المقدمة
غرض هذه الرواية
1 - لهفة فؤاد
2 - حديث الحمى
3 - وقدة الحب
4 - لقاء فيه الداء
5 - نسمات باردة
6 - سلسبيل حديث
7 - الهوى العذري
8 - صاعقة
9 - نار ولا نور
10 - وقد الوجد
11 - الملاك الساقط
12 - الحقد على الشرائع
13 - الولادة الثانية
14 - أنا الغريقة ما خوفي من البلل
15 - الضحية العظمى
16 - ثقل الجسد على الروح
17 - الصراع الأخير
آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»
تذييل
المقدمة
غرض هذه الرواية
1 - لهفة فؤاد
2 - حديث الحمى
3 - وقدة الحب
4 - لقاء فيه الداء
5 - نسمات باردة
6 - سلسبيل حديث
7 - الهوى العذري
8 - صاعقة
9 - نار ولا نور
10 - وقد الوجد
11 - الملاك الساقط
12 - الحقد على الشرائع
13 - الولادة الثانية
14 - أنا الغريقة ما خوفي من البلل
15 - الضحية العظمى
16 - ثقل الجسد على الروح
17 - الصراع الأخير
آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»
تذييل
حواء الجديدة
حواء الجديدة
تأليف
نقولا الحداد
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولا بحجر
المقدمة
طلب إلينا كثيرون من مشتركي هذه المجلة أن نطبع رواية حواء الجديدة، التي لم يبق منها ولا نسخة في المكاتب، ونقدمها بمثابة جزء من المجلة، فلم نر بدا من تلبية رغبتهم، وها نحن ننشرها بدل عددي السادس والسابع ونقدمها لجميع القراء، وسنطبع منها عددا محدودا لغير المشتركين بثمن 12 قرشا مصريا.
نقولا الحداد
مصر. شبرا، صيف 1929
غرض هذه الرواية
في حين أن المدنية الحاضرة تتباهى بتأييد الحرية والإخاء، والمساواة نرى هيئتنا الاجتماعية تئن تحت جور ثقيل؛ ذلك لأن ناموسا أدبيا يتساهل مع أحد شطريها - «الرجل» ويظلم الشطر الآخر - «المرأة» يجر الرجل المرأة إلى الدنس، والمرأة وحدها تشقى به، فأين ما تدعيه المدنية من المساواة إذا كان التمدن قد بلغ إلى القمة الآن، فلم يزل هذا الظلم الفاضح الباقي من آثار الهمجية ندبة تشوه وجهه.
لا أقصد أن أبرئ المرأة من الإثم الذي تشارك فيه الرجل، وإنما أشكو من اغتفار هذا الإثم للرجل الذي يجرها إليه وآسف لشقائها فيه وحدها، ومن سوء الحظ أن الأمم الغربية السابقة في مضمار التمدن الحديث أخذت تتسامح به مع المرأة، كما تسامحت مع الرجل كأنها تقول: إذا لم يكن بد من اغتفاره للرجل فلماذا لا يغتفر للمرأة؟ لماذا تسام المرأة وحدها العذاب به، وهي الضلع الثاني فيه؟
كان هذا الموضوع الاجتماعي يغلي في ضميري، وأنا لا أدري كيف أبث أفكاري فيه إلى أن حضرت ذات يوم تمثيل رواية مترجمة كان من جملة حوادثها العرضية أن سيد المنزل أغوى فتاة كانت وصيفة زوجته، ولما فضحت الطبيعة عارها نبذها نبذ النواة، وبقي سيدا في بيته عزيزا في قومه، وأما الفتاة فانقذفت في العالم ملطخة بعارها.
ولم يكن لهذا الحادث شأن خطير في سياق تلك الرواية، ولا كان بيت القصيد فيها بل كان كما قلته آنفا حادثا عرضيا فيها، ولم يعلق واضع الرواية أهمية عليه البتة كأنما هذا الحادث عندهم أمر عادي، ولعل السبب أنهم أصبحوا يغتفرون هذه الزلة للمرأة كما يغتفرونها للرجل.
فخرجت من دار التمثيل متأثرا من حادثة الفتاة، ومن إغفال مؤلف الرواية أهميتها، وعقدت النية على أن أضع رواية تحوم حول هذا المغزى، وقد أطمعني بالنجاح ما رد إلي من صدى الاستحسان لرواياتي الصغيرة، وما نمت تلك الليلة حتى تكون في مخيلتي هيكل «حواء الجديدة»، وفي الصباح التالي شرعت في إنشائها فنجز في أسبوعين، ثم عرضتها على من أثق بحكمهم؛ لكي يصدقوني رأيهم فيها خشية أن يخدعني الغرور، فأجازوا أنها مما يقرأ، ولولا ذلك ما أقدمت على طبعها.
ولما كانت مباحثها تمس حياتنا الأدبية اليومية كل المساس وضعتها في أفواه أشخاصها، وجعلتها من ضروريات محاوراتهم؛ لكيلا يملها القارئ بل يتلقنها من غير إعمال ذهن ويتفهمها بقليل روية، فقارئ «حواء الجديدة» يقرأ تشريحا لعضو جوهري في جسم الشريعة الأدبية؛ ولذلك يتعين عليه أن يقرأها متئدا، ويحسن أن يقف عند كل عبرة متأملا عسى أن يكون له رأي آخر، ولعله يخطئ إن عجل في قراءتها ليعلم ماذا يكون من أمر أشخاصها، إذ يفوته الغرض الجوهري المقصود منها.
يونيو سنة 1906
نقولا الحداد
الفصل الأول
لهفة فؤاد
لي صديق طبيب قص علي قصة تصور للقارئ الاعتساف الذي ذكر آنفا أجلى تصوير، فآثر أن أرويها عبرة للقراء في الشرق لعلهم ينصفون المرأة من الرجل، أو يعدلون بينهما، وينصرفون عن الكلام فيها إلى الكلام فيه، فحسبنا وحسب المرأة ما كتب عنها وشكي منها إلى الآن، فقد آن أن يكون الرجل موضوع الشكوى والتذمر، وقد اتخذت لأشخاص الحكاية أسماء أجنبية دفعا للمظان والشبهات.
قال صديقي الطبيب: في ذات يوم من أيام الربيع انتهيت من عيادة مرضاي بعد الظهر، فلما رجعت إلى منزلي وجدت شابا ينتظرني، وهو في شرخ الشباب يناهز الخامسة والعشرين، طويل القامة قليلا ممتلئ الجسم غير بدين جميل الطلعة، يكاد يتوهج لهيب الذكاء من مقلتيه ويرتسم فؤاده على محياه، رأيته يتمشى في القاعة مضطربا، فلا تكاد قدماه تستقران على الأرض وقد غشي وجهه اكفهرار الجزع والقلق، فما دخلت عليه حتى ابتدرني بالتحية متكلفا الابتسام وجلسنا، وقال: أظن أن الدكتور بوشه هو من أتشرف بمجالسته الآن. - نعم، يا سيدي أتشرف بمعرفة حضرتك. - موريس كاسيه. - على الرحب والسعة. - أتأذن يا مولاي أن أستفهمك عن أمر. - أجيبك يا سيدي على أسئلتك كل جواب أستطيعه. - أشكر فضلك جدا وأرجو أن تسامحني على كل سؤال يعز عليك أن تجيبني عليه، فقد أسألك ما لا يجوز أن أسأله. - عسى أني أستطيع إطلاعك على كل ما تشاء. - تعالج المدموازيل إيفون مونار؟ - نعم. - أي مرض تعاني هذه السيدة؟ - علة قلبية. - هل من خطر على حياتها؟
وقد توسمت في لهجة تساؤله منتهى القلق والاضطراب، فأشفقت أن أطلعه على الحقيقة صريحة فقلت له: حياتها في يد الله على أني أؤمل شفاءها.
فازداد امتقاع وجهه وقال: إذن هي على شفا الخطر؟ - كلا، على أني لا أنكر عليك أن العلة القلبية قد استحكمت فيها، ومع ذلك فإني شديد الأمل بشفائها إذا تلطفت انفعالاتها النفسانية التي تهيج أعصابها، وتستكد قلبها الضعيف. - هذا ما أتخوف منه؛ لأني أعرفها شديدة الانفعال، فهل تظن أن المنية أقرب إليها من السلامة؟ - لا سمح الله. - لا تؤاخذني يا دكتور بوشه، أتعتقد أن العلاج ينجع فيها؟ - نعم أعتقد. - إذن تؤمل أنها تشفى؟ - نعم بإذن الله. - هل ترى أن خادمتها تقدر أن تمرضها التمريض الواجب؟ - كذا أرى، وقد ظهر لي أنها تحبها جدا، وتعنى بها بكل غيرة وإخلاص. - ما أطيبك يا فانتين!
وكنت إذ ذاك أرى سحابة الكآبة تنقشع شيئا فشيئا عن محياه، وألاحظ أن سورة اضطرابه تسكن تدريجا، وقد سري عنه قليلا، وبعد هنيهة تكلم بصوت خافت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد خارج القاعة: هل لاحظت أنها في حاجة إلى شيء؟ - لا أدري شيئا من دخائلها.
فوجم عن الكلام هنيهة، وعيناه تفحصان الأرض أمامه ثم نظر إلي، وقال بلهجة المتضرع: مولاي أتجرئني على أن التمس منك فضلا عظيما؟ - أخدمك يا سيدي كل خدمة أستطيعها. - أشكر فضلك، هل لك أن تتحرى ما إذا كانت إيفون في حاجة إلى شيء فتخبرني؟ - لا أدخر وسعا في ذلك. - أتوسل إليك أيضا أن تبذل جهدك في معالجتها، وتلازمها ما استطعت، فإذا عجزت عن مكافأتك أوفيك حياتي. - إني مفرغ كل عنايتي في هذه العليلة؛ لأني تأثرت من حالها وحسبي شفاؤها أجرا عظيما. - إن هذا لطف عظيم يا دكتور بوشه، بقي أمر آخر أرجوه منك، فاعذرني على هذه الأثقال التي أحملك إياها.
وكانت لهجة الالتماس التي خاطبني بها موريس تفتت الفؤاد لما فيها من التخشع والتأثر، فأشفقت عليه جدا وتمنيت أن أواسيه فقلت: مر ما تشاء فإني أتمنى أن أستطيع خدمة لك. - أتسمح لي أن أزورك كل يوم لأسمع أخبار المدموازيل إيفون؟ - المنزل منزلك يا سيدي، على الرحب والسعة كل حين.
عند ذلك دخل الخادم بالقهوة، وتناول موريس فنجانا ورأيت أنه يكاد يغص في كل نهلة منه، وشعرت أنه يترشفه مرغما بحكم آداب المجاملة، ويتمنى لو أعفي منه فقلت: - أراك يا مولاي في منتهى التأثر، فإن كانت القهوة لا تلذ لك الآن، فلا بأس من أن تتركها.
وفي الحال رد الفنجان قبل أن يرشف الرشفة الثالثة منه، ولاحظت ارتياحه إلى ذلك كأن عبئا أنزل عن عاتقه، وأدركت أن غمه بلغ أقصى ما تبلغ إليه الغموم، وشعرت حينئذ أن مؤاساته واجبة، ولكن أغلق علي أن أجد الأسلوب الأفضل لذلك؛ لأن معالجة القلوب أصعب جدا من معالجة الأبدان، بيد أني استفتيت اختباراتي الماضية، فرأيت أن أفضل علاج لآلام قلبه وأحزان نفسه أن أستدرجه إلى الحديث عن تلك المرأة، التي جزع لأمرها؛ لأن بث ما في النفس من الشجون خير مصرف لما في القلب من الغموم، فلما انتهيت من ترشف القهوة قلت: لا أجسر أن أسألك أيها العزيز عما يحملك أن تقلق هذا القلق الشديد بسبب عياء المدموازيل إيفون مونار، ولكن أرى اضطرابك أغرب من اضطراب الوالد على ولده، فأشعر أنه يجب علي أن أقاسمك أساك، ولكني لا أدري كيف أواسيك.
فتنهد تنهدا عميقا كأن سؤالي فرج شيئا من كربه ثم قال: مولاي! إيفون خلاصة حياتي، فإذا نابتها نائبة خسرت حياتي. - إذن الصلة بينكما صلة حب لا صلة نسب؟ - الظاهر كذلك ولكن الحقيقة أن صلتنا أعظم.
فاستغربت قوله هذا؛ لأني أعلم أن الناس يضعون الحب فوق كل مرتبة، وقلت: عجبا! أي صلة غير الحب أعظم من صلة النسب؟ - مولاي إن صلة النسب للتناصر ومصدرها الوجدان، وصلة الحب للتواصل ومصدرها القلب، وأما صلتي بإيفون فلا أعلم اسمها، وإنما أعلم أنها ليست للتناصر ولا للتواصل، بل للحياة، ومصدرها الروح المجردة المترفعة عن المادة، فأنا أشعر أن إيفون لازمة لكياني لزوم الروح للجسد.
فعلمت من هذا الكلام أن كلف الفتى المسكين بتلك الفتاة نادر الشدة، ولكني ظللت في حيرة إذ لم أدر ما هي علاقته الفعلية بها، بل بالأحرى لاحظت من حديثه السابق أنه لا يلازمها ملازمة العاشق الكلف، ولعله لا يتردد إليها البتة فقلت: أشعر أيها العزيز أن أساك لا يؤاسى إلا بشفاء المدموازيل إيفون، ولي أمل كبير أنها تشفى بإذن الله، فاطمئن. - إني بين يدي الله ويديك يا دكتور بوشه. - لا أضن بشيء من العناية بها، وإذا شعرت بأقل لزوم لاستشارة أطباء آخرين في علتها، فلا أستنكف أن أعقد مجمعا من كبار الزملاء لهذه الغاية. - أمتن لك بمقدار حبي لإيفون، والآن سامحني على ما اتخذته من الدالة عليك لأول معرفة. - إن هذه المعرفة الأولى يا مسيو كاسيه تساوي عندي معرفة عمر، فليتها كانت لغير هذا السبب لأقول: إني ممتن للظروف التي احتوتها والأسباب التي دعت إليها. - أشكر لطفك جدا يا سيدي ولولا ما توسمته من كرم أخلاقك، لما طمعت بفضلك هذا الطمع. - إلى الملتقى غدا يا سيدي. - مع السلامة.
ثم ضغطت على يده وقلت له باشا: تشدد يا عزيزي موريس لا تجزع.
انصرف خفيف الخطى رشيق الحركة، وأنا أشيعه إلى خارج الباب، ولما توارى عدت إلى غرفتي متأثرا من حالته، وشاعرا بميل قلبي إليه.
تمثلت منزل تلك المرأة البائسة صومعة قديسة يتعبد فيها ذلك الفتى.
الفصل الثاني
حديث الحمى
كنت إلى ذلك الحين قد عدت تلك العليلة بضع عيادات مختصرة، فلم أكن أعرف عنها شيئا، وكان منزلها في عابدين وكنت أجدها وحدها في منزلها لا يحف بها صديق ولا نسيب سوى وصيفتها فانتين وخادم وطني، فسألت فانتين عن سر وحدتها فقالت: «إن المدموازيل إيفون غريبة لا أهل لها في مصر»، فلم أستزدها بيانا، غير أني افتكرت حينئذ أن جواب فانتين لم يكن لقصد التبيان، بل لمجرد الإجابة فقط، وإذ لم يكن أمر إيفون يهمني جدا لم أكترث أن أتحرى عن حقيقته، ولكن لما كان موريس يسائلني عن صحتها تقت أن أسأله عن ملخص سيرتها، فلم أجسر على هذا الفضول.
وفي اليوم التالي عدت جميع مرضاي وجعلت زيارة إيفون الأخيرة؛ لكي يتسع لي الوقت لمحاضرتها، ومن حسن الحظ وجدتها أحسن حالا بالرغم مما هي فيه من السقم والهزال والونى، وظهر لي حينئذ أن ثورة انفعالاتها شرعت تخمد. - أراك اليوم أحسن حالا يا مدموازيل إيفون ولي الأمل أن يكون شفاؤك قريبا. - الشفاء والفناء عندي سيان يا دكتور بوشه، وإنما أتمنى الخلاص من هذا العذاب بأي منهما. - أظن أن سبب مرضك الحالي الهواجس المحزنة، فيجب أن تصرفيها وأنا أضمن شفاءك بإذن الله.
فتنهدت قائلة: آه، ليت ذلك في طوقي، كل شيء يستطيعه الإنسان إلا تحويل الفكر عن وجهته. - لا أجهل هذه الحقيقة يا مدموازيل إيفون، وإنما عندي لدفع الأفكار المحزنة المؤلمة وسيلة فلسفية وهي «حب النفس»، أحبي نفسك فوق كل شيء تضحي بكل العالم لأجلها، وحينئذ لا تبالين بغير مسراتك، أرى أن هذه القاعدة هي العلاج الوحيد للأفكار المحزنة والهموم المزعجة؛ لأني لم أجد مريضا بداء الفكر إلا من يهتم بشئون الآخرين.
فابتسمت ابتسامة لطيفة جدا تشف عن تسامي عقلها عن هذه الفلسفة، وانقلبت عن جنبها إلى ظهرها ولم ترد جوابا، وكان سكوتها أفصح دلالة على أنها لم تقتنع بقولي، ولكن لم يكن لها جلد على مجادلتي، وبعد هنيهة قلت لها: زارني المسيو موريس كاسيه أمس، وسألني بتدقيق عنك.
فتململت، وفي الحال أدركت أن الحديث عنه يهيج عواطفها، ولكني لم أفهم البتة لماذا. - أشكر لطفه، أتعرفه من قبل يا دكتور؟ - كلا ولكن معرفتي له أمس كانت كمعرفة عمر، فإني أعجبت بذوقه ولطفه وعظم ثقته بي. - ماذا قلت له عني؟ - قلت: إنك مقبلة على الشفاء بإذن الله، على أنه كان قلقا جدا عليك، ودقق في التساؤل عنك.
بقيت إيفون صامتة كأنها تأبى الخوض في هذا الموضوع؛ ولذلك رأيت أن اقتضاب هذا الحديث أفضل لئلا يسوءها التمادي فيه، فنهضت وودعتها ومضيت وأنا أشعر أني خارج من حضرة ملاك؛ لأن صورة تلك المرأة رسمت أثرا جميلا في صفحة مخيلتي، ولم أزل إلى الآن كلما تنبهت لها ذاكرتي تخيلت رسم فتاة وديعة سليمة الطوية أبية النفس سمحة الخلق.
ولما عدت إلى البيت وجدت بربريا ينتظرني، وفي يده رسالة لي ففضضتها وقرأت:
سيدي الدكتور بوشه
أصبحت اليوم والصداع يجنني والحمى تشويني شيا، وكنت أنتظر أن تخمد قليلا؛ لكي أستطيع أن أزورك في الموعد المعين وأتلقن منك أخبارك السارة عن مدموازيل إيفون مونار، ولكن خاب فألي فهل تتفضل علي بهذا الفضل العظيم، وهو أن تعودني في أفرغ أوقاتك؟ أمتن لك على كل حال.
موريس كاسيه
فشعرت على أثر قراءة هذه الرسالة أني أتوقع لذة من الاجتماع بموريس، والاطلاع على حقيقة صلته بإيفون، فركبت مركبتي والبربري إلى جانب الحوذي يرشده إلى منزل سيده.
وجدت أمه والخادمة عنده فحييت ودنوت منه، فوجدت وجهه لا يزال يتورد والحمى آخذة بالخمود، وعلمت أن أنفلونزا شديدة هاجمته، فطمأنته وأمه ووصفت له العلاج الناجع، وبعد هنيهة أوعز إلى أمه والخادمة أن تتركانا وحدنا؛ لأنه كان على مثل نار الغضا في توقع أخبار إيفون، ولما خرجتا نظر إلي والأمل يشع من مقلتيه، وهو ملقى في سريره على يمينه ووجهه إلي، وقال: عدت إيفون اليوم؟ - من غير بد. - كيف حالها؟ - أحسن من أمس، ولي الأمل أن تكون غدا أحسن من اليوم، فأبرقت أسرته وقال: أكيد؟ - لست أخدعك لكي أطمئنك فقط، بل الحقيقة هي ما أقول. - إذن تؤمل أن إيفون تشفى؟ - نعم. - إني مدين لك بحياتي. - أما زرتها يا مسيو موريس؟ - كلا. - عجيب!
فسكت، وبعد هنيهة قلت له: ألا تزورها غدا حين تستطيع الخروج. - لا أظن. - عجيب، كيف تطيق وأنت تحبها أن تجفوها في أثناء مرضها؟ - أراك يا دكتور بوشه تحرجني أن أطلعك على سر حبي لإيفون. - اعذرني على فضولي. - بل سامحني أيها العزيز، فإني أكتم عنك مصيبتي بإيفون مع أني أشعر أنك أصبحت موضع ثقتي الوحيد بالرغم من حداثة تشرفي بمعرفتك، أما أنت صديق حقيقي الآن؟
لم يكن عندي ريب بأن موريس اتخذني صديقا أمينا لأول مقابلة، وامتلأ ثقة بي وتمنى أن أبادله مثل هذه الثقة، وتلك الصداقة على أنه تسرع في ذلك قبل أن يعرفني جيدا، ولماذا؟ السبب بسيط، وهو أني كنت أعود مدموازيل إيفون كل يوم، ولو كان طبيب آخر سواي يعالجها لنال من حب موريس ودالته وثقته ما نلت، فأجبته على سؤاله: لا أظنك تشك بذلك. - إن إيفون تأبى مقابلتي، فأخاف أن تتأثر إذا زرتها. - ألا تحبك؟ - لا أظن أنها لا تحبني. - فلماذا تأبى مقابلتك إذن؟
فتنهد قائلا: هنا كل مصيبتي.
وعند ذلك ضغط على زر جرس الاستدعاء فدخلت الخادمة فقال لها: اقفلي الباب ولا يدخل علينا أحد بغير استئذان.
ارتفع قليلا على مخدته ووضع كفه تحت رأسه، وقال: يلذ لي أيها الصديق أن أقص عليك حكايتي مع إيفون؛ لأن قصها يفرج كربي، آه إيفون، إيفون، ما أهنأ الموت عند مدخل بابك.
فتبسمت قليلا فقال: لا تضحك يا عزيزي بوشه بل ارث فإن الحب أعظم ما في العالم، ولولاه لما كنت أنت بوشه الطبيب البارع، فلأجل من تهوى - ولا بد أنك تهوى واحدة؛ لأنك لم تزل شابا مثلي - تسعى إلى طلاب العلى؛ ولأجلها تمتاز عن الجماد، لا تؤاخذني على هذه السماجة في التعبير.
فأعملت الفكر في هذه الفلسفة المختصرة وقلت: صدقت، ما الإنسان إلا حيوان يحب، وما الحيوان بلا حب إلا حجر أصم، فلست أهزأ بك يا عزيزي، ولكني ابتسمت لتمنيك. إني أحترم حبك. - تبتدئ قصتي مع إيفون بحادثة نزق وطيش، وسترى أن النزق يكون أحيانا فال الخير؛ فلذلك النزق أنا مدين بحب إيفون.
ثم شرع موريس يحكي حكايته، وأنا أسمعها صامتا إلا نادرا، قال ...
الفصل الثالث
وقدة الحب
منذ أشهر كنت في عصاري يوم أحد في قهوة الجيزة المشرقة على النيل،
1
وإذ كانت تلك القهوة مستحدثة، وقد اتصل بها خط الترمواي من عهد قريب كانت تغص كل مساء بالمتنزهين، ولا سيما مساء الأحد؛ لأن إيثار الجديد غريزة في الإنسان.
جلست مع بعض الأصدقاء إلى إحدى الموائد كسائر الجلوس، وكان إلى الجنوب منا جماعة من الشبان يترشفون الأشربة الروحية، وقد تمادوا في الشرب حتى لعبت الخمرة بألبابهم، فصاروا يهزلون ويقهقهون إلى أن نبهوا جميع الحضور إلى مزاحهم.
وما قعدنا وطلبنا الشراب كغيرنا حتى بدت في القهوة سيدة إفرنجية هيفاء القامة رقيقة الجسم، وضاءة الطلعة نجلاء العينين كحلاؤهما، ولولا لبسها ولغتها لقلت: إنها تركية؛ لأن النجل والكحل نادران في الإفرنجيات كما تعلم، أما جمالها فلا أعرف كيف أصفه لك؛ لأنه قليل الأشباه وإنما تدرك أنه عجيب إذ تعلم أنه كان للقوم كالمغناطيس للحديد، فما بدت في الجلاس حتى طوقتها نواظرهم كلها.
هذا مجمل وصف إيفون الجسماني أذكره لك؛ لأنك لم تعرفها لعهد نضارتها، ولم ترها إلا الآن وهي زهرة ذاوية.
جلست إيفون إلى مائدة إزاء الشبان اللاغطين، وإذ كانت وحدها حسبها أولئك السكارى إحدى البغيات، فجعلوا يعرضون بها في هزلهم ومزاحهم، ويصوبون إليها مغزى تغزلهم وهم يتكلمون بالإفرنسية.
لا ألومهم على ذلك الظن؛ لأنه من أخلاق هذا الزمان أن لا يرى الناس سيدة وحدها في مكان عمومي، إلا حكموا بأنها مبتذلة واستباحوا لأنفسهم امتهانها أو مداعبتها، كأنه أصبح حراما على المبتذلة أن تكون شريفة النفس، بل أمسى عجيبا أن تكون غير المحصنة متعففة.
استفزت نشوة الخمر أولئك المجانين، فتمادوا في رقاعتهم ومزاحهم حتى صاروا يرشقون إيفون بألفاظ التحبب المستنكرة، ويرمونها بالنكات الفظة وهي صامتة رزينة كأن الكلام ليس لها، أو كأنها ليست إزاء أولئك الممازحين، ولكنها كانت تتميز غيظا وتحاول أن تخفي تغيظها.
تمادى أولئك الأغرار في تحرشهم بإيفون حتى اتضح تغيظها، ولم تعد تطيق الصبر وكنت كسائر الحضور ألاحظ تقطب وجهها، وأسمع هراء أولئك الأسافل، بيد أني كنت أختلف عن بقية السامعين بأني أتغيظ في داخلي وهم يضحكون لأولئك الماجنين، فيشجعونهم على التمادي في بذيء الكلام، ولما أفرط أولئك الأراذل في سفههم قلت لمن معي: عرفت أكثر مدن أوروبا وبعض مدن الشرق، فلم أجد فيها ما أجده في هذا البلد من تحرش الرجال بالسيدات، ولا أدري من أين تأتي للشبان الجرأة على أن يتحرشوا بسيدة لا يعرفونها، والأغرب أنهم وهم يرون منها النفور والاشمئزاز والاقشعرار يستمرون يغازلونها بقحة، ويطارحونها الكلام الذي يورد وجنتيها.
فقال أحد رفاقي: الحق أن كل حسنة من حسنات التمدن، الذي اتصل بهذه البلاد تمحوها هذه السيئة القبيحة.
فقلت: وايم الحق إن مواظبة الوقح على مطارحته الكلام لمن يشمئز منه لغلاظة لا توجد حتى عند همج أفريقيا، فلا أعلم بأي جرأة يفعل ذلك مدعو المدنية هنا.
فقال رفيق آخر: الذنب ذنب الحكومة؛ لأنها لا تشدد على الشرطة أن يقبضوا على كل متحرش بسيدة لا يعرفها.
فقلت: والأنكى أنه لا يوجد بين كل هؤلاء الذين هنا يسمعون هراء هؤلاء المهاذير إلا من يضحك لهم ويقهقه معهم، وليس فيهم ذو هيبة وحمية ينتهرهم، ويؤنبهم على بذاءتهم، ويدفع عن هذه السيدة قحة هؤلاء الأسافل.
كنت أقول هذا الكلام على مسمع ممن حولي، وأنا أنتفض من الغيظ وربما سمعت إيفون بعض قولي، وكان بالقرب مني شاب وطني عليه دلائل النعماء، وكان أكثر الحضور قهقهة ونفسه تحدثه بأن يشترك مع الماجنين في مزاحهم البذيء، ولاحظت أنه ذو معرفة بإيفون وأنه يتعمد نكايتها، وقد سمع أكثر قولي ولا سيما آخره فقال وقد ظهرت على وجهه أمارات الغضب: حسبها أنت مدافعا عنها. - نعم أدافع عنها، وكان الأحرى بك أن تعقل لسانك لا أن تدلعه بهذا المجون، وتقفل فمك لا أن تفتحه بهذه القهقهة القبيحة. - ما شأنك أنت؟ - شأني كشأن كل ذي عرض يحمي العرض. - كن ما شئت ولكن لا شأن لك مع سواك، الناس أحرار. - المكان عمومي فعلى كل من فيه أن يتحامى المساس بإحساسات الآخرين. - ليس من يتعرض لك بأمر. - بل إن التحرش بهذه السيدة بالبذاءة والقهقهة يسوآن الآخرين، فالأفضل أن تلزم أدبك.
وكان التحمس حينئذ قد أوقفني على قدمي من غير أن أنتبه، وهو قد وقف مثلي وكلانا يتحفز للوثوب على الآخر، وسائر من في المكان ينظر إلينا متوقعا شرا، وبعضهم يتساءلون ما الخبر، ولما رأى خصمي أن عيني حمراوان وأني متصد للقتال: قال: أتعلم أنك تدافع عن امرأة مبتذلة؟ - ولكنها أشرف نفسا منك، وأكثر تأدبا من كل معرض بها. - أراك عديم الأدب قليل الحياء. - بل أنت بذيء اللسان سافل النفس.
وهجمت عليه أريد أن أضربه فاعترض بيننا الأصدقاء، وعند ذلك وقعت من عيني لمحة على إيفون فرأيتها واقفة مع الواقفين، وهي ترتجف جازعة، وشاهدت وجهها كأن صفرة الموت قد علته - سلامتك يا إيفون يا حياتي - وسمعتها تقول: «يا الله يا الله» كأنها تخاف أن ينتهي خصامنا بسفك دماء، فقلت لها: لا تخافي يا سيدتي لا أبتغي القتال، وإنما ابتغيت أن أقطع ألسنة السفهاء.
فرأيت حينئذ شفتيها تتحركان ولم أسمع ماذا قالت، وفي الحال ولتنا ظهرها وتوارت، وعاد الناس كل إلى مكانه، وصحابي مضوا بي تحاشيا للشر.
وبعد هنيهة خمدت جمرة انفعالي، وشعرت بارتياح إلى ما فعلت وكنا وأصحابي نتحدث بإيفون وجمالها الباهر، وسماحة طلعتها ورزانتها وخيلائها وحشمتها، وتعجبوا كيف أن مومسا تتصف بصفات المحصنات.
فسألت موريس: إذن إيفون مومس؟
فأجاب: نعم هي مومس في عرف الجمهور، ولكنك متى اطلعت على سيرتها تستخلص منها وصفا لغير مومس.
فارقت أصحابي في آخر السهرة إلى البيت والسهاد يحاول ألا يفارقني، اضطجعت في سريري والأرق مضطجع في سرير أجفاني لم أتضجر من ذلك السهد، بل كانت مقلتاي تستلذانه، فكانت أفكاري ترفرف في جو الخيال فتعلو تارة وتهبط أخرى، وهي مجنحة بأجنحة من تذكار إيفون.
تصفحت سفر مخيلتي مرارا عديدة لأرى رسم إيفون، ورددت ما انطبع فيه من حالاتهما في حادثة الجيزة، وتمثلت جلستها إلى مائدة الشراب ويدها تتناول الكأس، وشفتيها تترشفانه ومنديلها يلثم ثغرها ويمتص السائل عن شفتيها، وتخيلت رزانتها بين الماجنين وغليان غيظها، وحلمها يبرده، ثم تصورت أزيزه وفورانه حتى كاد ينفض غطاء الكظم عن مرجل الغضب.
استعرضت في مخيلتي سيناماتوغراف هذه الحوادث مرارا، فكنت دائما أتمثل إيفون فيها ملكة بلا تاج وملاكا بلا جناحين.
كلما تصورتها مومسا قام ضميري يغالطني في هذا التصور؛ لأن مظاهرها العرضية والجوهرية كانت تختلف بعض الاختلاف عن مظاهر المومسات، كان ثوبها بسيط الزي ولكنه نفيس جدا وحلاها قليلة، ولكنها ثمينة ومركبتها فخمة جدا كمركبات العظماء.
تراءت لي إيفون حينئذ سامية المقام عزيزة الجانب شماء النفس شريفة العواطف الخلق طاهرة القلب، اعتقدت حينئذ أنها تتصف بكل هذه المحامد لماذا؟ لأني لم أكن أعرفها ولا أعرف عنها شيئا، فتأملت مظهرها في قهوة الجيزة، فكان يروي هذه المعاني.
لا يقع نظرك على شخص لأول مرة إلا ينطبع في ذهنك رسم لأخلاقه منسوخ عن ملامحه، ولا يندر أن تجده بعد الاختبار مطابقا أو مقاربا لرسمه الأول الذي انطبع في ذهنك.
ظهرت لي إيفون بعدئذ أسمى مما تخيلتها، شغلت بالي معظم الليل؛ لأنها ملأت قلبي، كانت تحدثني نفسي بأن أكون عشيقها وكان الأمل يصور لي وجودي بقربها متنعما بهواها متمتعا برضاها، ثم لا ألبث أن أكشف عن رسمها في ذهني فأرى عظمتها، وأشعر بجلالها فأتوهمها أسمى من أن تعبأ بمثلي.
لماذا؟
لأنها مضت بعد الحادثة من غير أن تثني علي ثناء صريحا، ولا اهتمت أن تعرف من هو الذي دافع عنها، بل أدارت ظهرها ومشت قبل أن ننتهي من مشاجرتنا القصيرة، لماذا لم أؤاخذها على هذا الإهمال، بل عزوته إلى سمو قدرها؟ لأن الحب الذي يعظم المحبوب في عيني المحب يختلق المعاذير.
أظن أن دجية الهجوع لم تنسدل على قضاء خيالاتي حتى الساعة الثالثة بعد نصف الليل، وما طنت السابعة حتى فتق بصري غشاء الكرى، وشعرت كأن عيني قد استوفتا حاجتهما من النوم.
قضيت ذلك النهار وفكري حائم حول إيفون لا يصرفه شاغل عنها، حتى يعود فينتهي إليها.
ذهبت في ذلك المساء إلى قهوة الجيزة، ولماذا لم أذهب إلى مكان آخر؟ أليس طبيعيا أن أذهب إلى هناك لعلي أصادف إيفون؟ هناك رأيتها أول مرة، وإلى هناك ظننتها تتردد لم أعلم أين يمكن أن أصادفها في غير الجيزة.
كانت قهوة الجيزة مزاري كل مساء في ذلك الأسبوع من الخامسة، حتى السابعة وإيفون لم تومض لها بارقة في ذلك الأفق. وبعد السابعة كنت أعود، فأطوف الحانات الكبرى والصغرى، فلا أعثر حتى على طيف منها، لم أكن أعرف اسمها حينئذ لأسأل عنها.
إذا كانت مومسا فلماذا لا توجد في الأزبكية؟ لماذا لا تتمشى مع رصيفاتها بين وجه البركه ونيوبار؟ لماذا لا تصادف في «سنت جايمس» ولا في «السفنكس»
2
وإذن كانت من البغيات. وإن كانت محصنة أو محظية فلماذا ذهبت وحدها إلى الجيزة؟ حرت في أمرها وكنت أزداد افتكارا بها يوما بعد آخر حتى صارت شغل بالي الشاغل، لم أعد أستطيع أن أفكر بسوى إيفون، فكان فكري كالغصن المعتدل المرن إذا لوته المشاغل عنها هنيهة، فلا يعتم أن يعتدل مصوبا إليها.
لماذا كلفت بإيفون هذا الكلف مع أني لم أعرفها، ولا رأيتها إلا مرة واحدة قصيرة؟ لأن النفس كانت تطمعني بقلبها بالرغم مما توهمته من خيلائها، حدثني ضميري أنها إذا رأتني فلا بد أن تثني علي وتلاطفني، وفي خلال ذلك على ولوعي بها فتميل إلي.
خطر لي في اليوم التاسع - وكان يوم الاثنين - أن أعدل عن التنزه في الجيزة في ذلك اليوم، لم أدر لماذا؟ مع أن نفسي كانت ميالة إلى التنزه هناك، فركبت مركبة وقصدت إلى الجزيرة وأنا أقول لنفسي: «لعلي أراها هناك.»
دارت المركبة بي في دائرة الجزيرة الصغرى دورتين، وإذ كانت قرب الجسر (الكبري) الذي يعبر عليه إلى طريق الجيزة لمحت على حين غفلة إيفون في مركبتها الفخمة مرت أمامي كالبرق الخاطف واجتازت الجسر.
رأتني كما رأيتها ولم تبد أقل إشارة، ولا استوقفت عربتها لتكلمني كما كنت أؤمل فاستولى علي اليأس حالا، وصرت أعلل ذلك بأنها تناست ما كان مني ولم تحسبه ذا أهمية كما ظننت، وجعلت أقنع نفسي بأن ما أحسبه مأثرة لي ليس إلا سخافة.
وكانت مركبتي قد انثنت لتستأنف دورة ثالثة، ولكن بعد هنيهة تجدد أملي؛ لأنه حيث يوجد الميل ينشأ الأمل، فأوعزت إلى الحوذي أن ينثني وينطلق إلى الجيزة؛ لأني قدرت أن إيفون قاصدة إلى هناك.
درجت بي المركبة مسافة في ذلك الطريق والوهم يصور لي أني إذا أدركت إيفون، واجتمعت بها فقد لا تعبأ بي كثيرا بل تضحك مني، وتقول في نفسها: «ما أسخف عقله! ما رآني حتى تبعني»، تجسم بي هذا الوهم؛ لأنها لم تحيني إذ رأتني ولا أمهلتني حتى أحييها؛ لذلك قلت للحوذي أن يرجع، فألوى العنان متجها إلى الجزيرة.
وما كدت أصل إلى الجسر حتى ندمت على رجوعي، ولمت نفسي على جبني وقلت: أتبعها إلى الجيزة ولتقل ما تقول، وأمرت الحوذي أن يلوي العنان ثانية فدرجت بي المركبة إلى هناك وأنا أفكر في كيفية الالتقاء بإيفون، وماذا أفعل إذا رأيتها في الحانة وماذا أكلمها، ولكن فؤادي كان شديد الخفقان حتى كنت أسمع خفوقه بأذني، وكثيرا ما ترددت في أمر لحاقها، وهمت غير مرة أن أقول للحوذي أن يرجع بي ، ولكني أسكت لساني عن ذلك مخافة أن يظنني الحوذي أهوج أو مجنونا.
ما أدركت مركبتي حانة الجيزة حتى رأيت إيفون خارجة من مدخلها الكبير، وحوذيها يدنو بالمركبة إليها، فقلت لحوذي مركبتي: أن يستمر في طريقه وغضضت نظري عنها؛ لأني خفت أن تعلم أني أتبعها، وأوهمت أني أتقدم في طريق الأهرام، أما هي فلا أدري إن كانت قد رأتني.
لعنت نفسي ألف لعنة لترددي السابق في اللحاق بها؛ لأني لو اتبعتها في الحال لأدركتها في الحانة.
وما تقدمت بي مركبتي نحو ربع كيلو متر حتى أمرت الحوذي أن يعود مسرعا ما استطاع؛ لعله يدرك عربتها فأتبعها إلى حيث تنتهي فأعلم مقرها، ولكن خاب ما أملت لأن مركبتها كانت مشدودة إلى مطهمين يسابقان الرياح، عضضت أصابعي ندما ولكن لات ساعة مندم، مر على هذه المصادفة نحو شهرين من غير أن تعاد، قل ترددي إلى الجزيرة والجيزة، وفتر وجدي حتى كدت أنسى إيفون؛ أولا لأني لم أعد أصادفها فضعف أملي بلقائها؛ ثانيا لأني لما رأيتها في الجزيرة تراءت لي كأنها لا تعرفني. علمت بعد ذلك أنها كانت في الإسكندرية مدة ذينك الشهرين.
الفصل الرابع
لقاء فيه الداء
جاء فصل الشتاء وفتحت الأوبرا الخديوية قلبها للمغرمين بالتمثيل، قصدت إليها لأول ليلة في ذلك العام، وكان كرسي في وسط الجانب الأيمن من الدرجة الأولى، جعلت أجيل نظري في جهات الملعب؛ لأنظر القادمين لا لأترقب إيفون؛ لأني كنت قد يئست من لقائها، ومع ذلك خطرت على بالي ليلتئذ، خاطر عار من الرجاء.
بعد بضع دقائق بدا في مقصورة (بنوار) على يميني شاب جميل الطلعة جدا أنيق المظهر عليه النعماء يلبس طربوشا، ومعه سيدة تزري بالملكات في جمالها وبهائها، ونفاسة زيها فشككت في أنها إيفون؛ لأن مظهرها كان يختلف عن المظهر الذي رأيتها فيه لأول مرة.
لا تعجب من ذلك يا دكتور بوشه، فإن التبرج يغير منظر المرأة كل التغيير، فقد ترى أختك في الأوبرا فلا تعرفها.
كنت أختلس النظرات منها كل هنيهة، وهل أستطيع أن أكف نظري عنها؟ بعد حين لاحظتني أخالسها النظر، فعادت ترمقني بألحاظ غير حادة كأنها مصوبة إلي عفوا لغير معنى؛ ولهذا لم أتأكد أنها هي نفسها، على أنها أصبحت شاغلا لبالي.
ولما انتهى الفصل رجعت عن مطل المقصورة، وجعلت تحادث الشاب الذي كان معها وفي خلال حديثهما دخل عليهما فتى إيطالي أعرفه جيدا يدعى أوغستو سلا فأنعش دخوله عليهما فؤادي، بقي معهما حتى نهاية الفصل الثاني وحينئذ لم أختلس منها إلا نظرتين أو ثلاثا، وصممت على أن أراقب أوغستوجين يخرج وأقابله وأسائله عنهما.
ومن حسن حظي أنه خرج عند نهاية الفصل الثاني، فالتقيت به في فناء الملعب فحييته تحية الصديق الحميم مع أنه لم يكن قبلا من جملة أصدقائي الأخصاء، فأجابني بتحية ودودة، وما تكلمنا جملتين حتى استدرجته إلى الموضوع الذي أنويه، فقال: إن المدموازيل مونار أعجبت بهذا الجوق الجديد. - ما شأن هذه المدموازيل؟ ومن هذا الذي معها؟
فقال متعجبا: ألا تعرف المدموازيل إيفون مونار؟ - كلا. - عجيب جدا أنك لا تعرفها، وكثيرون يعرفونها لشهرتها في الجمال واللطف والأدب. - لسوء حظي لا أعرفها، ولعلي رأيتها قبل الآن، من هذا الشاب الذي معها؟ - الأمير ص. ك. وهي محظيته الآن. - كذا. - نعم، وهو على علم وأدب. - أظنه أتى بها من أوروبا؟ - كلا بل كانت مقيمة في منزل كبير في حي الإسماعيلية، وقد جعلت بيتها شبه حانة خاصة بالكبراء المتأدبين، وفيه تعرف بها الأمير، ثم وافقته على ترك الحانة والإقامة في منزل خاص بها وهو ينفق عليها سرا. - إذن لا يزورها الآن غيره. - بل يزورها أي من شاء من معارفها في أوقات الزيارة. - هل يعلم الأمير بذلك؟ - من غير بد؛ لأنها لا تتظاهر محظية له؛ ولذلك تعيش على هواها غير أنها محافظة على عهودها معه وأمينة له أمانة الزوجة للزوج، وهو مهذب يقدر الأشخاص قدرهم؛ ولهذا وثق بها ولم يشأ بل لم يجسر أن يقيدها بقيد. - أظنك عرفتها لعهد حانتها الخاصة. - نعم؛ لأن لي صلة شغل بالأمير، فكنت أتردد معه إلى منتداها قبل أن احتظاها، والآن أزورها كثيرا مع الأمير ووحدي. - هل ترى التعرف بها عزيزا الآن؟ - أتريد التعرف بها؟
فزممت شفتي كأن الأمر لا يهمني، فقال: إنها لفي منتهى اللطف يا مسيو كاسيه، وكل معارفها عشاقها لطيب عشرتها، فإذا شئت أعرفك بها فهلم. - والأمير؟ - أعرفك به أيضا. - لا ليس الآن. - أظن أن الأمير يمضي قبل نهاية التمثيل، فإن شئت أقدمك إليها وهي وحدها. - بأي صفة؟ - عجيب! ألعل التعريف عقدة سياسية؟ - لا لست أحسبه عقدة، ولكني أود أن تقول لها في ذلك أولا، فلعلها تأبى استقبالي مراعاة لخاطر الأمير، فأعود كاسف البال. - قلت لك: إن الأمير لا يحظر عليها ذلك، على أني أستأذنها من أجلك. - لا تدعها تفهم أن الأمر كان بإيعازي، وإنما كان باستحسانك لما بيننا من الصداقة.
إذن أشير إليك من المقصورة أن تأتي. - كلا كلا، بل أرجو منك تأتي إلي وتأخذني إليها؛ لكي تجعل قيمة لصديقك الذي تقدمه لها. - حسن.
عدت إلى مقري فنظرت الأمير يودع إيفون وأوغستو، فطفر قلبي فرحا في صدري، وإذ كنت أرى أوغستو يسامرها جعلت نفسي تحدثني أنها قد تكون دون ما أنا أتوهمها، فلماذا أمثلها في نفسي شيئا عظيما؟ ولكني لم أكن أرمقها بنظرة حتى أرى من جلالها ما يوهمني أنها أرفع من أن تطولها عزة نفسي.
اجتهدت أن أرد نظري عن مقصورتها مدة الفصل الثالث حرصا على عزة نفسي وتجاهلا لمعرفتها، لماذا؟ لا أدري، ولما انتهى الفصل خرجت إلى رحبة الملعب الخارجية أنتظر أوغستو، لم يأت إلا بعد دقيقة تراءت لي ربع ساعة فسألته: ماذا قالت؟
فضحك قائلا: «مرحبا به.» - ماذا قلت لها؟ - «أود أن أقدم لك أحد أصدقائي، وهو شاب ظريف مهذب يدعى المسيو موريس كاسيه.» - هل دللتها علي؟ - لم تسألني ذلك. - إني لممتن لك جدا يا مسيو سلا.
صعدنا في الدرج المؤدي إلى رواق المقاصير، وأنا أكاد أتعثر بالدرجات، وأتوهم أن الأرض مرنة جدا تحت قدمي فلم أعلم كيف أمشي، ولما دخلنا شعرت أن لهيبا يتوهج من وجهي، فاستقبلتني إيفون بابتسامة كانت نسمة حياة لقلبي ، لا أنسى تلك الابتسامة السماوية ولكني لاحظت أنها بوغتت بمقابلتي، كأنها لم تكن تنتظر أن أكون أنا المقدم لها، قدمني أوغستو لها فمدت إلي يدها مصافحة، ثم قعدت على الكرسي المقابل لها، شعرت حينئذ أني لدى ملكة جليلة، وما أمهلتني أن أخاطبها بموضوع الرواية حسب عادة المتخاطبين في مثل ذلك المقام فبادأتني سائلة: أظن حضرتك الذي رأيته في حانة الجيزة منذ مدة. - ربما.
وحينئذ اتضح لون الحياء في وجهي فتفرست في وقالت: لا أظنني غلطانة، أما أنت الذي أنب يومئذ ذلك البذيء لمضاحكته أولئك السكارى؟ - أتأسف لما حصل يا سيدتي. - إني أشكر مروءتك جدا يا مسيو كاسيه، وأعترف أني قصرت عن أداء الشكر لك إذ لم يتسن لي في حينه.
فقال أوغستو: ما المسألة؟
فراوغت من سبيل سؤاله قائلا: ليس الأمر ذا أهمية. كيف رأيت الرواية يا مدموازيل مونار؟ - استحسنتها جدا؛ لأنها كلها عواطف، كدت أبكي في هذا الفصل، فابتسمت قائلا: إذن تميلين إلى الروايات الإحساسية. - جدا، وأنت؟ - لا أقرأ سواها تقريبا. - تفعل حسنا؛ لأن الروايات التي اقتصر فيها على ذكر الحيل والدسائس تعجب القارئ إعجابا فقط لأنها تدل على قدرة واضعها في اختلاق حوادثها الغريبة، ولكنها لا تفيده فائدة أدبية، وأما الروايات الإحساسية فتؤثر على نفسه التأثير المقصود منها، فإن كان مغزاها أدبيا مفيدا هذبت خلقه ودمثت طبعه، وأنا أشعر أن أخلاقي ربيبة الروايات. - ولكن مزاجك يا سيدتي لا توافقه مطالعة الروايات الإحساسية؛ لأن حوادثها المؤثرة تفعل في نفسك ما يؤثر على صحتك أحيانا.
فنظرت إلي نظرة حادة كأنها لم تعهد قبلا مثل هذا الإحساس نحوها من أحد معارفها وقالت: نعم أعلم ذلك، ولكني أشعر بلذة فائقة حتى حين أبكي متأثرة.
وعند ذلك التفتت إلى جهات الملعب وتناولت منظارها، وقدمته لي باسمة فتقبلته شاكرا، ونظرت فيه نظرة قصيرة ورددته إليها، أما هي فكانت ناظرة إلى صحن الملعب من غير اكتراث، أجلت نظري في المقاصير المقابلة لمقصورتها، فوجدت بضعة عشر منظارا متجهة إلينا، ولاحظت بعد ذلك أنه ما من منظار في الملعب إلا صوب إليها مرارا، أما هي فندر أنها نظرت في منظارها، بقينا بعد ذلك هنيهة ساكتين فاغتنمت فرصة استرسال نظرها في فضاء الملعب، وتأملت ذلك الجمال السماوي.
لو اجتمع مهرة المصورين وصانعي التماثيل، وأفرغوا كل جهدهم في أن يجمعوا في تمثال واحد صفوة المحاسن، وخلاصة الجمال نقلا عن مخيلاتهم لكان ما يصطنعونه تمثال إيفون بعينه.
هيكل متناسب الأعضاء كأنه صب في قالب مصوغ من الأذواق السليمة، لم أقدر حينئذ أن أتمثل قامتها؛ لأنها كانت جالسة، على أني ذكرت إذ رأيتها في الجيزة أنها أميل إلى الطول بالنسبة إلى جسمها، ولكنها معتدلة بالنسبة إلى سائر النساء؛ ذلك لأنها كانت أرق جسما من معدل الأجسام النسائية، ومع رقة جسمها لم تتراء لي نحيلة فكان وجهها ممتلئا، ونظرت إلى كفها العارية من القفاز (الجوانتي) فوجدتها مكسوة السطوح كالبطحاء لا منخفضات فيها ولا مرتفعات، وأناملها مستطيلة قليلا تكاد تظهر منتفخة عند عقدها الأولى، وهذا من دلائل عصبية مزاجها، وأظافرها لا تتميز عن اللؤلؤ النقي الشفاف إلا بكونها ضاربة إلى الحمرة الوردية قليلا.
ولولا كثافة شعرها الفاحم لتراءى رأسها صغيرا بالنظر إلى بدنها؛ لأن وجهها يتراءى كذلك، لم أشهد في حياتي رواء أصفى من رواء وجهها، فكنت أتوهم أن لأهداب جفنيها ظلا في أعماق وجنتيها كظل العشب النابت على ضفة النهر في الماء الصافي، ولا رأيت قط نجلا كنجل عينيها إذا أطرقت ظننت الجفن العلوي يغطي الجفن السفلي، وإذا رفعت نظرها فمهما انفرج جفناها لا تظهر حدقتها كلها، لا ترى لها من المقلة إلا شكل نواة لوزة مستدقة أوسطها حالك السواد وجانباها عاجيا البياض، وفوق عينيها حاجبان مقوسان دقيقان، ولكنهما حالكان - يتكاثفان حيثما يتطرفان، ولكنهما لا يتلاقيان، ويستدقان حيثما يتطرفان ولكنهما لا ينطلقان، وبينهما أنف يوناني تتوهمه شفافا، وتحته شفتان كأنهما ورقتا شقيق ملتفتان حيثما تتماسان، وبينهما قناة منحنية قليلا متحدرة الضفتين، وقد فرش قرارها مثل اللآلئ كأنها مجرى للابتسام وعذب الكلام.
كل لمحة من ملامحها تدل على عاطفة في داخلها.
إذا تكلمت تصورت قلبها بين شفتيها، ومتى تفرست خلت روحها تطل من عينيها، وإن سكنت توهمت أنك تسمع خطرات أفكارها، أو أنك ترى ضميرها يرتسم على محياها، فكأن روحها وضميرها وذكاءها وكل عواطفها قد تجسمت حتى بدت جسدا يحوي جسمها، الذي رق ولطف وشف حتى صار خيالا روحيا، رأيتها رزينة جدا ولكن البشاشة خلقة في طلعتها، ونور البشر خالد الإشعاع عن وجهها.
ولما أوشك الستار أن ينكشف عن الفصل الرابع استأذنتها وصافحتها، وعدت إلى مكاني، وبعد ذلك لم أعد ألتفت إليها إلا نادرا، فكرت بكل كلمة قالتها إيفون، أعملت ذهني في أن أستدل من حديثها معي على اكتراثها بي فلم أجد دليلا مقنعا، ذبت وجدا واحترقت غيرة؛ لأنها لم تحفل بي ولا دعتني لزيارتها ولا استبقتني في مقصورتها إلى أن ينتهي الفصل على الأقل، ولا فسحت لي مجالا لمحادثتها فوهن خيط رجائي.
بعد التمثيل ركبت مركبة، وتبعت مركبتها حتى وقفت أمام منزل باذخ في التوفيقية، وكان أوغستو معها فصعد أمامها إلى المنزل، صرفت مركبتي وبقيت أتمشى منتظرا رجوع أوغستو فلم يرجع حالا، ثم انتبهت إلى أنه لا يليق بي أن يعلم أوغستو بلحاقي بهما فانصرفت حالا.
قضيت ذلك الليل يقظ البال مضطجع الجسم، وطيف إيفون يرفرف فوق سريري واليأس والرجاء يتجاذبانني، يئست لعدم إعبائها بي كما كنت أنتظر. ولكن تيهها علي هو الذي زاد ولوعي بها، ولو لاطفتني كثيرا لعدت زاهدا بها ورافضا نعمة ساقتها الأقدار إلي، حدث لي غير مرة أني صادفت فتاة جميلة، فشغلت بالي كما شغلته إيفون حتى إذا اجتمعت بها، وظفرت منها بقبلة عدت زاهدا بها.
خطر لي أن أتذرع إلى زيارتها بواسطة أوغستو، ولكن لسوء حظي برح في اليوم التالي إلى الإسكندرية لأجل غير مسمى.
الفصل الخامس
نسمات باردة
ذهبت بعد ذلك ليلتين إلى الأوبرا فلم أجدها، فكنت أطوف الحانات الكبرى مثل سنت جايمس وغيرها، فلم أصادفها قط، تمشيت بعض الليالي حول منزلها، وأخيرا خشيت أن يلاحظ الخفير أمري فيوجس مني.
رأيتها ذات ليلة في الأوبرا والأمير معها، وبالرغم من مجاهدتي أن لا أنظر إليها وقعت عيني على عينها مرة، فاستدعتني بإشارة لطيفة فترددت في أول الأمر تخوفا، ولكني نفضت الجبن عني وذهبت إلى مقصورتها، فاستقبلتني والأمير بكل بشاشة وقالت له: المسيو موريس كاسيه الذي ذكرت لك مروءته.
فحنى الأمير رأسه وصافحني قائلا: أشكر لطفك يا مسيو كاسيه.
فرددت له صدى المجاملة، وانتقلت في الحال إلى حديث التمثيل، ومع أن الأمير لاطفني وهي بشت لي شعرت أن انصرافي العاجل أليق بي من البقاء، فخرجت بعد بضع دقائق أتعثر في سبيلي.
وفي ليلة أخرى ذهبت إلى الأوبرا مع أختي وخطيبتي وابن خالها ...
قال الطبيب: فقاطعته قائلا: إذن أنت خاطب؟
كنت خاطبا حينئذ وفككت عقد الخطبة لسبب سأذكره لك متي انتهيت من قصتي مع إيفون، رأيتها وفانتين وصيفتها في مقصورة مقابلنا، وقد صوب من معي المنظار إليها فجعلوا يقولون: «من هذه الجميلة؟» فقلت: إنها فرنساوية زوجة أمير شرقي، وإني تعرفت بهما مصادفة.
نظرت إليها كثيرا فلم أرها تلتفت نحونا إلا نادرا كأنها لا تعرفني، حيرني سبب تجاهلها إياي حينئذ وذبت وجدا من إعراضها.
ولما انتهى التمثيل مضيت ومن معي إلى نيوبار؛ لكي نتناول بعض الأشربة ودخلنا إلى إحدى الزوايا، فدهشت إذ رأيت إيفون والأمير أمامنا، نظر إلينا الأمير باشا فحييته مصافحا، وقدمته لمن معي وقدمتهم لإيفون فبشت لهم، ألح الأمير أن نجلس معهما فجلسنا.
كانت إيفون قليلة الكلام حينئذ، ولكنها لم تبخل البتة في ملاطفة أختي وخطيبتي، والابتسام لهما بالقدر اللائق وكذلك الأمير لم يدخر جهدا في مجاملتنا وإكرامنا، بعد بضع عشرة دقيقة التمست إيفون من الأمير أن ينصرفا فانصرفا.
صادفت إيفون بعد ذلك بضع مرار في مركبتها، ولكنها مرة واحدة رأتني فأشارت لي إشارة تحية بسيطة، كنت أتوقع أن أراها في الأوبرا لكي أزورها في مقصورتها، وصممت أن أبث لها حينئذ بعض ولوعي بها، ولكن عبرت عدة ليال وسناؤها لم يسطع في ذلك الأفق.
نفد صبري ولم أعد أطيق الاصطبار، صرت أشعر أن لقاء إيفون أهم لحياتي من الماء والهواء، نفر النوم من جفني وخفت أن تلاحظ أمي وأختي أرقي فتقلقان، وتبحثان عن سببه، أصبحت نزقا سوداوي المزاج فكنت أتكلف البشاشة تكلفا، قلت زياراتي لخطيبتي، وصارت توجس خيفة من زهدي بها.
وأخيرا قلت لنفسي: ماذا يمنع أن أزور إيفون في منزلها، وإن لم تكن قد جرأتني على ذلك، صممت على زيارتها مؤثرا الساعة الثالثة لذلك على أمل أن يكون مجلسها خاليا من الزوار.
الفصل السادس
سلسبيل حديث
يممت ذلك المقام السامي خافق الفؤاد. ما بالك تضحك يا عزيزي بوشه من تخوفي هذا؟ لم أكن أخاف من إيفون ولا من الأمير، وإنما كنت أخاف أن آتي أمرا تستنكره إيفون فتستثقلني فكنت أبذل جهدي أن أظهر لها خفيف الروح رقيق المزاج.
أرسلت مع البواب بطاقتي، وبقيت في المركبة، وبعد بضع دقائق عاد يقول: «تفضل»، فأوجست من تأخره وقلت: لا بد أنها ترددت، استقبلتني فانتين بطلعة باشة وفتحت لي القاعة، فوجدتها على غاية من الترتيب والنظام.
كنت أظن أن إيفون تستقبلني بثوب المنزل؛ لأني كذا أعهد رصيفاتها في منازلهن، ولكنها وافت إلي بعد عشر دقائق بثوب أنيق كأنها تستقبل زائرا نبيلا، وبعد التحية قالت باشة: كنت أنتظر زيارتك قبل الآن يا مسيو كاسيه. - ليتني عرفت أني حاصل على هذه النعمة يا سيدتي.
فابتسمت قائلة: أما خطر لك لأول تعارفنا أن تزورني. - نعم تمنيت ذلك بيد أني لم أعلم في أي الأحوال تجوز زيارتي. - ولكن كيف علمت الآن؟
فتوقفت هنيهة ثم قلت: أتيت الآن مقدما رجلا ومؤخرا أخرى؛ خيفة أن تزعجك زيارتي. - أراك حذورا جدا يا مسيو كاسيه. - لأني أعلم أن بعض الزائرين يلجئن السيدات أمثالك أحيانا إلى أن يبتسمن لهم في وجوههم، ويضحكن عليهم في أقفيتهم وهم يعلمون ذلك ولا يبالون. - ولكنك لست من أولئك الزائرين. - وأنت تجلين عن أولئك السيدات فأحمد الله على ذلك.
وكان البشر حينئذ يسطع عن محياها، وشعرت أن كل نغمة من نغمات كلامها اللطيف جذبة لي نحو فؤادها حتى صرت أتخيلها أخيرا منطرحة على ذراعي، أو متكئة على صدري، وكل ما كنت أراه من خيلائها وتيهها في الماضي أصبح حينئذاك وداعة ورقة، وكل ما توقعته من تدللها وإعراضها وجدته لطفا ورضى وتعطفا؛ ولذلك انقلب تخوفي السابق إلى جرأة، وتحول ترددي إلى دالة ويأسي إلى أمل، وبعد سكوت هنيهة قالت بلهجة رقيقة جدا وبثغر باسم، وقد لاحظت أن ظليلا من الحمرة غشي وجهها: ما الذي حملك يا مسيو موريس على زيارتي الآن؟ - ألعلك لا تستقبلين الزوار الآن؟
فتململت قليلا وقالت: لست أعني أن زيارتك لي أمر محظور في حين من الأحيان، وإنما أستفهم عن الداعي الذي ساقك إلي.
وكان ثغرها يتدفق ابتساما ووجهها بشاشة، وشعرت أن وجهي يتلهب والدم يتدفع في عروقي، فقلت: لا أظن يا سيدتي أن داعي زيارتي أمر خفي، ظننت نفسي أحد أصدقائك فرأيت أنه من الواجب علي أن أزورك، وما أراني أسأت الظن. - بل أحسنته، مرحبا بك.
ثم أدارت نظرها في القاعة إلى أن انتهى عند البيانو فقالت: لا بد أنك تحب الموسيقى؟ - جدا. - فتود أن تسمع الآن لحنا؟ - إنه لطف عظيم جدا يا مدموازيل.
بعد ما ضربت على البيانو عدة ألحان هممت أن أمضي، فأمسكتني قائلة: لست تذهب، بل تبقى إلى أن نتناول الشاي، فإني منتظرة صديقين قد دعيا نفسيهما لتناوله عندي. - أشكر لطفك جدا.
ثم جلسنا نتحدث فكنت أراني حينئذ في بحر من السرور عميق القرار، وما دنت الساعة الرابعة حتى وافى إلينا صديقاها المنتظران: المسيو أوكتاف بوشار، والمسيو فكتور تينارديه، وهما شابان في عنفوان الشباب، فعرفتهما بي، أما المسيو تينارديه فخفيف الحركة جدا، ولكنه كان ثقيل الظل على قلبي؛ لأنه منذ دخل لم يهدأ له ثائر، فكان تارة يجلس إلى البيانو فيلعب عليه، ثم يجلس إلى جنب إيفون فيمازحها، ثم إلى جنب فانتين فيداعبها، وأما إيفون فكانت تضحك منه كثيرا؛ ولهذا غرت منه وخفت أنها لا تستلطف الأصدقاء إلا إذا كانوا مهاذير كالمسيو تينارديه وما أنا كذلك، أما المسيو بوشار فكان أقل خفة من فكتور وأقل رزانة مني.
وبينما كان فيكتور يداعب فانتين جذبها إليه، وهم أن يلثم ثغرها فنفرت منه نفور الظبي من الذئب، فانتهرته إيفون غاضبة قائلة: إنك لوقح.
فضحك قائلا: وماذا يكون لو فعلت؟ - قلة أدب.
فاكفهر وجهه؛ لأنه رأى انفعال إيفون شديدا وقال: كلا بل هو الأدب بعينه. - بل هو التسفل بعينه.
فضحك ضحك الساخر قائلا: لسنا في كنيسة. - الأدب واجب في كل مكان فالزمه أو فامض. - إني أعلم في أي منزل أنا.
وعند ذلك كانت إيفون تنتفض من الغضب، وفكتور يقدح شرر الغيظ من عينيه فقالت له: ماذا تعني؟ - أعلم أني في منزل يجوز فيه كل شيء، فهل تريدين أن توهمي يا إيفون أن منزلك دار للملائكة. - متى رأيت فيه مثل ما فعلت.
وحينئذ كان بركان غيظي قد انفجر، فنهضت من مكاني إليه كأني أهم أن أضربه وقلت له: نعم إنه منزل الأطهار وأنت تدنسه، فاسترد كل أقوالك.
فوقف قائلا لي: ما شأنك أنت؟ - إنك تدنس هذا المقام ومن فيه.
وحينئذ اعترض المسيو بوشار بيننا، وتينادريه أجاب: ليس في هذا المكان نقتتل، عين مكانا للمبارزة وشهودك. - بل الآن أو ترجع عن قولك.
وعند ذلك غشي الاكفهرار وجه إيفون، واستلقت على المقعد مغمى عليها، فتركت فكتور ودنوت منها وجعلت أعالجها ووافى البقية يساعدونني، وبعد هنيهة أفاقت فأخذناها إلى سريرها، أما فكتور فاعتذر وتأسف على ما جرى، ثم مضى هو ورفيقه بوشار، وبقيت جالسا إلى سرير إيفون صامتا وهي مضطجعة لا تطيق التكلم، وفانتين جالسة عند قدميها تنتظر إشارة منها بأمر، وبعد برهة أمرتها أن تعد لها بعض اللبن، ثم التفتت إلي وقالت: موريس!
فخفق فؤادي لهذا النداء الذي رن فيه رنة القيثار السماوي، فأجبت: مولاتي. - إنك الرجل الوحيد الذي يحبني، كما أن فانتين المرأة الوحيدة التي تحبني كنفسها. - فانتين تحبك كنفسها، وأنا كم تظنين أني أحبك؟ - أعلم أنك تحبني كثيرا يا موريس، تحبني أكثر من جميع الرجال الذين عرفتهم. - أحبك أكثر من نفسي ... - لا تتسرع يا موريس لئلا تندم. - بل أعبدك. - لا تبالغ فتكذب. - آه يا إيفون لو تعلمين متى أحببتك، وكم أحببتك وماذا قاسيت في حبك. - علمت أنك أحببتني حبا حقيقيا، ولكن قل لي: هل تعرف حقيقة أمري؟ - أعرف أنك محظية الأمير ... - ... لا زوجته. - نعم. - إذن قد برهنت لي على حبك الصادق ثلاث مرات، والثلاثة عدد كاف للتوكيد، وأما غيرك ممن يدعون حبي حتى الأمير نفسه، فلم يوردوا برهانا واحدا. - بل إن كل لحظة من حياتي بعد إذ عرفتك هي دليل واضح على حبي لك يا إيفون، ولسوء حظي لم تطلعي على هذه الأدلة. - لا، لا تدري أنت أي البراهين أقنعتني بحبك، فاسمع أذكرك منها البرهان الأول في الجيزة ... - لا تذكري تلك الحادثة يا إيفون، فإن المروءة شيمة كل من يدعي الرجولية. - أصغ، لا تقاطعني، إنك لم تدرك ما عنيت، لا أحسب دفاعك عني برهانا على حبك لي؛ لأن دفاعا كهذا شيمة كل ذي مروءة ينبض في عروقه دم شريف كما قلت، ولكن قولك لذلك الوغد: «أرى أنها شريفة النفس»، هو البرهان الذي يقنعني، قد يمكن أن أنسى تلك الحادثة، ولكن هذه العبارة تظل تلوح في ضميري حتى متى صرت في عالم الأرواح؛ لأنها شهادة لنفسي الخالدة لا لجسدي الفاني، والله يشهد أني شريفة الروح. والبرهان الثاني في نيوبار إذ لم تستنكف أن تعرفني بأنسبائك مع علمك أني في عرف الناس امرأة ساقطة، والبرهان الثالث الآن إذ قلت لفكتور عن منزلي: «إنه منزل الأطهار وإنه يدنسه.»
سمعت ذلك الكلام الشريف مطرقا فقلت لها: إنك يا إيفون جوهر حياتي فأجدر بأهم جزء في شخصيتي أن يكون شريفا.
فابتسمت ونظرت إلي نظرة جسمت الرجاء في فؤادي، واسترسلت في كلامها: يعدني الناس ساقطة يا موريس ... - إنهم يفترون عليك. - أنت وحدك تعتقد كذلك؛ ولكن جمهورهم على أن المرأة المبتذلة الساقطة دنسة الجسد والنفس، وهب أنها جمعت كل الفضائل فلا يغتفرون لها ذلك الإثم لأجل فضائلها.
إنهم جائرون؛ لأني لا أرى فرقا بين المبتذلة والمحصنة التي تأثم نفس الإثم فضلا عن سواه، ومع ذلك يتسامحون لها.
بل هناك فرق عظيم وهو أن المحصنة تأثمه مختبئة وراء رجل تشركه بأذى إثمها، ومع ذلك يتعامى الناس عنه، وأما المبتذلة فتأثمه لاجئة إلى حريتها الشخصية، ولا يؤذي بإثمها سواها، ومع ذلك يرجمونها كأنهم بلا خطية، ويعاقبونها كأنها لهم أذنبت، كل أصدقائي يكرمونني ويعظمونني ويبذلون الغالي والرخيص لي ويتمنون رضاي، يفعلون ذلك في منزلي أو في خلوتي معهم، ولكنهم يأبونه علي في مجالسهم الخصوصية، ويستنكفون دخولي إلى منازلهم، يقبلون الأرض عند قدمي في غرفتي، ولكنهم ينكرونني في السبيل، يأكلون على مائدتي ولكنهم لا يقبلونني في حفلاتهم، وهو ذا الأمير وهو يساكنني استنكف أن يصطحبني إلى المرقص الخديوي، يتوددون إلي ويتغزلون بجمالي ويطنبون بمدح لطفي ويغالون في الثناء على دماثة خلقي، ولكنهم كلمة واحدة لا يقولون على طهارة نفسي، بل عند أقل خلاف بيني وبينهم يطعنون فؤادي طعنات نجلاء بنبال التعبير، كما فعل فكتور اليوم، لماذا يفعلون كذلك؟
لأنهم يحتقرون شخصيتي الروحية، ولا يكرمون شخصيتي الحيوانية؛ إلا لأنهم يحبون أنفسهم؛ فلأجل شهوتهم يتوددون إلي لا لأجلي، فمتى لا يكونون في حاجة إلى رضاي ينبذوني نبذ النواة، ولو كانوا يحبونني الحب الحقيقي لكانوا يذكرون لي محامدي الكثيرة ويمحون لي هفوة واحدة جرني إليها خداع الرجل، ودفعني إليها ضعف البشرية، ولما كانوا يستنكفون أن يترحبوا بي في منازلهم ويذكروا مآثري في حفلاتهم ومجالسهم.
قضي علي يا موريس أن أهفو مرة، فكانت تلك الهفوة علة ابتذالي وهواني كل العمر، أعلم يا موريس أني في نظر الآداب الاجتماعية امرأة ساقطة، ولكن ليس كل ما في شخصيتي ساقطا، لم تزل في نفس شريفة جدا، جاهدت طويلا في عمل المبرات، وتقلد الفضائل والحرص على العفاف، ففي حين كان الكذب ينقذني من مخالب الشر، أو يغنيني كنت أقول الحقيقة عن نفسي، وحين كنت قوية على هضم حقوق سواي كنت أتنازل عن حقوقي، وقد افتكرت بالفقراء وأنا في قمة عزي ومجدي، وآسيت الحزانى وأنا في نشوة سروري، وقد ضحيت بحياتي - آه حياتي - كلها حرصا على عرض سواي، فعلت كل ذلك لكي أمحو عاري ، فأبى الناس أن ينسوا زلتي ويذكروا لي حسنة من حسناتي.
وكانت حينئذ قد بلغت منها الحدة شدتها، فجلست في سريرها وألقت كفها على مخدتها مقومة ذراعها، وكادت عيناها تلفظان من وجهها، وأما أنا فكنت مبهوتا من هذا الخطاب، الذي لم أكن أتصوره يلوح في ضمير امرأة يعدونها ساقطة، وقد استرسلت فيه. - آه يا موريس كفرت كثيرا عن هفوتي الأولى، ولا ريب عندي أن الله قبل كفارتي وغفر خطيئتي، وأما عبيده فلم يزالوا إلى الآن يدينونني ويرجمونني بحجارة التعيير، والتحقير والازدراء، فهم يقتلون ويشهدون زورا ويسلبون ويغتصبون، ويظلمون ويزنون ونساؤهم تفعل المحرمات كلها ومع ذلك يتساهلون بعضهم لبعض، وينسبون واحدهم للآخر الفضل والشرف والنزاهة، وأما نحن النساء غير المحصنات فمخزيات مهما فعلنا من الصالحات، تعرفت بكثيرين فلم أجد واحدا يأخذ بيدي ويرفعني إلى مقام نفسي الحقيقي، تردد علي كثيرون من المحبين، ولكن كانت غايتهم سافلة، فإذا لم أنلهم إياها تفلوا في وجهي ومضوا، الأمير أفضل وأشرف من صادقني، ومع ذلك لا أراه يكرم في غير الجزء الحيواني، وأما نفسي الشريفة فلم يكترث بها ولم يعرف لها قيمة.
لم أجد غيرك يا موريس رجلا أجل حياتي الروحية، وتجاوز عن حياتي الجسدية فأنت الوحيد الذي أحبني الحب الحقيقي، ورفع نفسي إلى مقامها.
عند ذلك لم أتمالك أن تناولت كف إيفون الرخصة ورفعتها إلى شفتي ودموعي تبلها، بعد هنيهة تلاشت حدتها فنظرت في باسمة وقالت: إذن تحبني يا موريس. - إلى حد الجنون منذ رأيتك لأول مرة في الجيزة. - كيف ذلك وأنت لم تعرفني؟ - عرفتك حينئذ، عرفت أن لك قلبا كبيرا لم يزل خلوا من الحب الحقيقي، وروح ملاك طاهر وعواطف امرأة شريفة، ألا تكفي هذه المعرفة لأن تضرم نار حبك في قلبي؟ - عجيب! كيف اعتقدت ذلك في؟ - كان في كل لمحة من ملامحك بيان فصيح لمبادئك وأخلاقك. - لماذا لم يدرك ذلك سواك؟ - لأن الناس يحكمون عليكن حكما واحدا. - لماذا لم تسع إلى مقابلتي على الإثر؟ - جعلت قهوة الجيزة مزاري كل مساء، أين أتوقع أن أراك إلا هناك؟ - ندر أني ذهبت إلى هناك، ليتني علمت ذلك. - لم تفتكري بي وإلا لحدثك ضميرك أن تكون تلك القهوة ملتقانا. - افتكرت أن أراك لكي أشكر معروفك. - إذن لم يحدثك قلبك كما حدثني قلبي؟ - كلا. - ولا خطر لك أن تكلميني كلمة إذا صادفتني. - أنت قاس وإلا فلا تخز ضميري بهذا الكلام. - رأيتني في عربتك في الجزيرة، فكأنك لم تريني. - أنا؟ - أنت. - غلطان. - مؤكد. - لا أتذكر قط. - وقع نظرك على نظري كما هو واقع الآن. - إذن لم أعرفك. - أرأيت أنك نسيتني سريعا؟ - أتنتظر أن مثلي تذكرك في الحال؟ - ألم يكن هناك داع خاص لتذكيرك؟ - ولكنني لم أع طيفك في مخيلتي. - أنا وعيت. - لا ريب أنك نظرت إلي حينئذ كثيرا؛ لأن أولئك السكارى لفتوا الأنظار إلي، أما أنا فلم أرك إلا قدر لمحة إذ وقفت تناقش ذلك البذيء. - لم تتمهلي حتى تعرفيني جيدا. - لم يدع لي روعي مهلة لذلك، أما رأيتني بعد ذلك؟ - لم أرك بعد مصادفتي إياك في الجزيرة.
عند ذلك فكرت هنيهة وقالت: كنت مدة في الإسكندرية. - رأيتك أول ليلة من ليالي التمثيل في الأوبرا ... - رأيتك في كرسيك وأنت تخالسني النظر، فخطر لي أن لهذه الملامح صورة في مخيلتي، ولكني لم أفطن أين رأيتك قبلا حتى دخلت علي، ولما سألني أوغستو أن يقدمك إلي لم يخطر لي أنك أنت المعني. - لم تعبئي بي وأنا لديك في المقصورة. - رأيتك رزينا جدا فحاذرت أن أتمادى في مسامرتك. - لم تطلبي مني ولو من قبيل المجاملة أن أزورك. - لم أعتد أن أطلب ذلك من أحد. - أما علمت أني سعيت إلى التعرف بك بواسطة أوغستو؟ - فهمت أن ذلك كان بغية أوغستو لا بغيتك. - كذا كان الظاهر والحقيقة أني أنا التمست منه ذلك. - أترى أنك كنت أنوفا محاذرا؟ - نعم حاذرت خشية الفشل.
فضحكت قائلة: ولد، لماذا لم تزرني بعد تلك المقابلة؟ - تبعت عربتك إلى منزلك. - لماذا لم تصعد؟ - كيف أجسر؟ - مجنون. - اجتمعت بك ثانية إذ كان الأمير معك. - كنت أشد رزانة من قبل. - خشيت أن أسوء الأمير. - معذور. - رأيتني مرة وأنت في عربتك. - أذكر جيدا أني حييتك بابتسامة. - لماذا لم تستوقفي العربة؟ - هل كنت تنتظر ذلك؟ - أما كنت حينئذ قد أحببتني؟ - كنت قد بدأت تشغل قلبي، ولكنك إلى ذلك الحين لم تزرني. - لما كنت مع أنسبائي في الأوبرا لم تعيريني نظرة واحدة. - حاذرت أن يعرف أنسباؤك أن لك صلة بي. - كنت أود أن يعرفوا. - إذن قصدتم إلينا قصدا في نيوبار؟ - بل لقيناكم مصادفة. - لو عرفت أننا هناك؟ - لما كنت أتردد في أمر الاجتماع بكما إلا لأجل ما لاقيته من إعراضك ليلتئذ. - عرفتهم أني حليلة الأمير لا خليلته. - أليس ذلك أفضل؟ - أرأيت أنك تستنكف أن تعرف ذا صلة بمبتذلة؟ - توبخينني؟ - بل أعذرك، بل كنت ألومك لو لم تقل أني زوجة الأمير، إذا كنت أنت لا تستنكف أن يعرفني ذووك كما أنا فهم يستنكفون. - لم تمكثي حينئذ طويلا. - للسبب الذي ذكرته لك الآن. - والآن يا إيفون؟ إني أحبك كل الحب. - لا شك عندي بحبك. - أصبح اجتماعي بك من ضروريات حياتي. - تزورني حينا بعد آخر. - ألا يمكن أن أراك غدا؟ - في الأوبرا. - أزورك في مقصورتك؟ - من غير بد، لا تنس يا موريس أنك تحبني الحب الحقيقي، وأنك تعتبرني شريفة العواطف. - لماذا هذا التنبيه؟ - أخاف أن تندم فتستبدل حبك هذا بحب آخر. - ماذا تعنين؟ - أخاف أن لا تجد سرورك في هذا الحب، فتطلبه من حب فاسد. - إني راض بما قسمت لي يا إيفون، وهو نعمة لم أطمع بها من قبل. - عند ذلك قبلت يدها وكانت الشمس على وشك الغياب، فخرجت من عندها وقد أصبحنا حبيبين متعاشقين.
كأننا في الحب بين الورى
نموذج يجري عليه الأنام
ما صدقت أن وافى موعد التمثيل في الأوبرا حتى ذهبت وزرتها تلك الليلة في مقصورتها بحضور الأمير، وكنت أظن أنه يمتعض مني فأخلف ظني بحسن عشرته، ووفرة بشاشته كأنه كان شديد الاطمئنان من قبلي ووطيد الثقة بإيفون.
وبعد ذلك لم أعد أطيق الصبر عن زيارة إيفون، فصرت كل يوم أتوقع العصر بفروغ صبر؛ لكي أذهب إليها، وهي صارت تعرف موعدي فتنتظرني، وأحيانا كنت أجد الأمير عندها فيحسب أن التقائي به عندها مصادفة لاعتقاده أن زيارتي لها نادرة، وأخيرا لم أعد أصطبر إلى العصر فصرت أذهب إليها أحيانا قبل الظهر بعد إذ أتأكد أن الأمير خرج من عندها، وفي عهد قصير صرت وإيفون عشيقين متلازمين تلازم الظل للشبح.
الفصل السابع
الهوى العذري
وفي ذات يوم من أيام مارس كان الطقس دافئا جدا، والأمير غائبا عن مصر، فذهبت وإيفون وفانتين والخادم إلى القناطر الخيرية؛ لنقضي نهارا بين الأزهار والخضرة والماء.
شعرت أن إيفون قد أفعمت حبا في ذلك الخلاء، وكأن كل ذرة من ذرات جسمها تنعطف نحوي، تأملتها وهي متكئة عند جذع الشجرة بثوبها البنفسجي والزهور منثورة أمامها، فوجدتها تحفة الخالق للطبيعة، تصورت حينئذ ذلك الكيان بلا إيفون ناقصا، وأنه لو ذهبت منه لبقي مكانها من جمال الطبيعة فارغا إلى ما شاء الله.
لم أتمثل إيفون حينئذ إلا غمامة عواطف أرق من الهواء، بل ألطف من الأثير وقد تقلصت تلك الغمامة حتى صارت كتلة يحويها ذلك الثوب المادي.
كانت كل الوقت باسمة متهللة، فكنت أتخيل أن مياه سعادتي تجري في أخدود بين شفتيها، وكل ابتسامة شعاعة من نور حياتي، وكنت أحس أن كل نسمة من أنفاسها غذاء لروحي.
جردنا الحب حينئذ عن كل مادة، فكنت أرانا روحين تتمازجان في فضاء الخيال، فما أوردت إيفون معنى إلا شعرت أنه حلقة في سلسلة تصوراتي، ولا لفظت لفظة إلا كانت نقرة على وتر من أفكاري.
كنت أرى بعين ذهني أشباح معانيها السامية، وأسمع بأذن ضميري حفيف أفكارها اللطيف، ما أهنأ تلك الساعات بل تلك الأيام التي قضيتها إلى جنب إيفون!
لا تقدر يا عزيزي بوشه أن تتصور كيف قضينا ذلك النهار في صفاء روحاني، فكانت ملائكة السماء تحف حولنا لتتلقن حديث الهوى البشري، وتنشره في عالم الأرواح لتطلع سكان السماء على سفر الحب السامي.
قلت لإيفون: بقيت لي أمنية واحدة. - ماذا؟ - أن تنقضي حياتي بانقضاء هذه السعادة. - تنقضي حياتنا يا موريس وسعادتنا لا تنقضي، بل تتم إذ نتجرد من أثقال هذه الحياة. - بل تنقضي بانقضاء هذا النهار.
فحملقت بي مضطربة وقالت: لماذا تتشاءم! لا أعتقد أن السعادة تنقضي إلا بانقضاء الحب، لقد روعتني. - لم أحسن التعبير يا إيفون، لا تنقضي وإنما تنثلم إذ يمازجها كدر. - لا أفهم ماذا تقول. - إننا سنفترق عند المساء. - ولكن تبقى روحانا متحدتين، فهل نفترق إلا مفكرين فكرا واحدا إلى أن نلتقي ثانية؟ - ولكن الأمير يشغل قسما من أفكارك.
فابتسمت قائلة: أتغار يا موريس! - كيف أحب إذن! - الأمير بعيد عن قلبي.
إني أحرص على كل ذرة منك يا إيفون، أبخل بهدب ثوبك على الأمير، أضن بلمسة كفك، أقتر بنسمة أنفاسك، أريد أن تكوني لي كلك كما أني لك بجملتي. - أراك يا موريس موشكا أن تفسد حبنا. - لأني أحرص على كل جزء منك! - بل لأنك تمزج حياتنا الروحية بالحياة الجسدية؛ أحببتني لأنك اعتقدت أن روحي طاهرة، وتجاوزت عن حياتي البشرية، وأنا أحببتك وحدك لأجل هذا الاعتقاد، فحياتي الروحية لك وأما حياتي الجسدية فدعها لي. - لا أطيق يا إيفون، لا أطيق أن أرى الأمير إلى جنبك، إني أحبك وأضع قلبي تحت قدميك، فلماذا يدوسه شخص آخر معك؟ - إن الأمير سند حياتي الجسدية يا موريس فدعني أتكل عليه. - بل اتكلي علي، كل مالي فهو لك فلماذا لا نقضي بقية العمر متمتعين تمام التمتع يا إيفون إذا لم يكن ما يحول دون ذلك؟ - أتريد أن أحبك حبي للأمير؟ يعز علي أن تحل محله؛ لأنك أرفع من هذا المحل، أرأيت أنك أخذت تفسد حبنا وتغير ظني فيك؟ - كوني زوجة لي كما أنك حبيبة لقلبي.
فتنهدت من أعماق رئتيها وطفر الدمع من عينيها، وقالت: ليتني أصلح لك زوجة بل خادمة! - أي زوجة أجد مثلك يا إيفون؟ - كلا، لا تشط عن الصواب يا موريس، أنا والناس خصوم إن التصقت بك انفصل الناس عنك وأهلك في مقدمة المنفصلين، فابق مبتعدا عني إذ لا غنى لك عن الناس، وأنا أحرص عليك في قلبي. - أنت كل الناس لي يا إيفون، أكتفي بك عن كل شيء، وأستغني بحبك عن كل مقام ومجد، أنت مجدي وغناي بل حياتي، فلماذا لا تتحدين بي فنقضي العمر كله منفصلين عن العالم، وماذا أبتغي من العالم إذا كنت إلى جنبك؟ - تعلم منزلتي يا موريس، إذا حاولت أن ترفعني حاول العالم أن يحطنا معا، فلماذا تنحط بي؟ ارعو، إني أحبك فلا أضحي بك، فابق لأهلك ولزوجتك المنتظرة، ولذويك ولمقامك السني المجيد، أنت في عنفوان الشباب وأمامك مستقبل زاهر فلا تنبذه لأجلي، لست أدوم لك، إني أكاد أسبقك سنا وقد استنفدت معظم حياتي فيما مضى من أيامي القصيرة، ولا بد أن تذبل زهرة جمالي بعد قليل فأمضي تاركة لك شوهة في جبين حياتك. - لا أعد نفسي حيا بعدك يا إيفون، ولا أحسب من عمري إلا الأيام التي أقضيها معك، فلماذا لا تريدين أن تتمي سعادتي؟
فتأففت وكفكفت دموعها قائلة: إن نفسي تكاد تلتهمك حبا يا موريس وأوشك أن ألبي شهوتها، فلا تطمعها بما ليست لائقة له، لا تغرني؛ لأصبح لك زوجة. - لا حياة لي إلا بأن تكوني لي، زوجة أو غير زوجة لا فرق عندي، أتحمل عدوان العالم لأجل حبك يا إيفون، إني غني عن كل الناس، فلماذا نضحي بسعادتنا ولذتنا لأجل التقاليد البشرية الفاسدة؟ - أراك تضطرني أن أعود إلى حياتي السابقة، تضطرني أن أجدد الحانة وأفتح منزلي لكل غر، وأتكلف الابتسام لكل أحمق جاهل وأتحمل ثقالة الثقلاء، وفظاظة الهمج وأصبر على سفاهة الأراذل، بربك لا تدفعني إلى هذا العذاب يا موريس، لم يعد لي جلد ولا طاقة على تكلف المجاملة ومعاشرة من أستثقلهم. - ما الموجب لذلك يا إيفون؟ إنك عديمة الثقة بي. - بل إني غيورة عليك، أضن بمالك كما أضن بشرفك، إني لك إلى أمد قصير يا موريس، فأود أن يبقى شرفك لك ولذويك ومالك لبنيك. - ليس لي بعدك أهل يا إيفون، فلأنفق ثروتي على حبنا ولنعش هنيئين. - إنك غبي يا موريس بل متهور، ولكن حبي لك يقيك من السقوط، إني مسرفة والأمير غني يستطيع أن يلقم فم إسرافي ما دمت حية، فدع حياتي الجسدية تعيش على سخائه. - كلا لا أطيق لا أطيق.
إذن تضطرني إما أن أعيش بالتقتير أو أفتح الحانة ثانية، وكلا الأمرين فوق طاقتي. - بل تعيشين معي كما أعيش. - أعيش لك ولكن لن أعيش معك، حسبك ما أبنت لك من جهلك لمصيرك، إني أحبك جدا يا موريس فأشفق عليك.
وجعل الدمع ينهمر من مقلتيها، وقد اتكأت على ذراعي وطوقت عنقي بذراعها، فشعرت أن ملاكي الحارس ينعطف علي، فمزجت دمعي بدمعها وقلت: آه يا إيفون، إني أرضى أن أتحد بك وأتطعم بشرفك الروحي، وعارك الجسدي وأترك هذا العالم بما فيه من الفساد ودعوى المدنية والفضيلة، ولكن أنت لا تريدين أن تتممي سعادتي فماذا أفعل؟ - لست تعلم ماذا تقول يا موريس، فكفى أن تجرح فؤادي، بقدر ما يكون القلب مضطرما بالحب تكون النفس مولعة بالمجد، فأنا أتوقع لك مجدا باهرا جدا فيه لذة فائقة لك، والحب بلا المجد كالمصباح المطفأ، فابق في العالم لينير فيه بهاؤك، وإلا فإذا تركت العالم والتصفت بي كنت بلا بهاء، إني أحبك يا موريس فأشتهي أن أرى مجدك متألقا، حبيبي موريس، لا تطرح نفسك في ظلمتي. - أبقى في العالم يا إيفون وأكون معك في الخفاء كما يفعل الأمير.
ففكرت هنيهة متحيرة، ثم قالت: إذن أبيع رياش منزلي وبعض حلاي، وأنفق ثمنها فيما بقي من حياتي، وأعيش عيشة بسيطة. - إنك تجرحين فؤادي بهذا الكلام يا إيفون، مهما كان الأمير أغنى مني، فإني أقدر أن أقدم لك ما يقدمه. - اطو هذا الحديث فإن الخوض فيه يسوءني، إذا انفصلت عن الأمير لا أحمل أحدا ثقلا من أثقالي، كن مطمئنا يا حبيبي موريس إني لك بجملتي.
وعند ذلك لم أتمالك أن ضممتها إلى صدري، وقبلتها قبلة حارة، وقبل أن تأذن الشمس بالمغيب قمنا نتمشى إلى المحطة، فكنا كالولدين الصغيرين بسيطي القلب لا نعرف كدرا من أكدار هذه الحياة.
الفصل الثامن
صاعقة
بعد ذلك كنت كالظل لإيفون لا أفارقها ما دامت الشمس مشرقة، وأختفي عنها متى خيم الظلام، نقضي معظم النهار معا نتساقى خمرة الحب ولا نصحو من نشوته، وكنت أصرف بعض السهرات عندها، وشرع الأمير يرقب حركاتي وسكناتي موجسا مني، على أني لم أكن لأبالي به بل بالأحرى كنت أذوب منه غيرة، وما من مرة عدت إلى البيت إلا متغيظا من تصوري أنه عند إيفون، فأعقد النية على أن أفصلها عنه في اليوم التالي، ومتى اجتمعت بها أثنتني عن هذا العزم.
ما طال هذا الحال كثيرا، ففي ذات صباح ذهبت إلى إيفون حسب عادتي، فذعرت إذ استقبلتني فانتين بوجه مكفهر، وتوقعت شرا عظيما قبل أن أسمع منها كلمة، فقلت: أراك مكتئبة فما الخبر؟ أين إيفون؟
فتكلفت الابتسام قائلة: لست مكتئبة إلا لأن إيفون تشكو صداعا خفيفا.
فاندفعت إلى غرفة إيفون كالمجنون، فوجدتها متكئة في سريرها تبتسم فارتميت عند سريرها أقبلها باكيا وأقول: ما لك يا حياتي؟
فطفر الدمع من عينيها وامتزج بدموعي، وقالت: لا شيء مهم، إني أشكو صداعا خفيفا. - أتتألمين وحدك يا إيفون؟ ... لا، يجب أن أتألم معك أو تشفي، هل تجرعت مسكنا؟
كلا، لا حاجة بي إلى ذلك، فإن ألمي خفيف ولا بد أن يزول الآن بوجودك معي.
وكنت حينئذ قد صرت في الباب، فمضيت إلى أقرب صيدلية، وأخذت بعض جرعات من الميجرانين وعدت إليها، فجرعتها جرعة واحدة، وكنت كل الوقت قلقا عليها خائفا من طارئ مرضي يطرأ على صحتها؛ لأني لاحظت أن وجهها شحب قليلا والهزال ظهر في جسمها، فحسبت ألف حساب لذلك.
رأيت أنها لم تكن معتدلة المزاج في ذلك النهار، وبالرغم من ابتسامها لي أدركت أنها غير مسرورة كالمعتاد، فخامرتني الريب في أمرها وكنت أسألها عن الحقيقة، فتنكر علي ما ساءها، وقد اغتنمت الفرصة وسألت فانتين بإلحاح، فقالت: «ليس هناك أمر غير صحتها»، على أني لم أقنع بجوابها ولا بجواب إيفون.
وفي ذلك اليوم طرأت مهمة جوهرية جدا اضطرتني أن أسافر إلى الإسكندرية، ولولا إلحاح عمي علي أن أذهب لأقضيها لما اكترثت بها، فذهبت إلى إيفون لكي أطمئن على صحتها، وأودعها آملا أن أعود إليها بعد يومين أو ثلاثة على الكثير، فقابلتني بكل بشاشة كأن اكتئابها لم يكن إلا سحابة صيف.
في ذلك المساء كتبت لها من الإسكندرية كتابا مطولا أفرغت فيه كل إحساساتي وعواطفي، فأجابتني جوابا مختصرا وصلني في مساء اليوم التالي، وفيه خلاصة روحها.
وفي ذلك المساء كتبت جوابا مطولا أيضا رسمت فيه قلبي، وسكبت مهجتي وشرحت كل عواطفي، وفي مساء الثالث عدت إلى مصر، فوجدت عمي ينتظرني في المحطة؛ لكي يستطلعني أخباري ويعلم ما فعلته بشأن المهمة التي سافرت لأجلها، شغلني في تلك السهرة عن إيفون فلم يتسن لي أن أزورها.
في صباح اليوم التالي ذهبت إلى منزلها، فاستقبلني البواب برسالة منها كانت قضاء مبرما على سعادتي، ناولني الرسالة قائلا: «من مدموازيل إيفون»، فتناولتها ويداي ترتجفان؛ لأني تشاءمت منها كأن ضميري أنذرني أنها تنطوي على شر لي فسألته، وأنا أفضها: «أما هي في المنزل؟»، فأجاب: «انتقلت إلى منزل آخر.»
وكنت حينئذ قد بسطت الرسالة، فقرأتها وأنا أقشعر وها هي:
عزيزي موريس
إني أنصح لك ألا تبحث عني بعد الآن، والأفضل أن تنسى إيفون مونار فإن ما يتراءى لك من السرور في صلتك بها إنما هو وقتي جدا، ولكن الكدر الذي يمازج حياتك بعده يدوم، فلا تكن لي يا موريس بعد الآن؛ لأني لم أعد لك.
إيفون مونار
فما أتيت على آخر هذه الرسالة حتى جعلت عضلاتي تتشنج، وكدت أطحن أضراسي بعضها ببعض. وهت قوتي فجلست على كرسي البواب، وقلت: أين ذهبت إيفون؟ - أمس نقلت كل أثاثها إلى منزل آخر لا أدري أين هو. - ألم تسأل خادمها البربري؟ - سألته فقال: «إلى منزل قريب من الأزبكية»، ولكنه لم يوضح لي كفاية. - ألم تقل إيفون لك شيئا؟ - قالت قبل أن برحت: «احفظ هذا الكتاب معك إلى أن يأتي المسيو موريس وادفعه له يدا بيد.» - متى برحت؟ - مساء أمس. - هل كان الأمير عندها أول أمس؟ - منذ ثلاثة أيام لم يعد يأتي.
فلاح لي أن أمرا جرى بينها وبين الأمير فساقني الإلهام إلى قصره، وهناك سألت البواب عنه فقال: إنه برح إلى الإسكندرية منذ ثلاثة أيام لشاغل، ولم يعد بعد فتغير ظني.
اندفعت كالمجنون إلى حي الأزبكية، ولكن أين أبحث وكيف أفتش، ثبت إلى رشدي وقعدت في زاوية من نيوبار أعيد قراءة الرسالة، وأغتم حتى كادت نفسي تنبثق من صدري، حرت ماذا أفعل فلم أر أفضل من أن أرسل إليها رسالة في البريد، فلا بد أن تكون قد أخبرت إدارته عن عنوانها الجديد فكتبت:
عزيزتي إيفون
لا بد أن تكوني قد قدرت كيف انقضت على قلبي صاعقة رسالتك، فإذا كنت لا تزالين مصرة على مجافاتي أستعطفك أن تستقبليني مرة واحدة أيضا، وأعدك أني أأتمر بأمرك وبعدها افعلي كل ما تريدين، أخبريني أين منزلك الجديد لأزورك مرة واحدة فقط إذا كنت تبتغين مقاطعتي.
موريس
حاشية:
إني أوجد في نيوبار أو ما حولها من الحانات، فإذا أنعمت باستقبالي فأرجو منك أن تأمري الخادم أن يبلغني نعمتك هذه حالا، ويرشدني إلى مقامك.
ارثي لي يا إيفون وإن كنت قد عدلت عن حبي.
موريس
قضيت ذلك النهار حائرا أتردد بين الحانات ودار البريد ومنزل إيفون، سألت إدارة التوزيع في البريد عن عنوانها الجديد فقيل لي: إنها لم تخبر عن عنوان جديد لها، انتظرت عند شباك البريد غير مرة لعلي أرى من يطلب كتابا باسمها فلم أجد، سألت موزع الرسائل في الشباك: هل لها رسالة عنده، فأفضى تساءلي إلى التنافر بيننا؛ لأن وظيفته لا تؤذن له أن يجيب على سؤالي، ومع ذلك فتش فلم يجد رسالة باسمها ولم يتذكر ما إذا كان قد ورد لها رسالة تحت يده واستلمها أحد، انتظرت موزع البريد الطواف عند منزلها لأرى ألم تزل ترد رسائلها إلى هناك، فلم أجد معه رسالة لها: سألت البواب مرارا عن منزلها الجديد ورشوته، فلم يجبني غير ما أجاب؛ لأنه لا يعلم سواه، انتظرت خادمها في الحانات فلم أره، وفتشت رسائلي التي وردت إلي فلم أجد جوابا منها، في الصباح التالي ذهبت إلى «سوق الخضار» لعلي أجد خادمها هناك يشتري لوازم المطبخ فلم أعثر عليه، حرت في أمري، لم أهتد إلى طريقة لاكتشاف مقرها.
لماذا انتقلت إيفون من منزلها فجأة؟ لماذا جفتني هذا الجفاء؟ فكرت كثيرا في ذلك، فخطرت لي تعاليل مختلفة له، ولكن ضميري لم يستقر على واحد منها؛ لأني مقتنع أن إيفون تحبني كما أحبها.
هل ترى أسأت إليها؟ كنت أتعبدها هل ملت عشرتي؟ كانت إلى يوم ذهبت الإسكندرية تعاتبني إذا تأخرت عن لقائها، هل وشى بي أحد لها؟ إن إيفون أسمى عقلا من أن يجوز عليها الكذب، وأشد ثقة بي من أن تصدق وشاية، هل أبعدها الأمير عني غيرة عليها؟ ولكنها لا تطاوعه فيما يخالف رغبتها، هل علقت شخصا آخر غيري فجفتني؟ ليست إيفون من متقلبات القلب، إذن لماذا تكتب لي: «لا تكن لي بعد الآن؛ لأني لم أعد لك؟» حيرني هذا الجفاء المباغت، كدت أجن.
ماذا تعني بقولها: «إن ما يتراءى لك من السرور في صلتك بي وقتي جدا، ولكن الكدر الذي يمازج حياتك بعده يدوم؟» أتعني به ما كانت تنهاني عنه قبلا من الاتحاد بها كزوجة؟ لقد قنعت بما قسمت، فلماذا جفت!
مثل هذه الأفكار خطر لي ألوف، فلم أظن منها واحدا صائبا، وفي مساء اليوم التالي كنت في سبلندد بار، فسمعت اثنين إلى جانبي يذكران اسم إيفون، فانتبهت لحديثهما فسمعت منه ما يأتي: ... إيفون مونار؟ سمعت بها.
كانت محظية الأمير ص، بك، ك، وقبل ذلك كان بيتها شبه حانة يتردد إليه بعض معارفها. - وهي الآن صاحبة حانة؟ - ليست حانة بكل معنى الكلمة، وإنما استأجرت حديثا منزلا في عابدين، وجعلته شبه حانة فهلم بنا نزرها. - تبلصنا بمبلغ كبير بلا فائدة.
لا نمكث طويلا، نشرب قليلا وحينئذ ترى إيفون بجلالها وبهائها ورقتها.
وعند ذلك نهضا وركبا مركبة، فتبعتهما بمركبة أخرى إلى منزلها الجديد، فإذا هو أصغر قليلا من منزلها الأول، انتظرت ريثما صعدا فصعدت والوجد يتدفع مع عواطفي، والجزع يتنازع كل حاسة وشعور في، نقرت على الباب ففتح لي خادم جديد غير خادمها، فأدركت في الحال سر عدم عثوري على خادمها في دار البريد، فقلت له: «افتح لي غرفة إيفون وادعها إلي.»
فقال: تفضل إلى الصالون. - افتح لي غرفة وادعها إلي ولا تدع أحدا يلاحظ أني هنا.
ففتح غرفة قريبة من الباب، وفي الحال دخلت علي فانتين محمرة الوجه فبادرتها بالسؤال مضطربا: أين إيفون؟ - هنا. - أريد أن أراها. - ستأتي عما قليل. - أما وصلت رسالتي إليها؟ - لم أر معها رسالة منك. - لماذا انتقلت إلى هنا؟ - كذا استحسنت. - تركت الأمير؟ - نعم. - لماذا؟ - لا أدري. - لماذا تمكرين علي يا فانتين! أتنسين سريعا عشرتنا الجميلة؟ قولي لي لماذا غيرت إيفون أسلوبها السابق، وعادت إلى الحانة! ولماذا جافتني! - يظهر أنها آثرت هذا الأسلوب لاعتقادها أنه أفضل لها. - ما ذنبي حتى قضت علي بهذا الجفاء المشقي؟ - يلوح لي أنها تريد الاستقلال التام. - تأخرت، ادعيها، ادعيها حالا. - أمهلها ريثما يخرج الزائران اللذان دخلا الآن.
فتململت وتأففت ثم أشارت فانتين لي أن أجلس على المقعد وخرجت، وجعلت أنتظر فأفرغ الصبر تارة، ثم أستمده أخرى فلا ألبث أن أعود فأفرغه، وما مرت ثلاث دقائق حتى عدمت الاصطبار، فأومأت إلى الخادم فأتى، فقلت: «ادع المدموازيل إيفون إلى هنا حالا.»
بعد هنيهة دخلت إيفون وحيت ولكن ليس في تحيتها ما عهدته من الانعطاف، ولا على وجهها مسحة من البشاشة التي تعودت أن أراها، فانقبض قلبي جدا وصغرت نفسي ولم تعد لي الجرأة التي ألفتها في محادثتها كأني لم أكن صديقها الوحيد، على أني تشددت وجذبتها إلي وأجلستها إلى جنبي، وكان الدمع ينبثق من عيني قطرات قليلة، فقلت لها بصوت أجش: ماذا تعنين بما كتبت لي يا إيفون؟ - إن ما كتبته صريح. - أتعنين أنك لم تعودي لي بعد الآن؟ - نعم. - لماذا؟ - ذكرت لك السبب يا موريس. - تعنين أن حبي لك وقتي لا يدوم. - عجيب يا موريس! إن ما كتبته لك واضح الفحوى فلماذا تحاول أن تأوله، أفي حاجة نحن الآن إلى تحقيق إخلاصنا الواحد للآخر؟ - «إذن لماذا تقولين: إن سروري في صلتي بك وقتي؟» - لأني أعلم أن ما قدر لي من العز والبهاء والنضارة قد استنفدته في سني شبيبتي القصيرة، فأنا الآن صبية في العمر، ولكني شيخة في الحياة، إن زهرة حياتي على وشك الذبول يا موريس، فبعد سنة أو سنتين لا تعود تراني إيفون مونار التي تراها الآن، لا تراني إلا هيكلا ماثلا قد تجرد من المحاسن المادية. - إنك تجرحين فؤادي بهذا الكلام يا إيفون، بربك أقصري عنه. - ولكن هي الحقيقة التي أعلمها وأتوقعها، أقولها لك لكيلا تنفق زهو شبيبتك في حب عقيم سريع الزوال، وبعدئذ تبتغي أسلوبا للحياة جديدا؛ فلا تجد لأنك لا تقدر أن تجدد طور الشبيبة البهي المجيد، إن عمر عزي قصير جدا يا موريس، فلماذا تقصر أنت عمر مجدك وسعادتك معي؟ اغتنم زهوك الحالي وعزك الحاضر لحب خصيب دائم هنيء. - ألعلك تهزئين بي أو توبخينني لسبب لا أعلمه؟ - بل هي الحقيقة التي أعرفها وأوكدها فأعلنها لك.
ففكرت في هذا الكلام ولم تخف علي الحكمة فيه، ولكني لم أكن حينئذ لأكترث بمستقبلي فلم يقتنع ضميري أن إيفون تبعدني عنها حرصا على مستقبلي وضنا بسعادتي، بل خطر لي أنها تغيرت علي فلجأت إلى هذا الأسلوب في ردي عنها بالحسنى والملاينة. فنهضت من مكاني هاما أن أمضي وقلت: تقدرين يا إيفون أن تقولي لي بصراحة: «لم أعد أحبك»، فلماذا هذه المراوغة؟ إنك كاذبة منافقة.
وما سمعت هذه العبارة حتى تشنجت وتطاحنت أسنانها، وجعلت دموعها تنهمر سخية سخينة فقلت لها بنزق: ومع ذلك تبكين؟ وماذا أبكاك؟ - إنك ترتاب بي. - متى جننت أصدق أنك وأنت تقصينني عنك تحبينني. - إنني أبغي لك الخير. - لا تعرفين مصلحتي أكثر مني، ولو كنت الآن تحبينني الحب الحقيقي كما كنت تحبينني قبلا لما كنت تطيقين فراقي لحظة، لم أنس أيام كنت أجدك موجعة الرأس إذا تأخرت عن موعد لقائك. - كنت حينئذ أحب نفسي أكثر منك يا موريس، أما الآن فقد ارتقى حبي حتى صرت أحبك أكثر من نفسي. - كفاك كذبا بعد، إنك لا تمتازين عن مثيلاتك إلا بمثل هذه الفلسفة.
فاستلقت على جانب المقعد، وتنهدت وجعلت تبكي، وكنت حينئذ أتمشى في الغرفة والباب مقفل، فسمعت خطوات ذينك الشابين يخرجان وفانتين تشيعهما، فخطر لي أمر انتقال إيفون إلى البيت الجديد، فقلت لها: ولماذا انتقلت إلى هنا، هل أغفلك الأمير؟ لا أقبل أن يكون منزلك حانة عمومية. - ماذا يهمك؟ لا تزرني. - فهمت الآن يا إيفون، فهمت أنك تنبذينني.
عند ذلك اندفعت من الباب والغضب يرج الأرض تحت قدمي، فركضت ورائي قائلة: «اصبر قليلا»، فلم أجبها ونزلت وهي تقول: «لسوف تعذرني يا موريس ولسوف ترحمني.»
الفصل التاسع
نار ولا نور
خرجت من عند إيفون والغيرة تلتهم فؤادي والغيظ يغلي في صدري، وصرت أفكر في السبب الذي حملها على مجافاتي، فلم يخطر لي أني أتيت ما يغضبها أو يسوءها قط، خطر لي مرارا أنها لا بد أن تكون مشغولة بحب جديد لم يظهر بعد، ولكن ضميري كان يغالطني في هذا الظن.
رأيت أن الواجب علي في تلك الحالة أن أحملها على إلغاء الحانة، فأرسلت إليها في ذلك المساء ورقة مالية ورسالة هذه صورتها:
عزيزتي إيفون
لا أطيق أن يكون منزلك حانة عمومية للرائح والغادي، ضمن رسالتي هذه ورقة مالية بقيمة زهيدة تغنيك عن ذلك العمل المكروه، ومتى أنفقتها يكون في يدك غيرها، ولي الأمل أن أزورك قريبا وقد تغير شكل منزلك.
موريس كاسيه
أرسلت الرسالة مع خادمي وبعد برهة عاد إلي بظرف قائلا: «تقول لك: مارسي.» فضضت الظرف فوجدت فيه الورقة المالية مردودة وحدها ولا حرف معها من إيفون. ففار دم الغيظ حتى تدفع في رأسي وكاد يجنني.
صممت أن أغفلها لظني أنها لا تصبر على إعراضي طويلا، فلا بد أن تستدعيني وإلا فيكون حبها قد فتر، وفي هذه الحالة يجب أن أنساها.
لم أزرها في ذلك المساء ولا في اليوم التالي، فكنت هائما كالمجنون، ولكني أعلل النفس بأنها لا بد أن ترسل إلي رسولا أو رسالة، فكنت أذهب إلى البيت فأسأل: «هل أتى أحد فسأل عني؟» فلا أسمع غير «لا» جوابا، ثم أنتظر البريد فأفتشه رسالة رسالة فلا أجد فيه رقعة منها، كنت أطوف الملاعب كل مساء آملا أن أراها في واحد منها فأعود خائبا، ثم أذهب حول منزلها فأرى النور شاعا من نوافذه، مرة واحدة رأيت اثنين يصعدان إليه فكدت أذوب من الغيرة، وهممت أن أتبعهما وأدهورها عن الدرج، ولكن عاد إلي صوابي فاسترددت حلمي.
مضي علي يومان بعد المساء الذي زرتها فيه وأنا أتوقع خبرا، أو كلمة أو رسولا منها فخاب رجائي ونفذ صبري، ولم أعد أطيق الإعراض عنها، فخطر لي أن أذهب وأرتمي عند قدميها وأتوسل إليها أن تفعل بي ما تشاء غير إقصائي عنها، ولكن نفسي الشماء أبت علي هذا الهوان، بل خفت أن تذللي هذا يطعمها بي لا يشفقها علي.
وأخيرا آثرت أن أستفزها إلى استدعائي لأجل مناقشتي، فكتبت رسالة هذا نصها:
حضرة السيدة إيفون
لم يبق عندي شك بأنك كنت تموهين علي في بيان السبب الذي حملك على مجافاتي، وقد أفقت من جهلي وفطنت إلى أن عهد أمثالك أثبت من الندى في أيام الهجير، وأبقى من الظلمة أمام النور، وأن أقوالهن أصدق من كلام المنجمين، وأحق من دعوى الجاهلين، وددت أن أرفعك من وهدة هوانك فأبيت، ورغبت أن أجدد هناءك فرفضت، فعودي إلى الحمأة التي انغمست فيها فإنك أجدر بها.
موريس
وبعد إذ ألقيت الرسالة في صندوق البريد راجعت مسودة ما كتبت، فعضضت أصابعي ندما؛ لأني رأيته عنيف اللهجة جدا فهممت مرارا أن أسبق الرسالة إلى إيفون، واعتذر لها عنها سلفا، ولكني تذكرت جفاءها وفتور مقابلتها الأخيرة لي فحمي غضبي.
ورأيت أن لي عذرا فيما كتبته، وتوقعت أن تستدعيني؛ لكي تقابلني وتستدعيني إلى حبها فلم تفعل، مللت هذا التوقع حتى لم يعد لي صبر عن زيارتها، ولكن في مساء اليوم التالي ورد إلي ظرف معنون بخط يدها، وما تهللت إلا بقدر أن فضضته فوجدت رسالتي نفسها مردودة إلي فقلبتها لعلي أجد فيها كلمة منها، فخاب مؤملي فتشت الظرف ثانية فوجدته خاليا ، كاد مرجل غيظي ينفجر، وأخذت غيرتي على إيفون تتحول إلى بغضاء شيئا فشيئا، وصارت نفسي تحدثني أن أسعى إلى الانتقام منها ونكايتها، بيد أني صبرت بضعة أيام آملا أن تسأل عني فلم تفعل.
لما عيل صبري ذهبت إليها مع صديق لي ذات صباح حين لم يكن عندها زائرون فاستقبلتنا فانتين، وقالت: إن المدموازيل إيفون لم تزل نائمة.
فقلت: لم نأت لأجلها وإنما أتينا لكي نشرب، وحسبنا أن تكوني أنت معنا.
فترددت فانتين في قبولنا فقلت لها: ما بالك لا تفتحين المقصف؟ أما هي حانة هنا لكل زائر؟
ففتحت قائلة: تفضلا.
ثم دخلت أمامنا إلى القاعة المعدة للشرب وجلسنا إلى مائدة، وطلبنا أشربة مختلفة وأجلسناها بيننا، وطلبنا إليها أن تشرب فتمنعت في أول الأمر فأحرجناها، وجعلنا نشرب ونمرح ونثرثر ونقهقه حتى ملأنا المنزل ضحكا وجلبة، وكان لغطنا يدوي في جميع غرفه، ولما لعبت الخمر في ألبابنا جيدا سألت فانتين: أين إيفون؟ لماذا لا تجيء؟ - لم تزل نائمة. - يستحيل أن تبقى نائمة إلى الآن والساعة قد بلغت الحادية عشرة. - سهرت حتى الثانية أمس. - هل كان لها عشاق كثيرون؟
اكفهر وجه فانتين لهذا السؤال وأجابت: كان بعض الزوار. - من بقي منهم إلى هذا الصباح؟
امتقع وجهها ولاحظت أن غضبها كان ينفض عضلاتها وغيظها يتدفع مع كلامها: أأنت المسيو موريس كاسيه تسأل هذا السؤال! - أما هي حانة هنا! فادعي إيفون. - قلت لك: إنها نائمة. - أيقظيها، يجب أن تأتي إلى هنا لتنادم الزبائن.
فأوجست فانتين شرا منى ونهضت إلى غرفة إيفون، وبعد قليل عادت قائلة: إنها ترتدي ملابسها. - لا بأس أن تأتي بثوب غرفتها فاستدعيها حالا. - ألا تمهلها هنيهة؟
فضربت بيدي على المائدة قائلا: كلا بل يجب أن تأتي حالا.
فجزعت إذ رأت شرر الغضب يورى من عيني، ونهضت إلى غرفة إيفون؛ لكي تستعجلها ثم عادت قائلة: أمهلها دقيقة فقط لكي ترتدي أبسط ملابسها. - يجب أن تحضر حالا.
وعند ذلك هاج غضبي فتناولت الزجاجة التي أمامنا، وقذفتها إلى الخزانة التي تحتوي زجاجات الأشربة فتكسر بعضها ، ثم أردفتها بالطبق وما عليه من الأقداح، ثم دفعت المائدة التي أمامي برجلي فانقلبت، وكان للمنزل رجة منها، وعند ذلك دخلت إيفون بثوب النوم، ونظرت إلى الخزانة وما أمامها من الزجاجات المكسرة وإلى المائدة المقلوبة، فلم تنبس ببنت شفة سوى أنها نادت الخادم، وأمرته أن يلم الزجاج المكسر، ويمسح السوائل التي جرت على الأرض.
رأيت أمارات الحزن في محياها تتغلب على أمارات الغضب، ثم التفتت إلينا وقالت: لا بأس، تفضلا اقعدا.
فقلت: قعدنا طويلا ولم تحضري والآن حان أن نمضي، ومشيت آملا أن تمسك بيدي وتستوقفني وتقعدني بالرغم مني، ولكني خرجت من غير أن تقول كلمة أو تخطو خطوة، وكنت كلما بعدت يعز علي أن أقف أو أن أعود إليها، وبقيت أنفتي تدفعني إلى الخارج حتى صرت في عرض الشارع، فشعرت أن قلبي ذاب وجدا، وجعلت أعض أصابعي ندما لنزولي العاجل بهذا الحمق من غير أن أعاتب إيفون، أو أوبخها أو أغيظها بأمر من الأمور أو أن أصالحها.
وقبل أن يتلاشى النهار كان غيظي قد خمد، فجعلت أندم على كل ما فعلت وشعرت أن عملي يخجل من إتيانه الهمج والمتوحشون، وأخيرا قررت أن أنزل عن ذروة كبريائي وأعتذر لإيفون، ولكني استصعبت مشافهتها بالاعتذار، فتناولت القلم والورق، وكتبت لها هذا الكتاب المختصر:
عزيزتي إيفون
لا بد أنك تؤكدين أن الغيرة هي التي دفعتني إلى ذلك الجنون، والغيرة بنت الحب العميق، فهل تسامحينني يا إيفون؟ لا تزال سعادتي بين يديك ألا تزالين تحبينني؟
موريس
ألقيت الكتاب في صندوق البريد، وأنا شديد الأمل بأن إيفون تجاوبني جوابا أتذرع به إلى زيارتها ومعاتبتها، وتجديد عهد الحب بيننا، ولكن مر يوم ويوم ويوم، وأنا أتجرع مر الصبر وإيفون لم تجب، خطر لي أن يكون كتابي قد فقد في دار البريد، فأرسلت خادمي يسأل فانتين سرا عما إذا كان قد وصل ليد إيفون، فقالت: إنه وصل وإنها قرأته.
وعند ذلك تأكدت أني فرغت من قلب إيفون، وإلا لما أصرت على مجافاتي من غير أن تبين السبب إن كان ثمت سبب مني، فكرت طويلا في سبب تغير قلبها، فرجحت أنها شغلت بسواي ولا سيما؛ لأنها كانت تستلذ عشرة شاب يدعى المسيوف، فخامرني الظن بهما.
تغير نظري في حقيقة إيفون، لم أعد أتخيلها دائرة في الفلك الذي كنت أرصدها فيه، ولا أستجليها في العرش الذي بوأتها عليه، ولا أرى روحها بعين بصيرتي شفافة متألقة كما كنت أراها قبلا، صرت أقول في نفسي: أما هي مومس؟ إذا عمر حب المومس عاصر وردة الربيع، ومهما طال عهدها فلا يطاول مطلها، وإذا وفت مرة قال الناس: نحن في عصر العجائب.
ولكن هذه الظنون كانت تصدق علي لا على إيفون.
عقدت النية أخيرا أن أنتهج أي المناهج لسلوها فرحت أستشفي من داء بداء، عثرت في تلك الأثناء على غادة من رصيفاتها تدعى المدموازيل «ميراي»، فعمدت إلى التحبب إليها فما كلفتني أن أسعى وراءها خطوتين حتى صرنا عشيقين، لم أمل إليها من قلبي في بدء الأمر؛ لأني لم أكن قد شفيت من حب إيفون بيد أني جالدت قلبي في هواها، كما يجالد العليل نفسه في تجرع الدواء، وبعد بضعة أيام أصبحت أسكن إلى عشرتها وأطمئن لمجلسها، ولكني كنت إذا تذكرت أيامي القصيرة مع إيفون شعرت أني كنت ممتعا منها بقلب حي، ومن ميراي بتمثال أصم، فأين الجماد من الحياة.
كانت ميراي تبش لي وتلاطفني وتضاحكني، وتغار إذا جاملت غيرها وتغاضبني إذا تأخرت عن ميعادي بلقائها، ولكنها كانت تجود بعديم الثمن لتنال الثمين، تتاجر بلا رأس مال.
ميراي باعتني جمالها بالمال، وقايضتني دلالها بالحلي، وأما إيفون فأهدت إلي عواطفها ووهبتني قلبها فكنت كنودا.
إيفون مستثناة بين زميلاتها؛ ولهذا أروي لك قصتي معها.
الفصل العاشر
وقد الوجد
في تلك الأثناء كنت وأحد أصحابي المسيو ريشار وعشيقتي ميراي وفتاة أخرى تدعى المدموازيل روشل في حانة، وقد أخذ منا السرور، فخطر لي خاطر مفاجئ فاصطحبتهم إلى إيفون قبيل المساء، استقبلتنا إيفون مبهوتة ولم يسعها إلا أن تفتح لنا المقصف، جلسنا حول مائدة وطلبنا أشربة مختلفة، وسألنا فانتين أن تجلس معنا، فتمنعت في بدء الأمر فأرغمتها، فخافت إيفون أن مخالفتها لي تفضي إلى شر فغمزتها كأن توعز إليها أن تطاوع، وعند ذلك أرسلت الخادم لكي يشتري لي سيجارا، واغتنمت فرصة غيابه وقلت لإيفون: كاس وسكي لفانتين.
فنهضت فانتين قائلة: «أنا آتي به» فأمسكت بيدها وأقعدتها قائلا: «بل اقعدي ليس هذا شغلك الآن»، فقعدت مكرهة وفي الحال أحضرت إيفون كأسا، فقلت لها: كأس فرموث لمدموازيل ميراي، فأتت بها، ثم قلت: كأس فرموث آخر للمدموازيل روشل، فأحضرتها ثم قلت: كأس كونياك للمسيو ريشار، فجلبتها، وحينئذ لم تتمالك دمعها فأسرعت إلى غرفتها؛ لكي تخفي حزنها الشديد الأليم، ولكني لم أمهلها دقيقة واحدة فصفقت لها فأتت، فقلت: كأس وسكي لي، فقدمتها وهي تجاهد في رد دمعها، عند ذلك أتى الخادم فخرجت إلى غرفتها، ولا ريب أنها أغرقت في البكاء هناك.
أما نحن فكنا نمزح تارة ونهزأ أخرى، وصدى لغطنا وقهقهتنا يتردد في غرف المنزل ويصدع آذان إيفون، ولما لعبت الخمور في رءوسنا صرنا نتلاثم ونتضام، وشعرت أن فانتين كانت مرتعبة حينذاك وتحاول أن تفر من بيننا، ولكني كنت قابضا على كفها.
أرسلت الخادم ثانية إلى السوق لحاجة أخرى، وصفقت لإيفون فحضرت تلبي مطالبنا ورأتني أضم ميراي مرة، وأحاول عناق فانتين أخرى، عند ذلك انقطع وتر صبرها فقالت: «اللهم رحماك»، فتقطع قلبي لتنهدها العميق وشكواها الأليمة، ولكن خمرة الانتصار عليها شددت نفسي فلم أرث لها.
بقينا على هذه الحال حتى الساعة السابعة وإيفون تتقلى على نار الأسى في مقلاة الغيرة، والصبر يغطي قدر غيظها الفائر إلى أن وافى رهط من الشاربين والندامى فخرجنا.
وبعد بضعة أيام مثلنا الدور نفسه، فلم تشأ إيفون أن تحضره، بل هربت من المنزل إلى حيث لا ندري وتركت فانتين معنا، فكانت هذه المسكينة تبالغ في مداراتنا خيفة أن نعقد شجارا، ونثير نقع القتال في البيت، على أننا لم نمكث طويلا؛ لأن إيفون كانت غائبة.
انتبهت إلى أن هذه الزيارة تغيظ إيفون جدا، فعقدت النية على أن أعيدها حتى تذل لي وتلتمس مصالحتي، فبعد بضعة أيام زرناها ثالثة في الميعاد نفسه فقيل لي: إنها مريضة في سريرها فدخلت عليها من غير استئذان.
وا حر قلباه، وجدتها منطرحة في سريرها شاحبة اللون، وقد غشى وجهها قتام الغم والأسى.
فما رأتني حتى تدفق الدمع من عينيها، فتقدمت إليها مسيطرا على عواطفي معتصما بأنفتي وقلت بنزق: ما لك؟ مم تشكين؟
فقالت بصوت خافت: هل أنت آت لكي تجهز علي؟ إن كنت تبغي الانتقام فقد اهتديت إلى شر نقمة، وما فعلته كان فوق احتمالي، فإن شئت أن تعيد الكرة علي فأمهلني ريثما أتقوى قليلا؛ لكي أحتمل سهام انتقامك ...
وعند ذلك تمادت بالبكاء، فلم أعد أفهم كلامها الأخير، فقلت لها: قد زهدت بي يا إيفون، فلماذا يغيظك أن أعبأ بسواك؟ - إنك حر فافعل ما تشاء، ولكن إذا كان في قلبك شفقة تتركني وشأني. - إذن لا تزالين مصرة على مجافاتي. - أرى ابتعادك عني خيرا لك. - حجة غير مقبولة يا إيفون، فقولي: إنك تقصينني من أمام وجهك؛ لأن قلبك نبذني، تقصينني لكيلا أكون عقبة في سبيل من استبدلته بي وفتحت له قلبك. - إني متوقعة كل هذه السهام منك يا موريس، ولكنك سوف تتحقق أني أحببتك أكثر من نفسي حتى ضحيت بقلبي لك.
وعند ذلك استرسلت في البكاء حتى سحقت فؤادي، فقلت لها بعد هنيهة: ألا تزالين تحبينني يا إيفون؟ - موريس، لا تذك الوجد في قلبي حسبي ما أقاسي، إني أحبك مجانا.
فلم أتمالك أن انحنيت فوقها انحناء المرضع على الرضيع، وقبلت ثغرها واستنشقت أنفاسها ومزجت دمعي بدمعها. - ارحميني يا إيفون إن آثامي لك لا تغتفر، إني أعبدك، أجثو لدى سريرك ما دمت حيا. - إذا كنت تحبني يا موريس تفعل ما أريد. - أفعل ما تشائين إلا البعد عنك. - إذن فلا تحبني وإلا فتطيعني مطلق الطاعة. - لا أستطيع البعد عنك يا إيفون، فكيف تستطيعينه إذا كنت تحبينني؟ - أقاسي فيه مر العذاب يا موريس، ولكني أجالد نفسي. - لماذا تقاسين مرارة البعاد، وفي طوقنا أن نجتمع على الدوام؟ لقد حيرتني يا إيفون ما الداعي لهذه المكابرة؟ - قلت لك يا موريس غير مرة: إن صلتك بي ضارة بمستقبلك أنا لا أدوم لك، ولكن عاري يدوم لك إذا لازمتني، إني أحبك أكثر من نفسي؛ ولذلك أبتغي أن أقيك شر إثمي. - هذا التعليل ضعيف جدا يا إيفون لا أقبله، فلا بد أن يكون هناك سبب آخر تموهين عليه بهذا السبب الباطل. - وحياتك هذا هو السبب الحقيقي. - لا أصدق أنك وأنت تنبذينني تحبينني، فإما أن تقبليني في منزلك كل يوم، وإلا فأتأكد أنك لا تحبينني. - تنهدت عند ذلك وسكتت، فاستأنفت الكلام بعد هنيهة قائلا: ماذا تقولين؟ - ماذا؟ - إني سأزورك كل يوم. - إني أتعذب من بعادك يا موريس، ومع ذلك أراني مضطرة أن أتحمله. - إذن لا تريدين أن تقبليني. - أريد ولكني لا أقدر. - لماذا؟ - لا أقدر، لا تسلني لماذا. - إذن أنت مخادعة، حسبي ما لقيته من مجافاتك، وكفاني ما أغالط نفسي فيه، إني أثبت الدناءة على نفسي بهذه المغالطة، فها أنا أتركك.
وعند ذلك كنت قد نهضت، فخرجت غاضبا لا ألوي، وبعد قليل تبعني رفاقي إذ عرفوا أني خرجت.
في خلال تلك الحوادث المؤلمة كانت خطيبتي قد يئست من استردادي إليها، بعد ما بذلت جهدها في الحرص على قلبي فلم تفلح، كنت أرثي لها لأنها كانت مغبونة معي، ولكن بلغ أمي وعمي حينذاك أنها ابنة بغي، وقد رباها خالها مانعا أمها عنها؛ لكيلا تلتطخ بعارها ثم أنكرها عليها بعدئذ مدعيا أنها ماتت، فكبر عليهما الأمر وأبيا أن تزف إلي فحلا عقد خطبتنا.
قال الطبيب: فلم أتمالك أن قلت: «مسكينة هذه الفتاة، هل كانت سيئة السلوك يا مسيو كاسيه؟» فقال: «بل هي من أطهر الفتيات قلبا، ألا تعرف المسيو جوزف ماتون؟» فقلت: «أعرفه»، قال: «هي ابنة أخته»، فقلت: «إني رأيت في منزله فتاة أليست ابنته؟» فقال: «بل هي ابنة أخته وتدعى ماري مارتال بزعم أنها يتيمة الأبوين، وأن أباها يكنى بمارتال»، فقلت: «ولماذا تعاقب بجريرة أمها إذا كانت طاهرة القلب؟» قال: لم أطاوع عمي وأمي في حل عقد الخطبة استنكافا من الزواج بابنة بغي، ولا أدين الابنة بجريرة أمها جريا على مذهبهما، وإنما تركت تلك الفتاة؛ لأني كنت أبتغي إطلاق حريتي من قيود الزوجية، إذ كنت مشغولا بأمر إيفون ومنصرفا عن كل أمر غير استرضائها.»
منذ بضعة أيام كنت وميراي صباحا في مركبة في طريق الجزيرة، فنظرنا إيفون وفانتين معها في عربة، فهاجني الوجد والشوق إلى زيارتها ولم أدر لماذا، لعلي مللت عشرة ميراي فتذكرت ماضي إيفون، فاستيقظ غرامي الأول، ما صدقت أن حان المساء حتى ودعت ميراي، وذهبت إلى إيفون فاستقبلتني فانتين والدموع تنسكب من عينيها المدرارتين فقلت: «ما الخبر؟ فصفقت ولطمت خديها قائلة: إيفون، إيفون، في خطر الموت. - ويلاه ماذا تقولين؟ - واندفعت إلى الأمام لكي أدخل إلى غرفتها، فأمسكتني بكلتا يديها قائلة: لا تدخل. - لماذا؟ - أمر الطبيب أن تترك هادئة في سريرها؛ لأن أقل حركة تؤثر عليها وتعجل في أجلها. - أنائمة هي الآن؟ - نعم.
فجذبت فانتين إلى قاعة الاستقبال، وجعلت أسألها: ماذا جرى لها؟ - أتعلم أننا رأيناك اليوم مع المدموازيل ميراي في طريق الجيزة؟ - نعم. - فيما نحن راجعتان اعترى إيفون شبه نوبة عصبية، فضاق صدرها وكانت تتشنج، فارتعت لأمرها وأمرت الحوذي أن يعجل إلى البيت، وبالجهد أمكنها أن تصعد متوكئة علي وعلى الخادم، وفي الحال استدعيت لها الدكتور بوشه أقرب الأطباء إلينا، ففحصها باهتمام ووصف لها العلاجات الوقتية المنعشة سألته عن أمرها، فقال: إنه علة قلبية فيخشى عليها من الانفعالات النفسانية، وأمر أن يخلو المكان من كل ضوضاء وحركة، وأن لا يدخل عليها أحد البتة. - هل قال: إنها في خطر؟ - نعم، إني أخاف على حياة إيفون يا موريس، أطلب حياتها منك؛ لأنك أنت سبب غمها وكدرها. - ماذا قالت عني؟ - لم تقل شيئا، ولكنها كانت دائما تتنهد متحسرة، أنت سبب حسرتها، يستحيل أن تدرك كم غممتها وقهرتها فيما فعلته لنكايتها، ولو قدرت فاعليته لأشفقت أن تقدم عليه؛ لأنها لا تزال إلى الآن تحبك منتهى الحب. - آه لا تفكريني بفظاظتي يا فانتين، لعل لي بعض العذر .
عند ذلك كان الحزن قد طمى في فؤادي، والغم تلبد على صدري، والدنيا اسودت في عيني، ومرت في مخيلتي تذكارات إيفون الماضية بأسرع من لمح البرق، وشعرت أن ما عملته لكيدها لا يقدم عليه همجي، فطوق الأسى قلبي وكاد يزهق روحي، فقلت لفانتين: والآن بماذا أكفر عن ذنوبي؟ أود أن أراها. - الطبيب حتم علي أن أتركها مستكنة وهي الآن نائمة. - أبقى هنا إلى أن تصحو فأجثو عند قدميها. - أخاف يا موريس أن تثير شجونها وتجدد انفعالها. - لا، لا، أصغر لديها، أتذلل لها، أقبل قدميها، ولا أدعها إلا راضية.
وبعد هنيهة تفقدتها فانتين، وتأخرت عندها فتبعتها إلى باب المخدع فسمعتهما تتناقشان في أمر دخولي عليها، فدخلت غير مستأذن وفي الحال جثوت أمامها وقلت: - إني نادم على كل آثامي الماضية فاغفري لي يا إيفون، أضحي بكل شيء لأجل سلامتك، فماذا تأمرين؟
فلم تتمالك أن بكت البكاء المر، وفي هنيهة عاودتها النوبة فضاق نفسها، ورأيت أنها تكاد تختنق، فتقطع قلبي عليها فرقا وجعلت فانتين تعالجها بالمنبهات، وتهمس في أذني قائلة: «ليتك لم تدخل، الأفضل أن تخرج»، فخرجت جازعا وجلا ألطم خدي تارة، وأعض أصابعي أخرى، نادما على مقابلتي لها التي هاجت عواطفها في إبان ضعفها.
وبعد هنيهة عادت فانتين تقول: إنها انتعشت قليلا واستكنت، فالأفضل أن تبتعد عنا بتاتا ريثما تشفى إيفون الشفاء التام وحينئذ تسترضيها. - كيف أطيق أن أغفلها في إبان مرضها؟ - إن كنت تحبها فاحترم إرادتها، وهي تريد أن تكون بعيدا عنها، فإغفالك إياها الآن أفضل خدمة لها.
فأنعمت النظر في كلام فانتين وأنا مضطرب جدا، وقلق على صحة إيفون، ثم قلت والدموع تنهمل من عيني لقاء دموع فانتين: إني أخضع لكل حرف من أوامر إيفون، وأقدس كل ما يتجلى من إرادتها، أفعل الآن كل ما فيه فائدة لصحتها، لا آتي إلا متى شفيت تماما وأذنت لي بزيارتها.
خرجت من منزلها وأنا كالطفل إرادة، أمتثل لكل ما تأمر به فانتين، فلو قالت لي: إن سلامة إيفون موقوفة على نفيي إلى سيبيريا لنفيت نفسي مسرورا، إلى الآن لم أزرها وإنما أرسل خادمي إلى منزلها كل يوم، فيعود إلي بأخبار صحتها، وأمس كنت شديد القلق عليها؛ لأني علمت أنها في خطر فذهبت إليك لكي أستعلمك الحقيقة. •••
هذه حكايتي مع إيفون النادرة المثال في طيبة قلبها، درست هذه المرأة درسا مدققا، فانتهيت إلى هذه النتيجة:
ليس جسدنا إلا غلافا منطويا على حقيقة إنسانيتنا الحقيقة هي الروح.
1
أفعال الروح هي نور حياتنا الإنسانية، وأفعال الجسد هي ظل حياتنا الحيوانية، إذا كانت حياتنا الحيوانية شفافة يسطع نور حياتنا الإنسانية، وإذا كانت كثيفة قاتمة ألقت ظلا حالكا، «فالهيئة الظاهرة غشاء والإنسان الحقيقي مخبوء وراء ذلك الغشاء، فإذا شئنا أن ندرس الإنسان الحقيقي يجب أن ننعم النظر في داخليته.»
2
البصر لا يقدر أن يميز بين نور الروح وظل الجسد؛ لأن هذا التمييز من وظيفة البصيرة، الغلط الفاضح أن نحكم على الأشخاص بحسب مظاهرهم، من غير أن نحلل تلك المظاهر، ونرى بعين البصيرة ما هو ظل الحياة الحيوانية منها، وما هو نور الحياة الإنسانية، تنظر إلى الفتاة فتراها ملاكا متجسدا، ولكن انظر إلى حقيقتها فتعرف إن كانت ملاكا هابطا أو ملاكا صاعدا.
النساء أربع:
الأولى:
امرأة محصنة فاضلة، حياتها الروحية ساطعة النور، وحياتها الحيوانية شفافة الغلاف لا تكاد تلقي ظلا، ففضائلها ظاهرة.
والثانية:
امرأة محصنة ولكنها فاسدة حياتها الإنسانية ضئيلة النور، وحياتها الحيوانية شفافة الغلاف قليلا، فيظهر نورها مكمدا كنور الشمس في ساعة كسوفها، وهو اكمداد الفساد.
والثالثة:
امرأة دنسة فاسدة حياتها الإنسانية قاتمة؛ لأن الفساد أطفأ نورها وحياتها الحيوانية غير شفافة لما غشيها من سواد الدنس.
والرابعة:
امرأة دنسة ولكنها غير فاسدة، حياتها الإنسانية ساطعة النور، وحياتها الحيوانية قاتمة لما غشيها من الدنس، فتحجب ذلك النور، ولكن إذا أنعم المستبصر النظر فيها استشف من خلال حياتها الحيوانية الكثيفة شعاع الحياة الإنسانية الساطع، فهذه يمكن إصلاحها.
إيفون من الصنف الرابع.
أرى حياتها الروحية ساطعة نورا؛ لأني توسمت فيها مبادئ وأخلاقا ليست إلا في الذين أشربوا إكسير الفضيلة مع لبن أمهاتهم، ولكن حياتها الحيوانية لم تكن شفافة؛ لأن الدنس غشيها فلم ير ذلك النور اللامع جيدا، لا يراه إلا ذو البصيرة الحادة.
إيفون دنسة ولكنها غير فاسدة.
تحتاج إشعاع الحب الحقيقي؛ لكي يجلو عن حياتها الحيوانية ذلك الغشاء الذي ألقاه الدنس عليها، فيظهر نور حياتها الإنسانية.
التمست يد إيفون زوجة، فأبت حرصا على شرفي زاعمة أن العالم بأسره يعدها ساقطة، فلا تليق لي ولكنها لو رضيت بي زوجا لمحا حبي عارها، وظهر للملأ نور طهارة روحها، واضطر الناس أن ينسوا ماضيها ويجلوا حاضرها.
ألا تظن أن بين البغيات كثيرات مثل إيفون حياتهن الإنسانية ساطعة النور، فلو أصاب حياتهن الحيوانية المظلمة نور الحب الحقيقي لبدد ذلك الظلام، وسطع النور المحجوب.
قال الطبيب: وما انتهى موريس من قص حكايته الطويلة حتى خيم الظلام، وكانت الحمى قد أعادت الكرة عليه من شدة تأثره، فاضطجع في سريره والدموع تفيض من مقلتيه، فودعته وعدت إلى منزلي وأنا أفكر في إيفون وغرابة أخلاقها، وأتعجب من مجافاتها لموريس.
الفصل الحادي عشر
الملاك الساقط
ما صدقت أن انتهيت في اليوم التالي من عيادة مرضاي حتى توجهت إلى منزل إيفون، وأنا شديد الشوق إلى لقائها.
وجدتها أسوأ حالا من قبل، وعلمت أن نوبة شديدة هاجمتها، وما قعدت حتى بادأتني بالسؤال قائلة: هل رأيت موريس؟ - رأيته أمس وطمأنته عنك، إني لأعجب من إعراضك عنه يا مدموازيل إيفون.
فنظرت في مستغربة ثم قالت: من قال لك؟ - أصبح موريس صديقا حميما لي وأخبرني بذلك، فلا يسوءك ذلك يا مدموازيل؛ لأنه لا بد لكل عاشق من صديق يسر إليه أخبار حبه تفريجا لكربه. - إذا كنت صديق موريس يا دكتور بوشه، فأنت صديقي أيضا؛ ولذلك أثق بإخلاصك ثقته بك وأسر إليك أن كل بغيتي من مجافاته في الظاهر أن يبقى لخطيبته، التي ستكون نصف حياته المستقبلة؛ لأني أنا لا أبقى له. - ولكن عقد خطبته انحل. - أكيد؟ لماذا؟ - اكتشف أهله أن خطيبته ابنة بغي فحلوا عقد خطبتهما. - ابنة بغي؟ - نعم. - وهو طاوعهم في تركها؟ - نعم لأنه يحبك.
فتنهدت إيفون تنهدا عميقا، وأطبقت جفنيها فخفت أن تنتابها النوبة فسكت، وبعد هنيهة فتحت عينيها وقالت: ما ذنب الفتاة إذا كانت أمها بغيا؟ لقد فسد عملي يا دكتور بوشه.
بقيت ساكتا؛ لأني لم أشأ أن أجرها إلى حديث طويل، وبعد هنيهة قالت: أتسمح لي أن أستودعك وديعة؟ - أحرص على وديعتك حرصي على نفسي يا سيدتي.
فمدت يدها إلى ما تحت مخدتها، وتناولت كتيبا صغيرا وقالت: أشعر أن أيامي أصبحت معدودة، فمتى تجردت عن هذه المواد الترابية تدفع هذا الكتاب لموريس، أرجو أن تكتمه عندك إلى ما بعد وفاتي. - عمر طويل يا مدموازيل، لماذا تتشاءمين؟ إنك صبية ولا خطر عليك.
فضحكت قائلة: إن عمري استنفذته كله في شبيبتي القصيرة، فأنا هرمة ولم يعد لي مطمع في الحياة، بل أشتهي الانتقال إلى العالم الثاني حيث أتوقع الرحمة والراحة الدائمة.
بعد ذلك آثرت أن أقصر الكلام معها؛ لأني رأيتها قد أخذت تتأثر، فودعتها بعد ما حقنت ذراعها بالستركنين، وتركت لفانتين الإيضاحات اللازمة.
وصلت إلى البيت وأنا أفكر في الكتاب الذي استأمنتني عليه إيفون، فلم أصبر عن أن أفتحه، أولا: لأن استطلاع الأسرار داء في كل إنسان، ثانيا: لأن إيفون لم تشترط علي ألا أفتحه، وثالثا: لأن نفسي حدثتني أن الاطلاع عليه عاجلا قد يفضي إلى نتيجة حسنة، فانزويت في غرفتي وجعلت أقرأه كما يأتي:
6 أبريل سنة ...
عزيزي موريس
كانت الأيام الأخيرة تنبئني بدنو أجلي، وإذ كنت أنت الصديق الوحيد الذي عثرت عليه في هذا العالم المفعم من المظالم، والدائر حول محور الاعتساف آثرت أن ألهي نفسي في ساعات أرقي الأليم، بأن أروي لك ما لم تعرفه من تاريخ حياتي القصيرة الزمان الطويلة الحوادث؛ لأني وجدت أن مناجاتك في خلوتي هي التعزية الوحيدة التي بقيت لي في لجج شقائي الطامية، قبيل وصولي إلى شاطئ الحياة الأخرى، لا تظن أن مكايداتك الأخيرة لي غيرت قلبي عليك، كان قلبي لك وسيبقى لك حتى في خلودي إذا التقينا في عالم الأرواح تستقبلك روحي باسمة متهللة حامدة.
لا تظن أنك أسأت إلي فيما فعلته معي، ولا أنك أغضبتني فيما أغظتني؛ لأني كنت أتوقع كل ذلك منك؛ ولهذا اصطنعت من الصبر دروعا ومن الجلد تروسا أتلقى بها سهام نقمتك المسددة إلي، ونصال سخطك الحادة، اصطنعتها قوية جدا؛ لكي تشعث تلك السهام وتثلم تلك النصال بل تردها مكسرة.
وقد قواني على تحملها منك بالرضا أني كنت أسعى إلى غاية حميدة، أحسبها كفارة عن ذنبي الذي جر علي كل هذه الويلات المحدقة بي، وكنت أموهها بعزي القصير ومجدي الباطل.
أذنبت في حياتي كما يذنب سائر الناس، ولا بد أن يكون الله قد غفر ذنوبي كلها؛ لأني استغفرته وهو رحيم، ولكن ذنبا واحدا حسبه العالم عظيما جدا، وأبوا أن يغفروه لي فعاقبوني عليه بأشد من عقاب الله لبني الهلاك لماذا؟ لأني فتاة والفتاة ضعيفة لا نصير لها.
ما أشقى المرأة يا موريس! متى اطلعت على تاريخ حياتي أدركت أن بنت حواء مظلومة مع ابن آدم، فهل لك أن تكون رسول الإنسانية العادلة، وتبلغ رسالتها مخبرا أن المرأة مظلومة؟ لا أظن أن أحدا سواك يعلم البشر بهذا الحق.
كنت أحسب أن الحب الحقيقي، والإخلاص القلبي يشفعان بي عند العالم، ولكني وجدت الناس لا يحسبون لهما قيمة، فكيف يحسبونهما لامرأة ساقطة في عرفهم؟ إنك وحدك تحسبهما لي. •••
كنت ابنة لأبوين فاضلين تقيين، فربيت في حجر التقوى والفضيلة، توفي أبي وأنا حديثة السن فقام أخي الوحيد مقامه في السيادة على البيت، وكان هو وأمي يدللانني جدا تدليل أهل اليسار، ويعدانني لزوج موسر عريض الجاه كما يفعل جميع الأهل لبناتهم.
وكان لعهد حداثتي بيننا وبين أسرة أخرى ألفة شديدة - لعل سببها الأول المجاورة - وكان من أفراد تلك الأسرة فتى جميل الطلعة يكبرني بضع سنين، فكنت أجتمع به كثيرا تارة في منزلنا، وطورا في منزل أهله، ولما ناهزت الرابعة عشرة كان يتردد علينا كثيرا، ويبالغ في إكرامي والتودد إلي، وكنت أرى أمي وأخي يحتفيان به كثيرا ويلاطفانه، ففهمت أنهما لا يحظران علي عشرته.
في ذلك العام انفتحت عينا قلبي، وصرت أشعر أن ذلك الشاب ينبوع سروري لا أستلذ الحياة إلا بقربه، وما استتممت الخامسة عشرة حتى رأيت نفسي سيدة بين السيدات، وقد مضى نهار الصبوة، واتضح صبح الشبيبة وصرت أميز بين هناء الحياة وشقائها، فإذا كان فتاي حاضرا معي كنت فرحة، وإن كان غائبا كنت كئيبة، صار شغل قلبي الشاغل بل موضوع حياتي، بل مصدر غبطتي وينبوع هنائي.
ما صحوت من غفلة حداثتي إلا على صوت الحب يناديني في صباح شبيبتي أن أنهض لأناجي الحبيب المؤمل، أحببت ذلك الفتى جدا؛ ولكي تعلم يا موريس مقدار حبي له أقول: أحببته كل هذا الحب؛ لأني لم أكن بعد قد فهمت شيئا من أكاذيب هذا العالم، كنت أظن أن الناس جميعهم طاهرو القلب أنقياء الضمير متفقون على إحقاق الحق وتقلد الفضيلة، متمسكون بحبل الأمانة والاستقامة.
أخلصت حبي لذلك الفتى، واستخلصت حبه وصرت أحسب أنه أوفى لي مني له إن كان وفائي يفضله وفاء، كان شغلي الشاغل أن أفتكر بما يبتغيه وأفعل ما يسره ويرضيه، وما ادخرت جهدا في أن أكيف نفسي حسب رغبته وهواه.
إن علمت أنه يأبى أن أجامل زيدا من الناس تجنبت مجاملة زيد، وإن شعرت أنه يرغب أن أفعل أمرا فعلته، وإن استاء لأمر استرضيته، كان أغلى الأمور عندي رخيصا له وأعزها مبذولا لأجله، وبالجملة فإني كنت له كما يشاء، ملكته قلبي ونفسي وإرادتي، وكنت سعيدة بهذا التمليك؛ لأني كنت أرى منه مثل هذا الحب، وأعتقد فيه مثل هذا الإخلاص.
وقد اتضح لأمي وأخي حبنا فكانا يفسحان لخطواته السبيل على أمل أن يطلب يدي ويكون لي بعلا، الآن أفهم ذلك وأما حينئذ فلم أكن لأفتكر أن هذه هي بغيتهما، وإنما حسبت أنهما يتسامحان له؛ لأن أهله أصدقاء قدماء أوداء فيسوغ له ما لا يسوغ لسواه.
لذلك كنت أخلو به كثيرا في القاعة وفي غرفتي وفي الحديقة، وفي المتنزهات، ولم يخطر لأمي أو لأخي أن يحسبا حسابا لخلواتنا، والذي يلوح لي الآن أنهما لم يتوقعا مغبة سيئة لتلك الخلوات؛ لأنهما كانا واثقين تمام الثقة من حشمتي، ومن حسن مبادئ ذلك الشاب.
هذه هي الغلطة التي تفضي إلى كل إثم كإثمي، وهي أن يكتفي الأهلون بتربية بناتهم على المبادئ القويمة، وتجسيم الحشمة والعفاف والأدب فيهن، ثم يزجونهن بعد ذلك بين الشبان، ويتركونهن لأنفسهن يجرين على تلك المبادئ بقدر طاقتهن، حتى إذا سقطت الواحدة منهن كان سقوطها عظيما وعقابها قاسيا جدا، فمثلها مثل الهرة التي تركها صاحبها أمام الجبنة، فلما عاد رآها قد أكلتها فجعل يضربها ضربا مبرحا.
ووجه الغلط في ذلك أن في الطبيعة البشرية هوى أقوى جدا من تلك المبادئ مهما كانت راسخة في النفس، فإذا أطلق له العنان جرى في سبيله وحطمها تحت قدميه.
قضت النواميس الاجتماعية بأن يعصي كل من الفتى والفتاة هواه الحيواني ما داما غير زوجين، وأوجبت العادات الاجتماعية أن يجتمعا لكي يتعارفا، ولكن الطبع البشري لا يقوى على هذا العصيان مهما أشرب من الفضائل والمبادئ الأدبية، فلو أخلي المكان للراهبة القديسة وللعابد الناسك معا لاستحال عليهما أن يقمعا شهوتهما، فمن يلام إذا أثم الفتى والفتاة، حيث يفسح لهما أهلهما خلوة الإثم؟ أفلا يتعين على الأهل أن يقيموا أنفسهم منفذين لتلك النواميس الاجتماعية التي دربوا أبناءهم عليها.
متى صرت أبا يا موريس فلا تكتف بتلقين أولادك المباركين تلك المبادئ بل نفذها فيهم، لا تغض الطرف عن ابنتك وابنك مهما وثقت بحشمتها وأدبهما، وإلا فاعذرهما ولم نفسك في آثامهما؛ لأن الهوى الحيواني أقوى من تلك المبادئ.
لست أبرر نفسي يا موريس، ولكني ألوم أخي وأمي لوما عظيما؛ لأنه قبل أن تنضج في الفضيلة والمبادئ الأدبية التي لقنتها في حداثتي تركاني أصون عفافي بنفسي، وأنا لم أزل ضعيفة أجهل ما في هذا العالم من الشرور والخدع.
ومع كل هذا لا تظن أني استسلمت لذلك الفتى استسلاما، بل أؤكد أني تمنعت كثيرا، وتعززت عليه جدا، ولكنه سحرني بآيات حبه حتى صرت أعده أقرب إلي من أمي وأخي، كنت أسر إليه ما أكتمه عنهما، كنت أثق به في حين أرتاب بهما، كنت أؤمل فيه متى يضعف رجائي بهما، وبالجملة أصبح ذلك الفتى موضع ثقتي ومؤملي وملجئي ومفزعي وسروري وحياتي، أصبح لي كل ذلك؛ لأنه أراني من الحب أعظمه وأقواه وأخلصه، وكنت أحبه مثل حبه، فكيف أستطيع الامتناع عنه إذا خلوت به.
قبلني مرارا إلى أن صرت أقبله، ثم ضمني مرارا إلى أن صرت أضمه، ولطالما مناني بالدعوة ومع كل ذلك كنت أخيبه، وأتملص منه بأسلوب لا يغضبه، وليتني أغضبته.
وثقت به تمام الثقة، واعتقدت أنه عاقل حكيم، فكنت أصدق كل كلمة يقولها واستصوب كل عمل يعمله، واستحال علي الظن أنه يخونني، أو يفرط بي أو يسلم بهواني، أو يضن بشيء حتى بحياته في سبيل دفع الأذى عني.
قال لي يوما: ليس حب الزوجين كحبنا يا إيفون، فنحن أقرب بعضنا لبعض من الزوجين والآباء والأولاد والإخوة، وإن كان الناس لا يرون ذلك فينا الآن فنحن نراه.
شعرت حينذاك بعظم جرمي، ولكني كنت مطمئنة لوعده أنه يتزوجني قريبا فيمحو إثمي.
بعد برهة شعرت أني حامل، فقلت له: أن يعجل بستر عاري، فأظهر كل الاهتمام به وكان كل يوم يأتيني بخبر عن آرائه بشأني وبشأن زواجنا، وكان بعض تلك الأخبار سارا، وبعضها محزنا، وأنا أثق بكل كلمة يقولها.
وأخيرا قال لي: أهله لا يستصوبون زواجه الآن، وهو لا يقدر أن يفعل شيئا بغير رضاهم؛ لأنه غير مستقل عنهم، وكان يظهر أمامي كل غيظ وحزن من جراء معارضة أهله، فكنت لسلامة قلبي أرثي له وأطيب خاطره، وأنا على شفا اليأس من سوء حالي معللة نفسي بأمل أنه لا يدخر جهدا في إقناعهم، ومع شدة ثقتي به كنت جازعة لظني أن أهله يقفون في سبيل زواجنا.
ولما أوشك حملي أن يتضح لأهلي شكوت له أمري، وقلت: «دبرني» فبكى أمامي بكاء مرا، وقال: «ماذا تريدين يا إيفون فأفعل؟»
فأشفقت عليه كأنه هو المبتلى، وفكرت وقلت: أصبحت أشعر أن أهلي أعدائي؛ لأنهم إذا عرفوا بأمري لا يرثون لي، ولا يرحمونني فخلصني من نقيمتهم بأي الوسائل.
ففكر هنيهة ثم قال: أتذهبين معي خفية إلى حيث أمضي بك؟ - أذهب إذا كانت العاقبة أفضل من فضح عاري هنا، بماذا افتكرت؟ - افتكرت أن أستأجر منزلا صغيرا بعيدا عن الأهل والمعارف، وآخذك إليه، ونتكلل فيه ريثما يرضى أهلنا، ومتى علموا أن الأمر قد تم فلا بد أن يرضوا.
فتهللت لهذا الرأي؛ لأنه أفضل وسيلة لصيرورتي زوجة شرعية لذلك الفتى الذي كنت أحبه، إذ لا يستر عاري إلا زواجي به، وكان على أثر هذا الاتفاق أنه استأجر منزلا حقيرا في حي بعيد، وفررت معه إليه من غير علم أهلي، آملة أنهم لا يقلقون لغيابي؛ حتى يكون قد بلغهم خبر إكليلنا، فيعلمون بالمصيبة وبتلافيها في وقت واحد، فلا يشتد وقعها عليهم.
في ذلك النهار ادعى أن القسيس الذي طلب إليه أن يعقد إكليلنا وعده بأن يسترضي أهله على زواجنا، فنتكلل في حفلة رسمية لائقة بنا، وأنه طمأن أهلي عني وكفل لهم حسن مصلحتي بالبقاء معه، اطمأننت لهذا الخبر بل سررت، ومن العجيب أنه مهما استولى علي من الجزع والغم كان إذا اجتمع بي فتاي يهون علي الأمر جدا، ويسكن اضطرابي ويريح ضميري، أولا ببراهينه القوية، وثانيا بما يبديه من الانعطاف علي، وإظهار التفاني في سبيل راحتي ومحو عاري، وثالثا بما كان يبثه لي من وجده وغرامه.
أوقت طويل مر علي في ذلك المنزل الحقير، وأنا أعلل النفس بمواعيد فتاي المختلفة؟ كل مدة حملي.
ولدت طفلة وأنا لم أزل خليلته لا حليلته، طاوعته بكل أمر كل تلك الأشهر عسى أن يفرج كربي، ويستر عاري فكان يمنيني بالأماني الكاذبة.
شعرت لذلك الحين أن حبه لي أصبح فاترا، وصار يغفلني أكثر من قبل، وبعد ولادتي انقشعت غياهب الوهم عن عيني إذ تلاشى حبي له لما اتضح لي من مراوغته أخيرا، فأدركت أني أصبحت في هاوية عميقة القرار، وأن ذلك الفتى غرر بي وخدعني وخانني، لم أعد أعذره ولو كان صادقا في كل ما قاله عن معارضة أهله؛ لأنه كرجل كان عليه أن ينكر أهله، ويعترف بي زوجة ويخلع عني ثوب العار الذي ألبسنيه، فقلت له بعد انتهاء مدة نفاسي التعس: إن هذه ابنتك أفما حان تكون أمها زوجتك؟
فقال: ما الفرق بينك وبين الزوجة الآن؟ - إذن تنوي أن أبقى هكذا؟ - وما المانع؟
فلم أتمالك أن استشطت به وقلت: إنك نذل، لو كنت ذا شرف لفعلت فعل الرجال.
وكان جسمي ينتفض من شدة الغضب، وشعرت حينئذ أن لي قوة شمشون، فوثبت عليه لا أدري ماذا أفعل به ففر من أمامي فرار الثعلب، فقلت: «اخرج أيها اللئيم، لا ترني وجهك بعد، لست أرضى أن أعيش على جيبك»، ومضى.
الآن تعبت من الكتابة أيها العزيز موريس، وقد أصبحت الساعة الرابعة بعد نصف الليل، فأستأذن طيفك أن أستلقي في سريري مرتاحة الجسم قلقة الروح.
الفصل الثاني عشر
الحقد على الشرائع
في 7 أبريل سنة ...
اتكأت في سريري في آخر الليل الفائت، ولم أستطع أن أكفكف دموعي؛ لأني بعد ما تركت القلم جعلت أفتكر بأعمالك، فأجد أنها محزنة جدا ومنذرة بإخفاق سعيي إلى الغاية التي أتوخاها، وستعلمها في حينها من كتابي هذا.
وجدت أن فكرك ضال فخفت أن يتطوح ضلاله في، اصطحبت أمس المدموازيل ميراي والمدموازيل روشل لكي تغيظني، وقد بالغت في تمثيل دور غيظي يا موريس، ما كنت أظنك قاسيا بهذا المقدار يستحيل أن تكون هذه فكرتك؛ لأني أعهد أنك رقيق القلب جدا، هل توهمت أني أذنبت لك ذبنا من نوع عملك حتى تعاقبني هذا العقاب الشديد؟
لا أنكر أن قلبي انسحق حين كنت تأمرني أن أقدم كأسا لميراي وأخرى لروشل، ولكني كنت أعتصم بما وهبني الله من الحكمة والصبر في ذلك الحين، وبقهر عواطفي لكيلا أنقض عهدا مقدسا عقدته لأجلك.
ولكني كنت أخاف جدا أن تستسلم لميراي، وتزيغ عن السبيل الذي كنت أنوي أن أردك إليه هذا التخوف هو الذي أحزنني جدا؛ ولذلك خلوت في غرفتي وأطلقت لعبراتي العنان، وطلبت إلى الله أن يسدد خطواتك ويقيك شر الغواية، ولما رأيت أن ذلك النحيب لا يمكن أن يكون له آخر استلهمت الله أن أضع حدا له، فألهمني أن أشغل وقتي في عزلتي بكتابة هذا الكتاب لك.
أعود إلى قص حكايتي لك:
خرج ذلك الفتى من منزلي الحقير، ولم يعد، كأنه كان ينتظر داعيا لهجري كذلك الداعي.
لا بد أن تتصور يا موريس شقاء حف بي في ذلك الحين، ويأسا خيم على قلبي، ولكني أؤكد لك أن ما تتصوره إنما هو ظل الحقيقة، استسهلت الانتحار جدا حينئذ، ولولا ما طبعت عليه نفسي من الشمم لأتيته، ولكني أنفت أن أفترق عن الناس مخلفة ذكرا مذموما، فوضعت نصب عيني أن أسترد الشرف الذي فقدته، وأستعيد المقام الذي نفيت منه قبل أن أموت.
تراءى لي حينئذ أن جرمي عظيم جدا، وأن سواد عاري حالك، حكمت نفسي في أمر إثمي فوجدت أن لي شركاء فيه، أولهم ذلك الفتى؛ لأنه غرر بي وأغواني إلى حد الإكراه، وأراني أن هذا الإثم عرضي يمحى بزواجنا، ثم أمي وأخي؛ لأنهما فسحا السبيل لذلك الوغد وأخليا له الجو، وما أوجسا منه شرا علي في حين أني حديثة السن ضعيفة القلب والعقل والإرادة، ومن مظالم البشر أن يتعمد الأهل زج الفتيات بين الفتيان، وتعريضهن لفخاخ غوايتهن يعاقبونهن على وقوعهن في تلك الفخاخ.
حذر الفتيات يا موريس من وعود الفتيان، فإنها مهما كانت صادقة لا يستحيل أن ينقضوها، فعليهن أن يعتصمن بعفافهن؛ لأنهن وحدهن مسئولات عنه، وإن كان لهن شركاء فيه، لا يرحمهن ولا يعذرهن أحد.
مع أن لي شركاء في إثمي فقد وقع العقاب علي وحدي، ذلك الفتى تركني وعاد إلى مكانته في العالم كأنه لم يأت أمرا منكرا، وأهلي أنكروني والناس احتقروني.
قضيت بضعة أيام أفكر في ماذا أفعل لأعيش؛ ولأرقى من وهدة حطتي إلى مقام سيدة بين الناس، فأغلق علي لا أعرف صناعة أسترزق منها وطفلتي غل ليدي، كادت النقود التي بقيت معي بعد فرار ذلك الخئون تفرغ من جيبي، ولا يبقى عندي بعدها سوى خاتم حفظته تذكارا لحبه، وما هو إلا تذكار لشقائي.
خطر لي أن أطالب ذلك الغادر بحق الزوجية مطالبة قانونية، فتحمست وقصدت إلى محام أستشيره في قضيتي، وقصصت عليه موجز قصتي فسألني: هل عندك دلالة كتابية، أو شهود على أنه وعدك بأن يتزوجك؟ - كلا ولكنه ساكنني أشهرا كمساكنة الزوج للزوجة. - ولكنك رضيت بهذه المساكنة فلم يعد لك أقل حق عليه. - لقد شاركني في إثمي وأنا وحدي أعاقب. - الشريعة لم تعاقبك. - ولكن الناس يعاقبونني؛ لأنهم يسلبون حياتي الأدبية بل سعادتي، أفلا حق لي بتعويض من خسارتي هذه؟ - ليس في الشريعة نص على ذلك يا سيدتي. - إذن الشريعة ناقصة أو غير عادلة. - الشريعة المدنية يا سيدتي غير الشريعة الأدبية، أنا أرى أن ذلك الفتى ظلمك وغبنك ولكن القضاء يبرره.
فتنهدت وقلت: آه والشريعة الأدبية بررته أيضا؛ لأن الناس ضربوا صفحا عن جريمته، وقبلوه في عداد الأفاضل، وبقيت أنا وحدي ملتحفة بهذا العار، ويلي أنا الشقية! إلى أي محكمة ألتجئ؟
وحينئذ شرقت بدموعي واسترسلت في نحيبي، فلم يتمالك ذلك المحامي أن يغرورق بالدمع أيضا.
لو كنت معي حينئذ يا موريس لوثبت من مكانك كالأسد الهائج، وأسرعت إلى ذلك الغادر، وأنشبت أظفارك في عنقه؛ لأني أعلم أنك وحدك تنصفني، على أن المحامي رثى لي قائلا: ليس لك يا سيدتي إلا محكمة العدل الإلهي، فلا بد أن تنتقم لك من ذلك الغادر وتعاقبه شر عقاب.
فقلت: أليست المحاكم الأدبية والمدنية تمثل محكمة الله على الأرض، وشرائعها مستمدة من شرائعه تعالى؟ - كذا يدعي المشترعون، ولكن الحقيقة أن تلك الشرائع الأدبية والمدنية، وضعها الأقوياء مراعين فيها مصلحتهم وحدهم.
فاستشطت غيظا وزمجرت كالوحش الثائر قائلة: إذن أشقى؛ لأني ضعيفة لا لأني أثيمة، رحماك يا رباه خذ بيدي، ألا تقيم عدلك في هذا العالم الظالم! ألا تصلح هذه البشرية الفاسدة؟
موريس موريس، ألا تستطيع أن تجند من ذوي العقول الثاقبة والقلوب الصالحة جنودا يناضلون معك عن الإنسانية، ويدكون أركان تلك الشرائع الجائرة والمحاكم الظالمة، ويفسقون دعاوي الأقوياء الكاذبة؟ هؤلاء هم الفريسيون المراءون.
إني أرى هذا العالم جبلة شر، وليس فيه إلا الرذيلة مموهة بطلاء الفضيلة الكاذبة، إن لم تستطع أن تضع أساسا للفضيلة الحقيقية، وتبني عليها العدل الحقيقي، فكن بين الناس شرا منهم، واهجم على ضميرك بنبل النقمة واطعنه في قلبه طعنة قاضية؛ لأنه بقي حيا يجرك إلى الشقاء الدائم إذ لا تقدر أن تستوفي حقوقك من سواك بموجب هذه الشرائع البشرية، بل بالقوة والقساوة والطمع والغدر تستحوز على أمانيك، فلماذا تسكت عن حقك إذ كانت الشرائع لا تنصفك، والناس لا يعدلون.
أنا ضعيفة وذلك الوغد قوي، فلا الشرائع تنصفني منه ولا الناس يرثون لي، ولا حول لي ولا قوة على أخذ حقي، فماذا أفعل؟
وهت قوتي يا موريس حتى إن القلم يضطرب في يدي، إني أستسلم لحكم الهيئة الاجتماعية مكرهة؛ وألزم الفضيلة لأنها معزية لضميري وإن تكن عاجزة عن حفظ حقوقي أقضي الحياة شقية، ولكني أموت متعزية بتوبتي، هذا جل ما أستطيعه في هذا العالم المتعب.
خرجت من عند ذلك المحامي وصدري مرجل يغلي فيه الحقد على هذه النظامات البشرية الظالمة، خطر لي أن أنتحر ولكن لم يصدني عن الانتحار الخوف من الموت، بل الأمل بأن أسترد حياتي الأدبية، وأبرهن للملأ أن الزلة الواحدة لا تسقط المرأة إلى الأبد.
رجعت إلى بيتي فاستقبلتني الخادمة في الباب، وهمست في أذني قائلة: «إن سيدة هنا تنتظرك»؛ فعجبت لأني أعلم أن الناس وخصوصا السيدات يبتعدون عني ابتعادهم عن الحية الرقطاء، ويتجنبونني تجنب السليم الأجرب؛ لأني ساقطة دنسة في اعتبارهم؛ ولأنهم في الرأي العام صالحون أبرار، قضيت تلك الأشهر في منزل فلم تدخل إليه إلا واحدة من جاراتي، إذ عرفن حقيقة أمري، بل حاول صاحب المنزل أن يخرجني من قبل أن تنقضي المدة المعينة في صك الإيجار، صادفت مرة إحدى صاحباتي عابرة أمام منزلي فأغضت نظرها عني لا تريد أن تعرفني، فمن ترى تلك المرأة التي تنتظرني في بيتي؟
دخلت فدهشت إذ وجدت أمي حاضنة طفلتي وعيناها مقرحتان، فانطرحت عند قدميها أبلهما بدموعي قائلة: أماه! إن العالم كله يعاديني وينتقم مني؛ لأني أذنبت ذنبا لم يؤذ به أحد سواي، فهل لي منك رحمة لا أستحقها؟
فقبلتني قبلة شعرت أنها باردة، ولكني لا أدري إن كانت بالحقيقة هكذا، أو أن يأسي أوهمني أنها كذلك، قالت: اجلسي يا بنيتي لنبحث في أمرك.
فجلست وقد تجسم الرجاء أمامي، وقلت: عسى أن تكوني قد أتيت إلي بما ينفس كربي يا أماه. - أتيت إليك بالرغم من رضاء أخيك؛ لأنه يخجل أن يعرفك. - ويلاه أيشارك أخي سائر الناس في الحكم علي؟ - أنسيت يا إيفون أنك ربيت في بيت أساسه الفضيلة وجدرانه التقوى، فكيف لا نقفل بابنا في وجه العار الهاجم علينا بسبب جرمك العظيم! من كان يظن أن فلانة ابنة فلان ربيبة الفضيلة والأدب والتقى تفر من بين أهلها؛ لتبذل عفافها في مرقد الدنس، لم نعد نستطيع أن نرفع أعيننا إلى الناس من الخجل والحياء، وأخوك لم يعد يجسر أن يلتمس من المسيو (...) يد ابنته؛ لأنه لم يعد يتوقع إلا الخزي بسببك.
فتململت وتنهدت وقلت غاصة بكل لفظة: أماه لا تدينيني فقد دنت نفسي، وحكمت على نفسي وحسبي ما أقاسيه من أساي وشقائي، الآن وقت الرحمة فارحميني بأي فرج أتيتني؟ - قولي لي أولا على أي حال تركك ذلك النذل؟ - تركني إلى الأبد بلا رحمة ولا شفقة. - كنت أستقصي أخبارك فأعلم أنه كان يجتهد في إقناع أهله أن يقترن بك اقترانا شرعيا؛ ولهذا آثرنا إهمالك لكي يعلم هو وأهله أنهم ملزمون بك، وقد استخدمنا كل الوسائل الممكنة لاسترضائهم فلم نفلح؛ لأن أباه كان يرفض كل الرفض قرانكما لاعتباره إياك دنسة لا تليقين أن تكوني كنة له. - ويلاه ما أشقى الفتاة؟ أليس ابنه مدنسي وشريكي في دنسي؟ فهل برأه؟ - ألا تعلمين يا ابنتي أن هذا الدنس لا يلصق منه شيء بالشاب إلا إلى حين قصير؟ فقد تناسى الناس عمل ذلك الخئون، وعاد يطوف في بيوتهم ينتخب زوجة منها، وكلهم يتمنون أن يزوجوه! - لم أكن أعلم ذلك من قبل يا أمي فلا أدري من ألوم على جهلي هذا، ومع ذلك لا أظن أن أهله وحدهم السبب في تركي، فقد كان في وسع ذلك الغادر أن يعصاهم لأجل من غرر بها، وبنى لها من الوعود قصورا وعلالي. - لا ريب أنه نذل، خاف من تهديد أبيه أن يحرمه نصيبه من ميراثه الطائل. - إنه جبان، كنت حديثة جاهلة لا أفهم إلى أين أصل، والآن لات ساعة مندم، فماذا ترين الآن يا أمي؟ - فاوضت أخاك طويلا بأمرك فوعد أن يمدك بالمال على قدر طاقته، وإذا شئت أن تعملي عملا تستفيدين منه لمعيشتك، فضعي طفلتك هذه عندنا فأربيها، وأنت تكونين مطلقة اليدين للعمل. - إذن لا يقبلني أخي في منزله! - ليته يقدر يا ابنتي! فإنه مضطر أن يتزوج ووجودك في بيته عقبة في سبيل زواجه، وإن تسامح مصاهروه بذلك، فأنت لا تستطيعين احتمال إمرة زوجته عليك، ولا تأمنين أنها تجرح عواطفك حينا بعد آخر مهما كانت طيبة القلب ورقيقة العواطف، فالأفضل أن تعيشي مستقلة ونحن لا نضن عليك بكل ما نستطيعه من إمدادك بالنقود. - ويلاه حتى أهلي يتحاشونني ويخافون أن يتدنسوا بدنسي؟ ألأجل زلة واحدة أسام كل هذا الهوان؟ ويلاه! أوحدي أنا أثيمة والناس كلهم أبرار؟
وطفقت وأمي نبكي البكاء المر، وبعد هنيهة قالت: صبرا يا بنيتي صبرا، ليكن الله معك، إن ما ارتأيناه بشأنك حسن لك. - لا لا، لا أكلفك وأخي شيئا يا أماه، الله يدبرني.
عند ذلك أخرجت أمي من جيبها بضع جنيهات، ودفعتها لي فلم أمدد لها يدا فوضعتها على المقعد إلى جانبي، ثم قالت: متى تريدين أن آخذ الطفلة؟ أو تريدين أن تبقيها معك إلى أن تفطم. - لن أفارق ابنتي يا أماه، ورزقي على الله. - لا تيأسي يا ابنتي، إني أمك، أبقى لك كل حياتي، ليكن الله معك، أودعك إلى حين قريب.
ثم نهضت ونفحت الخادمة جنيها، وقالت لها: ألا تحبين سيدتك؟ ساعديها يا بنيتي وسريها.
ثم خرجت وتركت مهجتي تتردد بين ترقوتي، وجعلت أفكر فيما آلت إليه حالي فصغرت الحياة في عيني، ولكني ما عتمت أن استرددت أنفتي واستنجدت بتجلدي، فأخذت ورقة وكتبت:
سيدتي الأم الحنون
أعيد إليك مع خادمتي الجنيهات التي تركتها هنا، إني إلى الآن في غنى عنها ولي الأمل أن لا أكلف أخي شيئا بشأني، أقبل يديك ويدي أخي. (...)
وأرسلت النقود والرسالة كما كتبت.
وفي يوم التالي وافت أمي إلي، وقالت: لماذا فعلت هكذا يا ابنتي؟ إنك سخيفة العقل أتردين عطية أخيك؟ ليس متصدقا عليك، إنما هو يفعل الواجب عليه.
وبختني كثيرا على هذه الأنفة وقبلتني مرارا وأرغمتني على قبول النقود، وكانت كل مدة بعد أخرى تزورني، وأحيانا تدفع لي نقودا فكنت أعيش بها عيشة بسيطة.
اقتنيت آلة للخياطة وكنت ألتمس من خياطة مجاورة لي أن تعطيني بعض قطع قطنية، فأخيطها بأجرة زهيدة حين تكون طفلتي نائمة، أو على يدي خادمتي، على أن الخياطة لم تتكل علي أن أخيط القطع الحريرية وغيرها مما هو ثمين؛ لأني لم أكن أحسن الخياطة جيدا.
وبعد بضعة أشهر قالت لي أمي إذ كانت زائرتي - ولم يحو بيتي زائرة سواها: إن أخاك راحل إلى باريس؛ لكي يطلب عروسا ولعله يقيم هناك، والآن صار يمكنك أن تفطمي ابنتك وتطرحيها عن يديك، وتتفرغي لشغلك، فدعيني آخذها معنا فنربيها ونعدها لمستقبل حسن؛ لأنها إن بقيت عندك ظلت غلا ليديك، وكان مستقبلها مظلما وتعسا بلا إثم منها ولا حرج.
فشق علي جدا أن أفارق ابنتي؛ لأنها كانت تعزيتي الوحيدة، ولكني عدت إلى عقلي وتأملت الأمر جيدا، فرأيت أن من الحكمة أن أطاوع أمي وأقاوم قلبي فأفك يدي من أغلال تلك الطفلة، وأتفرغ للعمل لكي أعد لنفسي مستقبلا حسنا وأجدد حياة شريفة، سرني هذا الفكر بقدر ما آلمني تصور فراق ابنتي، وأخيرا قلت: «من لي مثل أمي مربية لطفلتي؟ وماذا لي مثل بيت أخي منزل لها؟» فقبلتها مرارا بدموع غزيرة وسلمتها لأمي وقلبي يتقطع.
آه يا موريس، ندمت جدا على تسليم ابنتي فلذة كبدي؛ لأنه بعد برهة ورد إلي كتاب من أمي تنعيها إلي وتعزيني بها؛ فلطمت خدي وقرعت أسناني ندما على تركها؛ لأني تصورت أنها ماتت من جراء الإهمال، وأنها لو بقيت معي لظلت حية، وكانت تعزية عظمى لي وحارسا على حياتي الأدبية، ولكن الشقاء كالمال يجر بعضه بعضا حسب قول المسيح: «من له يعطى ويزاد»، فأنا كان لي الشقاء فأعطيت منه وزيد لي.
كتبت كثيرا اليوم وأنا أشعر بلذة فائقة في كتابة هذه الرسالة، الآن تعبت وقارب المساء وصرت أتوقع قدوم زائرين، وأهيئ نفسي لتحمل فظاظة البعض منهم؛ لأنهم سافلو المبادئ، بعض زائري حانتي لطفاء أشعر أنهم يجلونني، فهؤلاء أحادثهم بمواضيع اجتماعية وأصرف نظرهم عن الغايات السافلة، مع ذلك أشعر بسآمة من هذا العمل الشاق على النفس، أحب أن أعدل عنه؛ لأني لا أقدر أن أكسب منه كسواي، ولكن كيف أسترزق؟
الفصل الثالث عشر
الولادة الثانية
في 12 مايو
مر علي أربعة أيام لم أكتب فيها شيئا من كتابي؛ لأنني لهوت بمجالسة زائر تردد علي مرارا أرتاح لعشرته؛ لأني وجدته أديبا، والظاهر أنه هو أيضا ارتاح إلى عشرتي؛ لأنها تختلف عن عشرة زميلاتي.
لم أزل إلى الآن أرتجف من عملك أمس، إذ أتيت ثانية مع ميراي وروشل وصديقك الذي أظن أنه صنيعتك، خرجت من المنزل حرصا على عواطفي؛ لأني لا أطيق أن أرى ميراي إلى جنبك يا موريس، يقشعر بدني إذ أراك تقبلها، يا لله أنى لك هذه القساوة البربرية؟ إني أسامحك من أعماق قلبي؛ لأنك معذور؟
عدت في آخر السهرة وعرفت أنك لم تمكث طويلا، فتأكدت أنك تفعل ذلك لنكايتي لا حبا لميراي، فهدأ روعي، ولكني كنت في الليل أتململ من الحزن فلم أنم فنهضت أكتب لك.
قلت لك: إن أمي أخذت طفلتي وبرحت بها مع أخي، فبقيت في مصر وحدي بلا أهل احترق قلبي حزنا على فراق ابنتي، وذبت غما إذ نعيت إلي ولكني بعد برهة سلوتها؛ لأنها صغيرة.
صادفت تلك الخياطة التي كانت تنعم علي ببعض أكسية لأخيطها، وتحملت بكل صبر صلفها وشموخها علي وسخطها؛ لكي أتعلم منها التفصيل والخياطة المتقنة، وأحيانا كنت أخدمها في منزلها لكيلا تضن علي بفائدة.
ذقت المر حينئذ يا موريس فكنت أعود في المساء إلى بيتي تعبة لا قوة لي، فأضطجع في سريري وأطلق لعبراتي العنان لأجل هذا العناء الذي أعانيه في مقابل لذة قصيرة، وجزاء زلة وحيدة دفعني إليها ماكر نذل كنت كلما افتكرت بهذا الأمر أكاد أتفتت، وأهم أن أمزق لحافي عني، بعد أشهر صرت أثق بمعرفتي فاستقللت عن معلمتي، وثبت في منزلي أخيط ملابس بعض السيدات اللواتي عرفنني بواسطتها، وكنت أشتغل لهن بأرخص منها لكي أجتذبهن وصديقاتهن إلي، وفي برهة قصيرة اعتدلت أشغالي فصرت أكسب في شهري نحو 6 جنيهات فانتعشت قليلا.
عند ذلك صرت أجتهد في أن أتقرب إلى الناس بقدر ما يتيسر لي، فكنت أزور بعض «زبائني» وأجاملهن وأدعوهن إلى زيارتي، فبعضهن كن يحتفين بي ويلبين دعوتي، وبعضهن قلما كن يكترثن بي، بل كنت أشعر أنهن لا يرضين عن زيارتي لهن فأقتصر عنهن، وأكتفي بصداقة اللواتي يبادلنني مجاملتي فقط.
ولما درست جيدا تلك البيئة التي كنت أتحرك فيها، وعرفت حقيقة صديقاتي اللواتي يؤنسنني وجدت أن معظمهن، بل كلهن من فئة قليلة القيمة في الهيئة الاجتماعية ومن طبقة غير راقية، فأدركت أني لم أخط خطوة كبرى إلى الأمام كما كنت أتوهم، وقررت أن أرقي نفسي إلى طبقة أرقى شأنا ومقاما وأدبا.
طفقت أتقرب إلى الأسرات المعروفة بالأدب والفضيلة غير ناظرة إلى مقامها في الجاه والثروة؛ لأني وضعت نصب عيني أن أسترد مكانتي الأدبية قبل جاهي، فتعبت كثيرا في التودد والتلطف والإكرام، وبالغت في التأدب والحشمة ومع ذلك لم أجتذب إلي من تلك الفئة إلا النزر القليل، وكنت ألاحظ أن بعض الأسرات تستنكف أن تعرف أنها ذات علاقة معي.
ومن شواهد ذلك مما عرفته بنفسي أن رجلا أبى على ابنته أن تأتي إلى بيتي؛ لكي تقيس فسطانها عليها، وطلب أن أمضي أنا إلى منزل جارتي؛ لأنها صديقة أسرته فألتقي بابنته هناك وأقيس فسطانها، حتم بذلك وإلا فلا يأذن أن أخيط ملابس أسرته.
وسمعت مرة أن رجلا سخط على زوجته؛ لأنها كلفتني أن أخيط ثوبها، وكانت تتردد علي لكي تقيسه عندي، وحرم عليها إعادة هذا الذنب.
ومرة كنت في بيت إحدى «زبائني» في يوم زيارتها، وإذ وفدت عليها زائرة فعرفتها بجميع زائراتها ما عداي، فشق علي ذلك وما عتمت أن خرجت مقسمة ألا أعود إليها، وكنت أنتظر أنها تعلم سبب خروجي العاجل، وتعتذر لي أو تسترضيني بمجاملة فلم ترني وجهها.
ومرة صادفت إحداهن في منتزه مع أسرتها، وبعض أصدقائها فأعرضت عني كأنها لم تعرفني قط.
وقيل لي مرة: إن فلانا عدل عن خطبة فلانة؛ لأنه عرف أن بيني وبين أمها تزاورا.
وأنكى من كل هذا أن شقيقة ذلك الذي خانني صادفتني مرة في السبيل، فأعرضت عني مقطبة كأني قاتلة أبيها.
وأما معارفي القدماء الذين عرفتهم قبل سقطتي، فقل منهم من كان يجاملني بعض المجاملة إذا صادفني، وأكثرهم كانوا يعرضون عني، وما من آنسة أو سيدة من صواحبي القديمات سألت عني أو زارتني.
أما الشبان فلم يتودد إلي أحد منهم إلا ظهرت أخيرا غاية تودده دنيئة، مع أني كنت أبذل جهدي أن أظهر محتشمة أديبة، ما رأيت رجلا يتقرب إلي باحترام لشخصيتي كأنهم لم يثقوا بما كانوا يرونه من حسن أخلاقي، ولا صدقوا ما ظهر لهم من احتشامي وأدبي، ومهما تودد إلي بعضهم كنت أكتشف مداهنته، فلا ينطلي علي رثاؤه.
صبرت مدة طويلة على هذا الحال، واحتملت كثيرا من استخفاف الناس بي وغضهم من مقامي على أمل أن يمحى عاري شيئا فشيئا فلم أفز بأمنيتي، نعم إني اجتذبت إلي بعض الصديقات الفاضلات، وأقنعتهن بحسن خصالي واستقامة مبادئي، ووفرة آدابي ولكنهن بقين يذكرن عاري، فإذا مال إلي شاب يجهل سيرة حياتي أخبرنه عنها، وأغفلن ذكر محامدي فيضرب صفحا عني.
أخيرا اقتنعت أن عاري وشم في معصم حياتي لا يمحى مهما فعلت من المبرات، وأتيت من الحسنات وتقلدت من الفضائل.
فكرت طويلا بطريقة لخلع ذلك الثوب الدنس، فلم أجد من وسيلة نافعة إلا أن أولد ثانية أو تتقمص روحي بجسم آخر غير جسمي، أي: يجب أن أستبدل شخصيتي.
قررت في ذات يوم أن أفعل كذلك ، فأعلنت لجميع معارفي أني راحلة إلى باريس رحيلا أبديا، ولكني سافرت إلى الإسكندرية وأبدلت اسما آخر باسمي الحقيقي، وادعيت أني أرملة لا أهل لي في القطر المصري، ولا بد أنك تتوق يا موريس أن تعرف اسمي الحقيقي فأسره إليك؛ لأنك أنت أقرب الناس إلي وإنما أرجو منك أن تكتمه عن سواك؛ لكيلا يتجدد في ضمائر الناس أن لأخي أختا مبتذلة بعد ما تنوسي ذلك، اسمي الحقيقي جوزفين وأخي جوزف ماتون، وقد علمت أنه عاد من باريس مع أسرته منذ مدة، بيد أني بقيت متنكرة عنه حرصا على سمعة أهل بيته.
كذبت على الناس باسمي وبترملي، ولكنني لا أشعر أني أذيت أحدا بهذا الكذب، بل بالأحرى أرى أني سترت عاري وعار أهلي، ولا شك عندي أن الله رحيم يغفر لي هذه الكذبة.
أقمت في الإسكندرية في مكان منفرد وأعلنت نفسي خياطة، وقللت من التجوال بل امتنعت عنه تقريبا، بذلت كل جهدي في أن أظهر لزبائني مثال الفضيلة والعفاف والاستقامة، فكنت أتبرم إذا سمعت من إحداهن كلمة بذيئة أو نميمة أو اغتيابا لأحد، وكنت أذهب إلى الكنيسة كل صباح بعد آخر، وبالفعل كنت أرتاح إلى العبادة جدا وأشعر بلذة الصلاة، وفي أثناء مجالسة السيدات، ولا سيما الفتيات كنت أجتهد أن أبث فيهن المبادئ القويمة، وكنت أهادي الجمعيات الخيرية نقودا وملابس للفقراء. وبالاختصار لم أغفل عن صلاح استطعته، ولا جفوت محمدة ممكنة.
ما مر علي ثلاثة أعوام وأنا في شخصيتي الجديدة «أي: فلانة الأرمة» إلا التف حولي عدد عديد من الصديقات، وكلهن يحتفين بي ويسعين إلى ودادي، وقد وفرت أرباحي جدا وصرت ذات ثروة صغيرة، ورأيتني في مكانة معتبرة بين معارف عديدين يجلونني من رجال ونساء.
وكان رهط من الشبان يحفون حولي، بعضهم موسرون وبعضهم متوسطو الحال، وقد حاولوا أن يتنازعوا فؤادي فلم يظفروا بطائل، فالأديب منهم كان يزداد إكراما لي واللئيم يجفوني كالا.
وكان بينهم شاب مهذب خياط حسن الحال أعجب بي، وأحبني وتوسم مني ميلا إليه، فطلب يدي وخطبني وجعل يتردد علي تردد الخطيب على خطيبته بلا حرج، فيزداد إعجابا بي، وسولت له نفسه يوما أن يداعبني مداعبة غير لائقة، فزجرته بلطف باسمة، فخجل واعتذر لي وتاب عن نيته؛ ولذلك ازداد ولوعا بي، كنت فرحة به ومعللة نفسي بأمنيتي العظمى، وهي أن أعود إلى مقام سيدة معتبرة بين السيدات.
بيد أن ضميري كان ينذرني، ويحذرني من مخادعة ذلك الفتى الذي أخلص الحب لي؛ لأني زورت شخصية غير شخصيتي الحقيقية، وزيفت ذاتيتي وكذبت عليه في أمري.
وقد رام غير مرة أن يتحقق نسبي بأسلوب لطيف، فكنت أزيغ من سبيل تحقيقه؛ لأني لم أعرف كيف ألفق خبر أهلي وذوي قرباي بأسلوب مقنع.
ولعل الريبة في شأني خامرته في حين من الأحيان، ولكن حبه العميق كان يغالطه في ظنونه، ويبدد غيهب شكوكه في وربما كان يؤول غوامض أمري تأويلا حسنا.
وبالرغم من استسلامه لهواه وحسن ظنه بي، وثقته بصلاحي كان ضميري يؤنبني حتى جسم في نفسي مظنة غشي لذلك الفتى الطيب القلب، ولم أعد أطيق السكوت على هذا الخداع.
وأخيرا قلت في نفسي: إني الآن امرأة صادقة الطوية صالحة القلب طاهرة النفس، والتي لا تشوبه ريبة في كوني هكذا، فإذا اعترفت له بزلة فاتت لم يعد يدري بها أحد بعد أن أبدلت اسمي وضللت معارفي عني، وأقنعته أنها زلة طيش في الحداثة، وقد كفرت عنها وتبت إلى الله، فلا بد أن يغتفرها، ويمتدح صدقي في شكوى نفسي إليه.
ففي ذات يوم غنمت فرصة ابتهاجه بمجلسي واغتباطه بحبي، وتصريحه بشدة ثقته بي وقلت له: يا فلان لي سر مكتوم إلا عن الله تعالى، فلا يليق بي أن يبقى مكتوما عنك وأنت ستكون أقرب الناس إلي، بل أصبحت أقربهم إلى نفسي، وليس لأحد سواك صلة بقلبي.
فاعتدل في مجلسه وسدد نظره إلي، وقال: ولا ريب أني أحرص الناس على سرك وأكتمهم له. - لا أشك في ذلك، وهذا ما يجرئني على أن أكشف لك سري، وأنا واثقة أنه مهما كان سرا مسيئا لا يدع أثرا سيئا في نفسك، إذ ليس فيه أذى لك.
فحملق بي كأنه يريد أن يتفهم الخبر عاجلا، وقال: ما هو؟
فقالت: أنت تعرف أني أرملة. - نعم. - وأنه كانت لي ابنة وماتت. - نعم كذا قلت لي. - لم أكذب عليك إلا في أمر واحد لا أريد أن تبقى جاهله؛ لئلا أكون خادعة لك، بل أريد أن أطلعك عليه حتى تكون على بينة من أمري، وأنا واثقة أنك لا تحاسبني ولا تدينني. - أرجو أن تختصري التوطئة وتأتي رأسا إلى السر؛ لأني أفهمك جيدا ومقتنع بحسن طويتك، فما هو الأمر. - إن أبا ابنتي لم يكن زوجي الشرعي.
فاختلج قليلا ولكن وجهه تورد ولم يخف علي اضطراب نفسه، وقال: كيف ذلك؟ - أشكر لك حلمك وما بدر إلى ظنك من أن لذلك سببا قاهرا، وتود أن تطلع على تفاصيل هذا السبب القاهر حتى ينجلي لك عذري. - يسرني جدا أن أقتنع بعذرك. - ويسرني جدا استعدادك لإعذاري متى ثبت لك أنه غدر بي، وأن طهارتي اقتنصت اقتناصا، فإليك حكايتي أرويها بالأمانة والصدق، من غير تحريف أو تمويه أو تضليل، وأرجو أن تثق بصدقها؛ لأني لو كنت أود أن أخدعك أو أكذب عليك في الرواية ما كنت أعترف لك بزلتي.
فأجاب وهو يكظم قلقه: إني لواثق في صدقك. - شكرا لك، وإنما أرجو منك ألا تسألني عن أسماء أشخاص حكايتي؛ لأنها حكاية مضت، وشخصيتي الأثيمة قد انقضت وأنا الآن غير تلك الآثمة التي لم يعد أحد يعرف عنها ما آل إليه أمرها، والناس لا يعرفونني الآن إلا كما تعرفني أنت، مرأة متصونة حريصة على عفافها وفضائلها، فلا أريد أن أكدر صفاء مودتنا بتذكار أشخاص تنوسي أمرهم، وجل بغيتي من قص حكايتي أن أعترف لك بزلتي حتى تغفرها لي، ولا أدخل في باب بيتك إلا شخصا ممحصا طاهرا. - إني ممتن لحسن قصدك.
وهنا رويت له الحكاية بالتفصيل كما رويتها لك يا موريس، ولم أتمالك نفسي عن البكاء وذرف الدموع حتى كان ذلك الفتى يشاركني فيهما متأثرا شديد التأثر، وأحيانا كان يستشيط ويسخط على ذلك الوغد حتى إنه لو كان يظفر به لأنشب أظفاره في عنقه وخنقه، وكان يتخلل تأثره هذا رثاؤه لي وإشفاقه علي.
وما فرغت من حكايتي حتى كان أشد الناس تألما من ظلم الهيئة الاجتماعية لي، وقد ثبت لي من تأثره وكلامه أنه لم يرتب بصدق كلمة من حكايتي، وأخيرا جعل يطيب خاطري ويواسيني، ويرجو مني أن أنسى ذلك الماضي وأعتبره كأنه لم يكن.
فشكرت عواطفه الرقيقة وقلت: إذن أنت لا تدينني. - لست في يقيني آثمة، بل أعتقد أن الله لا يدينك، فالبشر الذين يدينونك يتطاولون على رحمة الله. - إنك تنتشل نفسي من هاوية اليأس يا عزيزي، فهل ترى أني أستحق أن أكون زوجة لك. - إن اطلاعي على سرك هذا زادني اعتبارا لك ورغبة فيك، فلا تشكي بحبي لك. - وستجدني أخلص لك من نفسك.
وانتهى اجتماعنا ذاك باغتباط مشترك بيننا لا مثيل له، لعلك تتصور قدر سعادتي وسروري حينئذ يا موريس، إنه مضارع لسروري وغبطتي بحبك.
ولكن والوعت أن هذه الغبطة لم تدم طويلا، فإن ذلك الفتى لم يعد في زياراته التالية الشخص الذي تعودت عشرته، بل كان كثيرا ما يذهل وهو يفكر، فأدركت أن الوساوس تطرقت إلى يقينه، وخفت سوء المغبة، وحاولت أن ألتمس منه أن يصارحني قصده فكان يتحاشى المصارحة.
لم يزرني بعد ذلك إلا ثلاثة، ثم قاطعني فجاءة ففي حين كنت أنتظر قدومه وردت إلي رسالة منه انقض معناها على قلبي انقضاض الصاعقة، وهاك نسختها:
سيدتي المحترمة
لا يدور في خلدي أني أفضل منك بمزية قط، ولكن بدت أسباب تحملني بكل تأسف على أن أفك عقد خطبتنا، لا أزال أحترمك وأعتبر خصالك الحميدة، وأتمنى أن أبقى في عداد أصدقائك، لي أمل بأن الأمر لا يسوءك.
فلان
حزنت جدا واغتظت لهذه العقبى، واحترت في سبب انقلاب رأيه بعد اغتفاره زلتي وتجديد عهده لي، على أني ما ترددت في إيفاد خادمتي إليه بهداياه وعلامة الخطبة والرسالة:
سيدي فلان
أظنك تدرك من نفسك عمق الحزن الذي سببه لي كتابك اليوم، فإنه لا يقل عن عمق حبي لك، ومع ذلك لا قبل لي على مخالفة مشيئتك، إليك هداياك وعلامة العهد بيننا مع الخادمة، ومع أنه لم تبق لي عليك دالة بعد الآن أترجى منك رجاء واحدا فقط، وهو أن تزورني مرة أخرى لكي أعلم منك السبب الذي أفضى إلى ذلك بعد أن تفاهمنا، وإلا فأكون مظلومة بهذا النبذ لغير سبب ظاهر، إنك كريم الأخلاق فلا أظنك تخيب طلبي. (...)
فعادت الخادمة تقول: «يرجو منك إعذاره؛ لأنه لا يقدر أن يزورك»، فازداد تغيظي واشتد حزني وعاد إلي يأسي الماضي، ولكن خطر لي في الحال أن أمضي إلى الصديقة التي كانت واسطة الصلة بيننا؛ لكي أرجو منها أن تستطلع أفكاره لعلها تقدر تزيل سبب نقضه العهد، فدخلت عليها وكل عضلة من عضلاتي تختلج اضطرابا، ودفعت إليها رسالة خطيبي فقرأتها وقالت: إني أدرك مقدار غمك يا حبيبتي وأعتقد أنك مظلومة، ولكن ليس خطيبك الذي ظلمك بل تقاليد البشر وعاداتهم، إني أرثي لك جدا. - إذن تعرفين السبب، فأخبريني. - أظنك عرفته من نفسك.
فتزلزل فؤادي عند هذا الجواب، وشعرت كأنه وقع من بين جنبي؛ لأني أدركت أن سري انكشف لغير خطيبي أيضا، فوهت قوتي واستلقيت على المقعد لا أكاد أستطيع كلاما، وبعد قليل تجلدت وسألتها: أخبريني تفاصيل الحكاية أيتها الصديقة العاذرة. - يعز علي جدا يا حبيبتي أن أنقل إليك ما يسوءك. - لا تحاذري فقد تخرق هذا القلب من السهام التي أصابته، وكيفما رمي هذا السهم الجديد يقع في ثقب قديم. - مسكينة، إنك تعسة يا حبيبتي فالله يأخذ بيدك، علمت أنك فررت من بيت أهلك وساكنت المسيو (...) مدة كخليلة له لا كحليلة، وقد رزقت منه طفلة أخذتها أمك منك إلى باريس إذ رحلت مع أخيك من وجه العار الذي لحق بهما بسببك، إن هذا الكلام يؤلمك يا عزيزتي جدا وأنا أشفق عليك. - تكلمي يا حبيبتي فإني مخلوقة لهذه الآلام؟ - ... وإن ذلك الفتى تركك بعد أن كان مصمما على استرضاء أهله على أن يتزوجك زواجا شرعيا، ولكن أهله أقنعوه أنك فاسدة الطبع سيئة التربية، وأنه لا يمكن أن يثق بأمانتك له في المستقبل، فإذا كنت قد خنت نفسك وأنت عذراء شديدة الحرص على عرضك فلا بد تخونينه وأنت زوجة حين لا يتعذر عليك أن تصلي عشاقك متسترة بزوجيتك؟
عند ذلك شعرت أن دمي الفائر يتدفع في عروقي إلى رأسي وأطرافي، حتى خلته يتفجر من بدني تفجر الماء من الصخرة، فرميت ذراعي على مداهما واستلقيت على المقعد وقلت: ويلي! أين الجبال فتنقلب علي. - لا تقنطي يا حبيبتي، أعتقد أن حكم الناس عليك قاس. - أكملي حديثك فإني عجيبة الجلد. - بلغ ذلك إلى خطيبك فجاهد في تكذيبه؛ لأنه لم يستطع تصديقه لما يعلمه من حسن خصالك، ولكن الدلائل على صحة الوشاية كانت كالصبح، وقد ثبتت بشهود فاقتنع.
ففهمت أن خطيبي لم يبح بسري الذي كشفته له معترفة بزلتي، ولكنه لما عرف أن سري أصبح مفضوحا تتداوله ألسنة الناس استنكف صلته بي، فقلت جريئة: نعم وأنا أعترف بتهمة الوشاية، أقر أني أثمت إذ استسلمت لذلك المخادع بعد جهاده الطويل في إغوائي، وتمنيتي بالأماني العديدة المغررة، وإغرائي بوعوده المؤيدة بأيامينه العظيمة، حتى إنه لم يخطر في بالي قط أنه يخونني ولو افتدى وفاءه بدمه، ولكنني كنت حديثة السن جاهلة طبائع البشر ضعيفة الإرادة فوقعت في فخه، زللت زلة واحدة، ولما استفقت من غفلتي وصحوت لنفسي وثبت لي غدر ذلك الخئون جمعت قواي، وجاهدت في أن أسترد عرضي المفقود وشرفي الضائع فلم أفلح، فاضطررت أن أتقمص باسم آخر لكي أستر عاري، وأثبت حسن سيرتي ففزت بأمنيتي هذه إذ اتضح لكل معارفي أني آية العفاف ونموذج الحشمة ... - إني أشهد بذلك علانية. - ولكن الناس الذين عرفوا سري لم يقبلوا توبتي، ولا اغتفروا إثمي بل تفرغوا لمؤاذاتي، ووقفوا قواهم على مكايدتي مجانا، فماذا يضرهم أن يكتموا عاري، ويعاونوني على إظهار نفسي امرأة جديدة باسم جديد وبثوب أدبي نقي طاهر. - إن الذين فضحوا سرك هم أعداؤك الغادرون المجانيون. - أيجوز لي أن أسألك من هم؟ - هم أهل ذلك الخائن.
عند ذلك لم أتمالك أن أنشبت أصابعي في صدري، ومزقت ثوبي عنه تغيظا وحرقت الأرم وصرخت: آه، يا لرداءة الإنسان! أيتبعني أذى أولئك الأردياء إلى الأبدية؟
ضاع صوابي وأغمي علي وما صحوت إلا وتلك الصديقة المخلصة تعالجني بالمنبهات، ولما سكن روعي استرسلت في البكاء، فكانت تبكي معي، حارت في كيف تعزيني ولكنها بعد قليل قالت: خففي عنك يا عزيزتي، إن الله يجازي من نفس العمل، ذلك الخائن ينال الآن بعض جزائه.
فالتفت إليها متيقظة لكلامها وسألتها: إلام تشيرين؟ - إلى حالة ذلك الرجل الآن مع امرأته. - أرى أنك تعرفين عنه كثيرا. - نعم إني أعرفه وأعرف أهله جيدا الآن. - إذن تزوج؟ - نعم، عرفت أسرته في السنة الماضية إذ كنت في مصر، وكان حينئذ يبحث عن فتاة ليتزوجها، فما سمع بخبر آنسة إلا سعى وأهله إلى رؤيتها، وبحثوا عن سيرتها جيدا ودرسوها، طافوا بيوتا كثيرة وتعرفوا بأسرات عديدة، فلم تعجبهم فتاة ممن رأوا. - أما عرف أهل الفتيات بخيانته لي؟ - كلهم عرفوا. - وسمحوا له أن يرى بناتهم؟ - كانوا يتنافسون في استرضائه لأنه غني. - يا لسفالة البشر، إذن لم ينظروا إلى فساد قلبه ولا حسبوا فعله معرة. - ألا تعلمين أن حياة الشباب، ولطخة العار كالزيت والماء لا تمتزجان. - حيرتني اصطلاحات الناس التي يسمونها آدابا ونظامات اجتماعية، أنا وذلك الماكر اشتركنا بإثم واحد، وهو السبب الأول فيه؛ لأنه جرني إليه متذرعا بكل صنوف الخداع، وقد قاومته بكل قوتي ولكنه تغلب علي وأشركني فيه، فلماذا يسامحونه من غير أن يتوب، ويكفر عن جرمه ويعاقبونني غير مكترثين بتوبتي وكفارتي؟
فتأملت تلك الصديقة كلامي وقالت: إن هذا ظلم ثقيل وهو وصمة في محيا الإنسانية، والأنكى أن ذلك النذل كان ينتقد كل فتاة عرفها ويحسب عليها أقل عيب فيها، وكان يقول: «أطلب فتاة لم يمسها النسيم قط»، يا لضياع الإنصاف! دنس يطلب عفيفة طاهرة بل ملاكا كريما، وعذراء وديعة لا تجد إلا خاطبا أنفق شبابه في الفساد. - وأخيرا ماذا كان من أمره؟ - بعد ما اختبر كل الفتيات انتخب فتاة اعتقد أنها مثال العفاف وجبلة الطهارة، وقد دفعها إليه أهلها فرحين وهم يعلمون أنه قازورة رجاسة، وما مضى على قرانهما بضعة أشهر حتى صارت تلك المرأة متنازع العاشقين. - يا لله وماذا فعل بعلها؟ - لم يستطع كبح جماحها، فهو وأهله صابرون على الضيم كاظمون غمهم، يموهون على دنس تلك المرأة الخائنة بالثناء على سيرتها، ويسترون عارهم بامتداح خصالها، والناس لا يزالون يجلون مقامها، ويكرمونها في مجالسهم وحفلاتهم كأنها العذراء، مع أنهم يعرفون حقيقة أمرها؛ ذلك لأنها تفعل منكراتها متوارية وراء بعلها، ومستترة بزوجيتها الشرعية. •••
أرأيت يا موريس مبلغ فساد الهيئة الاجتماعية الحاضرة؟ لا أظنك تجهل أن بين المحصنات ألوفا يبذلن أعراضهن لغير أزواجهن حتى لخدمهن، ومع ذلك يغض الناس نظرهم عن دنسهن، ولكنهم يسددون سهام التعيير والازدراء بغير إشفاق إلى نسوة أسقطهن الحدثان، بيد أنهن بقين يتعززن على الأمراء والنبلاء.
كم يد يتناولها المتباهون بالشرف والطهر؛ ليقبلوها تشرفا بها، وهي أدنس من قدم المومس التي يبصقون في وجهها؟ على أنهم لو تسامحوا مع هذه كما تسامحوا مع تلك، وأخذوا بيدها لرفعوها إلى مقامها الأصلي.
ينسب الناس شقاء الجنس البشري إلى حواء القديمة؛ لأنها أغوت آدم القديم مرة، فلماذا لا ينسبون هذا الشقاء إلى آدم الجديد وهو يغوي حواء الجديدة كل يوم ألف مرة؟
دعا الله على حواء بالآلام والأوجاع؛ لأنها أكلت من شجرة معرفة الخير والشر، وأغوت آدم فأكل وقيل: إن الجنس البشري كله سقط بسبب إغوائها، فهل يدعو الله الآن على الرجل بالويل؛ لأنه يغوي المرأة ويجر على الإنسانية الوبال؟
سبحانك اللهم في خلقك ما أبعد أسرارك عن مدارك البشر!
شق الفجر ستار الظلماء وقلمي يندفع في مجراه كأنه يستلذ هذا الإملاء، ولكني أشعر بوهي جسمي، فأودعك الآن إلى فرصة أخرى، وها أنا جانحة إلى سريري أحاول أن أنام أو أن أرتاح.
الفصل الرابع عشر
أنا الغريقة ما خوفي من البلل
في 13 أبريل
أشعر بشوق إلى استئناف الكتابة لك عن تاريخ حياتي، نمت مرتاحة مطمئنة نحو أربع ساعات، وصحوت شاعرة بالراحة.
أتصور أنك وأنت تقرأ رسالتي تحرق الأرم على ذلك الخئون الذي ضحى بي على مذبح شهواته، وعلى أهله الذين منعوه أن ينتشلني من سقوطي ثم وشوا بي، ولكن ما هم غرمائي الحقيقيين، وإن كانوا قد أردفوا الأذية بأذية مجانا، وإنما غريمي الحقيقي تلك العادات التي يسمونها شريعة أدبية، فإنها تصر على تسويد عاري كلما أبهت الزمان سواده، وتصبغ به حياة خطيبي أيضا، فأولئك الذين وشوا بي بلؤم خدموه في عرف الجمهور من حيث يقصدون أذاي.
العجيب أني كدت أنسى خيانة ذلك الوغد لي، ولكنه وأهله لم ينسوا عاري فنبهوا الناس إليه إذ خفي عليهم.
بل الأعجب يا موريس أن أصدقائي وصديقاتي في الإسكندرية الذين لم يشهدوا شخصي الأول، ولا رأوني في حالة دنسي وهواني، ولم يعرفوني إلا «فلانة الأرملة» الفاضلة القديسة المحسنة نفروا مني وتجافوني لما وقفوا على حقيقة أمري، فكل ما شهدوه عيانا من صلاحي وتثبتوا منه بالبراهين الحسية من حسن سيرتي كذبوه وأنكروه، ولكنهم صدقوا مجرد الخبر عن هفوتي فتأمل ما أشد فاعلية تلك الهفوة.
كل ما أتيته من الحسنات وفعلته من الصالحات، وصنعته من المعروف وبرهنت عليه من العفاف والطهارة بتقشفي، وتعبدي وتصوني بغية أن يكون حجابا كثيفا قويا أحجب به إثمي الوحيد لم يستطع الثبات أمام هجمات الناس على سيرتي، دكوا ذلك الحجاب المتين إلى أساساته وفضحوا عاري.
تأملت كثيرا في العادات والآداب البشرية، فوجدتها عكس المعقول فحرت كل الحيرة في سرها، هل انتبهت يا موريس إلى أمر غريب فيها؟ هو أن الآثام التي لا تؤذي إلا آثمها وحده يصر الناس على معاقبته عليها، ولن يغتفروها له ولو تاب وكفر وصان نفسه عن سائر الآثام، لماذا؟ وأما الآثام المؤذية لغير آثمها، فيغتفرونها له من غير أن يتوب، فالسرقة مثلا يؤذى بها المسروق وينتفع السارق فيغتفرونها، والكذب يضر بالمكذوب عليهم فيغتفرونه للكاذب، والظلم يضنك المظلومين فيغتفرونه للظالم، وأما الزنا فلأنه لا يضر إلا بالتي زنت وحدها إذا كانت بلا بعل فلا يغتفرونه لها، بل يعاقبونها عليه أقسى عقاب، ولكن زنا الرجل الذي يضر بالزانية وزنا الزوجة الذي يضر بزوجها يتسامحون بهما، ويغتفرونهما بلا كفارة حتى بلا توبة.
لو قام المسيح الآن وقال ما قاله يوم قدم له الفريسيون زانية، وسألوه حكمه عليها: «من كان منكم بلا خطية فليرم إيفون مونار بحجر»، لرماني كل الناس حتى ذلك الذي لم يؤذ سواي، بل هم الآن يرمونني بما هو أقتل من الحجارة، يرمونني بسهام الاحتقار والازدراء، أظنك أنت وحدك يا موريس تقول ما قاله المسيح لتلك الزانية: «اذهبي يا امرأة ولا أنا أدينك.»
بعدما تركني خطيبي عرف كل معارفي سبب تركه لي، وعرفوا حقيقة أمري فقللوا من اعتباري جدا، وحطوا من شأني حتى إن الذين لم يشكوا بتوبتي وإخلاصي وصدقي في سلوكي، ومظاهري تغير نظرهم في، وصارت زلتي الماضية أداة تعييري، فإذا استاءت إحدى السيدات مني لأمر بغير حق بالرغم من اجتهادي في إرضاء الكل تنتقم مني بأن تعيرني بهفوتي الماضية، إذا ذهبت إلى الكنيسة قال بعضهم: «إنها لمرائية»، إذا أحسنت إلى فقير قالوا: «تتظاهر بالفضيلة لتستر عارها»، إن زارني أحد من الرجال غير مرة قالوا: «عشيقها»، وإن ترددت على صديقة مرارا قالوا: «متفقتان على البغي؟»
لما ذهبت إلى الكنيسة لأول مرة في تلك الأثناء كانت أكثر العيون ترمقني، وبعض الأصابع تشير إلي خفية وبعض السيدات يتهامسن (بالطبع بحديثي)؛ لأن حكايتي جديدة وغريبة، وإن كانت زلتي مألوفة عندهم.
مرضت على الأثر فاستدعيت الطبيب الذي كان يعودني قبلا، فتخلف عن عيادتي وعلمت بعدئذ أنه اضطر إلى ذلك؛ لئلا يظن الناس فيه سوءا يؤثر تأثيرا سيئا على مصلحته ووظيفته، فترى أنه لولا مصلحته لما استنكف أن يعودني.
والذي يجنني أني كنت وصديقتي مرة في سان استفانو، فصادفت سيدة مع شقيقة ذلك الخئون تنظر إلي تارة وتكلمها أخرى، وأحيانا تقهقهان، فسألت صديقتي: «من هذه السيدة؟» فتوسمتها وقالت: «هي زوجة ذلك الغادر مع أخته»، حيتهما صديقتي فلم تردا التحية، فقلت لها: «إنهما تنكرانك الآن لأجلي»، فقالت: «لا تعجبي لا يراشق بالحجارة إلا من كان بيته من زجاج »، عند ذلك لم أطق البقاء هناك فعدت وصديقتي حالا؟
لم يعد أحد من الشبان يعاشرني ويجالسني إلا على نية دنيئة لم يعد يتقدم طالب ليدي البتة؛ لأني في عرف الناس ساقطة، وإذا تقدم إلي شاب يجهل أمري فلا يلبث أن يطلع عليه فينثني عني.
تقدم إلي بعض الشبان طمعا بالمال اليسير الذي جمعته من وخز الإبرة، ولكن لم يكن بينهم أحد ذا مكانة معتبرة يستطيع أن يرفعني من حطتي، فأي من أرضاه بعلا منهم يزيدني حطة؛ ولذلك رفضتهم جميعا؛ لأني لم أبتغ الزوجية إلا لاسترداد مقامي الذي خسرته.
مر علي بعد ذلك ثلاث سنين أخرى، وأنا أغالط الناس في اعتقادهم بي وأجاهد في إثبات توبتي وطهارتي الحقيقية، فلم يمحوا عاري ولا شاءوا أن يردوني إلى مكانتي الأولى.
كنت أتحسر من أعماق قلبي وأتنغص كلما رأيت امرأة تمشي مع زوجها في متنزه أو نحوه، وبينهما ولد ومعارفهما يلتقون بهما ويرفعون لهما قبعاتهم، وإذا رأيت رجلا يعني بامرأته أغبطهما وأقول: «هل ترى أحصل على زوج يعني بي فأعبده، ويرفع مقامي فأسجد له؟» وإذا رأيت امرأة تتسيد في بيتها والأسرات تزورها وأولادها يحفون حولها وزوجها يمازحها يطفر الدمع من عيني، وأقول: «أنى لي مثل هذه السعادة؟»
مللت وحدتي، قنطت من استرداد شرفي، يئست من إقناع الناس بأني لا أقل عن أفضل نسائهن فضلا وطهارة، فقلت في نفسي: «إذا كان الناس يصرون على رفض توبتي، ولا يحسبون لي حسناتي ولا يغضون الطرف عن زلتي القديمة، فإلى متى أجاهد في مقاومة شهواتي، وأحرم نفسي لذاتها؟»
ما حدثتني نفسي هذا الحديث إلا بعد، إذ هاجم الغاوون من الشبان عفافي، فكانوا يرتدون خائبين، وأخيرا اتصل بي شاب لطيف مثر له بعض المبادئ الحسنة، فأبدى لي من الحب أعظمه، واقترح علي أن يغنيني عن إبرتي ويريحني من سهر الليالي أمام آلة الخياطة إذا ساكنته.
وكنت كلما كرر علي هذا الاقتراح عدلته له بقولي: إني أغنيه عن كل أمانيه، وأكون نسخة آماله الأصلية إذا كان يتزوجني، فصرح لي أن ذلك يستحيل عليه للسبب الذي أعلمه، فعذرته بعد الذي رأيته من تمسك الناس بتلك المبادئ العسوفة.
ولما قطعت الأمل من نيل وطري بتمامه كما وضعت نصب عيني، ومللت عيشة الوحدة ووهنت قواي الأدبية عن مقاومة الميل الطبيعي إلى إلف قلت: أنا الغريقة ما خوفي من البلل.
الناس يتنعمون وأنا أشقى وما هم بأبر مني، فلماذا لا أنعم؟
وكان ذلك الشاب يقطن في مصر، فانتقلت إليها، وسكنا في منزل حائد عن بيئتنا، وحينئذ اخترت لنفسي اسما ثالثا وهو اسمي الحالي: «إيفون مونار»؛ لأن اسمي الثاني أصبح مرادفا لاسمي الأول، فلم يعد يواري ماضي.
انتقلت من بين معارفي وعمدت إلى تغيير اسمي عند إبدال الحياة الدنسة بحياتي الطاهرة؛ لكي يبقى شخصي الحقيقي مصونا من الدنس؛ ولكي يسلم شرف أهلي من العار كذا تفعل البغيات إذا كن طيبات الأصل، فأحرجن إلى البغاء هل رأيت مومسا تقول لك اسمها الحقيقي؟ هل عرفت امرأة بغيا تقطن في بلد أهلها؟ لماذا؟ - لأنها وهي تنتهج نهجا فاسدا لا تزال تتشبث بالمبادئ الشريفة، وتحرص على عرض أهلها؛ ولذلك تكتم اسمها الحقيقي؛ لكي تخفي معه شخصيتها الشريفة وتتقلد اسما كاذبا؛ لكي تخلق لنفسها شخصية جديدة لمظاهرها.
إذا التقت بمن يعلم حقيقتها ويعرف أهلها تخجل منه، وتهرب من وجهه مهما كانت فاجرة سليطة، لماذا؟ لأن شخصيتها الحقيقية لا تزال تتمسك بأهداب الشرف فتخجل من العار، وأما الشيء العاري من ثوب الحياء فيها فهو شخصيتها المزورة.
أما المرأة المحصنة فيمكن أن تسلم شخصيتها الحقيقية وعرضها معا، تسلم اسمها وجسمها جميعا ولا تخجل بفسادها.
ساكنت ذلك الشاب نحو سنتين فكنت منعمة معه، ولكني خسرت كل أصدقائي ولم يعد يعرفني إلا مثيلاتي، على أني لم أعد أعبأ بنظر الناس السيئ إلي، وما كنت أهتم إلا بلذتي وسروري وإرضاء ذلك الشاب؛ لأنه كان يحبني جدا، ويعتبرني ويدرك قيمتي الحقيقية.
بعد السنتين اتفق له أن تزوج زواجا حسنا فتركني.
فكرت أن أعود إلى الخياطة، فشعرت أنها شغل شاق جدا لم يعد لي جلد عليه، فأقمت في بيت فخيم، وجعلته شبه منتدى أو قل حانة لكبار الغواة.
باسم «إيفون مونار» أطلقت لهواني العنان، وتمتعت بكل شهواتي؛ لأني رأيت أن العمر واحد سواء قضي بالتقشف أو بالتنعم وأن فضيلتي لا قيمة لها؛ لأن الناس ينكرونها علي وعلى مثيلاتي في حين أنهم يغضون الطرف عن رذائل غيري.
في ذلك الحين درست العالم جيدا، وهذه الحقائق التي أدونها لك لم تتجل لي في حينها، وإنما الآن صرت أفهمها بعد ذلك الدرس.
بذلت عرضي يا موريس في تلك الأيام؛ لأني لم أجد من يشتريه غاليا، مع أني غليته جدا وزينته بالفضائل، وطهرته بالتوبة فظل بلا قيمة في عيون الناس.
نعم إني بذلت عفافي، ولكنني لم أترك مبادئي القويمة، ولم أعدل عن حشمتي وأدبي وصدقي وعدلي وإخلاصي وإحساني، لم أبذل إلا العرض الذي أبى الناس أن يقبلوه مني نفيسا.
عاملت كل الذين كانوا يزورون حانتي بكل استقامة، وشرف نفس، صدقت معهم في مواعيدي وفي كلامي، حافظت على عهودي لهم، أخلصت لهم صداقتي، عزيتهم في أحزانهم، فرجت كروبهم، لم أتأخر عن أي فعل مروءة أستطيعها، تصدقت على بعضهم، سامحت المسيئين لي.
لم يعاملني من نوع عملي إلا النزر اليسير منهم، وهم الذين عرفوني جيدا وكانوا ذوي مبادئ قويمة، ومع ذلك لم يتفوقوا علي بذلك، وأما السواد الأعظم من معارفي فكانوا يكذبون علي، ويخلفون في مواعيدهم وينقضون عهودهم، ويسرقونني ويستحلون أذيتي، لماذا؟
لأني امرأة ساقطة.
كانوا إذا صادفوا مني وفاء أو إخلاصا يدهشون، ولا يصدقون، ويحاولون أن يؤولوه بمعنى غير ظاهر ويحسبونه دهاء عظيما سره فوق مداركهم؛ ذلك لأنه عجيب عندهم أن تكون الساقطة ذات مبدأ قويم. •••
بين المومسات والرجال تنازع يتوارى وراء دعوى الحب، وهو أحد من التنازع بين البائع والشاري، فالرجل يجتهد أن يشتري اللذة من المومس رخيصة، وهي تحاول أن تبيعها غالية، فهو يتحبب مرائيا لكي يروي شهواته، وهي تتدلل متصنعة لكي تبتز ماله.
بل بين الفئتين عداء شديد، الرجل يستبيح حقوق المومس كما يستبيح عرضها، فيستحل انتهابها، ويأبى عليها مكانتها وينكرها خارج منزلها، ويضن بمؤاساتها في حزنها وبعيادتها في مرضها، ويمسك الإحسان عنها في شدة فاقتها، ويقطع حبل رجائها في ساعة يأسها، هل أحسنت جمعية خيرية إلى مومس فقيرة؟ هل آوى مستشفى خيري بغيا مريضة؟
لست أدري لماذا يقسو الرجال على الساقطات قسوة الظالمين المنتقمين؟ ماذا أذنبن لهم؟ إذا كانت البغي تحاول أن تلطخ الرجل بعارها، وتزرع فيه جرثومة دائها وتزور حبها له؛ لكي تسلب ماله وتمكر عليه بدلالها لتبخسه سمعته، فإنما تفعل ذلك انتقاما مرا منه؛ لأنه أسقطها ولم يشأ أن يرفعها، قطف أزاهرها ثم داسها تحت قدميه عمدا لغير سبب.
بعكس ذلك يعامل المرأة المحصنة، يستر عارها وقد يفتدي سمعتها بدمه.
شقاء المرأة الساقطة على الأرض أشد من عقابها في جهنم.
لو أتيح لها أن تسترد مكانتها الحقيقية الأدبية، وهي إلى جنب زوج وضيع لتركت مقصورة بغائها، ومقصف لهوها وحلي بهائها ورضيت بالكوخ وشظف العيش. الساقطة تتمرمر في بأسائها، والبغي المنعمة تشعر بالويل المقبل عليها، فلماذا لا تفر من شقائها؟ لأنها مقصوصة الجناحين والهاوية عميقة، وليس من يمد يده إليها لينتشلها.
الويل للفتاة التي لا تتشبث بعفافها تشبث الجسد بالروح. نعيم الفتاة عفافها، فموتها أفضل لها من فقده. •••
لا موجب أن أفصل لك جزئيات حوادثي في تلك الأيام؛ لأن ما أجملته عنها يكفي لبيان تاريخ حياتي.
مالت الشمس إلى المغيب، وصرت أتوقع قدوم الزائرين، ولكني أشعر بكآبة؛ لأني صرت أستثقل الناس كلهم.
الفصل الخامس عشر
الضحية العظمى
16 أبريل
كدت يا موريس أندم على مجافاتي لك في حين أني أحبك فوق العبادة؛ لأني ذبت غيرة أمس إذ رأيتك إلى يسار ميراي في مركبة، رأيتكما ولكن أحمد الله أنكما لم ترياني، ولو رأيتماني لتضاعف غمي، ومع ذلك أتيت إلى البيت واسترسلت في البكاء، ثم انطرحت في سريري أشكو ألما بين ضلوعي، ولكي تزيد نكايتي أتيت أنت وميراي وروشل وصاحبك أمس؛ لكي تمثلوا المأساة التي مثلتموها منذ مدة، ولا بد أنك تذكر دخولك علي وتجلدي في مجافاتك، وخروجك حاقدا.
خرجت من عندي يا موريس حينئذ خاطفا راحتي وروحي؛ لأنه على أثر خروجك عرتني نوبة لا أعلم اسمها، ضاق نفسي جدا حتى خافت علي فانتين، فاستدعت الطبيب حالا، والطبيب أنذرها بالخطر المحدق بي فهمت من الطبيب أن علتي قلبية، وأن منيتي على الأبواب فلم آسف لها بقدر أسفي على تعلقك بميراي؟
أصبحت اليوم أحسن حالا، فتناولت القلم لكي أناجيك وأنم لك سيرة حياتي.
بلغت فيما كتبته لك إلى النقطة التي يبتدئ منها علمك عني، فقد عرفت أني بعد أن لازمت الحانة، أو بالأحرى المنتدى الذي أعددته للغواة الأغنياء، عرفت الأمير، وأحبني وأحببته دون سواه، واقترح علي أن أترك الحانة وأعيش مختصة به، ففعلت.
بعد ذلك عرفتك وقد ذكرت لك السبب الذي حداني إلى أن أحبك حبا لم أحب سواك مثله، وهو أنك أنت الوحيد الذي نظر إلى شخصيتي الروحية، وأغضى عن شخصيتي الجسدية والشخص الوحيد الذي «لم يرمني بحجر.»
أحببتك حينئذ يا موريس؛ لأنك أحببتني معتقدا أني أستحق هذا الحب كما تستحقه المحصنة من زوجها، والخطيبة من خطيبها.
أحببتك منتهى ما يستطيعه القلب البشري من الحب؛ لأنك أحببتني لأجل نفسي لا كما أحبني أولئك الفريسيون لأجل أنفسهم، كانوا يبجلونني في منزلي ويتمنون أن يقبلوا يدي في قاعتي، ولكنهم كانوا ينكرونني في الخارج أمام الناس؛ ليتبرءوا من دنسي وما هم أبر مني.
أما أنت فقد ناقضت أولئك المرائين، وأكرمتني واحترمتني في العلانية كما في السر، وشهدت بشرف نفسي وعرفتني بخطيبتك في نيوبار، ولم تقل حينئذ: إنها خطيبتك لكيلا تثير غيرتي.
لم أبتذل لك يا موريس؛ لأني كنت واعدة أن أبقى أمينة للأمير ما دمت أعيش بماله، ولم أشأ أن أنزلك منزلته؛ لأني أنزلتك مقاما أرفع من مقامه، وأشفقت أن «أستنفقك» فرنكا واحدا علي؛ لأني أحبك حبا حقيقيا.
ولكن الأمير لم يجهل مقدار حبي لك، فغار منك علي كما غرت أنت منه، ولما رأيت أني لا أقدر أن أرضيكما معا أبلغت الأمير أني مستقلة عنه، وصممت أن أعود إلى الحانة لأسترزق منها، وأعيش لك وحدك.
كنت حينئذ غائبا في الإسكندرية يا موريس، وقد كتبت لك ولم أخبرك شيئا من ذلك؛ لكيلا تسرع إلي قبل إنجاز شغلك وتمنعني عن فتح الحانة، فانتهزت فرصة غيابك وبحثت عن منزل لائق.
في اليوم التالي لسفرك أي: في الصباح الذي انفصل فيه الأمير عني، وصممت فيه على ما صممت حدث الحادث المهم غير المنتظر الذي حملني على مجافاتك بالرغم مني، وحملني كل هذا العذاب الذي أعانيه في بعدك.
في ذلك الصباح إذ كنت أفكر في ماذا أفعل وفانتين خرجت لتفتش عن منزل، وأنا لم أزل في غرفتي بثوب النوم قرع الخادم على بابي، ودخل يقول: «إن فتاة في القاعة تلتمس مقابلتك يا مولاتي»، فقلت: «من هي؟» فقال: «لم تقل لي عن اسمها»، فقلت: «قل لها أن تنتظر ريثما ألبس ثوبي.»
بعد بضع دقائق دخلت إلى القاعة، فوجدت فتاة تراءت لي ملاكا ارتدى الجسد البشري لكي يتجلى لي؛ لأني رأيت لأول وهلة في وجهها الصبوح كل أمائر الكمال، وشعرت بانعطاف قلبي إليها، ولاحظت اضطرابها شديدا فتوقعت أن مهمتها عظيمة، فبادأتها بعد التحية قائلة: أذكر أني رأيت هذا الوجه يا مدموازيل قبل الآن، فهل تشرفينني بمعرفتك؟ - لست مخطئة يا سيدتي، فقد قدمني إليك المسيو موريس كاسيه في نيوبار مرة.
فكان كلامها هذا سهما ناريا عبر في صمامات قلبي، فكتمت ألمي وقلت: نعم، نعم، ذكرت الآن، اعذريني قد نسيت الاسم يا عزيزتي بل إن موريس لم يفصح في التعريف يومئذ، أو أني لم أنتبه حينذاك للأسماء. - ماري مارتال. - لي الشرف، هل أقدر أن أخدمك خدمة يا سيدتي؟ - أتؤذنين يا مولاتي أن أقفل الباب؛ لأن حديثي معك سري؟
فضغطت على زر جرس الاستدعاء؛ لكي يأتي الخادم فيقفله، فنهضت في الحال وأقفلته ثم عادت إلى جنبي وقالت: إن المعروف الذي ألتمسه منك يا سيدتي عظيم جدا، لا أظن أحدا التمسه قبلي. - عسى أن أستطيعه فأسر أن أخدمك به. - إنه صعب جدا يا سيدتي؛ ولهذا أعده عظيما حتى إذا استطعته صنعت أعجوبة في عالم الإنسانية، ولقد لجأت إليك؛ لأني قرأت في سمائك يوم تعرفت بك في نيوبار أنك كريمة الأخلاق جدا، فطمعت في كرم أخلاقك.
فأنهض هذا القول نفسي وجسم في كل مبدأ شريف، ونبه كل عاطفة، ولكني كنت أسمع حينئذ نبضات قلبي السريعة كأن كلام الفتاة كان نذيرا بشقائي فتجلدت وقلت: قولي يا عزيزتي ماذا تريدين فأفعله إذا كنت أستطيعه. - إني يا سيدتي يتيمة الأبوين، وقد ربيت في بيت خالي وخالي عني بتربيتي جيدا كولد له، وفي العام الماضي خطبني المسيو موريس كاسيه ...
فقلت مبغوتة: أخطيبك موريس. - نعم يا سيدتي خطبني منذ عام تقريبا. - عجيب! لم يقل لي. - إنه يحبك ويعلم أنك تحبينه، فكيف يذكر لك ذلك؟ إنه يداري إحساساتك.
فبهت عند ذلك وشعرت أن بدر سعادتي قد أظلم في الحال، لم أدر لماذا أو كيف توقعت شقاء هائلا، وبعد سكوت هنيهة استأنفت حديثها قائلة: لطالما ذكر موريس أمام أصدقائنا، ومعارفنا أنك امرأة شريفة النفس جدا طيبة القلب قويمة المبادئ، وقد ذكر ذلك مرة أمامي فكنت إذا سمعت هذا القول أتذكر ملامحك، فيتراءى لي أنه غير مغرور، والآن أتمثلك أمامي بهذه الصفات.
عند ذلك بدأ الدمع ينبض من مقلتي قليلا لتأثري من كلام الفتاة؛ لأنه كان يصدر بملء الثقة وبحرارة، ثم قالت: قلت لك يا مولاتي: إن موريس خطبني منذ عام، ومنذ عرفك قل تردده علينا، والآن لا يزورنا في الأسبوع سوى مرة قصيرة أو مرتين، وقد عرف أهلي أنه مشغول بك، وأن شغله هذا يفضي به أخيرا إلى تركي، فهموا غير مرة أن يردوا له علامة الخطبة، فكنت أمانعهم وألتمس أن يمهلوه لعله يعود لي.
حينئذ بدأ دمع ماري يتفجر وهي تتكلم مجهشة: إني أحب موريس يا سيدتي منتهى الحب، وأتصور أنه مؤملي الوحيد؛ ولا سيما لأني يتيمة وخالي لا يدوم لي، والحب يقوي الأمل؛ ولهذا منعتهم أن يجافوه مهما جافى، ورجوتهم أن يتسامحوا له، ويصبروا عليه كصبري مهما نأى وصد، وأخيرا خطر لي خاطر لو ذكرته لسواك لضحك مني، ولكني أقدمت عليه وأنا واثقة أنك تجلينه؛ لأني أعتقد فيك ما يعتقده موريس، خطر لي يا سيدتي أن آتي إليك، وألتمس منك قلب موريس. - ويلاه، إنك يا هذه تطلبين حياتي مجانا.
وعند ذلك استرسلت في البكاء، ولم أستطع أن أكف دموعي أو أفوه بكلمة، فاستردت ماري قوتها وعادت تقول: سبق وعد موريس لي قبل أن عرفك وعرفته، وأحبني قبل أن أحبك وأحببته، ومع ذلك ما أتيت إليك يا سيدتي العزيزة؛ لكي أنازعك حقا لي، بل لكي أرجو منك أن تتفضلي به علي إذا كان في وسعك، أسلم أن ما أطلبه منك فضل عظيم لا يقابل بفضل، وإن تنازلك عنه صعب جدا، ولكنك تقدرين عليه إذا شئت.
إني يا مدموازيل إيفون فتاة، والفتاة كالزهرة في حديقة حافلة بالزهر تنتظر قاطفها، فإذا لم يتيسر لها قاطف في مدة زهوها القصيرة؛ ليجعلها زينة لصدره فهيهات أن توفق إلى قاطف يعرف قيمتها قبل أن تذوي وينتثر ورقها على الأرض.
إذا تركني موريس فهيهات أن يطلب يدي فتى آخر أحبه حبي لموريس، وإذا مالت نفسي بعده إلى سواه، فكيف أضمن أن أستميله إلي، ليس لي يا سيدتي إلا موريس أما أنت فإذا تركته فلك من تشائين من الشبان، الكل يتمنون رضاك، أما أنا فندر الذين يعرفون بوجودي.
أنت تقدرين أن تتسلي عن موريس، وتسليه بمن يحفل بك من الظرفاء، وبما يحف حولك من مسرات الحياة وأمجادها، أما أنا فأبقى سجينة في منزل خالي خاضعة لزوجته وأولاده، وبعد خالي لا أدري ماذا يكون مصيري.
سكتت ماري هنيهة فلم أجبها بغير البكاء، ثم قالت: إنك يا سيدتي بتضحية حب مستفاض تفتدين سعادة فتاة لا ترى نورا للسعادة إلا في محيا خطيبها، فإذا غاب عنها ذلك المحيا خيم البؤس على قلبها كل عمرها، فإذا ضحيت هذه التضحية أحرزت مجدا لم يسبقك أحد إليه، فحسبك أن يقال: إن المدموازيل إيفون مونار قهرت قلبها؛ لكي تنصف فتاة منه إذ اغتصب منها حبيبها.
سكتت هنيهة وأنا أخبئ وجهي بكفي وأكفكف دموعي، ثم سألتني : هل تحبين موريس يا سيدتي لكي تتزوجيه؟
فأجبت على الفور مجهشة: كلا، ولو طلب بإلحاح؛ لأن الناس لا يعدونني صالحة له. - إذن ما دام يحبك فهو مقيد بك شارد عن الصواب، فقد يصرف عهد الشبيبة بل معظم العمر سدى، فإذا أغفلته خدمته الخدمة الكبرى النافعة، وبذلك تبرهنين له على حبك الحقيقي، لا أنكر أنك تغالبين حب نفسك وتضحين بأنانيتك إلى حين، ولكنك تولين اثنين معروفا عظيما، وحسبك فخرا أن تكوني أول من ضحى بأنانيته لأجل من يحب؛ لأنه ما من محب حتى الآن حبس نفسه عن حبيبه بغية خيره، فكوني أنت فريدة بين المحبين بهذه المروءة الغريبة، وأضيفي هذه المحمدة إلى محامدك الوفيرة، إني أجلك جدا يا سيدتي؛ ولذلك أتيت أتوسل إليك.
ماذا كان تأثير هذا الكلام علي يا موريس! إني أحببت خطيبتك كما أحببتك رفعت نظري إليها، فتصورتها حملا وديعا يضرع إلى ذابحه، فتقطع قلبي شفقة عليها.
لم أستطع أن أجيبها بكلمة، بل بقيت مسترسلة في نحيبي كالولد الصغير فدنت مني وطوقت عنقي بذراعها، وقبلتني في خدي قبلة حارة وقالت: إنك تفتتين فؤادي بهذا البكاء يا حبيبتي إيفون، فإن كان ملتمسي عزيزا عليك، فإني أغالب قلبي وأقهره لأدع نصيبي لك، لا مناص من التضحية، فعلى واحدة منا أن تضحي بأنانيتها.
تصورتها عند ذلك ملاكا أرسل من السماء؛ لكي يطهر قلبي ويغسل نفسي بقبلته، أو رسولا أتى إلي؛ لكي يحثني على أن أكفر عن ذنوبي الأخيرة بكفارة عظمى، وهي أن أحبس قلبي عنك؛ لكي تسلم لخطيبتك، حدثتني نفسي أن أنطرح أمامها أقبل قدميها، وأبلهما بدموعي ملتمسة الغفران منها؛ لأني لها أخطأت في حبك، أشفقت أن ألثم ثغرها الطاهر وأنا دنسة الشفتين، وإن كنت طاهرة القلب، نظرت فيها لما قبلتني وقلت: إن موريس أصبح مبدأ حياتي الروحية، فكيف أطيق أن أفارق حياتي؟ - إن حبك الصادق يا سيدتي يطالبك بالحرص على مستقبل موريس، فإن كنت ترين أن مستقبله معك مجيد فاستبقيه، وشرف مبدئك يقضي عليك أن تنصفي قلبي من قلبك، فإن كنت تعتقدين أن قلبك أحق به فاستحوذيه، أنت خصمي وأنت حكمي فاقضي كما تشائين، فإني راضية بقضائك.
اعتدلت في مجلسي وكفكفت دموعي بمنديلي، وقد أصبحت عيناي متورمتين، وكان سكوت عدة دقائق وأنا أشرق كل لحظة بدموعي وأتنهد، وأخيرا التفت إلى ماري وهي كالولد الصاغر، وكل ذرة منها ضارعة إلي وقلت: إن ثقتك بي يا عزيزتي غير ضالة وظنك غير مخطئ، فلطالما ضحيت برغائبي لأجل شرفي، فلتكن هذه أعظم الضحايا، أقسم لك يا ماري بشرفي وبنفسي الطاهرة ...
فقاطعتني قائلة: لا تقسمي، إنك صادقة؟ - ... إني أجفو موريس مغالبة هواي وشوقي إليه وقاهرة قلبي لكي يعود إليك، فأنت خير له مني وأبقى، أضحي بأنانيتي وحب الذات لكي يثبت للناس أن بين جنبي إيفون مونار قلبا شريفا، وإن عفافها لم يبذل إلا بحكم العادات الاجتماعية العسوفة.
ثم ملت إلى ماري وقبلتها في وجنتها، فتعلقت بعنقي كالطفل يعانق أمه، وجعلت دموعها الحارة تنهل على صدري فضممتها إلى قلبي وقلت: قري عينا يا حبيبتي إن موريس لك وحدك منذ الآن، وبعد قليل يبرأ من حبي. فرفعت نظرها إلي قائلة: بربك لا تدعي موريس يعلم بزيارتي هذه لك، إن علم تنعكس الآية. - لن يعلم قط؛ لأني لم أعلم أنه خاطب.
ثم فككنا عناقنا وجلسنا متحاذيتين، والأسى بيننا يعقد قلبينا بعروة حب لا تنحل، لم نتمالك أن نستأنف البكاء صامتين، ولكن ماري اقتضبت ذلك النحيب بأن نهضت إلي وقبلتني مرارا، ومضت من غير أن تنبس ببنت شفة.
أتصدق يا موريس أني قاسيت بمجافاتي لك أكثر منك؟
بقيت وحدي بعد ذلك نحو ساعة أفكر فيك وفي خطيبتك، وأشعر بارتياح إلى تعهدي لها أن أردك إليها، صممت أخيرا على ذلك وأنا لا أجهل صعوبته، بل أتوقع أن أعاني فيه أعظم عناء، ولكن نفسي الكبيرة كانت تشدد قلبي لاحتمال ذلك العناء.
في ذلك المساء وصلني كتابك من الإسكندرية، ورددت لك جوابه بسيطا، ولما انتقلت إلى المنزل الجديد تركت لك الرسالة المختصرة التي رجوت منك فيها الابتعاد عني لأنه خير لك، ولقد لقيت منك بعد ذلك كل ما توقعته من غيرتك ومكايدتك لي، فكنت أتحمله بالصبر آملة أن تصل إلى الغاية التي كنت أبعدك عني إليها، ولكني أتأسف لتعلقك بميراي، وأخاف أن تضلك عن صوابك، إني صابرة إلى النهاية؛ لأني أقسمت لماري خطيبتك أن أتركك بالرغم مني.
الفصل السادس عشر
ثقل الجسد على الروح
22 أبريل
كنت أكثر هذا الأسبوع في السرير أشعر بشوق شديد إلى عشرتك، أرى المنزل مظلما لبعادك والساعات طويلة جدا، فأتوقع كل يوم قدومك، ليتك تأتي ولو لأجل مكايدتي، أخاف أن تكون قد سلوتني وشغلت بميراي، نعم إني قصدت من مجافاتك أن تسلوني، ولكني أجزع إذ أفتكر أنك سلوتني، ليس لي يا موريس تعزية سواك، فما أشد ظلمة الحياة وأنت بعيد عني!
كنت قد أخبرت فانتين عن تعهدي لخطيبتك أن أتركك لها وأجفوك، وحرضتها أن تكتم الخبر عنك، أتظاهر أمامها أني سلوتك، ولكني أشعر أن هذا التظاهر صلف وسخافة وكدت أندم عليه؛ لأنه حرمني التحدث عنك، تتجنب فانتين محادثتي عنك لظنها أنها تسوءني، وهي لا تدري أن تجنبها هذا يكاد يجنني، وأنا لا أزال متشبثة بكبريائي وآنف أن أبادئها بكلمة عنك.
اليوم صحتي أحسن وفي نيتي أن أتنزه غدا في الجيزة على أمل أن أصادفك هناك، ليتني أعرف أين تكون غدا مساء فأذهب.
30 أبريل
مضى كل هذا الأسبوع وأنا في صحة حسنة، ولكن الهزال واضح في، قل زائري لأنهم لم يعودوا يلتذون بعشرتي، أخذت فانتين تقتصد في نفقاتنا خوفا من الفاقة، خرجت مرارا إلى المتنزهات فلم أرك ولا مرة، ألعلك سلوتني؟ لا أدري إن كانت ميراي تشغلك أو أنك عدت إلى خطيبتك، إن خطيبتك جميلة ولطيفة وحساسة يا موريس، أحببتها، فعد إليها ولو إكراما لي، ليتني أعيش إلى أن تتزوجا، لا أظنها تستنكف استقبالي حينئذ.
إني حزينة جدا يا موريس، وأشعر بشديد الحاجة إلى تعزيتك، أكاد أندم على تعهدي لخطيبتك إن أغفلك، ولكني أجالد قلبي وأغالب غيرتي ووجدي، أمس ضربت على البيانو اللحن الذي كنت تحبه، وغنيته أنا وفانتين، فهاجت عواطفي نحوك فتفجر الدمع من عيني، وأدركت فانتين أن قلبي يحاربني.
2 مايو
عدت وفانتين في هذا المساء من القناطر الخيرية، قصدت إلى هناك؛ لأن صدري ضاق من الوحدة، كان الهواء لطيفا جدا، ولكن لم يستطع أن ينفس كربي، كنا كل الوقت نذكر نزهتنا السابقة إذ كنت إلى جنبي تحت الشجرة، وكانت أشعة الحب تشع من روحينا، ذكرنا كل كلمة قلتها، وقلدنا كل حركة فعلتها، كنت اليوم مبتهجة بهذه الذكرى.
ذكرت فانتين اسمك مقرونا بميراي، فهاجت غيرتي واسترسلت بالبكاء، ولم ألبث أن اعترتني نوبة ضيق النفس، توهمت أن ملاك الموت يقبض على عنقي لكي يخنقني، أغلق باب رئتي وخلت روحي صارت بين ترقوتي ولكنها لا تستطيع الخروج، مزقت ثوبي عن صدري، آه لو كنت معي لنفخت في فمي نسمة الحياة.
أصبحت يا موريس شديدة الاعتقاد بالبخت؛ لأني قضيت حياتي القصيرة مجاهدة في استرداد مكانتي الأدبية؛ لكي أحصل على الهناء فذهب جهادي أدراج الرياح، ألوف أدنس مني يهنأون وأنا أشقى، أليس السر في البخت؟ لما عرفك قلبي واحتواك قلت في نفسي: سيكون موريس موضوع سروري في بقية أيامي وتعزيتي في آخر حياتي، فحسبي هذا جزاء طيبتي وجهادي، ولكن انظر ما أسوأ بختي! لم أكد أقف نفسي لك بجملتي حتى بدا من عالم الغيب ما أبعدك عني، ألا تعزو هذا إلى البخت؟
15 مايو
رأيتك أول أمس مع ميراي في مركبة واحدة في الجزيرة، فغلت غيرتي في صدري حتى أطارت صوابي، عرتني نوبة ضيق النفس شديدة جدا حتى خافت فانتين أن تكون قاضية علي، فأسرعت بي إلى البيت، ودعت الدكتور بوشه في الحال فعالجني حتى هدأ روعي، وكان يحسب حسابا لانقضاء أجلي، في تلك الليلة لاحظت أن فانتين المسكينة بكتني في خلوتها، ما أطيب هذه الفتاة يا موريس! أرجو منك أن تلتفت إليها لأجلي، حفظت لها من حلاي خاتما نفيسا جزاء أمانتها وفضلها.
أتيت إلي ليلتئذ تسترضيني وأنا في منتهى انفعالي، فعاودتني النوبة شديدة، حزنت جدا إذ تركتني مع أني علمت أن فانتين أشارت عليك بذلك حرصا على سلامتي.
عادني بعض أصدقائي أمس واليوم ومن جملتهم الأمير، وقبل أن يبرح وضع في كف فانتين ورقة بخمسين جنيها فردتها له قائلة: «إن إيفون تغضب جدا»، ولم تدعه يخرج حتى استردها.
أشعر أن أيامي أصبحت معدودة، وأتوقع الموت كما يتوقعه المحكوم عليه به، أرى الدقائق طويلة جدا وأحتار كيف أقتلها، لو كنت معي لمر ما بقي من عمري القصير كالحلم، الطبيب يحقن ذراعي بمقو للقلب لكي يقوي قلبي الضعيف، كأنه يحاول أن يمد أجلي وما درى أنه عمر شقائي وعذابي، ليت بقية حياتي تختزل بربع ساعة تكون أنت فيها إلى جنبي.
كل ساعة أتوقع قدومك، فأين أنت يا موريس؟ إني في شديد الحاجة إلى تعزيتك. ويلاه! ألا أجد حولي محبا غير فانتين، ما أعظم أجرك يا فانتين! السماء لك. ما أقسى قلبك يا موريس! إني متغيظة منك، إذا أتيت إلي فلا بد أن أوبخك بكلام مر.
17 مايو
موريس! أين أنت؟ لماذا لا تأتي؟ كادت النوبة تختنقني الآن فجزعت فانتين، وأرسلت الخادم ليستدعي الطبيب فلم يجده، وجعلت تفتح الشبابيك وتهوي وجهي بالمنشفة، لم أكن أظن أن الجسم البشري يحتمل هذا العذاب، لم أجزع من الموت ولكني أتعذب كثيرا، أخاف أن أموت ولا أراك، نضبت غددي الدمعية فصرت أعول وأنوح بلا دموع، ويلاه! الموت ولا العذاب؟
18 مايو
إلي موريس! إلي! إني مائتة، ويلاه أموت وليس حولي أحد ممن أحب؟ ليت أخي يعرف أني لدى باب الأبدية! لا أشك أنه يزورني، ينسى ماضي، أموت سعيدة إذا كان ملاك الموت يتناول روحي من بين يديه، ليتني أرى زوجته وأولاده.
لم يزرني أحد منذ بضعة أيام، تأثرت مستاءة جدا من كل أولئك الأصدقاء الذين كانوا يتنافسون في مرضاتي، وفي ساعات احتضاري أغفلوني، ما أقل وفاء الرجل وما أحبه لنفسه، وهت يدي قد لا أستطيع أن أكتب لك بعد.
إيفون مونار
19 مايو
اليوم حالي أحسن قليلا، لم تعاودني النوبة، ومع أني لا أطمع بالسلامة أشعر بارتياح، ولعل سببه أن الدكتور بوشه أخبرني أنك قلق علي بيد أني مشفقة عليك لقلقك، لا تحزن لموتي يا موريس، أموت فداك مسرورة بثباتي إلى النهاية على عهدي لخطيبتك الجميلة الطيبة القلب، متى قرأت كتابي هذا فلا بد أن تحقق أمنيتي بتزوجك إياها هذه هي تعزيتي الوحيدة الآن، أسر إذ أتصور أنك ستقرأ هذا الكتاب، آه، ليت خطيبتك تعرف باحتضاري فلا ريب أنها تعودني ولو خفية، ليتها تعودني فأضع كفها الرخصة النضيرة على قلبي فينتعش، لم أعد أود أن تراني يا موريس؛ لئلا تبكي كثيرا. رأيت وجهي في المرآة فارتعت.
إيفون
ويلاه ما أمر الموت! جزعت جدا يا موريس لأن النوبة كانت أشد من كل نوبة سابقة، وتأكدت أنها القاضية، عجيب أنها عبرت من غير أن تفصل روحي عن جسدي، وعجيب أن صوابي لا يغيب هنيهة كأن حواسي وأفكاري متيقظة دائما؛ لكي تزيد آلامي، سأرجو من الدكتور أن يستدعيك؛ لأني لم أعد أطيق مجافاتك لا بد أن تغتفر لي خطيبتك هذا الإثم، إنها رحيمة وأنت تتوسل إليها أن تغفره، رحماك موريس! تعال دقيقة قبل أن أموت.
إيفون
الفصل السابع عشر
الصراع الأخير
قال الطبيب: وما أتيت على آخر هذا الكتاب حتى كنت قد استنزفت آخر دمعة من عيني، وكانت الصفحات الأخيرة منه مكتوبة بقلم رصاص، ووهن يد إيفون ظاهر فيها، والصفحة الأخيرة لا تكاد تقرأ؛ لأن حروفها مضطربة والإمضاء الأخير ليس إلا خطا متموجا.
دهشت لما أدركت أن المدموازيل ماري مارتال خطيبة موريس إنما هي ابنة إيفون، وأنها قصدت إليها واستوهبتها منها قلب خطيبها، وهما تجهلان إحداهما الأخرى، هممت في الحال أن أمضي إلى موريس؛ لكي أطلعه على كتاب إيفون، فإذا هو داخل علي يضطرب كالمجنون فبادأني قائلا: قد استبطأتك فهل جد لك ما أعاقك؟ - كنت الآن على أهبة المضي إليك اجلس. - كيف إيفون؟ قيل لي: إنها أسوأ حالا اليوم. - بل هي كالأمس فلا تجزع، اجلس فإن لي حديثا معك. - خير إن شاء الله.
جلس فناولته كتاب إيفون وقلت: خذ اقرأ هذا الكتاب بهدوء وسكينة، وأقسم لي أنك لا تخرج من هنا حتى أعود إليك. - ما هذا الكتاب؟ - من إيفون لك، وقد أوصتني أن أحفظه عندي إلى حين، ولكني رأيت أن من الصواب أن أدفعه إليك الآن.
فتناوله بلهفة وقال: إني سجين هنا إلى أن تطلق سراحي.
من حسن الحظ أني كنت أعرف المسيو جوزف ماتون معرفة بسيطة، فذهبت إلى منزله فلم أجده؛ لأن الوقت كان المساء فبحثت عنه فوجدته في سبلندد بار، التمست مقابلته على انفراد فاعتزلنا في إحدى زوايا الحانة، فبادأته قائلا: إن لي معك حديثا خطير الشأن يا مسيو ماتون، فلا أعلم كيف أفتتحه إذ لا أدري ماذا يكون وقعه في نفسك، ولكن إذا وثقت بحسن نيتي سهلت لي محادثتك فيه. - أراك شديد الاهتمام يا دكتور بوشه، وأخاف أن يكون حديثك سيئا، فابسطه بكل حرية، إني هادئ الخلق. - إذن أرجو أن تصدقني الجواب، ألم يكن لك أخت تدعى جوزفين؟
وجم عن الجواب، فقلت له: أما أذنت أن أبسط لك حديثي بكل حرية، ووعدت أن تكون هادئ الخلق؟ فأرجو أن تسامحني إذا كان تسآلي يسوءك. - نعم لي أخت بهذا الاسم. - والمدموازيل ماري ابنتها؟ - نعم، ولكن ليس من يعرف ذلك إلا زوجتي؛ لأني أخذت الفتاة من أمها طفلة إلى باريس ثم نعيتها إليها؛ لكي أقطع كل صلة بينهما، وهي لا تعلم إلا أنها يتيمة الأبوين. - هذا ما أدركته، هل تعرف شيئا عن أختك الآن؟ - لماذا هذا التسآل يا سيدي؟ - أتيت لكي أخبرك أنها مريضة وتتوق أن تراك.
فاغرورقت عيناه بالدموع وقال: تريد أن تقول: إنها تتأهب للرحيل إلى الأبدية أين هي الآن؟ - هي هنا في مصر باسم إيفون مونار.
وعند ذلك لم يستطع أن يتمالك عبراته فقال: نعم أريد أن أرى أختي. - إذن هلم معي.
وفي الحال نهضنا وركبنا مركبة إلى منزلي، وكان كل هنيهة يسألني سؤالا وهو ممتقع الوجه خافق الفؤاد، ولما صعدنا قلت: أتيت بك يا سيدي إلى منزلي أولا لكي أطلعك على تاريخ أختك قبل أن تراها، وهنا ترى المسيو موريس كاسيه فأرجو منك أن تقابله بالبشاشة مقابلة الصديق للصديق.
فنظر في مستغربا كأنه يسمع ألغازا، فقلت له: لا تستهجن أمرا الآن، فسيتضح لك كل شيء.
ولما دخلنا إلى القاعة وجدنا موريس جاثيا على الأرض ومرفقيه على المقعد، ورأسه بين كفيه، فلما شعر بدخولنا التفت، فوجدت عينيه قد تورمتا من فرط البكاء، ومنديله يذرف دموعا، وفي الحال هب إلى المسيو ماتون وهز يده، ولم يستطع أن يفوه ببنت شفة؛ لأن الحزن أخفت صوته بيد أنه دفع كتاب إيفون له، فقلت للمسيو ماتون: اقرأ هذه الكتاب لكي تعلم كيف تقابل أختك.
ثم خرجت وموريس إلى غرفتي وتركنا المسيو ماتون يقرأ وحده، استأذنني موريس أن يمضي إلى إيفون، فاستمهلته ريثما يفرغ المسيو ماتون من قراءة الكتاب، ولكني بعد برهة قصيرة رأيته أنه أصبح شعلة من شدة الحمى، وخفت أن إمساكه عندي دقيقة أخرى يجنه، فأوعزت إلى الخادم أن يرشد المسيو ماتون إلى منزل إيفون متى شاء ومضيت وموريس إليها.
كنت خائفا جدا أن تقع مقابلة موريس لإيفون موقعا سيئا على سلامتها، فأوصيته أن يكون هادئا حكيما لديها، واستحلفته أن يطاوعني في كل ما ألتمسه منه، فانقاد إلي انقياد النعجة إلى الراعي، وجدنا إيفون في خمود يدل على اقترابها من شفا المنية؛ لأن النوبات توالت عليها في ذلك الحين فلم تبق لها همة، وصرت أتوقع النوبة القاضية عليها ساعة بعد أخرى، ومع ذلك تراءت لنا كالملاك السماوي، فزال امتقاع وجهها وأصبح محياها متلألئا شفافا كحجر الكهرمان.
ولما رأت موريس ابتسمت له ابتسامة سماوية من غير أن تضطرب، وجاهدت أن تمد إليه يدها فتناولها موريس، وقبلها مرارا وكانت دموعه قد نضبت من فرط البكاء السابق، واجتهد أن يبش لها كما أوصيته، ثم جلست لدى رأسها وموريس جلس لدى صدرها، وبعد هنيهة قالت باشة: أتيت يا موريس؟ - بماذا تشائين أن أكفر عن ذنوبي يا إيفون؟ بل أرجو منك أن تغفريها؛ لأنه ما من كفارة تستطيع أن تمحوها. - سامحتك على كل إساءة في حينها يا موريس، وعذرتك عليها، ولكني ألتمس منك أن تكافئي حبي الخالص بأن تعود إلى خطيبتك التي ضحيت بقلبي لأجلها ولأجلك، إني مائتة يا موريس وماري باقية، فاستعض بها مني إن كنت لا تزال تحبني.
فجعل موريس يمرغ وجهه بيدها ويقول: إني أعبدها؛ لأنها نسخة منك يا إيفون.
فالتفتت به التفاتة استغراب فعاد يقول، قرأت كتابك يا إيفون، وعرفت منه أنك شقيقة جوزف ماتون خال ماري.
فقالت مدهوشة: يا لله ماذا تقول؟ - أقول: إن ماري ابنتك يا إيفون، وأنا أعبدكما معا.
فعادت تستلقي على ظهرها، وتنهدت وقالت: إذن لم تزل ابنتي حية، أريد أن أرى ابنتي قبل أن أموت يا موريس، بربك استقدمها إلي، أريد أن أضمها إلى قلبي قبل أن أموت.
فالتفت موريس إلي كأنه مني ينتظر الجواب على هذا الطلب فقلت: بعد قليل يكون أخوك هنا يا سيدتي فنطالبه بابنتك.
فقالت: بربكما أريد أن أرى أخي وابنتي.
فقلت: إذا استبطأناه ذهبت إليه لكي أستقدمه.
فقالت: هل عرف أمري؟
فقلت: إنه في منزلي الآن يقرأ كتابك.
فأنت وقالت: ويلاه! ثم ارتخت قواها فأغمضت عينيها وعراها مثل سبات، وكان موريس ينظر إليها نظر العابد إلى المعبودة تارة، ثم يضع شفتيه على كفها أخرى، وفانتين واقفة عند قدميها، وقد وضعت وجهها في منديلها.
وبعد برهة سمعت دوي مركبة فأطللت فوجدت المسيو ماتون وابنة أخته يخرجان من المركبة، ولما دخلا أحست إيفون بدخولهما ففتحت عينيها، وابتسمت ابتسام ملاك وتفرست فيهما، فأسرع إليها المسيو ماتون وانحنى فوقها وجعل يقبلها قبلات لطيفة ويهذرم فوقها كأنه يهذي من شدة التأثر، وما فهمت من كلامه إلا قوله: «فديتك يا أختي، أضحي بنفسي لأجلك، سامحيني على ماضي إغفالي لك»، ثم اعتدل وأخذ يد ماري ابنتها وهي تشرق بدموعها، وتشهق في نحيبها وقدمها إلى إيفون قائلا: «هذه ابنتك يا أختي قد صنتها منك، ولكني أقدمها لك الآن لكي تنال بركتك.»
فتفرست إيفون بماري هنيهة من غير أن تفوه بكلمة، ثم جمعت آخر قوة عندها ورفعت ذراعيها، فكان عنق ماري بينهما وشفتاها على شفتيها، ورأيت حينئذ إيفون تتصعد طويلا كأنها تملأ رئتيها من أنفاس ابنتها، وبقيتا متعانقتين هكذا نحو دقيقتين إلى أن نفدت قوة إيفون، وارتخت عضلات ذراعيها فسقطتا على ظهر ابنتها واهيتين. وحينذاك نهضت ماري عن أمها، فرأيت إيفون تسكب آخر دمعة ادخرتها لابنتها.
أما موريس فكان حينئذ واقفا منحني الهامة مكتوف اليدين خاشعا، وفانتين واقفة عند قدمي سيدتها تلتقم منديلها.
ثم قعد المسيو ماتون حيثما كنت قاعدا، أي: قرب رأس شقيقته، وماري قعدت حيث كان موريس، أي: قرب صدر أمها، وكان سكوت نحو دقيقتين وإيفون مغرورقة العينين مطبقة الجفنين، ثم فتحت عينيها فوقع نظرها على ماري، فقالت بصوت خافت جدا لا يكاد يسمع: «هل عوقبت بذنبي يا فلذة كبدي، لقد كفرت أعظم كفارة عنه لموريس، فغسل إثمي بدموعه ومحا عاري بحبه»، فأعطيه يدك يا ماري، إن موريس طيب القلب جدا ويحبك كما أحبني.
فنزفت عيوننا حينئذ آخر ما فيها من الدموع، ثم استعادت إيفون قوة من عالم الأرواح، وقالت بصوت مرتفع قليلا مرتجف: «موريس لم لا تتقدم إلى ماري فتعطيك يدها؟» فأسرع موريس وتناول يد إيفون بيمناه ويد ماري بيسراه، وجعل يقبلهما الواحدة بعد الأخرى ويمرغ وجهه بهما.
ثم التفتت إيفون بكل عناء إلى أخيها المسيو ماتون، وقالت له: «هل غفرت لي يا أخي جوزف؟» فأجابها: «إني أقضي بقية شيخوختي يا أختي جوزفين أكفر عن ذنبي لك، فبأي كفارة أستطيع ذلك؟»
فأجابت: «بأن تحب موريس؛ لأنه هو الوحيد الذي أحب نفسي الطاهرة، وتغاضى عن جسدي الدنس. وأنت يا ماري هل صفحت عن موريس؟»
فأجابت ماري والحياء يصبغ وجنتيها: إني أحبه يا أماه؛ لأنه أحبك. - وهل تحبين فانتين؟ - فانتين أختي؛ لأنها خدمتك خدمة البنت لأمها. - أتزورين معهما قبري؟
فاسترسلت ماري بالبكاء، ووضعت وجهها على صدر أمها وقالت: لن تفارقينا يا أماه، إنك ستشفين، نستوهب الله الجواد روحك بصلاتنا الحارة ودموعنا السخينة.
وعند ذلك كانت كل قوة في إيفون قد نفدت، وكل عزيمة قد تلاشت فأطبقت جفنيها ووجهها يهل بشاشة وبشرا، وكنا كلنا سكوتا حولها نتوقع بكل أسى صوت ملاك الله يقرع باب حياتها؛ لينقل روحها إلى العالم الثاني السعيد، وبعد برهة قصيرة فتحت عينيها ونادت أخاها المسيو ماتون قائلة: أخي جوزف، إني مائتة لا محالة، فاستدع لي الطبيب الروحي؛ لكي يداوي نفسي قبل رحيلها.
وفي الحال أرسلنا الخادم ليستدعي قسيسا، وفي نصف ساعة كان القسيس الشيخ جالسا إلى سريرها، فأفاقت له في الحال وطلبت إليه أن «يمشحها»، استأذننا القسيس عندئذ أن نخلي له المكان؛ لكي يعرفها فخرجنا والحزن ملء أفئدتنا، وبعد نحو ربع ساعة صفق القسيس، فدخلت في مقدمة الكل فوجدتها والنوبة تهاجمها والقسيس يصلي ذارفا عبراته، وهي تحاول أن تقول: «إلهي، إلهي»، فتفطرت قلوبنا لمنظرها وهي تمزق قميصها عن بدنها، وبعد بضع دقائق كانت تقاوم فيها ملاك الموت طرحت ذراعيها على جنبيها معياة، وكنت إلى جنبها فجسست نبضها فوجدته ينبض متلاشيا، وبعد هنيهة سكن، فهمست للمسيو ماتون أنها قضت، فاسترسل الكل بالبكاء والقسيس من الجملة، وهي أول مرة رأينا قسيسا يبكي ميتا، كما أنهم رأوا طبيبا يبكيه أيضا، عند ذلك قال القسيس: عاشت خاطئة وماتت بارة، وكانت شقية والآن سعيدة. •••
في اليوم التالي شيعت جثة إيفون بمأتم بسيط جدا لم يمش فيه سوانا، وموريس ابتنى لها ضريحا فخما، وهو وماري زوجته يزورانه كل أسبوع مرة، وينثران عليه الدموع والأزهار إلى الآن.
قال الطبيب: وما رأيت في حياتي امرأة استنزف السقام دماءها، وأذاب جسمها إلى أن صارت رسما أو خيالا إلا زالت كل مسحة جمال فيها، أما إيفون فكان السقام كأنه يبدد كثافة إقنومها الروحاني، فتراءت لي في ساعة احتضارها أجمل امرأة يتصورها العقل، ولا ريب عندي أن تلك المرأة احتملها الملائكة الأبرار إلى عالم الأبدية السعيدة؛ لأنها ماتت قديسة مطهرة، والله غفر لها جزاء حبها الصادق وإنكارها لنفسها.
مصر في 5 مايو سنة 1906
نقولا الحداد
آراء بعض العلماء في «حواء الجديدة»
لما فرغت من طبع هذه الرواية خطر لي قبل نشرها أن أستوضح آراء بعض علمائنا الأفاضل فيها، لا سيما في الفكرة التي دارت وقائع الرواية على محورها، والنهج الذي انتهجته لها؛ لأن كل امرئ يرى عمله حسنا مهما كان، فإذا لم يعرضه على نظر الغير لم ينتبه إلى ما فيه من الأخطاء؛ ولذلك بعثت ببضع نسخ من الرواية إلى بعض من عرفوا بالأريحية والفضل في عالم العلم والأدب، ورجوت منهم أن يطالعوها، ويتفضلوا علي بأفكارهم فيها، فأتتني منهم رسائل لم تخل من الاستحسان والتشجيع مع ما فيها من الانتقاد والاقتراح المبنيين على حرية الضمير وسلامة النية وحسن الظن، فأشكر لهم استحسانهم شكرا عظيما، وانتقادهم شكرا أعظم، ولا أراني ذا حق بمناقشتهم هنا فيما خالفوني فيه من الرأي، وإن كان لي نظر آخر في شرح ما كتبت.
وها أنا أنشر تلك الرسائل الغراء في ختام هذه الرواية حلية لها، وإثباتا لامتناني لأولئك العلماء الأفاضل. (1) رسالة حضرة العالم المفضال والكاتب البليغ السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء
مصر في 8 جمادى الثانية سنة 1424
عزيزي الفاضل
رغبت إلي أن أقرأ قصتك الجديدة «حواء الجديدة»، وأكتب إليك برأيي فيها وأثرها في بعد القراءة.
أراك أحسنت في التصوير والتخييل، واعتصمت بحبوة النزاهة والأدب في التعبير، وأراني استعبرت لغير ما عبارة في القصة، أما الموضوع الاجتماعي الذي نفخت فيها من روحه فليس طريفا عندي، قرأت وسمعت فيه شيئا عن الإفرنج وفكرت فيه كثيرا، ولعل ما قرأته لك فيه خير من قليل ما علمته عنهم، وأبشرك بمستقبل حسن في خدمة أدب النفس والاجتماع، بما توجهت إليه من وضع أمثال لهذه القصة في غايتها دون خصوص موضوعها.
كل بغي شقية في هذه الحياة قبل الحياة الآخرة، ولكن يعز أن يوجد في بلادنا بغي لها من مكارم الأخلاق وشرف النفس وجودة الذهن بعض ما رويت عن «إيفون مونار»، ويوشك أن يوجد لها ند في بلاد الإفرنج لمكان التربية الدينية والأدبية عندهم، كما وصفت من تربيتها، فأكثرهن - إن لم نقل كلهن - قوارير أقذار وقرارات وقاحة، وصغار لا فائدة من تصغير جرائرهن وعطف القلوب عليهن إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن ، أقول هذا وأنا على تعجبي من فساد فطرة من يستطيع الدنو منهن ممن يحزن لشقائهن، ويصدق أن أكثرهن مكرهات على الفجور كارهات للبغاء، لو وجدن مخرجا منه لهرعن إليه، حتى إنه سبق لي بحث مع بعض أهل الفضل في وجوب السعي لإنشاء ملجأ يؤوي من يريد التوبة منهن، ويغنيهن عن طلب الرزق بأعراضهن، ولو وجد من يسعى الآن في مثل هذا لكاد يكون للاعتذار عنهن، والاستعطاف عليهم فائدة.
لك أن تصف من شقائهن بما شئت من إسهاب لتنذر الممرضات لمثل فعلهن أن يتدهورن في مثل هاويتهن، ولك أن تصف من فساد الفاسقين وإفسادهم، وتشوه من سيرتهم بما استطعت من إطناب لتنفر عن مثل عملهم، وتحذر الفتاة الغر من تغريرهم، فتكون على بصيرة من عاقبة فجورهم، وما يتوسلون به من بهتانهم وزورهم، وليس لك في رأيي أن تجعل ما تكتب منظارا يكبر مخازي الفساق من جهة؛ ليصغر فضائح الفواسق من الجهة الأخرى.
إذا انتقدت عليك تصغير فاحشة المسافحات في مقابلة تكبير فاحشة المسافحين مرة، فإنني أنتقد الاحتجاج على تصغيرها بشيوع الفاحشة في ربات البيوت ذوات البعول سبعين مرة؛ لا لأن ذنب المسافحات أشد ضررا من ذنب ذوات الأخدار؛ بل لأن إظهار ذلك وبيان أن الناس يتسامحون مع ذوات الأخدار، وهم يعلمون بخيانتهن لأزواجهن مما يضر نشره في قصص يقرؤها النساء من العذارى والأيامى، إذ لا تتصور التي تلين للفاسق أن بذل عرضها يفضي إلى أن تكون بغيا مسافحة، وإنما يغلب على ظنها أنها تصادف زوجا يستر فضيحتها بغفلته أو قلة غيرته.
قرأت ما كتبت إيفون عن خداع ذلك الشرير لها، وعن اجتهادها في استرداد شرفها بالسيرة الحسنة عسى أن تصادف زوجا مهذبا تعيش معه عيشة راضية شريفة، وعن عجزها وإعواز ما رامت، وانتقادها إطلاق الوالدين العنان للبنات وسماحهم لهن بمعاشرة الشبان، فتمنيت لو يقرأ ذلك العذارى اللواتي أصبحن عرضة لمثل ذلك البذل لأعراضهن بإطلاق أهليهن العنان لهن مع كثرة ما يحاول الفساق من مخادعتهن، وقرأت ما كتبت عن شيوع الفاحشة في ربات البيوت وإغضاء الناس عنهن، فتمنيت لو لم تطلع عليه قارئة لا سيما إذا كانت عذراء.
هذا ما كان من أثر القصة في نفسي، استحسان لما عدا الأمرين المنتقدين من ناحية ما ينتظر من تأثيرهما في القارئات، وأرجو أن تتوخى فيما ستكتسب الغاية والفائدة أكثر مما تتوخى من حسن الوضع ولطف التعبير، وقوة التأثير، وأجدر بمن يعرض عمله لنقد الرجال أن يبلغ فيه غاية الكمال.
المخلص
محمد رشيد رضا (2) رسالة حضرة العالم النحرير الحميد الأثر الدكتور شبلي شميل
حضرة الكاتب الفاضل نقولا أفندي الحداد المحترم
تلوت رسالتك مسرورا، وتناولت هديتك شاكرا وقرأت كتابك معجبا بأسلوبه وموضوعه، أما الأول والثاني فهزة طرب من حكة جرب، وقل من يسلم منها من الناس ولو حاول سترها وأراد التنصل منها، الناس يخدعون الهيئة الاجتماعية بما يحملونها به على أن تسمهم بسمة الاتضاع، ملتمسين هكذا لطربهم بدل الهزة هزتين، ولجربهم بدل الحكة حكتين، وهو لعمري الكبر المركب ولكن مع الرياء، ونفاق في التعبير عن الشعور ولكن مع الدهاء، وربما عدوه من الذكاء، وهو بالحقيقة لهذه الهيئة من بعض المفاسد التي يعدونها محامد.
لم تقع «حواؤك الجديدة» تحت نظري حتى استغوتني كما استغوت حواء آدم من قبل، فقمت أطالعها ولا ألوي على شيء حتى استنفدت في قراءتها بعض ليلة ويوم، وقد أعجبني جدا منهاجكم فيها إذ جعلتموها في أسلوب رواية اجتماعية حسنة السبك مؤثرة منبهة تشوق القارئ مطالعتها، وتؤثر في عواطفه وقائعها وتستفز حميته مظالمها، حتى إذا انتقل من ذلك إلى إعمال الفكرة في نظام الاجتماع لم يقف عند هذا الحد من الحيف، بل بدت له معائبه الكثيرة في شرائعه وعاداته وأحكامه، والتي لم ينظر فيها إلا إلى تأييد جانب القوة وهضم حقوق الضعيف في كل أموره، حتى جاء نظامه المصطنع مخالفا لمبدأ نظامه الطبيعي، ففسدت التربية العائلية والاجتماعية والمدرسية، وكانت سببا لمتاعب الإنسان ولكل الشرور التي شكا الاجتماع منها في الماضي، ولا يزال يشكو منها في الحال، والإفاضة في ذلك من المباحث الاجتماعية الكثيرة التشعب ، التي لا يسمح المقام في هذه العجالة إلا بالإلماع إليها على وجه إجمالي، والتي يعبر عنها بأفصح بيان هذا الاضطراب الذي نشاهده كل يوم في أحوال العمران لرده إلى مجراه الطبيعي؛ لأن النواميس الطبيعية كالأجسام المرنة إذا فسرتها، فهي تحاول دائما أن تعود إلى حالتها الأصلية، وكلما كان الضغط عليها شديدا كان رد الفعل فيها شديدا كذلك.
خذ مثلا بسيطا لفساد التربية التي أشرت إليها الانتحار الكثير الشيوع في الطبقة المهذبة حسب مبادئ هذه التربية، أليس سببه تربية الناشئة على مبادئ خيالية وهمية مخالفة لنواميس الطبيعة، كما بسطت ذلك في مقالة سميتها الانتحار نشرت في جريدة البصير من عهد غير قريب؟ وخذ لذلك مثلا آخر الكذب أليس سببه الأول معاقبتنا الإنسان على الصدق، ومحاولتنا تفريق مصالحه في الاجتماع؟ أو ليست السرقة مسببة عن منعنا الإنسان عما يحتاج إليه؟ أو ليس الرياء والاحتيال سلاح الضعيف لصد القوي عن التعدي عليه إذا بدت له فرصة ضده كان انتقامه منه شديدا؟ وإلى ذلك أشار الشاعر العربي بقوله:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
فحواؤك الجديدة من الروايات الحسنة جدا في موضوعها؛ لأنها بتوجيهها الفكر إلى عيب واحد من عيوب هذا الاجتماع تنبهه إلى النظر في سائر أحواله، وتكشف له عيوبا أخرى كبيرة وتفسح له المجال للتفكير بها. وإذا لم يكن في ذلك - كما قال الإمام الغزالي - إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا، فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.
فالمرأة بالطبع لما كانت أضعف من الرجل في تكوينها الطبيعي - وهذا الضعف ربما لم يكن أصليا فيها، بل من نوع التربية والعمل - كانت شرائعه كلها حيفا عليها، ولكن لا تظن أن رد فعل ذلك على الرجل لا يكون شديدا، فإذا كان سلاحه ضدها القوة فهي تقاومه بسلاح ضرره عليه أشد، وهو الرياء والاحتيال، ولقد أجاد من قال فيها مشيرا إلى حال الرجل معها:
فهي شيطان إذا أفسدتها
وإذا أصلحتها فهي ملك
ولا يخفى أن الروايات الشائعة بين الناس بعد القصص الخرافية ثلاث تمثل الأدوار التي مر عليها الإنسان في ارتقائه: روايات خيالية تصور لك الإنسان كما تريد لا كما هو، وروايات طبيعية تصفه كما هو حقيقة، وروايات اجتماعية يقصد منها كشف معائب العمران لإصلاح حال الإنسان فيه. وقد توسمت من مطالعة حوائك الجديدة ميلا بك لمثل هذه المباحث الاجتماعية، فإذا جاز لي أن أعطيك رأيا فأرى أن تسير في رواياتك على هذا النمط، فالمواضيع الاجتماعية كثيرة، وكلما خطوت خطوة بدت لك فيها عيوب كثيرة، ولا ريب عندي أنك بسلوكك هذا المسلك تستفيد وتفيد.
شبلي شميل
رمل الإسكندرية 30 يوليو سنة 1906 (3) رسالة العالم الفاضل والمؤرخ المدقق المرحوم جورجي بك زيدان مؤسس مجلة الهلال الغراء
رأس البر في 4 أغسطس سنة 1906
حضرة الصديق الفاضل
أدركتني روايتك «حواء الجديدة» في رأس البر، وقد جئته للاشتغال بالبطالة والدأب على الفراغ التماسا للراحة من عناء القلم، فهجرت الكتب والورق وعفت الأصول والمسودات والبروفات، وعاهدت نفسي أن لا أطالع كتابا مهما يكن موضوعه على حين أن المطالعة تسلية رجال العمل في ساعات الفراغ، أما جماعة الكتاب فإنها تذكرهم بأوقات المشقة، فراحتهم بالبعد عنها، فلما جاءتني روايتك لم أر بدا من قراءتها قياما بالواجب، فبدأت بتصفحها وأنا أصبر نفسي على ذلك؛ لأني أكثر رغبة في مطالعة كتب التاريخ والعلم مني في مطالعة كتب الفكاهة، لكنني ما كدت أتصفح بعضها حتى خيل لي أني أطالع كتابا فلسفيا علميا أخلاقيا، فبعد أن كنت أصبر نفسي على المطالعة أصبحت لا أصبر عنها، واستغرقت في الموضوع ولذ لي إعمال الفكرة فيه، فأعجبني ما تضمنه الكتاب من الأدلة على فساد الرجل، وإلحاقه عار فساده بالمرأة، فهو يأكل الحصرم وهي تضرس، فتمثلت لي فظاعة ذلك الأمر تمثيلا واضحا، ولم أعجب من إجادتك في وصف العواطف وتشريح الأخلاق، فقد عهدتك من نوابغ هذا العصر في هذا الشأن ومؤلفاتك شاهدة على ذلك، وإنما أعجبت ببراعتك في أسلوب تعبيرك عن حال إيفون وغيرهما ، وانتقادك العادات الشائعة في الزواج، وتربية البنات بين أظهرنا وتبيانك ما يقع على المرأة من الظلم في أحكام الناس، وما تقاسيه في سبيل المحافظة على شرفها، وأنها تشترك في الذنب مع الرجل، وتتحمل العقاب وحدها.
سبكت ذلك في سياق رواية غرامية ضمنتها من القواعد الاجتماعية والمبادئ الأدبية الإحساسية ما يجدر أن يكون مثالا ينسج على منواله، لا سيما في حالتنا الحاضرة وهيئتنا الاجتماعية في أوائل انتقالها إلى نظام التمدن الحديث، ولا يزال معظمها فوضى.
فأهنئك بذلك وأرجو أن يكون كتابك بدء نهضة جديدة في تأليف الروايات الأخلاقية، ولي ملاحظات تتعلق بما وصفت به إيفون عروس روايتك من الطهارة، وسمو الآداب مع ما سوغته لنفسها من مساكنة رجل بلا زواج، وقلت: إنها فعلت ذلك اضطرارا وما رأيناها يئست من العيش الحلال، فلم تقص شعرها ولا اقتلعت أضراسها كما فعلت عروس «البؤساء»، وإذا قيل: إنها فعلت ذلك رغبة في الرجل، فقد نزلت عن المكان الذي وضعتها فيه، ولا عبرة بما ذكرته من الفصل بين ذاتها الجسدية وذاتها الروحية، فإن ذلك يخالف المألوف والمعقول فكيف يكون جسد الإنسان دنسا وروحه طاهرة، والكلام في ذلك يطول ولا محل له هنا.
على أني أغتنم هذه الفرصة لإبداء ملاحظة تتمة لما تركته حواء الجديدة من الأثر في ذهني، ذلك أن الرواية فلسفية أخلاقية حسنة التناسق، شريفة المغزى تنصر المرأة على الرجل في أمور يشعر بها القارئ، وتشترك عواطفه مع المرأة؛ لأنها مظلومة وينقم على الرجل؛ لأنه ظالم، ولكن هذه العلة عامة في العالم المتمدن وغيره، وقد كانت شأن البشرية من أقدم أزمنة التاريخ ولن تزال إلى ما شاء الله، وإذا كان إصلاحها ممكنا فأساتذتنا في العلم والفلسفة أولى منا به، فإذا كان مرادك مجرد تصوير هذا الظلم فقد أحسنت وأجدت، وأما إذا كان المراد إصلاحه فقد أضعت الكلام عبثا.
ولا يخفى عليك أننا في حاجة إلى إصلاح داخلي حقيقي في آدابنا الاجتماعية على نحو ما جاء عرضا في أثناء كتابك، ولكنه قليل لا يشفي غليلا. إن في آداب اللغة فراغا كبيرا لكثير من ضروب التأليف، ولا سيما الروايات وخصوصا التهذيبية الأخلاقية، وقد ثبت مما قرأناه لك حتى الآن أنك كاتب أخلاقي، فاصرف جهدك إلى سد هذا الفراغ، اكتب الروايات في انتقاد العادات والأخلاق المضرة في هيئتنا الاجتماعية التي يرجى إصلاحها.
اجعل أبحاثك نقد حالتنا الاجتماعية، وما يعتورها من النقص أو الفساد، ومثل أضراره تمثيلا واضحا، واستعن بالخيال للتنميق والترغيب وبين ظهرانينا عشرات من العادات الأصيلة والدخيلة تفتقر إلى إصلاح، وإصلاحها ميسور وقريب، وإنما نحتاج إلى من ينبه إليها تنبيها مؤثرا، وليس أفضل من الروايات للوصول إلى هذه الغاية، إما على المراسح أو في الكتب لعكوف الناس على مطالعة الروايات كبارا وصغارا، فأقترح عليك باسم آداب هذه اللغة أن تؤلف الروايات في تقبيح الرذائل الشائعة، كالكذب مثلا ولا سيما المستتر منه وراء المجاملة مع الحث على اتباع الصدق ونحوه من الفضائل، ألف في بيان فظائع المقامرة والمسكر والبورصة وغيرها من الرذائل والمنكرات، التي نئن تحت أعبائها. على أن الروايات الفلسفية على نحو ما بسطته لي «حواء الجديدة» كبيرة الأهمية، وتفتقر إلى قريحة وقادة وعلم واسع، ولكنها من الكماليات بالنظر إلى حالنا، وأنت تعلم أننا في عصر الحقائق، وقد سبقتنا الأمم المتمدنة مسافات بعيدة بتعويلهم على الأبحاث الإصلاحية من العملية الوجهة
، وقد آن لنا أن نفعل مثل فعلهم، هذا ما أتقدم به إليك راجيا الإغضاء عن جسارتي، فإني إنما أردت الخدمة العامة التي نحن شريكان فيها، ولكل امرء رأي، والسلام.
جورجي زيدان (4)
عزيزي نقولا
طالعت حواء الجديدة لا كرواية للتفكهة، بل كبحث في موضوع اجتماعي خطير يلذ لي الوقوف على رأي الكاتب فيه، فرأيتك قد أحسنت الوصف بل أجدت التمثيل، فأهنئك وأكتب إليك ببعض ما كان لكتابك هذا من التأثير في نفسي.
لا أرى دفاع إيفون البليغ عن نفسها في شرح سبب سقوطها مبرئا لها من وصمة الزلل التي وصمت بها جبينها بأثر لا يقبل الزوال، ولا ما كفرت به عن أخطائها من السلوك الجميل المشكور معيدا لها تلك الكرامة الضائعة، فلقد أخطأت خطأ وجب أن تحتمل عاقبته إلى الممات، كما كانت حياتها في الرواية، وعبثا تتظلم من حكم الهيئة الاجتماعية عليها؛ لأنه حكم عادل، والمصلحة العمومية تقضي بأن يكون ذنبها هذا المضيع للكرامة من الذنوب التي لا تقبل العذر، بل يجب أن تكون الفتاة الساقطة هذا السقوط مثل الزجاجة كسرها لا يجبر، اللهم إلا إذا شاء أن يرحمها كريم من الناس، فيرد لها بعض كرامتها بزواجه منها.
على أن إيفون ذات حق في احتجاجها المصيب على الهيئة الاجتماعية، التي لا تراعي الإنصاف في قضية كهذه فيها اثنان متشاركان في الجرم، فإنها تصب كل عقوبتها على الشريك الضعيف، وتترك القوي مع أن ذلك الضعيف شطره في الجريمة أخف؛ ولهذا كان لإيفون ساغ لأن تطلب من الهيئة الاجتماعية أحد أمرين: إما أن تسامحها كما سامحت الرجل الذي أسقطها بلؤمه وخداعه، وإما أن تقضي عليه بما قضت به عليها من العار والشنار بل بأشد؛ لأنه هو المغري.
وإذا لم يكن في حواء الجديدة غير هذه المسألة موضوعا للتفكر والتبصر فكفى بها، والإنسانية تطلب من الهيئة الاجتماعية أن تعدل قانونها فيما يختص بالحكم على فعل مثل ذلك الرجل الخئون، فإذا فعلت قلت هذه الجرائم التي تزداد شكوى الإنسانية منها كل يوم.
ولقد أجادت إيفون أيضا في لوم أهلها على إهمالهم لها في ساعة الخطر، فإن تصرفهم هذا عظة بالغة للآباء والأمهات الذين يتركون، بل يدفعون بناتهم للسير في السبيل الصعب الحرج كأنه سهل أمين، ويلومونهن إذا عثرن، وكان الأولى أن يأخذوا بأيديهن فيه للتوقي من عقباته.
هذا ما عن لي قوله الآن في هذا الموضوع الجليل، وأؤمل أن تتحف القراء بروايات أخرى عن الأزواج تكون نتيجتها أن يعرف كل من الزوجين مركزه الحقيقي في الهيئة الاجتماعية، ومكانته قبل الزوج الآخر، والسلام.
إبراهيم الجمال
مصر في 12 أغسطس سنة 1906 (5) حواء الجديدة
1
في البدء حواء أغوت قلب آدمها
فلقبوها بأم الغين والياء
واليوم قل لي أتدري يابن آدم كم
من ابن آدم يغوي بنت حواء
أهدى إلي صديقي الكاتب الاجتماعي المدقق نقولا الحداد نسخة من الطبعة الثانية من قصته البديعة «حواء الجديدة»، فراقني جمال موضوعها، وشاقني حسن أسلوبها وتملكت قلبي براعة المؤلف في تنسيق حوادثها وترتيب وقائعها، وبعدما انتهيت من مطالعتها تدبرت المرامي السامية التي توخاها المؤلف في وضعها، والمغازي الشريفة التي بنى حوادث القصة عليها وأدراها حولها، ثم قرأت الفصلين الملحقين بها أحدهما «آراء بعض العلماء فيها»، والآخر «تذييل» دافع فيه المؤلف عن «إيفون مونار» بطلة هذه القصة، وبحث في محاباة الشريعتين المدنية والأدبية للرجل المشارك للمرأة في الإثم، ولخص المغازي التي اشتملت قصته عليها، وهي ستة كل منها خطير ذو شأن ولست في مقالتي هذه متحريا تقريظ «حواء الجديدة»، والثناء على مؤلفها البارع وحض القراء كافة على اقتنائها، ومطالعتها للانتفاع بفوائدها الأدبية الاجتماعية فوق التفكه، والاستمتاع بحوادثها الغرامية؛ لأنه تقدمني إلى الكلام على هذه الأمور الثلاثة كثيرون من الكتاب، فلم يغادروا فيه من متردم، وكان الفضل لمن تقدم؛ ولأن في سعة انتشار هذه القصة وشهرة مؤلفها في عالم العلم والأدب، وكثرة إقبال القراء عليها غناء تاما عن تقريظي وإطرائي وحضي وإغرائي.
بقي لي غرض واحد وهو البحث في الفصل الأول، الملحق بالقصة وهو «آراء بعض العلماء فيها»، فإن المؤلف بنى حكايته على ملك كريم أغواها شيطان رجيم، وبعد ما دنس عفافها وطهارتها وسلبها شرفها وكرامتها نبذها نبذ النواة، ومالأه على الإعراض عنها والنفور منها كل من عرفها، أو سمع بها حتى أهلها وذوو قرباها، جميع هؤلاء أثموها واستذنبوها ثم خذلوها، وخيبوها وتنقصوها وتجنبوها.
فهوت إلى حضيض الذل والخزي والعار، وهامت على وجهها في قفار الضلال توغل في الزيغ، وتتمادى في العثار وتتجرع غصص البؤس والشقاء، وتعاني من شدة التعيير والتحقير جهد البلاء، أما ذلك الفتى الذي أغواها فظل آمنا في سربه، ناعما بين أهله وصحبه، مرفوع المقام محفوفا بما شاء من صنوف التجلة والاحترام، لا يسمع من لسان ناطق زجرا ولا يلحظ من مقلة رامق شررا؛ لأن محكمة الهيئة الاجتماعية أصدرت حكمها في هذه القضية بأن إيفون مونار تستوجب ما أصابها؛ لأنها سعت إلى حتفها بظلفها، وأن من أغواها بريء كل البراءة، فلا إثم عليه ولا حرج.
هذه أخصر خلاصة للقصة، أما المغزى الأولي الذي عني المؤلف باستخراجه منها، ووجه إليه التفات قرائها على الخصوص فهو ملخص على ظهر غلافها في فقرتين إحداهما:
دنس يطلب عفيفة طاهرة ويلتمس ملاكا كريما، وعذراء وديعة لا تجد إلا خاطبا أنفق شبابه في الفساد.
صديقة إيفون
والأخرى:
ينسب الناس شقاء الجنس البشري إلى حواء القديمة؛ لأنها أغوت آدم القديم مرة، فلماذا لا ينسبون الآن هذا الشقاء إلى آدم الجديد، وهو يغوي حواء الجديدة كل يوم ألف مرة.
إيفون
ومع شدة حرصه على تمكين هذا المغزى من نفوس القراء، وترسيخه في أذهانهم لم يغفل في أثناء سرده للوقائع عن تنبيههم، واستمالة أفكارهم إلى بقية الشئون الهامة الخطيرة في المغازي الخمسة الباقية، التي سبقت الإشارة إليها.
ولما عرضها على فريق من جهابذة النقد بعثوا إليه بآرائهم فيها، فأثبتها في الملحق الأول وعقب عليها في الملحق الثاني.
وقد أنعمت النظر في آرائهم، فوجدتهم مجمعين على امتداح المؤلف واستحسان بحثه في هذا الموضوع الفلسفي الاجتماعي، وإفراغه في قالب فكاهي روائي بأسلوب جميل فصيح يقرب مسائل هذه القضية الهامة من أفهام العامة، ويسهل عليهم تناولها واستيعابها.
ولكنهم اختلفوا في الحكم على المغزى الأول الذي أثبته المؤلف.
وهو: «أن المرأة والرجل يشتركان في الإثم، والرجل غالبا هو الذي يغوي المرأة ويجرها إلى الإثم، ولكن الهيئة الاجتماعية تعاقب المرأة وحدها عقابا أبديا قاسيا، وتسامح الرجل تمام المسامحة، فلماذا يسامح؟»
فبعضهم وافق المؤلف عليه وأيده فيه، وصوب تخطئته لأحكام الهيئة الاجتماعية في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأدبية، وبعضهم خالفه كل المخالفة في هذا المغزى وصوب حكم الهيئة الاجتماعية القاسي على كل فتاة ساقطة، وصرح: «أكثرهن - إن لم نقل: كلهن - قوارير أقذار وقرارات وقاحة وصغار، لا فائدة من تصغير جرائرهن وعطف القلوب عليهن إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن.» «لقد أخطأت (أي : إيفون) خطأ وجب أن تحتمل عاقبته إلى الممات، وعبثا تتظلم من حكم الهيئة الاجتماعية عليها؛ لأنه حكم عادل، يجب أن تكون الفتاة الساقطة هذا السقوط مثل الزجاجة كسرها لا يجبر.»
ولما كنت من أكبر الناقمين على الرأي العام والهيئة الاجتماعية - سمها ما شئت - أحكامها في المسائل الأدبية عموما، وفي هذه المسألة خصوصا؛ لأنها تبنيها إما على ظواهر لا يصح الاعتماد عليها، وتسندها إلى قواعد لا يجوز الأخذ بها والاستناد إليها، فتصدرها عاطلة من حلية النزاهة والعدل والإنصاف، حافلة ببرقشة المحاباة والجور والاعتساف عمدت إلى البحث، ولو بالاختصار فيما قاله مخالفو المؤلف في الملحق الأول، وإن يكن هو قد سبقني إلى الرد عليهم في الملحق الثاني (التذييل)؛ لأن الموضوع أوسع وأهم من أن يستوفي الكلام عليه كاتب أو كاتبان.
للمعارضين في الدفاع عن الفتاة أو المرأة الساقطة، ومحاولة إصلاحها الرفق بها، والصفح عنها، حجج كثيرة تنحصر غالبا في ثلاث:
الأولى:
أنها بنت حواء أغوت آدم كما جاء في سفر التكوين من كتاب التوراة، فالإغواء من طبعها وهو جار في نفسها مجرى الدم في عروقها.
والثانية:
أن الفساد تملك قلبها، واستأثر بكل جوارحها وعواطفها «فلا يصلح العطار ما أفسد الدهر»، والطبع أغلب والزجاج المكسور لا يشعب، ومحاولة إصلاحها مجازفة قلما يسلم منها المخاطر؛ لأنه يتعرض فيها لخطر إفسادها له؛ لأنها كمشرف على الغرق يأخذ بعنق من يحاول إنقاذه ويغرقه معه.
والثالثة:
لأنها فرطت في الاحتفاظ بطهرها وعفافها، وأفرطت في مطاوعة هواها فلتلق جزاء ما قدمته يداها «وعلى نفسها جنت براقش»، وكفى بالتشديد في عقابها نفعا أنه يكون عبرة وذكرى لغيرها من بنات حواء؛ فيصن أنفسهن عن الابتذال، وينكبن عن الزيغ في متايه الغي والضلال.
ولننظر الآن في كل من هذه الحجج على حدة:
فالأولى - وهي شديدة الشيوع بين معظم أبناء آدم، وكثيرة الدوران في ألسنتهم - نراها لأول وهلة واضحة البطلان واهية البنيان، وأحر برواية الكتاب المقدس عن سقوط الإنسان الأول أن تكون حجة للمرأة لا عليها؛ لأننا من مطالعتها نرى جليا أن حواء أغويت قبل أن تغوي، والمغوي الأول إنما هو الحية أو إبليس، إذن تلقيبها بأم الإغواء افتئات وافتراء، والحق كل الحق أن تلقب بأم المغويات؛ «لأنها أغويت أولا» كما قال بولس الرسول، ومن ذلك الحين إلى الأبد نرى بناتها المنكودات الحظ يغوين كما أغويت أمهن، حواء أغواها شيطان رجيم بصورة حية، وبناتها يغويهن كل يوم شياطين إثم وفساد، وغدر وخيانة ونذالة، بصور ملائكة طهر وصلاح، وأمانة ووفاء وعزة نفس وإباء؟
ولماذا أغواها الشيطان أولا ولم يغو آدم قبلها؟ لأنه وجدها أضعف من رجلها جانبا، فكان مثله مثل القائد المحنك الذي يتخير من حصون عدوه ما كان أقل مناعة، فوجه هجومه إليه طمعا في سهولة الاستيلاء عليه.
ومما يستوقف النظر في هذه الحادثة أنه - سبحانه وتعالى - وهو أعدل الحاكمين عد ضعف حواء من أكبر الأسباب المصغرة لجرمها، والمخففة لعقابها فاقتصر فيه على تكثير أتعاب حبلها وآلام ولادتها، ولكنه عاقب الحية بأن تلعن من جميع البهائم والوحوش وآدم بأن تلعن الأرض، ويأكل منها بالتعب كل أيام حياته.
فضعف المرأة الذي عده الله في حكمه العادل مصغرا لجرمها، ومخففا لعقابها تتخذه الهيئة الاجتماعية سببا للقضاء بأقسى حكم عليها، وتوجيه أحد المطاعن إليها.
أما الثانية وهي عدم فائدة السعي في إصلاحها، وخطر التعرض له، فليست بأقل بطلانا من الأولى، ويكفي لدحضها أن الأطباء كافة يتحتم عليهم أن يواصلوا معالجة المرضى المصابين بأدواء عضالة لا شفاء لها إلى آخر رمق من حياتهم، فيعانون في هذا ما لا يوصف من المشاق ويتعرضون لخطر العدوى بأخبث الأمراض الوبيلة القتالة أملا بإمكان تخليص حياة الجسد، وهي ليست شيئا مذكورا في جنب حياة النفس التي يليق بنا - بل يجب علينا - أن نمد يد المساعدة إلى كل مغواة لإقالة عثرتها وإنهاضها من كبوتها.
وإذا سألني سائل: «أولا يدلنا الاستقراء على أن عدد اللواتي نجح فيهن هذا الدواء قليل؟» أجبت على الفور: «بلى؛ وذلك لأن عدد الذين حاولوا معالجتهن به أقل!»
وهنا مجال واسع لندب الشجاعة الأدبية ورثاء النخوة والمروءة والإنسانية ، والترحم على الأمانة والصدق والوفاء وغيرها من الفضائل التي يدعيها كثيرون من شبان هذا العصر، وما أبعدهم عن صحة هذا الادعاء.
بقيت الحجة الثالثة وهي ساقطة من نفسها لسقوط الحجتين السابقتين، وإني لأعجب لأصحابها كيف يتعدون على عدل الله في حجتهم الأولى فينقضونه، ويغيرون هنا على رحمته تعالى فيرومون حصرها وهي ملء الأرض والسماء، ويبتغون أن يخصوا هم بها دون بنات حواء، كأني به - عز وجل - لهم وحدهم غفور رحيم تواب، ولأولئك التاعسات البائسات جبار منتقم شديد العقاب، وفي هذا كفاية لذوي الألباب.
وبعد هذا كله أرى أن هذه المسألة قد انحصر تناولها إلى الآن في أقلام الرجال، وقلما تناولها قلم إحدى النساء، مع أنها إن لم تكن لهن أهم منها، فهي على الأقل تهم الجنسين على السواء، فحتام تبقى الكاتبات سواكت جوامد وقضيتهن هذه توشك أن تنطق الصخور الجلامد؟
القاهرة
أسعد خليل داغر
إلى منجد المرأة الساقطة
إن كانت قيثارة هيلاس الذهبية قد أوحت إلى ملتون أن يندب بخت حواء الأولى، فقد أوحت إليك «إيفون مونار» أن تندب بخت حواء الثانية، ولكن الأولى أعيد لها فردوسها المفقود، وأما الثانية فالهيئة الاجتماعية تنكره عليها؛ ذلك لأن هذه الهيئة فاسدة ونظامها مختل، فهي بمعاقبتها الزانية تشجع الرجل على الزنا كأنها تقول له: كل الحصرم فغيرك يضرس.
صديقك
سليم عبد الأحد
تذييل
دفاع عن إيفون مونار وحواء الجديدة
تبسط في محاباة الشريعتين المدنية والأدبية مع الرجل في الإثم الذي يشترك فيه مع المرأة.
صدى حواء الجديدة
كان لهذه الرواية حظ في عالم الأدب العربي جعلها موضوعا للنقد والتقريظ، وأنزلها منزلة المطبوعات التي يلتفت إليها وتمحص مباحثها، ولعل ما أكسبها هذا الشأن مساس موضوعها بأمر حيوي من أمور حياتنا الاجتماعية.
فما انتشرت الطبعة الأولى حتى تناولتها أقلام الأدباء من مقرظة ومنتقدة، وكان حسبي أن يعدوا على سيئاتها لا حسناتها كأنهم يبتغون الكمال فيها.
وكان للصحافة عموما فضل كبير في إفراغ فسحات أوسع من المعتاد في الصحف والمجلات لنقدها وتقريظها، وقد بلغ من عناية بعض الصحف بشأنها أن إحداهن (وهي «الجوائب المصرية» التي كان ينشئها لذلك العهد الشاعر الكبير خليل بك مطران، ويحرر فيها أيضا الشيخ يوسف الخازن) لخصت مغازي الرواية في بضع قضايا، وعرضتها لبحث الكتاب وأهل النظر، وعدت سائر الرصيفات مقصرات في إيفاء الرواية حقها من النقد، وعاتبتهن في ذلك التقصير.
وجرايد سوريا همت أن تتوسع في نقد «حواء الجديدة» وتقريظها، ولكن «المكتوبجي» أي: رقيب الصحافة هناك غل أقلامها عن الإفاضة بالموضوع؛ لأن حواء في نظره «عليها السلام» لا يجوز أن تكون موضوع حديث الأقلام، والشيء بالشيء يذكر؛ لأجل «خاطر حواء» حذف ذلك المكتوبجي بيتا من قصيدة لي عن شرب الخمرة نشرتها «النشرة الأسبوعية» وهو:
لقد كنت حواء وقد كنت آدما
لدن كان إبليس الغرام يجرب
على أن ما كتبه الأدباء عن «حواء الجديدة»، ونشرته الصحف والمجلات كثيرا أو قليلا لهو أكثر مما تستحق، وأجدر بكل ثناء مني وشكر، وأخص منها جريدة «الإكسبريس» الغراء، فقد أسبغت عليها من جودة قلم صاحبها الأديب اللوذعي محمود أفندي إبراهيم ما لا يوازنه أعظم ثناء.
وحاصل القول: إنه ارتد إلي من صدى حواء الجديدة ما دلني على إقبال القراء عليها، واهتمام الأدباء بنقدها، ولما كانت قضية إيفون مونار مسألة فيها نظر، وموضوع مناقشة رأيت أن أستأذن الناقدين في الدفاع عن إيفون لعل لها عذرا وهم يلومون.
وقبل الاسترسال في هذا الدفاع أود أن أدفع تهمة الاقتباس عن «حواء الجديدة».
أشباه حواء الجديدة
مما انتقده أو لاحظه بعضهم أن حكاية حواء الجديدة مقتبسة من رواية أجنبية، فبعضهم قال: إنها مأخوذة من «البؤساء»
Les miserables
لهوغو؛ لأن إيفون مونار تشبه فانتين «البؤساء» في كونها اغتصبت وسقطت، وآخر قال: إنها منتحلة من رواية «بولس وفرجيني»؛ لأن الحديث في هذه منقول عن شيخ جالس يقص تاريخهما وفي تلك منقول عن طبيب، وقال آخرون: إن موضوعها مأخوذ من رواية «ذات الورود»
La damme au eamihas ؛ لأن إيفون تشبه مرغريت جوتيه في كونها ساقطة، وقد ظن بعضهم أنها معربة عن رواية في الإفرنسية تدعى بذلك الاسم، وراهن أحد أصحابي على ذلك وأرسل رسالة في طلب الرواية، ولم أدر بعد ذلك إن كان قد دفع الرهن لصاحبي أو أنكره عليه،
1
وأغرب من كل ذلك أن الذي زعم أنها مقتبسة من «البؤساء» جعل يؤيد قوله بما بين اثنتين من جمل «البؤساء» ترجمة الشاعر الكبير حافظ بك إبراهيم، واثنتين من جمل «حواء الجديدة» من التوارد المعنوي، كأن الذي يؤلف حواء الجديدة مع ما فيها من وحدة الموضوع، وانتساقه جمع جملها من مؤلفات القوم.
أما ما بين حوادث حواء الجديدة، وبعض الروايات من التوارد فليس بالأمر الغريب البتة، وإذا كان توارد الخواطر جائز في الشعر، فأحر به أن يجوز في الروايات التي تبنى على الحوادث والمشاهدات اليومية التي تقع تحت حسنا، وتنقش في حافظتنا وكثير منها متشابهة، وبين فكتور هوغو وديماس وايجان سو ولتن وسكوت وشكسبير، وغيرهم من الروائيين ألوف من أمثلة التوارد، وإذا قرأت رواية «المساء والصباح» للورد لتن و«البؤساء» لفكتور هوغو بدر إلى ظنك أن لتن قرأ «البؤساء» مرارا، قبل أن كتب «المساء والصباح»، ولكن ما دام غرض هذه غير غرض تلك والحكايتان مختلفتين، فلم يعبأ الناقدون بما بينهما من التشابه في بعض الأحوال.
وإذا كان هوغو مثلا يفخر «بالبؤساء» أو ديماس الصغير «بذات الورود»، فما فخر الواحد منهما بالقصة التي استنبطها لروايته، وإنما فخره بما كسا تلك القصة من المغازي الأدبية والمباحث الفلسفية، ولولا ما في «ذات الورود» من تلك العواصف والفلسفة لما كانت موضوعا للإعجاب، بل لما أظهرها ديماس الصغير إلى عالم الروايات؛ لأنه ليس فيها شيء من الإعجاز القصصي كما في سائر قصصه وقصص أبيه، ولكن مزيتها على سائر رواياته أنها تجلو موضوعا أدبيا وتمثل عواطف سامية، وبهذه المزية العظيمة عدت تحفة، وبسببها رقي ديماس الصغير إلى المجمع العلمي الفرنساوي، وبهذه المزية وحدها تحيا هذه الرواية بين المؤلفات النفيسة إلى الأبد، وكذلك بمزية أخرى أو بمزايا أدبية وفلسفة شعرية تحيا رواية «البؤساء»، ورواية «بولس وفرجيني» وغيرهما من الروايات النفيسة لا بقصصها المستنبطة؛ لأن قصصها ليست معجزات في عالم الروايات، وأين قصة «ذات الورود» من قصة «الحراس الثلاثة» مثلا من حيث الحوادث، ولكن أين مغازي هذه ولعبها بالعواطف من مغازي تلك وتأثيرها.
وعلى ذلك سواء كانت «حواء الجديدة» مشابهة لتلك الروايات (التي قيل: إن حكايتها مستمدة منها) قليلا أو كثيرا، أو غير مشابهة لها فلا أحسب قيمتها في حكايتها؛ لأنها بسيطة ولي غيرها من الروايات أفضل منها من حيث توقيع القصة، واستنباط الحوادث وترابطها.
ولكني أحسب قيمة «حواء الجديدة» فيما تضمنته من المغازي الأدبية والاجتماعية، حتى إن القراء أنفسهم الذين استحسنوها لم يكن إعجابهم بغرابة قصتها، بل بما كسيته من هذه المغازي الأدبية الدائرة حول مركز واحد، وبهذا الاعتبار تختلف شديد الاختلاف عن سائر الروايات التي ظن الناقدون أنها مصادر لها، أو أنها هي مقلدة لها.
مضاهات «حواء الجديدة» بذات الورود من حيث القصة
ومع كل ذلك أرى أن حكاية حواء الجديدة (بقطع النظر عن مغازيها) قصصية أكثر من «ذات الورود»، ولا أرى قصة أبسط من قصة «ذات الورود»، فإنها تقال بكلمات قليلة، وهي أن أرمان أحب مارغريت غوتيه وهي من بنات الهوى حبا صادقا حتى استمالها، وأحبته مثل ذلك الحب وتركت كل شيء لأجله، ولما جاءها أبوه بغير علمه هو وترجاها أن تترك ابنه حرصا على مقامه، وسمعة بيته أذعنت وتركت أرمان بالرغم من حبها له من غير أن تخبره السبب حتى ينقم عليها ويتركها، وبقيت كاتمة الأمر حتى ماتت، فعرف ذلك أرمان من مدونات يوميتها.
هذا فحوى حكاية ذات الورود، وأظن أن الذي يقرأ «حواء الجديدة» يجد فيها حوادث وقصصا أوسع من تلك، ولعل بين هذه وتلك تشابها في بعض النقط، فلا أرى أن هذا التشابه هو الذي جعل لحواء الجديدة قيمتها إن كانت قد صادفت قيمة في أعين بعض الأدباء الكرام، بل أحسب أن قيمتها في مغازيها كما تقدم القول.
مغازي حواء الجديدة
وما أبعد الفرق بين «حواء الجديدة» و«ذات الورود» من حيث المغزى، فإن ديماس الصغير دار في روايته التي هي تحفة للآداب الفرنساوية حول محور واحد، وهو أنه حاول أن يثبت للقارئ أن مرغريت غوتيه الساقطة كانت ذات نبل وشرف نفس، وغرضه من هذا أن يرفع شأن المرأة الساقطة في عيون الناس؛ لكي يكفوا عن احتقارها؛ لأن بين هؤلاء النسوة المخزيات كثيرات أشرف نفسا، وأشد إخلاصا من كثير من أولئك الناس الذين يلعنونهم، وقيل: إنه رمى إلى هذا الغرض؛ لأنه هو ابن غير شرعي لديماس الكبير، ومع ذلك لم يقدر أن يصل إلى ذلك القصد تماما، أي: إثبات إخلاص مرغريت جوتيه بدليل أنها لما جافت أرمان جوفال حبيبها إكراما لخاطر أبيه لم تصن نفسها عن سواه، بل بذلت نفسها لأصدقائها السابقين في حين أنها كانت تدعي أنها لم تزل تحب أرمان، فأي شيء كرسته أو ضحت به لأجل حبه؟ هذا ما ينتقد على مغزى «ذات الورود»، ولكن «ذات الورود» تمثل حقيقة بل هي حقيقة جرت؛ لأنه يقال: إن أرمان لم يكن إلا ديماس نفسه ومرغريت ليست إلا الفونسين أو بليسي عشيقته.
نعم إن «حواء الجديدة» تشتمل على هذا المغزى الذي اشتملت عليه «ذات الورود»، ولكن هذا المغزى واحد من عدة مغاز انتظمت في سلك رواية «حواء الجديدة»، وهاك أهم تلك المغازي:
أولا:
وهو أهم ما رمت إليه الرواية أن المرأة والرجل يشتركان في الإثم، والرجل غالبا هو الذي يغوي المرأة، ويجرها إلى الإثم، ولكن الهيئة الاجتماعية تعاقب المرأة وحدها عقابا أبديا قاسيا، وتسامح الرجل تمام المسامحة فلماذا يسامح؟
ليس الغرض من حواء الجديدة أن تسامح الفتاة، كما يسامح الشاب بل أن يعاقب هو كما تعاقب هي، وهو واضح في الرواية جيدا.
ثانيا:
أن الرجل وهو فاسد يطلب أن تكون المرأة عفيفة، والفتى وهو يسعى وراء الفساد، ويغوي الفتيات يبتغي عروسا لم تمسها يد بشر، فإذا كان الرجال يريدون أن تكون النساء عفيفات، فلماذا يطاردون عفافهن، وإذا لم يرجعوا هم أنفسهم عن الفساد، فكيف تبقى النساء عفيفات، أليس بين ما يبتغونه ويفعلونه تناقض هو الاستبداد الذي يستبده القوي بالضعيف، وما أجمل القول هنا: «عفوا تعف نساؤكم».
ثالثا:
إن التربية القويمة الدقيقة غير كافية لصيانة عفاف الفتاة، ولا سيما إذا كانت في أوائل شبيبتها ضعيفة الإرادة رخصة الفؤاد تميل مع نسمة الهوى كيفما هبت؛ ذلك لأن الطبيعة البشرية أقوى من الشريعة الأدبية، فلا يؤمن سقوط الفتاة إذا لم تقرن تربيتها الصالحة بالمراقبة الفعلية عليها؛ ولهذا يخطئ الوالدون كل الخطأ في أن يدعوا سبيلا لخلوة الفتيات مع الفتيان.
رابعا:
إن عقاب الفتاة الساقطة فوق المحتمل والعالم لا يعذرها، ولا يرحمها ولا يسامحها مهما بالغت في التوبة، فعلى الفتاة أن تصون نفسها وتحرص على عفافها حرصها على حياتها.
خامسا:
إن الزلة الأولى لا تسقط المرأة إلى الأبد، فليس من المستحيل أن تتوب الساقطة توبة حقيقية، وترجع إلى مقامها الأول إذا شاء الناس أن يسامحوها.
سادسا:
الساقطة قد لا تخلو من بعض الأخلاق الحسنة، كالصدق والإخلاص والأمانة والإحساس الشريف، وإن كانت هذه الفضائل لا تستر فاحشتها الفظيعة وحياتها الدنسة.
ورواية «ذات الورود» لديماس الصغير لم تدر إلا على هذا المبدأ الأخير، وأما «حواء الجديدة» فاستقلت بتلك المبادئ الخمسة السابقة، وبذلك تختلف كل الاختلاف عن سائر الروايات التي اتهمت بأنها مستمدة منها، فإذا كانت حواء الجديدة تعبأ بنقد وتحسب حسابا لمنتقد، ففي هذه المبادئ التي تبثها لا بأسلوب حكايتها.
محاباة الشريعة
الاعتراض على المغزى الأول: (1)
لم يستنكر بعض الناقدين محاباة الشريعتين المدنية والأدبية (وهذه بالتخصيص) في الحكم القاسي على الزانية، ولا سيما الآنسة كإيفون والتسامح مع الزاني كالذي خان إيفون والعفو عنه، فبعضهم عد هذه المحاباة إنصافا وعلله قائلا: ما دامت المرأة ولا سيما الآنسة تعلم أنها هي الخاسرة، أو هي التي تعطب، وأن إثمها يظهر عليها وقد يتعذر عليها كتمانه، فهي وحدها مسئولة عن ذنبها، وعليها أن تحافظ على عفافها، وما دام الرجل يعلم أنه لا يعطب وأنه يمكنه أن يتخلص من معرة هذا الإثم، فهو غير مسئول ولا عقاب أدبي له؟
وقد مثل أحد الظرفاء ممن باحثوني بهذا الموضوع ذلك التمايز بين الرجل والمرأة بقوله : إنه لشيء طبيعي أن ينكسر الزجاج، ويسلم إناء المعدن إذا التطم أحدهما بالآخر.
أجل، هذا هو قضاء الطبيعة: الطبيعة تسوغ لك أن تفعل كل ما فيه مصلحة، أو لذة لك من غير التفات إلى ما يؤول إليه فعلك من الأذى لسواك؟
ولكن الشريعة مدنية أو أدبية جعلت لمقاومة الطبيعة، ولوضع حد لحرية الإنسان، بحيث لا يجوز لك أن تفعل إلا الفعل الذي لا أذى فيه لغيرك حتى ولو رضي ذلك الغير بفعلك؛ لأن رضاه في هذه الحال لا يكون إلا عن اضطرار، فقد يرضى المستدين بدفع فائظ المال مضاعف الفائظ القانوني، ولكن الشريعة تعاقب الدائن؛ لأنه اغتنم فرصة اضطرار المستدين لكي يسلبه، ومن هذا القبيل تعاقب الشريعة البائع بأكثر من التسعيرة، وإن تم البيع برضا الشاري، وفي الشرائع المدنية في هذه البلاد وغيرها كثير من أمثلة ذلك، وتراضي الفريقين المؤذي والمؤذى لا يكفي لتبرير الأذى، والأذى الذي أصاب إيفون لعمر الحق أعظم جدا من الأذى الذي يصيب المستدين بمضاعف الفائظ والشاري بأغلى من التسعيرة، وإذا كان الناس يمقتون المرابي، والتاجر الجشع، فأحر بهم أن يمقتوا الزاني.
وإذا كان الغرض من الشريعة حماية الضعيف من جور القوي وغبنه، وجب أن يعاقب الزاني كالزانية بنفس العقوبة، أو بالأحرى يجب أن يعاقب بأشد، وإلا فإذا كان يعلم أن الهيئة الاجتماعية تغضي عنه، وتسامحه يبقى مستقويا على المرأة الضعيفة، ولا يرتدع عن إغوائها حتى يسقطها.
أجل إن الشريعة المدنية تقضي بالتعويض للفتاة إذا أغواها الفتى متذرعا لغوايتها بالوعد بالزواج ولم يف بالوعد، ولكن التعويض ليس عقابا، ولا يردع المغوي عن الإغواء ولا يرده عن انتهاك الأعراض، ومهما كان التعويض عظيما، فلا يساوي سقطة الفتاة وضياع منزلتها في الهيئة الاجتماعية، وإنما إذا كان ينتبذ من الهيئة الاجتماعية كما تنبذ شريكته في الإثم استوى العدل، ورجح ارتداع الآثم. (2)
ظن بعضهم أني أبتغي تبرئة الفتاة الزانية، وهو ظن خاطئ فما هو مستدل من فحوى الرواية، وفي مقدمتها نص صريح على أنها غير بريئة، وعلى أن شريكها في الإثم مذنب مثلها يجب أن يعاقب عقابها.
نعم إن لسان حال إيفون يفيد أحيانا أنها تعد عقابها ظلما، فلا يستهجن القارئ ذلك منها؛ لأن التسامح مع شريكها يحرجها إلى التظلم، وعادة المتهم أن يتبرأ من جرمه، فالقاتل وهو يصعد إلى المشنقة يقول: أنا مظلوم، ونحن في رواية إيفون التي نروي فيها الواقع كما هو ونروي الكلام على علاته، نعبر عن إحساسها الحقيقي وعن أفكارها، فلا يصح أن نقتصر على قول كلام القضاء عليها، ولا نعزو لها كلام الدفاع عن نفسها والتظلم من محاباة الهيئة الاجتماعية مع من خانها، على أنها كانت في بعض أحاديثها تعترف باستحقاقها ذلك العقاب، بيد أنها حسبت أن مقاساتها كافية لتطهيرها من إثمها؟ (3)
وقد سلم بعض الناقدين بأن الهيئة الاجتماعية محابية بهذا الشأن مع الرجل دون المرأة، ولكنه يرى أن هذا الخلل الاجتماعي كان شأن البشرية من أقدم الأزمنة، ولن تزال كذلك إلى ما شاء الله، فمن العبث الحث على مقاومة هذه المحاباة.
ربما كانت هذه المحاباة قديمة، ولكن الارتقاء الاجتماعي الأدبي يقضي بإصلاح كل خلل قديم.
والحقيقة أن هذا الخلل الاجتماعي غير عام، فهو قليل أو كثير في بعض الأزمنة وعند بعض الأمم، ومن شواهد ذلك أن العرب، وكثيرا من القبائل غير المتمدنة تنتقم من كل من يسطو على عرض.
وبعض الأمم التي تتسامح مع الرجل تتسامح مع المرأة أيضا كما ترى في بعض أمم أوروبا وأميركا الآن، وقد لا يختص الرجل بالتسامح دون المرأة، إلا في الأمم التي ابتدأت في التمدن ولا تزال تستهين بالمرأة وتستضعفها، والتي يغلب فيها أن تكون قيمة الرجل في ماله ونفوذه لا في سمو آدابه، وعندي أن أصح دليل على رقي الأمة الأدبي هو محاسبة الرجل على آدابه كمحاسبة المرأة، وتجافي الجماعة له عند إتيانه أي موبقة، وإلا فلا بدع أن يجرأ الرجل على إغواء المرأة، وهو آمن عواقب الحساب. (4)
حسب أحد الناقدين المتحذلقين أن الرجل الذي خان إيفون قد عوقب على خيانته لها بخيانة زوجته له بعدئذ، وعد هذا العقاب إنصافا لإيفون، وكأن الذي يحسب هذا الحساب يسوغ لزوجة الخائن أن تخون زوجها، ولا يخفى ما في هذا التسويغ من الخطل والخطر، ناهيك عما فيه من التناقض؛ لأنه وهو يذنب امرأة بذنب يبرر نفس الذنب لأخرى.
والصواب أن خيانة زوجة ذلك الخائن إثم تستنكره الهيئة الاجتماعية استنكارها لإثم إيفون، ولا يعد قط عقابا لذلك الرجل الذي أثم مع إيفون وخانها، وإنما العقاب الحقيقي هو أن تنبذ الهيئة الاجتماعية ذلك الرجل، كما نبذت إيفون لا أن تسامحه، وتأذن له أن ينال فتاة أخرى صالحة وهو أثيم، هذا ما تطالب به إيفون الهيئة الاجتماعية.
توبة ولا مغفرة (1)
أكثر الناقدين لوموا إيفون على جنوحها إلى البطالة والفساد، بعد تمسكها بالعفاف والطهارة برهة طويلة في مقرها الأول، واحتمالها مشقات العمل لعهد تنكرها آملة أن يتناسى الناس زلتها، ويغتفروها لها وتسترد منزلتها المعتبرة في الهيئة الاجتماعية، لوموها على ذلك؛ لأنهم يريدون منها أن تبقى تائبة متعففة حتى الممات، وإن كان الناس لا يقبلون توبتها، ولا يغتفرون لها إثمها بل يستمرون على مجافاتها، واحتقارها في حين اغتفارهم نفس الإثم لمن خان عهده لها وأغواها، فكأنهم يريدون منها أن تكون يسوع المسيح، ويريدون مع ذلك أن يصلبوها.
ولا أفهم لماذا يجب على إيفون أن تفعل ذلك؛ ألكي يسامحها الناس؟ لقد فعلت ذلك برهة فما سامحوها. ألكي يغفر لها الله؟ فما شأنهم؟ ولماذا يدينونها هم؟ أتفعل كذلك تحاميا للمزيد من رذل الناس لها؟ لم يبق عندهم من مزيد، فماذا تخاف بعد؟
إن إيفون لم تستسلم إلى شهواتها عن فاقة وحاجة إلى سد الرمق وإنما استسلمت؛ لأنها لم تجد لعفافها قيمة، فقالت: «أنا الغريقة فما خوفي من البلل»؛ بل فعلت لأنهم لم يساووها بمن أغواها، إذن الناس دفعوها إلى حمأة الفساد بإصرارهم على رذلها، وتسامحهم مع من أغواها.
والظاهر أن هؤلاء الناقدين يبتغون أن يكون المراد من رواية «حواء الجديدة» تصور الكمال في المرأة، وهو غير المقصود الذي ألمعت إليه في المقدمة، وهو تصوير ما هو واقع لا ما يجب أن يكون، إن مثيلات إيفون اللواتي دفعهن إلى مهاوي الفساد إصرار الناس على خزيهن كثيرات، ويستحيل على إيفون ومثيلاتها أن يثبتن على توبتهن إذا ثبت الناس على رذلهن.
وفانتين «البؤساء» التي باعت شعرها وأضراسها؛ لكي تعول ابنتها ليس لها، ولا لأمثالها وجود إلا في مخيلة هوغو، وجميع أشخاص البؤساء من هذا القبيل، والغرض من البؤساء تصوير الكمال غير الموجود لا الخلل الحادث الذي هو المقصود من حواء. (2)
زعم بعضهم أن التسامح مع الفتاة في الزلة الأولى يسهل السبيل للزلة الثانية، ويجرئ أترابها على ارتكاب إثمها، زعم وجيه، ولكن لماذا نجعل الفتاة الزالة وحدها عبرة لأترابها، ولا نجعل الذي أزلها وأفسدها عبرة لأقرانه أيضا حتى يكف الرجال عن إغواء النساء.
وأظن أن الناس إذا سامحوا التائبة توبة صادقة أنقذوها من التمادي في الفساد، من غير أن تفقد العبرة المبتغاة من رذلها؛ لأن ما تقاسيه من الرذل والهوان في عهد توبتها يكفي لردعها عن الزلة الثانية.
مقام الزالة (1)
أنكر بعض الناقدين التفصيل بين ذات إيفون الجسدية، وذاتها الروحية فيما ورد من تقسيم النساء إلى أربعة أصناف تختلف اختلاف الظواهر والبواطن (الفصل العاشر)، والقصد من ذلك التفصيل بيان أن إيفون (ومثيلاتها) لا تفقد بزلتها جميع فضائلها وسجاياها الحميدة، وآدابها الراقية إن كانت في الأصل على شيء من ذلك، فلا بدع أن تكون فتاة سقطت، أو مومس مبتذلة، عزيزة النفس كريمة الخلق صادقة العهد إلى غير ذلك من الشمائل، فليس من العدل أن تنكر عليها فضائلها هذه، وإذا كانت هذه الزلة تضيع كل الفضائل، فلماذا لا تضيعها أيضا أية رذيلة أخرى كالسكر والقمار. (2)
استهجن بعض الناقدين الإشفاق على الساقطات، وذهب إلى إيجاب خزيهن والمبالغة في رذلهن، والذي أراه أن هؤلاء الساقطات المسكينات أحق من غيرهن بثورة السخط على الهيئة الاجتماعية، التي قضت برذلهن دون رذل شركائهن في الفحشاء، وأولى بأن يستنزلن غضب السماء على البشر؛ لأن الأنام الذين ركلوهن ودهوروهن إلى أسفل مهاوي الشقاء والفساد هم الذين أفسدوهن وأغووهن، فإذا لم يأت إليهن الرجال ويقرعوا أبوابهن، ويساوموهن على أعراضهن، فلا يجدن من يفحشن معه وبالتالي لا يكن فاحشات، وإذا لم ترذل ذا الفاحشة فلا يرتدع عنها.
وبعد هذا البيان الوافي أجرأ أن أقول: إن لإيفون (ومثيلاتها) العذر وكل العذر في أسلوب حياتها من أوله إلى آخره، ولا تستحق شيئا من نقمة الهيئة الاجتماعية، ورذلها فما هي التي أذنبت بل هم المذنبون:
أولا:
أهلها الذين لم يصونوها في عهد ضعف إرادتها، وشبوب الطبيعة والحيوانية فيها.
وثانيا:
الشاب الذي أغواها.
وثالثا:
الجماعة التي غضت النظر عن جريمة ذلك الشاب، وسددت سهام النقمة إليها وحدها.
ورابعا:
ذلك الذي خطبها ولما علم تاريخ حياتها رفضها.
بل هي تستحق العطف؛ لأنها وحدها قاست بلايا الرذل، بل يحق لها أن تشكو وتتذمر وتلعن الهيئة الاجتماعية التي لم تؤذن لها بالعيش الطيب، ولا تسمح لها أن تمتع نفسها بلذات الحياة كسائر الناس إلا ببذل أعز ما عندها. •••
واستنكر البعض أن يشتم من الرواية كل ما فيه إعذار لإيفون؛ لئلا تصغر الجريمة في أعين القارئات، وهو استنكار لأمر غير واقع؛ لأن قارئ حواء الجديدة شعر بفظاعة الإثم وبمرارة نفس الآثمة.
وما رأيت أحدا من القراء استنكر أن تقع حواء الجديدة في أيدي السيدات، أو أيدي الأوانس وهن يقرأن ويرين في دور الصور المتحركة ما هو أنفى للحشمة ألف مرة من «حواء الجديدة»، وإذا كان بعضهم يبالغ في الاحتشام حتى يحظر على السيدات قراءة «حواء الجديدة»، فليس كل ما يؤبى على فئة من ذوات الخمار محرما على الجمهور.
Unknown page