فتحرك ابن جهور في مجلسه، وقد بدا على وجهه القلق، وطلب من رئيس كتابه أن يبعث رسالة إلى ابن زيدون يستعجل قفوله، ويصرفه عن السفارة.
وقفل ابن زيدون إلى قرطبة حزينا كاسف البال، لأنه علم أن الحيات بقرطبة عادت تهز رءوسها، وأن عناصر الشر التي خمدت حينا أخذت تتجمع من جديد لتفعل أفاعيلها، وأنه أصبح بقرطبة بين فكي أسد لا يبعد أن يحلو له يوما أن يحرك ماضغيه.
عاد ابن زيدون إلى قرطبة، وقابل ابن جهور فعتب عليه عتبا خفيف المس خفي الإشارة، تتخلله الأفاكيه، وتخفف من وقعه البسمات، فخرج من لدنه وهو يعلم أن ابتساماته أشبه بالبروق التي تسبق الصواعق، وأن وراء هذا اللطف أحابيل تنصب، وقضاء يدبر. وقابل ولادة ونائلة ونفض إليهما جلية أمره، وما يجيش بصدره من مخاوف، ثم أخرج من جيبه رسالة بعث بها إليه المعتضد بن عباد يدعوه فيها إلى حضرته بإشبيلية، ويعده بأرفع المناصب وأسمى المراتب.
فقالت نائلة: إن ابن عباد داهية ماكر، وأخشى أن يتخذ منك أحبولة لمآربه.
فقالت ولادة: وما مآربه يا ترى؟ - أن ينال قرطبة. إنه مجنون بشيء يسمى قرطبة. أتعلمين أنه قتل بيديه ابنه إسماعيل، لأنه دعاه إلى غزو قرطبة فتردد واعتذر لقلة الرجال والعتاد؟ - إنه قتله حينما قبض عليه وهو يتآمر مع طائفة من الجند على قتله. - ولم تآمر على قتله يا فتاة؟ تآمر على قتله لأنه عرف أنه بعد أن أبى أن يغزو له قرطبة مقتول لا محالة.
وقال ابن زيدون: وما عيب الرجل إذا أراد امتلاك قرطبة؟ إنه أقوى أمراء الأندلس وهو قمين بأن يملك جميع ولاياتها ويجعل منها دولة تهابها الإفرنجة ويخشى بأسها شذاذ العرب والبربر. إن هذا الرجل لا يبرح من بالي كلما خطرت به فكرة جمع كلمة العرب.
فجعلت نائلة تقول: لا تبث هذا السر لأحد، وإلا عدنا إلى مصائب الأغلال والسجون. ثم ضحكت وقالت: ولسنا نستطيع أن نغري مخلفا بأكل الفالوذج في كل مرة!
وانفض المجلس، وأقام ابن زيدون شهرا يهيئ فيه لفراره، وعزمت ولادة ونائلة أن تلحقا به بإشبيلية.
وفي إحدى الليالي انطلق ابن زيدون نحو إشبيلية بجواده في خوف وتوجس كما ينطلق السهم، ولفه الليل كأنه طيف نائم، أو خيال شاعر.
وأصبحت المدينة ولا حديث لها إلا فرار ابن زيدون، والتقى ابن عبدوس بابن المكري آسفين فرحين، لأنهما كانا يريدان القضاء عليه والتنكيل به، ولكنهما رضيا آخر الأمر بأن انفسح أمامهما الطريق وخلا لهما الميدان. وأرسل ابن جهور جنوده حول قرطبة للبحث عنه والقبض عليه ولو غاص في الماء، أو طار في الهواء، ولكنهم لم يجدوا له أثرا بعد أن سلكوا كل مسلك، وقلبوا للبحث عنه كل حجر.
Unknown page