فابتسمت في وجهه وقالت في خبث: ببركة يوم الأحد. - قولي بحق المسيح كيف حصلت عليه؟ فهزت كتفه في حنان وقالت: اجلس يا أبي فإنها قصة عجيبة حقا، ثم أخذت تنبئه بمقابلة بترو وبما دار بينهما من حديث، وما كادت تتم قصتها حتى سمعا قرعا على الباب، فوضعت إصبعها على فمها إشارة لأبيها بالسكوت، ثم أسرعت فقامت تصلح ما في الحجرة من اضطراب، وتستر منها مواطن الفاقة، وبعد قليل أقبلت نحو الباب ففتحته فإذا صوت خشن أصحل يقول: سعد مساؤك يا فلورندا. فمدت يدها وهي تبتسم وتقول: أهلا بسيدي بترو. مساء جميل وضيف كريم لولا أن حجرتنا الحقيرة لا تليق بمثله. - إن أنضر الأزهار ينبثق من الدمن،
5
وليس في الفقر من عار يا فلورندا لو جعله المرء سلما إلى الغنى. - الغنى؟ أنت تحلم يا سيدي! هلم إلى أبي، ثم صاحت: يا أبي هذا السيد بترو الذي كنا نتحدث بشأنه.
فوقف جارسيا ومد يده إلى الضيف مرحبا وهو يقول: خادمك جارسيا فرانسكوس يا سيدي. ثم نشر حصيرا إلى جانب الحائط، وأومأ إليه بالجلوس، وأخذ ثلاثتهم يتداولون الأحاديث حول قرطبة وما فيها من ثروة واستبحار في العمران، ثم ما فيها إزاء ذلك من فقر مدقع ومتربة، فقال بترو: - إن العاقل من يعرف كيف يقتنص الفرص. وأسرع جارسيا قائلا: أي فرص يا سيدي؟ إن لي خمسة أشهر أدور في شوارع هذه المدينة الملعونة وطرقها، وأتطلع إلى كل حجر في أبنيتها فلم أجد يوما لهذه الفرص ظلا! - لأنك تبحث عنها وهي في يديك. - في يدي؟! - نعم في يديك، وما مثلك، إلا كمثل من ينام فوق فراش وهو يتضور جوعا، ولو مد عينيه إلى ما تحت الفراش لرأى من الذهب ما يغني دول الأرض. أنت يا سيدي جارسيا وجهت كل عقلك إلى العنب والتفاح، وإلى أنك قد تكسب من هذا درهما وقد تكسب من هذا نصف درهم، ثم نظر إلى فلورندا واستمر يقول: ولو أنك نظرت في غرفتك الحقيرة الآن لرأيت كنزا ثمينا. - كنزا ثمينا؟ - نعم. إن أمامك كنزا ينقلك من سكنى القبور، إلى سكنى القصور، ويجعل الذهب يسيل من بين أصابعك كما يسيل الماء من أفواه الأسود في حدائق الزهراء. - ما هذا يا رجل؟ أنت تعابثني، وقد جرأك على هذا فقري وسوء حالي، ثم قام في غضب: ولكني أعلمك يا سيد بترو أنني على فاقتي لا أقبل مزاحا مهينا ولو جاء من أمير الأندلس. لا يا سيدي، نحن سكان الجبال نرضى بالشظف، ولا نرضى بالمهانة. - أي مهانة يا سيدي جارسيا؟ إن كنزك الثمين هو فلورندا. - كنزي فلورندا؟ - نعم. إن لها من الجمال ما لم تظفر بمثله قصور الملوك، ومن سحر الصوت ما تحسدها عليه العنادل، ومن الرشاقة ما تتقطع دونه رشاقة الغصون. إن هذا الحسن الرائع، وذلك الفن الموهوب، لم يخلقا ليطرحا في هذه الحجرة المظلمة التي تفر منها الخفافيش.
فأسرعت فلورندا تقول: وماذا ترى أن أصنع؟ - تأتين عندي. فظهر السخط على وجه فلورندا، ووثبت إلى أبيها تعانقه وتدلله وهي تقول: لا يا سيد بترو. إنني لن أترك أبي ولو وازنت لي الأرض ذهبا. هل أتركك يا أبي؟ إنني إذا لعقوق. لا تصدق يا أبي أن ابنتك فلورندا تفارقك لحظة عين. إنها تجد لذة للجوع والفاقة في جوارك. لقد فررنا من بلدنا معا، وقاسينا شظف العيش معا، وفقدت أمي بين العواصف والزعازع، ولست أريد أن أمنى بفقد جديد. ففك أبوها عنه ذراعيها، ثم أسكتها بقبلة، والتفت إلى بترو وقال: - ماذا تقصد يا سيدي من أخذ فلورندا عندك؟ فتمكن بترو في مجلسه، وأخذ يذود عن وجهه بعوضة أكثرت حوله الكر والفر وقال: أنا يا سيدي أملك أعظم حانة بالمدينة، وهي على الشاطئ الأيمن من الوادي الكبير، تحيط بها الحدائق الفيح، والمروج الخضر، وبها أجمل ما خلق الله من قيان، وأمهر من دقت بدف، أو عزفت على مزهر، أو صفرت بناي، أو ضربت على جنك. - عرفتها، وطالما ذهبت إليها ليلا لأبيع التفاح عند بابها. أنت تملك هذه الحانة؟ إنك لرجل عظيم، فلوى بترو عنه وجهه لية كان معناها لو ترجمت: ومن أنت أيها الأحمق حتى تشهد لي بالعظم أو لا تشهد؟ ثم عاد إليه يقول: إن فلورندا بعد أن تثقف وتهذب ستكون كوكب هذه الحانة الذي يتهافت الشبان على شعاعه تهافت الفراش، فإذا وكلت إلي أمرها فإنه لا يمضي شهر أو شهران حتى يكون راتبها في كل شهر خمسمائة دينار.
ففغر جارسيا فمه وصاح: وي وي! ماذا تقول؟ خمسمائة دينار! - وأكثر. - وما شروطك يا سيدي؟ - إني لا أشترط شيئا، كل ما في الأمر أن تقبل أن آخذ فلورندا إلى بيتي لأعدها للمجد العظيم الذي هي مقبلة عليه، ولن يمر زمن طويل حتى تكون ماسة لماعة أزيلت عنها قشرتها، وحينئذ تظهر في الحانة، للغناء والرقص بأجر لا يقل عن خمسمائة دينار كل شهر.
فقهقه جارسيا قهقهة طويلة ظهرت فيها أسنانه القارحة كأنها المسامير الصدئة، ثم أتبع ذلك ببكاء وشهيق عصبي وقف عنده على قدميه وهو يصيح: لا يا سيدي. بالله عليك لا تغريني بالمال، فإنني لا أفارق ابنتي ولو سففت التراب. - ومن قال إنك ستفارق ابنتك؟ - سأكون عندك إلى جانبها؟ - نعم. ولن تبيع تفاحا بعد اليوم، فمد إليه جارسيا يده وهو يقول في لعثمة الفرح: أسرع بيدك يا سيدي، فإنا كنا نتحدث الآن في الفرص وكيف تقتنص. فمد إليه بترو يده قائلا: اتفقنا. ثم نظر إلى فلورندا كالمتسائل فأطرقت ثم قالت: مادام أبي معي فأني راضية مسرورة. فقال بترو: هلم إلى داري من الآن. فقبل جارسيا، وهمت فلورندا لتجمع بعض متاعها، وكان قليلا تافها، ولكن بترو جذب ذراعها في لطف قائلا: لا حاجة لك ولا لأبيك بشيء من هذه الغرفة، اتركي كل شيء. ثم خرج ثلاثتهم، ومالت فلورندا لتغلق الباب فصاح بها أبوها: ماذا تفعلين يا ابنتي؟ دعي الباب كما هو، فإن كل ما في الحجرة من متاع ليس إلا درسا يعلم الناس الأمانة ...
وانطلقوا إلى دار بترو، فذهل جارسيا وذهلت فلورندا لعظمتها وفخامتها وما فيها من فراش ورياش، وما يجول في أنحائها من عبيد وخدم. وفي الصباح أحضرت الملابس لفلورندا، وأحاط بها جمع من الخياطات والماشطات والجواري، فبرز جمالها، وتميزت مواطن الحسن فيها، وأصبحت فتنة المجتلي، وتردد عليها كبار الموسيقيين والراقصين ليلقنوها دقائق الفن، فبرعت حتى بذت معلميها، ورأى بترو أن الوقت قد حان لظهورها في الحانة.
وفي إحدى ليالي الربيع بقرطبة، ظهرت فلورندا في الحانة، فبعثت فيها حياة لم يكن للناس بها عهد، وأرسلت صوتها حلوا ناعما، كأنه خرير أمواه الجنة، وأطلقت العنان لفنونها فأظهرت من الرشاقة ودقة الأداء والإيقاع ما يسحر الألباب. جمال وفن وابتسامات وروح أخف من ريش النعام، فإذا لم تلعب كل هذه بالعقول فلا لعب بها لاعب! جن النظارة ونبذوا وقارهم، وخيل إليهم أن أرواحهم تسبح في بحر كله طرب وألحان، فصاحوا مأخوذين، وكلما كلت حناجرهم صاحوا ثانية وثالثة، وكان بين الجمع الحاشد شاعر ناشئ ملكته أريحية الطرب فصاح:
وراقصة أما نضارة خدها ...
Unknown page