Hayat Fikr Fi Calam Jadid
حياة الفكر في العالم الجديد
Genres
هي نزعة مثالية سادت بعد الموجة التجريبية التي اشتملت التفكير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ نزعة مثالية لم يقتصر أمرها على أمريكا، بل فاضت من ينبوع المثالية الألمانية كما تدفق في فلسفة «كانت» و«شلنج» و«هيجل»، وكان مجرى الفيض ذا شعبتين: فشعبة منهما اندفقت في إنجلترا على يدي شاعرها «كولردج» (1772-1834م)، واندفقت الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان شاعرها «إمرسن»، وقد يكون أقرب إلى الصواب أن نقول: إن المثالية الألمانية وجدت في الشاعر الإنجليزي «كولردج» مؤيدا ونصيرا، فقرأ الأمريكيون ما كتبه «كولردج» وتأثروا به؛ ومن ثم أخذ تيار الفكر بينهم ينحرف من تجريبية «لوك» التي سادت عصر التنوير والثورة إلى مثالية الألمان بصفة عامة ومثالية «هيجل» بصفة خاصة.
ولم يكن هذا الاتجاه المثالي في فلسفة النصف الأول من القرن التاسع عشر - في أوروبا وفي أمريكا على السواء - إلا جانبا من النزعة الرومانتيكية التي اصطبغ بها الأدب والفكر بصفة عامة إبان تلك الفترة، فلئن كان القرن الثامن عشر عصرا ساده تغليب العقل ومنطقه في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب جميعا، حتى لقد أطلقوا عليه بحق اسم عصر «التنوير » وهم يقصدون بالكلمة اعتماد الإنسان على عقله يعلل به كل ما أشكل عليه من جوانب الحياة والطبيعة؛ فقد جاء القرن التاسع عشر في نصفه الأول ردا لفعل حركة التنوير، فكانت الرومانتيكية في الأدب، وكانت المثالية في الفلسفة، وكانت العودة إلى الإيمان في الدين، بل امتزجت هذه الاتجاهات كلها بعضها ببعض، وأصبح مزيجها طابع ذلك العصر.
فالمثالية في الفلسفة إذا نظرت إليها من زاوية الدين، وجدتها سخطا على النتائج التي ترتبت على المبادئ العقلية خلال حركة «التنوير» مما يمس العقائد الدينية، إذ انتهت تلك الحركة إما إلى إنكار صريح لتلك العقائد، كما حدث في فرنسا مثلا، وإما إلى تنكر للعقائد التي تبنى على الخرافة والتصديق، ومحاولة إقامة مجموعة أخرى من العقائد محلها تتفق مع المنطق العقلي، ومع العلم ومع شهادة الحواس، فأراد المثاليون أن يركنوا إلى وسيلة أخرى لإدراك الله والإيمان بوجوده غير وسيلة العقل والحس، فجعلوا الحدس - أي العيان العقلي المباشر - وسيلة الاتصال بين الإنسان وربه، فبهذا الإدراك الحدسي المباشر يجاوز الإنسان حدود الطبيعة المحسوسة وحدود العقل وشروطه، بل يجاوز النصوص التقليدية والكنائس ونظامها، يجاوز كل ذلك إلى الحق الكائن وراءها، أو إن شئت فقل إنه حق كائن فوقها جميعا، فيستطيع الاتصال بالله صلة مباشرة، فيعرفه معرفة اليقين، وبهذا تكون الطبيعة ونظامها من شأن العلم وأداته التي هي العقل والحواس، وأما ما فوق الطبيعة، وهو الحق المطلق من قيود الزمان والمكان، فيكون من شأن الدين، وأداته في الإدراك هي الحدس، وإذا نظرت إلى المثالية في الفلسفة من زاوية السياسة وجدتها كذلك تخدم الديمقراطية في أغراضها، ألم يؤسس قادة الثورة السياسية مذهبهم في حقوق الإنسان على أن هذه الحقوق جزء من طبيعة الإنسان يولد بها ولا يمنحها أحد لأحد؟ ثم ألم يبنوا طبيعية الحقوق الإنسانية على أساس من فلسفة «لوك» في تحليل العقل الإنساني وطريقة إدراكه للأشياء الخارجية كما فصلنا ذلك في الفصل الأول؟ فهكذا يفعل أنصار الفلسفة المثالية أيضا؛ إذ يقولون إن إدراك الله بالحدس المباشر جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان، لا فضل فيه لأحد على أحد، والناس جميعا في هذه القدرة سواء، فيكفي أن يكون الإنسان إنسانا لتكون له القدرة على استخدام حدسه في الإدراك، وإذن فللناس جميعا قيمة إدراكية واحدة متساوية، فهم من الوجهة الروحانية سواء؛ وبالتالي فهم من الوجهة السياسية سواء كذلك.
كذلك إذا نظرت إلى المثالية الفلسفية من وجهة نظر الإصلاح الديني، ألفيتها أداة نافعة، فالمثاليون - كالتجريبيين من قبلهم - متفقون على أن الكنيسة لا بد أن تحطم قيودها الجامدة، أو يحطموا هم قيودها المفروضة عليهم، فيحرروا أنفسهم من الاعتقادية الساذجة؛ لأنه إذا كان الإدراك الحدسي هو مدار المثالية، أي إنه إذا كان في مستطاع الإنسان بحكم طبيعته أن يحدس الله حدوسا مباشرا، فما ضرورة الكنيسة ونظامها ورجالها لسلامة العقيدة؟ إن الصلة بين الإنسان وربه صلة مباشرة قبل كل شيء، وكل ما يحول دون هذه الصلة الإدراكية المباشرة فهو عقبة في سبيل الوصول إلى الحق جديرة بالازدراء والإهمال، والعلم والكنيسة معا يحولان دون الحدس وإدراكه للحقيقة المطلقة، أما العلم فلأنه يقيد الإنسان بقيود المشاهدات الحسية والتجارب العلمية، وما ليس يطرد وقوعه من الظواهر لا قيمة له في رأي العلم، وهذه القيود إنما تعطل إدراك الإنسان بغير موجب، فماذا لو جاوز الإنسان بجناحي إدراكه الحدسي حدود المشاهدات والتجارب واطراد الظواهر؟ وأما الكنيسة فهي الأخرى تضع من أصفاد نظامها ما يستحيل معه التفكير الحر الذي ينفذ إلى الحقيقة فيراها مباشرة كما ترى العين ضوء الشمس، وفي ذلك يقول «ثورو» - الذي سنحدثك عنه بعد قليل: «لا بد أن تخرج من المسيحية لتدرك ما في حياة المسيح من جمال ومغزى.»
لقد أخطأ رجال اللاهوت السابقون - في رأي المثاليين الذين نحن الآن بصدد الحديث عنهم - أخطئوا حين ظنوا أننا ندرك وجود الله من وجود مخلوقاته، فذلك لا يكون إلا اعتمادا على الحواس من جهة، والعقل من جهة أخرى، أما وجود الله في رأي المثاليين فمفارق للطبيعة مجاوز لحدودها، فلسنا بحاجة إلى حس أو عقل، بل نحن بحاجة إلى حدس ندرك به وجود الله في الجوانب الإلهية التي في طبائعنا، إن الإنسان شبيه الله ، فحسبك أن تحدس ذاتك لتدرك فيها وجود شبيهها، وعندئذ يصبح الله موجودا وجودا حقيقيا يقينيا، ولن تكون بعد ذلك بحاجة إلى كتاب أو إلى قسيس يهديك إلى وجوده.
ها هي ذي نزعة دينية تقف موقفا وسطا بين طرفين، فلا هي الاعتقادية الجامدة التي تنبني على اللاهوت القديم، ولا هي إلحاد أو ما يشبه الإلحاد مما قد ترتب على حركة التنوير العقلي، والفلسفة التي يقوم عليها هذا اللون الوسط من التدين هي المثالية الألمانية، وخصوصا مثالية «هيجل» التي تولى نشرها في إنجلترا شاعرها «كولردج»، ثم كان بين ناشريها في الولايات المتحدة شاعرها «إمرسن»، فما هي مثالية «هيجل» في خلاصة قصيرة؟
يبني «هيجل» (1770-1831م) فلسفته على فكرة «المطلق»، ومؤداها أن الأفراد الجزئية التي نراها في الطبيعة المحسوسة من حولنا، إن هي إلا صور تبدت فيها روح كانت في بداية أمرها مطلقة من قيود المكان والزمان، أي إنها لم تكن تعلن عن نفسها في نقطة معينة من المكان ولا في لحظة معينة من الزمان؛ لأنها لا مكانية ولا زمانية، هي روح لم تبدأ في سلسلة الزمن بلحظة معينة، ولن تنتهي في سلسلة الزمن عند لحظة معينة، بل هي أزلية أبدية، ثم أعلنت تلك الروح عن نفسها في الطبيعة وكائناتها إعلانا كان في بداية أمره مقتصرا على درجة دنيا من اللاشعور، ثم صعدت على درجات من التطور حتى عادت فاستيقظت شعورا ووعيا في الإنسان، وستعود الروح المطلقة إلى نفسها من جديد مدركة لنفسها إدراكا كاملا، وإذن فكل شيء في الوجود هو تلك الروح المطلقة، أو ذلك العقل المطلق، قد عبر عن نفسه على هذه الصورة أو تلك، كما يعبر الشاعر - مثلا - عن نفسه في قصائد مختلفة تتفاوت في درجة الكمال، لكنها على تفاوتها تفصح عن نفس قائلها، وكما تنظر إلى كل قصيدة في ديوان الشاعر، فترى خلالها روح الشاعر، فكذلك تستطيع أن تنظر إلى كل كائن في الطبيعة من حولك: إلى هذه الجبال والأنهار والأشجار والحيوان والإنسان، فترى في كل واحد منها ذلك العقل المطلق قد بسط نفسه في كائن جزئي متعين، وهكذا تكون الطبيعة بكل ما فيها عقلا مرئيا مسموعا - إن صح هذا التعبير - ولا سبيل إلى فهم كائن جزئي إلا بنسبته إلى ذلك الكل المطلق الشامل.
وقد تنظر إلى كائن جزئي، كهذه الشجرة أو هذا الطائر أو ذلك الفرد من بني الإنسان، فيخيل إليك أنه كائن قائم بذاته مستقل بنفسه، لكن أمعن النظر قليلا تجده في حقيقة أمره جزءا من كل، وأن هذا الكل هو الكون بأسره، فكيف تدرك هذه الشجرة - مثلا - إدراكا تاما إلا إذا أدركت علاقتها بالأرض التي تنبتها وتغذيها، وبالماء الذي يرويها، وبالشمس التي تنميها؟ ثم كيف تدرك الأرض والماء والشمس، كلا بدوره، إلا إذا أدركت علاقاته بسائر أجزاء المجموعة الشمسية؟ والمجموعة الشمسية بدورها لا يتم العلم بها إلا بعد العلم بما يصلها بسائر الكون من روابط وصلات، إن شأن الكائن الجزئي في هذا الصدد كشأن النظرية الواحدة في سلسلة النظريات الهندسية عند إقليدس، لا تفهم على حدة، بل لا بد لفهمها وإدراكها إدراكا كاملا من إدراك الروابط المنطقية التي تصلها بما قبلها وبما بعدها من نظريات، لا بد أن نعلم كيف جاءت نتيجة لسوابقها، وكيف تكون مقدمة للواحقها، وبهذا يتكون من مجموعة النظريات نسق واحد، لا يمكن فهم جزء من أجزائه إلا في ضوء العلم بسائر الأجزاء، كما أن سائر الأجزاء لا يمكن العلم بها إلا مع صلتها بذلك الجزء الواحد، وهكذا قل في الكون وأجزائه، الذي هو العقل المطلق قد حقق نفسه وأعلن عنها، فالكون بشتى أجزائه نسق متصل، كل جزء من أجزائه مرتبط بسائر الأجزاء، وإن بدا أمام العين منفصلا مستقلا قائما بذاته، هذا الكل المترابط إن هو إلا كائن عضوي واحد، لم توضع أجزاؤه وأعضاؤه وضع التجاور في المكان والتعاقب في الزمان، دون أن يكون بينها فوق ذلك صلة عليا تربطها معا، كلا بل هي كأعضاء الكائن العضوي الحي، متصل بعضها ببعض على نحو يجعل الكائن كله متمثلا في كل عضو من أعضائه، وتجعل كل عضو مستحيل الفهم إلا على ضوء الكل الذي يحتويه.
إن حصر الانتباه في كائن جزئي واحد على أنه وحدة مستقلة بذاتها، قد يوهم الرائي أن الكون ينطوي على أضداد، حين يرى في جنبات الكون من الحقائق الجزئية ما يعاند بعضها بعضا، لكن هذه الأضداد سرعان ما يتبين لنا أنها في حقيقة الأمر أجزاء من كل متناسق، إذا ما علونا بالنظر إليها بحيث رأينا كل ضد منها - لا هو جزئي مستقل قائم وحده - بل رأيناه في صلاته بغيره، فعندئذ يتبين في جلاء أن كل جزء موجود من أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أن الأجزاء كلها ضرورية لا بد من وجودها، فإنها تقف إزاء بعضها موقف التفاوت ضعة ورفعة في سلم التطور والترقي، المراتب السفلى منها تنتقل إلى العليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، وكل ما يحدث لها هو التحول من صورة سفلى إلى صورة عليا، «إن كم الزهرة يختفي إذا ما تفتحت الزهرة، فيخيل إليك أن بين الكم والزهرة تضادا، ثم تجيء الثمرة بعدئذ، فتعلن بوجودها أن الزهرة صورة دنيا من صور وجود النبات، وهكذا تنتقل حقيقة كل واحدة منها إلى حقيقة الأخرى، وليست هذه الصور متميزا بعضها عن بعض فحسب، بل إن الواحدة منها لتسحق الأخرى باعتبارها مضادة لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها كلها تكون منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها، فلا تعارض إحداها الأخرى، بل إن الأمر بينها لا يقف عند حد عدم التعارض، ولكن كلا منها يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تماما، ومن هذه المساواة بين الأجزاء في ضرورة وجودها تتألف حياة الكل الذي يحتويها جميعا.»
هكذا يعرض العقل المطلق نفسه في الطبيعة على مراحل متعاقبة يرتبط بعضها ببعض بنفس الروابط التي تصل أجزاء الفكر بعضها ببعض، ومن هنا كان منطق العقل هو نفسه منطق الطبيعة، أو - بعبارة أخرى - كان الفكر من جهة، والحقيقة الخارجية من جهة أخرى كائنا واحدا، الثانية منهما تعبير عن الأولى، والأولى منهما متحققة في الثانية ، إن الوحدة التي تربط الفكر من جهة والطبيعة من جهة أخرى ليست هي مجرد الصلة بين طرفين، بل هي وحدة أعلى من الطرفين معا؛ إذ لا ينبغي أن تعد الطبيعة وجودا آخر إلى جانب العقل الذي يدركها؛ لأن الطبيعة هي جزء من حياة العقل نفسه.
Unknown page