وأقبلت ولادة عليهما متألقة باسمة، فودعته وشكرت نائلة على كريم ضيافتها، وجميل ما أعدت من أسباب السرور.
الفصل الرابع
من عائشة بنت غالب؟ ومن أي أرومة نبتت؟ فقد ترامت حولها تهم وخلعت عليها صفات تغري المتطلع إلى تطلب المزيد. فمن عائشة؟ ومن أبوها؟ ومن أمها؟ ومن أي عش درجت، وفي أي الأجواء نشأت؟
كانت «فلورندا» أم عائشة تقيم بمدينة «شنت ياقب» أو القديس يعقوب، في أسرة رقيقة الحال. وكان أبوها «جارسيا» يخدم في الكنيسة نهارا، ويرتزق من اللصوصية وقطع الطريق ليلا، وكانت كنيسة شنت ياقب أعظم كنيسة بأسبانيا، وأكبر مشهد فيها، يحج إليها الناس من بلاد القبط والنوبة، ومن أقصى بلاد رومة وما وراءها، فكان جارسيا ينال بالنهار من بعض صدقات الحجاج، ويسطو بالليل على بعض أمتعتهم.
وفي صبيحة يوم من أيام شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، شمل الذعر مدينة شنت ياقب، واستولى الهلع على أهلها، ودقت أجراس الكنيسة الكبرى، وتصايح الناس في أصوات مرتعدة واجفة قائلين: لقد قرب جيش المنصور بن أبي عامر من المدينة!!
إنهم كانوا في أمن آمن، وكانوا يظنون أن بعد مدينتهم ووعورة المسالك بينها وبين قرطبة تجعلهم في حرز من غزوات العرب، ولكن أصحاب الأخبار حملوا إليهم أن المنصور بلغ بجيوشه مدينة «قورية»، ثم قطع المفاوز حتى بلغ مدينة «البرتقال» على نهر «دويرة» وهناك أنشأ على النهر جسرا من السفن فعبره جنوده، وانطلقوا كأنهم شياطين الجن إلى السهول والقيعان، وما زالوا يقطعون أنهارا، ويخترقون جبالا، حتى بلغوا جبلا شامخ الذرا وعر الشعاب، فأمر المنصور الفعلة بتمهيد طريق فيه يتسع للجيش، فأخذوا يشقونه بالحديد حتى بلغوا أقصاه، وانهمر سيلهم منه إلى أن وصلوا إلى نهر «أبله» ولم يصبح بينهم وبين شنت ياقب إلا أيام قصار.
ذعر الرجال، وولولت النساء، وبكت الأطفال، ولم يجد أهل المدينة نجاة من هذه الكارثة إلا الهرب، فجمعوا ما خف من شملهم، وانسابوا من المدينة كأنهم أسراب نحل ملأ المشتارون بالدخان خلاياها. شيوخ وشبان وأطفال، ونساء يحملن صغارهن، ودموع وحسرات وأنات. أين يذهبون؟ إنهم يفرون من الموت إلى الموت، ولكنهم يظنون أن موتا مشكوكا فيه خير من موت محقق. والناس في ساعات الوهل
1
يطير صوابهم، فيركبون من الخطر ما هو أشد مما يتوقعون من خطر. إن غريزة المحافظة على الحياة قد تنقلب جنونا يودي بالحياة، أليست الفراشة تلقى بنفسها في النار لأنها تراها مصدر الحياة؟ ألا تلسع النحلة للدفاع عن بقائها، وفي لسعتها موتها؟ ألا يقتل المنتحر نفسه، لأنه يحب الحياة؟ إن السفينة إذا أدركها الغرق جن ركابها وماج بعضهم في بعض، فماتوا قبل أن يلتقمهم اليم. والدار قد تشب فيها النيران فيقتل الذعر أهلها قبل أن تلتهمهم النيران. والفار من الثعبان الأرقم لو ثبت قليلا ما عدا عليه الثعبان. والحق أن في الخوف من الموت موتا، وأن الذي يبذل الحياة توهب له الحياة.
خرج جارسيا وزوجه «مارايا» وابنته فلورندا مع الفارين الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وكان الرجل فارع القامة، قوي البناء، موثق العضل، فحمل على ظهره ما لا يسعهم تركه من خفيف المتاع وكانت زوجه ناحلة سقيمة الجسم، تنظر في سهوم واضطراب إلى ما يمتد إليه طرفها من المفاوز والجبال، ثم تهز رأسها في حسرة ويأس، وتدعو جميع القديسين والقديسات لإنقاذها مما هي مقبلة عليه من موت محتوم. وكانت فلورندا في نحو الخامسة عشرة من سنيها، وقد خلع عليها الشباب والجمال أغلى ما يخلعه الشباب والجمال على فتاة من حلي وحلل.
Unknown page