وكراهة تولستوي للثورة يعود إلى إيمانه المطلق بأن الشر يجب ألا يقاوم، وأن الموقف السلبي من المظالم والشرور جميعها هو الموقف الذي اتخذه بعد ذلك غاندي، وقد اتخذه غاندي نقلا عن تولستوي.
لم يكن تولستوي يؤمن بالثورة؛ إذ كان يقنع بالإيمان بالمسيحية، بالإخاء المسيحي، ولكننا مع ذلك نظلمه إذا قلنا إنه لم يعمل لتعجيل الثورة، ذلك أنه عمم السخط بين طبقات المثقفين في روسيا؛ لأنه أبرز مظالم المجتمع والحكومة والكنيسة، وهذا السخط كان الاختبار الذي سبق الانفجار بالثورة.
لم يكن اشتراكيا، ولم يكن له برنامج، ولم يكن له كفاح عملي مذهبي سوى تسليم الأرض للفلاحين، وقد حاول هو نفسه أن يفعل ذلك واصطدم بعائلته التي منعته من إنفاذ نيته. لم يكن تأثيره إرشاديا للثورة، ولكنه كان إيحائيا. •••
ولا نستطيع أن نقول إن غاندي قد أرشد الثورة في الهند بالتعاليم التي أخذها عن تولستوي ، وإنما قصارى ما نقول عنه إنه أوحى بها ولونها بلون الوداعة التي انتهت بالمقاطعة، مقاطعة الإنجليز المستعمرين.
وكلاهما؛ أي تولستوي وغاندي، يجهل الأساس الوحيد الذي تنبني عليه المجتمعات وتتغير بتغيره وتتطور بتطوره؛ هذا الأساس هو الأساس الاقتصادي. كان كلاهما «مثاليا» وليس «ماديا»، كان كلاهما يطلب الأخلاق ثم الإصلاح، الأخلاق عند كل من تولستوي وغاندي تؤدي إلى الإصلاح، وهذا هو الخطأ الفادح؛ لأن الأخلاق ليست شيئا سوى الثمرة أو الثمرات، التي يثمرها النظام الاقتصادي، فإذا كان هذا النظام حسنا عادلا فإن الأخلاق تكون حسنة عادلة. كان كلاهما يطلب إصلاح الفرد، ثم يؤدى ذلك في منطقه إلى إصلاح المجتمع، ولكن العكس هو الذي نؤمن نحن به الآن، فإننا نقول إننا نحتاج إلى مجتمع عادل لكي يتعلم أفراده بنظامه، محض نظامه، ويمارسون العدل في علاقاتهم الواحد مع الآخر.
موقف غاندي وتولستوي هو الموقف المسيحي، وهو أن على الفرد واجبات إذا أداها صار المجتمع صالحا. ولكن هل نجحت المسيحية في ذلك؟ إنها لم تنجح، بل انتهت بعد ألفي سنة من تعاليمها باختراع القنابل الذرية الهيدروجينية، أقوى أسلحة الشر في تاريخ العالم.
إن أسوأ ما في تولستوي وغاندي معا أنهما لم يفهما، ولم يدرسا التفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكن هل معنى هذا أنهما لم يخدما عصرهما؟ لا؛ لأن الواقع أنهما كما قلنا، أوجدا سخطا أدى إلى اختمار، ثم انتهى الاختمار بالانفجار، فكانت الثورة الاشتراكية في روسيا، ثم ثورة الاستقلال في الهند.
السخط جعل الناس يفكرون ويغضبون، وانتهى التفكير والغضب إلى الثورة التي شبت بعد وفاة تولستوي بسبع سنوات في عام 1917. ولكن هذا السخط الذي جعل الناس يفكرون ويبتكرون جعل تولستوي نفسه يبتئس ويشقى؛ إذ كان هو يسخط ويتآكل ببخاره؛ لأنه لم يكن له برنامج اجتماعي للثورة، ولذلك أيضا وجدناه بعد حياة بلغت 82 سنة ينهض من فراشه في الفجر ويترك بيته وأولاده ويفر إلى حيث لا يعرف؛ إذ لم يكن له وجهة ولم يكن له قصد، كان يريد الفرار فقط، فر من الحياة البائسة إلى الموت، ومات .
وبموته أثبت أن ما كان ينشده من الارتباط العضوي بالمجتمع، على الطريقة التي رسمها لم يعد ممكنا؛ لأنه لم يعد من الممكن أن ننزل عن وعينا بالنزول عن ذكائنا وثقافتنا، ونحيا حياة الفلاح أو حياة الشجرة، ولكن هناك ارتباطا آخر يحسه الرجل المثقف الواعي في أيامنا، هو هذه الاشتراكية التي ننشدها، فنحن في حياتنا، بل كذلك في موتنا، أجزاء متممة للمجتمع، نرقى برقيه ... فلا نشقى من الحياة، ولا نخاف من الموت.
ومع كل ما ذكرت عن تولستوي وروسو وغاندي، ومع كل ما نجد في حياتهم وتعاليمهم من أخطاء، فإننا نهفو إليهم كما نهفو إلى النسيم المنعش، لما نجد فيهم من إخلاص وسذاجة وحب تفسدها علينا الحضارة العصرية.
Unknown page