116

ووقف محمد وسط هذا الوطيس يتمشى خلاله ملك الموت يقظ رقبة الكفر، فأخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وقال: شاهت الوجوه! ثم نفحهم بها وأمر أصحابه فقال: شدوا. وشد المسلمون وما يزالون أقل من قريش عددا، لكن كل واحد منهم امتلأت بنفحة من أمر الله نفسه، فلم يكن هو الذي يقتل العدو، ولا كان هو الذي يأسر من يأسر، لولا هذه النفحة التي ضاعفت قوته المعنوية بما ضاعفت قوته المادية. وفي ذلك نزل قوله تعالى:

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ،

7

وقوله تعالى:

فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى .

8

لما آنس الرسول أن الله أنجزه وعده وأتم على المسلمين النصر عاد إلى العريش. وفرت قريش فطاردهم المسلمون يأسرون منهم من لم يقتل ولم يساعفه حسن فراره بالنجاة.

هذه غزوة بدر التي استقر بها الأمر للمسلمين من بعد في بلاد العرب جميعا، والتي كانت مقدمة وحدة شبه الجزيرة في ظلال الإسلام، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، والتي أقرت في العالم حضارة لا تزال ولن تزال ذات أثر عميق في حياته. ولقد تعجب إذ تعلم أن محمدا، على ما كان من تحريضه أصحابه وما كان يرجو من استئصال عدو الله وعدوه، قد طلب إلى المسلمين منذ اللحظة الأولى من المعركة ألا يقتلوا بني هاشم وألا يقتلوا بعض رجال من سادات قريش، مع أنهم اشتركوا في قتال المسلمين، ومع أنهم سيقتلون من المسلمين من يستطيعون قتله. ولا تحسب أنه في ذلك أراد أن يحابي أهله أو أحدا ممن يمتون إليه بآصرة القربى، فنفس محمد أسمى من أن تتأثر بمثل هذا، وإنما ذكر لبني هاشم منعهم إياه مدى ثلاثة عشر عاما من يوم بعثه إلى يوم هجرته، حتى كان عمه العباس معه ليلة بيعة العقبة. وذكر لغير بني هاشم من قريش جميل من قاموا وهم على الكفر يطالبون بنقض الصحيفة، التي اضطرته بها قريش أن يلزم هو وأصحابه الشعب، بعد أن قطعت قريش بهم كل صلة وكل علاقة. فهذا المعروف الذي تقدم به هؤلاء وأولئك قد اعتبره محمد حسنة يجزى من قدمها بمثلها، بل يجزى بعشر أمثالها؛ لذلك كان شفيعا لهؤلاء عند المسلمين ساعة القتال، وإن أبى بعض هؤلاء القرشيين أن يستظلوا بهذا العفو على نحو ما فعل أبو البختري أحد الذين قاموا في نقض الصحيفة، فقد أبى وقتل.

ولى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم، لا يكاد أحدهم يلتقي نظره بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلا من سوء ما حل بهم جميعا. أما المسلمون فأقاموا ببدر إلى آخر النهار، ثم جمعوا الذين قتلوا من قريش فحفروا لهم قليبا فدفنوهم فيه. وقضى محمد وأصحابه تلك الليلة في الميدان في شغل بجمع الغنيمة والسهر على الأسرى. وإذا جن الليل جعل محمد يفكر في نصر الله المسلمين على قلة عددهم، وخذلانه المشركين الذين لم يكن لهم من قوة الإيمان عضد تعتز به كثرتهم. جعل يفكر في هذا، حتى سمعه أصحابه جوف الليل وهو يقول: «يأهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة! ويا أمية بن خلف! ويا أبا جهل بن هشام! - واستمر يذكر من في القليب واحدا بعد واحد - يأهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.» قال المسلمون: يا رسول الله، أتنادي قوما جيفوا؟!

9

Unknown page