وماذا يعني هتلر بقوله ذاك؟
يريد أن يقول إنه قد غلب هو، لكن النازية لم تغلب نهائيا، وإن الماكنة الحربية الضخمة التي أعدها لنصرة النازية قد تحطم، لكن النازية لا تحطم إلى الأبد، وإن ألمانيا معقل النازية في هذا الزمن، قد تضطر إلى طرح سلاحها، إلى التسليم، لكن النازية لا تطرح سلاحها، ولا تسلم ... يريد هتلر، بعبارة واحدة، أن يقول: إن النازية التي فشلت في هذه الحرب، في مجالها العالمي، لم تفشل بعد في هذه الحرب، في مجالها التاريخي. فليس بكاف أن يغلب هتلر، وأن تتحطم ماكنته الحربية، وأن ترمي ألمانيا سلاحها، كي نطمئن إلى أن النازية قد لفظت أنفاسها الأخيرة، وأنه لن يبعث من في القبور. إن هتلر الذي انهزم في ميدان العالم، يضرب لنا موعدا في مجال التاريخ.
كل ذلك عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى أن يذكرنا به مذكر. سنكون دائما في الموعد، مهما يكن الاسم الذي تتسمى به النازية، والقناع الذي تتقنع به النازية، سنكون دائما في الموعد، وفي المعسكر نفسه، معسكر الحرية والتقدم، معسكر النصر.
كل هذا عرفناه، ولم نكن بحاجة إلى من يذكرنا به، حتى ولا هؤلاء المتسمين بالقوميين، الفهاررة الأقزام، الذين يطمعون هم أيضا بأن يشدوا العجلة إلى وراء، بأن يرجعوا بنا القهقري، فإذا غاية جهدهم أنهم يمثلون في بلادنا، بعد فاجعة النازية في العالم وفي التاريخ، ذلك الفصل الهزلي الذي يظهر أنه لا بد منه. لكن حبذا لو كانوا يختارون لهذه المهزلة مسرحا غير لبنان! سنحملهم على أن يختاروا لها مسرحا غير لبنان!
منذ اجتمعنا آخر مرة في هذا المكان، وكان ذلك لمناسبة أول نوار على ما أذكر، حدثت في البلد أحداث وأحاديث ... ماذا أقص عليكم مما حدث، وهي حياتكم اليومية والعامة على السواء؟ خلاصة الخبر أنه جاءت حكومة، بعد أن ذهبت حكومة، أو جاءتا وذهبتا في وقت معا، وهو الأصح وليست تدري إحداهما لماذا جاءت، ولا الأخرى لماذا ذهبت، كذلك نحن لا نعرف على التدقيق من الذين ذهبوا، ومن الذين جاءوا. يقول بعضهم بإن الحكومة التي جاءت هي خير من الحكومة التي ذهبت، ويقول فريق آخر بالعكس، وكل من الفريقين غير مقتنع كل الاقتناع.
ثم إنه انعقدت مؤتمرات وانفضت مؤتمرات، أو لم تنعقد حتى انفضت، وقد كانت هذه المؤتمرات كالسؤال وجوابه، أو كالصوت وصداه، لكن الجواب ما لبث حتى صار سؤالا يحتاج إلى جواب، والصدى صوتا يثير أصداء ... وهكذا دواليك. ثم إنه تغيرت السياسة؛ كانت سياسة أشخاص و«بعض» المبادئ، فأمست سياسة مبادئ من غير أشخاص، فسياسة أشخاص من غير مبادئ، وأخيرا - وهو الأقرب إلى الروح العملي - سياسة «بعض» المبادئ و«بعض» الأشخاص.
ماذا تريدون أن أقص عليكم؟ الأفضل أن «نسافر» من هذا الزمن، ونرجع إلى الوراء قرنا ونصف قرن، فنتحدث عن الثورة الفرنسية مثلا، مخافة أن يرجعوا بنا إلى أبعد من ذلك العهد، إلى ما قبل التاريخ.
تعيد الأمة الفرنسية ويعيد العالم معها كل عام ليوم الرابع عشر من تموز، ويسمونه: عيد الحرية. في ذلك اليوم من سنة 1789 أثبت الشعب ذاته وإرادته وقوته، وفي ذلك اليوم أيضا كانت الإنسانية، وفرنسا في الطليعة، تجتاز إحدى المراحل التاريخية الكبرى نحو انعتاق الإنسان من العبودية بأنواعها.
ماذا كانت حالة فرنسا في ذلك العهد؛ حالتها السياسية والاجتماعية؟ أخاف إذا أنا أطلت الكلام في الموضوع أن يتبادر إلى الأذهان أني أحدثكم عن حالة بلادنا أو أدعو إلى الثورة. حاشا وكلا! إن حقوق اللبناني قد أعلنت عندنا من زمن بعيد، منذ الدستور العثماني على الأقل، ولم يبق إلا أن تطبق، وكل آت قريب. على أن سلسلة الأحداث الخطيرة التي عرفت بالثورة الفرنسية، لم تكن حلقاتها الأولى سوى حركة تقدمية سلمية يراد بها رفع المظالم الصارخة؛ بل «الزوائد» الفاحشة التي إن يكن عجيبا من الشعب الفرنسي، العمل على إزالتها حتى بالعنف، فقد كان الصبر على بقائها، أو على محاولة إبقائها، من بعض الطبقات، بالعنف والخيانة معا، أعجب وأدهى وأبلغ في النكاية.
في أواخر القرن الثامن عشر تغيرت أشياء كثيرة في فرنسا، ومن جملتها الأفكار، هكذا تبدأ الحكاية؛ فالأوضاع والأساليب التي كان الشعب الفرنسي مذعنا لها كمفاسد لا مندوحة عنها، أضحت في نظره مظالم لا تطاق، من الواجب ومن الممكن إزالتها. لم يكن الشعب عهدذاك يطلب غير وضع حد لاستبداد الحكام، وللتعصب الديني أو المذهبي، ولعدم المساواة بين الأفراد. كانت مطالبه تلخص في شعار مشهور تداولته الألسنة والأقلام، منذ أواسط القرن: «حرية - مساواة»، وهي - كما ترون - ليست على شيء من التطرف، نظريا على الأقل، لكن معنى هذا بطبيعة الحال، كان القضاء عمليا على طريقة الحكم المطلق، وعلى سنة الإكراه في الدين، وعلى قاعدة التفاوت في الضرائب والمكوس، وعلى بقايا الإقطاعية بوجه عام - أي بكلمة واحدة: على الامتياز. سوى أن ذوي الامتياز لا يريدون حرية ولا مساواة، لسبب بسيط هو أنهم مكتفون؛ تكفيهم الامتيازات!
Unknown page