الحرام
خاتمة
الحرام
خاتمة
الحرام
الحرام
تأليف
يوسف إدريس
الحرام
في تلك البقعة من شمال الدلتا، حيث يمتد التفتيش واسعا عريضا لا يكاد البصر يصل إلى مداه، كانت الدنيا تمر بلحظة السكون التام حين يكون الليل وما فيه من نقيق وصرير قد ولى، وحين لا يكون النهار الكامل بأصواته وضجيجه قد أقبل بعد. سكون تام مطبق وكأنما ستقوم القيامة بعده، سكون جليل مهيب تتردد حتى أدق الكائنات في خدشه، لم يكن يجرؤ على خدشه إلا نصف كرة أبيض كان يغوص في ماء الترعة ثم يطفو ليعود يغوص، محدثا خرخشة تتعالى وتدوي في رحابة السكون. ظل هذا يحدث عددا غير قليل من المرات، ثم حدث أن غاص نصف الكرة مرة وغاب أكثر من المعتاد، غير أنه لم يلبث أن طفا فجأة مخترقا الماء في ضجة عظمى. وهذه المرة وضح أن لنصف الكرة جبهة ما لبث أن وضح أن لها عينين ثم فما، ثم لم يلبث الوجه أن تكامل واستدار الرأس آخذا طريقه إلى الحافة، وكلما تقدم ينحسر الماء عن رقبة، ثم جسد أبيض من الخلف كثيف السواد من الأمام، وقرب الحافة ظهرت الذراعان هزيلتين بالقياس إلى الجسد الضخم، ولكن على بطن الذراع اليمنى وشم فتاة ممسكة سيفا وكتابة لو دققنا النظر فيها لوجدنا أنها لاسم، والاسم هو عبد المطلب محمد البحراوي.
Unknown page
خرج عبد المطلب من الماء، ومع أن المنطقة بأسرها كانت خالية من الأحياء إلا أنه حين أصبح في العراء انثنى على نفسه، وضم يديه يخفي بهما عورته، وبسرعة كان قد ارتدى ملابسه، ملابس كثيرة مهرأة يضمها جميعا «بالطو» سميك مهيب أصفر اللون ذو تاريخ حافل؛ إذ اشترك في الحرب العالمية الأخيرة مع الحلفاء على هيئة خيمة، ثم انتهى كما ينتهي المحاربون القدماء إلى تلك النهاية.
وأخيرا صلى عبد المطلب ركعتي الحاضر والسنة، ولفع البندقية ذات الروحين على كتفه، ومضى على جسر الترعة يخب في نعليه المصنوعتين من كاوتش العربات.
وبينما كان ماضيا في طريقه إلى العزبة الكبيرة، فوجئ عبد المطلب بجسم أبيض غريب يرقد على جانب من الجسر. وفرح عبد المطلب فهو - ككل الناس - ما يكاد يرى على الأرض شيئا يختلف لونه عن لون الأرض إلا ويعتقد أنه عثر على «لقية»، ويدق قلبه بالفرح.
غير أنه حين بربش بعينيه، وعبد المطلب مع أنه خفير إلا أن نظره على قده خاصة في الضوء، ما كاد يرى الشيء حتى تسمر في مكانه مذعورا ومضى يصرخ: الله حي، الله حي، الله حي.
ذلك أن الشيء لم يكن إلا جنينا حديث الولادة.
دق قلب عبد المطلب دقة عالية واحدة كالطفلة، ثم انزوى يلهث في صدره ويرتجف؛ فهو «صحيح» خفير، ولكن ما يراه أمامه الآن شيء مختلف تماما عن اللصوص وقطاع الطرق؛ ولهذا فقد كان أول ما فكر فيه أن يطلق ساقيه للريح ويجري؛ إذ للوهلة الأولى اعتقد أن ما أمامه عفريت ابن جنية، ما في ذلك شك.
غير أن عبد المطلب لم يجر، بل وجد نفسه بعد ثوان يقهقه قهقهة عالية أعلى من أي قهقهة أخرى أطلقها في حياته؛ إذ كان يضحك على نفسه، فقد أدرك بطريقة ما أن ما أمامه ليس عفريتا أو شيئا من هذا القبيل، ولكنه رضيع ابن حرام على وجه الدقة، وما كاد يتبين هذا حتى قهقه؛ فقد تصور لأمر ما أيضا أن الجنين الذي يراه الآن هو ثمرة لليلة الماضية التي قضاها مع زوجته، ولدته بعد أن غادرها ليستحم في الترعة ويتطهر، ثم ألقت به في الطريق.
كان الخاطر لا معنى له؛ إذ من غير المعقول أن تحمل زوجته وتلد جنينا كاملا في نفس الليلة، ولكنه فكر فيه؛ فالإنسان وهو مرعوب قد يقف عقله ويهرب بجسده، أو قد يحدث العكس فيتسمر بجسمه في مكانه ويهرب بعقله، والعقل في جريانه المفزوع لا يتقيد بأي معقول.
وعلى أية حال لم تطل قهقهة عبد المطلب؛ إذ قطعها عليه إحساسه المفاجئ بالمسئولية، ومع أن البقعة التي وجد فيها الرضيع ليست من اختصاصه؛ إذ هي من اختصاص خفير الجرن، إلا أن بعض الناس أحيانا لا يكادون يجدون ثمة خطأ حتى يلصقوه بأنفسهم ويحس الواحد منهم أنه هو المسئول عنه، ويبدأ يدافع عن نفسه ليتهرب من المسئولية. وهكذا ظل عبد المطلب واقفا أمام اللقيط يدير في رأسه خطط الدفاع عن نفسه أمام الناس وأمام مأمور التفتيش و- لا قدر الله - أمام النيابة والمحاكم، وبينما عبد المطلب يفعل هذا كان قوس الشمس الأعلى قد بدأ يصفر ويبيض ويجوب الأفق مستكشفا، وحين اطمأن إلى أن كل شيء على ما يرام برزت من ورائه الشمس بحجمها الأحمر الهائل، ومع بروزها بدأت الدنيا تزهزه وتدعو الكائنات إلى اليقظة والعمل، وبدأ أبو قردان يصرخ ويرفرف، وبدأ الناس يظهرون، أفرادا متناثرين أول الأمر قادمين من الجامع بعد الصلاة، أو آخذين طريقهم إلى الترعة يغسلون وجوههم ويستحمون.
ومع زهزهة الدنيا كان عقل عبد المطلب هو الآخر قد بدأت تعود إليه رباطة جأشه وبدأ يتفتح، وكانت فكرة ما قد واتته بعد أن فشل في تخليص نفسه من المسئولية:
Unknown page
لم لا يلقي باللفافة في الترعة ولا من شاف ولا من دري؟ وتردد برهة بعد آه، ولاه، ثم لم يلبث أن تقدم من اللفافة باحتراس زائد.
في تلك اللحظة فوجئ بصوت خشن كفرع السنط يقول: اصباح الخير يا عبده.
وحملق فيه عبد المطلب بعينيه العمشاوين، فقد كان عبد المطلب أبيض أعمش ذا عيون صغيرة ضيقة لا ترى إلا في الليل، حملق فيه وقال جملته المشهورة عنه: إخص ع الناس، الله يكسفم!
كانت كلماته تخرج ملفوفة في سحابات صغيرة من بخار الصبح، وكان القادم «عطية» الذي لا يدري أحد متى جاء إلى التفتيش ولا من أين جاء، ولم يكن له عمل معروف حتى في أثناء إقامته في التفتيش، لا ولم يكن له محل إقامة؛ فهو ينام حيثما اتفق، تراه على الدوام ممسكا ذيل قميصه من الخلف، مظهرا سيقانه الخالية من الشعر، فاتحا عينا مغلقا الأخرى محدقا في محدثه بوجهه النحيف الرفيع الذي لا يطمئن إليه أحد.
ظلت ذرات البخار تخرج من فم عطية لترد عليها ذرات بخار خارجة من فم عبد المطلب، وأيديهما تشير مرة إلى اللفافة ومرات إلى الترعة والناس والعزبة والسموات العلا إلى أن انضم إليهما الأسطى محمد. والأسطى محمد رجل الحادثات بلا منازع؛ ما من واقعة مهمة تحدث في التفتيش إلا ويكون هو أول من يحضرها، ولا يدري أحد كيف تصل إليه أخبارها، ولكنك حتما سوف تجده. هو عجوز تعدى السبعين ذو لحية نابتة بيضاء وشعر أشيب وعين يسرى لا يرتفع عنها جفنه المغلق على الدوام. كان أسطى ماكينات في التفتيش، وحين كبر على العمل فصلوه، ومع هذا فأحيانا يعهدون إليه بمهام مثل إيقاد الوابور الذي يدير ماكينة الدراس أو السهر بجوار طلمبة مياه، ولكنه على أية حال لا يزال يلقب بالأسطى، ولا يزال رجل الحادثات، ورأيه فيها لا يزال هو الرأي السديد، وهذه المرة ما إن عرف ما حدث، ورنا إلى الجنين بعينه اليمنى حتى قال: ده مش ميت يا عبده، ده مخنوق.
واستنكر عبد المطلب هذا، ولكن الأسطى محمد ما لبث أن أقنعه وهو يشير إلى زرقة الجسد واحمرار ما حول الأنف والفم، طالبا منه أن يخلص نفسه من المسئولية ويبلغ مأمور الزراعة؛ إذ هو الوحيد الذي يمكنه التصرف في أمثال هذه الأمور.
ويبدو أن عبد المطلب اقتنع، فما لبث أن مصمص بشفتيه، وقال: أيوه: أحسن طريقة نبلغ المأمور.
قال هذا دون أن تصدر سحاب بخار عن كلماته، فالشمس كانت قد بدأت تبيض، والأجساد قد بدأت تسخن والندى أخذ يزول. •••
ولا أحد يدري كيف تسرب الخبر إلى العزبة؛ فالثلاثة الواقفون أصبحوا ستة، وما أسرع ما تجمهر حولهم الشغيلة السارحون إلى الغيطان وفئوسهم على أكتافهم وغداؤهم في مناديلهم، وما لبث أن انضم إليهم عمال ماكينة الدراس والمزارعون وبعض الأطفال الذين أيقظهم آباؤهم مجبرين ليزيلوا وخم النوم ويغسلوا وجوههم في الترعة.
حتى النساء كن يتركن ما في أيديهن من عجين أو خبيز أو طين ويسرعن ملهوفات إلى الخليج، ويلوثن الرجال وهن يدفعنهم ويفرقنهم ليرين ما هناك.
Unknown page
كل قادم كان يريد رؤية ابن الحرام هذا الذي مات لتوه، فإذا ما زاحم وزاحم حتى وصل إليه وحدق فيه وملأ عينيه من البشرة البيضاء التي ازرقت وكادت تسود، والرأس الصغير وما حوله من مشيمة ودماء، ما إن يرى كل ذلك حتى يدير ظهره ويقفل راجعا، وقد امتلأت نفسه وملامحه بمزيج قابض من الرهبة والغثيان.
وجاء مأمور الزراعة في النهاية، وسبقته الأيدي تدفع الواقفين وتفسح له الطريق، وكان فكري أفندي المأمور لا يقل رغبة في رؤية هذا الحادث - الجديد عليه وعلى العزبة - عن أي من الواقفين، ولكن كان حريصا في الوقت ذاته على ألا يفقده ذلك الشغف هيبته. فما إن قارب المتزاحمين حتى مد يده وأحكم اعوجاج طربوشه فوق رأسه، ثم اكتست ملامحه السمراء طابع الجد، وعقص رقبته في صلف كما يجب أن تكون عليه حين يراه الفلاحون، ثم وقعت عيناه على المشهد، ولم يفلح هذه المرة في إخفاء ما اعتراه هو الآخر من رهبة وغثيان. بل بدت واضحة تمام الوضوح على وجهه وتقلبات شفتيه، ثم استدارته على الفور إلى حيث يستطيع مغادرة المكان والابتعاد عنه.
وتبع المأمور في ذهابه الخولي وخفير الري وطنطاوي والأسطى محمد ونفر قليل من «التملية» والشغيلة، ساروا صامتين واجمين، والمأمور يبصق تارة في منديله الأبيض المكور وتارة على قش الطريق المبتل. •••
وكان من الممكن أن تنتهي مهمة فكري أفندي المأمور عند هذا الحد؛ فهو «صحيح» مسئول عن كل كبيرة وصغيرة تحدث في التفتيش، إلا أن العثور على لقيط ميت أو مقتول ومحاولة العثور على قاتله مسألة لا تدخل في اختصاصه بالمرة.
وذلك فعلا ما كان يدور في رأسه، وهو يمشي الهوينى في الطريق إلى مباني إدارة التفتيش، وخلفه ذلك الجمع الصغير، غير أن حب استطلاع ما بدأ يراوده، ترى ابن من هذا؟
التفتيش مكون من عزب، كل عزبة لا تتعدى بيوتها الثلاثين بيتا، وهذا اللقيط وجد على خليج العزبة الكبيرة المقامة بجوار سراية أصحاب الأرض والإدارة، حيث الإصطبلات والجرن والمخازن وجراجات مكن الحرث. لا بد أن اللقيط ابن لواحدة من أبناء هذه العزبة الكبيرة أو بناتها، والعزبة يكاد يعرف نساءها وبناتها بالواحدة، ترى أيهن هي التي فعلت هذه الفعلة؟ وترى كيف فعلتها؟ فكري أفندي طالما سمع في القصص والحواديت عن أولاد الحرام، وأحيانا كانت تبلغه فضائح مثل هذه كأخبار ليس إلا عن أناس لا يعرفهم ولا يدري أشكالهم ولا ماذا يكونون. وفي أعمق أغواره - وحتى لو كان قد قرأ الخبر في جريدة المقطم نفسها التي يؤمن بكل كلمة تقولها - فإنه كان يجد نفسه لا يكاد يصدق الخبر، لا يكاد يصدق أن أحداثا كبيرة شنعاء حراما مثل هتك العرض أو الحمل سفاحا ممكن أن تحدث فعلا. ولكنه رأى اليوم بعينه جسم جريمة كاملا ميتا يكاد يمد إصبعه، ويضعها في عين كل من لا يصدق. كانت أحاسيس غريبة تلك التي تملكته، وهو واقف يحدق في اللقيط، وكأنه يرى الشيء الحرام الذي كان يأبى أن يصدق وجوده، أو استحالة إقدام الناس على فعله، يراه أمامه مجسدا راقدا على حافة الخليج، أحاسيس كثيرة عصفت به، الحرام إذن موجود لدى الناس، أحيانا لا يستطيعون إخفاءه، ولكنه أحيانا يهزمهم وينتصر على رغبتهم في إخفائه، ويظهر متبلورا في لقيط مسجى أو في بطن منفوخ. الحرام - الذي كنت تسمع عنه يا فكري أفندي ولا تصدقه - موجود، وأمامك الفرصة مواتية لترى فاعلته كما رأيته.
تلك في الواقع هي الفكرة التي كانت تلح على خاطره في أثناء رجوعه إلى مبنى الإدارة. ترى كيف تكون فاعلة ذلك الحرام؟ أو على وجه الدقة كيف تكون الزانية؟ ما من مرة ذكرت أمامه الكلمة إلا واقشعر بدنه، مع أنه كان له - مثلما لمعظم الناس - علاقات قبل أن يتزوج وحتى بعد أن تزوج. ولكن كأنما كان يستبعد أن توجد نساء في العالم يخطئن مثلما تخطئ النساء معه، وكأنما من أخطأن معه لسن زانيات، الزانيات هن من يخطئن مع غيره.
ترى كيف تكون تلك المرأة، وهل تكون جميلة، وهل تشبه الغوازي، وهل هي مثل سائر النساء أو لا ريب تنفرد بألاعيب وحركات وتأودات هي التي جعلت ذئبا من الرجال يستفرد بها ويفعل معها الحرام؟
وقف فكري أفندي في منتصف المسافة بين الخليج وبين الإدارة واستدار، واستدار الجمع الذي خلفه لاستدارته، وراح يستعرض العزبة الكبيرة أمامه: بيوتها الداكنة والدخان الذي كان قد بدأ يتصاعد من الخروق الكثيرة في سقوفها. على رأس العزبة يقع بيت مسيحة أفندي الباشكاتب وبجواره بيت أحمد سلطان الكاتب، الشاب الأشقر ذي الطربوش الغامق المعوج والبالطو الأسود النظيف، الولد الشباب الحلو الذي طالما ضبط وهو يغمز بنتا من البنات الفائرات الكبيرات اللاتي كن أحيانا يغدون للعمل في التفتيش، وغمزته دائما ما كانت تكهرب البنت منهن حتى لتجعل ثدييها يقفزان في الهواء، ولكنه لا يبحث عمن قد يصلح ليكون الأب، هو يبحث عن الأم، فهو مستعد أن يصدق الحرام في الرجال، ولكنه - لأمر ما - يصعب عليه أن يصدق الحرام في النساء. الرجل دوره في الحرام طياري أما المرأة فدورها أساسي. هو يبحث عن الأم. وفي بحثه هذا لم يترك أحدا، حتى امرأة الباشكاتب الست أم لنده تناولها بحثه، ولكنها كانت في زيارة لزوجته في الأسبوع الماضي، ولم تكن أبدا حاملا. ومن بيت إلى بيت تنتقل عيناه، بيوت المزارعين الكبار الذين لدى الواحد منهم أكثر من ثلاثة أزواج من البهائم، وبيوت التملية الذين لا يملك الواحد منهم إلا فأسه. ونساء العزبة جميعا يمررن أمام عينيه: التي يعرفها تماما والتي لا يكاد يعرفها، التي لها ضحكة وابتسامة والتي لها قمطة حمراء أو جلابية فاقعة الألوان، البنت والعانس والعازبة والمطلقة والمشكوك في أمرها التي استجابت لهزاره مرة والتي خجلت ولم تستجب. ولم تتوقف أنظار فكري أفندي عند بيت من البيوت ولا عند واحدة بعينها من النساء، فلا أحد في العزبة يستخبى، النساء كلهن يخرجن حتى من غير أن يرتدين «الملس» الأسود فوق ثيابهن الملونة، وكلهن معروفات، لم يلاحظ أحد على واحدة غير متزوجة حملا أو انتفاخ بطن، لا يمكن أن تكون إحداهن هي أم ذلك اللقيط، مستحيل.
وأفاق المأمور من تأمله الطويل للعزبة ومن فيها ودار بعينيه على وجوه الرجال القليلين الملتفين حوله، وكان يتوقف هنيهة عند كل وجه ويحملق، وعند كل توقف كان يصفر وجه؛ إذ يكاد صاحبه يشك في براءة نفسه ويكاد يصعقه أن تطول تحديقة المأمور فيه مرة ثم يشير إليه قائلا: أنت.
Unknown page
ولكن إدارة المأمور لوجهه وعينيه كانت إمعانا في التفكير ليس إلا وتثبتا من وجاهة الرأي الذي استقر عليه.
وأشار فكري أفندي فجأة بالخيزرانة التي كانت معه، أشار إلى الفضاء الكائن خلف الإصطبلات وقال: لازم واحدة من دول.
وتطلعت العيون والقلوب إلى حيث يشير، وجاءه الجواب من أكثر الواقفين وكأنه فرحة البراءة: هم، ما فيش غيرهم، ودي عايزة كلام؟ دول غرابوة ولاد كلب.
قالوا هذا وتحفزوا جميعا لأي إشارة تصدر عن المأمور.
غير أن المأمور لم يشر بشيء؛ فقد عاد إلى حذائه الكالح يحدق فيه وعادت عصاه الخيزران تعبث برباط حذائه أحيانا وبالقش أحيانا أخرى.
ثم قال: ولا يمكن البت نبوية.
فقال صالح الخولي وقد غير رأيه على الفور: وما يمكنشي ليه؟ دي تاجرة بيض ولعبية.
وقال الأسطى محمد: دي بقالها عازبة زمان، حد عارف؟! يمكن. أستغفر الله العظيم.
وقال عبد المطلب الخفير: والله ما في غيرها.
غير أن المأمور لم يمهلهم، ما لبث أن استدار ومضت عيناه تتأرجحان حتى استقرتا عند الفضاء الكائن خلف الإصطبلات وقال: أبدا! هم دول ما فيش غيرهم.
Unknown page
وغمغم الواقفون حوله يلعنون الغرابوة ويؤيدون. •••
والغرابوة ليسوا من قاطني التفتيش، ولا يمكن لأحد أن يتصور أنهم من قاطني التفتيش؛ إذ أليسوا هم أكثر الناس فقرا في بلادهم الذين يدفعهم الفقر إلى اللجوء إلى العمل في التفاتيش البعيدة، وترك دورهم وقراهم سعيا وراء يومية لا تتعدى القروش القليلة؟ أليسوا هم ذوي الأسمال البالية والرائحة الغريبة، والخلقة الكريهة؟ لا يمكن لأحد أن يتصور أناسا كهؤلاء من قاطني التفتيش، فقاطنو التفتيش كلهم مزارعون محترمون، لكل منهم بيته وأولاده وبهائمه وجلبابه النظيف الجديد الذي يرتديه بعد انتهاء العمل ليسهر به في القهوة ويروح به في المآتم والأفراح، وليس بين قاطني التفتيش عاطل، فالعزب مبنية بحيث تستوعب المزارعين كلهم، وكأنما هي مصنع كبير خصص جزء منه لسكن عماله، وعلى هذا فهم جميعا يعملون، وهم جميعا معهم نقود، والزوجة تدخل على زوجها بسرير ودولاب وأطباق صيني وأحيانا بماكينة خياطة. والعمل ليس مرهقا إلى الدرجة التي لا يتصورها العقل، فالري بماكينات، والحرث بأتومبيلات، والدراس بماكينة كبيرة جدا تحتل وحدها نصف الجرن. وصحيح أن التفتيش يأخذ معظم ما تنتجه الأرض، ولكن يبقى للفلاح ما يستره، ويكسوه، ويطعمه، ويجعله حتما ينظر إلى الغرابوة هؤلاء نظره إلى نفاية بشرية جائعة، مضطرة إلى الهجرة كي تعمل وتأكل وتنال حظا من الحياة. حتى اسمهم لم يتفق عليه أحد، رجال الإدارة يسمونهم «الترحيلة»، والفلاحون يسمونهم «الغرابوة»، أما هؤلاء الذين تعودوا «المقلتة» والتريقة فيسمونهم «الجلب جل الجشج عنه ما جلو يا سيد عنجلو»، ومعناها «الكلب كل الكشك عنه ما كلو يا سيد (السيد البدوي) عنقلو»، إذ هكذا ينطقون الكاف، وهكذا يحتقر فلاحو التفتيش كافهم ولهجتهم وحتى مجرد وجودهم على أرض تفتيشهم.
أما الغرابوة أنفسهم فقد كانوا لا يقيمون وزنا كبيرا لتريقة الفلاحين أو نظرتهم، وكأنما هم معترفون أنهم غرابوة وأنهم ترحيلة وأنهم أي شيء قد يخطر على بال إنسان. فما دام الواحد منهم قد حظي بمكان في الترحيلة وضمن أن يعمل أكثر من ثلاثة شهور كل يوم وبأجر، فليقل عنه القائلون ما شاءوا.
والقطن يزرع في أواخر الشتاء، وما إن تولى طوبة حتى تكون بذوره قد تشققت واخترقت الأرض السمراء ونبت لكل بذرة جذر ونما لها ساق، وحين تكبر العيدان فتغطي المساحات الواسعة السوداء بطبقة خضراء جميلة ريانة، ويحل أوان الدودة ولطعها، حينئذ يدور الجدل حول الترحيلة، يكتب فكري أفندي خطابا للإدارة في مصر والإدارة ترد بخطاب، ثم يأتي الإذن، ويأتي المبلغ، ويستيقظ فكري أفندي ذات يوم مبكرا، ويأخذ أول قطار ويغير في طنطا، ثم تحمله عربة أومنيبوس «لا ينسى أن يقيدها في كشف الحساب عربة أجرة» إلى قرية من قرى المنوفية أو الغربية، غير مهم؛ ففكري أفندي يعرف قرى كثيرة ومقاولين كثيرين، قرى يسميها هو عش النمل، فالناس فيها كثيرون أكثر من اللازم، أكثر من العمل المطلوب والطعام الموجود، وكلهم - ولله الحمد - فقراء، فقراء إلى الدرجة التي كان فكري أفندي نفسه يهز رأسه حسرة حين يراهم في بلادهم، وكيف يعيشون. المهم حالما يضع قدميه في بلدهم ينتشر خبر وصوله بطريقة سريعة غامضة خفية، فيتجمع منهم مئات ويكونون موكبه، يسيرون أمامه وخلفه وعلى جانبيه ويرمقونه في تدله وأمل وكأن لديه أجولة أعمار سيفرقها عليهم بعد حين، يحيونه ويتهافتون على لمسه ولفت نظره، والشاطر من يسلم عليه ويقبل، ويدله ألف على بيت المقاول مع أنه لا يكون في حاجة إلى دليل، فمن أعوام وهو يهبط القرية، والطريق إلى بيت المقاول في قرية صغيرة كتلك لا يمكن أن يضل فيه إنسان كفكري أفندي حباه الله عقلا ومعرفة وطربوشا ونابا أزرق. هناك يجد المقاول واقفا على عتبة البيت، إن لم تكن ضجة قدومه قد وصلت إليه وأوقفته على عتبة الشارع. وسلامات تدور من النوع الثقيل، ولا بأس من دمعة تفر من عين المقاول حسرة على الأيام الحلوة التي مضت، ويصر الرجل على أن ينادي فكري أفندي بحضرة المفتش، ويخجل فكري أفندي ويتواضع ويقول: يا سي الحج. وتطير رقاب الكثير من الحمام والبط، ويأكل المأمور ويحلي ويضطجع، ويحتسي القهوة وينفث في تلذذ دخان السيجارة التي عزم عليه بها المقاول وأقسم بالطلاق أن يدخنها، بينما الضجة خارج البيت تزداد، والنمل الكثير يخرج من جحوره؛ إذ قد جاء الأمل في العمل، يخرجون من جحورهم ويتعانقون أمام البيت ويتصايحون: جاء الفرج يا أولاد والأشيا ح تبقى معدن.
ويتناقش الضيف والمضيف قليلا أو كثيرا حول «الفية» أو الجعل، المأمور يقول النفر بسبعة قروش، وقرش «فيه» يبقى بواقع ثمانية، ويصر المقاول على عشرة، ويقول المأمور: تبقى مكشوفة قدام أصحاب الأطيان.
وينتهي الأمر ربما إلى تسعة، ويخرج المأمور حافظته، ويشعر بالدفء والفجيعة والأوراق الكبيرة الخضراء ذات المادنة تلمس يده بالكاد ليعدها ثم تختفي في كيس المقاول المصنوع من الكتان والمرسوم عليه هلال وثلاثة نجوم مكتوب تحتها - ولا أحد يدري لم؟ - الحكومة المصرية، وما يكاد هذا يحدث حتى يتفرق المنادون المتطوعون في البلدة: النفر بستة يا أهالي، والقبض على خمستاشر يوم، والغايب يعلم الحاضر.
مع أنه لا تكون هناك حاجة إلى منادين أو نداء، فجميع «الأهالي» موجودون متزاحمون عند بيت المقاول في الحارة وعلى الأسطح المجاورة وأمام الأبواب.
ويصبح الصباح وتأتي خمس من عربات النقل الكبيرة ذات التصاريح الخاصة بنقل الأنفار «مثلها مثل التصاريح بنقل أجولة الأرز أو المواشي» تحمل كل منها أكثر من مائة نفر من الرجال والبنات والنساء والأطفال وتحمل أيضا صررهم وقففهم وقد ملئوها لآخرها بزوادة العيش وزلع المش والجبنة، تحملهم في كتلة ضخمة متزاحمة لا تكاد تميز فيها الرجل من المرأة ولا الولد من البلاصي. ومع انطلاق العربات تنطلق الحناجر المتلاصقة المحشورة تغني وتضحك ويصل زعيقها الفرحان إلى عنان السماء، بينما العيون، عيون المرضى والعجزة وكل من لا يستطيع حمل الفأس أو حتى الظهر، عيون المتخلفين الزائدين عن المطلوب، ترقب الموكب المنتصر، الموكب الدالف إلى العمل والأجر ولقمة العيش، وملأ الصدر أنفاس، ترقبه في عجز باك وحسرة، وربما كلمة ذليلة يتصدق بها الجار على جاره: الصبر.
وتعلن العربات قدومها إلى التفتيش بسحابات غبار ضخمة تثيرها وتملأ بها الأفق، ومع هذا فقليلا ما يسترعي ذلك القدوم انتباه من في التفتيش إلا أن يقف أحدهم ويراقب العربات القادمة ويقول لمن يتصادف وجوده وهو يضحك ساخرا: الجلب جل الجشج عنه ما جلو.
وهناك خلف الإصطبل يرص الغرابوة مقاطفهم صفوفا وراء صفوف، وينطلقون إلى الجرن والأرض المجاورة يجمعون قش الأرز والأحجار ويصنعون منها مواقد وأفرشة.
Unknown page
وقبل شروق شمس اليوم التالي تطفح في الجو رائحة المش وقد فتحت أوانيه، وبين الحين والحين تسمع خشخشة بصلة تتكسر وهمهمات وصرخات بنت لم تجد زوادتها، وأصوات خيزرانة الريس، وهي تدق على قفة أحدهم دقا ملحا متواصلا يستعجل به إنهاء الطعام والمسير، ولا يلبث الدق أن ينتقل من القفف إلى الأقفية والأجساد، ولكنه أيضا لا يتعدى الدق، ثم يصرخ الريس، وحينئذ تقوم الترحيلة في كتلة ضخمة غامقة اللون، لا تلبث أن تتبعها مفردات متناثرة، ويكون موكبهم أول من يضع أقدامهم فوق المشاية التي ختمها الندى، وتشرق الشمس وكل منهم قد تسلم خطا، ولا بد ظهر كل منهم محني وعيناه على اللطعة.
وقبل كل غروب يزدحم دكان جنيدي «أبو» خلف وهو الدكان الوحيد في العزبة الكبيرة، يزدحم بالأطباق الفخار والأيدي الجافة الممدودة والأصوات التي جرحتها عيدان القطن، وهي تطلب في إلحاح وبلهجتها الغرباوية المعووجة، بتلاتة ميلم زيت، بميلم ملح، بربع قرش عسل، بتعريفة دفتر بافرة، ويسب جنيدي الغرابوة واليوم الذي جاءوا فيه ولكنه يبيع، ويلعن آباءهم ويبيع، وتتكوم في درجه المزيت ملاليمهم الصدئة ونكلهم، كلها ملاليم ونكل، وأكبر قطعة فئة عشرة مليمات، وفي الغروب تماما وقبل أن تظلم الدنيا، تختلط خلف الإصطبل رائحة الزيت المقدوح برائحة السمك الصغير المشوي برائحة الجبنة القديمة والعدس والبصل والصابون الفنيك، تختلط الروائح في مزيج نافذ غريب مكونة رائحة خاصة، من شدة دلالتها ونفاذها يسميها الفلاحون رائحة الترحيلة. تتصاعد الروائح وتفتح البلاليص، ويوضع كل ما استطاعت اليد انتزاعه من الغيط، فجل أو سريس أو جلاوين أو خنشير، وتحشى البطون بكل هذا كما تحشى الأجولة بالقش، بينما الصمت يسود المكان، صمت لا يسمع خلاله إلا أصوات التشدق بلقم العيش، وأصوات بعيدة لملاعق قليلة تصطدم بالأواني النحاسية وتقتلع منها ما التصق بقاعها من حبات أرز.
وتحمل الريح الضجة والرائحة إلى العزبة الكبيرة وقاطنيها، فتنطلق النكات وتتصاعد القهقهات ويزداد الناس إيمانا بأنهم - حقا وصدقا - نفاية بشرية منحطة، أولئك الناس الذين يدعونهم الترحيلة. •••
طمس فكري أفندي الدائرة التي كان قد رسمها بعصاه على تراب الأرض، ووضع في وسطها نقطة وأخرج منها خطوطا إلى محيط الدائرة، بل دار بقدميه عليها حتى لم يبق منها سوى النقطة وقد خرجت منها خطوط مبتورة، لم تكن لديه خطة واضحة، فحتى مع افتراض أنه قد حدد أن الفاعلة من الغرابوة، فماذا يمكنه أن يفعل ليعثر عليها؟ مضى يعتصر عقله ويده تدق بالخيزرانة على رجل سرواله الأصفر ، وعيناه تائهتان في ملل المفكر، إذا كانت ثمة امرأة من الغرابوة قد فعلت هذا فلا بد أنها راقدة الآن عند مكان الترحيلة، لا بد هذا، فمن غير المعقول أن تضع الواحدة مولودا كهذا وتقتله أو يموت منها وتذهب في الصباح التالي لتعمل وتمسك خطا، والمسألة في يده وليس عليه إلا أن يتأكد.
تجهم وجه فكري أفندي علامة على أنه وصل إلى قرار، وتحرك - ومعه الجمع الصغير - إلى مكان الترحيلة، كان المكان خاويا ليس فيه سوى القفف والمواقد وبقايا الخشب المحترق وروائح الغروب، فالأنفار كانوا قد ذهبوا قبل الشروق، كالعادة، إلى الغيط. أدرك فكري أفندي ومن معه هذا بنظرة واحدة عريضة ألقوها على المكان، ولكنه آثر أن يبحث بنفسه لعل وعسى. وراح يتجول مطأطئ الرأس وقد وضع يديه وإحداهما ممسكة بالخيزرانة وراء ظهره، راح يتجول ويشمشم ويخبط القفف وأجولة الزواد بين آن وآخر من قبيل الاحتياط. ظل سائرا هكذا ووراءه الجمع حتى وصلوا في النهاية إلى «أم الترحيلة» كما كان يدعوها أطفال العزبة، والمرأة عجوز؛ من كثرة كبرها لا تستطيع أن تحدد لها سنا، ومع هذا فهي تحرس صرر الترحيلة وحاجياتهم وترعى الأطفال حتى تعود أمهاتهم في آخر النهار. توقف المأمور أمامها وغالب ابتسامته وهو يرى العجوز وحولها عشرات الأطفال بعضهم في حضنها وبعضهم قد سبح وحبا بين الصرر، بعضهم يصيح والبعض الآخر هادئ ساكن عاقل يعبث بثوب المرأة وقدميها، غالب الابتسامة؛ فالمرأة كانت حائرة ملتاعة لا تعرف كيف تتصرف، ولا ماذا تقول للأطفال أو كيف تحنو عليهم، وبينها وبين خصال الأمومة ورعاية الأطفال أزمان وأحقاب.
وعبثا حاول أن يظفر منها بجواب على كل ما وجهه إليها من أسئلة، فهي في غيبوبة السن والعجز لا تعي إلا حين يقترب بشر ما من المكان فتصرخ فيه أن يبتعد، وإلا حين تحضر الأمهات قبل الغروب وتقوم الجلبة التي تنتهي بانسلال كل أم ومعها طفلها، أو التي لا تنتهي حين تروح تتعثر في البحث مع أم عن ابنها وقد تاه بين الصرر.
ولم يكن فكري أفندي حتى في حاجة لسؤال المرأة، فلم يكن هناك أحد، ومعنى هذا شيء من اثنين: إما أن تكون الفاعلة المجرمة قد تحاملت على نفسها وذهبت مع الأنفار لتعمل حتى لا تكتشف، وإما أنها ليست من الغرابوة وقد تكون من أهل العزبة.
عند هذا الاحتمال الأخير توقف المأمور وراح مرة أخرى يحدق في الفضاء ويجوبه بعين نصف مغمضة وعين مفتوحة، وفكر قلق مخلخل. هو على يقين قاطع أن الفاعلة منهم كيقينه بيوم القيامة والنفس اللوامة، ولكن هناك احتمالا واهيا بسيطا أن تكون الفاعلة من العزبة، خاصة ومكان الغرابوة نظيف، احتمال تافه قد لا يتعدى واحدا في الألف، ولكنه احتمال والسلام، عليه أن يناقشه. لقد استعرض العزبة من هنيهة وكانت النتيجة براءة نسائها جميعا، ولكن من الجائز أنه سها أو نسي، أو فاتته واحدة تكون هي الجانية. من الجائز جدا.
لم يفطن المأمور - وهو يفكر - إلى اقتراب صالح خولي الزراعة منه، لم يفطن إلا حين أصبحت طاقية صالح الصوف التي يتعمم عليها تحت أنفه تماما، وإلا حين رفع صالح ذيل بصره في نظرة ماكرة مقترحة، وقال في همس مبتسم: ما تكونش نبوية هي اللي عملتها ليه؟
خرجت كلماته هامسة، ولكن همساته سمعها كل المرافقين، وعلت الأصوات تحتج وتؤكد أنهم الغرابوة، وتكاد تحلف على المصحف والربعة وتندد بالاتهام والباعث عليه، وتشرح - في كلمة من هنا وأخرى من هناك - قصة نبوية التي كانت زوجة لعربجي من عربجية التفتيش ومات، وترك لها العربة والحصان وبنتا وولدا. فباعت العربة والحصان وتاجرت بثمنهما في «القوطة» وأفلست، وعملت مقاولة أنفار وخبازة، وخدامة في بيت المأمور السابق، واشتغلت، أخيرا، تاجرة بيض، وربت البنت والولد، بل حتى أرسلت الولد ليتعلم في الكتاب، ولم تفرط في أي منهما، ولكن مسألة تفريطها في نفسها كانت موضع أخذ ورد ومساجلات وتكهنات. ارتفعت الأصوات تندد وتحتج وتراقب أثر الكلام على وجه المأمور، ويبدو أن الواقفين حين لم تبد على ملامحه دلائل الاقتناع بدءوا يتراجعون، وبدأ واحد يقول: لا يعلم الغيب سوى الله يا جماعة.
Unknown page
ورد عليه آخر: الشيطان شاطر.
غير أن نبوية التي تتميز عن نساء العزبة بأرداف وارفة وخلخال فضة سميك يكاد يطبق على نهاية ساقيها المكتنزتين، نبوية هذه لم تلبث أن أخرست كل الألسن حين شاهدها المأمور ومن حوله وقد علقت «السبت» في يدها وراحت تطرق الأبواب وهي في أتم صحة وتسأل عن البيض. استدارت الأنظار حينئذ شامتة إلى صالح تكاد من حدتها أن تخرق طاقيته الصوف وعمامته البيضاء وجلبابه الأسود الثقيل الذي لا يغيره أبدا. وتشاغل صالح عن الأنظار المصوبة إليه بأن مد يده في جيبه وأخرج صندوق سجائره وانتحى مكانا بعيدا - من قبيل التأدب - ومضى يلف سيجارة.
أما المأمور فقد غامت ملامحه لدى رؤية نبوية وأسرع بمغادرة المكان وقد بدأ صدره يضيق، وزعق بصوت مرتفع: الركوبة يا عبد المطلب.
لم يعد ثمة أمل إلا أن يجد الفاعلة بين أنفار الترحيلة الذين يعملون في الغيط.
وجاءت الركوبة بعد قليل، حمار ناعم ممتلئ لا يظهر منه عرقوب، ولا تبدو في بياضه الناصع سوادة واحدة، يرن لجامه إذا ما خطا، وخطوه خطو حصاوي أصيل.
استند المأمور إلى كتف عبد المطلب، وبدفعة قوية من جسده كاد ينخ لها الخفير ارتقى السرح المكسو الأنيق.
وما كاد الحمار يحس باستواء راكبه فوقه حتى نهق نهيقا طويلا فيه كبرياء، ثم اندفع إلى الأمام وانطلق وراءه كل الخولة وبعض التملية وعبد المطلب الخفير والأسطى محمد العجوز. •••
كانت الشمس - إذ ذاك - قد غادرت قمم أشجار الكافور العالية المزروعة كالسور المهيب حول أرض التفتيش، وبدأت تحث الخطا إلى قلب السماء. وكان الطريق الذي سلكه المأمور قفرا ليس على جانبيه شجرة، ولا حتى تنبت فوقه حشيشة، بل مجرد خط ثخين من التراب على يمينه مئات الأفدنة وعلى يساره مئات. وكان الغيط أيضا ساكنا ذلك السكون الأبدي الذي يذكرك دائما بوجوده فيئز ذلك الأزيز المتواصل العنيد. ولم يكن يخدش ذلك السكون سوى دقات أرجل الركوبة الأربع. وهي تدق الأرض واحدة وراء الأخرى، فتكاد تغوص في التراب تثير سحاب الغبار، والغبار ينهال على وجوه اللاهثين خلف المأمور وركوبته، غبار كالذباب لاسع وعنيد وشمس لا ترحم بدأت تشوي رءوسهم وظهورهم، حتى ذيول أثوابهم لم تفلح في منع نارها. أما فكري أفندي فقد وضع منديله أسفل الطربوش محاولا أن يجعل منه قبعة، وكال للركوبة ضربتين بكعب حذائه وأعقبهما بنخزة من طرف خيزرانته المدببة التي وضع في آخرها مسمار صغير معد لهذا الغرض بالذات، نخزة جاءت بين الأكتاف، ولم تكن الركوبة في حاجة إلى ضرب أو نخز فقد كانت منطلقة بكل ما تملك من قوة.
ظل الركب الصغير ينهب أرض المشاية، وهو ومأموره وتابعوه وحتى سحب الغبار التي يثيرها، لا يتعدى مجرد نقطة صغيرة متحركة في ذلك المسطح الشمسي الواسع الذي لا تدرك العين مداه. ظل الركب ماضيا في صمت، الركوبة تلهث والرجال يلهثون والعرق يسيل، حتى عرق فكري أفندي - الوحيد الجالس - كان هو الآخر يسيل. ظل الركب ماضيا هكذا مدة أدرك بعدها الأسطى محمد العجوز - وكأنما فجأة - أن لا ناقة له ولا جمل في الأمر، فكف عن الجري ونفض يده من حكاية اللقيط وجلس على حافة الطريق يكمل لهثه ويستريح. جلس على الحشيش القصير النابت على شاطئ الخليج، وكأنه شجيرة عجوز نبتت بينه فجأة، بل ما لبث أن فعل مثل شجيرات الحشيش الجالس عليه، فكما مدت هي جذورها إلى الماء الجاري في الخليج، مد هو الآخر قدميه وساقيه يبللها بالماء، وكأنما يسقي بهذا روحه التي كاد يقضي عليها لظى الشمس.
أما بقية القافلة فقد مضت في طريقها وكأنما لم تحس بتخلف العجوز وكل منهم مشغول بعرقه وشقاه وحاله.
Unknown page
وما من مرة امتطى فيها فكري أفندي الركوبة وسرح الغيط - وهو كل يوم يمتطي الركوبة ويسرح الغيط - إلا وأحس بمتعة، فالحمار لا يمشي ولكنه يرقص، وكل حركة منه فيها رشاقة الأصيل وكبرياؤه، ولكنه، هذه المرة، كان في شغل شاغل عن متعة الركوب، وحتى عن العرق والحر والرجال الذين يلهثون خلفه بتلك المشكلة التي ولدت له ذلك الصباح، كان عليه - لأول مرة - أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن مهنته كمأمور زراعة، تلك التي كان لا يفكر في غيرها، كان عليه أن يفكر في شيء بعيد كل البعد عن التقاوي والسماد والأرض العطشى والأرض التي حان وقت تسميدها ووجب. أما هذا الشيء الذي كان عليه أن يفكر فيه فهو الترحيلة، لا كما اعتاد أن يفكر فيهم، فالواقع أنه ما تعود أن يفكر فيهم إلا كأنفار، أنفار يلتقطون الدودة ويجمعون القطن ويطهرون المصارف. الشايب فيهم نفر والصغير نفر كلهم أرجل شققها الجوع والحفاء وخشنتها الأرض الصلبة، وأيد معروقة حرقتها الشمس، ووجوه متجهمة لا تعرف حزنها من فرحها ولا رجلها من امرأتها، حتى الملابس لا فرق بين ملابس الكبير أو الصغير، ولا بين جلباب الرجل - وقد حال لونه وتناثرت فيه الخروق - وثوب المرأة الأسود الباهت الذي تنسل الخيوط من كل مكان فيه، بل كثيرا ما يحدث أن يستعير الرجل منهم جلباب امرأته، وتستعير المرأة جلباب زوجها دون أن يلاحظ أحد أي فارق أو مميز.
تعود فكري أفندي أن يراهم هكذا، بل الواقع أنه - بينه وبين نفسه - لم يكن ليتصور أن بين هذا القطيع البشري كله امرأة واحدة! كلهم ترحيلة وغرابوة وأنفار. بل أكثر من هذا لقد افترض أن الفاعلة منهم، قال هذا للناس وذهب بنفسه وبحث خلف الإصطبل، ولكنه كان يفعل هذا وكأنه يفعله من وراء عقله. كان متأكدا أن الفاعلة منهم ومع هذا لم يكن ليصدق أن من الممكن أن توجد بين هذه المجموعة امرأة أو بنت تحمل وتلد، حلالا كان أو لقيطا، لم يكن ليصدق وكأن التي ولدت اللقيط لم تكن امرأة بل كانت رجلا.
هو مضطر إذن - والشمس تلهب رأسه رغم المنديل والطربوش - أن يصدق هذا، وأن يبدأ ينظر إلى الترحيلة من زاوية أخرى. فهم «صحيح» أنفار وغرابوة ولكن بينهم أيضا نساء يحملن ويلدن، بل - أكثر من هذا - يحملن ويلدن في الحرام.
الحقيقة لم يسترح عقل فكري أفندي أبدا لهذا التصور، فقد كان من العسير عليه أن يغير نظرته إلى الترحيلة في لحظة، وكان من الصعب أن يستحيل النفر منهم في خاطره إلى امرأة أو بنت تنام مع الرجل وتحمل وتنجب أطفالا. ولكن فكري أفندي كان من الصنف الذي لم يتعود قلقلة الحقائق في رأسه كثيرا قبل أن يصدقها، فليكن هذا، فلتكن الفاعلة منهم، فعليه أن يعثر عليها ويراها رأى العين ويرى كيف استطاعت أن تفعل هذا. بل لم ينتظر فكري أفندي أن يصل إلى الأنفار، بدأ خياله يسرح ويسبقه، بل ويسبق حادثة اليوم، ويتصور - وثمة لذة خفية تصاحب تصوره - القصة التي انتهت بمشهد ذلك الصباح، راح يتحسس بخياله على القصة في غير قليل من الخجل، وهو مستعد أن يكف عن تصوره في أية لحظة، راح يسبح مع قصة الحب التي لا ريب أنها نشأت بين البنت وأحد فتيان الترحيلة المفتولي العضلات المكشوفي الصدر الملوحي الوجوه، وكيف تسرب إليها ذات ليلة وكان ما كان.
وتعثر الحمار وكاد يقع، ولكنه تمالك نفسه في قوة. وفي نفس الوقت تعثر خيال فكري أفندي السارح في شيء خطر له حالا، فقد أحس باستنكار غاضب يجتاحه، معنى هذا أن الخطيئة ارتكبت فوق أرض التفتيش، وصحيح أنه ليس مالك التفتيش وليس أبدا حامي حمى الفضيلة فيه، ولكن مجرد شعوره بهذا جعله يغضب وينهال على الحمار بالعصا الخيزران ضربا جزاء له على تعثره. ولكنه - وهو في قمة انفعاله - لم يفته أن يلاحظ أن اللقيط الذي عثروا عليه اليوم كامل النمو، والترحيلة لها في التفتيش ما لا يزيد على الشهرين، هنا فقط كف فكري أفندي عن ضرب الحمار ونخزه وأحس براحة داخلية تهب عليه من صدره. الجريمة إذن لم تحدث على أرض التفتيش، فالبنت قد جاءت وهي ليست بخير، ثم لما تكامل الشر في بطنها وضعته هكذا بلا ضوضاء في سكون الليل ودون أن يشعر بها أحد، ثم خنقته حتى دون أن يكون هناك داع لخنقه.
يا لها من عاهرة!
ثم لم تكتف بهذا، وإنما تحاملت على نفسها، وسرحت مع الأنفار - على خيوط الفجر - حتى لا يتسرب إنسان إلى سرها.
يا لها من جبارة!
ولكز فكري أفندي الحمار لكزة قوية وهو يمر بيده ليمسح العرق الذي تكاثر حول فمه وتساقط من طرف أنفه، ويقول في زئير خافت: أعوذ بالله! •••
ارتفع نهيق الركوبة، ولم يكن نهيقها كأي نهيق، كان كل من بالتفتيش يعرفه وتستطيع أذنه أن تميزه من بين أصوات آلاف الحمير، فكلهم يخاف ذلك النهيق ويعمل له ألف حساب.
Unknown page
وهذه المرة أيضا تضايق فكري أفندي واغتاظ، فذلك النهيق كان عيب الركوبة الوحيد في نظره وكأن بينه وبين المقاولين والأنفار والخولة اتفاقا. ما يكاد يخرج للمرور ليفاجئهم - وهم عنه في غفلة - حتى تفاجئه الركوبة وتنهق ذلك النهيق العالي، الذي يصل إلى آخر الدنيا ويوقظ النومى في مضاجعهم، ويجعل كل شيء في الغيط على أتم ما يرام، وعلى استعداد مجهز لاستقباله.
حين ارتفع النهيق كان الركب قد بدأ يدخل في الأرض المزروعة قطنا وقد غادر لتوه غيط القمح. كان الغيط لا آخر له بحيث يبهرك أن تعرف أن شخصا واحدا فقط هو الذي يملكه، وبحيث تود في الحال لو كنت أنت ذلك الشخص. وشكل الغيط المزروع يذكرك حتما بالجنة، فوأنت سائر على المشاية ترى القناة التي بجوارها صحيحا، وترى عيدان القطن بكامل هيئتها ولوزها وأوراقها، ولكن شجيرات القطن لا تلبث - كلما بعدت - أن تتداخل وتتداخل، وإذا بالتربيعة تبدو أمامك مجرد مستطيل أخضر. والأرض مقسمة إلى ترابيع، والترابيع القريبة محدودة المعالم، وبين كل تربيعة وأخرى مصرف صغير، ولكن الترابيع كلما بعدت تختفي المصارف والفواصل حتى لا يعود الإنسان يرى سوى مسطح واسع غير محدود من الظلام الأخضر، الذي يضيئه عدد لا نهاية له من فوانيس أزهار القطن الصفراء.
ومن بعيد لاح خط الأنفار لا تكاد تميزه عن الخضرة المتكاثفة التي يغمق لونها كلما بعدت حتى يستحيل إلى ظلام تام، لا تكاد تميزه إلا بأعمدة الدخان المتصاعدة من الحفر التي يحرقون فيها أوراق القطن المصابة باللطع.
وأرهق الحمار نفسه كثيرا وهو يضم رئتيه لينهق بآخر ما يستطيع، ومع أن فكري أفندي لا يقرأ كثيرا لأن القراءة تتعب عينيه، وعيناه لا تستطيعان تمييز الحروف جيدا مهما قربهما من الأوراق، إلا أنه في الغيط ثاقب النظر كالصقر. وهكذا - ورغم نهيق حماره - استطاع أن يلحظ أن الخولة يقومون فجأة من جلستهم في الظل وراء الأنفار، وترتفع خيزراناتهم في الهواء وتهوي على ظهور الأنفار أو عيدان القطن ضربا وطرقعة، وأصواتهم تأتي صارخة من بعيد: وطي يا وله، وطي يا بنت.
تلك تمثيلية يعرفها فكري أفندي تماما ومل من تكرارها، وما كاد موكبه يهل على «العمل» حتى اندفع أكثر من سائق من سائقي الأنفار يجري «وتلك في رأي فكري أفندي تمثيلية قديمة أخرى» يجري ليفوز بشرف إمساك الركوبة لحضرة المأمور وهو يهبط عنها.
قال فكري أفندي وهو يسحب منديله من تحت الطربوش ويجفف به عرقه وظهره: واد يا عرفة.
وعرفة ريس سواقي الأنفار، أي ريس الترحيلة، وهو الذي فاز بإمساك لجام الحمار هذه المرة، وهو الذي يفوز كل مرة، قال: العواف يا حضرة المأمور.
واحتار المأمور أيرد التحية فيبدو وكأن «البلفة» قد دخلت عليه أم يتجاهلها فيبدو قليل الذوق، وأيضا لم يفعل هذه أو تلك فهو قد جاء لمهمة عليه إنجازها، ولكي تبدو المسألة طبيعية كان عليه أن يسأل عرفة كما يسأله كل مرة: النضافة ازيها؟ - ع السنجة عشرة يا سعادة البيه.
وتجاهل فكري أفندي سروره باللقب وزغر له قائلا: وإن لقيت لطعة؟
فأمال عرفة رأسه ووضع كفه على عنقه وقال: برقبتي.
Unknown page
وقال فكري أفندي بصوت لا يعرف سامعه إن كان جادا أم هازلا: يلعن أبوك على أبو رقبتك.
ولأمر ما كان يخيل لفكري أفندي أن هؤلاء الناس يفرحون حقيقة حين يلعن آباءهم ويشتمهم، بل لا بد أنهم يحسون بنوع من الهيبة والفخر وكأنه يمنحهم رتبا وألقابا؛ إذ هي في عرفهم لا بد آيات ود وصداقة وتنازل - تنازل منه - هو، مالك هذا الملك كله والآمر الناهي فيه. تلك «الأبعادية» أو «التفتيش» أو كما تسمى أحيانا «الدايرة»، أكثر من ألفي فدان من أجود الأطيان بما عليها من ناس وبيوت وماكينات وبهائم ومحاصيل، تحت تصرفه، هو السيد الأعلى لهذا كله، سيد العشرة الخولة والباشكاتب والخمسة الكتبة والأسطوات والخفراء والأجراء والفلاحين والمزارعين. هو الذي يمكنه أن يعز من يشاء ويرفت من يشاء ويحكم بالغرامة على من يشاء. في استطاعته أن ينقل الفلاح من عزبة لعزبة، ويعطيه أو لا يعطيه أرضا يزرعها، بل يستطيع لو شاء أن يطرده نهائيا من التفتيش دون أن يراجعه أحد أو يجرؤ أحد على معارضته، في استطاعته حتى أن يضرب من يشاء بالقلم أو باللكمية أو بالشلوت، بل أحيانا يحبس ويرسل المتهم مخفرا إلى المركز، ولا راد لقضائه، وما يرده الخوف، وهو لا يخاف إلا من اثنين: رئيسه المفتش، وصاحب الأبعادية، والمفتش يأتي للمرور كل شهر والمالك يأتي كل شهرين أو ثلاثة، وباستثناء تلك الساعات القليلة التي يقضيانها في التفتيش فهو دائما مالك هذا الملك كله، ألا تبدو شتيمته حينئذ لنفر من الأنفار أو سائق من السائقين منحة وتنازلا؟
الواقع أن مجرد مرور كل تلك الخواطر في رأس فكري أفندي كاد يثنيه عن عزمه؛ إذ أيصح من رجل هذا شأنه الكبير أن يضيع وقته ويشغل نفسه بمهمة غريبة سخيفة ليست من قيمته كتلك المهمة التي جاء بشأنها؟ ولكنه جاء فعلا، ولن يخسر شيئا، فإن أحدا من الأنفار أو السائقين لا يعلم بالسبب الحقيقي لمجيئه، تردد برهة ولكنه وجد نفسه يقول: الأنفار كلهم موجودون يا عرفة؟
قال عرفة في حماس: بالنفر. - أنت متأكد؟ - علي الحرام بالتلاتة من بيتي كلهم موجودين.
ومع هذا لم يصدق فكري أفندي، فهؤلاء الناس من رأيه يتمتعون بحظ وافر من قلة الدين، والواحد منهم مستعد أن يقسم بالطلاق من أجل أن يكسب تعريفة، وعلى هذا قال: طب عدهم.
وقال عرفة: حاضر، أنا خدام.
ومضى يعدهم بصوت عال مرتفع، وفي أثناء العد لا يفوته أن يري همته وحرصه على مصلحة العمل، فينهال على أي ظهر محني أمامه بخيزرانته الرفيعة في ضربة تمثيلية.
عد الريس عرفة الأنفار مرتين، وفي كل مرة يؤكد للناظر - بلهجة بدأ الشك والخوف يتسربان إليها - أن العدد مضبوط، وأن الأنفار كلهم يمسكون خطوطا ويعملون.
واستغرب فكري أفندي واندهش، كلام الريس صحيح، ولكنه متأكد أن واحدة من هؤلاء الأنفار هي التي ولدت ذلك اللقيط فكيف يتفق هذا مع وجودهم جميعا في ذلك الطابور المنحني الطويل، لا بد إذن أن الفاجرة غصبت على نفسها واشتغلت، ولكنها لن تفلت منه، فمهما بالغت في حرصها فستبدو آثار الولادة حتما عليها، كل ما عليه هو أن يمر عليهم أجمعين ويحاول أن يلتقط الدودة من بينهم، المجرمة التي ولدت في الليل وقضت على ابنها وجاءت هنا تحني ظهرها وتعمل وتتلقى الضربات، وكأنها ليست بشرا، وكأنها جنية من الجنيات أو شيخة من المشايخ.
دخل فكري أفندي في التربيعة أمام صف الأنفار ومضى يقاوم الشمس بعينيه ويتوقف قليلا لدى كل امرأة أو بنت يتأملها، العجوز يتركها والنصف يتوقف لديها، والبنت يطيل في ركنته عندها، ولأول مرة يدقق فكري أفندي في زي الغرابوة وملابسهم، ويعرف أن سراويل نسائهم طويلة جدا تصل إلى الكعبين، وتنتهي بذيل مكشكش، ودائما ألوانها فاقعة.
Unknown page
تعدى فكري أفندي منتصف خط الأنفار دون أن تستوقفه واحدة وكاد الخط ينتهي وهو لا يعثر على ضالته المنشودة، وفجأة لمح شيئا يبعث على الأمل، ظهرا أنثويا منحنيا هو الوحيد البادي عليه أنه ظهر أنثى، رفيع من الوسط ينتهي بردفين عريضين بارزين، ورأس هو الوحيد البادي عليه أنه رأس أنثى، تتعصب بقمطة ملونة تظهر شعرا أسود لامعا غزيرا كشعور النساء.
وقال لنفسه: لا بد أنها هي، وطي يا بنت.
قال الجملة الأخيرة وهو ينهال على الظهر المحني فعلا - ولا حاجة به إلى انحناء آخر - بضربة من خيزرانته، ضربة قاسية قاصمة تأوهت لها المنحنية ولم تتمالك نفسها فاعتدلت لتضع يدها على ظهرها المضروب وقد أفلتت منها شهقة مستغيثة، وحدق المأمور في وجهها المتقبض في ألم.
كان وجهها معافى سليما لا مرض أو ولادة فيه، وعلامات الألم المرتسمة على ملامحها علامات ألم حديث سببته ضربة العصا، ولا يمكن أن تكون علامات ألم بايت سببته ولادة، وانتقل المأمور إلى ظهر آخر، ومن ظهر إلى ظهر مضى يتفقد ويحملق ويتأكد، وانتهى خط الأنفار وغيظ فكري أفندي قد بلغ مداه، فهو قد خرج من استعراضه صفر اليدين وخابت فراسته.
وفجأة وجد فكري أفندي نفسه يهدر في الريس عرفة: طلع العمال من الأرض، وخليهم كلهم يمروا واحد واحد قدامي.
وتجمد عرفة في بله مؤقت، ولم ينطق إلا على أثر شخطة أخرى من المأمور.
وبدا وكأن الأنفار قد فرحوا كثيرا بقرار خروجهم؛ إذ هم على الأقل سيستريحون - ولو لحظات قليلة - من انحناءة ظهورهم العارمة في قسوتها وحدتها، الانحناءة التي تستمر أكثر من عشر ساعات في اليوم، فرحة كبرى أن يستريح منها الإنسان دقيقة.
اعتدل الأنفار ومدوا أيديهم جميعا وبلا استثناء تضغط على أماكن الألم في سلاسلهم الفقرية، وحين أفاقوا من غيبوبة النشوة القصيرة التي اعترتهم وعرفوا بقرار المأمور ابتهجت له النساء والبنات كثيرا، وراحت كل واحدة تمني نفسها بألف ليلة وليلة من الأحلام، معتقدة أن اختيار المأمور حتما سيقع عليها، وستقضي أحلى الساعات وهي تخطر بخفة كخادمة في بيته حاملة الأطباق أو مناولة القلة، حيث الظل الوارف، والجلوس، والطعام الكثير، وحيث لا عصا ولا خيزرانات أو سواقون، أما الرجال فإنهم مضوا غير مبالين كالمحكوم عليهم بسجن طويل.
ومر الأنفار أمام المأمور، وراح فكري أفندي يحملق في الوجوه، الكبيرة والصغيرة، العجوزة والصبية، القبيحة والمليحة، الغبية والمريضة، ويتفرس في الأجساد، الممشوقة والمنحنية، الأجساد التي تعرج والتي تقفز، الجافة والنضرة، الأجساد التي تودع الحياة والتي تستقبلها، ولم يجد أبدا - في جسد من الأجساد ولا في وجه من الوجوه - واحدة من المحتمل أن تكون هي الآثمة الفاعلة.
وهدر فكري أفندي يأمر عرفة بإرجاع الأنفار إلى الأرض ويلعن آباءهم وأباه، بجد وحقد هذه المرة.
Unknown page
وبينما كان يضع قدميه في الركاب ويستعد للقفزة التي تصعده فوق ظهر الركوبة كان يعتصر عقله بين مستحيلين:
فمستحيل أن تكون أم اللقيط من غير الترحيلة.
ومستحيل أن تكون هذه الأم بين الأنفار الذين تفحصهم لتوه. •••
وفي طريق عودته إلى العزبة من نفس المشاية التي جاء عليها كان الأسطى محمد لا يزال - وقد استحلى القعدة - يمد رجليه في الماء ويلعب فيه كالأطفال بقدميه. وحين رأى الموكب هالا من بعيد هب واقفا من جلسته كالملسوع وأسرع ينضم إليه، ولم يكن في حاجة لسؤال ليدرك أن الفشل كان حليف المأمور، كل ما في الأمر أنه ظل ساكتا برهة يلهث مع اللاهثين ويتحاشى سحب الغبار ثم قال بتهتهته العجوزة المتحمسة: اعمل بقى زي ما عمل سيدنا عمر يا حضرة المأمور.
والإنسان في لحظات يأسه يتعلق بالقشاية، وجذب فكري أفندي لجام الركوبة قليلا ليبطئ من ركضها، وحين حاذاه الأسطى محمد سأله: سيدنا عمر عمل إيه يا بو عقل فارغ؟
وقصة طويلة هي التي حكاها الأسطى العجوز، قصة استغرقت كل الطريق إلى العزبة الكبيرة، بدأت بأن سيدنا عمر - رضي الله عنه - كان يتجول في أنحاء المدينة متخفيا ليتفقد شئون الرعية، وفي أثناء تجواله عثر على جثة شاب في ريعان الشباب مقتولا بطعنة خنجر، وحاول سيدنا عمر أن يعثر على قاتله بلا جدوى، وأخيرا - وحين يئس - قال له شيخ حكيم: إذا أردت العثور على القاتل فانتظر تسعة أشهر وسوف تجده بين يديك. ولم يأخذ سيدنا عمر كلام الشيخ على محمل جاد، ولكن بعد تسعة أشهر بالضبط سرت شائعة في المدينة تقول: إن بنت فلان قد وضعت طفلا دون أن تتزوج أو يقربها إنس. وحينئذ قال الشيخ العجوز لسيدنا عمر: هاك القاتلة، التي ولدت حتما هي التي قتلت. قال سيدنا عمر: كيف؟ قال الشيخ: لا بد أن الشاب اعتدى عليها فقتلته.
ومع أن الحكاية أعجبت فكري أفندي وكادت تخفف من غلوائه إلا أنها لم يكن لها دخل فيما هو فيه. مجرد حكاية أخرى من حكايات الأسطى محمد الكثير الحكاوي الذي يؤلف لكل شيء حكاية، وكأن مشاكل الدنيا تحلها الحواديت.
كل الذي حدث أنه كان قد يئس تماما من إشباع حب استطلاعه والعثور على أم اللقيط، وصمم أن يلقي الأمر من وراء اهتمامه ويبلغ المركز والمركز يتصرف كما يحلو له. وزيادة في الاحتياط أملى على مسيحة أفندي الباشكاتب صيغة البلاغ، وراعى في اختيار كلماته كل الدقة حتى يخلي طرفه وطرف التفتيش من أية مسئولية.
وجاء البوليس.
وجاءت النيابة.
Unknown page
وجاء مفتش الصحة.
وأخليت لهم مباني الإدارة، واحتل وكيل النيابة حجرة المأمور، وتناثر عساكر البوليس يشربون الجوزة ويحتسون الشاي حول المبنى ووقف مخبر مكشوف يتلكأ عند دكان جنيدي، أما سكان العزبة فقد وقفوا من بعيد يرقبون ما يحدث، ويلقون الإشاعات ويتهامسون.
أما فكري أفندي المأمور فقد كان مشغولا حقا، ذلك أنه رأى أن ينتهز الفرصة ويعد لرجال الأمر والنهي في المركز وليمة حافلة فمصالحه عندهم كثيرة وما أقل ما يأتون إلى التفتيش؛ وعلى هذا قطع المسافة بين بيته عند رأس العزبة الكبيرة وبين مباني الإدارة عشرات المرات يشرف بنفسه على الديك الرومي ويتذوق الخبز الذي أعد في بيته خصوصا للعزومة، وكان أهالي العزبة حين يرمقونه في انبهار وهو داخل أو خارج من مبنى الإدارة يشعر هو بسعادة لا حد لها؛ إذ هو الوحيد - بينهم جميعا - الذي له حق الكلام مع المأمور والبيه الوكيل والسلام على مفتش الصحة.
وابتدأ التحقيق.
وجيء بكل امرأة وبنت من نساء الترحيلة بعد لكزها مرات لكي تخاف وتعترف، وجيء كذلك بنبوية وهي متعلقة بسبت البيض لا تريد تركه وفيه - كما تقول - رسمالها، وسئل عبد المطلب الخفير والأسطى محمد.
وانتهى التحقيق وثبت أن اللقيط مخنوق، وقيدت الجريمة ضد مجهول، وصرحت النيابة بدفن الجثة الصغيرة في جبانة التفتيش، وتطوع عبد المطلب بتكفينه وتجهيزه ودفنه.
وأكل رجال الأمر والنهي الغداء وقالوا سلاما.
وانتهى اليوم. •••
انتهى اليوم ليسلم التفتيش - إدارة وفلاحين وموظفين - إلى حيرة عظمى، فهم ما إن عرفوا حكاية اللقيط حتى أراحوا أنفسهم وقالوا: الترحيلة. ولكن ها هي ذي الحقائق تثبت لهم أن الترحيلة بريئة، وأن الفاعلة ليست منهم. حتى فكري أفندي المأمور الذي كان مصرا على أن الفاعلة واحدة من الترحيلة بدأ الشك يتسرب إلى إصراره، ومع هذا فكلما رأى أنفارهم سارحين إلى الغيط أو مروحين، رغما عنه تروح عينه تبحث بلا وعي عن النساء في الأنفار عله يلمح على إحداهن فجأة علامات الفجر والحرام. وكان أول الأمر يمتعض ويجفل ولكنه بمضي الأيام أصبحت نوازع غريبة تتحرك فيه كلما رأى بنتا أو امرأة من بنات الترحيلة، بل وجد نفسه - ذات مرة - يمزح مع واحدة منهن، ومرة ادعى لنفسه وللناس أنه يزغد بنتا في صدرها ليزجرها، وارتطمت يده طبعا بثديها، وروع قليلا حين وجده بكرا مكتنزا جامدا كالكرة الشراب.
أما البنت فقد دهش حين رأى وجهها يبهت فجأة وكأنما سحبت منه كل دمائه، ثم يغمق لونه في التو وتحمر وجنتاها وتجفل وكأنها خجلت وغضبت، يا ألطاف الله! أممكن أن نساء الترحيلة تخجل وتغضب هي الأخرى كبقية خلق الله؟
Unknown page
أما بقية الناس في التفتيش فالمسألة لم تمر هكذا بسهولة، وكأنك ألقيت بحجر ضخم في ماء راكد آسن. بدأت الاتهامات والشكوك تنهال من كل صوب، حتى لم تسلم واحدة من نساء العزبة الكبيرة من الشك في أمرها مع علمهم التام أنهن جميعا بريئات، ولكن لا بد لكل خطيئة من خاطئة، ولكل جريمة من فاعل، ولا بد أن يكون لتلك الجريمة فاعلة، والجريمة عرفوها، ترى من تكون الفاعلة؟
بل أكثر من هذا بدأ الشك يزحف من بيوت الفلاحين المنخفضة إلى بيوت الموظفين العالية، فبدأ الفأر يلعب في عب مسيحة أفندي الباشكاتب، وبدأ يخاف أن يكون المحظور قد وقع، والحقيقة أنه كان خائفا دائما أن يقع المحظور، بل أكثر من هذا هو دائم الخوف من المحظور وغير المحظور.
مسيحة أفندي أرسخ الموظفين جميعا أقداما في التفتيش؛ إذ هو قد تربى فيه من أيام البرنسيسة، وتدرج من نفر بالأجرة يرسله أبوه ليتعلم مبادئ الحساب والقراءة والكتابة عند المعلم قيصر الباشكاتب القديم، كاهن الحسابات الأكبر الذي يعرف أسرارها وعلمها، يرسله أبوه حيث يجلس تحت قدمي المعلم قيصر في وجل وتقدير، منتظرا - كالكلب الأمين - أن يلقي إليه معلمه بين الحين والحين بحسبة من الحسب، فيتلقفها مسيحة الفتى واجف القلب خائفا خوف الموت أن يخطئ في حلها، فيغضب منه الباشكاتب ويضن عليه بأسرار الحرفة. ومن أجل هذا فهو الأطوع له من بنانه، يخدم في منزله ويذهب إلى البندر البعيد ويشتري حاجياته ويحافظ على زجاجة الزبيب أكثر من محافظته على عينه، وإذا ما همهم المعلم قيصر لينطق تفتحت أذناه كلتاهما لكلامه، وإذا ما تكلم لا يصغي إليه وإنما الأدق أنه يمد أصابع نهمة من أذنيه ليلتقط كل كلمة تخرج من فمه ويدسها في رأسه بسرعة مخافة أن تضيع أو تتبدد؛ إذ من حساباته وكلماته سينتقل مسيحة من طبقة إلى طبقة، ومن فتى مآله الزراعة والعمل بالفأس حتما إلى أفندي يجلس على مكتب ويعمل بذلك الشيء الصغير الساحر: القلم.
كل كلمة يقولها المعلم قيصر كانت تثبت في عقله ويتشبع بها كالصبغة الأصلية التي لا تبهت، كل كلمة حتى النوادر التي يحكيها، وأهم نادرة تلك التي حكاها له المرحوم ذات مساء فأصبحت بوصلة حياته.
قال المعلم قيصر: الاتنين في اتنين بكام يا بني يا مسيحة؟
فأجاب مسيحة كالتلميذ الشاطر: بأربعة يا معلمي.
ولدهشته أجابه المعلم: آه، عمرك ما ح تبقى باشكاتب يا مسيحة.
فحزن مسيحة جدا، وسأل معلمه عن سبب هذا وهو مغموم فقال له المعلم تلك الحكاية: أراد أحد أصحاب الأرض أن يعين كاتبا عنده فأعلن هذا للناس، وصار يأتيه طلاب الوظيفة من مشارق الدنيا ومغاربها ويقابلهم واحدا واحدا. وكان لا يسألهم أبدا عن مؤهلاتهم أو أسمائهم أو الأماكن التي عملوا فيها، كان فقط يسأل الواحد منهم ذلك السؤال الذي سأله إياه: الاتنين في اتنين بكام؟
وكلما سأل أحدهم ذلك السؤال وقال له على الفور: أربعة، كان يقول له: اتفضل من غير مطرود. ظل هذا يحدث إلى أن دخل عليه رجل كبير في السن يحمل تحت إبطه دفترا وفي يده جراب فيه دواية حبر وريشة كما كانت العادة في الكتبة أيام زمان. وحين أصبح الرجل أمام صاحب الأرض سأله السؤال المعتاد: الاتنين في اتنين بكام؟
فقال له الرجل: الاتنين في اتنين؟
Unknown page
قال: نعم.
قال له: استنى يا سيدي علي، أيوه أقول لحضرتك.
وجلس ، وفتح الدفتر الذي معه وأخرج الدواية والريشة وكتب على الورقة أمامه: اتنين في اتنين يساوي أربعة.
ثم قال لصاحب الأرض: أيوه يا سيدي، الاتنين في اتنين بأربعة ما عدا السهو والخطأ.
حينئذ قال صاحب الأرض: بس، أنت اللي تاخد الوظيفة، مبروكة عليك.
الحرص والحذر وعدم ترك الشيء للصدف ذلك ما علمه إياه المعلم قيصر قدست روحه، وذلك ما جعله يخلفه في وظيفته حين مات، وما جعله يعمل في التفتيش أكثر من أربعين عاما ماضيا على تلك القاعدة بلا سهو أو خطأ، يقبل عليه مآمير ومفتشون ويذهبون وتباع الأرض وتشترى وهو وحده الثابت الخالد، قابعا وراء مكتبه الضخم وعلى يمينه أكوام الدفاتر أقل دفتر منها يزن عشرة كيلو جرامات، وعلى يساره أكوام. وهو العالم الخبير بكل أحوال التفتيش وتاريخه، يعرف كل فلاح بالاسم والأب والأم، ويتذكر السلفة التي أخذها فلان حتى قبل أن يفتح الدفتر، يعامل الفلاحين - رغم عشرته الطويلة لهم - بأبلغ الحذر ويختلط بهم ويضحك معهم ويستشيرونه في أحوالهم وأخص خصائصهم، ولكنه دائما مسيحة أفندي الباشكاتب.
واللقيط جعل الفأر يلعب في عبه لأنه أدرى الناس بالإشاعات التي تروج في التفتيش وخاصة تلك التي تروج عنه وعن عائلته. ومسيحة أفندي كان له ثلاثة أولاد: اثنان منهم في ثانوي والثالث الأكبر أخرجه من المدارس وسعى حتى جعله كاتبا في عزبة قريبة. وكانت له ابنة واحدة جعلها تأخذ الابتدائية ثم أقعدها في البيت تنتظر العريس، والعرسان قليلون؛ إذ من أين يعلم العرسان بهذه الغادة الجالسة تنتظرهم في ذلك المكان النائي الكائن على شمال الدنيا؟ وحتى كونها أجمل بنت في التفتيش لم يشفع لها. فبالمقارنة إلى بنات الفلاحين كانت لنده بيضاء كالقطن المندوف. لونها وحده كان كافيا ليجعلها ملكة جمال، مع أنها كانت حين تسافر إلى أقاربها في شبرا مصر مع أمها كانت الأم تسمع بأذنها همسات قريباتها والجارات بأن أنفها كبير وفمها أوسع قليلا مما يجب، وقدها غير ممشوق وشعرها خشن أكرت.
ولكن هذا يحدث في شبرا مصر، أما في التفتيش فهي الجميلة بلا منازع، الجميلة إلى الدرجة التي كان الشاب من شباب الفلاحين يدق قلبه بالانفعال حين يلمحها من بعيد تطل من شباك بيتهم، أو تتمشى مع عائلتها وعائلة المأمور على الترعة.
والمشكلة في عائلة المأمور هذه؛ فزوجته الست أم صفوت فلاحة، أو هكذا تبدو حين تتحدث مع الست عفيفة زوجة الباشكاتب التي تربت في مصر وتعلمت وتمدينت. ولأن الست أم صفوت كانت زوجة الرئيس فقد كانت الست عفيفة على الدوام تحرجها وتظهر لها مدى فلحها وجهلها، وتفعل هذا بلباقة شبرا وحذر زوجها مسيحة. وكانت أم صفوت تغضب وتركب - حينئذ - رأسها وتتحدى وتقضي الساعات الطوال تلعن عفيفة أمام نساء الفلاحين وتنال منها. والمشكلة أيضا ليست في المأمور وعائلته، المشكلة في ابنه الوحيد صفوت، كان في العشرين من عمره راسبا لثالث مرة في التوجيهية مدللا من أبيه وأمه والفلاحين وكل قاطن في التفتيش. طوال النهار معلقا البندقية الخرطوش في كتفه، مرتديا جلبابا بلديا أبيض مثل الجلاليب التي يرتديها الفلاحون كنوع من العياقة، وبرنيطة صفراء ومنظارا أسود ومنقبا عن اليمام يصطاده، ولا يحلو له إلا صيد اليمام. وكان لا يحلو له الصيد إلا على الترعة المارة من أمام بيت الباشكاتب. والعلة يعرفها الجميع، فمن أعوام مضت والناس تتحدث عن الصائد واليمام، وعن سي صفوت والست لنده، والغرام المشبوب الذي تحده الترعة، ويحده عدم وجود الفرصة واختلاف الدين ويحتبس في صدر صفوت، وينغلق عليه صدر لنده بالذات، ولكنه أحيانا يطل بذراعها حين ترتفع وكأنها تمسك حديد النافذة، ويعني ارتفاعها تحية مستخفية خجلة بصورة يقولون: إن لنده تحتفظ بها في ذلك القلب الذهبي الذي يتدلى من عنقها المرمري الأبيض بخطابات يقولون إنها تتبادل عن طريق محبوب، ومحبوب هو بوسطجي التفتيش؛ إذ لم يكن للتفتيش مكتب بريد، محبوب هو الذي يذهب إلى محطة قطار الدلتا الكائن عند أول التفتيش، وحين يجيء القطار الصغير المتدحرج يتشعبط هو في النافذة المخصصة للبريد ويعطي للمستخدم ما معه من خطابات مصلحية وأهلية ويتسلم منه الوارد من الخطابات، وكان محبوب قصيرا جدا ، لا يكاد يبلغ طوله طول الأطفال؛ ولعله لهذا كان يسبق الناس ولا يمل من التنكيت على نفسه. كان صغيرا وملامحه صغيرة وساقه كانت لا تتعدى الشبر، وفي نفس الوقت أغرب بوسطجي؛ إذ لم يكن يعرف القراءة أو الكتابة ومع هذا ومن قلة أولئك الذين يأتي لهم خطابات في التفتيش كان يعرف بطول المران الخطاب القادم من المنصورة للمأمور، من ذلك المكتوب بالقلم الكوبيا وبخط مائل القادم من الجعفرية من قريب الشيخ شعبان له.
وهكذا كان محبوب يوزع خطاباته، يعطي لمسيحة أفندي الخطابات المصلحية ويوزع البقية على أصحابها دون أن يخطئ في شخص أو عنوان، حتى الحقيبة التي كان يحمل فيها الخطابات كانت صغيرة جلدها كالح مجعد، كجلد وجهه. ومحبوب كان متزوجا من زكية، واحدة من أضخم وأطول نساء التفتيش، وكان الرجال حين لا يجدون شيئا يفعلونه يكتفون محبوبا ويحاولون إجباره على أن يعترف لهم كيف ينام معها، ومحبوب يستغيث والرجال يضحكون لاستغاثته واعترافاته. وأغرب شيء أن زكية كانت - على عكس زوجها - تجيد القراءة والكتابة، حتى إنها الوحيدة من بين نساء التفتيش التي كانت تستطيع قراءة الجرنال، والجرنال الوحيد الذي كان يأتي إلى التفتيش كان هو المقطم. ولا يدري أحد لم المقطم بالذات؟ ربما لأن الإدارة في مصر هي المشتركة فيه وهي التي تختار، وربما لأن المقطم كان يهتم بنشر الأخبار الزراعية أكثر من غيره، وربما لأن أصحابه كانوا هم الآخرين خواجات.
Unknown page
وكانت زكية مدمنة قراءة الجرنال، حتى إنها كانت تعترض طريق زوجها وهو قادم من المحطة وتنزله من فوق الحمار بالقوة وتغتصب منه الجرنال، ولا تعطيه إياه إلا بعد فراغها تماما منه. ومحبوب واقف عاجز يخاف منها أكثر مما يخاف لو تأخر عن المأمور، فهو يستطيع إلقاء عبء التأخير على قطار الدلتا الذي ليس له مواعيد، أما زكية فأنى له أمامها بالقدرة على اختلاق المعاذير، والعزبة التي يسكن وإياها فيها تقع قبل العزبة الكبيرة حيث الإدارة، وهي على الدوام تنتظره وتقطع عليه الطريق؟
كانوا يقولون: إن الخطابات يتبادلها صفوت ولنده عن طريق محبوب، تعطيه لنده الخطاب وبدلا من أن يذهب به لقطار الدلتا يهرول به إلى حيث طلقات بندقية صفوت ولو كانت تدوي عند آخر التفتيش، وله الحلاوة واليمام والبقشيش.
كان خبر هذا كله عند مسيحة أفندي، وكم من مرة أوقف محبوبا وفتشه مدعيا أنه يبحث عن خطاب، وكل مرة لا يجد شيئا في حقيبة محبوب، ولا حتى في جيوبه حين يصر على تفتيش الجيوب.
واليوم - وبعد هذا الحادث الغريب - لعب الفأر في عب مسيحة أفندي، ولم يكن وقت انصرافه من المكتب قد حان مع أنه ليست هناك ساعات عمل محدودة، إلا أنه تعود أن يبقى في المكتب إلى وقت الغداء، ولكنه يومها قام وغادر المكتب والإدارة وعبر القنطرة الحجرية وتوجه إلى بيته القائم على رأس العزبة يتلقى تحيات الفلاحين بغمغمة لا يفتح فيها فمه. ومع هذا، وفيما هو فيه لا ينسى أن يضم ذيل جلبابه ويرفعه مخافة أن تعلق قذارات الطريق. كان في زيه الدائم: الجلباب الإفرنجي الأبيض الذي ليس له ياقة، والبالطو الأبيض والطربوش، جميعها بيضاء ولكنك لا تلمح فيها بقعة. كثيرا ما عيرت أم صفوت زوجها المأمور حين يأتي لها ببنطلونه الأصفر متسخا حاملا في ثنية ذيله الطين والحصى والتراب، تعيره وتقول له إنه لا يساوي قلامة ظفر مسيحة أفندي الذي ما رأته أبدا وعلى ملابسه ذرة تراب، بل تبلغ بمسيحة أفندي شدة حرصه على ملابسه أنه حين يسافر ويضطر اضطرارا إلى ارتداء البدلة الوحيدة التي يملكها، والتي تبدو على الدوام جديدة وكأنها بنت العام مع أن عمرها لا يقل عن العشرة الأعوام بأي حال، يبلغ حرصه درجة أن يضع منديلين حول ياقتها مخافة أن يتسرب عرق قفاه إليها إذا اكتفى بوضع منديل واحد.
بقامة قصيرة منحنية، وبوجه شاحب (إذ هو الوحيد بين سكان التفتيش الذي يعمل معظم نهاره في ظل المكتب)، وبذقن خضراء كثة، وبملابس ملمومة نظيفة ارتقى مسيحة أفندي الدرجات القلائل التي تؤدي إلى باب بيته، والباب مفتوح فلا تغلق أبواب الدور في الأرياف إلا لماما، ودخل. وكان لمسيحة أفندي ضجة دخول معتادة ما إن يطأ عتبة الباب حتى يبدأ أسئلته واستفساراته وتعليقاته، هيه، إنتو فين؟ بتعملوا إيه؟ بعت لكم الواد بالخضار، واتأخرتم في الغدا ليه؟ اللحمة كانت عجوزة ولا إيه؟ دي كويسة، وانتي مالك يا لنده، ضرسك تاعبك ولا إيه؟
يقول هذا وهو يهز رأسه هزات من يبحث بأنفه عن شيء، وينقب بعينيه الرماديتين عما خلف كل شيء. ولكنه هذه المرة دخل صامتا واجما. وفي الصالة المضيئة - أكثر من اللازم - كانت عفيفة زوجته جالسة أمام طبلية صغيرة ومعها أم إبراهيم زوجة فقي التفتيش، ودميان سلفها أخو مسيحة أفندي، وكان الثلاثة يصنعون «شعرية»، ودميان يمسك العجينة ويفتلها بيد وبيده الأخرى كان يقرأ الفنجال لأم إبراهيم ويقول لها: ح تشوفي خير بعد نقطتين. قولي يا رب.
وكاد مسيحة أفندي ينهر أخاه، ولم تكن هذه أيضا عادته، فهو يعرف - مثلما يعرف كل الناس - أن أخاه معتوه، وأن عقله يبدو أنه قد كف عن النمو مذ كان طفلا، فأصبح له جسد رجل قصير كأخيه في الخامسة والثلاثين، وعقل طفل في العاشرة، وذقن سوداء كثة كفرشة الملابس لا يحلقها إلا كل حين وحين. جلبابه الكزمير لم يتغير أبدا، وطاقيته ذات الحائط والمصنوعة من نفس قماش الجلباب على رأسه عمره ما خلعها، وعمله الخدمة في بيت أخيه، ينظف النحاس ويقيس الدواجن، ويعلم أرجل الكتاكيت حتى لا تتوه مع كتاكيت الجيران، ويغسل الملابس، ويحضر الطلبات من الدكان، ويرعى الأولاد ويمسح أحذيتهم، ويفعل هذا كله وهو يحيا في ملكوت طفولي من صنعه، يقابلك في منتصف الطريق فتقول له: إزيك يا خواجة دميان؟ فيوقفك قائلا: الله يسلمك، ثم يرفع وجهه إلى السماء وكأنه يقرأ ما كتب لك، ويبلل سبابته وإبهامه بلعابه ويضعهما فوق ظهر يده اليسرى، ثم يرفعهما ويقول لك: إن شاء الله سعيد. لعبة كبيرة للأطفال، ولعبة صغيرة للرجال، ولعبة رجالي للنساء، وكل ما كان يهم النساء، وأحيانا، هو هل دميان ينفع النساء أم لا ينفعهن؟ بعضهن يقلن إن الست عفيفة لا تستخبى عليه وتعامله كصبي حريم. وبعضهم يقول: لا، إن ذقنه الكثة السوداء خير دليل على رجولته. ويسألونه: لماذا لم تتزوج يا دميان؟ فيضحك ضحكته الغريبة التي تبدو وكأن رجلا يحاول أن يقلد ضحكة الأطفال ويقول: إلهي ربنا يخليك. حتى لقد بلغ العبث به إلى حد أن بعضهم كان يطلب منه أن يسلم، فكان يقول لهم: أنا مسلم وموحد بالله، ويقرأ الفاتحة وآية الكرسي، ورغم هذا فقد كان هناك رأي يقول إن دميان خبيث ولكنه يستعبط. المحرج في الأمر أن دميان كان شقيق مسيحة أفندي الباشكاتب، وأن تسخر من شقيق الباشكاتب أمر محرج، أو أحيانا أمر مبهج، وكأن الفلاحين يبهجهم أنهم يستطيعون أن يسخروا من الإدارة في مواجهتها حين يسخرون بدميان.
عسعس مسيحة أفندي بعينيه في الصالة والحجرة القريبة المفتوحة، ولكنه لم يلمح لنده. وأخيرا - وحين لم يجد بدا - سأل عنها زوجته، فقالت له: تعبانة شوية، وهب فيها مسيحة أفندي وكأنه فوجئ: تعبانة ليه؟ ما لها؟ وما قولتليش ليه؟ دي نسوان إيه دي؟! وهي فين؟
قالت له عفيفة: إنها راقدة على فراشهما، وبخطواته المتدحرجة وصل مسيحة أفندي إلى حجرة النوم. حجرة نوم عتيقة بالية بالغة القدم، نفس «جهاز» عفيفة الذي دخلت به من أعوام كثيرة مضت. الدولاب بلا ضلف، والسرير جددت ألواحه مرات، وعمدانه عليها بيض ذباب أسود متجمد، والناموسية معلقة من ثلاث نواح فقط والرابعة مقطوعة. كانت الناموسية مسدلة، وحتى قبل أن يرفعها قال - والفأر قد بدأ يزداد لعبا في عبه: ما لك يا لنده؟
ووجدها نائمة وحسب أنها تتناوم وازداد قلبه اضطرابا، ورفع الناموسية وواجهها. كان شعرها الأصفر المجعد الذي ما رآه أحد إلا مرتبا وأنيقا ومعتنى به، وكأنما تدرك صاحبته بغريزتها خشونته فتحاول باستمرار أن تجعله يبدو حريريا ناعما. كان شعرها منكوشا وخصل منه تغطي جبهتها، وعيناها منتفختان قليلا وكأنما انتهت صاحبتهما من نوبة بكاء.
Unknown page
سألها أبوها عما بها فقالت له: عندي مغص، ولأمر ما، ربما من الطريقة التي قالتها بها، ربما من مرآها بشعرها هذا وعينيها المنتفختي الجفون، لأمر ما أحس مسيحة أفندي - فجأة وبشكل قاطع - أن بنته لنده هذه لا بد أن تكون هي التي ارتكبت جريمة الصباح. إحساس دفعه لأن يتوقف عن استرساله في الكلام، ويحدق فيها وكأنما يراها وكأنها ليست ابنته، وكأنها أنثى داعرة، لأول مرة في حياته، وبين شكه في هذا ويقينه من أنها ابنته، راح مسيحة أفندي يمسحها بعينيه الضيقتين ويتحسس يدها وبطنها مدعيا أنه يسألها عما بها، وبطنها بالذات، لم تكن له ليونة بطون الوالدات ولكنه كان يوجعها.
الشك لم يكن مسيحة أفندي قد أحسه أبدا إلا تجاه الآخرين، تجاه الفلاحين والمآمير والإدارة وكل الناس. لم يكن أبدا قد أحسه تجاه نفسه أو من هم في حكم نفسه، تجاه عائلته، تجاه ابنته لنده بالذات. حياتها علنية أمامه وأمام أمها وأمام الناس، وحتى إشاعة رسائل العيون والنظرات والإشارات بينها وبين صفوت تكاد تكون علنية هي الأخرى، وحياتها العلنية هذه هي كل حياتها، فهل من الممكن أن تكون لها حياة أخرى، حياة تزاولها مع صفوت ابن المأمور في الظلام؟ ليت الأمر جاء على شكل أسئلة حيرى تريد الإجابة. الأمر جاء على شكل حمى داخلية اجتاحت مسيحة أفندي دون أن يكون في استطاعته النطق أو التنفيس. لنده مغصها قد يكون حقيقيا وقد يكون حجة وستارا، وزوجته عفيفة قد تكون - على عهده بها - كثيرة الرغي واللت والتعليق، ولكنها رفيقة عمره الوفية الأمينة، وقد لا تكون كذلك، قد تكون هي المتسترة على بنتها، بل وما أدراه أنها لا تتستر أيضا على نفسها؟
لم يعد في وسع مسيحة أفندي أن يبقى بالحجرة، فقد أحس أنه يختنق وأن ليس باستطاعته الكلام. غادرها إلى الصالة حيث الشعرية والمجتمعون حولها، رأته عفيفة متغير السحنة فسألته عما به، وهمهم وغمغم ولم تفهم مما قاله حرفا. نادى على دميان أن يتبعه وغادر البيت وتلكأ ليلحقه، وشهد جسر الترعة الممتد أمام البيت أغرب حوار يدور بين الأخوين. الدنيا حارة لافحة، والشمس في كبد السماء تتوهج ملايين أفرانها وترسل على الكون حممها، ومسيحة أفندي سائر وبجواره دميان يحاول - لأول مرة في حياته - أن يحدثه حديثا جديا، حديث الأخ لأخيه، يحاول أن يسأله إن كان قد لاحظ شيئا أو فطن إلى شيء، يسأله عن صفوت ولنده، والحرام والحلال، ودميان سادر في رواية غريبة عن دجاجة كل يوم يقيسها فيجد فيها بيضة، ولكنها لا تبيضها، مؤكدا أن البيضة لا بد فيها سر، وقد تكون مفتاح كنز ما خائف إن هم ذبحوا الدجاجة أن يذهب ما فيها من كنز وسر، وإن هموا تركوها أن يسرقها الجيران.
وأخيرا لم يعد مسيحة يحتمل، زجره بعنف وسبه وتركه ومضى، ووقف دميان حائرا لبعض الوقت وقد توقف عن استرساله، ثم ما لبث أن أدرك أن أخاه سبه وشتمه، ويبدو أن تلك أول مرة كان يحدث فيها هذا؛ إذ ما لبث أن راح يبكي وقد خلع طاقيته يجفف بها دموعه، وبدت رأسه صلعاء تقدح شررا تحت الشمس. •••
في نفس ذلك الوقت كان صفوت ابن المأمور متكئا في شبه غيبوبة على مسند الكنبة الوحيدة في بيت أحمد سلطان كاتب الأنفار في التفتيش، وتلك كانت جلسة صفوت المختارة، حين ينتهي أحمد من عمله ويئوب إلى بيته، فيضطجع الاثنان أحيانا حول «الجوزة»، وأحيانا حول امرأة وأحيانا حول فنجال. أحمد سلطان هو الأعزب الوحيد بين موظفي التفتيش، وهو أيضا الوحيد الذي يقطن بمفرده في بيته الملاصق لبيت مسيحة أفندي. ومن بين الموظفين جميعا فإن أحمد سلطان هو الوحيد القريب إلى قلب صفوت. كان شابا مثله، وأهم من هذا كان أكبر منه في السن والتجربة والمعرفة الأكيدة. لم تكن صداقة بالمعنى المفهوم هي التي تجمعهما، فأحمد سلطان في معاملته لصفوت لا ينسى أبدا أنه ابن المأمور رئيسه ورئيس التفتيش، وفي معاملة صفوت لأحمد حد معين من التحفظ. فأحمد هذا لا يجيد القراءة والكتابة والله أعلم كيف وصل إلى وظيفته تلك، شتان بينه وبين صفوت الذي يستعد لدخول الجامعة وإكمال تعليمه في القاهرة. ولكن - مع كل هذه الاعتبارات - فتآلفهما مضرب الأمثال، وأيضا مبعث شقاء فكري أفندي المأمور الذي كان لا يطمئن أبدا إلى أحمد سلطان، ولم يفلح زجره ولا حتى الشجار العنيف في فصم هذه العلاقة.
كان صفوت متكئا على مسند الكنبة يتبادل هو وأحمد سلطان سيجارة ملغمة، يتناوبان أخذ أنفاسها وهما حريصان في نفس الوقت على إبقاء طفيتها عالقة بالسيجارة، وكأنما لو وقعت الطفية ذهب المزاج. وكان ثمة حديث يدور، وأهم خبر في ذلك اليوم كان هو حادث اللقيط، وطبعا كان الحديث يدور حوله.
والواقع أن ما كان يدور لم يكن حديثا بالمعنى المفهوم. كان صفوت في قمة انفعاله لمعرفة علاقة أحمد سلطان باللقيط، وكأن قد ثبت لديه - بطريقة قاطعة - أن بينهما علاقة ولم يبق إلا أن يعرف كنهها. ولكنه كان لا يريد أن يبدو في عين أحمد سلطان كالطفل المحب للاستطلاع، كان يريد أن يجعله يعتقد أن أسئلته إنما هي أسئلة رجل مجرب لرجل مجرب. ولعل هذا هو السبب في طريقة جلوسه على الكنبة حيث كعى كعية رجل مجرب ذكي خبير، ولعله أيضا السبب في تلك الابتسامة التي قصد منها أن يقول لمحدثه: أنا كاشفك قوي! بل حتى مداعبة شاربه، الشارب الباهت الذي لم يتعد عمره العام الواحد، والذي تعمد صاحبه أن يحيطه بالرعاية وينميه لكي يبدو ابن أعوام. حتى مداعبة الشارب كانت تتم بروية وكأنها مداعبة كبير لشاربه الكبير.
وكان أحمد سلطان ينصت وابتسامة كبيرة لا تغادر ملامحه. ابتسامة كان صفوت يحس أمامها دائما أنه مهما قال وتحدث عن مغامراته فهو صغير، مجرد تلميذ خائب في مدرسة أحمد سلطان ناظرها. ابتسامة يظن صفوت أنها ابتسامة تهكم وسخرية، مع أنها قد لا تكون كذلك.
ظل صفوت يتحدث وأحمد سلطان ينصت، وأخيرا بدا أن صفوت قد كف عن إخراج كل ما في جرابه وأفلس، فقال لأحمد: أبو حميد، بذمتك ابن مين ده؟
هنا قهقه أحمد سلطان، واحدة من قهقهاته العاليات التي كانت تسمع في بيت مسيحة أفندي، وكلما سمعها مسيحة - تخترق الجدران وتصل إلى آذانه وتكاد تخرقها - اشمأنط، ولوى بوزه، وأفلتت من فمه كلمة سباب. ولأمر ما لم يطمئن صفوت لقهقهة سلطان، وحسبها أنها قهقهة تهكم هي الأخرى، ولعل هذا هو السبب في أنه استطرد قائلا: تعرف إنك غويط قوي، كده ولا لأ؟
Unknown page
وقال أحمد - وقد آبت قهقهته إلى ابتسام: ليه؟
ومضى صفوت يشرح له لماذا هو خبيث وغويط، وكيف يستحل لنفسه أن يقوم بمغامرات أخرى - لا يعرفها صفوت ولا تصل إلى علمه - مع أنهما في الخير والشر سواء.
وحاول أحمد أن يغير الموضوع ويسأل صفوت عن آخر أخباره مع لنده. والحقيقة أن ذلك الموضوع كان هو موضوع صفوت المفضل لا يمل الحديث عنه، ولا تخلو جلسة مع أحمد سلطان منه. فعلى الرغم من كل شيء، على الرغم من بندقية الصيد المعلقة في كتفه ومغامراته في القاهرة وعاصمة المديرية، وعلاقاته الطياري مع بعض نساء التفتيش وبناته، فقد كانت لنده تحتل من قلبه مكانا خاصا تحيا فيه باستمرار. لم يكن قد قابلها كثيرا، وكل ما دار بينهما من حديث لم يتعد جملا تعد على الأصابع، تبادلاها خلال علاقة استمرت سنين طويلة بين عائلتيهما ولكن كان هناك شيء يحسه في نفسه تجاهها ويحسه في نظراتها تجاهه، شيء غير منطوق أو مرئي، ولكنه موجود وقائم، يغذيه بشجن خفي يدغدغ أحاسيسه الداخلية، ويجعله كلما شعر به يريد أن يبكي فعلا، أو أن يضحك، أو يهدم سراية التفتيش وكل مبانيه. وأحيانا حيث يتمشى على الترعة تجاه بيت مسيحة أفندي، ويجد لنده واقفة في الشباك بعيدة، يبدو وجهها ناصعا تحوطه هالة النافذة المظلمة، حين يراها هكذا يحس بتيار غريب قد سرى فيه وجعله يريد أن يطير ويغني، أو يقف في مكانه لا يفعل شيئا بقية حياته إلا أن يمد بصره خلسة بين الحين والحين ليجدها تنظر ناحيته أو على الأقل ناحية الترعة. وآه لو رفع البندقية في الهواء ونقلها من كتف إلى كتف محاولا أن يجعل من النقلة إشارة تحية، ورفعت هي يدها اليمنى وصعدتها لتمسك بها حديد الشباك من أعلى وكأنها ترد التحية، حينئذ تميد به الأرض ويظل طوال يومه وكل ليله يتذكر اللحظة، ويعيد الحركة ببطء أمام عينيه وهو سادر بعيدا عن الدنيا وأهله والتفتيش، في غيبوبة منتشية لا يريد أن يصحو منها.
وأحمد سلطان هو مكمن سره. في حجرة نومه الخالية تقريبا من الأثاث يترك صفوت نفسه على سجيتها، ويقص على أحمد سلطان دقائق ما حدث كلما حدث شيء، ودائما تختتم الجلسة بذلك السؤال الحائر: ترى هل تحبه لنده؟
كلما سأل هذا لأحمد أكد له أنها تحبه، ولكن تأكيده ليس مهما. المهم هو ابتسامته التي ينطق بها تأكيده! لو فقط يؤكد له مرة بلا ابتسامة لآمن - حقيقة - بصدق ما يقول.
وكان حريا بصفوت أن يستجيب للباب الذي فتحه أحمد ويخوض معه في سيرة لنده، غير أن هذا لم يكن هدف صفوت في ذلك اليوم. كان يريد أن يعرف هو عن مغامرات صديقه، أو - على الأقل - تلك المغامرة التي من المحتمل أن تكون قد أدت إلى هذا اللقيط الميت.
ويبدو أن إصرار صفوت قد فعل فعله، فبعد سيجارتين انفكت العقدة عن لسان أحمد سلطان، ومضى يحدثه، أو بالأحرى يعترف له، وراح يقول له: وعارف مرات الحج بدوي وبنتها؟
فيقول صفوت: هيه؟
فيعود أحمد سلطان يقول: وحياتك كانت واحدة منهم في الأودة هنا معايا على السرير اللي ما غيروش الزمان، والثانية مستخبية فوق السطح، وعارف البت دي اللي كانت بتشتغل مع الأنفار اللي بيفرزوا القطن؟ البت الهايشة دي؟
فيقول صفوت: أنهي واحدة؟ - البت الطويلة الهايشة دي. - آه. - وحياة شرفك هي التي قالت لي بعضمة لسانها: خدني. - وعملتها؟ - يعني أكسفها يعني يا سي صفوت؟
Unknown page
وشهدت حجرة أحمد سلطان في تلك الليلة روايات كاد يقف لها شعر صفوت، روايات جعلته يعتقد أنه - بكل مغامراته وما فعله - ليس سوى قطرة من بحر أحمد سلطان. بل الأمر لم يقتصر على هذا، ولم تقتصر اعترافات أحمد سلطان على نفسه. تعدتها الاعترافات ومضت بكلمة وراءها كلمة وحقيقة إثر حقيقة، تكشف عن الوجه الآخر لحياة التفتيش، الوجه المستتر دائما الذي لا يظهر أبدا ولا يطلع عليه أحد، الوجه المعقد المتشابك الحافل بكل ما هو أغرب من الخيال، علاقات بين أبناء ونساء آبائهم، وبين فاضلات وفاسقين، وفاسقات وفاضلين، وحجاج و«تملية»، وحتى الموتى وردت في الحجرة سيرتهم.
وأخيرا وبعد مقدمة طويلة ساقها صفوت للتدليل على حياده، وعلى أنه فقط يريد أن يعرف - بصرف النظر عن علاقته الشخصية بالمسألة - طرق صفوت الموضوع الذي من أجله جلس تلك الجلسة واستغرق كل تلك المدة الطويلة في جس النبض، سأل أحمد سلطان - وهو يستحلفه بكل مقدس وشريف - أن يقول الحقيقة، سأله عما يعرفه عن الوجه الآخر للنده.
وهذه المرة - وبوجه جاد وملامح لا تحتمل الشك - نفى أحمد سلطان أنه يعرف عنها أي شيء يدعو للخجل. وعاد صفوت يلح في سؤاله، وعاد أحمد يلح في نفيه وتأكيده.
ومع هذا، وحين قام صفوت وقد بدأت الشمس تستعد للمغيب، حين قام ليستعد هو الآخر للرجوع إلى بيتهم، كان لا يزال غير مطمئن تمام الاطمئنان إلى ما قاله أحمد سلطان عن لنده. •••
أما أحمد سلطان فقد ظل برهة طويلة جالسا على نفس المقعد «الجريد» ذي المساند الذي كان يجلس عليه، يحدق في سقف الحجرة ومن خلال نافذتها الوحيدة، ويتأمل. ثم بدأ لمعان غريب يتسرب إلى عينيه، لمعان كومض الجنون أو برق النشوة. ثم بدأ يتململ في كرسيه وكأن مشكلة كبرى تحيره، ولكن تململه لم يدم طويلا فما لبث أن قام من مكانه وغادر البيت. وظل وقتا يحوم في شارع العزبة الرئيسي بحذر - مع أنه الوحيد بين رجال الإدارة الذي كان قد كسر قانون عدم اختلاط الموظفين بالفلاحين - حتى أصبح وجوده في قلب شارع العزبة أو في أحد بيوتها أمرا لا يثير اندهاشا أو تساؤلا. وعند باب بيت مفتوح توقف قليلا، وبهفة من ثوبه وإشارة من يده كانت الجالسة في الداخل قد أدركت هدفه وفهمت أنه يريد لقاءها عند الجامع.
والجامع كان يقع في زاوية العزبة الغربية، جامع مبني بناء رخيصا من الطوب النيئ، ومئذنته قصيرة تبدو كالإصبع المرفوعة المبتورة، والطريق إلى الجامع خال في أغلب الأحيان؛ إذ نادرا ما يستعمل للصلاة إلا في يوم الجمعة، أما بقية الفروض فيؤديها الفلاحون في «المصلى» المقام على الترعة، والذي كان مقامه في أول الأمر على الخليج في مواجهة المنزل الذي يقطن فيه المأمور، ولكنه أمر بهدمه وعدم استعماله، وأقام ذلك المصلى الآخر؛ إذ كان يضايقه - إلى درجة الغضب - مرأى الفلاحين وهم جلوس في المصلى أمام بيته «يجرحون» البيت وسكانه، على حد تعبيره، والأدهى من هذا حين يقبلون في الصباح الباكر ويخلعون ملابسهم ليغطسوا في الترعة ويتطهروا.
لم يمض وقت طويل على أحمد سلطان - في ذهابه ومجيئه وراء الجامع - حتى بدا له من خلال ظليمات المغرب ذلك الثوب الأسود الفضفاض الذي يعرف صاحبته، كانت أم إبراهيم زوجة فقي الجامع وخطيبه ومؤذنه، امرأة فارعة الطول قمحية ذات قدرة خارقة على وضع الكحل في عينيها وحبك المنديل على جبينها وإمساك طرف ثوبها بيدها، وهفها باليد الأخرى حين تمشي وتتمخطر.
وكانت معرفتها بأحمد سلطان وطيدة؛ إذ كانت من أوائل من عرف من النساء حين جاء أول ما جاء إلى التفتيش، ثم تطورت تلك «المعرفة» إلى نوع من الصداقة، تطبخ له أحيانا، وتهاديه بطبق قشطة أحيانا أخرى، مع أنها كانت قد فقدت الأمل فيه وفي تجدد علاقتهما.
سلم عليها أحمد سلطان بحرارة، وقرصها في بطنها كعادته في الأيام الغابرة، وبعد عتاب طويل منها وحجج منه قال لها: عايزك في حاجة. - اؤمر. - لنده.
قال الكلمة وسكت، ولم تسأله هي أيضا منتظرة أن يكمل، وخائفة في الوقت نفسه ألا يكمل، هي فاهمة وهو فاهم ولا داعي للتغابي.
Unknown page