خلقه وحرصه على سلامة رعيته، شديد العداء لمن جاوره من الأمراء، كثير الزراية بهم. وهذا هو الداء العقام الذي أصاب هذه الأمة فهد أركانها، وزعزع بنيانها، ولن يعود للعرب مجدهم إلا إذا عادت لهم أخلاقهم الأولى، وكانوا - كما جاء في الأثر الشريف - في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. فهز ابن حيان رأسه وقال: - ما رأيت دستورا للمسلمين أجمع ولا أوجز من قول النبي الكريم: المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
إن التحاسد والتنافس والاعتصام بالأجنبي والتكالب على الحكم والغلب، كل أولئك كان شره مستطيرا.
فقال الدارمي: عندنا في المشرق استعان المعتصم بالأتراك، ومكنهم من رقاب العرب، فكانوا حربا عليه وعلى خلفائه من بعده، وأصبحت الخلافة في أيديهم لعبة لاعب، يولون من يشاءون، ويعزلون من يشاءون، فقاطعه ابن حيان قائلا: أما في الأندلس فالمصيبة أشد وأنكى، فإن الدولة منذ سنة أربعمائة - وهي سنة الفتنة الكبرى - تتقاسمها ذئاب ضارية: من مضرية ويمنية وصقالبة وبربر وإفرنجة، فما كادت تنتهي الدولة العامرية حتى نعبت غربان الشر من كل جانب، وعاثت شياطين الدمار، واندلعت نيران الفتنة فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم. ويبدأ عهد الخذلان - والعياذ بالله - من ولاية سليمان بن الحكم الذي لقبوه بالمستعين بالله، وكانت أيامه شدادا نكدات، صعابا مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحة المنتهى والخاتمة. دولة كفاها ذما أن أنشأها «شانجة» ومزقتها الإفرنجة!
وكان من نحس رأيه، واختبال عقله، أن اختار علي بن حمود ليكون أكبر قواده، وأقوى مناصريه. اختار بازيا فاصطاده، وسيفا فحز أوداجه. وإذا أراد الله شيئا أمضاه!
ثم اتجه إلى ابن زيدون وقال في تهكم: لقد كان شاعرا مثلك يا أبا الوليد، فاحذر فإن الشعر كثيرا ما يكون شؤما على قائليه، وإني أستطيع أن أعد لك مئات ممن قتلتهم أشعارهم.
فقال الدارمي: لست أحفظ له إلا قوله:
عجبا يهاب الليث حد سناني
وأهاب لحظ فواتر الأجفان!
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى
زهر الوجوه نواعم الأبدان
Unknown page