Harakat Islahiyya
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
Genres
أما الظاهرة الثانية فتمثلها الأصوات التي ارتفعت في مصر في القرن الثامن عشر لإلغاء البدع التي أشاعها المتصوفة والمتدروشون، والحقيقة أن البلاد العربية - وخاصة مصر - كانت قد انقلبت في العصر العثماني إلى خانقاه أو تكية كبرى، وانتشرت فيها الطرق الصوفية من كل نوع ولون، والغريب أن مصر لم ينشأ من بنيها شيخ ذو طريقة، وإنما هذه الطرق بعضها ظهر في الشرق، وبعضها ظهر في الغرب، ثم وفدت هذه وتلك إلى مصر، ووجدت في ربوعها وبين أهليها صدرا رحبا، فنمت وترعرعت، وتفرعت إلى طرق فرعية كثيرة، ونتيجة للجهل الفاشي وللفقر المدقع؛ تعلق المصريون من مختلف الطبقات - وخاصة رجال الفلاحة وأصحاب الحرف - بهذه الطرق الصوفية؛ يلتمسون في رحاب الروح وفي نعيم الآخرة الموعود عوضا عن الفقر المادي الذي يعيشون في كنفه، وعن الظلم والعسف والقهر الذي ينزله بهم حكامهم، وقد تطور الحال حتى أصبح كل مجذوب شيخا، وكل معتوه وليا من أولياء الله الصالحين! وفي تاريخ الجبرتي أمثلة كثيرة لهؤلاء.
وقد قامت من قبل خصومة بين الفقهاء والمتصوفة، وظلت هذه الخصومة قائمة في العصر العثماني.
فالفقهاء كانوا يرون أن طريق المعرفة هو الشرع ودراسة القرآن والسنة وعلوم الدين المختلفة؛ من تفسير وحديث وفقه وأصول، أما المتصوفة فكانوا يرون أن طريق المعرفة هو الذوق والزهد والعبادة، والفناء في حب الله سبحانه وتعالى، وقليل من الشيوخ من جمع بين الفقه والتصوف؛ مثل ابن عطاء الله السكندري في القرن الثالث عشر، وعبد الوهاب الشعراني في القرن السادس عشر (في هذا العصر العثماني).
والتصوف في حد ذاته لا خطر منه على المجتمع؛ فهو يدعو إلى رياضة النفس والروح، وإلى التقشف والعبادة، والزهد والفناء في حب الله، وبعض الطرق الصوفية - كالطريقة الشاذلية - لا تدعو إلى التكاسل والتواكل، وإنما تحض على العمل والسعي في طلب الرزق، وإنما نشأت الخطورة منه في العصر العثماني عندما ساد وانتشر حتى ادعى الولاية - كما أسلفنا - كل جاهل وكل مجنون، وعندما غالى المتصوفة في الدفاع عن أنفسهم ومكانتهم وكراماتهم، وأخذوا يكتبون الرسائل في تحذير الناس من الشك في الشيوخ وكراماتهم التي كانوا يدعونها أحياء وأمواتا، والتي كانت تفوق في بعض الأحيان معجزات الأنبياء عليهم السلام، وكل هذا يتعارض ومبادئ الإسلام الصحيحة السمحة اليسيرة، ويفسد عقائد الناس ...
لهذا لم يكن غريبا أن ترتفع الأصوات في الحين بعد الحين لمقاومة هذه البدع التي انتشرت باسم الدين وباسم التصوف، وكان هذا النقد أو هذه المقاومة تتخذ أحيانا شكلا عنيفا، وتتخذ أحيانا أخرى شكل الجدل النظري، وكان يقوم بها تارة الحكام والأجناد، كما كان يقوم بها أحيانا أخرى رجال الفكر من العلماء والفقهاء، والوعاظ والشعراء. (2-1) أمثلة: الشيخ علي البكري وصاحبته
من المجاذيب الذين فشا اعتقاد الناس فيهم: رجل اسمه علي البكري، ترجم له الجبرتي في وفيات سنة 1207ه/1792-1793م، فقال: إنه كان رجلا معتوها، يمشي في الطرقات عاري الرأس مكشوف السوءتين في أغلب الأحوال، أو يسير حافي القدمين وقد لبس قميصا وطاقية، ويخلط في كلامه ويهذي، فيتبعه الأطفال وعامة الناس وهم بين منكر لأحواله ومصدق لولايته، ولكن أكثر الناس قد مالوا إليه، وصحت عندهم ولايته «كما هي عادة أهل مصر في أمثاله» كما يقول الجبرتي.
وكان لعلي البكري أخ صاحب دهاء ومكر، فعمل على استغلال عقيدة الناس في أخيه سعيا وراء الثروة، فمنعه من التجوال في الشوارع، وحجزه في منزله وألبسه ثيابا ، وأظهر للناس أنه أذن له بذلك، وأنه تولى القطبانية، وصدق الناس دعاواه واشتد إيمانهم به، وأقبلوا على زيارته في منزله، والسماع إلى هذيانه وخلطه وتأويل كلامه بما يوافق رغباتهم وما في نفوسهم، وانهالت عليه الخيرات والنذور، وخصه بالبر نساء الأمراء والأكابر، حتى أثرى أخوه واغتنى، يقول الجبرتي: «ونفقت سلعته وصادت شبكته، وسمن الشيخ من كثرة الأكل والدسومة والفراغ والراحة، حتى صار مثل البو العظيم.»
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الشيخ في أوقات تجواله تبعته امرأة معتوهة لا تقل عنه خبلا، ولزمته في تنقله وتجواله، وسرعان ما آمن الناس بها أيضا، واعتقدوا في ولايتها، وأشاعوا أن الشيخ قد «لحظها وجذبها» فأصبحت مثله من الأولياء الصالحين، ثم ارتقت درجة أخرى من درجات الجذب، فخرجت معه إلى الشارع في زي الرجال، يتبعهما أنى سارا الجم الغفير من الفقراء والعامة والأطفال الصغار، ومنهم - كما يقول الجبرتي - من اقتدى بهما «ونزع ثيابه وتحنجل في مشيته»، فقيل: إن الشيخ قد جذبه أو مسه، فصار وليا! وكانت المرأة ترقى أحيانا على درج عال، وتفحش في القول، فيزداد إيمان الناس بها، ويتزاحمون على تقبيل يدها؛ تبركا بها!
وتفاقم الحال وكثر أتباع الرجل والمرأة حتى كانا إذا مرا بشارع كثر الضجيج وعلت الأصوات، واجترأ أتباعه فنهبوا الدكاكين، واستولوا على ما فيها من متاع وبضاعة، ومر هذا الموكب يوما ببيت جندي يدعى جعفر كاشف، فقبض على الشيخ وأدخله إلى داره ومعه المرأة وسائر المجاذيب، ثم طرد الناس الملتفين حوله، وقدم له ما يأكله، ثم أطلقه بعد ذلك إلى حال سبيله، أما المرأة والمجاذيب فقد أخذ يضربهم حتى طير الولاية من رءوسهم، ثم أطلق سراح المجاذيب، وأرسل المرأة إلى المارستان، وربطها عند المجانين.
ورغم هذا فقد ظل الناس يؤمنون بولاية الشيخ ورفيقته حتى بعد موتهما؛ فقد توفي الشيخ في سنة 1207ه، فأقام أخوه على قبره مقصورة ومقاما، ورتب له المقرئين والمداحين وأرباب الأشاير والمنشدين، يتغنون بكراماته وأوصافه في قصائدهم، وكان هؤلاء المريدون - كما يقول الجبرتي: «يتواجدون ويتصايحون ويمرغون وجوههم على شباكه وأعتابه، ويغرفون بأيديهم من الهواء المحيط به ويضعونه في عبابهم وجيوبهم.»
Unknown page