الفرار من الموت إلى الموت! لشد ما تتجهمنا الحياة! - والنظافة، النظافة.
تطلعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتلبدة. - اغلوا مياه الآبار والقرب قبل استعمالها. اشربوا عصير الليمون والبصل.
ساد الصمت، وظل ظل الموت ممتدا فوق الرءوس حتى تساءل صوت: أهذا كل شيء؟
فقال حميدو بنبرة الختام: اذكروا ربكم وارضوا بقضائه.
رجع الناس إلى البيوت والدكاكين واجمين، وتفرق الحرافيش في الخرابات وهم يتبادلون الدعابات الساخرة ، ولم يتوقف موكب النعوش ساعة واحدة.
32
دفعه القلق إلى الساحة في جوف الليل. الشتاء يطوي آخر طية في ردائه. الهواء منعش لين القبضة. النجوم متوارية فوق السحب. في ظلمة داجية تهادت الأناشيد من التكية في صرحها الأبدي. لا نغمة رثاء واحدة تنداح بينها. ألم تعلموا يا سادة بما حل بنا؟ أليس عندكم دواء لنا؟ ألم يترام إلى آذانكم نواح الثكالى؟ ألم تشاهدوا النعوش وهي تحمل لصق سوركم؟
رنا عاشور إلى شبح البوابة، إلى هامتها المقوسة، بإصرار حتى دار رأسه. تضخمت البوابة وتعملقت حتى غابت هامتها في السحب. ما هذا يا ربي؟ إنها تتمخض عن حركة بطيئة دون أن تبرح مكانها. تتموج وقد تنقض في أي لحظة. وشم رائحة غريبة لا تخلو من نفحة ترابية. إنها تتلقى من النجوم أوامر صارمة. جرب عاشور الخوف لأول مرة في حياته. نهض مرتعدا. مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه إنه الموت. تساءل في أسى وهو يقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟!
33
أشعل المصباح فرأى فلة نائمة، وشمس الدين لا يبدو من الغطاء إلا شعر رأسه. جمالها مستسلم لسطوة النوم. ثغرها مفتر بلا بسمة. منديلها منسحب وخصلات شعرها نافرة. دق الرعب أبواب رغبته الغافية. تمطى نداء مثل لسان من لهب. جن بالشهوة فاندفع بلهوجة المطارد. همس باسمها حتى فتحت عينيها. نظرت إليه منكرة حتى عرفته. فقهت وقفته ونظرة عينيه، فتزحزحت من تحت الغطاء بارزة، وتثاءبت، وابتسمت، وتساءلت: ماذا دهاك في الليل؟
Unknown page