وأكثر من مرة تم لفكري ما أراد وفاجأ صفوف الأنفار من الخلف، وفي كل مرة كان يخيب أمله بعض الشيء؛ إذ كان يجد العمل قائما على قدم وساق ولا إهمال هناك أو تقصير، مرة ضبط عرفة ريس الترحيلة جالسا تحت الجميزة في الظل يلعب السيجة مع الأسطى محمد العجوز، ومرة ضبط «صالح» الخولي قد أرسل نفرة من الترحيلة لتحضر غداءه من العزبة، ولكن - فيما خلا هذا - كان العمل جاريا وكأن عرفة ليس جالسا يلعب السيجة، أو «صالح» قد استحل لنفسه أن ينقص العمل مجهود نفرة!
ولكن فكري أفندي لم ييأس فلا بد أن هناك إهمالا ما، ولا بد أن يضبط ذلك الإهمال، وفي ذلك اليوم حين عثر على تلك «الظليلة» مقامة بين أعواد التيل المزروعة حول تربيعة القطن، دق قلبه بفرحة الاكتشاف واعتقد أنه - أخيرا - عثر على الإهمال! فلا بد أن تحت تلك الظليلة أنفارا يستريحون أو يلعبون. لم يضع جهده إذن عبثا، ولا راح هباء ذلك الإرهاق الطويل الذي لاقاه من المرور بلا ركوبة سيرا على الأقدام.
ودون أن يسأل عرفة أو يكلمه، ما كاد يرى الظليلة حتى أسرع تجاهها ليضبط المتظللين في حالة تلبس.
كانت الظليلة مصنوعة من جوال قديم مربوط من جهاته الأربع في أربعة أعواد من التيل، وحين فرق فكري أفندي الشجيرات وأطل، فوجئ حين لم يجد أنفارا كثيرين تحت الظليلة، في الحقيقة لم يجد إلا نفرا واحدا، أو على وجه أصح نفرة واحدة، امرأة كانت راقدة على جنبها كالنائمة.
وانقلبت خيبة أمل فكري أفندي إلى شراسة، وقال لعرفة وعيونه تقدح بالشرر: إيه دي؟ نايمة هنا ليه؟ مش ماسكة خط ليه؟
فقال عرفة وهو يبتسم ابتسامة ضايقت المأمور أكثر: دي عزيزة يا سعادة البيه.
وبنفس الشراسة قال فكري أفندي: عزيزة إيه؟ عزيزة مين؟
ومرة أخرى قال عرفة وهو يخفض ناحية من ابتسامته ويرفع الأخرى: عزيزة - اسم الله على مقامك - يا سعادة البيه. •••
وكأنما دق جرس صدئ دقة واحدة باهتة في عقل فكري أفندي. أممكن أن تكون هي الآثمة التي بحث عنها حتى يئس ونفض يده من البحث؟ الخاطر ضعيف وواه، ولكن أوهى منه هو ذلك الخيط الممتد من ابتسامة الريس، فلو سأله مباشرة فمن المحتمل أن يخاف ويحرن كما تحرن الحمير إذا رأت حفرة في الطريق، وهو أعلم الناس بهؤلاء الناس حين يخفون الشيء ويخافون إظهاره. عليه أن يستعين بالمكر وطول البال وادعاء الجهل عساه يفلح في إخراج كل ما وراء فم الريس المضموم المبتسم هذا.
وقال فكري أفندي بنفس لهجة المأمور في حضرة الخطأ: محسوبة دي من ضمن الأنفار؟
Unknown page