والآن هلم إلى الماديات، إن كتبي (باستثناء الكتاب المقدس الذي ما يزال عندي) وعدة أوراق من مخطوطاتي، وتخطيط درامة، وقصة (وقصة أخرى كاملة تسمى قصة طفل) قد أخذت كلها مني، والأرجح أنك ستتسلمها، وقد تركت معطفي وملابسي فيمكنك أن تأخذها . والآن يا أخي أظن أنني سأمشي مسافة طويلة وأحتاج إلى نقود، أخي الحبيب، إذا تسلمت هذا الخطاب وكان يمكنك أن تحصل على قليل من النقود فأرسلها إلي بأسرع وقت، فأنا أحوج الآن إلى المال مني إلى الهواء (لغرض خاص)، وابعث لي ببضع كلمات، ثم إذا جاءت نقود من موسكو فتذكرني ولا تنسى، وهذا كل ما أريده، وأنا أعرف أن علي ديونا ولكن ماذا أفعل. قبل زوجتك وأولادك واذكرني عندهم كثيرا ولا تجعلهم ينسونني فعلنا نلتقي يوما ما! أخي، أوصيك بالعناية بنفسك وأولادك، وأن تعيش في هدوء ويقظة، وأن تفكر في مستقبل أولادك، عش عيشا إيجابيا، إني ما شعرت قط بوفرة الحياة الروحية في شخصي كما أشعر بها الآن وأنا مريض بالإسخربوط، ولكني لا أبالي بذلك. أخي، لقد كابدت من الحياة الشيء الكثير حتى ما يكاد شيء يخيفني الآن في العالم، فليكن ما هو كائن، وسأكتب إليك في أول فرصة، وابعث لأسرة مايكوف بتسليماتي وتحياتي، واشكر لهم اهتمامهم بحظي، وقل بضع كلمات حارة يمليها عليك قلبك ليوجينيا بتروفيا، فأنا أدعو لها بالسعادة وسأذكرها على الدوام بجميلها، واضغط يد نيكولاي أبولو نوفتش أبولون مايكوف، وجميع الآخرين، وابحث عن يانوفسكي واضغط يده واشكره. وأخيرا صافح جميع أولئك الذين لم ينسوني، وقبل أخي كوليا، واكتب خطابا إلى أخي أندريه وأخبره بكل شيء عني واكتب لعمي وعمتي، وافعل ذلك باسمي وابعث لهم تحياتي، واكتب لأخواتي اللواتي أدعو لهن بالسعادة، وربما نلتقي يا أخي في المستقبل. لا تهمل العناية بنفسك بل عش وابق حيا حتى نلتقي ثانيا، فعلنا نتعانق يوما ونذكر شبابنا ذلك الوقت الذهبي، ذلك الشباب وتلك الآمال التي أمزقها الآن من قلبي ودمي كي أدفنها، هل يمكن حقا أني لن أتناول القلم بيدي مرة أخرى؟ أظن أني سأعود إلى الكتابة بعد هذه السنوات الأربع، وسأرسل لك كل شيء أكتبه إذا كتبت شيئا، وا رباه! كم من خيالات عشت فيها أو اخترعتها ستموت وتنطفئ في دماغي، أو تتمزق وتسير في دمي كالسهم، أجل، إذا لم يسمح لي بالكتابة فإني سأموت، وخير لي من ذلك أن أسجن خمس عشرة سنة، ويكون في يدي قلم. اكتب لي كثيرا، واكتب بالتفصيل والإسهاب واذكر لي حقائق، حقائق كثيرة، وفي كل خطاب اكتب لي عن شئون الأسرة مع التفصيل، ومع ذكر الأشياء التافهة، ولا تنس هذا فهذه الخطابات تعيد إلي الرجاء والحياة. آه لو تعرف كيف أحيتني وأتعستني خطاباتك التي أرسلتها إلي وأنا في هذه القلعة، وقد كان الشهران والنصف شهر الماضية، حين منعنا من كتابة الخطابات أو تسلمها، من أشق ما كابدته، وقد كنت مريضا. ولما أهملت أنت إرسال النقود إلي ساورني القلق من أجلك؛ لأني فهمت من عدم إرسالك للنقود أنك أنت في حاجة شديدة. قبل الأطفال مرة أخرى، فإن وجوههم الحلوة الصغيرة لا تغيب عن بالي، لتكن لهم السعادة! وأنت يا أخي كن سعيدا، كن سعيدا، ولكن لا تحزن، وبحبك الله لا تحزن لأجلي، وثق أني لم أهن وتذكر أن الرجاء لم يهجرني، وبعد أربع سنوات سيخفف عني ما فعلته الأقدار، وأصير جنديا فينقضي سجني، وتذكر أني سأعانقك يوما ما. لقد كنت اليوم في قبضة الموت ثلاثة أرباع الساعة، وعشت هذه المدة بهذا الخاطر وبلغت آخر لحظة من الحياة، وها أنا ذا حي مرة أخرى، وإذا كان أحد يتذكرني بسوء، أو إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أو أسأت إلى أحد، فأخبره إذا لقيته بأن ينسى الإساءة، وليس في نفسي مرارة أو نقمة على أحد، وأود لو أعانق في هذه اللحظة كل واحد من أصدقائي السالفين، وقد شعرت اليوم بالراحة وأنا أودع أحبابي الأعزاء قبل الموت، وخطر ببالي في هذا الوقت أن خبر إعدامي سيقتلك، ولكن استرح الآن فإني ما زلت حيا، وسأعيش راجيا بأن أعانقك يوما ما، وهذا كل شيء في بالي الآن. ماذا تفعل، وبماذا فكرت اليوم، وهل عرفت شيئا عنا؟ وماذا كان مقدار البرد اليوم؟ آه ما أشوقني إلى أن يصل خطابي هذا إليك بسرعة، وإلا فإنه إذا تأخر فإني سأبقى أربعة أشهر بدون خطاب منك، وقد رأيت الظروف التي أرسلت فيها النقود لي مدة الشهرين الماضيين، وكان عنواني مكتوبا عليها بخطك وسررت برؤية الخط، وعندما ألتفت إلى الماضي وأتذكر مقدار الوقت الذي ضاع عبثا وكم منه ضاع في الأوهام والكسل والجهل بالعيش، وكيف أني لم أقدر الوقت حق قدره، وكيف جنيت على قلبي وذهني! أحس بأن قلبي يسيل دما، أجل إن الحياة عطية وهي سعادة، وكان من الممكن أن نجعل من كل دقيقة منها عصرا طويلا من السعادة. آه لو عرف الشباب ... والآن هذه حياتي تتغير، وأنا أولد من جديد في شكل آخر. أخي أقسم لك أني لن أفقد الأمل، وسأصون روحي وقلبي في الطهارة، وميلادي الجديد سيكون إلى حال أحسن من حالي الماضية، وهذا كل رجائي، وهذا كل عزائي. إن حياة السجن قد قتلت في جسمي مطالب اللحم التي لم تكن كلها طاهرة، ولم أكن قبل هذه الحياة أعنى بنفسي كثيرا، أما الآن فالحرمان لا قيمة له عندي؛ ولذلك لا تخش علي من المشاق المادية وتحسب أنها ستقتلني، كلا لن يحدث هذا، وداعا. وداعا يا أخي، إني أعانقك بقوة وأقبلك بحرارة، تذكرني ولكن بلا ألم في قلبك، فأرجوك ألا تحزن، وفي الخطاب الآتي سأخبرك بما يتم لي، وتذكر عندئذ ما أخبرتك به ألا تعش جزافا دائما، دبر حياتك ورتب حظك وتفكر في أولادك. آه لو أراك، وداعا، إني أنزع نفسي الآن من كل شيء أحببته، وهذا النزاع مؤلم ومن الموجع أن أقطع نفسي نصفين وأشق قلبي شقين، وداعا ... وداعا، ولكني سأراك، أنا واثق، واع أنا فلا تتغير، وأحبني، ولا تدع ذاكرتك تبرد ... وذكرى حبك ستكون أحسن شيء في حياتي، ومرة أخرى وداعا، وداعا، وداعا، وداعا لكم جميعا.
أخوك
فيدور دستوفسكي
لما قبض علي أخذوا مني كتبا عدة، ولم يكن بينها سوى كتابين ممنوع تداولهما، فهل لك أن تطلب الباقي لنفسك، ولكن لي طلبا، وهو أن أحد الكتب يحتوي على مؤلفات فاليريان مايكوف، وهو مقالاته الانتقادية، وهذه النسخة كنت أخذتها من أوجينيا بتروفنا ، وكانت تعدها كنزا، وقد أقرضتها لي، ولما قبض علي طلبت من الشرطي أن يرد إليها الكتاب وأعطيته عنوانها، ولا أعرف إذا كان قد رده، اسأل عن ذلك لأني لا أحب أن أحرمها هذه الذكرى، وأخيرا وداعا وداعا.
أخوك
ف. دستوفسكي «على الهامش: لا أعرف هل أمشي أو أركب فرسا، وأظن أنهم سيركبون الخيول، ربما، قبل يد إميلي فيدروفنا، وقبل الصغار واذكرني عند كريافسكي، اكتب لي عن القبض عليك وحبسك والإفراج عنك.» •••
هذا الخطاب هو جزلة حية ترشح بالدم من نفس دستوفسكي.
تمتاز قصص دستوفسكي بأن أشخاصها يتسمون بالإحساس والذكاء معا فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب في الجامعة يتأمل ويتفلسف ويتساءل: لماذا لا يقتل هذه العجوز الثرية المقترة التي لا تزيد قيمة حياتها على حياة برغوث؟ أليس هو أولى بثرواتها ينفقها في الخير والنفع؟ ثم يقتلها، ثم يعود إلى التأمل والفلسفة فيسلم نفسه في النهاية إلى البوليس حيث يحاكم ويحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا، ويرضى لنفسه هذا المصير؛ لأنه وجد شيئا أكبر من ذكاء العقل هو ذكاء الإحساس.
وسائر قصصه على هذا الغرار، إحساس فوق الذكاء، وخيال فوق العقل، وقصصه تكاد جميعها تخلو من العقدة إلا القليل جدا، وفي النهاية نجد أنه يهدف إلى خيال الشعر، فهو يتناول الواقع ثم يسير به نحو آيات من الفن والشعر، وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن القصة هي التفسير الخيالي للحياة حيث يرتفع المؤلف بالواقع إلى المثليات، فيكسب هذا الواقع دلالة جديدة، فالفتاة التي تبيع عرضها كي تنقذ إخوتها من الجوع، والسكير الفاني الذي يتعلق بالدين ولا يزال يؤمل الآمال، والراهب الذي يحب ولكنه لا يسقط، والشاب الذي يملأ الشرف صدره فيذهب إلى أحد الأثرياء، ويعرض عليه في غرارة وسذاجة مشروعا للخير فلا يجد سوى الاستهزاء، والأبله الذي يؤمن بالعلم فيرتكب جريمة الاغتيال استنادا إلى العلم، وهذا يذكرنا بالبله العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية.
كل هذا يقع في قصص دستوفسكي، وهو بفرط حنانه وجمال خياله قد يناقض العقل والمنطق، ولكن كما كان يناقضه غاندي أو تولستوي ... وقد كسبت من دستوفسكي أكثر مما كسبت من غيره ، وهو ذلك الإحساس الأدبي الذي لا يختلف من الإحساس الديني أو الموسيقي، وذلك أننا إزاء الدين والأدب والموسيقا لا «نعرف» وإنما نحس. وقد قلت في أول هذا الفصل إن هبوطي المبكر على القصصيين الروس قد جعلني أستصغر شأن الأدباء الأوروبيين، والحق أني قرأت برنارد شو، وولز، وديكنز، وأناطول فرانس، وأندريه جيد، وكثيرا غيرهم فكان تقديري لهم اجتماعيا أكثر مما كان أدبيا، وقد وجدت عندهم الرأي والمعرفة أكثر مما وجدت الفن والإحساس، وعندما أتأمل هؤلاء الأدباء الروس جميعهم، حتى مكسيم جوركي، أجد أنهم ينشدون الدين، فإن الإحساس الديني البشري في هذا الكاتب الأخير على الرغم من إلحاده كبير جدا. وقد استطاع دستوفسكي وتولستوي أن يجعلا المسيحية دينا وأدبا معا، بل إنهما أبرزا الميزة الأصلية لهذه الديانة، وهي الحب البشري العام أكثر مما أبرزها كهنة هذه الديانة أنفسهم.
Unknown page