وبدأ كمال يتكلم لأول مرة: اسمعوا.
فقال النمرود: سمعت الرعد يا كمال، قل ماذا تريد!
فقال كمال: اسمعوا ولا تهذروا، فقد عشت معكم السنين الطوال لم أر منكم إلا الهذر ... أنت يا منصور تقتل، تقتل النفس التي حرم الله قتلها، وتنال من أجل هذا ثمنا بخسا، لا بأس أن تقتل، ولكن لا بد أن تنال الثمن وتحسن تقديره. أعرف ماذا ستقول، أنت ترى أن زملاءك ممن يستأجرون للقتل يقبضون نفس المبلغ الذي تقبضه أنت، ولكن من قال إن القاتل ذا اليد القاعدة ينفع إلا في الاستئجار للقتل؟ إنك تستطيع أن تثير الرعب في الناحية فتنال ما تريد، وأنت يا نمرود، ماذا؟ ألا تستطيع أن تعمل في غير المخدرات؟ ألا تلف بالبلاد وتعرف الصفقات، ومن يملك كثيرا فيعطي من عنده القليل، لماذا لا تستفيد من دورانك ومعلوماتك فيستفيد منها الجميع ؟ وأنت يا زهار منذ تركت العسكرية لا تحسن شيئا، إلا أن تميل بالطاقية وتفتح الزر الأعلى من الجلباب، فإن استأجرك أحدهم لتحرس شيئا أو لتقف خلف أنفار فيها وإلا فإنك لا تسرق إلا توافه الأشياء، وجعلت أكثر اعتمادك على استخدام النمرود لك في تصريف بضائعه، فعشت على نفقته فرحا؛ لأنك تجد ما تأكل، وهو فرح؛ لأنه أصبح ذا مستخدمين ومساعدين، وأنت ذكي؛ لأنك لا تسرق الرجل الذي استأجرك للحراسة وإن كنت تسرق جاره، وذكاؤك يا مسكين لا يعود عليك بغير النفع الضئيل، وأنت جريء؛ لأنك تسرق في وضح النهار وتعتمد على الضوء في سرقاتك، وتقول لمن يتهمك: إنك لا يمكن أن تسرق في الضوء. جرأة وذكاء ولكن بلا فائدة، ولو أنك استعملت جرأتك وذكاءك في السرقات الكبرى لكنت ذا نفع كبير، وأنت يا نور دخلت السجن وخرجت ثم لم تنتفع من دخولك وخروجك، وقد كنت في المديرية تعرف الكثيرين، والعمدة منذ ذلك الحين يكن لك بعض الاحترام، ولكنك تكتفي بالجلوس معنا معتمدا بعد ذلك على فدان وعشرة قراريط لا تجني منها غير يسير مال، ثم أنت معتمد بعد ذلك على الجلوس معنا، تروي عن أحداث الليل التي تدعي أنك شهدتها وما شهدت منها شيئا، خسارة كان يمكن أن تشهد لو أنك عملت ولم تتكلم، وسعيت ولم تتشدق.
ثم سكت كمال فإذا القوم وقد فغرت أفواههم من الدهش، وحملقت عيونهم في كمال يسمعون منه عجيبة لم ينتظروا أن يسمعوها يوما، وتزداد العجيبة غرابة أن تصدر عن كمال الذي لم يروا لسانه يتحرك في فمه إلا بمدحهم والمبالغة في هذا المديح.
وقطع منصور هذا الصمت في دهشة لا تزايله: يا ابن الكلب ومن أين تعلمت كل هذا؟ - تعلمته من الرجل الذي أخذ من الشيخ عبد الودود سبعمائة وخمسة وعشرين جنيها وثلاثة وخمسين قرشا، ومن عبد الرحمن السلامي مائتي جنيه وجنيهين وأربعة وسبعين قرشا، ومن الخواجة استاورو خمسين جنيها وخمسة وخمسين قرشا.
فقال منصور في دهشة أقرب إلى الفزع: ولد! من أين عرفت حقيقة هذه المبالغ؟ - ألم أقل لك أنني كنت مع من أخذها. - ومن هو؟ - لا أقول لكم حتى أبلغكم رسالته كلها. - وما هي؟ - لا أقولها لكم حتى تقسموا على المصحف. - نقسم. - على ماذا؟ - نقسم على ما يريد. - إنه يريدكم أن تقسموا على أن تكونوا معه رجلا واحدا تأتمرون بأمره، لا يرتفع صوت أمام صوته، وقوله أمر، وإشارته تنفيذ، ماذا تقولون؟
وتراجع الدفراوي، ثم نظر إلى إخوانه متسائلا، فرد إليه إخوانه نظرته بنظرات أكثر حيرة، وإن كانت تحمل أيضا رجاء إليه أن يقبل ما يعرض عليه، ولكن الدفراوي يسأل كمالا: وماذا نفيد من هذا؟ - عزا لا تحلمون بمثله، ومالا لا تبلغ إليه أوهامكم مهما يشتط بكم الوهم، فأنت يا زهار ستتزوج سعدية أم الخير التي طالما تمنيت زواجها، فلن يكون زواجها من صالح أو سعي أحمد أبي خليل حائلا بينك وبين الزواج منها، ولن تحتاج بعد اليوم إلى أن تكون أجيرا أو عاملا بسيطا في توزيع تجارة النمرود، وأنت يا دفراوي لن تقتل بعد اليوم إلا في سبيل الجماعة التي تعمل معها، وستحميك من كل شيء، وأنت يا نمرود ستتسع تجارتك فتصبح كبير تجار مصر كلها، وأنت يا نور لن تحتاج بعد اليوم لريع فدانك الحقير، سيجري المال في يدك، فلا تدري أين تنفقه، ماذا تقولون؟
وينظر الدفراوي ثانية إلى القوم ويسألهم: ماذا تقولون يا رجال؟
وصمت الرجال بأفواههم وقالت عيونهم: «نقبل.» ولكن الزهار قال: الأمر إليك، فأنت كبيرنا.
وعاد منصور يسأل كمالا: ومن هو صاحبك؟ - لا أذكر اسمه حتى تقبلوا. - أخشى أن يكون خائبا فيضيعنا.
Unknown page