أما الطبقة الثانية فتتألف من الأوصياء وحفظة النظام والأمن، رجال الحرب والأشراف والملك، وفوق هؤلاء القضاة حماة القوانين، وهم أسمى طرازا من المقاتلين الحربيين، فإنهم ينفذون أوامر الطبقة الأولى ويريحونها من الأعمال اليدوية أو الخشنة التي يحتاج إليها الحكم.
وفي أسفل توجد الطبقة الثالثة من أفراد الصناعات اليدوية والتجارة ومعظم الفنون والعلوم. ومن سنن الطبيعة أن يكون كل هؤلاء من المرافق العامة في الأمة أو دواليب تدور ووظائف تؤدى. والسعادة الوحيدة التي يستطيعها أفراد هذه الطبقة هي قدرتهم على أن يكونوا آلات ذكية؛ لأن الرجل المتوسط يفهم من السعادة أنها حال التوسط. والتخصص أو التفوق في تدريب معين هو غريزتهم، ولا يليق بالذهن الضيق أن يعارض حال التوسط هذه؛ لأن هؤلاء المتوسطين ضرورة للمجتمع البشري؛ إذ يتيحون للرجل الفذ أن يوجد.
من من الناس أكرهه أكثر من غيره؟
أكره ذلك الاشتراكي الذي يهدم الغرائز السليمة عند العامل، بأن ينزع منه إحساس القناعة بمكانه ويجعله حسودا ويعلمه الانتقام.
أجل يجب أن نعرف أنه ليس هناك ظلم في تفاوت الحقوق. •••
مات نيتشه في عام 1900، أي دفن في هذه السنة، ولكن الواقع أنه كان ميتا منذ حوالي عام 1885 للمرض الذي أشرنا إليه، وهو مرض لم يقعد جسمه فقط بل أمات ذهنه، ولم يكد العالم المتمدن يحس بوجوده إلا بعد وفاته، وكان الإحساس عندئذ حادا، فمنذ عام 1900 إلى عام 1950 ونيتشه يعلو على جميع المفكرين الأوروبيين، بل يمثل مشكلة الضمير الأوروبي، مشكلة السياسة الأوروبية، سياسة التنازع إزاء سياسة التعاون.
وهو لو كان فيلسوفا فقط، يكتب بالرطانة الفلسفية التي لا يفهمها غير المثقفين، لما كان خطره كبيرا، لكنه كان شاعرا يتغنى ويترنم؛ ولذلك كان ولا يزال يجذب إليه الشباب الذين يقودهم إلى الضلال أو يهديهم إلى الرشاد، فهو غواية وفتنة كما هو نور ومعرفة، هو جنون وعقل.
وأكاد أقول عندما أجد شابا يقرأ نيتشه: حذار! لا تقدم، إنك على طرف هاوية، وقد تنزلق فتتردى، ولكن اقرأ دستوفسكي وغاندي وشيفتزر وبرناردشو، فهم الترياق الذي تحتاج إليه إذا قرأت نيتشه. لا بل يجب أن تقرأ نيتشه؛ لأن أقل ما فيه أن يحثك على التساؤل والاستطلاع، ويحول بينك وبين التسليم المطلق للعرف والعادة؛ إذ هو قوة تحريرية عظمى، ولكنه أيضا يحملك تبعات سامية بشأن المستقبل البشري على هذه الأرض، ويكسبك العقلية الفلكية التكهنية في الفلسفة، وعندئذ ستعرف أن القيمة العظمى في الفلسفة ليست نظاما منطقيا يقول بأن اثنين واثنين يساوي أربعة، وإنما هي في تعيين القيم والأوزان الأخلاقية التي تخدم رقي الإنسان، وفي التكهن بالمستقبل البشري والاستعداد له. وميزة نيتشه هنا أنه استطاع أن يقنع أوروبا بأن الأخلاق يجب أن تنبني على أساس بيولوجي بشري. كتب نيتشه حوالي عام 1880 إلى أخته يقول:
عديني أنني عندما أموت لن يقف حول نعشي سوى أصدقائي، ولن يكون حولي أحد من الغوغاء المتسائلين، واعملي على ألا يلقي قسيس على قبري أكاذيب، وأنا عاجز عن حماية نفسي، وودعيني إلى قبري وأنا وثني شريف.
ومات في عام 1900 مغمورا لم ترثه جريدة، ولم تذكره جامعة، ولكنه بعث بعد موته؛ إذ أصبح الضجة الكبرى والصيحة العالية في جميع الأوساط المثقفة، ولا يزال دويه عاليا واسمه رمزا للتساؤل.
Unknown page