Hayat Fikr Fi Calam Jadid
حياة الفكر في العالم الجديد
Genres
على ضوء هذه الفلسفة المثالية الهيجلية تستطيع أن تفهم «إمرسن» في شتى نواحيه، تستطيع أن تفهمه حين يتخذ من الحدس وحده وسيلة الإدراك الحقيقي، إذ كيف تدرك العقل المطلق المتحقق في الطبيعة إذا قصرت نفسك على حواسك ومشاهداتها، أو على عقلك وحجاجه، وتستطيع أن تفهمه حين يقرر أن الفرد الواحد من بني الإنسان ليس في الحقيقة فردا منفصلا بذاته، بل هو «العضو المنتدب» من قبل الروح المطلق الذي نحن جميعا ممثلوه، فالزارع - مثلا - ليس زارعا لنفسه فحسب، بل هو زارع «بالنيابة» عن الحقيقة الكلية التي نحن أعضاؤها، ونستطيع أن نفهمه حين يتنكر لعلم الطبيعة في طريقة فهمه للطبيعة؛ لأنه يقف عند الجزئيات الظاهرة، مع أن الطبيعة في حقيقتها تعبير واحد متصل الأجزاء عن عقل مطلق يعبر عن نفسه فيها، وسبيل معرفة ذلك هو حدس المتصوف لا منظار العالم، وتستطيع أن تفهمه حين يجعل الفكر والطبيعة خطين متوازيين، فلا واقعة أو حادثة من وقائع الطبيعة وحوادثها إلا ولها أصل يصورها في الفكر.
بعد أن أتم «إمرسن» دراسته الدينية في جامعة «هارفارد» عام 1829م، عين واعظا في الكنيسة التي كان أبوه راعيا لها - فهو سليل أسرة عريقة من رجال الدين - لكنه سرعان ما تبين هوة سحيقة تفصل بينه وبين سامعيه، كان قد قرأ المثالية الهيجلية كما نقلها «كولردج» شاعر الإنجليز عندئذ، فتأثر بما قرأ، وأخلص لفكرته التي انتهى إليها، فبعدت مسافة الخلف بينه وبين من يختلفون إلى الكنيسة ليسمعهم الموعظة، فلم يجد بدا من الاستقالة؛ إذ استحال عليه أن يوفق بين واجب مهنته وإملاء ضميره، فسافر إلى أوروبا لعله مسترد بهذه الرحلة عافية لجسده العليل، وصحة لروحه التي أحس كأنما هي ريشة في مهب العواصف، فقصد - فيما قصد إليه من ربوع أوروبا - إلى إنجلترا حيث التقى بأبطاله في الفكر والروح؛ «كولردج» و«وردزورث» و«كارلايل»، ثم عاد إلى وطنه الأمريكي بعد عام وهو معافى البدن، مستقر الروح على هدف لم يعد يحيد عنه، وكانت الفكرة الرئيسية التي كشف عنها الغطاء في نفسه - كشف عنها كشفا مستقلا عن كل قراءة قرأها أو رأي استمع إليه - هي أن في مقدور الإنسان أن يرى الله في أعماق قلبه، وأنه إذا أنصت الإنسان إلى ضميره بأذن مصغية واعية سمع صوت الله في دخيلة نفسه، فإن كان ذلك كذلك فقد أصبح واجبه أن يهدي الناس إلى ما اهتدى إليه.
ولم يكد يستقر به المقام عاما بعد عودته من أوروبا إلى بلاده، حتى أخرج سنة 1836م كتابا صغيرا أسماه «الطبيعة» عبر فيه عن هذا الكشف الروحي، ونشر من كتابه هذا خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف، لكن الكتاب لم يصادف عند القارئين رواجا، رغم اللقاء الجميل الذي تقبله به «كارلايل».
وفي العام التالي - عام 1837م - ألقى خطابه المشهور في هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي» الذي توجه بالكلام فيه إلى قادة الفكر في بلاده، ثم في العام الذي تلاه - عام 1838م - ألقى خطابه العظيم «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» قصد به إلى القائمين بالوعظ الديني، ويمكن القول بصفة عامة إن حياته الفكرية بعد ذلك جاءت تعليقات وشروحا وتفريعات لما ورد في هذه الأعمال الثلاثة: كتاب الطبيعة، والخطابين المذكورين.
والفكرة الرئيسية الأولى هي - كما أسلفا - أن الحدس - الاتصال الروحاني المباشر - وسيلة إدراك الحقيقة المطلقة التي تعلن عن نفسها في الطبيعة وكائناتها، كل حالة من حالات الإدراك الحدسي قائمة بذاتها، تستمد صوابها من نفسها، لا تعتمد على مقدمات تسبقها أو نتائج تلزم عنها، الإدراك الحدسي صوابه يقيني حتى إذا ناقض ما سبقه وما تلاه، فمثلا عندما هجم في خطابه «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» على المسيحية كما تظهر في الشعائر الكنسية والتقاليد الدينية، طالبه رجال الدين عندئذ بالحجة التي تؤيده، فقال: لا حجة عندي، بل لست أعرف كيف يمكن أن تتأيد الفكرة بالحجة، فهكذا أرى الحق بحدسي، ومع ذلك فليس ما يراه الفرد الواحد في دخيلة نفسه بحدسه بمقتصر - من حيث صدقه - على ذلك الفرد وحده، بل إن ما يهتدي به الفرد الواحد من نظره إلى دخيلة نفسه صالح كذلك لهداية سائر أفراد البشر، «إن الله يدخل إلى كل فرد من باب خاص.»
19 «والتفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي.»
20
فقد يقول الإنسان لنفسه وهو يفكر في فكرة تراوغه وتفلت منه: «سوف أمشي خارج بيتي وعندئذ ستتخذ الحقيقة صورتها وتتضح، ثم تنطلق، ولكنك لا تعثر عليها، ثم يبدو لك أنك بحاجة إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة لتظفر بالفكرة، ولكنك تدخلها، فإذا هي بعيدة عنك كما كانت، ثم ما هي إلا أن تظهر لك الحقيقة في لحظة وعلى غير انتظار، إذ يظهر لك ضوء شارد، وفي وضحه يظهر لك المبدأ الذي تنشده.»
21
وإذا ما أدرك الفرد الواحد صوابا، كان ذلك الصواب صوابا عند كل إنسان آخر «فطبيعة كل فرد هي إعلان كاف له عن خصائص زملائه، الصواب والخطأ عندي هما الصواب والخطأ عندهم.»
Unknown page