Hayat Fikr Fi Calam Jadid
حياة الفكر في العالم الجديد
Genres
مقدمة
1 - دستور في سطور1
2 - دستور الفكر بعد دستور السياسة
3 - الفيلسوف يؤيد الشاعر
4 - منطق العلم والعمل
5 - غد بعد أمس
6 - الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
7 - كل الصيد في جوف الفرا
8 - تيارات أخرى معاصرة
مراجع
Unknown page
مقدمة
1 - دستور في سطور1
2 - دستور الفكر بعد دستور السياسة
3 - الفيلسوف يؤيد الشاعر
4 - منطق العلم والعمل
5 - غد بعد أمس
6 - الفلاسفة يتشبهون بالعلماء
7 - كل الصيد في جوف الفرا
8 - تيارات أخرى معاصرة
مراجع
Unknown page
حياة الفكر في العالم الجديد
حياة الفكر في العالم الجديد
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
جاء المهاجرون إلى العالم الجديد من شتى الأمم في الدنيا القديمة، فجاءوا مزيجا من ثقافات مختلفة، ولبثوا أمدا طويلا على اتصال وثيق بأصولهم الأولى، حتى لقد ظلت تيارات الفكر الأوروبي المختلفة تنساب إلى العالم الجديد غداة ظهورها، فكل صوت يرتفع في أوروبا كان له صداه في أمريكا، ولم ير الأمريكيون في ذلك - أول الأمر - غضاضة؛ لأنه إن كانت مقتضيات العقيدة الدينية قد حملتهم على الهجرة عن بلادهم الأولى، وإن كانت مصالح الاقتصاد بعد ذلك قد أوجبت أن تحدد الهجرة، وأن تقام الحواجز في عالم التجارة، فماذا يمنع أن تشترك الفروع مع أصولها في الفكر، وأن تتبادل معها الرأي والنظر؟ لهذا ظلت أبواب العالم الجديد مفتوحة على مصاريعها، تتقبل من ألوان التفكير كل ما تهتز به أوروبا، على اختلاف مصادره وتعدد مذاهبه.
لكن المجتمع الجديد سرعان ما تميز بطابع جديد، ثم ما لبث هذا الطابع أن أصبح معيارا تقاس عليه الواردات الفكرية، فيقبل منها ما يقبل، ويرفض ما يرفض، ويعدل ما يراد قوله بعد تعديل، وأما هذا الطابع الجديد المميز للمجتمع الأمريكي فهو - في اعتقادي - تلك «الفردية الجماعية»، التي لا تغرق الفرد من الناس في خضم المجتمع، بل تحتفظ لكل إنسان بفرديته المستقلة على الرغم من اشتراكه مع الآخرين في جماعة واحدة يربطها الصالح المشترك، وإذن فهي جماعة أقرب إلى الشركة التعاونية التي يحرص كل عضو فيها على استقلال شخصيته، وإن يكن في الوقت نفسه حريصا أشد الحرص على ازدهار الشركة ونمائها، هي أقرب إلى ذلك منها إلى الكائن العضوي الذي لا يجعل للعضو فيه وجودا إلا بانطوائه تحت الكل الذي يحتويه، فالمجتمع الأمريكي في صميمه «كثرة» من أفراد لا جسم واحد ذو أعضاء، غير أن تلك «الكثرة» ليست أشتاتا موزعة الأهواء متباينة النزعات، بل هي كثرة تلتقي حباتها في عقد واحد يضمها دون أن تضيع فردية الحبة الواحدة بهذا الالتقاء.
على هذا الأساس يتم قبول الأفكار أو رفضها أو تعديلها؛ فالفصل الأول من هذا الكتاب فيه تصوير للفكر الأمريكي إبان العشرات الأخيرة من أعوام القرن الثامن عشر، فكان الفكر حينئذ سياسيا في معظمه، يدور حول حقوق الأفراد الطبيعية التي على أساسها أقيمت السياسة، وأقيم الحكم، وأقيمت الحياة، بل على أساسها أقيمت العقائد الدينية نفسها؛ إذ كانت الكثرة الغالبة من الأمريكيين من «البروتستانت المتزمتين» (البيورتان)، وهؤلاء يعلون من شأن إرادة الفرد إعلاء يحفظ له حقوقه في أن يلتمس لنفسه طريق النجاة الروحية، وحقوقه في أن يفكر حرا، ويعمل حرا، وأن يحتفظ بثمرة عمله. وهكذا جاءت فلسفة عصر التنوير مؤيدة لهذه المبادئ، إذ جعلت أساس المجتمع تعاقدا بين أعضائه، ولكل فرد حقوقه الطبيعية في الحياة، وفي الحرية، وفي التماس العيش السعيد، وهي حقوق فطرية لم يهبها أحد أحدا.
فلما أن جاء النصف الأول من القرن التاسع عشر انتقلت هذه الفردية من ميدان السياسة إلى ميدان الفلسفة والأدب، وهنا نهض «إمرسن» و«ثورو» وغيرهما يؤكدان استقلال الفرد على الرغم من صلاته ببقية أفراد البشر، كانت الفلسفة السائدة في ذلك العهد هي الفلسفة الهيجلية المثالية، انتقلت إلى إنجلترا عن طريق شعرائها، وبخاصة «كولردج»، وعن هذا الطريق جاءت إلى أمريكا، لكنها لم تكد تنتقل إلى أمريكا حتى عدلت بما يلائم وجهة النظر الأمريكية التي أشرنا إليها، فلم يعد الأفراد - كما تريد لهم الفلسفة المثالية - مغرقين في «المطلق»، بل أصبح كل فرد - عند «إمرسن» - ممثلا لذلك «المطلق» الهيجلي؛ أي إن كل فرد حقيقة قائمة بذاتها، على الرغم من أنه إذ يشعر وإذ يفكر أو يعبر، فإنما هو «ينوب» في ذلك عن الإنسانية جميعا إن كان صادق الشعور والتفكير والتعبير؛ ومن هنا كان اهتمام «إمرسن» باعتماد الفرد على نفسه؛ وبالتالي اهتمامه باعتماد أمريكا على نفسها في مجال الفكر والشعور، واتجه «ثورو» نفس الاتجاه مع إسراف أدى به إلى أن يعتزل وحده في غابة ليعيش بمفرده إنسانا معتمدا على نفسه. هكذا ترى الفلسفة المثالية قد جاءت إليهم من ألمانيا، لكنهم حين أخذوا عنها فكرة الروح الكونية المطلقة الشاملة، لم تسمح لهم أنفسهم بالانسياق إلى ما قد ساقت إليه أصحابها الأولين من دمج الأفراد في واحدية كونية مطلقة، بل احتفظوا للأفراد بفرديتهم مع جعلهم قلوبا شاعرة، وألسنة معبرة عن تلك الروح الكونية الشاملة، كما شرحنا ذلك في الفصل الثاني وتبع ذلك - في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - موجة مثالية أخرى هي التي تسمى عادة ب «الكانتية الجديدة»، أخذها فلاسفة العالم الجديد عن الفلسفة الألمانية أيضا - أخذوها عن كانت وهيجل - لكنهم هنا أيضا قد صاغوها في قالبهم، وقد بسطنا ذلك في الفصل الثالث؛ إذ بينا كيف جعل منها «باون» فلسفة مثالية ذاتية فردية، ثم تولاها «جوزيا رويس»، فكان مثال الفيلسوف الأمريكي العظيم الذي يصوغ ما يتلقاه من فكر على إطاره الخاص؛ فقد قرأ شوبنهور وتأثر به، لكنه رفض تشاؤمه، وقرأ هيجل، وأخذ كثيرا من مبادئه المثالية، لكنه رفض مذهبه التاريخي الذي يجعل سير الحوادث حتما لا مفر منه، كما رفض رأيه القائل بسيادة الدولة سيادة مطلقة، ودرس «كانت» ولكنه صاغ من كل تلك الفلسفات الألمانية المثالية فلسفة مثالية أمريكية توازن بين الحقيقة المطلقة من ناحية، وبين الفرد وحريته من ناحية أخرى بميزان دقيق، ولا عجب أن يسمي كتابه المشتمل على الجزء الهام من مذهبه «العالم والفرد»؛ ففي كل خطوة يخطوها تراه حريصا على التأليف بين الفرد وسائر الأفراد، أو بين الإرادة الواحدة وسائر الإرادات، أو بين المجتمع الواحد وسائر المجتمعات، تأليفا يبقي على كيان الفرد الواحد من جهة، ثم يجعله جزءا شريكا في البناء الكلي من جهة أخرى.
وفي الفصل الرابع والفصل الخامس معا بيان للحركة البراجماتية التي ظهرت في أواخر القرن الماضي، ثم امتدت إلى يومنا هذا؛ إذ بسطنا لك آراء أعلامها الثلاثة: «بيرس» و«جيمس» و«ديوي»، وهي فلسفة جاءت بمثابة الثورة على التفكير المثالي الذي يباعد بين الفكر والعمل، فجعلت الفكر والعمل وجهين لحقيقة واحدة؛ إذ جعلت معنى الفكرة هو نجاح تطبيقها، وبهذا وصل الفكر الأمريكي الخالص إلى فلسفة أمريكية خالصة نشأة وطابعا، فلئن كان الفلاسفة قبل ذلك يأخذون عن أوروبا، ثم يعدلون ما يأخذونه بما يجعله ملائما لوجهة نظرهم؛ فقد جاءت البراجماتية نباتا أمريكيا بذورا وساقا وفروعا، ولا غرابة - إذن - أن يعرف الفكر الأمريكي الحديث عند العالم أجمع بهذه الفلسفة البراجماتية التي تعبر عنه أصدق تعبير وأخلصه.
Unknown page
فلما تحطمت الفلسفة المثالية التقليدية على أيدي البراجماتيين، تحطم معها التقليد الفلسفي كله، الذي كان يربط الفيلسوف بنمط معين من التفكير، وهنا خرجت مذاهب واتجاهات جديدة، لم يكن لها جلال التفكير التقليدي القديم، لكنها عوضت ذلك الجلال المفقود بروح علمية جديدة، مالت بالفلاسفة نحو التشبه بالعلماء في طريقة معالجتهم لمشكلاتهم؛ من حيث تعاون مجموعة الباحثين على حل مشكلة بعينها بدل أن يستقل كل فرد منهم بإقامة بنائه الفكري الخاص، وسترى في الفصلين السادس والسابع شرحا لتلك الاتجاهات الجديدة، كالواقعية الجديدة، والواقعية النقدية، ثم الفلسفة الطبيعية، وعقبنا على ذلك بفصل ثامن وأخير، عرضنا فيه اتجاهين من الاتجاهات المعاصرة عرضا موجزا، هما الوضعية المنطقية، والدعوة إلى رجوع الفلاسفة إلى ما هجروه من «تقليد عظيم».
وقد اكتفيت في عرضي لمجرى الحياة الفكرية الفلسفية في العالم الجديد، بالمعالم الرئيسية دون التفصيلات، راجيا أن يكون هذا الكتاب صورة مجملة تتلوها صور جزئية في سلسلة من كتب، نفصل فيها ما أجملناه، ونذكر ما قد أهملناه.
زكي نجيب محمود
الفصل الأول
دستور في سطور1
(1) جون لوك يضع الأساس
تستطيع أن تتعقب تاريخ الأمة خطوة وراء خطوة، دون أن ينتهي بك السير إلى لحظة زمنية يكون في مستطاعك عندها أن تقول: هنا بدأ تاريخ الأمة؛ لأن خيوط التاريخ تمتد إلى الوراء إلى غير بداية معلومة، فإذا ما اتخذ المؤرخ بداية يبدأ عندها تاريخ أمة من الأمم، فإنما يفعل ذلك جزافا، مستندا إلى أن هنالك قبل التاريخ المدون تاريخا مجهولا لم يدون، يضم عناصره الغامضة، ويطلق عليها «ما قبل التاريخ»، لكنك تستطيع - على سبيل التجوز اليسير - أن تستثني من هذه القاعدة الولايات المتحدة؛ إذ جاء مولدها في يوم معلوم، هو اليوم الرابع من شهر يوليو سنة 1776م، يوم أن أعلنت استقلال نفسها عن إنجلترا، فجاء في إعلانها ذاك ما يلي:
إننا نؤمن بأن هذه الحقائق واضحة بذاتها، وهي أن الناس قد خلقوا سواسية، وأن خالقهم قد حباهم بحقوق معينة هي جزء من طبائعهم لا يتجزأ؛ منها «الحياة» و«الحرية» والتماس «السعادة»، وأنه لكي يظفر الناس بهذه الحقوق، أقيمت فيهم الحكومات، تستمد سلطاتها العادلة من رضا المحكومين، وأن الحكومة - كائنة ما كانت صورتها - إذا ما انقلبت هادمة لتلك الغايات، فمن «حق الشعب» أن يغيرها أو يزيلها، وأن يقيم حكومة جديدة، تضع أساسها على مبادئ، وتنظم سلطاتها على صورة، بحيث تبدو للناس تلك المبادئ وهذه الصورة أنهما - على الاحتمال الأرجح - مؤديتان إلى أمنهم وسعادتهم.
هذه أسطر قلائل، لكنها - كما قال «جفرسن» وهو الذي صاغ عبارتها بقلمه - تعبر عن العقل الأمريكي، وقوتها مستمدة من تركيزها لاتجاهات الناس في عصرها تركيزا يلخص روح عصر بأسره، هو عصر الثورة الأمريكية، أو إن شئت فسمه عصر التنوير في أمريكا، وقد كان التنوير فالثورة في أمريكا مقابلين في العصر نفسه لتنوير وثورة في فرنسا، ففي هذه الوثيقة القصيرة من المبادئ الهامة ما يستوقف النظر بغير حاجة إلى تحليل، فهي تنص على أن حقوق المساواة والحياة والحرية والتماس السعادة هي أشياء واضحة بذاتها - أي بديهيات - لا يحتاج صدقها إلى إقامة البرهان، وأنها حقوق مستمدة من الله، وليست هي بالهبات يمنحها الحاكم إذا شاء، ويحبسها إذا شاء، وهي جزء من طبيعة الإنسان وفطرته؛ بحيث يستحيل تصور الإنسان إنسانا بغيرها، وأنه إن قامت بين الناس حكومة فلأن الناس أنفسهم هم الذين أقاموها لتحافظ لهم على تلك الحقوق، وهم الذين يغيرونها أو يزيلونها إذا هي قامت عقبة في سبيل تلك الحقوق الإنسانية.
وتستطيع أن تمضي في تحليل هذه الأسطر القلائل ليتبين لك أنها تتضمن ما يصح أن يكون مثلا أعلى للإنسانية جميعا، وفي ذلك يقول «لنكلن»: «إنني ما أحسست قط بشعور - من الوجهة السياسية - لم أجده نابعا من العواطف التي تبلورت في «إعلان الاستقلال» ...»
Unknown page
2
فمن أين استقت هذه الوثيقة عناصرها؟ إن مضمونها الفكري لم يكن من ابتكار واضعيها، فها هو ذا «جفرسن» - وهو على رأس المشتركين في إعلانها - يصرح قائلا وهو بصدد التعليق عليها: «إنني لم أشعر بضرورة تدعو إلى ابتكار أفكار جديدة لم أسبق إليها.»
3 «جون لوك» هو مصدر التفكير السياسي الذي ساد الولايات المتحدة إبان ثورتها، وليس هو بالمصدر الذي نستنتجه استنتاجا مما كان يدور عندئذ على ألسنة الناس وأقلامهم، بل هو المصدر الذي كان يتردد ذكره صراحة على أنه المعين الذي استقى منه القادة مبادئهم بطريق مباشر، «فمن كتابات «جون لوك» - قبل أي شيء آخر - استمد الأمريكيون سلاح الحجج التي هاجموا بها الملك والبرلمان في حكمهما المتعسف، ولو كان هناك رجل واحد يجوز أن يقال عنه إنه ساد الفلسفة السياسية في عهد الثورة الأمريكية، فذلك هو «جون لوك»، إذ لم يكن الفكر السياسي الأمريكي إلا تأويلا لما كتبه لوك»،
4
فماذا قال «جون لوك» مما جعل الأمريكيين أنفسهم يصفونه بقولهم إنه «فيلسوف أمريكا»، وواضع الأساس لفكرها السياسي؟
كان «جون لوك» - الفيلسوف الإنجليزي الذي عاش بين عامي 1632م و1704م - في طليعة من استخرجوا النتائج الفلسفية للعلم الحديث، وحللوا مضمون هذا العلم تحليلا ينتزع مدلوله بالنسبة إلى السياسة والأخلاق والدين، ولعله مما يجدر ذكره في هذا الموضع أن مهمة الفلسفة في صميمها هي هذا التحليل للمبادئ العلمية؛ بحيث تستخرج من هذه المبادئ ما تنطوي عليه من مضمون وفحوى، يتغير العلم السائد عصرا بعد عصر، فتتغير معه الفلسفة؛ لأنها تحليل لمبادئ العلم، فإن تغير العلم تغيرت، كان العلم السائد أيام اليونان الأقدمين هو الرياضة ، وكان اليقين الثابت هو معيار الحق ، فهل يسع الفلسفة إزاء ذلك إلا أن تبحث عما يتضمنه هذا اليقين الثابت المنشود، والمتمثل في الرياضة، لتجد أصوله الأولى في مبادئ عقلية مفارقة لهذا العالم المحسوس الذي هو عالم الأشياء المتغيرة التي لا تثبت ولا تدوم؟ ثم جاءت النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وما بعده، ليسود بمجيئها علم الطبيعة الذي لم تكن له سيادة من قبل، بل أوشك ألا يكون له وجود من قبل، وكيف يجوز لمن ينشد الحقيقة الثابتة الدائمة أن يجعل الطبيعة المتغيرة المتحولة موضوع بحثه؟ لكن النهضة الأوروبية قد غيرت من وجهة النظر، وجعلت الحواس مصدر العلم بعد أن لم تكن عند اليونان الأقدمين إلا مصدر الظن والخطأ، كما جعلت بالتالي ظواهر الطبيعة موضوع البحث بعد أن لم تكن شيئا جديرا بالعناية والعناء؛ فشهدت النهضة الأوروبية من علماء الطبيعة من هم بين أقرانهم في التاريخ كله ذوو مكانة ملحوظة، وعلى رأس هؤلاء «جاليليو» و«نيوتن»، وأقام هؤلاء العلماء علما للطبيعة هو الذي ساد الفكر الإنساني في القرون الثلاثة: السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، حتى جاءت نظرية النسبية في القرن العشرين، وجعلت تعدل من البناء القديم لتقيم مكانه بناء جديدا على أساس جديد.
وليس العلم الطبيعي في ذاته هو موضوع اهتمامنا الآن، إلا بمقدار ما نستعين به على معرفة النتائج الفلسفية التي نتجت عنه بالنسبة إلى السياسة، ولئن كان «جاليليو» و«نيوتن» هما على وجه الخصوص من نعني حين نتحدث عن علم الطبيعة في القرن الثامن عشر - وهو قرن التنوير والثورة في أوروبا وأمريكا على السواء - فإن «جون لوك» بصفة خاصة هو الذي استخرج من مبادئ علم الطبيعة كما أقامه «جاليليو» و«نيوتن» نتائجها الفلسفية التي تعنينا.
وأهم ما نهتم له في طبيعة «جاليليو» و«نيوتن» هو التفرقة التي فرقا بها بين نوعين من الظواهر: الظواهر كما هي في الأشياء الخارجة عن الإنسان، والظواهر كما تقع في إدراك الإنسان، وينتج عن ذلك تفرقة بين نوعين من «المكان»، ونوعين من «الزمان»، فالعلاقة المكانية والعلاقة الزمانية بين الأشياء في الخارج ليست هي نفسها القائمة بين صور الأشياء كما يحسها الإنسان بحواسه، بعبارة أخرى: هنالك مكان مطلق موضوعي مستقل عن الإنسان، تتحرك فيه الأشياء المادية، وهذا هو المكان، وهذه هي الأشياء التي يعنى ببحثها علم الطبيعة، لكن هنالك أيضا مكان ذاتي نسبي هو الذي يقع في حس الإنسان، وليس هو المقصود بالبحث عند علم الطبيعة، وكذلك قل في الزمان.
يكون للأشياء عند الحس لون وطعم ورائحة، أما الأشياء التي يبحثها علم الطبيعة، ويستقرئ قوانينها، فلا لون لها ولا طعم ولا رائحة، والأشياء عند الحس تتغير قليلا أو كثيرا تبعا لتغير الأشخاص ووجهات أنظارهم، أما الأشياء التي يبحثها علم الطبيعة، فهي مطلقة تدوم على حال واحدة بالنسبة لكل إنسان؛ إذ يكون لها من الصفات الرياضية والهندسية ما لا يتأثر باختلاف النظر عند مختلف المشاهدين، وفيما يلي خلاصة لعبارة قالها «جاليليو» ليقرر بها أن بعض الصفات - كالحرارة والطعم والرائحة واللون - هي في الإنسان المدرك، لا في الطبيعة الخارجية، وإذن فلا يكون لعلم الطبيعة شأن بها، قال جاليليو ما خلاصته:
5 «أريد أن أضع تحت الفحص هذا الذي يسمونه «حرارة» وسأجد أن فكرة الحرارة كما هي عند الناس بعيدة بعدا شاسعا عما يقع في الطبيعة الخارجية؛ إذ الحرارة ليست صفة من الجسم الذي نصفه بأنه حار، فبينما أراني مضطرا بالضرورة، إذا ما أردت أن أتصور قطعة من المادة، أن أتصور بين صفاتها الكائنة فيها، أن لها حدودا تحدها، وشكلا معينا، وأنها بالقياس إلى غيرها كبيرة أو صغيرة، وأنها في هذا المكان أو ذاك، وفي هذه اللحظة الزمنية أو تلك، وأنها متحركة أو ساكنة، فهذه كلها صفات يستحيل على أي خيال أن يتصور قطعة المادة بغيرها؛ إذ يستحيل أن توجد قطعة المادة مستقلة عن هذه الظروف كلها، أما كونها بيضاء أو حمراء، مرة أو حلوة، صائتة أو صامتة، زكية الرائحة أو كريهتها، فلا أجد عقلي مضطرا إلى افتراض لزوم هذه الصفات لقطعة المادة، فلولا حواسي، ولو كان الأمر لعقلي وحده أو خيالي وحده ، لكان من الجائز ألا أعلم شيئا قط عن أمثال هذه الصفات؛ لذلك أرى أن هذه الصفات، كالطعوم والروائح والألوان، ليست مما يصف الشيء الخارجي نفسه، وإن هي - بالنسبة إلى ذلك الشيء - إلا أسماء لا تدل على شيء فيه.
Unknown page
خذ قطعة من الورق، أو خذ ريشة ومر بها على أي جزء تشاء من أجزاء جسدك، تجد لها - أينما مررت بها - صفة الحركة؛ بحيث لا تتغير هذه الصفة في طبيعتها بتغير الموضع الذي تتحرك فيه، لكن ضع الورقة أو الريشة بين عينيك أو في خياشيم أنفك، تثر فيك دغدغة لم تكن تحسها حين كنت تحركها على أجزاء جسدك الأخرى، وبديهي أن هذه الدغدغة فيك أنت وليست في الورقة أو الريشة. وأعود إلى فكرتي الأولى، فأقول: إن من الصفات التي ننسبها للأشياء ما لا يكون في الأشياء نفسها، بل يكون فينا نحن حين ندرك تلك الأشياء، ومن هذه الصفات صفة الحرارة، فالجسم الذي يحدث فينا الإحساس بالحرارة - وهو النار - ليس هو في حقيقته إلا عدد كبير من جسيمات ذوات أشكال معينة، تتحرك بسرعات معينة، ولو أزيل جسم الإنسان بحواسه، لما كانت الحرارة إلا لفظا بغير مدلول.»
للأشياء إذن نوعان من الصفات: صفات فيها وتكون جزءا من طبيعتها، وصفات نحسها نحن، وليست جزءا من طبيعتها، الأولى كالشكل والحجم، والثانية كالألوان والطعوم، وسؤالنا الآن هو هذا: ما العلاقة بين الأشياء المادية التي تقع في المكان والزمان المطلقين الخارجيين الرياضيين العامين، وبين الصفات النسبية الذاتية التي يكونها الإنسان بحواسه عند إدراكه للأشياء، دون أن تكون تلك الصفات جزءا من طبائع تلك الأشياء؟ بعبارة أخرى: ما العلاقة بين الإنسان والطبيعة؟
إنه سؤال سرعان ما يسوقنا إلى سؤال آخر، وهو: ما طبيعة الإنسان، هذا الذي يخلق عالمه بنفسه ولنفسه، ألم نقل إن علم الطبيعة النيوتوني قد فرق بين عالمين: فمن جهة هنالك العالم الطبيعي الخارجي ذو القوانين الرياضية، الذي لا يتأثر بالناس وإدراكهم، ومن جهة أخرى هناك العالم الذاتي الإدراكي المحس، الذي يخلق الصفات خلقا من عنده، ثم يخلعها على الأشياء، فيعطيها لونا وهي بغير لون، وطعما وهي بغير طعم، ورائحة وهي بغير رائحة وهلم جرا؟ إن كان الدفء الذي يحسه الإنسان هو فيه لا في الشمس التي تحدثه، وأريج الزهرة الذي يشمه الإنسان هو فيه لا في الزهرة التي تبعثه، ولون البرتقالة الذي يبصره الإنسان هو فيه لا في البرتقالة التي تسببه، فلنا إذن أن نسأل: ما طبيعة الإنسان؟ نعم إنه سؤال لا يهم علم الطبيعة، بل يهم عالم النفس والفيلسوف، غير أن علم الطبيعة يلقي ضوءا يعين على الجواب.
لو كان الإنسان ذرات مادية فقط - هكذا قال «جون لوك» - لما كان العالمان اللذان قال عنهما جاليليو ونيوتن، ولكان هناك العالم المادي الموضوعي الخارجي الرياضي وحده؛ إذ لو كان الإنسان كومة من ذرات مادية، شأنه في ذلك شأن سائر الأشياء، فمن أين - إذن - تأتي الصفات الذاتية كالألوان والروائح والطعوم، التي قال عنها جاليليو ونيوتن إنها لا تكون في الأشياء الخارجية؟ لا بد أن يكون الإنسان مغايرا في طبيعته لطبائع تلك الأشياء المادية؛ بحيث إذا تأثرت طبيعته بطبائع الأشياء المادية، أحدث هذا التأثر الصفات التي قيل عنها إنها تكون في الإنسان، ولا تكون في عالم الأشياء، فإن قلنا عن الشيء كما هو في الخارج إنه عنصر مادي، أفلا يجوز أن نقول عن الإنسان الذي يختلف بطبيعته عن طبائع الأشياء المادية، إنه عنصر عقلي؟ هكذا استخرج «لوك» النتيجة الحتمية التي تلزم عن علم الطبيعة النيوتوني، فكأنما «نيوتن» وهو يقوم بمشاهداته العلمية ليصل إلى قوانين الطبيعة المادية، كان كذلك - ضمنا - يثبت نظرية شعورية أخرى، وهي أن للإنسان عقلا يتأثر بالمؤثرات المادية فيخلق بعض الصفات التي يعود بدوره فيخلعها على عالم الأشياء.
وها هنا نضع أصابعنا على نقطة الارتكاز التي منها يبدأ الأساس الذي نبني عليه حق الأفراد في الحرية السياسية والدينية على السواء؛ فعلى هذه النقطة ترتكز نظرية «لوك» في الدولة وفي الكنيسة معا.
فلئن كان الإنسان عنصرا عقليا، بالقياس إلى دنيا الطبيعة التي قوامها عناصر مادية، إذن فالإنسان إنسان بعقله أو بروحه، لا بجسده؛ لأن الجسد هو كسائر الأشياء المادية عنصر مادي مثلها؛ فالجسم يتحرك - كما تتحرك بقية الأجسام - وفق قوانين الحركة التي استخلصها «نيوتن»، وهي قوانين لا تفرق بين أن يكون المتحرك حجرا أو جسما حيا، أما العقل فعنصر مختلف، لا تسري عليه ما يسري على المادة من قوانين الحركة، فإن قلنا - مثلا - إن الإنسان الفلاني يملك كذا وكذا من الأشياء، كان المعنى الصحيح لقولنا هو أنه يملك هذه الأشياء بعنصره العقلي، أما جسمه فلا يملك شيئا، بل جسمه هو نفسه من بين الأشياء الممتلكة كقطعة الأرض التي يفلحها والدار التي يسكنها؛ وهكذا يكون الفرد من الناس واحدا بعنصره العقلي، لكن ممتلكاته كثيرة.
هذا العنصر العقلي وحده، الفريد في نوعه بالنسبة إلى ما يحيط به من أشياء مادية، هو عنصر أولي بسيط التكوين لا يتجزأ، ولا يتحلل كما هو الشأن في الشيء المادي؛ ولهذا استحال فساده وتحلله بعد الموت؛ الموت يتناول الجسد وحده، وأما الروح فخالد لا يموت، وواضح أن الدين إنما يعنيه هذا العنصر من الإنسان، هذا العنصر العقلي المتفرد البسيط غير المتحلل، الذي يكتفي بذاته ويستقل بوجوده إذا شاء؛ لأن وجوده لا يتوقف على وجود أي شيء مادي، بل لا يتوقف على وجود أي عنصر عقلي آخر؛ فسواء أكان في العالم سواي من أفراد البشر أم لم يكن فلن يؤثر ذلك في وجود عنصري العقلي، بل سيظل هناك في روحانيته ووعيه لما يدور من حوله، وها هنا ندرك لماذا وبأي معنى يقول «جون لوك» إن الدين فردي خاص، معينه في نفسي، وأستنبطه من ذات نفسي، ويستحيل على إنسان آخر في الدنيا بأسرها أن يهديني في الدين سراطا مستقيما إذا لم تهدني نفسي؛ إن الاتصال بيني وبين سائر الناس، وبيني وبين الطبيعة إنما يكون بواسطة الجسد وما فيه من حواس، أما العنصر العقلي في داخلي فهو كائن قائم بذاته، يشعر بنفسه، ويوحي لنفسه، وهو الهادي وهو المهتدي؛ يقول «جون لوك» في رسالته عن التسامح: «إن الطريق الضيق الذي لا طريق سواه، والذي يؤدي إلى السماء، لا يعرفه القاضي بأفضل مما يعرفه كل إنسان لنفسه؛ لذلك لا أستطيع أن أتخذ من هذا القاضي - وأنا مطمئن - هاديا يهديني؛ لأنه قد يكون على جهل بالطريق مثل جهلي، واليقين هو أنه أقل اهتماما بنجاتي مني بنجاة نفسي ... لهذا كان روح الفرد من شأن صاحبه وحده دون سواه، ولا بد أن يترك وشأنه فيه.»
6
هكذا يكون الإنسان الفرد وحده دون سواه مسئولا عن عنصره العقلي، يستوحيه وينصت إليه في إملاء عقيدته، وصواب العقيدة مرهون بما يمليه العنصر العقلي ولا دخل لأحد سواه في الأمر؛ فأنت أنت الذي يحكم بصواب عقيدتك أو ضلالها، ولا يكون بالاحتكام إلى سواك يفتيك في أمر عقيدتك ما يجوز فيها وما لا يجوز؛ فانظر إلى هذه النتيجة البعيدة المدى كيف استنبطت استنباطا من علم الطبيعة النيوتوني، انظر كيف انتهت بنا التفرقة بين الطبيعة من جهة وإدراك الإنسان لها من جهة أخرى، إلى الاعتراف بالضمير الإنساني مشرعا لصاحبه وحكما له في صوابه وضلاله، وبهذا الأساس للتسامح الديني كما يريده «لوك» إذ كيف تتدخل في عقيدة سواك وله ضميره ولك ضميرك؟ كيف يجوز للسلطان المدني أن يتدخل في عقيدة أي فرد من الأفراد مع أن لهذا الفرد عنصرا عقليا خاصا به لا يشركه فيه إنسان آخر سفل أو علا؟ بل لا يجوز أن يقال للفرد إن كذا وكذا من أمر العقيدة الدينية هو رأي الأغلبية فاتبعه؛ لأن آراء الآخرين وإن عدت بالألوف لا تغير من الأمر شيئا.
وننتقل من الدين إلى السياسة، فنجد النتيجة عينها، أنه إذا استحالت الصلة بين روح وروح، بين عنصر عقلي في فرد، وعنصر عقلي آخر في فرد آخر، إذا استحالت الصلة بينهما، بحكم أن الصلة تكون تماسا في المكان، والعنصر العقلي بغير مكان، كان المجتمع المدني - كالمجتمع الديني - قوامه أفراد مستقل بعضهم عن بعض، كل فرد منهم وحدة قائمة بذاتها، يمكن أن تقوم وحدها، حتى ولو انعدم الآخرون جميعا ، وجود الفرد لا يعتمد على أي وجود آخر، إذن فمن ذا الذي يحق له أن يشرع لهذا الروح الفرد غير نفسه؟ إذا كانت شريعة العقيدة الدينية نفسها - كما رأينا - لا بد أن تنبع من ذات الفرد، وإذا كانت قوانين الطبيعة لا تسري على العناصر العقلية سريانها على العناصر المادية كما قرر «نيوتن» في علمه عن الطبيعة، فما بالك بالقوانين المدنية يضعها فرد مثلك أو أفراد؟ والنتيجة التي تنتج عن هذا كله هي أن القوانين المدنية عرف يتفق عليه الأفراد، ولا يجوز أبدا أن تفرض عليهم من الخارج فرضا بغض النظر عن رضاهم، القانون المدني سنده الوحيد هو قبول العنصر العقلي في الإنسان، ولما كان كل عنصر عقلي فردا مستقلا عن زميله، كانت أغلبية الآراء هنا هي السند الذي يستند إليه القانون المدني، وهكذا يبنى المجتمع بموافقة أعضائه فردا فردا، إذ ليس الفرد الواحد حجة على زميله.
Unknown page
بهذا ننتهي إلى نظرية «جون لوك» في الدولة، وهي النظرية التي بني عليها «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة بناء مباشرا؛ فإذا كان الإنسان الفرد بحكم طبيعته العقلية - كما رأينا - حرا حرية مطلقة ومستقلا بذاته، فليس هنالك في طبيعة الإنسان ما يبرر قيام الدولة إلا رضا الإنسان نفسه؛ أي إنه ليس جزءا من طبيعته أن يتصل بغيره كما قد ذهب أرسطو وغيره حين زعم أن الإنسان اجتماعي بطبعه لا بمجرد رضاه وموافقته، لا، ليس في طبيعة الإنسان ما يستلزم اجتماعه بغيره سوى العرف، وإذن فليس للدولة سند يؤيد وجودها سوى العرف كذلك، فهكذا اتفق الناس أن تقوم فيهم دولة تصون حقوقهم، ومن هنا تنشأ المقدمتان الرئيسيتان اللتان استند إليهما «إعلان الاستقلال» في الولايات المتحدة، وهما: ولد الناس أحرارا وسواسية، وأساس الحكومة هو موافقة المحكومين على قيامها.
ولد الناس أحرارا وسواسية؛ لأن العنصر العقلي - في مذهب «جون لوك» - يولد صفحة بيضاء، ثم تأتي الخبرات عن طريق الحواس، فتؤثر في تلك الصفحة، وبذلك يبدأ الاختلاف بين الناس في مدى خبراتهم، لكنهم من حيث الحالة الطبيعية متساوون، فلم يولد واحد منهم وفي عقله ما ليس في عقل الآخر، وما دامت نظرية جاليليو ونيوتن في الطبيعة تجعل الظواهر المحسة غير حقائق الاشياء؛ بحيث يحس الإنسان لونا وطعما ورائحة ... إلخ، مما ليس في الأشياء، إذن فالطبيعة كما تقع في حس الإنسان، إنما تقع على غرار واحد في الناس جميعا على السواء، لا فرق بين الأبله والعبقري في رؤية اللون وشم الرائحة وسماع الصوت وذوق الطعوم، ولد الناس سواسية في طبائعهم الواعية، فكل يدرك ظواهر الأشياء كما يدركها زميله، وكل يخلع هذه الظواهر على الأشياء كما يخلعها زميله، ولئن تفاوت شخص وشخص في القدرة، بحيث ينبغ النابغ ويسقط الأبله، فليس هذا التفاوت في طبيعة العنصر العقلي الروحاني، بل هو في أجزاء البدن المادية كتركيب المخ وما إلى ذلك، وهكذا ينجم عن علم الطبيعة الحديث تصور حديث للإنسان، هو الذي ذهب إليه «لوك»، وأخذه عنه قادة الثورة الأمريكية، وهو هذا: ليختلف الناس ما شاءت لهم حظوظهم في تركيب المخ، وفي الطبقة الاجتماعية، وفي الثراء، وفي درجة التعليم، وفيما شئت من نواحي الحياة، لكن كل إنسان - رغم هذا التفاوت كله - هو ككل إنسان آخر باعتباره إنسانا.
يقول «لوك» في مقاله عن «الحكومة المدنية» إنه ما دام الناس بطبيعتهم سواسية أحرارا مستقلا بعضهم عن بعض، فلا يجوز أن يحرم أحد من حالته الطبيعية ليخضع لقوة سياسية يملكها شخص آخر، وأن يكون هذا الخضوع بغير إرادته، لكن هنا تنشأ المشكلة الكبرى التي ما فتئت قائمة في تحديد العلاقة بين الفرد والدولة، فمهما حدت الدولة من سلطانها فهو سلطان على كل حال، ولا يكون هذا السلطان إلا بتنازل الفرد عن بعض حريته واستقلاله، فلماذا يتنازل الأفراد عن حقوقهم؟ لماذا يتنازل الفرد عن الحقوق التي كان يتمتع بها في حالته الطبيعية مع أنه كان عندئذ سيدا مطلقا على نفسه وعلى ملكه؟ جواب ذلك هو أنه في الحالة الطبيعية كان غير المنتج يسطو - إذا استطاع - على إنتاج المنتج فيسلبه إياه وقد يفتك به، فأراد الإنسان الحر المستقل أن يتنازل للدولة عن بعض حريته واستقلاله ليحمي شخصه وأملاكه من عبث العابثين.
وإذن فالمبرر الوحيد لوجود الحكومة هو حماية الملكية الفردية، ويدخل الجسد في الملكية؛ لأن المالك الحقيقي هو العنصر العقلي من الإنسان، فقيام الحكومة شر، لكنه أهون شرا من تعرض الجسد وسائر الممتلكات المادية للنهب والتخريب، ليس قيام حكومة في الناس هو الخير الأسمى، وإنما الخير الأسمى هي الحالة الطبيعية التي تخلو من الحكومة إذا خلت كذلك من احتمال اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، وعلى ذلك فلا يدخل الإنسان عضوا في المجتمع الخاضع للدولة بسبب كونه اجتماعيا بالطبع والضرورة، بحيث لا يكون له مناص من حياة اجتماعية تمكنه من التعبير عن نفسه تعبيرا سياسيا وخلقيا ودينيا، بل يدخل عضوا باختياره ليصون حقوقه، فإن لم يجد تلك الحقوق مصونة كان له أن يخرج عن الجماعة ويثور عليها، ومن النتائج الخطيرة لهذا الرأي ألا يكون من حق الدولة حرمان الفرد من ملكه إلا بموافقته؛ لأن صيانة الملكية هي - كما قلنا - الغاية الأولى والأخيرة من قيام الدولة.
ذلك هو «جون لوك» الذي اتخذه الأمريكيون في عهد ثورتهم فيلسوفا لهم، بحيث جعلوا مذهبه أساس إعلان استقلالهم، فكيف كان صدى آرائه في قادة الرأي عندئذ؟ سنختار للإجابة عن هذا السؤال رجلين: «تومس جفرسن» و«تومس بين» وهما من أعلام حركة التنوير في الولايات المتحدة عندئذ. (2) «تومس جفرسن» وحقوق الإنسان «لقد عاهدت الله أن أكون إلى آخر الدهر عدوا للطغيان في شتى صوره، الطغيان الذي يستبد بعقل الإنسان.» هكذا قال «جفرسن» عندما تقدم لرئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة عام 1800م، فقاومه المحافظون من رجال الدين لتطرفه في الدعوة إلى الحرية، فإذا جاز لنا أن نختار من أقواله قولا يلخص حياته وفكره اخترنا له هذه العبارة شعارا؛ لأن دفاعه عن حرية العقل كان مدار فكره وحياته، وإنما يكون هذا الدفاع في ميادين ثلاثة: السياسة، والدين، والتعليم. (1)
فهو في السياسة يعبر عن روح عصره في النظر إلى حقوق الإنسان كما يمكن أن يستدل عليها من فلسفة «جون لوك» التي أسلفنا لك شرحها، وهي بدورها فلسفة ناتجة عن علم الطبيعة في ذلك العصر كما يتمثل في «جاليليو» و«نيوتن»، ولسنا بحاجة هنا إلى تكرار ما قلناه عن حقوق الإنسان المستندة إلى فطرته وطبيعته، لا إلى منحة يمنحها إياه ملك أو حاكم، وتلك بعينها هي نظرة «جفرسن» وزملائه الذين قادوا الفكر والسياسة في الشطر الأخير من القرن الثامن عشر، ونكتفي بذكر لمحات يختص بها «جفرسن» وإن تكن في حقيقة أمرها شروحا وتعليقات على النظرية الأساسية.
من ذلك أنه - كسائر أبناء عصره - يجعل للفرد حق الثورة على الحكومة القائمة إذا هي قصرت في تحقيق السعادة التي ينشدها في حياته، والتي من أجلها تعاقد الأفراد على أن يجتمعوا وأن يقيموا على أنفسهم حكومة، لكنه وقف إزاء هذا الحق - حق الثورة - موقفين؛ أحدهما فيه تحفظ واعتدال، والآخر فيه تطرف ومبالغة، أما الموقف الأول فهو موقفه في صياغة «إعلان الاستقلال»، فكأنما أحس بضرورة القصد في القول إذا ما كان الأمر وثيقة مكتوبة، أو إذا ما كان التعبير ليس تعبيرا عن رأيه الشخصي وحده، بل تعبيرا عن الشعب كله؛ لذلك تراه ها هنا لا يبرر الثورة على الحكومة - وإن تكن حقا طبيعيا للناس - إلا إذا أفحشت الحكومة في خطئها وضلالها، وأصرت على أن تمضي عنيدة في هذا الخطأ والضلال، معرضة شعبها إلى فادح الخطر.
أما وهو يعبر عن رأيه الشخصي بعيدا عن الوثائق الرسمية التي يتوخى فيها القصد والاعتدال والتحفظ، فعندئذ يرسل القول في تطرف وحرارة عاطفة، فتراه مثلا يقول: إن الثورة على الحكومة حينا بعد حين، هي العلاج الناجع الذي يضمن أن تظل الحكومة سليمة معافاة، «فاللهم لا تقدر لنا أن نظل عشرين عاما بغير ثورة»؛ لأن «شجرة الحرية لا بد لها من الازدهار حينا بعد حين مرتوية بدماء الشهداء ودماء الطغاة، فالدماء هي المخصب الطبيعي لنمائها».
حق الثورة على الحكومة إن أخطأت هو من الحقوق التي تترتب على النظرية السياسية التي تجعل الحكومة صنيعة الشعب، وحرية الناس هي من حقوقهم الطبيعية التي هي - كما أوردها «جفرسن» في وثيقة «إعلان الاستقلال» - الحرية والحياة والتماس السعادة، لكن تلك الوثيقة لم تقل إن هذه الثلاثة هي كل الحقوق الطبيعية، بل قالت إنها بعض تلك الحقوق؛ لذلك ترى «جفرسن» يذكر حقوقا أخرى في مواضع متفرقة كحرية الفكر وحرية الدين وحرية الكلام وحرية تبادل الرأي، وحرية الصحافة وحرية التجارة والحرية الشخصية، وهي كلها فروع للحرية بصفة عامة كما وردت في «الإعلان».
وإلى جانب تلك الحقوق الفردية حقوق أخرى اجتماعية ومدنية، كحق الملكية، لكن هذا الضرب من الحقوق مقيد بالحد الذي يمكن الآخرين من التمتع به، ولم يفت «جفرسن» أن يتنبه للجوانب التي تنتفي فيها حقوق الإنسان؛ أي إنه لم يحصر فكره في الحقوق الإيجابية وحدها، من ذلك قوله: ألا حق لأحد أن يعتدي على حقوق سائر الأفراد، ولا حق لأحد أن يكون قاضيا في قضية هو أحد أطرافها، ولا حق لأحد في أن يحتكر لنفسه شيئا ... وهكذا.
Unknown page
ويطبق «جفرسن» نظرية الحقوق الطبيعية على الأجيال تطبيقها على الأفراد سواء بسواء، معارضا بذلك كثيرين من مفكري عصره في أوروبا، نخص بالذكر من هؤلاء «أدمند بيرك» (1729-1797م) فمن رأي هؤلاء أن حياة الأمة تمتد ما امتد الزمن، وبذلك وجب على الأجيال القادمة أن ترتبط بفعل الأجيال السابقة، فيعارض «جفرسن» هذا المبدأ، جاعلا لكل جيل الحق في تغيير ما قررته الأجيال السابقة بأفعالها أو أقوالها؛ لأنه لو أخذنا بمبدأ اشتراك الأجيال السابقة في تقرير حقوق الجيل القائم، ترتب على ذلك أن تكون الأرض ملكا للأموات لا ملكا للأحياء الذين يفلحونها ويعيشون عليها.
الأفراد القائمون الأحياء هم أصحاب الحق في تقرير مصائرهم، وفي اختيار حكومتهم، إن لم يكن كل فرد بذاته، فبالإنابة، وهنا تختلف الديمقراطية الحديثة عن الديمقراطية القديمة - كما كانت عند اليونان مثلا - إذ كان الفرد في الديمقراطية اليونانية يمثل نفسه، وكان ذلك ممكنا حين كانت الدولة مدينة واحدة يمكن لأفرادها الراشدين أن يجتمعوا في صعيد واحد، أما وقد تناءت أطراف الوطن الواحد في العصور الحديثة، واستحال أن يجتمع الأفراد جميعا ، كان التمثيل بإنابة أفراد عن أفراد، وعلى كل حال، فالحكومة تكون على أكمل حالاتها حين تحصر نشاطها في أقل حد ممكن. (2)
أما الحرية الدينية فتنبني - في رأي «جفرسن» - على أن الحرية هي حق طبيعي للإنسان، فكما أنه لا يجوز أن يستبد بها حاكم سياسي، فكذلك لا يجوز أن تنتقص منها هيئة دينية، والذكاء الفطري عند الإنسان - إذا لم تعطله العوامل الخارجية من دولة أو كنيسة - كاف وحده أن يهدي الإنسان في مشكلاته الدينية، دون أن يكون في ذلك بحاجة إلى كنيسة تمسك بزمامه، فحسب الإنسان - في الرأي السياسي وفي العقيدة الدينية على السواء - أن يرضي ضميره، وقد جاهد «جفرسن» وهو حاكم لولايته - ولاية فرجينيا - في سبيل تقرير الحرية الدينية لأفراد ولايته على النحو الذي يراه حقا لكل إنسان؛ لذلك سن قانونا يحقق للناس هذه الحرية التي أرادها لهم في عقائدهم، وكانت عبارة الاستهلال في هذه الوثيقة هي ما يأتي: «لما كنت على يقين من أن الله تعالى قد خلق عقل الإنسان حرا ...» فإذا سلمنا بأن حرية العقل هي جزء من طبيعته كما خلقها الله، امتنع أن يكون لأي إنسان أن يضع ما يقيد الفرد في استخدامه لعقله، فلا الحكومة ولا الكنيسة لها أن تقيم الحواجز أمام الحرية العقلية عند الفرد إلا إذا كانت حرية تفكيره مؤدية إلى إيذاء الآخرين وإلى الحد من حرية التفكير عندهم «غير أني لا أنزل بجاري أذى إذا قلت إن في الكون عشرين إلها، أو قلت أن ليس هنالك إله؛ لأن مثل هذا القول لا يسلبه مالا، ولا يكسر له ساقا.» وإذن فليس من حق الحكومة أو الكنيسة أن ترغم أحدا على عقيدة دينية معينة، أو أن تضطهد إنسانا بسبب عقيدته، بل الأمر على نقيض ذلك، فواجب الحكومة هو أن تهيئ الظروف التي تمكن الناس جميعا من حرية التعبير عن آرائهم الدينية، ومن تأييد تلك الآراء بكل ما يستطيعون من حجة، دون أن تتأثر بذلك حقوقهم المدنية. (3)
عقل الفرد - إذن - هو مرجعه الوحيد في السياسة وفي الدين، لا سلطان عليه في ذلك من حكومة أو من كنيسة، فإذا قيل إن من الأفراد من ليست لهم هذه القدرة العقلية المؤتمنة على هداية صاحبها طريق الصواب، كان الرد على ذلك هو ضرورة تعليمهم لا التسليم بعجزهم، ومن هنا تنشأ عند «جفرسن» عقيدته في وجوب تعميم التعليم بين الناس؛ لتمكينهم من ممارسة حقوقهم الطبيعية في تقرير مصائرهم بأنفسهم، ومع ذلك فالتاريخ - تاريخ الملوك بصفة خاصة - شاهد على أن خطأ الشعب مهما يكن ناقصا في تعليمه ليس أفدح خطرا من خطأ الحكومات الوزارية والملوك، فليس هناك الأسرة الملكية التي أنجبت أكثر من رجل واحد ذي إدراك سليم في كل عشرين جيلا، والملوك هم على أفضل حالاتهم حين يتركون الأمر في أيدي وزرائهم، لكن من هم هؤلاء الوزراء إن لم يكونوا جماعة أسيء اختيار أفرادها؟ فإذا تدخل الملك في عمل الوزراء كان ذلك ليزيد الأمر سوءا على سوء.
إن «جفرسن» لا يريد بهذا كله أن يدعي بأن الناس متساوون في قدراتهم العقلية؛ إذ لا شك أنهم في ذلك يتفاوتون، لكن علينا أن نهيئ أمام الجميع فرصا متساوية في التعليم، وللنابغ بعد ذلك أن ينبغ، وللمتخلف أن يتخلف، فلكل طفل الحق في فرصة تعادل فرصة زميله، بحيث تنمو مواهبه إلى أقصى حد مستطاع، بغض النظر عن حالته المالية من فقر أو غنى، فلا يجوز أن يكون التعليم حقا للأغنياء وحدهم، وبهذا التعليم العام الذي لا يفرق بين فرد وفرد، سيظهر في كل جيل قادته الجديرون بقيادته، وإذا شئت فقل عن هؤلاء القادة إنها الصفوة، أو هي «الأرستقراطية»، لكنها عندئذ تكون أرستقراطية المواهب، لا أرستقراطية الحسب والمال والجاه، وعلى هذا الأساس أقام أسس التعليم في ولاية فرجينيا - وهي وطنه - حين كان حاكما لها، وأنشأ جامعة فرجينيا.
جهاد في سبيل الحرية العقلية، هذا هو ما عاهد الله - كما قال - على أن ينفق حياته فيه: حرية العقل في الفكر السياسي، وقد عبر عنها في «إعلان الاستقلال» الذي صاغ عبارته، وحرية العقل في العقيدة الدينية، وقد عبر عنها في القانون الذي وضعه في ذلك لولاية فرجينيا، وحرية العقل في التعليم، وقد عبر عنها في إنشائه لجامعة فرجينيا، ومن هذا كله نعلم لماذا - حين سئل في أخريات سنيه: ماذا يريد أن يكتبوا له على شاهد قبره من بين أعماله الكثيرة التي زخرت بها حياته الحافلة المجاهدة المكافحة؟ قال: اكتبوا ثلاثة أشياء: إعلان الاستقلال، وقانون الحرية الدينية، وجامعة فرجينيا؛ فبالأول يزول استبداد الحكومة، وبالثاني يتحرر العقل من سلطان الكنيسة، وبالثالث تصان الحرية التي يكتسبها الناس في السياسة والدين. (3) «تومس بين» والإيمان بالعقل
إنه لو جاز لنا أن نختار رجلا واحدا من رجال «التنوير» في الولايات المتحدة إبان ثورتها في سبيل استقلالها، نقول عنه إنه اللسان المعبر عن الحركة كلها، على الرغم من كثرة من ناصروها وأشاعوا مبادئها؛ لكان هذا الرجل الواحد هو «تومس بين» لما حباه الله من قدرة أدبية في عرض أفكاره، التي هي في جوهرها أفكار العصر كله في أمريكا وفي أوروبا على السواء، بحيث استطاع بجمال أسلوبه وصفاء عبارته أن يلتمس طريقه إلى قلوب الناس وعقولهم على نطاق أوسع جدا مما كانت تكون عليه الحال لو اقتصرت تلك الأفكار على صياغة فلسفية لا يسهل فهمها وقبولها عند أوساط الناس، فليس فيما قاله «بين» من جديد إلا طريقة العرض.
وتستطيع أن تلخص مبادئ حركة التنوير - في أمريكا وأوروبا - في حيز صغير، فأول ما تشير إليه الكلمة - كلمة «تنوير» - التي تركز طابع الفكر في القرن الثامن عشر، هو إشارتها إلى قدرة العقل على حل مشكلات الطبيعة والإنسان، بحيث لا يعود الناس بحاجة إلى مصادر أخرى غير عقولهم تعينهم على تفهم ما يريدون أن يتفهموه، وكان طبيعيا أن يشتد إيمان الناس إذ ذاك بعقولهم بعد ما شهدوه من غزارة الإنتاج العلمي الذي تراكمت آثاره خلال القرنين السابقين لعصرهم، وهما القرن السادس عشر والسابع عشر، فإن كان العقل قد استطاع أن يكشف في هذه الفترة القصيرة عن هذه الأسرار الطبيعية كلها، أفلا يستطيع على مر الزمن أن يكشف الغطاء عن سر الحقيقة كلها؟ إنه لا حدود للعقل تلزمه بالوقوف عندها؛ فيكفيه أن يهتدي إلى المبادئ الأولية، وله بعد ذلك أن يستخدم المنهج الرياضي في استنباط ما لا نهاية له، ولا حصر من النتائج التي تترتب على تلك المبادئ. فإن استغنى الإنسان بعقله عن كل معونة تأتيه مما وراء الطبيعة، إذن فليتحول باهتمامه كله من السماء إلى الأرض، حيث يعيش الإنسان، فسعادة الإنسان هي وحدها الهدف الذي يجدر بنا أن نستهدفه، ونعيم الآخرة هو النعيم الذي نهيئ أسبابه للأجيال المقبلة، والنجاة المنشودة ليست هي النجاة من خطيئة آدم، بل هي النجاة بالإنسان مما هو فيه من جهل واستعباد.
اهتم «تومس بين» بالعلم الطبيعي ونتائجه - نظرا وتطبيقا - ولما كان من أهم النتائج التي تترتب على طبيعة نيوتن الاعتقاد في اطراد ظواهر الطبيعة اطرادا يمكننا من الكشف عن قوانينها؛ وبالتالي إمكان التنبؤ بما سيحدث قبل حدوثه؛ فقد رأى «بين» أن الاحتكام إلى الطبيعة هو خير معين لنا على فهم عالمنا الذي نعيش فيه، وما الطبيعة إلا قوانينها التي فرضها الله على المادة لتسير بمقتضاها، وإن شئت فقل هي القوانين التي يحكم الله بها ملكوته، فليس الاطراد في حدوث الحوادث - الذي هو القوانين الطبيعية - من خلق العلم واختراعه، فالعلم لم يصنع شيئا ولم يضف شيئا؛ إذ الطبيعة بنظامها واتساقها واطرادها هناك، ومهمة العقل أن يعلن عنها، وهل خلق نيوتن قانون الجاذبية من عدم؟ أم هو طريقة الله في تسيير أجزاء الكون، كانت قائمة ثم انكشف عنها الغطاء؟
ونخطو بعد ذلك خطوة، فنقول: إن اطراد القوانين الطبيعية ليس هو طريقة الله في تسييره لأجزاء الكون فحسب، بل إن ما لا يدل على مثل هذا الاطراد والنظام والاتساق لا يكون من صنع الله؛ ومن ثم لا يجوز لنا قبول ما يسمونه بالمعجزات، فماذا تكون «المعجزة» إذا لم تكن هي الحادثة التي تحدث على غير ما تستوجبه قوانين الطبيعة؟ وإنه لمما يلفت النظر أننا دائما حين نقبل معجزة على أنها وقعت، لا نعتمد في هذا القبول على مشاهداتنا الخاصة، بل ننقل عما شهد به سوانا وليس معنى ذلك إلا أننا - إذا نحن آمنا بوقوع المعجزة - قد انتقلنا بالإيمان من إيمان بالله إلى إيمان بهذا الشاهد الذي نقلنا عنه نبأ المعجزة التي قيل إنها وقعت، الإيمان بالله هو إيمان بنظامه في كونه، والإيمان بالمعجزة هو إيمان بأن ذلك النظام قد اختل اطراده وأصابته فوضى، وإذا قرأنا عن معجزة فعلينا أن نسأل أنفسنا: أيهما أرجح، أن تكون الطبيعة قد ضلت سبيلها المعتاد، أم أن يكون الإنسان (الذي شاهد) قد ضل طريق الصواب؟ إن أحدا منا لم يشهد قط في غضون حياته خروج الطبيعة عن مجراها، لكننا في الوقت نفسه نسمح بأكاذيب كثيرة في هذا الصدد، فاحتمال أن يكون الشاهد قد أخطأ الشهادة أرجح جدا من احتمال أن تكون المعجزة المزعومة قد وقعت.
Unknown page
7
ومن الإيمان باطراد النظام في الطبيعة يستنتج قانون الأخلاق، فلو كانت الطبيعة مسيرة وفق طائفة من القوانين استنها لها الله الذي يريد بخلقه خيرا، ثم لما كان الإنسان جزءا من الخلق من جهة، وشبيها بالخالق من جهة أخرى، لزم أن يكون الإنسان في حالة كماله مسيرا بقوانين أخلاقية تسير به نحو خيره، فكما أن للطبيعة قوانينها، فكذلك للإنسان قانونه، وقانونه هو قانون الأخلاق، والعقل في كلتا الحالتين هو كاشف الغطاء عن تلك القوانين التي ليست من خلقه، وإن تكن من كشفه، فإذا أردت أن تعرف كيف ينبغي للإنسان أن يسلك وأن يفكر في السياسة وفي الاقتصاد وفي العبادات، وفي كل جانب من جوانب الحياة، فعليك بالعقل يكشف لك عما يحقق الاطراد والاتساق والنظام، ولا تركن في ذلك إلى حكم تحكم به الحكومة، أو فتوى يفتي بها رجال الدين.
وإذا عبرنا عن هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى، قلنا إن العلم بالإنسان وحقيقته يقتضي دراسته وهو على طبيعته قبل أن تفسده أنظمة الحكومة ومؤسسات اللاهوت، إن بعض المؤرخين - مثل «إدمند بيرك» الذي كان «بين» يعنيه في هذا السياق - حين أرادوا الدفاع عن حقوق الإنسان، التمسوا أسانيدهم من التاريخ القديم، لكن البدء بأي فترة من فترات التاريخ القديم هو اختيار جزاف، فلماذا لا تتعقب الإنسان إلى أصوله الأولى، إلى حالته الطبيعية قبل أن ينشأ له مجتمع، وقبل أن يتكون له تاريخ؟ لماذا لا ندفع نقطة الابتداء إلى حيث كان الإنسان لا يتميز إلا بقلب واحد، هو أنه «إنسان» فلا حاكم ولا محكوم، ولا أباطرة ولا ملوك، ولا سادة ومسودين؟
8
فإذا وصلنا إلى الحالة الطبيعية ألفينا الإنسان وحقوقه قد خلقا معا، ها هنا نصل إلى الأصل الإلهي لحقوق الإنسان ساعة خلقه، ساعة أن خرج من يدي خالقه ذا حقوق متساوية ليس لفرد امتياز على فرد آخر، إن الحقوق الطبيعية للطفل يوم ولادته هي نفسها الحقوق التي كانت لأول إنسان شهد الوجود، الناس كما خلقهم الله لا يتميز بعضهم من بعض إلا بأن منهم الذكور ومنهم الإناث، فالمساواة بين الأفراد هي أقدم رأي سياسي وليست هي بالرأي الحديث، إذن فمثل هذه الحقوق الطبيعية الأولية هي لكل إنسان لمجرد كونه إنسانا ذا وجود على وجه الأرض، ومن الحقوق الطبيعية ما يستطيع الإنسان أن يحافظ عليه بنفسه كحقه في حرية الفكر مثلا، لكن منها كذلك ما لا يستطيع وهو منفرد أن يحافظ عليه، كالأمن وصيانة الأملاك، ومن أجل هذه تعاقد بإرادته راضيا أن يكون عضوا في مجتمع، ورضي أن يستبدل حقا بحق، فبدل الحق الطبيعي الذي تنازل عنه اكتسب حقا مدنيا يقوم مقامه، وهكذا تكون الحقوق المدنية حقوقا طبيعية تم استبدالها، وما السلطة المدنية إلا مجموعة الحقوق التي تنازلت عنها مجموعة الأفراد الذين هم أعضاء مجتمع واحد.
9
وذهب «بين» إلى ما ذهب إليه «جفرسن» بأن الجيل الحاضر لا يرتبط بسابق الأجيال، بل هو حر في ما يختاره لنفسه، نعم إن القوانين التي يشرعها أحد الأجيال قد يجوز للأجيال التالية أن تستبقيها، على ألا يكون معنى ذلك استحالة تغييرها، وغاية ما في الأمر أنها تستبقيها؛ لأنها لا تريد أن تشرع قوانين أخرى تحل محلها، وعندئذ تكون بمثابة القوانين التي تستنها لنفسها، فإذا قلنا عن قانون باق لدينا من جيل سابق أنه لا يزال نافذ المفعول، كان معنى ذلك أن هنالك موافقة ضمنية من الجيل القائم على بقائه، فكما أن لكل طفل يولد نفس الحقوق التي كانت لأول طفل شهد الوجود، فكذلك لكل جيل يأتي نفس الحقوق التي كانت لأي جيل مضى، غير أن عدم ارتباطنا بقوانين أسلافنا لا ينفي أن يكون علينا واجب نحو من سيأتي بعدنا، فتقرير حق يتضمن في الوقت نفسه فرض واجب يقابله؛ لأن كل حق لي باعتباري إنسانا هو كذلك حق لسواي، وبذلك يصبح واجبا علي أن أصونه لغير صيانته لنفسي، فهذا الواجب هو إلزام ملزم للناس على تعاقب العصور.
وكذلك يأخذ «بين» بما أخذ به «جفرسن» من أن مساواة الناس في حقوقهم لا تعني أنهم متساوون في مواهبهم، بل إن هذه المواهب لتتفاوت، ويتبع التفاوت توزيع بين أفراد المجتمع، بمعنى أن تجد في كل مجتمع ما يلزمه من مواهب متفرقة بين أفراده، لكنها تغير من مواضعها بحيث تظهر في هذه الأسرة مرة، وفي تلك الأسرة مرة؛ إذ المواهب لا تورث؛ وبالتالي لا تستقر في أسرة واحدة على مدى الزمن، ومن يزعم التوارث للمواهب الفطرية فإنما يضعف الأساس الإنساني الذي تقوم عليه الديمقراطية؛ لأنه بذلك يلتمس مبررا يبرر الأرستقراطية، والتاريخ شاهد على أن القدرة العقلية لا ضابط لمكان ظهورها، حتى ليرجح أن يكون النبوغ العقلي قد طاف بكل أسرة على ظهر الأرض، وعلى هذا النظام الطبيعي في دوران الموهبة على مختلف الناس، ينبغي أن يدور الحكم إلى حيث تظهر الموهبة بغض النظر عن أي عامل آخر، وهذا كاف وحده برهانا على ألا يتوارث الحكم أسرة واحدة.
10
ومن تطبيقات «تومس بين» العجيبة لمبدأ المساواة في الحقوق الطبيعية ما سماه بمبدأ العدالة الزراعية، ومؤداه أن مالك الأرض لا حق له في توريث أرضه لأبنائه من بعده؛ لأن الله قد خلق الأرض للناس جميعا يتوارثونها جيلا عن جيل، ففي الحالة الطبيعية لم يكن يملك الأرض مالك فرد، بل هي ملك للجماعة كلها، وفي مثل هذه الحالة لا يكون فقر مدقع لأي إنسان، لكنها كذلك لا تعين على إنتاج من علم أو فن،
Unknown page
11
والمبدأ عند «بين» هو ألا يتدهور الإنسان عما كان عليه في الحالة الطبيعية، وإذن فيجب أن تظل الأرض ملكا للجميع كما كانت، وإلا لحدث لبعض الأفراد أن يكونوا من غير المالكين بعد أن كانوا مالكين، نعم إننا لا نريد أن ننتزع الأرض من زارعيها، لكن على هؤلاء أن يدفعوا إيجارا سنويا عن أرضهم للمجتمع، لأنهم بمثابة من احتجز شيئا كان ملكا للجميع، فجعله ملكه الخاص، وإذن فلا بد من تعويض أولئك الذين لا يملكون أرضا؛ لأنهم في حكم من أجروا أرضهم التي كانوا يملكونها على المشاع في الحالة الطبيعية، واقترح «بين» أن يأخذ كل من يبلغ الحادية والعشرين من عمره - غنيا كان أو فقيرا - خمسة عشر جنيها تعويضا له عن أرضه المفقودة، وعند سن الخمسين يتقاضى كل فرد عشرة جنيهات كل عام، والذي يدفع هذه التعويضات هم مالكو الأرض الحاليين من الإيجارات التي يدفعونها كل عام.
12
وقد كان «بين» - كما كان رجال التنوير جميعا - من أنصار الحرية الفكرية والحرية الدينية، حتى ليغيظه أن يستعمل الناس كلمة «التسامح» في هذا الصدد؛ لأنها كلمة تتضمن أن المتسامح صاحب فضل في منح الحرية لمن يتسامح معه، وعنده أن «التسامح» هو كالتعصب سواء بسواء من حيث إن كليهما ينطوي على طغيان، فالحرية في الرأي وفي العقيدة الدينية حق طبيعي لا يجوز أن يكون موهوبا «بتسامح» الواهب، وقد نشر «تومس بين» كتابه «عصر العقل» ليفرق فيه بين اللاهوت الصحيح واللاهوت الزائف، أما الصحيح فهو المعتمد على العقل وحده، وأما الزائف فهو الذي يلجأ إلى الخرافة، فأثار عليه رجال الدين ورموه بالإلحاد، مع أنه في الحق لم يكن مناهضا للدين في ذاته، وإن يكن مناهضا للمسيحية كما تصورها رجال الكنيسة عندئذ، والفرق بينه وبين رجال الثورة الفرنسية عندئذ في هذا الصدد، هو أن هؤلاء تنكروا للدين جملة واحدة، وأما هو فقد أبقى عليه على شرط أن يترك أمره للعقل، يقول في ذلك: «إن عقلي هو كنيستي.»
13
فللناس أن يعتقدوا فيما يهتدون إليه من أمر دينهم بعقولهم، لا أن يقسروا على الإيمان قسرا.
الفصل الثاني
دستور الفكر بعد دستور السياسة
(1) «رالف والدو إمرسن» واستقلال الفكر
أعلنت الولايات المتحدة وثيقة استقلالها عام 1776م، فضمنت «إعلان الاستقلال» مبادئها التي قررت بها حقوق الإنسان الطبيعية التي لا فضل فيها لأحد على أحد، لكنها إذ وضعت - في تلك الوثيقة - للسياسة دستورها، اعتمدت في مصادرها على الفكر الأوروبي بصفة عامة، وعلى الفيلسوف الإنجليزي «جون لوك» بصفة خاصة، فكانت في ذلك بمثابة من استقل بجسده ولم يستقل بروحه، وأين يكون استقلال الروح إذا كانت أوروبا لا تزال تضع لها المبادئ وتخطط لها مناهج التفكير؟
Unknown page
ولبث الأمر كذلك حتى جاء «رالف والدو إمرسن»
1
1803-1882م. فكان - كما يصفه «بروكس أتكنسن»
2 - «أول فيلسوف أمريكي الروح.» ألقى خطابا عام 1837م أمام الشباب المتخرج في جامعة هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي»،
3
فعد هذا الخطاب فيما بعد «إعلانا للاستقلال العقلي» في الولايات المتحدة، جاء مكملا «لإعلان الاستقلال» السياسي الذي سبقه بستين عاما، في هذا الخطاب التاريخي الخالد في تاريخ الثقافة الأمريكية، يقول «إمرسن»: «إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى، يقترب من نهايته، إن الملايين من حولنا، التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع أن تعيش دائما على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي.»
4 «إنه لا بد لكل عصر أن يكتب كتبه»
5 «ينشأ الشباب الذليل في المكتبات، وهم يعتقدون أن من واجبهم أن يقبلوا الآراء التي أدلى بها «شيشرون» و«لوك» و«بيكن»، ناسين أن «شيشرون» و«لوك» و«بيكن» كانوا شبابا في المكتبات (مثلهم) عندما ألفوا هذه الكتب؛ ومن ثم فبدلا من «الإنسان المفكر» يكون لدينا قراء الكتب، فتنشأ طبقة المتعلمين من الكتب، الذين يقيمون للكتب وزنا لأنها كتب، لا لأنها ترتبط بالطبيعة وتكوين الإنسان ... ومن ثم يظهر أولئك الذين يردون كل مقروء إلى أصله، ومصححو الكتب، والمولعون باقتنائها على اختلاف درجاتهم، الكتب خير الأشياء إذا أحسن استعمالها ، أما إذا أسيء فهي من شر الأمور، فما هو الاستعمال الصحيح لها؟ ما هو الغرض الوحيد الذي تهدف إليه كل الوسائل؟ ليس للكتب غرض سوى الإيحاء، وإنه لخير لي ألا أرى كتابا من أن يضللني الكتاب بجاذبيته عن مجالي ضلالا مبينا، أو أن أصبح تابعا بدلا من أن أكون صاحب رأي مستقل ... إنهم يتطلعون إلى الوراء لا إلى الأمام، ولكن العبقرية تنظر إلى الأمام، فالإنسان عيناه في مقدمة رأسه لا في مؤخرته.»
6 «إن أكبر فضل نعزوه إلى «موسى» و«أفلاطون» و«ملتن» هو أنهم أهملوا الكتب والتقاليد كل الإهمال، ونطقوا بما دار في خلدهم لا بما دار في خلد الناس، كل وفق ما أملاه عليه عقله.»
7 «لكننا اليوم رعاع، لا يقيم الإنسان لإنسانيته وزنا، ولم يتعلم أن يلزم داره ليتصل بمحيطه الداخل، بل يرحل إلى الخارج، يطلب كأسا من الماء من أوعية الآخرين، يجب أن نسير - في الفكر - وحدنا.»
Unknown page
8 «إننا نقلد ... نبني بيوتنا بذوق أجنبي، ونزين رفوفنا بأدوات الزينة الغريبة عنا، وآراؤنا وأذواقنا وكفاياتنا تخضع وتتبع الماضي والبعيد ... وما حاجتنا إلى تقليد النماذج الدورية والقوطية؟ إن الجمال وراحة الفكر وعظمته وغرابة التعبير قريبة منها قربها من أي إنسان آخر.»
9
هكذا طفق «إمرسن» يدعو إلى استقلال الفكر في قومه، لا، بل هكذا طفق يدعو كل إنسان فرد إلى الاستقلال بفكره والاعتماد على نفسه، والمرء إذا ما أنصت إلى صوت ضميره وأحسن الإنصات، جاءت فكرته - على أصالتها - معبرة عن حق يمكن لأي فرد آخر أن يدركه، ذلك لأن الفرد الواحد من الناس ليس في حقيقة أمره فردا مستقلا قائما بذاته، بل هو ممثل للإنسانية كلها، إذ الإنسانية كلها حقيقة واحدة متصلة شاملة، وإن تشعبت في رؤية العين أفرادا كأصابع اليد الواحدة تشعبت، لكنها مع ذلك أصابع يد واحدة، فسعادة الإنسان في فكره وفي عمله مرهونة بإدراكه لهذه الحقيقة العليا، وهي أنه حين يفكر وحين يعمل، إنما يفكر ويعمل لا بالأصالة عن نفسه فقط، بل بالنيابة عن الإنسانية كلها أيضا، إن هنالك «إنسانا واحدا» يتمثل في كل فرد من أفراد الناس، فإذا عمل الفرد عملا، «فالإنسان» الواحد العام هو الذي يعمل متخذا من ذلك الفرد المعين وسيلة للأداء، وإذا نبغ فرد في علم أو في فن، فكذلك هو «الإنسان» الواحد العام الذي نبغ، وإن يكن ذلك النبوغ قد ظهر في عالم الواقع عن طريق ذلك الفرد المعين، «ولا بد لك أن تأخذ الجماعة كلها لكي تجد هذا الإنسان كاملا، ليس الإنسان - الكلي العام - مزارعا فقط، أو عالما فقط، أو مهندسا فقط، إنما هو كل ذلك.»
10
فإذا رأيت أفراد المجتمع الواحد قد تخصص كل منهم في عمل بذاته، فهذا قسيس، وهذا عالم، وهذا سياسي، وذلك مزارع أو جندي محارب، فاعلم أن ذلك المجتمع المجزأ الأفراد إن هو في حقيقته إلا «إنسان» واحد، ذو عقل واحد، تفرع في هؤلاء الأفراد؛ ليعمل ما يريد أن يعمله عن طريق أعضائه، وإذن فالمهمة واحدة، والهدف واحد، والحياة واحدة، وإن يكن كل فرد قد أخذ منها بنصيب، لا ليكون ذلك النصيب خاصا به مقصورا عليه، بل ليكون هو النصيب الذي يؤديه بالنيابة عن بقية الأفراد، ولو نظر كل منا إلى نفسه على أنه وحدة مستقلة لكان ذلك شبيها ببتر الفرع عن جذعه، أو شبيها بتقطيع أوصال الجسم الواحد، بحيث يصبح كل عضو مبتور جزءا شائها في ذاته مهما بلغ في عمله أو فكره من كمال، فكأنما الناس في هذه الحالة يمشون على الأرض إصبعا وحدها، أو رقبة، أو معدة، أو ما شئت من أجزاء البدن، فمهما يبلغ كل جزء في أداء عمله من الجودة والإتقان فليس هو بالإنسان.
11
على هذا الأساس - لا على أساس الأنانية وحب الذات - يدعو «إمرسن» قومه، بل يدعو كل فرد من الناس، أن يستقل بفكره وأن يعتمد على نفسه، مستوحيا عقله، منصتا إلى صوت ضميره، لا يقلد ولا يتبع، «فالعبقرية هي أن تعتقد في رأيك، وأن تعتقد أن ما هو صادق في قلبك الخاص إنما هو صادق للناس جميعا، فانطق بعقيدتك الباطنية تكن هذه العقيدة قولا معقولا للعالم أجمعين.»
12
وكم يحدث لكل منا أن يدرك الفكرة المعينة في عقله، لكنه يمسك عن النطق بها استهانة بشأن نفسه، وإذا بهذه الفكرة عينها تجيء إليه في أقوال النوابغ العظماء، وعندئذ يتقبل رأيه الخاص صادرا إليه من غيره، فيأخذه شعور الخجل والصغار، بعد أن كان من حقه الفخار والاعتداد بالنفس لو أنه عبر عما كانت نفسه قد جاشت به في حينه.
انطق بما توحي إليك به نفسك الآن، فما دمت صادق التعبير عن ذلك الوحي، أمينا في نقله وتصويره؛ فقد أحسنت تمثيل العقل الأكبر الذي أنت جزء منه، قل ما يدور في عقلك الآن، ولا تخش أن يناقض قولا قلته أنت بالأمس، فالفزع من وقوعنا في التناقض كثيرا ما يفقدنا الثقة في أنفسنا، «هب أنك قد ناقضت نفسك، فماذا وراء ذلك؟ ... إن الثبات السخيف على رأي واحد هو فزع العقول الصغيرة هو الفزع الذي يخشاه صغار الساسة والفلاسفة ورجال الدين، أما الروح العظيم فلا شأن له بمثل هذا الثبات، وإلا فكأنه يأبه لظله فوق الحائط، انطق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية، وانطق غدا بما تفكر فيه غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى إن ناقض كل ما قلته اليوم.»
Unknown page
13
لماذا ينقل الأمريكي فكر زميله في أوروبا أو في أي جزء آخر من أجزاء العالم؟ بل لماذا يقلد أي فرد أي فرد آخر، وكل فرد يمثل الحقيقة العليا التي يمثلها زميله سواء بسواء، وإن اختلف الجانب الذي يمثلها فيه؟ «اعتمد على نفسك، ولا تقلد أبدا، لك في هذه اللحظة رسالة جريئة عظيمة كرسالة إزميل «فدياس» الضخم، أو مسطار المصريين، أو قلم «موسى» أو «دانتي»، ولكنها تختلف عن كل هؤلاء، إن الروح الفنية الفصيحة ذات اللسان الذي له ألف شق، لا يمكن أن ترضى بتكرار نفسها، لكنك لو استطعت أن تصغي إلى ما يقوله هؤلاء الشيوخ أمكنك يقينا أن تجيبهم بصوت مرتفع كصوتهم؛ لأن الأذن واللسان عضوان من طبيعة واحدة، فالزم دائرة حياتك الساذجة النبيلة، وأطع قلبك، تستعد الدنيا القديمة مرة أخرى.»
14
ليس بين الأفراد من التفاوت بالقدر الذي يتوهمون ، «فالفروق بين الناس في مواهبهم الطبيعية تافهة إذا قيست إلى ثروتهم المشتركة.»
15
كيف لا، ولكل عقل طريقته في التعبير عما يدور فيه من حقائق نفسه، وكل عقل إنما يكشف عن سر نفسه، ولا يستطيع أن يكشف عن سر عقل سواه «وهل تحسب أن حارس الباب أو الطاهي ليست له قصص أو تجارب أو عجائب؟ كل فرد يعرف بقدر ما يعرف العالم، فجدران العقول الساذجة مخططة كلها بالحقائق والأفكار، ولسوف تظفر ذات يوم بمصباح وتقرأ المخطوط.»
16 «أنعم النظر فيما يستهويك في «فلوطارخس» و«شكسبير» و«سرفانتيز»، تجد أن كل حقيقة يحصل عليها كاتب هي مصباح يسلط كل ضوئه على الوقائع والأفكار التي كانت من قبل في عقله، ثم انظر إلى ما يحدث بعد ذلك، ترى الحصير والمهملات التي كانت منتثرة في برجه قد أصبحت أشياء ثمينة، فكل واقعة تافهة في تاريخ حياته الخاصة تمسي وسيلة لإيضاح هذا المبدأ الجديد، وتعود إلى وضح النهار، وتستهوي الناس جميعا بقوتها وسحرها الجديد، ويتساءل الناس: أنى له هذا؟ ويظنون أن في حياته شيئا مقدسا، كلا، إن لديهم ألوف الوقائع التي لا تقل عن ذلك قيمة، وما عليهم إلا أن يحصلوا على مصباح ينبشون في ضوئه - هم كذلك - الطبقات العليا من ديارهم.»
17 «ليس «بيكن» أو «سبينوزا» أو «هيوم» أو «شلنج» أو «كانت» أو غيرهم، ممن يعرضون عليك فلسفة عقلية، إلا مترجما للأشياء التي في وعيك، والتي لك أنت كذلك سبيلك إلى رؤيتها، وربما إلى التعبير عنها أيضا وترجمته محرفة قليلا أو كثيرا، فقل إذن إنه لم ينجح في أن يرد إليك وعيك، بدلا من أن تنكب متخاذلا على معانيه الغامضة، إنه لم ينجح، فدع الآن غيره يحاول، وإذا كان أفلاطون لا يستطيع، فربما استطاع «سبينوزا»، وإذا لم يستطع «سبينوزا» فربما استطاع «كانت»، وعلى أية حال فلسوف تجد بعد هذا كله أن ما يرده إليك الكاتب ليس أمرا عويصا، ولكنه بسيط طبيعي مألوف.»
18
لما انطلق «إمرسن » يملأ مسامع قومه بهذه الدعوة إلى أن يستقل الإنسان بفكره؛ وبالتالي إلى أن يستقل الأمريكيون بتفكيرهم، كان في الحقيقة صادرا في دعوته تلك عن ثورة عميقة على رجال «التنوير» والثورة، يقتلع الفلسفة التي بنوا عليها نظريتهم السياسية من جذورها ويهدمها من أساسها، ألم يكن مصدر هؤلاء الساسة علم «نيوتن» وفلسفة «لوك»؟ ثم أليس ذلك العلم وهذه الفلسفة قائمين على المشاهدات الحسية والتجارب، فعلم الطبيعة يبنى على شهادة الحواس، وفلسفة «لوك» تدور حول خبرة الحواس تحللها وتصنفها؟ ولكن ما بالحواس يدرك الإنسان حقائق الأشياء، وإن أدرك بها ظواهرها، وإنما يكون العلم بحقيقة الكون بوسيلة أخرى غير الحس، هي وسيلة الحدس، أو العيان العقلي المباشر، وهل يدرك الإنسان ذاته بالبصر أو بالسمع؟ كلا، إن الإنسان ليدرك ذاته وفحواها بالنظر الداخلي إلى نفسه فيراها رؤية مباشرة، وهكذا يكون إدراك الحق كيفما كان.
Unknown page
هي نزعة مثالية سادت بعد الموجة التجريبية التي اشتملت التفكير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ نزعة مثالية لم يقتصر أمرها على أمريكا، بل فاضت من ينبوع المثالية الألمانية كما تدفق في فلسفة «كانت» و«شلنج» و«هيجل»، وكان مجرى الفيض ذا شعبتين: فشعبة منهما اندفقت في إنجلترا على يدي شاعرها «كولردج» (1772-1834م)، واندفقت الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية على لسان شاعرها «إمرسن»، وقد يكون أقرب إلى الصواب أن نقول: إن المثالية الألمانية وجدت في الشاعر الإنجليزي «كولردج» مؤيدا ونصيرا، فقرأ الأمريكيون ما كتبه «كولردج» وتأثروا به؛ ومن ثم أخذ تيار الفكر بينهم ينحرف من تجريبية «لوك» التي سادت عصر التنوير والثورة إلى مثالية الألمان بصفة عامة ومثالية «هيجل» بصفة خاصة.
ولم يكن هذا الاتجاه المثالي في فلسفة النصف الأول من القرن التاسع عشر - في أوروبا وفي أمريكا على السواء - إلا جانبا من النزعة الرومانتيكية التي اصطبغ بها الأدب والفكر بصفة عامة إبان تلك الفترة، فلئن كان القرن الثامن عشر عصرا ساده تغليب العقل ومنطقه في العلم وفي الفلسفة وفي الأدب جميعا، حتى لقد أطلقوا عليه بحق اسم عصر «التنوير » وهم يقصدون بالكلمة اعتماد الإنسان على عقله يعلل به كل ما أشكل عليه من جوانب الحياة والطبيعة؛ فقد جاء القرن التاسع عشر في نصفه الأول ردا لفعل حركة التنوير، فكانت الرومانتيكية في الأدب، وكانت المثالية في الفلسفة، وكانت العودة إلى الإيمان في الدين، بل امتزجت هذه الاتجاهات كلها بعضها ببعض، وأصبح مزيجها طابع ذلك العصر.
فالمثالية في الفلسفة إذا نظرت إليها من زاوية الدين، وجدتها سخطا على النتائج التي ترتبت على المبادئ العقلية خلال حركة «التنوير» مما يمس العقائد الدينية، إذ انتهت تلك الحركة إما إلى إنكار صريح لتلك العقائد، كما حدث في فرنسا مثلا، وإما إلى تنكر للعقائد التي تبنى على الخرافة والتصديق، ومحاولة إقامة مجموعة أخرى من العقائد محلها تتفق مع المنطق العقلي، ومع العلم ومع شهادة الحواس، فأراد المثاليون أن يركنوا إلى وسيلة أخرى لإدراك الله والإيمان بوجوده غير وسيلة العقل والحس، فجعلوا الحدس - أي العيان العقلي المباشر - وسيلة الاتصال بين الإنسان وربه، فبهذا الإدراك الحدسي المباشر يجاوز الإنسان حدود الطبيعة المحسوسة وحدود العقل وشروطه، بل يجاوز النصوص التقليدية والكنائس ونظامها، يجاوز كل ذلك إلى الحق الكائن وراءها، أو إن شئت فقل إنه حق كائن فوقها جميعا، فيستطيع الاتصال بالله صلة مباشرة، فيعرفه معرفة اليقين، وبهذا تكون الطبيعة ونظامها من شأن العلم وأداته التي هي العقل والحواس، وأما ما فوق الطبيعة، وهو الحق المطلق من قيود الزمان والمكان، فيكون من شأن الدين، وأداته في الإدراك هي الحدس، وإذا نظرت إلى المثالية في الفلسفة من زاوية السياسة وجدتها كذلك تخدم الديمقراطية في أغراضها، ألم يؤسس قادة الثورة السياسية مذهبهم في حقوق الإنسان على أن هذه الحقوق جزء من طبيعة الإنسان يولد بها ولا يمنحها أحد لأحد؟ ثم ألم يبنوا طبيعية الحقوق الإنسانية على أساس من فلسفة «لوك» في تحليل العقل الإنساني وطريقة إدراكه للأشياء الخارجية كما فصلنا ذلك في الفصل الأول؟ فهكذا يفعل أنصار الفلسفة المثالية أيضا؛ إذ يقولون إن إدراك الله بالحدس المباشر جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان، لا فضل فيه لأحد على أحد، والناس جميعا في هذه القدرة سواء، فيكفي أن يكون الإنسان إنسانا لتكون له القدرة على استخدام حدسه في الإدراك، وإذن فللناس جميعا قيمة إدراكية واحدة متساوية، فهم من الوجهة الروحانية سواء؛ وبالتالي فهم من الوجهة السياسية سواء كذلك.
كذلك إذا نظرت إلى المثالية الفلسفية من وجهة نظر الإصلاح الديني، ألفيتها أداة نافعة، فالمثاليون - كالتجريبيين من قبلهم - متفقون على أن الكنيسة لا بد أن تحطم قيودها الجامدة، أو يحطموا هم قيودها المفروضة عليهم، فيحرروا أنفسهم من الاعتقادية الساذجة؛ لأنه إذا كان الإدراك الحدسي هو مدار المثالية، أي إنه إذا كان في مستطاع الإنسان بحكم طبيعته أن يحدس الله حدوسا مباشرا، فما ضرورة الكنيسة ونظامها ورجالها لسلامة العقيدة؟ إن الصلة بين الإنسان وربه صلة مباشرة قبل كل شيء، وكل ما يحول دون هذه الصلة الإدراكية المباشرة فهو عقبة في سبيل الوصول إلى الحق جديرة بالازدراء والإهمال، والعلم والكنيسة معا يحولان دون الحدس وإدراكه للحقيقة المطلقة، أما العلم فلأنه يقيد الإنسان بقيود المشاهدات الحسية والتجارب العلمية، وما ليس يطرد وقوعه من الظواهر لا قيمة له في رأي العلم، وهذه القيود إنما تعطل إدراك الإنسان بغير موجب، فماذا لو جاوز الإنسان بجناحي إدراكه الحدسي حدود المشاهدات والتجارب واطراد الظواهر؟ وأما الكنيسة فهي الأخرى تضع من أصفاد نظامها ما يستحيل معه التفكير الحر الذي ينفذ إلى الحقيقة فيراها مباشرة كما ترى العين ضوء الشمس، وفي ذلك يقول «ثورو» - الذي سنحدثك عنه بعد قليل: «لا بد أن تخرج من المسيحية لتدرك ما في حياة المسيح من جمال ومغزى.»
لقد أخطأ رجال اللاهوت السابقون - في رأي المثاليين الذين نحن الآن بصدد الحديث عنهم - أخطئوا حين ظنوا أننا ندرك وجود الله من وجود مخلوقاته، فذلك لا يكون إلا اعتمادا على الحواس من جهة، والعقل من جهة أخرى، أما وجود الله في رأي المثاليين فمفارق للطبيعة مجاوز لحدودها، فلسنا بحاجة إلى حس أو عقل، بل نحن بحاجة إلى حدس ندرك به وجود الله في الجوانب الإلهية التي في طبائعنا، إن الإنسان شبيه الله ، فحسبك أن تحدس ذاتك لتدرك فيها وجود شبيهها، وعندئذ يصبح الله موجودا وجودا حقيقيا يقينيا، ولن تكون بعد ذلك بحاجة إلى كتاب أو إلى قسيس يهديك إلى وجوده.
ها هي ذي نزعة دينية تقف موقفا وسطا بين طرفين، فلا هي الاعتقادية الجامدة التي تنبني على اللاهوت القديم، ولا هي إلحاد أو ما يشبه الإلحاد مما قد ترتب على حركة التنوير العقلي، والفلسفة التي يقوم عليها هذا اللون الوسط من التدين هي المثالية الألمانية، وخصوصا مثالية «هيجل» التي تولى نشرها في إنجلترا شاعرها «كولردج»، ثم كان بين ناشريها في الولايات المتحدة شاعرها «إمرسن»، فما هي مثالية «هيجل» في خلاصة قصيرة؟
يبني «هيجل» (1770-1831م) فلسفته على فكرة «المطلق»، ومؤداها أن الأفراد الجزئية التي نراها في الطبيعة المحسوسة من حولنا، إن هي إلا صور تبدت فيها روح كانت في بداية أمرها مطلقة من قيود المكان والزمان، أي إنها لم تكن تعلن عن نفسها في نقطة معينة من المكان ولا في لحظة معينة من الزمان؛ لأنها لا مكانية ولا زمانية، هي روح لم تبدأ في سلسلة الزمن بلحظة معينة، ولن تنتهي في سلسلة الزمن عند لحظة معينة، بل هي أزلية أبدية، ثم أعلنت تلك الروح عن نفسها في الطبيعة وكائناتها إعلانا كان في بداية أمره مقتصرا على درجة دنيا من اللاشعور، ثم صعدت على درجات من التطور حتى عادت فاستيقظت شعورا ووعيا في الإنسان، وستعود الروح المطلقة إلى نفسها من جديد مدركة لنفسها إدراكا كاملا، وإذن فكل شيء في الوجود هو تلك الروح المطلقة، أو ذلك العقل المطلق، قد عبر عن نفسه على هذه الصورة أو تلك، كما يعبر الشاعر - مثلا - عن نفسه في قصائد مختلفة تتفاوت في درجة الكمال، لكنها على تفاوتها تفصح عن نفس قائلها، وكما تنظر إلى كل قصيدة في ديوان الشاعر، فترى خلالها روح الشاعر، فكذلك تستطيع أن تنظر إلى كل كائن في الطبيعة من حولك: إلى هذه الجبال والأنهار والأشجار والحيوان والإنسان، فترى في كل واحد منها ذلك العقل المطلق قد بسط نفسه في كائن جزئي متعين، وهكذا تكون الطبيعة بكل ما فيها عقلا مرئيا مسموعا - إن صح هذا التعبير - ولا سبيل إلى فهم كائن جزئي إلا بنسبته إلى ذلك الكل المطلق الشامل.
وقد تنظر إلى كائن جزئي، كهذه الشجرة أو هذا الطائر أو ذلك الفرد من بني الإنسان، فيخيل إليك أنه كائن قائم بذاته مستقل بنفسه، لكن أمعن النظر قليلا تجده في حقيقة أمره جزءا من كل، وأن هذا الكل هو الكون بأسره، فكيف تدرك هذه الشجرة - مثلا - إدراكا تاما إلا إذا أدركت علاقتها بالأرض التي تنبتها وتغذيها، وبالماء الذي يرويها، وبالشمس التي تنميها؟ ثم كيف تدرك الأرض والماء والشمس، كلا بدوره، إلا إذا أدركت علاقاته بسائر أجزاء المجموعة الشمسية؟ والمجموعة الشمسية بدورها لا يتم العلم بها إلا بعد العلم بما يصلها بسائر الكون من روابط وصلات، إن شأن الكائن الجزئي في هذا الصدد كشأن النظرية الواحدة في سلسلة النظريات الهندسية عند إقليدس، لا تفهم على حدة، بل لا بد لفهمها وإدراكها إدراكا كاملا من إدراك الروابط المنطقية التي تصلها بما قبلها وبما بعدها من نظريات، لا بد أن نعلم كيف جاءت نتيجة لسوابقها، وكيف تكون مقدمة للواحقها، وبهذا يتكون من مجموعة النظريات نسق واحد، لا يمكن فهم جزء من أجزائه إلا في ضوء العلم بسائر الأجزاء، كما أن سائر الأجزاء لا يمكن العلم بها إلا مع صلتها بذلك الجزء الواحد، وهكذا قل في الكون وأجزائه، الذي هو العقل المطلق قد حقق نفسه وأعلن عنها، فالكون بشتى أجزائه نسق متصل، كل جزء من أجزائه مرتبط بسائر الأجزاء، وإن بدا أمام العين منفصلا مستقلا قائما بذاته، هذا الكل المترابط إن هو إلا كائن عضوي واحد، لم توضع أجزاؤه وأعضاؤه وضع التجاور في المكان والتعاقب في الزمان، دون أن يكون بينها فوق ذلك صلة عليا تربطها معا، كلا بل هي كأعضاء الكائن العضوي الحي، متصل بعضها ببعض على نحو يجعل الكائن كله متمثلا في كل عضو من أعضائه، وتجعل كل عضو مستحيل الفهم إلا على ضوء الكل الذي يحتويه.
إن حصر الانتباه في كائن جزئي واحد على أنه وحدة مستقلة بذاتها، قد يوهم الرائي أن الكون ينطوي على أضداد، حين يرى في جنبات الكون من الحقائق الجزئية ما يعاند بعضها بعضا، لكن هذه الأضداد سرعان ما يتبين لنا أنها في حقيقة الأمر أجزاء من كل متناسق، إذا ما علونا بالنظر إليها بحيث رأينا كل ضد منها - لا هو جزئي مستقل قائم وحده - بل رأيناه في صلاته بغيره، فعندئذ يتبين في جلاء أن كل جزء موجود من أجل الكل وبسببه، ولكن على الرغم من أن الأجزاء كلها ضرورية لا بد من وجودها، فإنها تقف إزاء بعضها موقف التفاوت ضعة ورفعة في سلم التطور والترقي، المراتب السفلى منها تنتقل إلى العليا، ولكنها لا تنمحي من الوجود في عملية الانتقال، وكل ما يحدث لها هو التحول من صورة سفلى إلى صورة عليا، «إن كم الزهرة يختفي إذا ما تفتحت الزهرة، فيخيل إليك أن بين الكم والزهرة تضادا، ثم تجيء الثمرة بعدئذ، فتعلن بوجودها أن الزهرة صورة دنيا من صور وجود النبات، وهكذا تنتقل حقيقة كل واحدة منها إلى حقيقة الأخرى، وليست هذه الصور متميزا بعضها عن بعض فحسب، بل إن الواحدة منها لتسحق الأخرى باعتبارها مضادة لها، ولكن طبيعتها التي تسري فيها كلها تكون منها دقائق من الوحدة العضوية التي تتآخى فيها، فلا تعارض إحداها الأخرى، بل إن الأمر بينها لا يقف عند حد عدم التعارض، ولكن كلا منها يكون لوجوده من الضرورة ما للأخرى تماما، ومن هذه المساواة بين الأجزاء في ضرورة وجودها تتألف حياة الكل الذي يحتويها جميعا.»
هكذا يعرض العقل المطلق نفسه في الطبيعة على مراحل متعاقبة يرتبط بعضها ببعض بنفس الروابط التي تصل أجزاء الفكر بعضها ببعض، ومن هنا كان منطق العقل هو نفسه منطق الطبيعة، أو - بعبارة أخرى - كان الفكر من جهة، والحقيقة الخارجية من جهة أخرى كائنا واحدا، الثانية منهما تعبير عن الأولى، والأولى منهما متحققة في الثانية ، إن الوحدة التي تربط الفكر من جهة والطبيعة من جهة أخرى ليست هي مجرد الصلة بين طرفين، بل هي وحدة أعلى من الطرفين معا؛ إذ لا ينبغي أن تعد الطبيعة وجودا آخر إلى جانب العقل الذي يدركها؛ لأن الطبيعة هي جزء من حياة العقل نفسه.
Unknown page
على ضوء هذه الفلسفة المثالية الهيجلية تستطيع أن تفهم «إمرسن» في شتى نواحيه، تستطيع أن تفهمه حين يتخذ من الحدس وحده وسيلة الإدراك الحقيقي، إذ كيف تدرك العقل المطلق المتحقق في الطبيعة إذا قصرت نفسك على حواسك ومشاهداتها، أو على عقلك وحجاجه، وتستطيع أن تفهمه حين يقرر أن الفرد الواحد من بني الإنسان ليس في الحقيقة فردا منفصلا بذاته، بل هو «العضو المنتدب» من قبل الروح المطلق الذي نحن جميعا ممثلوه، فالزارع - مثلا - ليس زارعا لنفسه فحسب، بل هو زارع «بالنيابة» عن الحقيقة الكلية التي نحن أعضاؤها، ونستطيع أن نفهمه حين يتنكر لعلم الطبيعة في طريقة فهمه للطبيعة؛ لأنه يقف عند الجزئيات الظاهرة، مع أن الطبيعة في حقيقتها تعبير واحد متصل الأجزاء عن عقل مطلق يعبر عن نفسه فيها، وسبيل معرفة ذلك هو حدس المتصوف لا منظار العالم، وتستطيع أن تفهمه حين يجعل الفكر والطبيعة خطين متوازيين، فلا واقعة أو حادثة من وقائع الطبيعة وحوادثها إلا ولها أصل يصورها في الفكر.
بعد أن أتم «إمرسن» دراسته الدينية في جامعة «هارفارد» عام 1829م، عين واعظا في الكنيسة التي كان أبوه راعيا لها - فهو سليل أسرة عريقة من رجال الدين - لكنه سرعان ما تبين هوة سحيقة تفصل بينه وبين سامعيه، كان قد قرأ المثالية الهيجلية كما نقلها «كولردج» شاعر الإنجليز عندئذ، فتأثر بما قرأ، وأخلص لفكرته التي انتهى إليها، فبعدت مسافة الخلف بينه وبين من يختلفون إلى الكنيسة ليسمعهم الموعظة، فلم يجد بدا من الاستقالة؛ إذ استحال عليه أن يوفق بين واجب مهنته وإملاء ضميره، فسافر إلى أوروبا لعله مسترد بهذه الرحلة عافية لجسده العليل، وصحة لروحه التي أحس كأنما هي ريشة في مهب العواصف، فقصد - فيما قصد إليه من ربوع أوروبا - إلى إنجلترا حيث التقى بأبطاله في الفكر والروح؛ «كولردج» و«وردزورث» و«كارلايل»، ثم عاد إلى وطنه الأمريكي بعد عام وهو معافى البدن، مستقر الروح على هدف لم يعد يحيد عنه، وكانت الفكرة الرئيسية التي كشف عنها الغطاء في نفسه - كشف عنها كشفا مستقلا عن كل قراءة قرأها أو رأي استمع إليه - هي أن في مقدور الإنسان أن يرى الله في أعماق قلبه، وأنه إذا أنصت الإنسان إلى ضميره بأذن مصغية واعية سمع صوت الله في دخيلة نفسه، فإن كان ذلك كذلك فقد أصبح واجبه أن يهدي الناس إلى ما اهتدى إليه.
ولم يكد يستقر به المقام عاما بعد عودته من أوروبا إلى بلاده، حتى أخرج سنة 1836م كتابا صغيرا أسماه «الطبيعة» عبر فيه عن هذا الكشف الروحي، ونشر من كتابه هذا خمسمائة نسخة غفلا من اسم المؤلف، لكن الكتاب لم يصادف عند القارئين رواجا، رغم اللقاء الجميل الذي تقبله به «كارلايل».
وفي العام التالي - عام 1837م - ألقى خطابه المشهور في هارفارد، بعنوان «العالم الأمريكي» الذي توجه بالكلام فيه إلى قادة الفكر في بلاده، ثم في العام الذي تلاه - عام 1838م - ألقى خطابه العظيم «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» قصد به إلى القائمين بالوعظ الديني، ويمكن القول بصفة عامة إن حياته الفكرية بعد ذلك جاءت تعليقات وشروحا وتفريعات لما ورد في هذه الأعمال الثلاثة: كتاب الطبيعة، والخطابين المذكورين.
والفكرة الرئيسية الأولى هي - كما أسلفا - أن الحدس - الاتصال الروحاني المباشر - وسيلة إدراك الحقيقة المطلقة التي تعلن عن نفسها في الطبيعة وكائناتها، كل حالة من حالات الإدراك الحدسي قائمة بذاتها، تستمد صوابها من نفسها، لا تعتمد على مقدمات تسبقها أو نتائج تلزم عنها، الإدراك الحدسي صوابه يقيني حتى إذا ناقض ما سبقه وما تلاه، فمثلا عندما هجم في خطابه «إلى المتخرجين في كلية اللاهوت» على المسيحية كما تظهر في الشعائر الكنسية والتقاليد الدينية، طالبه رجال الدين عندئذ بالحجة التي تؤيده، فقال: لا حجة عندي، بل لست أعرف كيف يمكن أن تتأيد الفكرة بالحجة، فهكذا أرى الحق بحدسي، ومع ذلك فليس ما يراه الفرد الواحد في دخيلة نفسه بحدسه بمقتصر - من حيث صدقه - على ذلك الفرد وحده، بل إن ما يهتدي به الفرد الواحد من نظره إلى دخيلة نفسه صالح كذلك لهداية سائر أفراد البشر، «إن الله يدخل إلى كل فرد من باب خاص.»
19 «والتفكير كالوحي يهبط على الرجل التقي.»
20
فقد يقول الإنسان لنفسه وهو يفكر في فكرة تراوغه وتفلت منه: «سوف أمشي خارج بيتي وعندئذ ستتخذ الحقيقة صورتها وتتضح، ثم تنطلق، ولكنك لا تعثر عليها، ثم يبدو لك أنك بحاجة إلى السكون والجلسة الهادئة في المكتبة لتظفر بالفكرة، ولكنك تدخلها، فإذا هي بعيدة عنك كما كانت، ثم ما هي إلا أن تظهر لك الحقيقة في لحظة وعلى غير انتظار، إذ يظهر لك ضوء شارد، وفي وضحه يظهر لك المبدأ الذي تنشده.»
21
وإذا ما أدرك الفرد الواحد صوابا، كان ذلك الصواب صوابا عند كل إنسان آخر «فطبيعة كل فرد هي إعلان كاف له عن خصائص زملائه، الصواب والخطأ عندي هما الصواب والخطأ عندهم.»
Unknown page
22
الفرد الواحد ممثل للبشرية كلها لو أخلص حدس نفسه والتعبير عنها، فليس التمثيل النيابي في عالم السياسة - ذلك التمثيل الذي يعتمد على عد الأصوات - بشيء يذكر إلى جانب التمثيل الروحاني الذي يجعل فردا بعينه لسانا ناطقا معبرا عن زملائه في الإنسانية، مع أن هذا النائب الروحاني الناطق المعبر عن البشرية كلها يختار نفسه ولا يختاره أحد، وحسبه للظفر بهذا الشرف أن يحسن النظر إلى طبيعة ذاته، وأن يحسن الإنصات إلى صوت ضميره؛ لأن ذلك الصوت إن هو إلا صوت الله في صدره وفؤاده، إن المتأمل في نفسه، الصادق في التعبير عنها، إنما يجاوز حدود نفسه إلى حيث الوجود في قلبه وصميمه، يجاوزها إلى حيث الله «إن المتحمسين للدين ليتفقون في نهاية الأمر مع أبرد المتشككين نفسا على أننا (في الخلق الفني والإبداع الفكري) لا نأتي بشيء من عندنا، ومن نتاج عملنا، إنما كل شيء من الله ... كل كتابة تهبط علينا بفضل من الله، وكذلك كل عمل وكل ما نملك.»
23
ألا ما أكثر أن يريد الفرد شيئا، فإذا هو منتج لشيء آخر «إن نتائج الحياة لم تحسب ولا يمكن حسابها، والأشخاص الذين تتألف منهم صحبتنا، يتحدثون ويجيئون ويذهبون، ويصممون وينفذون الكثير، وينجم عن كل هذا أي شيء إلا ما نتوقع من نتائج.»
24
يخطئ الفرد دائما إذا ما ظن أنه قد حسب لكل شيء حسابه، فهنالك عقل كلي، ما عقول الأفراد إلا أجزاء منه، كل واحد منا تجسيد لذلك العقل الكلي؛ فهو يستطيع أن يتصل بذلك الكل اتصالا مباشرا ليستوحيه الحق، فإن فعل كان بذلك ممثلا لسائر الأفراد؛ لأنه عندئذ إنما يحيا حياة العقل الكلي لا حياة عقله الفردي باعتباره فردا مستقلا «إنني حين أقف على الأرض العارية ورأسي مغموس في الهواء الطاهر مشرئبا إلى اللانهائي، تزول عني فرديتي الوضيعة، وأصبح كإنسان العين شفافا، أصبح (بذاتي) لا شيء، لكني عندئذ أشهد الحقيقة الكلية، وتدور في نفسي تيارات الوجود الكلي.»
25
يريد «إمرسن» للإنسان أن يدرس الطبيعة، لكن أي طبيعة يعني؟ ليست هي الطبيعة التي قصد إلى دراستها «نيوتن»، الطبيعة الثابتة في اطراد ظواهرها، والتي تسير في مجراها بغض النظر عن الإنسان، بل الطبيعة التي يطويها الإنسان تحت سلطان شعوره الذاتي، هي طبيعة الشاعر لا طبيعة العالم، هي الطبيعة بعد أن نضفي عليها أنفسنا وحياتنا وفكرنا ومشاعرنا، هي الطبيعة التي نجدها مفرقة موزعة مجزأة فننسقها كونا واحدا، بحيث نرى العلاقة بين الشمس الطالعة وزقزقة العصفور، هي الطبيعة كما تلتقي فيها خيوط الإنسان الروحية، فتكون ملكا له لا تلك التي يخضع لها الإنسان، ويكون ملكا لها، لو نظر الإنسان إلى الطبيعة هذه النظرة التي تجعلها جزءا منه، أو إن شئت فقل تجعله جزءا منها، فعندئذ يزول شعور الإنسان بانفصاله عنها، ولا تصبح ثنائية بين الذات من جهة والموضوع من جهة أخرى، بل تصبح الذات العارفة والموضوع المعروف شيئا واحدا متصل الوجهين، عندئذ يشعر الإنسان شعورا حيا بما بينه وبين الطبيعة من وشائج القربى، إن الطبيعة لا تبوح بسرها لمن يتناولها كما يتناول الجثة الميتة يشرحها بمبضعه، بل تبوح بسرها الدفين لمن يقبل عليها إقبال العاشق، إقبال من يريد أن ينمحي في أحضانها، فلئن كان العالم يبحث في الطبيعة عن وجهها الموضوعي الثابت الذي لا يتغير على مر الزمان، فالشاعر ينشد فيها وجوهها المتغيرة أبدا المتجددة أبدا، فهذه الطبيعة الحية الدفاقة هي وحدها التي تعكس للإنسان حالاته في حالاتها، تعبس لعبوسه وتفرح لفرحه.
وما كل إنسان بقادر على أن يصعد في إدراكه للطبيعة إلى هذه القمة إلا بعد تدريب وتهذيب، فهنالك - على وجه الإجمال - درجات أربع في علاقتنا بالطبيعة، تتفاوت فيما بينها انخفاضا وارتفاعا، وكلما ازداد الإنسان روحانية في علاقته بالطبيعة صعد في تلك الدرجات الأربع درجة بعد درجة، وأولى تلك الدرجات وأدناها هي علاقة المنفعة، فمن الطبيعة نأكل ونرتوي ونصنع الثياب والمنازل، وحتى في هذه الدرجة الدنيا تستطيع أن ترى أنه بغير الحب الإلهي يكون محالا على الطبيعة أن تنفع وعلى الإنسان أن ينتفع؛ ذلك لأن المنفعة لا تتم في كل حالة من حالاتها إلا بسلسلة طويلة من تعاون الأجزاء واتساق الظواهر الطبيعية، بحيث تنتهي إلى النتيجة المطلوبة لنفع الإنسان، فلا الشمس وحدها ولا الريح ولا المطر ولا النبات ولا الحيوان وحده ينفع الإنسان، بل لا بد من اجتماع هذه العناصر كلها متعاونة متناصرة متآخية «فالريح تبذر الحب، والشمس تبخر ماء البحر، والريح تدفع البخار إلى الزرع، والمطر يروي النبات، والنبات يطعم الحيوان.»
26
Unknown page
وكل ذلك ضروري لغذاء الإنسان.
وتأتي بعد درجة الانتفاع المادي درجة أعلى، هي أن أدرك ما في الطبيعة من جمال، إنك قد تنظر إلى الثمرة نظرتك إلى الغذاء، لكنك كذلك قد تنظر إليها نظرتك إلى الشيء الجميل قد سواه الله وصوره، فأكمل التسوية والتصوير، ها هنا في هذه المرحلة تزداد فاعليتك الخالقة؛ إذ تضفي على الطبيعة من نفسك كمالا من كمالها، وجمالا من جمالها ، وفي هذه المرحلة أخلاق وفيها تفكير، أما الأخلاق ففي اتساق النغم بينك وبين مشاهد الطبيعة؛ إذ ستكون العلاقة بينك وبينها أقرب شيء إلى العلاقة بين العازف والآلة التي يعزف عليها، وهل الفضيلة إلا الجمال؟ كلاهما في الاتساق والتناغم، الفعل الفاضل هو الذي يلتزم الحدود المعقولة، وكذلك الشيء الجميل، وأما التفكير فهو في إعمال الإنسان فكره في هذا الجمال الذي يشهده، الجمال والفضيلة والفكر كلها جوانب متصل بعضها ببعض، الحق والجمال والخير ثلاثة خيوط من نسيج واحد، فبالحق ندرك ما ندركه، وبالجمال نقدره ونعشقه، وبالخير نفعل الصواب الذي يمليه إدراكنا للحق، وإحساسنا بحبه، وهذه النواحي الثلاث كلها متضمنة في إدراكنا للطبيعة من الوجهة الجمالية؛ لأن إدراك الجمال وحده كاف لخلق الفضيلة والكشف عن الحق.
والدرجة الثالثة في علاقة الإنسان بالطبيعة هي إدراكه لما بين وقائعها وحوادثها من جهة، وفكره من جهة أخرى من تواز، فكل ما يجري في الطبيعة له صورته في فكر الإنسان؛ إذ بين الأفكار والأشياء تطابق تام كامل، بحيث يستحيل أن يكون هنالك فكرة بغير مدلولها في الطبيعة، أو أن يكون في الطبيعة شيء دون أن تقابله حالة من حالات الفكر والروح، والعقل - أو الروح - بصفة عامة تقابله الطبيعة بصفة عامة، وإذن فهناك التقابل بين الكل الروحي والكل الطبيعي، كما أن هنالك التقابل بين كل حالة هنا وحالة هناك، ولما كان تسلسل الحالات العقلية هو نفسه تسلسل ظواهر الطبيعة، كان منطق الفكر هو نفسه منطق الأشياء، لا فرق بين ما يحدث في العقل، وما يحدث في الطبيعة الخارجية «قانون الأشياء هو كذلك قانون العقل البشري، يكتشف الفلكي أن الهندسة - وهي تجريد مطلق للعقل البشري - هي قياس حركة الكواكب، ويكتشف الكيميائي النسب والقواعد المعقولة في المادة كلها، وليس العلم سوى كشف التشابه، والتطابق الذي يكون بين الأجزاء التي تبدو متباينة متباعدة، وهكذا يلمح الصبي الدارس، وهو تحت قبة النهار المستديرة أنه هو والطبيعة قد نشآ من جذر واحد، أحدهما ورقة والآخر زهرة، سوف يرى أن الطبيعة تجابه الروح، وتجيبها جزءا بجزء، أحدهما خاتم والثاني مختوم، جمالها جمال عقله، عندئذ تصبح الطبيعة لديه هي مقدار ما يحصله ، وبمقدار ما يجهل من الطبيعة يكون القدر الذي لا يملكه من عقله، وفي عبارة موجزة يصبح المبدأ القديم: «اعرف نفسك» والمبدأ الجديد: «ادرس الطبيعة» في النهاية مبدأ واحدا.»
27
وآخر الدرجات الأربع التي يتدرج فيها الإنسان مع ارتقائه في علاقته بالطبيعة، هي درجة الرياضة الروحية التي يرتاضها الإنسان عندما يتعلم من الطبيعة كيف تتسق الأجزاء في كل واحد متزن متجاوب موصول الأطراف، عندما يتعلم أن الطبيعة على اختلاف كائناتها، وتنوع مخلوقاتها إن هي إلا وحدة واحدة تستهدف غاية وتسير نحوها، ألا إن بين كائنات الكون من أوجه الشبه ما يزيد كثيرا على ما بينها من أوجه الاختلاف، إن كل شيء في جنبات الطبيعة، من الحيوان الأدنى إلى الإنسان الأعلى، صارخ بقوانين الصواب والخطأ، في الطبيعة وحدة وثيقة العرى، حتى ليستحيل أن تكون بغير روح كلي واحد منبث فيها، تراه في الفكر ومنطقه كما تراه في الأشياء وتسلسلها سواء بسواء. (2) «هنري ديفد ثورو»
28
والفردية المتطرفة
كثيرا ما تبدأ الدعوة إلى مذهب فكري معين دون أن تكون مكنونات هذا المذهب قد ظهرت كلها ظهورا واضحا عند الدعوة الأولى، فيجيء الأتباع بعدئذ واحدا بعد واحد ليستخرجوا إلى وضح النهار ما كان خبيئا كامنا، ويدفعوا بمبادئ المذهب خطوة بعد خطوة إلى آخر نتائجها المنطقية، فإذا هذه النتائج تبدو غريبة حتى على أصحاب المذهب الأولين أنفسهم؛ لأنهم حين أخذوا يدعون إلى مذهبهم هذا، لم يكونوا قد تبينوا دفعة واحدة كل ما تنطوي عليه مبادئه.
فها هم أولاء بناة الدستور الأمريكي ومعلنو استقلالها قد اعتمدوا على أساس من فلسفة «لوك» (انظر الفصل الأول) فقرروا أن للإنسان حقوقا طبيعية، يتمتع بها بحكم فطرته، وهبها له الله ولم يهبها سلطان حاكم؛ ولذلك فهي ملكه الذي لا يشاركه فيه إنسان، ومن تلك الحقوق الطبيعية الفطرية - كما ورد في وثيقة «إعلان الاستقلال» - حق الحياة وحق التماس السعادة، فإن كان الأفراد قد تنازلوا عن بعض حقوقهم هذه للدولة، لقاء ما تتعهد به الدولة من صيانة الحقوق التي احتفظوا بها لأنفسهم ولم يتنازلوا عنها فيما تنازلوا، فما ذلك إلا بموافقتهم ورضاهم، هم الذين أقاموا الدولة باختيارهم، وهم الذين يزيلونها إذا ما قصرت في أداء واجبها الذي تعهدت لهم بأدائه، وقد كانت الحقوق التي تنازل الأفراد عن بعضها مما يمكن التنازل عنه، لكن هنالك جانبا من الإنسان خاصا به، سيظل ملكا له، يستحيل أن يشمله التنازل، وهو جانب الروح، أو العقل، فليس للدولة كائنة ما كانت، بل ليس للكنيسة ذاتها، أن تحاسب الإنسان على حياته الروحية وإدراكه العقلي.
فجاء بعد ذلك «إمرسن» مع زملاء له يتفقون معه في وجهة النظر، وإن لم يكن لهم ما له من قوة التعبير، جاء بعد ذلك «إمرسن» وزملاؤه المثاليون، فانتزعوا من هذا المبدأ إحدى نتائجه التي تلزم عنه، وهي أن يكون للفرد - إلى جانب استقلاله السياسي - استقلال فكري، فلا ينبغي لفرد أن يعتمد على فكر فرد آخر، وواجب الإنسان يقتضيه أن ينظر في ثنايا ضميره ليدرك إدراكا حدسيا مباشرا ما عسى أن يوحي إليه به ذلك الضمير، فيكون هو الحق، ولا يبطل هذا الحق حق آخر يدركه الفرد نفسه في لحظة أخرى، ولما كان الفرد الواحد ممثلا للروح الكلية الشاملة؛ فهو فيما ينطق به عن صدق وسلامة حدس، إنما يفصح عن حقيقة تلك الروح الكلية من جهة؛ وبالتالي فهو يعبر عما هو حق بالنسبة لسائر أفراد البشر من جهة أخرى، وبهذا يصبح ما هو حق لفرد حقا لكل فرد آخر، وإن جاء إدراكه عن طريق فرد واحد.
Unknown page
فخرج من هذه الجماعة المثالية أحد أعضائها هو «هنري ديفد ثورو» ودفع بهذه المبادئ إلى نتائجها المنطقية، فإذا كان الفرد قد اتفق مع زملائه على قيام الدولة، فمن حقه باعتباره فردا أن ينسلخ وحده عن سائر الجماعة إذا أراد، فلا يخضع للدولة إذا لم تصادف عنده هوى، الفرد على هذه الأرض مملكة وحده، هو بذاته وبمفرده سلطة لها سيادتها، والمثل الأعلى هو ألا يقوم بين الأفراد حكومة، فإن قامت، فلا بد أن تنحصر واجباتها في أقل حد ممكن من التدخل في حياة الأفراد.
ولد «ثورو» عام 1817م في كونكورد من ولاية ماساتشوستس في إنجلترا الجديدة - وهي الجزء الشمالي الشرقي من الولايات المتحدة - وهي نفسها موطن «إمرسن»، وقد تميز ثورو منذ باكورة حياته بحب للطبيعة عميق، واشتغل بالتدريس بعد تخرجه في جامعة هارفارد، ثم اشتغل مساحا للأرض، ولم تكن واجبات عمله هذا تقتضي منه جهدا يستنفد طاقته، فاستطاع أن يجد الفراغ للمحاضرة والتأليف، ولما أن نضجت في رأسه فكرة الفردية المستقلة المتطرفة، أراد أن يعيش في فكرته فلا يكتفي منها بمجرد القول والشرح، فانتبذ في غابات وولدن
29
مكانا قصيا، وأقام لنفسه كوخا صغيرا، حيث عاش وحيدا في عزلة تامة مدى عامين كاملين، يقرأ ويكتب قراءة وكتابة ملأتا كثيرا من وقته، وقد دعاه العيش المنعزل في حضن الطبيعة التي أحبها، أن ينصرف بملاحظته إلى الحيوان بكافة صنوفه، حتى عرف عنه الشيء الكثير، ووضع علمه ذاك في كتابه «وولدن، أو الحياة في الغابات»،
30
ومات عام 1862م وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
نقول: إن «ثورو» قد دفع فكرة استقلال الفرد إلى أقصاها، فقرر أن يكون للفرد حق الخروج على الدولة في رسالة له عنوانها «مقالة عن العصيان المدني»،
31
أخرجها بعد أن شهد أمته تنحرف عن العدالة والحق كما رآهما، وذلك في حرب المكسيك، وفي مسألة العبيد، وفي معاملة الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، فرفض أن يدفع الضريبة للحكومة، ليعلن احتجاجه بصورة عملية، وسجن من أجل ذلك، فتقدم نفر من أصدقائه ودفعوا عنه الضريبة، فأخلي سبيله، لكن بقيت المشكلة النظرية قائمة، وهي: هل للفرد حق الامتناع عن دفع ضرائبه للحكومة إذا وجدها قد انحرفت عن الحق والعدالة؟ في رأي «ثورو» أن للفرد هذا الحق؛ لأنه منطو تحت سلطان الدولة باختياره، وعلى شروط معينة، وباختياره يستطيع الانسلاخ عنها والخروج عليها إذا أخلت بشروط التعاقد، بل إن «ثورو» ليرى ذلك واجبا على كل فرد يعتز بفرديته ويعتد بروحه وعقله، ومن طريف ما يروى في هذا الصدد أن «إمرسن» زاره وهو في سجنه لامتناعه عن دفع الضريبة، فسأله خلال القضبان قائلا: «هنري! ماذا تصنع هناك داخل القضبان؟» فأجابه «ثورو» بمثل سؤاله قائلا: «والدو! ماذا تصنع أنت خارج القضبان؟» وهو يعني بهذا أن «إمرسن» بل وكل فرد آخر ممن يؤمنون بحقوق الإنسان الطبيعية في حريته الفردية، لا يجوز له أن يستسلم لدولة تجنح عن طريق الصواب كما يمليه الضمير الحر، وإن أدى به عصيانه إلى السجن، وكتب يقول: إن الحياة الطليقة في ظل حكومة ظالمة هي السجن بعينه لمن ينشد في الحياة عدلا.
كانت الولايات المتحدة عندئذ لا تأخذ بما تأخذ به البلاد الأوروبية من ضرورة قيام جيش عامل، على أساس أن مثل هذا الجيش لا تدعو إليه ضرورة وقيامه يقتضي نفقات كثيرة بغير موجب، فقال «ثورو»: إن الاعتراض على قيام جيش في البلاد يمكن توجيهه كذلك إلى قيام حكومة فيها. ثم استطرد يقول: إن الحكومة الأمريكية أفضل بعض الشيء من حكومات العالم الأخرى؛ لأنها أقل من هذه الحكومات تقييدا للناس، ومع ذلك فقد كان كل ما فعلته في سبيل التقدم سلبيا لا إيجابيا؛ إذ كانت حسنتها الوحيدة أنها لم تقم حائلا دون التقدم، أما ما قامت به البلاد الأمريكية من أعمال إنشائية فكله قد تم على أيدي أفراد الشعب، ولا فضل الحكومة فيه، وقد كان يمكن لهذا الشعب أن يزداد إنشاء ويسرع تقدما لولا أن الحكومة كانت تتدخل في سبيله حينا بعد حين.
Unknown page
يقول «ثورو»:
32 «إنني لأرحب بكل قلبي بهذا الشعار: «أفضل الحكومات حكومة تحكم في أضيق دائرة ممكنة.» ولكني أدفع هذا القول إلى نتيجته، فأراه كأنما يصبح: أفضل الحكومات حكومة لا تحكم قط، فستكون هذه حكومة الناس في المستقبل، حين يعدون أنفسهم لها.
ولن تقوم دولة حرة مستنيرة بالمعنى الصحيح إلا إذا اعترفت الدولة بأن الفرد قوة عليا مستقلة في ذاتها تستمد منه كل ما لها من قوة وسلطان.
إن القول بأن الفرد خلق ليعيش في مجتمع أكذوبة كبرى، والعكس هو الأدنى إلى الصواب؛ فقد خلق المجتمع من أجل الفرد.
ويريد الناس أن يحتفظوا بما يسمونه سلامة المجتمع بأعمال العنف كل يوم، فانظر إلى الشرطة، وما تحمل من عصي، وما تعده للناس من أغلال! انظر إلى السجون والمقاصل! إننا نعطي الحكم للأغلبية لا لأنها أحكم، بل لأنها أقوى ... وإني لأرى كثيرا من الناس - إن لم أقل معظمهم - ضربا من الجثث المحنطة، لقد غادرتهم الحياة، ولكني مع ذلك لا أرى أجسادهم تتآكل وتنقضي وتتحلل، إنهم لا يزالون يحتفظون بصورة الأحياء، ولست أدري أين الملح الذي ينجيهم من الفساد، ويمنع عنهم الدود! إن من الأجساد ما يسلم من الفساد بعد الموت والدفن، فإن نبشت قبورهم بعد أعوام ألفيت أجسادهم طرية كأنها ماتت بالأمس، وهكذا بعض من أرى من الناس، فلقد انطفأ فيهم سراج الحياة منذ بعيد، ولكنهم لا يزالون يلبسون ما يشبه ملامح الأحياء.
إني لأحسب أن هذا الشعب يطلب من الرجال أوساطهم إنه يطلب من الآراء والأخلاق مألوفها، إنه لا يريد الأصالة والامتياز الواضح، فلن تصادف في نفسه الرضا إلا إذا كنت شبيها بعامته.»
ويقول في عدالة القانون ما يأتي:
33 «أليس من الجائز أن يصيب الفرد وتخطئ الحكومة؟ هل يجب أن نفرض القوانين على الناس فرضا، لا لشيء إلا لأنها صيغت على هذا النحو، ولأن نفرا من الناس قد أقر صوابها، وهي ليست بالصواب؟ هل ثمة ما يحتم على الفرد أن يكون أداة تنفذ عملا لا يوافق عليه؟ أيريد هؤلاء المشرعون أن يقضوا على الصالحين من الرجال؟ ... اسمعي أيتها الحكومات! إنك حين ألقيت القبض على أفذاذ الثائرين وجززت رءوسهم فلم تفعلي بذلك شيئا سوى أن ارتكبت جرما شنيعا، وأما رأس الشر فلم يصبه الأذى.
لا ينبغي أن تعلموا الناشئة احترام القانون بقدر ما يجب أن تعلموهم احترام الحق ... إن النتيجة الطبيعية لاحترام القانون بغير ما موجب هي أن ترى هذه الصفوف من الضباط والجنود تسير في نظام عجيب فوق السهل والجبل إلى حومات القتال رغم إرادتهم، نعم ورغم إدراكهم الفطري السليم ، ورغم ما تمليه عليهم الضمائر، وذلك يجعل سيرهم هذا شاقا عسيرا أشد ما يكون العسر والشقاء، إنه سير تلهث منه القلوب.»
هكذا كان يكتب «ثورو» فتجيء كتابته قبسات من قلبه الحساس، ومدار تفكيره - كما ترى - هو أن للفرد حق الثورة على الدولة، وله أن يمارس هذا الحق حيثما وقع من الدولة ما ينفر منه ضميره، إن حق الثورة لم يزل بزوال الثورة الاستقلالية التي قام بها الأمريكيون جماعة في القرن الثامن عشر، إنه حق يظل قائما أبدا، والعجيب أن «ثورو» في ثورته الفردية هذه على الدولة التي قال عنها إنها أجحفت وضلت السبيل، لم يكن صادرا عن أذى لحق بشخصه أو ظلم أحاق بصالح من صوالحه، إنما كانت ثورته لما لحق غيره من صنوف الإجحاف، كانت ثورته في سبيل غيره، كالزنوج العبيد، وكالهنود سكان البلاد الأصليين، وإذن فالأذى قد أحسه هو في لذع ضميره، كأنما هو لا يقصر واجب مقاومة الفرد لحكومته على الأمور التي تمس مصالح ذلك الفرد مسا مباشرا، بل يوسع من مداه، ويجعل المقاومة واجبة حيثما وقع من الحكومة طغيان، بغض النظر عمن نال منه ذلك الطغيان، وربما كانت المقاومة أوجب إذا ما نزل الطغيان ببلد أجنبي وقوم غرباء.
Unknown page
ليس حق الفرد في الثورة على حكومته بقاصر على المقاومة الإيجابية، بل هو كذلك في المقاومة السلبية، في رفض الولاء للحكومة، فإذا حفزك ضميرك إلى الخروج على طاعة حكومتك، فلا يتحتم عليك أن تنتظر حتى يوافقك جيرانك على موقفك لتتكون منكم أغلبية تستطيع بقوتها أن تسقط الحكومة، بل عليك بالبدء بنفسك، ففيم انتظارك من يؤيدونك من الناس إذا كان الله - متمثلا في صوت ضميرك - إلى جانبك يؤيدك؟ هذا إلى أنه إذا كان الصواب في جانبك، فصواب واحد هو الأغلبية بالقياس إلى الكثرة المخطئة، لا عجب أن تصبح رسالة «ثورو» في العصيان المدني من الكتب الرئيسية التي أعجب بها المهاتما غاندي حين أعلن مثل هذا العصيان في الهند على حكومة المستعمر.
إن تطور التاريخ السياسي ليشهد في جلاء على أن الفرد يزداد وزنا وأهمية، فمن الملكية المطلقة المستبدة التي تغرق الأفراد في طغيانها إغراقا، تقدمت المدنية نحو ملكية مقيدة بإرادة الأفراد، ثم إلى ديمقراطية جمهورية كالتي كانت قائمة في الولايات المتحدة عندما كتب «ثورو»، لكن هذه الخطوة الأخيرة - على تقدمها في نظام الحكم والاعتراف بقيمة الفرد - لم تكن تشبع «ثورو» ولا تحقق له مثله الأعلى، إنما المثل الأعلى هو الذي يجعل كل فرد سيادة مستقلة، في مستطاعه أن ينشق عليها فلا يتدخل في أمورها، ولا هي تحرجه وتضيق عليه حر المسالك، وكلما ازداد عدد هؤلاء الأفراد الذين يستقلون عن الحكومة، ويحسنون التصرف نحو جيرانهم من تلقاء أنفسهم وبغير إلزام من القانون يزداد الطريق تمهيدا نحو تحقيق المثل الأعلى الذي هو زوال الحكومة زوالا تاما.
وفيم حاجة الفرد إلى دولة ترعاه؟ ماذا عساها أن تعطيه مما ليس عنده؟ أليس أعز ما يملك الإنسان هو روحه؟ ثم أليس الروح ملكا خاصا لا تضيف إليه الدولة شيئا، ولا تستطيع أن تنتقص منه شيئا؟ الروح المستقل بذاته لا يخشى على نفسه خطرا؛ وبالتالي فهو لا يحس الحاجة إلى دولة تقيه الخطر، إن مثل هذه الحرية الروحية تنبع من النفس، ولا تأتي من الخارج، إنها صناعة الفرد نفسه وليست هي بما يحتاج إلى جماعة ليتم تكوينها، إن كانت حاجتي إلى الدولة هي أن تيسر لي العمل والتجارة، فتلك حسنة لا أبيع حريتي واستقلالي في سبيلها، إن من يطيع الدولة الظالمة من أجل حسناتها المادية عبد رقيق يبيع روحه بمال وسلعة، أمن الحكمة أن أنتظر المشرعين في دور الحكومة في العاصمة أن يسنوا لي شريعة حياتي وحريتي مع أنهم هم العبيد الذين اشتروا الضلال بالهدى إذا اشتروا المناصب والمراكز بالأنفس والأرواح؟ كلا، فأنا المشرع لنفسي، ولا مشرع لها سواي.
وكسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب نبذ «ثورو» بصوفيته زخرف الدنيا وزينتها، فلا المال يغنيه ولا الجاه يغريه، وحسبه من الحياة روح فذ فريد يتصل بنفسه وبربه، وللحريصين على الذهب والفضة أن يذلوا أعناقهم لواهب الذهب والفضة، ثم كسائر المتصوفة في شتى العصور، وفي مختلف الشعوب، لم يكفه أن يتجرد من حاجات الدنيا العابرة ليلوذ بنفسه وينجو، بل أراد بعد ذلك، وفوق ذلك أن يتجرد من نفسه ذاتها؛ لينظر إليها كما ينظر إلى نفس غريبة عنه، وعندئذ يبلغ الغاية من الإمساك بزمامها «ألا ما أصلحها حكومة للفرد أن يحكم نفسه» وإنما يستطيع ذلك الحكم الذاتي من استطاع أن ينسلخ عن ذاته ليرى أحداثها وخبراتها كأنما هو ينظر إلى مسرح، وهل من شك في أنني مهما اندمجت في مشاعري فلا أزال أحس بين جنبي جزءا مني يقف موقف المتفرج الناقد؟ إذن فهذا الجزء مني وليس مني، إنه جزء من «أنا» وكأنه جزء من «أنت» يشهد في باطني مسرحية حياتي.
34
هكذا لبثت الفردية الاستقلالية تدفع «ثورو» حتى انعزل بها عن الناس انعزالا، فظنه الناس حالما شذ برأيه عن مألوف المجتمع، ولو استثنينا مقالته عن العصيان المدني، لكانت بقية كتابته أبعد ما تكون الكتابة عن التنسيق والتبويب، إنه لينثر أفكاره نثرا حسب ورودها على خاطره، ومع ذلك فقد أدلى بالرأي الناضج فيما يشغل المفكرين في يومه - وإلى يومنا - من أمهات المسائل، وجاءت مذكراته تلك التي كتبها متناثرة على مدى اثنين وعشرين عاما، من الغزارة بحيث امتلأ بها أربعة عشر مجلدا، فيها ما يشتهي القارئ من رأي وحكمة؛ فيها رأيه في الطبيعة وما يدبرها من عقل حكيم، ورأيه في الزمن وتغير الأشياء، وفي المعرفة مصدرها وحدودها، وفي الجمال والفن، وفي الحق والباطل، وفي الخيال والواقع، وفي مشكلة الأخلاق وحرية الإرادة وجبرها، وفي العواطف الإنسانية وما تؤدي إليه من خير وشر، وفي المجتمع والدين، وفي القانون والعدالة، وفي الحياة والموت والآخرة.
ولكن أنى لهذا الشاعر الفيلسوف تلك الثروة الفكرية الغزيرة؟ إنه لم يستمدها من الكتب، ولم يستعبد نفسه لشخصيات الأعلام من السالفين، نعم لقد طالع الأدب اليوناني والروماني وقرأ الشعراء الإنجليز، فضلا عما عرفه من معاصره وصديقه وأستاذه «إمرسن»، ولكن أين يقع هذا كله مما أنتج؟ إن مصدره الأول الأعظم هو سفر الكون العظيم، هو هذا الريف الجميل الذي كان له فتنة وسحرا؛ فقد أراد أن يتعقب سر الوجود في خدره ومكمنه، إن هذه الكائنات من حوله لأنغام لأنشودة خافية عن الآذان، سافرة لذوي الشعور الحي الملتهب، فليقصد إلى هذا النشيد في مصدره ومبعثه، لقد خلبه جمال الحياة وسرها، حزنها وسرورها، جهلها وحكمتها، خيرها وشرها، حياتها وموتها، فهو عليل هده المرض، ولكنه مع ذلك يأبى أن يؤمن بما ينتظره من فناء، وكيف يفنى وهو الذي علمه التأمل في خلق السموات والأرض أنه جزء من تلك القوة الروحية العليا التي خلقت العالم وأبدعته؟
وههنا نضع إصبعنا على محور فلسفته ولباب فكره، كما أنه محور الفلسفة المثالية كلها متمثلة في معاصريه من زملائه، فهذه الظواهر التي تدركها الحواس رموز تصيح بأن وراءها قوة فعالة مدبرة، والوسيلة إلى إدراكها هي الحدس أو العيان الروحي المباشر، فلئن كان العلم بمشاهداته وتجاربه يحصر نفسه في الظواهر واطرادها، فالفلسفة والشعر ينفذان خلال الظواهر بقوة الحدس، فيريان الحقيقة العليا الواحدة الأزلية الأبدية، ماذا يريد العلم حين يعالج ظواهر الوجود؟ يريد شيئا واحدا، ما يزال - ولن يزال إلى آخر الأبد - يجد في تحصيله، وذاك أن يصف اطراد الظواهر ليصوغ قوانين اطرادها، إن العلم ليسأل: كيف يحدث هذا الذي أرى؟ ثم ينطلق باحثا عن جواب ما سأل، أما إن أردت أن تعرف «لماذا» يقع في الطبيعة ما يقع فسل غير العلم والعلماء، سل الفيلسوف أو الشاعر «لماذا» يجبك الشاعر أو الفيلسوف، قل للعلم: ما الإنسان، ولم كان؟ يزعم لك أن الإنسان آلة من مادة تسيرها مؤثرات البيئة فتسير، أما الفلسفة المثالية، وإن شئت فقل الشعور الفياض والحدس الصافي - كما تراهما في «إمرسن» وفي «ثورو» - فترى أن وراء هذه الظواهر التي يقف عندها العلم، قوة عليا توجه ما في الكون من مادة وطاقة إلى ما ينبغي لها أن تكون.
إن «ثورو» - مثل «إمرسن» - يرى أن الحياة بكل ضروبها تسيرها نواميس معلومة مرسومة تشمل بسلطانها كل شيء، ولكنه يأبى أن يصف تلك النواميس بالآلية العمياء؛ لأنه يؤمن أنها شاعرة بما تفعل، ويشرف على فعلها قوة عليا تسع كل موجود في الوجود، فليست تلك القوة خالقة لما في الكون وكفى، بل إنها لا تنفك مدبرة له ومنظمة.
انظر إلى «ثورو» وقد ارتقى قمة الجبل يرقب السماء وأفلاكها، والأرض وأشجارها، ويلحظ الأطيار سابحة في الفضاء وصنوف الحيوان ساعية رائحة غادية، فيحتدم في صدره الشعور القوي بوجود ذلك الروح الأعلى الذي يعرف كل شيء؛ لأنه خلق كل شيء، بل هو هو كل شيء! ولقد شهد على مسرح الطبيعة - فيما شهد - المعارك الحامية تنشب بين طوائف النمل، ورأى أمهات الحيوان تقذف بصغارها للكلاب العادية وراءها لتنجو بنفسها، ولكنه رغم هذا الجانب المعتم القاتم من الحياة يصيح قائلا: «ومع ذلك فإني أومن بحكمتك يا رباه!»
Unknown page