102

طاب محمد نفسا بهذه النتيجة، وسكن المسلمون إلى دينهم، وجعلوا يقيمون فرائضه مجتمعين ويقيمونه فرادى، لا يخافون أذى ولا يخشون فتنة. إذ ذاك بنى النبي محمد بعائشة بنت أبي بكر، وكانت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها، وكانت فتاة رقيقة حلوة القسمات محببة العشرة، وكانت تخطو دراكا من الطفولة إلى الصبا، وكانت ذات ولع باللعب والمرح، وكانت نامية نموا حسنا. ووجدت في محمد أول انتقالها إليه بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد أبا برا عطوفا، وزوجا مشفقا رفيقا، لا يأبى عليها أن تعبث وتلهو بألاعيبها؛ وتسليه بذلك عن دائم تفكيره في العبء العظيم الذي ألقي عليه، وفي سياسة يثرب التي بدأ يوجهها إلى خير وجهة.

في هذه الفترة التي سكن فيها المسلمون إلى دينهم فرضت الزكاة وفرض الصيام وقامت الحدود، وتمكنت بيثرب شوكة الإسلام. وكان محمد حين قدم المدينة إنما يجتمع إليه الناس للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة؛ ففكر في أن يدعو للصلاة ببوق كالبوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم. لكنه كره البوق فأمر بالناقوس، فنحت ليضرب به للصلاة، كما تفعل النصارى. على أنه بعد مشورة عمر وطائفة من المسلمين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي في رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضا إلى الأذان، وقال لعبد الله بن زيد بن ثعلبة: «قم مع بلال فألقها عليه - أي صيغة الأذان - فليؤذن بها فإنه أندى صوتا منك.» وكان لامرأة من بني النجار منزل إلى جانب المسجد أعلى منه، فكان بلال يرقاه فيؤذن عليه. وكذلك صار أهل يثرب جميعا يسمعون منذ الفجر في كل يوم دعوة إلى الإسلام مرتلة ترتيلا حسنا بصوت رطب جميل يوجهها بلال مع كل ريح إلى كل النواحي، ويلقي في أذن الحياة نداءه: «الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.»

وكذلك انقلبت مخاوف المسلمين أمنا، وأصبحت يثرب مدينة الرسول، وأصبح غير المسلمين من أهلها يشعرون بقوة المسلمين قوة منبعثة من أعماق قلوب عرفت التضحية في سبيل الإيمان وذاقت الأذى بسببه ألوانا، وها هي ذي اليوم تجني ثمرة الصبر، وتستمتع من حرية العقيدة بما قرر الإسلام من أن ليس لإنسان على إنسان سيادة، ومن أن الدين لله وحده، والعبودية له وحده، والناس أمام وجهه الأكرم سواسية، لا يجزون إلا بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها.

وانفسح المجال أمام محمد ليعلن تعاليمه، وليكون بذاته وبتصرفاته المثل الأسمى لهذه التعاليم، وليصبح بذلك حجر الأساس للحضارة الإسلامية.

وحجر الأساس هذا هو الإخاء الإنساني، إخاء يجعل المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. سأل رجل محمدا: أي الإسلام خير؟ فقال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.» وفي أول خطبة ألقاها بالمدينة قال: «من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمر فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها.» وفي خطبته الثانية قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تقاه، واصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم: إن الله يغضب أن ينتكث عهده.» بهذا وبمثله كان يحدث أصحابه وكان يخطب الناس في مسجده، مستندا إلى جذع من جذوع النخل التي يعتمد عليها سقفه، حتى أمر فصنع له منبر من ثلاث درجات، كان يقوم على درجته الأولى خطيبا. وكان يجلس في درجته الثانية.

ولم تكن أقواله وحدها دعامة الدعوة إلى هذا الإخاء الذي جعل منه حجر الزاوية في حضارة الإسلام، بل كانت أعماله وكان مثله هو هذا الإخاء في أسمى صور كماله. كان رسول الله، لكنه كان يأبى أن يظهر في أي من مظاهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية. كان يقول لأصحابه: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله.» وخرج على جماعة من أصحابه متوكئا على عصا فقاموا له، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا.» وكان إذا بلغ في مسيره أصحابه جلس منهم حيث انتهى به المجلس. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وكان أطيب الناس نفسا وأكثرهم تبسما ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب.

وكان في بيته في مهنة أهله يطهر ثوبه ويرقعه ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس والمسكين. وكان إذا رأى أحدا في حاجة آثره على نفسه وأهله ولو كان بهم خصاصة. وكان لذلك لا يدخر شيئا لغده؛ حتى لقد توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله. وكان جم التواضع، شديد الوفاء، حتى لقد وفد للنجاشي وفد فقام بخدمتهم؛ فقال له أصحابه: يكفيك. فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافئهم. وبلغ من وفائه أنه ما ذكرت خديجة إلا ذكرها أطيب الذكر؛ حتى كانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها. ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها؛ فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. وبلغ من طيبة نفسه ورقة قلبه أنه كان يدع بني بناته يداعبونه أثناء صلاته. بل لقد صلى بأمامة ابنة بنته زينب يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.

ولم يقف بالبر والرحمة اللذين جعلهما دعامة الإخاء الذي قامت الحضارة الجديدة على أساسه عند الإنسان، بل عداهما إلى الحيوان كذلك؛ كان يقوم بنفسه فيفتح بابه لهرة تلتمس عنده ملجأ، وكان يقوم بنفسه على تمريض ديك مريض، وكان يمسح لجواده بكم قميصه. وركبت عائشة بعيرا فيه صعوبة فجعلت تردده؛ فقال لها: عليك بالرفق. وكذلك شملت رحمته كل ما اتصل بها، وأظلت كل من كان في حاجة إلى تفيؤ ظلالها.

وهي لم تكن رحمة ضعف ولا استكانة، ولم تشبها شائبة من ولا استعلاء، إنما كانت إخاء في الله بين محمد والذين اتصلوا به جميعا. ومن ثم يفترق أساس حضارة الإسلام عن كثير من سائر الحضارات. الإسلام يضع العدل إلى جانب الإخاء ويرى أن الإخاء لا يكون إخاء إلا به.

فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ،

Unknown page