وبينما كان يضع قدميه في الركاب ويستعد للقفزة التي تصعده فوق ظهر الركوبة كان يعتصر عقله بين مستحيلين:
فمستحيل أن تكون أم اللقيط من غير الترحيلة.
ومستحيل أن تكون هذه الأم بين الأنفار الذين تفحصهم لتوه. •••
وفي طريق عودته إلى العزبة من نفس المشاية التي جاء عليها كان الأسطى محمد لا يزال - وقد استحلى القعدة - يمد رجليه في الماء ويلعب فيه كالأطفال بقدميه. وحين رأى الموكب هالا من بعيد هب واقفا من جلسته كالملسوع وأسرع ينضم إليه، ولم يكن في حاجة لسؤال ليدرك أن الفشل كان حليف المأمور، كل ما في الأمر أنه ظل ساكتا برهة يلهث مع اللاهثين ويتحاشى سحب الغبار ثم قال بتهتهته العجوزة المتحمسة: اعمل بقى زي ما عمل سيدنا عمر يا حضرة المأمور.
والإنسان في لحظات يأسه يتعلق بالقشاية، وجذب فكري أفندي لجام الركوبة قليلا ليبطئ من ركضها، وحين حاذاه الأسطى محمد سأله: سيدنا عمر عمل إيه يا بو عقل فارغ؟
وقصة طويلة هي التي حكاها الأسطى العجوز، قصة استغرقت كل الطريق إلى العزبة الكبيرة، بدأت بأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - كان يتجول في أنحاء المدينة متخفيا ليتفقد شئون الرعية، وفي أثناء تجواله عثر على جثة شاب في ريعان الشباب مقتولا بطعنة خنجر، وحاول سيدنا عمر أن يعثر على قاتله بلا جدوى، وأخيرا - وحين يئس - قال له شيخ حكيم: إذا أردت العثور على القاتل فانتظر تسعة أشهر وسوف تجده بين يديك. ولم يأخذ سيدنا عمر كلام الشيخ على محمل جاد، ولكن بعد تسعة أشهر بالضبط سرت شائعة في المدينة تقول: إن بنت فلان قد وضعت طفلا دون أن تتزوج أو يقربها إنس. وحينئذ قال الشيخ العجوز لسيدنا عمر: هاك القاتلة، التي ولدت حتما هي التي قتلت. قال سيدنا عمر: كيف؟ قال الشيخ: لا بد أن الشاب اعتدى عليها فقتلته.
ومع أن الحكاية أعجبت فكري أفندي وكادت تخفف من غلوائه إلا أنها لم يكن لها دخل فيما هو فيه. مجرد حكاية أخرى من حكايات الأسطى محمد الكثير الحكاوي الذي يؤلف لكل شيء حكاية، وكأن مشاكل الدنيا تحلها الحواديت.
كل الذي حدث أنه كان قد يئس تماما من إشباع حب استطلاعه والعثور على أم اللقيط، وصمم أن يلقي الأمر من وراء اهتمامه ويبلغ المركز والمركز يتصرف كما يحلو له. وزيادة في الاحتياط أملى على مسيحة أفندي الباشكاتب صيغة البلاغ، وراعى في اختيار كلماته كل الدقة حتى يخلي طرفه وطرف التفتيش من أية مسئولية.
وجاء البوليس.
وجاءت النيابة.
Unknown page