وخاف الريس أن يكذب فيعاقب على كذبه أضعاف معاقبته على مغالطته فقال: محسوبة يا سعادة البيه، وأنا محسوبك. - وإزاي تبقى محسوبة نفر وهي نايمة؟
قال الريس بمسكنة: غلبانة عيانة، مش قادرة تمسك الخط يا سعادة البيه المأمور.
ورد فكري أفندي بعنف: يبقى ما تتحسبش يوميتها.
قال الريس، وأمره إلى الله: ما تتحسبش يا سعادة البيه، اللي تشوفه، ما تتحسبش. - لا يا شيخ.
قالها المأمور وقد استعد أن يوجه طعنته، فهو لا يعني ما يستجد، إنه يعني ما فات، يعني الأيام التي قضتها تلك المرأة راقدة لا تعمل واحتسبت فيها يوميتها زورا وبهتانا. والريس كان أيضا يعرف هذا ويدرك أن العقاب قد يكون فصله بل ومن المحتمل سجنه. ولم يصمد الرجل طويلا، من تلقاء نفسه قالها. ولم يقلها مباشرة، بدأ بمقدمة طويلة عن الفقر والناس الغلابة وعمل الطيب وإلقائه في البحر. ثم انتهى إلى أن عزيزة هي أم اللقيط المقتول، وأنهم حين عرفوا هذا تستروا عليها، فهي ولية وكلنا لنا ولايانا، وحين أصابتها الحمى رأوا أن يرقدوها في الغيط تحت ظليلة لكي يستمر أجرها ساريا، فهي غلبانة آخر غلب، وتنفق على زوجها المريض وأولادها الثلاثة منه.
كان المأمور يستمع إليه وعلى وجهه نفس صرامته الأولى، ولكنه - قرب النهاية - بدأ وجهه ينفرج قليلا قليلا، ثم بدأت الدهشة ترتسم عليه وتأخذ مكان الصرامة، المذهل في الموضوع أنها كانت متزوجة، فلماذا تقتل ابنها وهي متزوجة؟ قال فكري أفندي هذا للريس فأجابه الرجل: حد عارف يا سعادة البيه؟ الدنيا مليانة بلاوي. - حد عارف إزاي؟! أنت اتجننت ولا جرى لعقلك حاجة؟ بقى واحدة مجوزة تموت ابنها خبط لزق كده ويبقى اسمه الدنيا مليانة بلاوي، جوزها عايش يا وله؟ - عايش يا سعادة البيه؟ - ومخلفة منه؟ - ومخلفة منه. - كانت بتقتل ولادها قبل كده؟ - أبدا يا سعادة البيه. - اشمعنى المرة دي؟ - الله أعلم يا سعادة البيه.
الريس بدا وكأنه لم يفكر أبدا في غرابة المسألة، أو أنه كان قد فكر فيها فلم يأخذها أبدا على أنها مشكلة خطيرة تستوجب إعمال الفكر. كل ما في الأمر أن الأنفار حين رجوه أن يصنع معروفا ويجعل عزيزة ترقد تحت الظليلة في أثناء العمل، فعل هذا عن طيب خاطر، فهو يعرفها ويعرف زوجها وأباها، وكل ما كان يقلقه أن يكشف المأمور - أو أحد من رجال الإدارة - ما يحدث، ذلك هو كل ما كان يشغله. أما الآن فمشغوليته الكبرى هو التحايل على المأمور حتى يتجاوز عن هذه الغلطة. وهكذا عاد يرجوه ويلح في الرجاء أن يمسحها المأمور في ذقنه، وأنا وقعت من السما يا سعادة البيه وأنت استلقيتني، إلى آخر هذه الأقاويل التي يجيد الريس إخراجها ونقطها في كل مأزق.
ولكن المأمور كان في شغل شاغل عنه، فأمله وإن كان قد خاب قليلا؛ إذ تبين أن ليس في المسألة جريمة أو زانية ولا بنت بكر ضحك عليها شاب أرعن وأغواها، أمله وإن كان قد خاب إلا أن مشكلة المرأة بدأت تستحوذ عليه بطريقة أخرى، لماذا تقتل امرأة متزوجة مثل تلك الملتفة في خرقها السوداء ابنها؟
الريس لا يبدو عليه أنه يعرف شيئا ويخفيه، والحقيقة لا يمكن أن يعرفها إلا الله - سبحانه وتعالى - وعزيزة.
قال فكري أفندي للريس: سألتوها عملت كده ليه؟
Unknown page