي) عاد إلى المدينة وجرى على لسانه ذكر حديث قريش وما صنعت لأحد المسلمين. فأسرع هذا فنقل الخبر إلى محمد. وما لبث النبي أن بعث زيد بن حارثة في مائة راكب اعترضوا التجارة عند القردة (ماء من مياه نجد) ففر الرجال وأصاب المسلمون العير؛ فكانت أول غنيمة ذات قيمة غنمها المسلمون، وعاد زيد ومن معه؛ فخمسها محمد وقسم ما بقي على رجاله. وجيء بفرات بن حيان فعرض عليه أن يسلم لينجو، فأسلم ونجا.
هل اطمأن محمد بعد هذا كله إلى أن الأمر قد استقر له؟ هل خدعه يومه عن غده؟ وهل خيل له فزع القبائل منه وما غنم من قريش أن كلمة الله وكلمة رسوله قد اطمأنت ولم يبق للخوف عليها محل؟ وهل جعله إيمانه بنصر الله إياه يلقي حبال الأمور على غواربها علما منه بأن الأمر كله لله؟ كلا؟ فالأمر كله حقا لله، لكنك لن تجد لسنة الله تبديلا. وما ركب الله في النفوس من سلائق لا سبيل إلى إنكاره وقريش لها سيادة العرب، وهي لا يمكن أن تني عن الأخذ بثأرها. وما أصاب قافلة صفوان بن أمية لن يزيدها على الثأر إلا حرصا، وفي التهيؤ للأخذ به إلا شدة. وما كان شيء من هذا ليغيب عن محمد وبعد نظره وسلامة سياسته، فلا بد له إذن من أن يزيد المسلمين به تعلقا وارتباطا، ومهما يكن الإسلام قد شد من عزائمهم وجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن حسن رعايتهم تزيد عزائمهم شدة وتضامنهم قوة. ومن حسن رعايتهم أن يزيد محمد رابطته بهم.
لهذا تزوج من حفصة بنت عمر بن الخطاب، كما تزوج من عائشة بنت أبي بكر من قبل، وكانت حفصة من قبله زوج خنيس أحد السابقين إلى الإسلام، وقد مات عنها قبل زواج محمد بسبعة أشهر. وكما تزوج من حفصة فزاد عمر بن الخطاب به تعلقا، زوج ابنته فاطمة من ابن عمه علي أشد الناس محبة للنبي وإخلاصا له منذ طفولته. ولما كانت رقية ابنته قد اختارها الله إلى جواره، فقد زوج عثمان بن عفان بعدها ابنته أم كلثوم. وكذلك جمع حوله برابطة المصاهرة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا، وجمع بذلك أربعة من أقوى المسلمين الذين كانوا معه، بل أقواهم إن شئت. بهذا كفل للمسلمين مزيدا من القوة، كما كفل لهم بما غنموا في مغازيهم إقداما على الحرب يجمع فيها الرجل بين الجهاد في سبيل الله والغنم من المشركين. وهو في هذه الأثناء يتتبع بدقة كل الدقة أخبار قريش وما تعد. فقد كانت قريش تعد للثأر ولتفتح لنفسها طريق التجارة إلى الشام، حتى لا تهوي مكانة مكة التجارية ومكانتها الدينية إلى حيث لا تقوم لها من بعد ذلك قائمة.
الفصل الخامس عشر
غزوة أحد
(استعداد قريش بمكة - خروجها للغزو - كيف علم به محمد
صلى الله عليه وسلم - تشاور المسلمين في التحصن بالمدينة أو الخروج لملاقاة العدو - انتصار المسلمين ثم هزيمتهم - خروج النبي من المدينة غداة أحد ليلحق بالمنتصرين فيغزوهم - عودة أبي سفيان وقريش إلى مكة) ***
لم يهدأ منذ بدر لقريش بال، ولم تغنها غزوة السويق شيئا، وزادتها سرية زيد بن حارثة التي أخذت تجارتهم حين سلوكها سبيل العراق إلى الشام حرصا على الثأر وادكارا لقتلى بدر. وكيف لقريش نسيانهم وهم أشراف مكة وساداتها وذوو النخوة والكرامة من كبارها؟! وكيف لها نسيانهم وما تزال نساء مكة تذكر كل منهن في القتلى لها ابنا أو أخا أو أبا أو زوجا أو حميما، فهي له تتوجع وعليه تبكي وتولول؟! هذا، وكانت قريش - منذ قدم أبو سفيان بن حرب بالعير التي كانت سبب بدر من الشام وعاد الذين شهدوا بدرا وسلموا من القتل فيها - قد وقفت العير بدار الندوة، واتفق كبراؤها: جبير بن مطعم وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وحويطب بن عبد العزى وغيرهم، على أن تباع العير وأن تعزل أرباحها وأن يجهز بها جيش لقتال محمد، جرار في عدده وعدته، وأن تستنفر بها القبائل ليشاركوا قريشا في أخذهم بالثأر من المسلمين. وقد استنفروا معهم أبا عزة الشاعر الذي عفا عنه النبي من أسرى بدر، كما استنفروا معهم من اتبعهم من الأحابيش. وأصرت النسوة من قريش على أن يسرن مع الغزاة. فتشاور القوم؛ فمن قائل بخروجهن، «فإنه أقمن أن يحفظكم
Unknown page