أنه وضع القوة الحربية كلها في يد المأمون، وكانت القوة الحربية التي في يد الأمين مصطنعة؛ لا تمدها إلا العصبية العربية؛ ولذلك انتصر المأمون، يضاف إلى ذلك أن العرب قد غلبهم الفرس وأخضعوهم وأذلوهم من أول بدء الخلافة العباسية إلى عهد المأمون، فلم تكن فيهم بقية صالحة.
ويروون أن الكتاب لما رفع ليعلق، وقع ... فقيل: إن هذا الأمر سريع الانفضاض، وكذلك كان، فلم تنفع المواثيق والأيمان بجانب ما في النفس البشرية من طمع وحرص وكراهية للمشاركة في الملك والسلطان، وقد حدثت الرشيد نفسه بهذا، وتوقع الشر بينهما علما بالطبيعة البشرية فروى الكسائي قال:
دخلت على الرشيد، فلما قضيت حق التسليم والدعاء، وثبت للقيام، فقال: «اقعد!» فلم أزل عنده حتى خف عامة من كان في مجلسه، ولم يبق إلا الخاصة، فقال لي: «يا علي، ألا تحب أن ترى محمدا وعبد الله؟» قلت: «ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرني بمعاينة نعمة الله على أمير المؤمنين فيهما»، فأمر بإحضارهما، فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هدوء ووقار، قد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما، حتى وقفا على باب المجلس فسلما على أبيهما بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء، فأمرهما بالدنو منه، فصير محمدا عن يمينه، وعبد الله عن يساره، ثم أمرني أن أستقرئهما، وأسألهما، ففعلت، فما سألت عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، والخروج منه، فسر بذلك الرشيد حتى تبينته فيه، ثم قال لي: «يا علي! كيف ترى مذهبهما وجوابهما»، فقلت: يا أمير المؤمنين هما كما قال الشاعر:
أرى قمري مجد وفرعي خلافة
يزينهما عرف كريم ومحتد
يا أمير المؤمنين! هما فرع زكا أصله وطاب مغرسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، أبوهما أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم، وسيحكمان بحكمه، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته.
فما رأيت أحدا من أولاد الخلفاء وأعضاء هذه الشجرة المباركة؛ أعذب ألسنا، ولا أحسن ألفاظا، ولا أشد اقتدارا على تأدية ما حفظ منهما، ودعوت لهما دعاء كثيرا، وأمن الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجمع يديه عليهما، فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج.
فلما خرجا أقبل علي فقال: «كأنك بهما، وقد حم القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، قد تشتتت كلمتهما، واختلف أمرهما، ثم لم يبرح ذلك حتى تسفك الدماء، وتقتل القتلى، وتهتك ستور النساء، ويتمنى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى»، قلت: «أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمر رئي في أصل مولدهما، أو لأمر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما»، فقال: «لا والله، إنما بأثر حمله العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء.»
ومرة أخرى قال لمروان الخادم: «علي بحيى»، فما لبث أن أتاه، فقال: «يا أبا الفضل! إن رسول الله مات في غير وصية، والإسلام جذعة، والإيمان جديد، وكلمة العرب مجتمعة؛ فقد آمنها الله تعالى بعد الخوف، وأعزها بعد الذل، فما لبث أن ارتد عامة العرب على أبي بكر، وكان من خبره ما قد علمت، وإن أبا بكر صير الأمر إلى عمر، فسلمت الأمة له، ورضيت بخلافته، ثم صيرها عمر شورى، فكان بعده ما قد بلغك من الفتن، حتى صارت إلى غير أهلها، وقد عنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو عبد الله «المأمون»، وبنو هاشم مائلون إلى محمد «الأمين» بأهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوت يده، ومشاركة النساء والإماء في رأيه، فإن ملت إلى عبد الله أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا بالأمر لم آمن تخليطه على الرعية، فأشر علي في هذا الأمر برأيك، فلك مشورة يعم فضلها ونفعها، فإنك بحمد الله مبارك الرأي لطيف النظر.»
فقال: «يا أمير المؤمنين! إن كل زلة مستقالة، وكل رأي يتلافى خلا هذا العهد، فإن الخطأ فيه غير مأمون، والزلة فيه لا تستدرك، وللنظر فيه مجلس غير هذا، فعلم الرشيد أنه يريد الخلوة، قال الأصمعي: «فأمرني بالتنحي ... فقمت، وقعدت في ناحية بحيث أسمع كلامهما، فما زالا في مناجاة ومناظرة طويلتين حتى مضى الليل وافترقا على أن عقد الرشيد الأمر لعبد الله مع محمد.»
Unknown page