Haqaiq Macrifa
حقائق المعرفة
Genres
اعلم أنه لما كانت العقول والحواس والأوهام والظنون لا تكون إلا حالة أو محلولة، ولا تكون إلا محدثة مجعولة، لم ندرك إلا أمثالها في الحدث وأشباهها في المحل والمحلول، فصح أن الله تعالى لا يدرك بوجه من الوجوه ، لا بعقل ولا بحس ولا بوهم ولا بظن، وإنما تدرك معرفته بالاستدلال والنظر، وقد دل على هذا في كتابه فقال عز من قائل: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون}[الأعراف:185]، وقال عز من قائل: {إن في السماوات والأرض لايات للمؤمنين ، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}[الجاثية:3-6]، ثم أخبرنا الله تعالى بنظر إبراهيم خليله واستدلاله عليه بخلقه ومناظرته لنفسه، فقال عز من قائل: {وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين ، فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لاكونن من القوم الضالين ، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون ، إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين}[الأنعام:75-79]، فصح أنه ما عرف ربه إلا بخلقه، ولا استدل عليه إلا بصنعه، وقد قيل في قول إبراهيم عليه السلام {هذا ربي} خمسة أقاويل:
أحدها: أنه قال: هذا ربي في ظني؛ لأنه في حال تغليب ظن واستدلال.
والثاني: أنه قال ذلك اعتقادا أنه ربه في الوقت الذي لم يعرف الناس يعبدون إلا الأصنام، فرأى النيرات أشرف من الأصنام؛ وهو قول ابن عباس.
والثالث: أنه قال ذلك في حال الطفولية والصغر؛ لأن أمه ولدته في مغارة حذرا من النمرود عليه، فلما خرج منها قال هذا القول قبل قيام الحجة عليه.
والرابع: أن يكون قال ذلك على وجه الإنكار لعبادة الأصنام، إذ كان الكوكب والشمس والقمر لم يصنعهن ولا عملهن بشر، فلم تكن معبودة لزوالها، والأصنام التي هي دونها أولى أن لا تكون معبودة.
والخامس: أنه قال ذلك توبيخا للمشركين، على وجه الإنكار الذي معه [يكون] ألف استفهام، وتقديره: أهذا ربي؟ ومثله موجود في لغة العرب، قال الشاعر:
رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم
Page 142