وها هي ذي لنده جالسة إلى جوارها، في فستانها «الجابونيز» المفتوح يظهر جيدها وكتفيها ولا يفلح حتى في إخفاء ما تحت إبطيها من شعر كان يبدو رغما عنها أصفر كثيفا. كلما تطلعت إلى الحجرة ورأتها مرتبة منظمة وكأنها ليست مجهزة لزيارة ولكن مجهزة لاستقبال عروس، أحست لنده بقشعريرة ما، قشعريرة خوف، وكأنها خائفة أن يحدث ما تتوقع حدوثه فعلا. وكلما نظرت إليها أم إبراهيم ورأتها معتنية بزينتها اعتناء زائدا، وكأنها ليست ذاهبة في زيارة مريضة ولكنها استعدت لما هو أكثر من ذلك، اقشعر جسد أم إبراهيم هو الآخر ودق قلبها بالفرحة، وكأن ما دأبت على السعي إليه طوال تلك الأيام يخيفها أن يتحقق، وأن ينجح مسعاها في النهاية.
وكان لا بد لحديث ما أن يدور.
ودار الحديث حول اكتشاف أم اللقيط، واكتشاف أنها متزوجة، وأنها حملت من وراء زوجها دون علمه. وتناست أم إبراهيم أنها مريضة واعتدلت تقص على لنده حكايات عن الترحيلة وبشاعة أخلاقهم، وكيف أنهم لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة أو خطيئة بلا خجل أو حياء وكأنهم ليسوا بشرا، وكأنهم قطيع من حيوانات أو أغنام. وكانت لنده توافقها موافقات قلقة مضطربة، وتؤكد لها في نهاية كل موافقة أن الله حتما سيغفر لهم؛ إذ هم جهلة لا يدركون ماذا يفعلون. وتصر لنده على حكاية الغفران هذه بطريقة تبعث الريبة في صدر أم إبراهيم، فتجعلها تكف عن الحديث وتغير الموضوع.
وسألت لنده عن الشيخ «أبو» إبراهيم مشيرة إلى قفطانه المعلق على شماعة عند رأس السرير، فقالت أم إبراهيم إنه ذهب إلى العزبة نمرة ستة ليحيي مولدا هناك، وفعلا، ولو كانت لنده قد صعدت إلى السطح وأصاخت السمع لرأت «كلوبا» موقدا بعيدا في الناحية القبلية، ولجاءها صوت الشيخ «أبو» إبراهيم وهو ممسك حلقة الذكر على الواحدة، منسجما مع الإمام البرعي في بردته المشهورة.
وعاد الحديث إلى سكون كاد يطول، وكاد يؤدي إلى جو الترقب والانفعال الذي سيطر على الحجرة منذ دخلت لنده، غير أنه لم يطل. سمعتا دقة على الباب الخارجي المفتوح، دقة من يعلم من في الداخل بقدومه.
وقالت أم إبراهيم بصوت متمارض ممدود، وهي متأكدة تماما من شخصية القادم: مين؟
وشحب وجه لنده وبدأت مسامها تتحبب وشعرها يكاد يقف.
ودخل أحمد سلطان، طربوشه الغامق مائل على جبهته يكاد يخفي شعيرات حاجبه الأيمن، وجلبابه الحرير البلدي مكوي، والبالطو الأسود فوقه، وذقنه حليق والنور يطل من وجهه، وشاربه مقصر ومزوق، وقال بابتسامة واسعة مدربة، وكأنه لم يلحظ وجود لنده: مساء الخير يا أم إبراهيم، مالك؟
فأجابت أم إبراهيم بنفس تصنعها: يسعد مساك يا أحمد أفندي، ما فيش! الظاهر إني باسقط ولا إيه ما أعرفش، مش تمسي يا أحمد أفندي.
وبلفتة تمثيلية مبالغ فيها انحرف أحمد قليلا ورفع حاجبيه إلى أعلى وكأنه فوجئ وقال: الله! الست لنده هنا؟ مش تقولي يا أم إبراهيم.
Unknown page