ولولا كثافة شعرها الفاحم لتراءى رأسها صغيرا بالنظر إلى بدنها؛ لأن وجهها يتراءى كذلك، لم أشهد في حياتي رواء أصفى من رواء وجهها، فكنت أتوهم أن لأهداب جفنيها ظلا في أعماق وجنتيها كظل العشب النابت على ضفة النهر في الماء الصافي، ولا رأيت قط نجلا كنجل عينيها إذا أطرقت ظننت الجفن العلوي يغطي الجفن السفلي، وإذا رفعت نظرها فمهما انفرج جفناها لا تظهر حدقتها كلها، لا ترى لها من المقلة إلا شكل نواة لوزة مستدقة أوسطها حالك السواد وجانباها عاجيا البياض، وفوق عينيها حاجبان مقوسان دقيقان، ولكنهما حالكان - يتكاثفان حيثما يتطرفان، ولكنهما لا يتلاقيان، ويستدقان حيثما يتطرفان ولكنهما لا ينطلقان، وبينهما أنف يوناني تتوهمه شفافا، وتحته شفتان كأنهما ورقتا شقيق ملتفتان حيثما تتماسان، وبينهما قناة منحنية قليلا متحدرة الضفتين، وقد فرش قرارها مثل اللآلئ كأنها مجرى للابتسام وعذب الكلام.
كل لمحة من ملامحها تدل على عاطفة في داخلها.
إذا تكلمت تصورت قلبها بين شفتيها، ومتى تفرست خلت روحها تطل من عينيها، وإن سكنت توهمت أنك تسمع خطرات أفكارها، أو أنك ترى ضميرها يرتسم على محياها، فكأن روحها وضميرها وذكاءها وكل عواطفها قد تجسمت حتى بدت جسدا يحوي جسمها، الذي رق ولطف وشف حتى صار خيالا روحيا، رأيتها رزينة جدا ولكن البشاشة خلقة في طلعتها، ونور البشر خالد الإشعاع عن وجهها.
ولما أوشك الستار أن ينكشف عن الفصل الرابع استأذنتها وصافحتها، وعدت إلى مكاني، وبعد ذلك لم أعد ألتفت إليها إلا نادرا، فكرت بكل كلمة قالتها إيفون، أعملت ذهني في أن أستدل من حديثها معي على اكتراثها بي فلم أجد دليلا مقنعا، ذبت وجدا واحترقت غيرة؛ لأنها لم تحفل بي ولا دعتني لزيارتها ولا استبقتني في مقصورتها إلى أن ينتهي الفصل على الأقل، ولا فسحت لي مجالا لمحادثتها فوهن خيط رجائي.
بعد التمثيل ركبت مركبة، وتبعت مركبتها حتى وقفت أمام منزل باذخ في التوفيقية، وكان أوغستو معها فصعد أمامها إلى المنزل، صرفت مركبتي وبقيت أتمشى منتظرا رجوع أوغستو فلم يرجع حالا، ثم انتبهت إلى أنه لا يليق بي أن يعلم أوغستو بلحاقي بهما فانصرفت حالا.
قضيت ذلك الليل يقظ البال مضطجع الجسم، وطيف إيفون يرفرف فوق سريري واليأس والرجاء يتجاذبانني، يئست لعدم إعبائها بي كما كنت أنتظر. ولكن تيهها علي هو الذي زاد ولوعي بها، ولو لاطفتني كثيرا لعدت زاهدا بها ورافضا نعمة ساقتها الأقدار إلي، حدث لي غير مرة أني صادفت فتاة جميلة، فشغلت بالي كما شغلته إيفون حتى إذا اجتمعت بها، وظفرت منها بقبلة عدت زاهدا بها.
خطر لي أن أتذرع إلى زيارتها بواسطة أوغستو، ولكن لسوء حظي برح في اليوم التالي إلى الإسكندرية لأجل غير مسمى.
الفصل الخامس
نسمات باردة
ذهبت بعد ذلك ليلتين إلى الأوبرا فلم أجدها، فكنت أطوف الحانات الكبرى مثل سنت جايمس وغيرها، فلم أصادفها قط، تمشيت بعض الليالي حول منزلها، وأخيرا خشيت أن يلاحظ الخفير أمري فيوجس مني.
Unknown page