فاتحة
شبهة الشر
شبهة الخرافة
1 - العقائد
2 - المعاملات
3 - الحقوق
4 - الأخلاق والآداب
خاتمة
فاتحة
شبهة الشر
شبهة الخرافة
1 - العقائد
2 - المعاملات
3 - الحقوق
4 - الأخلاق والآداب
خاتمة
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه
تأليف
عباس محمود العقاد
فاتحة
بسم الله، وعلى هدى من الإيمان بالله.
وبعد، فهذا كتاب عن فضائل الإسلام وأباطيل خصومه، يتقاضانا التمهيد له أن نقدم بين يديه بكلمة موجزة عن فضل الدين كله، أو فضل العقيدة الدينية في أساسها؛ إذ لا محل للكلام على فضل دين من الأديان ما لم يكن أمر الدين كله حقيقة مقررة أو ضرورة واضحة، ولا معنى كذلك لأن نقصر الخطاب على المؤمنين المصدقين ولا نشمل به المشككين والمترددين، بل المنكرين والمعطلين؛ لأن المتشكك والمعطل أولى بتوجيه هذا الخطاب من المؤمن المصدق، ولا فضل لدين على دين ما لم يكن للدين كله فضل مطلوب تتفاوت فيه العقائد كما يتفاوت فيه من يعتقدون ومن لا يعتقدون.
هل للدين حقيقة قائمة؟
هل للدين ضرورة لازمة؟
سؤالان متشابهان، بل سؤال واحد في صورتين مختلفتين، ولسنا نزعم أن الصفحات القليلة التي نقدم بها هذا الكتاب كافية للإجابة عن هذا السؤال الذي يجاب عنه كل يوم بما يتسع بعد الجواب الواحد لألف جواب، ولكننا نزعم أن هذه الكلمة الموجزة كافية لموضعها المقدور من هذا الكتاب؛ لأنها تكفي لهذا الموضع إذا تركت شكوك المترددين والمنكرين مضعوفة الأثر منقوضة الأساس، وتكفي لموضعها إذا تركت من يشك ويتردد وقد أحسن الوهن في بواعث شكه وأسباب تردده، وبحث عن جانب الحقيقة فيها فلم يجده، أو بحث عنها فوجدها في الجانب الآخر أقرب إلى العقل والبداهة، وأجدر بالاتجاه في وجهتها إلى نهاية المطاف.
ونحن في بداءة الطريق نحب أن نصحب القارئ على بصيرة من الباب الذي نستفتح به طريق البحوث في هذا الكتاب، بل نستفتح به الطريق في كل بحث تشعبت حوله المسالك واضطربت عنده الآراء. وبابنا هذا قبل كل طريق من تلك الطرق أن نسأل: إذا كان هذا الأمر غير حسن فما هو الحسن؟ ثم هذا الذي نستحسنه كيف يكون؟ وأي الأمرين إذن هو الأقرب إلى العقل أو الأيسر في التصور؟ فإن كان ما نستحسنه هو الأقرب إلى عقولنا والأيسر عندنا في الإمكان، فقد حق لنا أن نفضله وننكر ما عداه، وإن عرفنا بعد المقابلة بينهما أن الذي ننكره أقرب إلى العقل والإمكان من الذي نستحسنه، فقد وجبت علينا مراجعة التفكير ووجب في رأينا - قبل رأي غيرنا - أن نصطنع الأناة ونتردد في الجزم والتفضيل. •••
ونبدأ الآن من البداءة في هذه الفاتحة فنقول: إن أكبر الشبهات التي تعترض عقول المتشككين والمنكرين شبهتان، هما: شبهة الشر في العالم، وشبهة الخرافة في كثير من العقائد الدينية. وخلاصة شبهة الشر أنهم لا يستطيعون التوفيق بين وجود الشر في العالم وبين الإيمان بإله قدير كامل في جميع الصفات، وخلاصة شبهة الخرافة في كثير من العقائد الدينية أنهم لا يستطيعون التوفيق بين العقائد وبين المحسوسات والمعقولات التي تتكشف عنها معارف البشر كلما تقدموا في معارج الرقي والإدراك.
شبهة الشر
أما شبهة الشر، فهي من أقدم الشبهات التي واجهت عقل الإنسان منذ عرف التفرقة بين الخير والشر، وعرف أنهما صفتان لا يتصف بهما كائن واحد، وربما كان تفريق الإنسان الهمجي بين شعائر السحر وبين شعائر العبادة مقدمة الحلول الكثيرة التي عالج الإنسان البدائي أن يحل بها هذه المشكلة العصية، ثم ترقى الإنسان في معارج الحضارة والإدراك فاهتدى إلى حل آخر أوفى من هذا الحل الساذج وأقرب إلى المعقول، وذاك حيث آمن بإلهين اثنين، وسمى أحدهما بإله النور، وسمى الآخر بإله الظلام، وجعل النور عنوانا لجميع الخيرات، والظلام عنوانا لجميع الشرور.
إلا أن هذا الحل - على ارتقائه ووفائه بالقياس إلى الحلول البدائية في عقائد القبائل الهمجية - لن يرضي عقول المؤمنين بالتوحيد، ولن يحل لهم مشكلة الشر في الوجود، ولا يزال في عرفهم حتى اليوم ضربا من الكفر يشبه جحود الجاحدين وتعطيل المعطلين.
ولعلنا لم نطلع على حل لهذه المشكلة العصية أوفى من الحل الذي نطلق عليه اسم حل الوهم، ومن الحل الذي نطلق عليه اسم حل التكافل بين أجزاء الوجود.
وخلاصة حل الوهم أن القائلين به يعتقدون أن الشر وهم لا نصيب له من الحقيقة، وأنه عرض زائل يتبعه الخير الدائم. ومن الواضح أن هذا الحل لا يفض الإشكال ولا يغني عن التماس الحلول الأخرى التي تريح ضمير المعتقد به فضلا عن المعترضين عليه؛ إذ لا نزاع في تفضيل اللذة الموهومة على الألم الموهوم، ولا يزال الاعتراض على الألم لغير ضرورة قائما في العقول ما دام في الإمكان أن تحل لذاتنا الموهومة محل آلامنا الموهومة.
وخلاصة الحل - الذي نطلق عليه اسم حل التكافل بين أجزاء الوجود - أن المعتقدين به يرون أن الشر لا يناقض الخير في جوهره، ولكنه جزء متمم له، أو شرط لازم لتحقيقه؛ فلا معنى للشجاعة بغير الخطر، ولا معنى للكرم بغير الحاجة، ولا معنى للصبر بغير الشدة، ولا معنى لفضيلة من الفضائل بغير نقيصة تقابلها وترجح عليها، وقد يطرد هذا القول في لذاتنا المحسوسة؛ يطرد في فضائلنا النفسية، ومطالبنا العقلية؛ إذ نحن لا نعرف لذة الشبع بغير ألم الجوع، ولا نستمتع بالري ما لم نشعر قبله بلهفة الظمأ، ولا يطيب لنا منظر جميل ما لم يكن من طبيعتنا أن يسوءنا المنظر القبيح.
وهذا الحل - حل التكافل بين أجزاء الوجود - أوفى وأقرب إلى الإقناع من جميع الحلول التي عولجت بها هذه المشكلة على أيدي الحكماء أو على أيدي فقهاء الأديان، ولكنها لا تغني الحائر المتردد عن سؤال لا بد له من جواب، وهو: لماذا كان هذا التكافل لزاما في طبيعة الوجود؟ ولماذا يتوقف الشعور باللذة على الشعور بالألم، أو يتوقف تقدير قيمة الفضيلة على وجود النقيصة وضرورة الاشمئزاز منها؟ أليس الله بقادر على كل شيء؟ أليس من الأشياء التي يقدر عليها أن يتساوى لديه خلق اللذة وخلق الألم؟ أليس خلق اللذة أولى برحمة الإله الرحيم من خلق الألم، كيف كان موقعه من التكافل بينه وبين اللذات؟
وعندنا أن المشكلة كلها بعد جميع ما عرضنا من حلولها إنما هي مشكلة الشعور الإنساني ، وليست - في صميمها - بالمشكلة الكونية.
وهنا نعود إلى الباب الذي نستفتح به مسالك هذه المشكلات، ونسأل أنفسنا: إذا كان الإله الذي توجد النقائص والآلام في خلقه إلها لا يبلغ مرتبة الكمال المطلق، فكيف يكون الإله الذي يبلغ هذه المرتبة في تصورنا وما ترتضيه عقولنا؟
أيكون إلها قديرا ثم لا يخلق عالما من العوالم على حالة من الحالات؟ أيكون إلها قديرا يخلق عالما يماثله في جميع صفات الكمال؟
هذا وذاك فرضان مستحيلان أو بعيدان عن المعقول، كل منهما أصعب فهما وأعسر تصورا من عالمنا الذي ننكر فيه النقائص والآلام.
فأما الإله القدير الذي لا يخلق شيئا، فهو نقيضة من نقائض اللفظ لا تستقيم في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فلا معنى للقدرة ما لم يكن معناها الاقتدار على عمل من الأعمال.
وأما الكمال المطلق الذي يخلق كمالا مطلقا مثله، فهو نقيضة أخرى من نقائض اللفظ لا تستقيم كذلك في التعبير، بله استقامتها في التفكير؛ فإن الكمال المطلق صفة منفردة لا تقبل الحدود ولا أول لها ولا آخر، وليس فيها محل لما هو كامل وما هو أكمل منه. ومن البديهي أن يكون الخالق أكمل من المخلوق، وألا يكون كلاهما متساويين في جميع الصفات، وألا يخلو المخلوق من نقص يتنزه عنه الخالق؛ فاتفاقهما في الكمال المطلق مستحيل يمتنع على التصور، ولا يحل تصوره مشكلة من المشكلات. وأي نقص في العالم المخلوق، فهو حقيق أن يتسع لهذا الشر الذي نشكوه، وأن يقترن بالألم الذي يفرضه الحرمان على المحرومين، وبخاصة إذا نظرنا إلى الأجزاء المتفرقة التي لا بد أن يكون كل جزء منها قاصرا عن جميع الأجزاء، وأن يكون كل شيء منها مخالفا لما عداه من الأشياء.
فوجود الشر في العالم لا يناقض صفة الكمال الإلهي ولا صفة القدرة الإلهية، بل هو - ولا ريب - أقرب إلى التصور من تلك الفروض التي يتخيلها المنكرون والمترددون ولا يذهبون معها خطوة في طريق الفهم وراء الخيال المبهم العقيم.
وقد يختلف مدلول القدرة الإلهية ومدلول النعمة الإلهية بعض الاختلاف في هذا الاعتبار؛ فمدلول القدرة الإلهية يستلزم - كما تقدم - خلق هذا العالم الموجود، ولكن مدلول النعمة الإلهية يسمح لبعض المتشائمين أن يحسبوا أن ترك المخلوقات في ساحة العدم أرحم بها من إخراجها إلى الوجود، ما دام الألم فيه قضاء محتوم على جميع المخلوقات. ومهما يكن من شيوع التشاؤم بين طائفة من المفكرين، فليس تفسير النعمة الإلهية بترك المخلوقات في ساحة العدم تفسيرا أقرب إلى المعقول من تفسير هذه النعم الإلهية بإنعام الله على مخلوقاته بنصيب من الوجود يبلغون به مبلغهم من الكمال المستطاع لكل مخلوق.
وليس الشر إذن مشكلة كونية ولا مشكلة عقلية إذا أردنا بالمشكلة أنها شيء متناقض عصي على الفهم والإدراك، ولكنه في حقيقته مشكلة الهوى الإنساني الذي يرفض الألم ويتمنى أن يكون شعوره بالسرور غالبا على طبائع الأمور.
وإذا كانت في هذا الوجود حكمته التي تطابق كل حالة من حالاته، فلا بد من حكمة فيه تطابق طبيعة ذلك الشعور، ولا نعلم من حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور غير الدين.
إن الشعور الإنساني في هذه المشكلة الجلى يتطلب الدين؛ فهل ثمة مانع يمنعه من قبل العقل أو من قبل المعرفة التي يكسبها من تقدمه في العلم والحضارة؟ هنا يستطرد بنا الكلام على مشكلة الشر إلى الكلام على مشكلة الدين أو مشكلة التدين في جملته، وخلاصتها - كما قدمنا - عند المترددين والمعطلين أن الأديان قد اختلطت قديما بكثير من الخرافات، وأن العقل يتعسر عليه أحيانا أن يوفق بين عقائد الدين وحقائق المعرفة العلمية.
شبهة الخرافة
وهنا نعود مرة أخرى إلى سؤالنا الذي افتتحنا به هذه الكلمة، فنسأل المترددين والمعطلين: إذا كان التدين على هذه الحالة التي وجد بها غير حسن في تقديركم، فيكف يكون الحسن؟ وكيف تتصورونه ممكنا على نحو أقرب إلى العقل وأيسر في الإمكان؟
وكأننا بهم يقترحون دينا لا يركن إليه إلا النخبة المختارة من كبار العقول الذين لا تتسرب الخرافة إلى مداركهم في عصر من العصور، كائنا ما كان موقع ذلك العقل من درجات التقدم والحضارة.
هذا ، أو يقترحون دينا يتساوى فيه كبار العقول وصغارهم تساويا آليا لا عمل فيه لاجتهاد الروح وتربية الضمير واستفادة المستفيد من كفاح الحوادث وتجارب الحياة.
هذا، أو يقترحون دينا يتبدل في كل فترة تبدلا آليا كلما تبدلت معارف الأمم في مختلف الأزمنة أو مختلف البلدان.
ومهما نسترسل في تصور المقترحات التي تخطر للمترددين والمعطلين، فلا نخال أننا منتهون إلى مقترح يرونه ويراه غيرهم اقرب إلى التصور وأيسر من الدين في تاريخه المعهود؛ فإن أطوار التدين كما نشأت من أقدم عصورها إلى اليوم لا تزال أقرب إلى المعقول من كل مقترح ذكرناه على ألسنتهم بين هذه الفروض.
فالنخبة المختارة من كبار العقول لا تحتاج إلى تعاليم الدين كما تحتاج إليه طوائف البشر من الجهلاء أو صغار العقول، وقد يتنزه أبناء النخبة المختارة عن الخرافة في آونة محدودة، ولكنهم لن يتنزهوا عنها في كل آونة مع التسليم بتطور العلم وتطور الإدراك الذي يستفيد من جملة العلوم.
أما أن يتساوى الناس تساويا آليا في كشف حقائق الكون، من أول عهد البشر بالتدين إلى آخر عهدهم المقدور لهم من الحياة الأرضية؛ فإنما هو نكسة بهم إلى حالة لا فرق بينها وبين أحوال الجماد أو أحوال الآلات التي لا عمل فيها لاجتهاد الروح ولا لتربية الضمير.
وأما أن تتبدل العقائد في كل لحظة تتغير فيها مدركات العلوم ومدركات المعرفة على العموم، فتلك حالة نحاول أن نتصورها في أطوار الجماعات فلا نرى أنها قابلة للتصور في جماعة واحدة تعيش من أسلاف إلى أخلاف مئات السنين، أو ألوف السنين، اللهم إلا إذا تصورنا عقول هذه الجماعة وضمائرهم في صورة الصفحات التي تنقلب صفحة بعد صفحة حين تعرض على قرائها وهم يريدون تقلبها أو لا يريدون.
كل هذه الصور يقترحها من يشاء، ولا يكلف نفسه أن يتمادى مع صورة منها في التخيل، أو يعالج تطبيقها في الواقع إذا استطاع، وما هو بمستطيع.
ونكاد نقول عن نشأة التدين بين جماعات البشر كما نشأ في عالم الواقع: إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، لولا أننا نرى أن الزمان المتطاول قد يمكن فيه اليوم ما لم يكن ممكنا بالأمس، وقد يمكن فيه غدا ما ليس بممكن في يومنا هذا ولا في الأيام التي سلفت، وقد يمكن فيه عند قوم في العصر الواحد ما يتعذر على آخرين في العصر نفسه ... إلا أننا ندين بقول القائلين: «إنه ليس في الإمكان أبدع مما كان» إذا نظرنا إلى تطور الدين نظرة تحيط بأطواره كلها في جميع الأزمنة وبين جميع الأقوام.
وينبغي أن نذكر أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم الشعور الديني لا تنفصلان عنه، ولا يتأتى لنا أن نفهم ظواهره وخوافيه ما لم نكن على استعداد لتفسير هذا التعبير وقبول ذلك الإيمان.
ولسنا نقبل التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية ترخصا مع الدين وحده برخصة لا نلتمسها مع سائر المدركات الحسية أو النفسية؛ لأننا نعلم أن التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية لازمتان من لوازم تكوين الإنسان في مدركات حسه ومدركات نفسه، على اختلاف الأساليب ومعارض الإدراك.
فأي إدراك للإنسان أصدق عنده من إدراك العيان؟ وما هي حقيقة هذا الإدراك إن لم يكن في صميمه تعبيرا رمزيا نضع له من الأسماء ما ليس بينه وبين الواقع مطابقة غير مطابقة الرمز للحقيقة التي ترمز إليها؟ فنحن نسمي الألوان بأسمائها، ثم نرجع إلى حقائقها فلا نعلم لها حقيقة في الواقع إلا أنها ذبذبات كما يقال في أمواج الأثير، ولا نعلم للأثير من حقيقة في الواقع غير أنه - كما يقال - فرض نقول به؛ لأننا لا نريد أن نقول بفرض العدم أو بفرض الفضاء والخلاء.
ومن أمثلة العقيدة الإيمانية التي نلمسها في كل حي أو نلمسها في كل مولود أن الآباء والأمهات يحبون ذريتهم ولا يقبلون بديلا منها، ولو كان البديل خيرا من تلك الذرية وأجمل منظرا وأفضل مخبرا وأدعى إلى الغبطة والرجاء. ولا بقاء لأنواع الأحياء إذا قامت الأبوة على عاطفة غير هذه العقيدة الإيمانية التي يرتبط بها قوام الحياة، ولا يختلف اثنان في وصف هذا الحنان الأبوي بالمغالاة إذا أردنا أن نجرد الحياة من صواب العاطفة أو صواب العقيدة، ولا ندين فيها بغير صواب العقول.
فإذا وجب علينا أن نقبل التعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية في مدركات الدين، فنحن لا نترخص مع الدين وحده بهذه الرخصة الشائعة عندنا - نحن بني الإنسان - في جميع مدركاتنا، بل نحو نسوي بين رخصة الدين ورخصة الحس ورخصة العقل في هذه اللغة الحيوية التي ينطق بها كل حي مع اختلاف الظروف والعبارات.
على أننا لا نبتغي بدعا من العقل إذا ميزنا الدين برخصة لا تساويها رخصة قط فيما تدركه الحواس أو تدركه العقول؛ لأن مدركات الدين تشمل أصول الوجود وأسرار الخليقة، وتتطلع إلى بواطن الغيب كما تتطلع إلى ما وراء هذا العالم المحدود كلما ارتفعت بها أشواقها إلى سماء الكمال المطلق: كمال الخالق المبدع لجميع هذه المخلوقات.
فإذا قبلنا من عقولنا وحواسنا أن نقنع بالتعبير الرمزي والعقيدة الإيمانية في إدراك خليقة محدودة من هذه الخلائق التي لا عداد لها، فإنه لمن الشطط أن نسوم العقل إدراكا للحقيقة المطلقة يخلو من الرموز ويتجرد من عنصر الإيمان. •••
ولنكن واقعيين مع الواقعيين في كلامنا عن مشكلة الدين؛ فإننا كنا إلى الآن في هذه الفاتحة عقليين، نحتكم إلى البرهان في محاسبة الدين ومراجعة الشبهات التي تواجه المترددين والمعطلين ويواجهون بها عقائد الأديان على الإجمال.
فماذا لو أضفنا إلى حجة العقل حجة الواقع من تجارب التاريخ وتجارب الحاضر في شئون الجماعات الإنسانية، وشئون كل فرد من بني الإنسان على حدة بينه وبين جماعته أو بينه وبين نفسه؟
إن تجارب التاريخ تقرر لنا أصالة الدين في جميع حركات التاريخ الكبرى، ولا تسمح لأحد أن يزعم أن العقيدة الدينية شيء تستطيع الجماعة أن تلغيه، ويستطيع الفرد أن يستغني عنه في علاقته بتلك الجماعة أو فيما بينه وبين سريرته المطوية عمن حوله، ولو كانوا من أقرب الناس إليه، ويقرر لنا التاريخ أنه لم يكن قط لعامل من عوامل الحركات الإنسانية أثر أقوى وأعظم من عامل الدين، وكل ما عداه من العوامل المؤثرة في حركات الأمم فإنما تتفاوت فيه القدرة بمقدار ما بينه وبين العقيدة الدينية من المشابهة في التمكن من أصالة الشعور وبواطن السريرة.
هذه القوة لا تضارعها قوة العصبية، ولا قوة الوطنية، ولا قوة العرف، ولا قوة الأخلاق، ولا قوة الشرائع والقوانين؛ إذ كانت هذه القوة إنما ترتبط بالعلاقة بين المرء ووطنه، أو العلاقة بينه وبين مجتمعه، أو العلاقة بينه وبين نوعه على تعدد الأوطان والأقوام؛ أما الدين فمرجعه إلى العلاقة بين المرء وبين الوجود بأسره، وميدانه يتسع لكل ما في الوجود من ظاهر وباطن، ومن علانية وسر، ومن ماض أو مصير، إلى غير نهاية بين آزال لا تحصى في القدم وآباد لا تحصى فيما ينكشف عنه عالم الغيوب؛ وهذا - على الأقل - هو ميدان العقيدة الدينية في مثلها الأعلى وغاياتها القصوى وإن لم تستوعبها ضمائر المتدينين في جميع العصور.
ومن أدلة الواقع على أصالة الدين أنك تلمس هذه الأصلة عند المقابلة بين الجماعة المتدينة والجماعة التي لا دين لها أو لا تعتصم من الدين بركن ركين، وكذلك تلمس هذه الأصالة عند المقابلة بين فرد يؤمن بعقيدة من العقائد الشاملة وفرد معطل الضمير مضطرب الشعور يمضي في الحياة بغير محور يلوذ به، وبغير رجاء يسمو إليه، فهذا الفارق بين الجماعتين وبين الفردين، كالفارق بين شجرة راسخة في منبتها وشجرة مجتثة من أصولها، وقل أن ترى إنسانا معطل الضمير على شيء من القوة والعظمة إلا أمكنك أن تتخيله أقوى من ذلك وأعظم إذا حلت العقيدة في وجدانه محل التعطل والحيرة. •••
وبعد، فنحن نختم هذه الفاتحة - كما بدأناها - بالتنبيه إلى غرضنا من هذه المناقشة الوجيزة لشبهات المترددين والمعطلين على التدين في أساسه، فنقول في ختامها - كما قلنا في مستهلها: إننا لا نحسب أن مناقشة من المناقشات في هذا الموضوع الجلل تحسم الخلاف وتختم المطاف، ولكننا نطمع بحق في الإبانة عن مواطن الضعف من تلك الشبهات، ونعلم أنها أضعف من أن تقتلع أصول العقيدة الدينية من الطبيعة الإنسانية، وأنها تتهافت تباعا كلما استحضر الباحث في خلده شرائط الدين المعقولة التي تلازمه حتما في رأي المؤمن بدين من الأديان، وفي رأي المنكر لجميع الأديان على السواء.
فمن شرائط الدين اللازمة أن تدين به جماعة يمتد أجلها وراء آجال الأفراد، وتتعاقب فيها الأجيال حقبة بعد حقبة إلى أمد بعيد؛ فلا يؤخذ على الدين إذن أنه يناسب هذه الأجيال حيث تأخرت كما يناسبها حيث تقدمت على مر الزمان مع تطور العلم والحضارة.
ومن شرائط الدين اللازمة أن تدين به الأمة في العصر الواحد على تفاوت أبنائها في المعرفة والسجية والرأي والمشرب؛ فلا يؤخذ على الدين إذن أن يدخل فيه حساب العالم والجاهل، وحساب الرفيع والوضيع، وحساب الطيب والخبيث، وحساب الذكي النابغ والغبي الخامل.
ومن شرائط الدين اللازمة أن يريح الضمير فيما يجهله الإنسان - ولا بد أن يجهل - من شئون الغيب وأسرار الكون؛ لأنها الشئون والأسرار التي لا يحيط بها عقله المحدود، ولا تبديها له ظواهر الزمان والمكان؛ فلا يؤخذ على الدين إذن أن يتولى تقريب هذه الأسرار الأبدية بأسلوب المجاز والتشبيه، أو بأسلوب الرمز الذي تدركه العقول البشرية على مقدار حظها من الفطنة والنفاذ إلى بواطن الأمور وخفايا الشعور.
ومتى توفرت النفس على تسليم هذه الشرائط اللازمة لكل دين من الأديان، فقد وجب على العارفين أن يضطلعوا بالتوفيق بينها وبين مطالب الجماعة ومطالب الزمن ومطالب السريرة في أعماقها؛ حيث تتصل بعالم الغيب وعالم الشهادة صلاتها التي لا تنقطع لمحة عين. •••
وظاهر من سياق الكلام عن الدين في هذه الفاتحة أننا نعني به التدين على إطلاقه، ونريد أن ندل على أصالته في حياة الفرد وحياة الأمة، ومتى عرفنا للتدين أصالته في كلتا الحياتين منذ ألوف السنين، فليس ما يمنع أن يكون بين الديانات التي آمن بها البشر قديما وحديثا ديانة أفضل من ديانة، وعقيدة أقرب من عقيدة إلى الكمال.
وإنما تفضل الديانة سواها بمقدار شمولها لمطالب الروح وارتقاء عقائدها وشعائرها في آفاق العقل والضمير، وكذلك كانت الديانة الإسلامية - كما آمنا بها - ملة لا تفضلها ملة في شمول حقائقها وخلوص عباداتها وشعائرها من شوائب الملل الغابرة.
وذلك هو موضوع هذا الكتاب فيما عرضه من حقائق الإسلام، وفيما يعرض له من أباطيل المفترين عليه.
إن بعض العقائد ليصيب النفس بما يشبه داء الفصام؛ لأنه يقسم الشخصية الإنسانية على نفسها، ويمزق الضمير الحائر بين نوازع الجسد ونوازع الروح، وبين سلطان الأرض وسلطان السماء، وبين فرائض السعي وفرائض العبادة. وشمول العقيدة الإسلامية هو الذي يعصم ضمير المسلم من هذا الفصام الروحاني، وهو الذي يعلمه أن يرفع رأسه حين تدول دولته أمام المسيطرين عليه، وهو الذي يحفظ كيان الأمم الإسلامية أمام الضربات التي تلاحقت عليها من غارات الفاتحين، أو غارات الحروب الصليبية، أو غارات الاستعمار والتبشير.
وشمول العقيدة الإسلامية هو الذي حقق للإسلام ما لم يتحقق لعقيدة غيره من تحويل الأمم العريقة التي تدين بالكتب المقدسة إلى الإيمان به عن طواعية واختيار، كما آمنت به الأمم المسيحية والمجوسية والبرهمية في مصر وسوريا وفارس والهند والصين.
ولقد عزي انتشار الإسلام في صدر الدعوة المحمدية إلى قوة السيف، وما كان للإسلام يومئذ من سيف يصول به على أعدائه الأقوياء، بل كان المسلمون هم ضحايا السيف وطرائد الغشم والجبروت. وإن عدد المسلمين اليوم بين أبناء الهند والصين وإندونيسيا والقارة الأفريقية ليبلغ تسعة أعشار المسلمين في العالم أجمع، وما روى لنا التاريخ من أخبار الغزوات الدينية في عامة هذه الأقطار ما يكفي لتحويل الآلاف المعدودة - فضلا عن مئات الملايين - من دين إلى دين.
ولقد عزي انتشار الإسلام بين السود من أبناء القارة الإفريقية إلى سماح الإسلام بتعدد الزوجات، وما كان تعدد الزوجات بالأمر الميسور لكل من يشتهيه من أولئك السود المقبلين على الدين الإسلامي بغير مجهود، ولكنهم يجدون الخمر ميسرة لهم حيث أرادوها وقد حرمها الإسلام أشد التحريم، فلم ينصرف عنه السود؛ لأنه حال بينهم وبين شهوة الشراب التي قيل: إنها كانت شائعة بينهم شيوع الطعام والغذاء.
إنما شمول العقيدة الإسلامية دون غيره هو العامل القوي الذي يجمع إليه النفوس ويحفظ لها قوة الإيمان، ويستغني عن السيف وعن المال في بث الدعوة كلما تفتحت أبوابها أمام المدعوين إليها بغير عائق من سلطان الحاكمين والمتسلطين. •••
قلنا في باب العقيدة الشاملة من كتابنا عن «الإسلام في القرن العشرين»:
ويبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات؛ فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة قبل أن يطلع على حقائق الديانة ويتعمق في الاطلاع.
ومن المحقق أن إدراك الشمول من الوجهة العلمية لا يتأتى بغير الدراسة الوافية والمقارنة المتغلغلة في وجوه الاتفاق ووجوه الاختلاف بين الديانات، وبخاصة في شعائرها ومراسمها التي يتلاقى عليها المؤمنون في بيئاتهم الاجتماعية.
ولكن الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته، ويكفي أن يرى المسلم مستقلا بعبادته عن الهيكل والصنم والأيقونة والوثن، ليعلم أنه وحدة كاملة في دينه، ويعلم من ثم كل ما يرغبه في ذلك الدين أيام أن كان الدين كله حكرا للكاهن، ووقفا على المعبد، وعالة على الشعائر والمراسم مدى الحياة.
لقد ظهر الإسلام في إبان دولة الكهانة والمراسم، وواجه أناسا من الوثنيين أو من أهل الكتاب الذين صارت بهم تقاليد الجمود إلى حالة كحالة الوثنية في تعظيم الصور والتماثيل والتعويل على المعبد والكاهن في كل كبيرة أو صغيرة من شعائر العبادة، ولاح للناس في القرن السابع للميلاد خاصة أن المتدين قطعة من المعبد لا تتم على انفرادها، ولا تحسب لها ديانة أو شفاعة بمعزل عنه؛ فالدين كله في المعبد عند الكاهن، والمتدينون جميعا قطع متفرقة لا تستقل يوما بقوام الحياة الروحية، ولا تزال معيشتها الخاصة والعامة تثوب إلى المعبد لتتزود منه شيئا تتم به عقيدتها، ولا تستغني عنه مدى الحياة.
لا دين بمعزل عن المعبد والكاهن والأيقونة، سواء في العبادة الوثنية أو في عبادة أهل الكتاب، إلى ما بعد القرن السابع بأجيال متطاولة.
فلما ظهر المسلم في تلك الآونة ظهر الشمول في عقيدته من نظرة واحدة، ظهر أنه وحدة كاملة في أمر دينه؛ يصلي حيث يشاء، ولا تتوقف له نجاة على مشيئة أحد من الكهان، وهو مع الله في كل مكان،
فأينما تولوا فثم وجه الله (البقرة: 115).
ويذهب المسلم إلى الحج، فلا يذهب إليه ليغتنم من أحد بركة أو نعمة يضفيها عليه، ولكنه يذهب إليه كما يذهب الألوف من إخوانه، ويشتركون جميعا في شعائره على سنة المساواة بغير حاجة إلى الكهانة، وقد يكون السدنة الذين يراهم مجاورين للكعبة خداما لها وله، يدلونه حين يطلب منهم الدلالة، ويتركهم إن شاء؛ فلا سبيل لأحد منهم عليه.
فإذا توسع قليلا في العلم بشعائر الحج، علم أن الحج لا يفرض عليه زيارة قبر الرسول، وأن هذه الزيارة ليست من مناسك الدين، وأنها تحية منه يؤديها من عنده غير ملزم، كما يؤدي التحية لكل دفين عزيز محبوب لديه،
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي (الكهف: 110).
وقرأ فيه:
فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ (الشورى: 48).
وقرأ فيه:
قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين (النور: 54).
وقرأ فيه:
وما أنت عليهم بجبار (ق: 45).
وقرأ فيه:
لست عليهم بمصيطر (الغاشية: 22).
وقرأ فيه:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (سبأ: 28).
وقرأ فيه آيات لا تخرج في وصف الرسالة عن معنى هذه الآيات. •••
مر بنا أن فساد رجال الدين كان من أسباب انصراف أتباعهم عن دينهم ودخولهم أفواجا عقيدة للمسلمين.
مثل هذا لا يحصل في أمة إسلامية فسد فيها رجال دينها؛ فما من مسلم يذهب إلى الهيكل ليقول لكاهنه: خذ دينك إليك فإنني لا أومن به؛ لأنني لا أومن بك، ولا أرى في سيرتك مصدقا لأوامرك ونواهيك أو أوامره ونواهيه.
كلا، ما من رجل دين يبدو للمسلم أنه صاحب الدين، وأنه حين يؤمن بالله يؤمن به لأنه إله ذلك الرجل الذي يتوسط بينه وبين الله ، أو يعطيه من نعمته قواما لروحه:
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير * يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد (فاطر: 13-15).
نعم، كلهم فقراء إلى الله، وكلهم لا فضل لواحد منهم على سائرهم إلا بالتقوى، وكلهم في المسجد سواء، فإن لم يجدوا المسجد فمسجدهم كل مكان فوق الأرض وتحت السماء.
إن عقيدة المسلم شيء لا يتوقف على غيره، ولا تبقى منه بقية وراء سره وجهره، ومن كان إماما له في مسجده فلن ترتفع به الإمامة مقاما فوق مقام النبي صاحب الرسالة؛ النبي يبشر وينذر، ولا يتجبر ولا يسيطر، ويبلغ قومه ما حمل وعليهم ما حملوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
ومنذ يسلم المسلم يصبح الإسلام شأنه الذي لا يعرف لأحد حقا فيه أعظم من حقه، أو حصة فيه أكبر من حصته، أو مكانا يأوي إليه ويكون الإسلام في غيره.
كذلك لا ينقسم المسلم قسمين بين الدنيا والآخرة، أو بين الجسد والروح، ولا يعاني هذا الفصام الذي يشق على النفس احتماله ويحفزها في الواقع إلى طلب العقيدة، ولا يكون هو في ذاته عقيدة تعتصم بها من الحيرة والانقسام:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص: 77)،
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا * ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (الأحزاب: 3-4).
فإذا كانت العقيدة التي تباعد المسافة بين الروح والجسد تعفينا من العمل حين يشق علينا العمل، فالعقيدة التي توحد الإنسان وتجعله كلا مستقلا بدنياه شفاء له من ذلك الفصام الذي لا تستريح إليه السريرة إلا حين يضطر إلى الهرب من عمل الإنسان الكامل في حياته، وحافز له إلى الخلاص من القهر كلما غلب على أمره ووقع في قبضة سلطان غير سلطان ربه ودينه.
ومن هنا لم يذهب الإسلام مذهب التفرقة بين ما لله وما لقيصر؛ لأن الأمر في الإسلام كله لله:
بل لله الأمر جميعا (الرعد: 31)،
ولله المشرق والمغرب (البقرة: 115)،
رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (الشعراء: 28).
وإنما كانت التفرقة بين ما لله وما لقيصر تفرقة الضرورة التي لا يقبلها المتدين وهو قادر على تطويع قيصر بأمر الله، وهذا التطويع هو الذي أوجبته العقيدة الشاملة، وكان له الفضل في صمود الأمم الإسلامية لسطوة الاستعمار وإيمانها الراسخ بأنها دولة دائلة، وحالة لا بد لها من تحويل.
وقد أبت هذه العقيدة على الرجل أن يطيع الحاكم بجزء منه ويطيع الله بغيره، وأبت على المرأة أن تعطي بدنها في الزواج لصاحبها وتنأى عنه بروحها وسريرتها، وأبت على الإنسان جملة أن يستريح إلى «الفصام الوجداني» ويحسبه حلا لمشكلة الحكم والطاعة قابلا للدوام.
إن هذا الشأن العظيم - شأن العقيدة الشاملة التي تجعل المسلم «وحدة كاملة» - لا يتجلى واضحا قويا كما يتجلى من عمل الفرد في نشر العقيدة الإسلامية؛ فقد أسلم عشرات الملايين في الصحارى الإفريقية على يدي تاجر فرد، أو صاحب طريقة منفرد في خلوته لا يعتصم بسلطان هيكل ولا بمراسم كهانة، وتصنع هنا قدرة الفرد الواحد ما لم تصنعه جموع التبشير ولا سطوة الفتح والغلبة؛ فجملة من أسلموا في البلاد التي انتصرت فيها جيوش الدول الإسلامية هم الآن أربعون أو خمسون مليونا بين الهلال الخصيب وشواطئ البحرين الأبيض والأحمر، فأما الذين أسلموا بالقدوة الفردية الصالحة فهم فوق المائتين من الملايين، أو هم كل من أسلم في الهند والصين وجزائر جاوة وصحارى إفريقية وشواطئها، إلا القليل الذي لا يزيد في بداءته على عشرات الألوف. •••
وينبغي أن نفرق بين الاعتراف بحقوق الجسد وإنكار حقوق الروح؛ فإن الاعتراف بحقوق للجسد لا يستلزم إنكار الروحانية ولا الحد من سبحاتها التي اشتهرت باسم التصوف في اللغة العربية أو اشتهرت باسم «الخفيات والسريات» في اللغة الغربية
Mysticism ؛ إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد، كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح، وقد أشار القرآن الكريم إلى الفارق بين عالم الظاهر وعالم الباطن في قصة الخضر وموسى - عليهما السلام - وذكر تسبيح الموجودات ما كانت له حياة ناطقة وما لم تكن له حياة:
وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (الإسراء: 44)، وأشار إلى هذه الأشياء بضمير العقلاء، وعلم منه المسلمون أن الله أقرب إليهم من حبل الوريد، وأنه نور السماوات والأرض، وأنه
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (الحديد: 3). وحسب المرء أن يتعلم هذا من كتاب دينه، ليبيح لنفسه من سبحات التصوف كل ما يستباح في عقائد التوحيد، ولعله لم يوجد في أهل دين من الأديان طرق للتصوف تبلغ ما بلغته هذه الطرق بين المسلمين من الكثرة والنفوذ، ولا وجه للمقابلة بين الإسلام وبين البرهمية أو بين البوذية - مثلا - في العقائد الصوفية؛ فإن إنكار الجسد في البرهمية أو البوذية يخرجها من عداد العقائد الشاملة التي يتقبلها الإنسان بجملته غير منقطع عن جسده أو عن دنياه.
وحسب المرء أن يرضي مطالبه الروحية ولا يخالف عقائد دينه ليوصف ذلك الدين بالشمول، ويبرأ فيه الضمير من داء الفصام.
كذلك يخاطب الإسلام العقل ولا يقصر خطابه على الضمير أو الوجدان، وفي حكمه أن النظر بالعقل هو طريق الضمير إلى الحقيقة، وأن التفكير باب من أبواب الهداية التي يتحقق بها الإيمان:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا (سبأ: 46)،
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (البقرة: 219).
وما كان الشمول في العقيدة ليذهب فيها مذهبا أبعد وأوسع من خطاب الإنسان روحا وجسدا وعقلا وضميرا بغير بخس ولا إفراط في ملكة من هذه الملكات.
وفي مشكلة المشكلات التي تعرض للمتدين يعتدل المسلم بين الإيمان بالقدر والإيمان بالتبعة والحرية الإنسانية، فمن عقائد دينه:
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر (نوح: 4)،
وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب (فاطر: 11)،
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله (آل عمران: 145)،
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (النساء: 81).
ومن عقائد دينه أيضا:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد: 11)،
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (هود: 117)،
وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم (الشورى: 30).
وليس في الإسلام أن الخطيئة موروثة في الإنسان قبل ولادته، ولا أنه يحتاج في التوبة عنها إلى كفارة من غيره. وقد قيل: إن الإيمان بالقضاء والقدر هو علة جمود المسلمين. وقيل على نقيض ذلك: إنه كان حافزهم في صدر الإسلام على لقاء الموت وقلة المبالاة بفراق الحياة. وحقيقة الأمر أن المسلم الذي يترك العمل بحجة الاتكال على الله يخالف الله ورسوله؛ لأنه مأمور بأن يعمل في آيات الكتاب وأحاديث الرسول:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (التوبة: 105)، بل حقيقة الأمر أن خلاصة ذلك كله موقوف عليه، وأن إيمانه بحريته وتدبيره لا يقتضي بداهة أن الله - سبحانه - مسلوب الحرية والتدبير.
وأصدق ما يقال في عقيدة القضاء والقدر إنها قوة للقوي وعذر للضعيف، وحافز لطالب العمل وتعلة لمن يهابه ولا يقدر عليه، وذلك ديدن الإنسان في كل باعث وفي كل تعلة؛ كما أوضحنا في الفارق بين أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري وهما يقولان بقول واحد في عبث الجهد وعبث الحياة.
فأبو الطيب يقول عن مراد النفوس:
ومراد النفوس أهون من أن
نتعادى فيه وأن نتفانى
ثم يتخذ من ذلك باعثا للجهاد والكفاح، فيقول:
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
والمعري يقول: إن التعب عبث لأنه لا يؤدي بعده إلى راحة في الحياة، ولكنه يعجب من أجل هذا لمن يتعبون ويطلبون المزيد:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
وعلى هذا المثال يقال تارة: إن عقيدة القضاء والقدر نفعت المسلمين، ويقال تارة أخرى: إنها ضرتهم وأوكلتهم إلى التواكل والجمود. وصواب القول أنهم ضعفوا قبل أن يفسروا القضاء والقدر ذلك التفسير، وتلك خديعة الطبع الضعيف.
وتوصف العقيدة الإسلامية بالشمول؛ لأنها تشمل الأمم الإنسانية جميعا، كما تشمل النفس الإنسانية بجملتها من عقل وروح وضمير.
فليس الإسلام دين أمة واحدة، ولا هو دين طبقة واحدة، وليس هو للسادة المسلطين دون الضعفاء المسخرين، ولا هو للضعفاء المسخرين دون السادة المسلطين، ولكنه رسالة تشمل بني الإنسان من كل جنس وملة وقبيلة:
وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (الإسراء: 105)،
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض (الأعراف: 158)،
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (البقرة: 136)،
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (المائدة: 69).
فهذه عقيدة إنسانية شاملة، لا تخص بنعمة الله أمة من الأمم لأنها من سلالة مختارة دون سائر السلالات لفضيلة غير فضيلة العمل والصلاح:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (الحجرات: 13).
وفي أحاديث النبي - عليه السلام - أنه: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وليس للإسلام طبقة يؤثرها على طبقة أو منزلة يؤثرها على منزلة؛ فالناس درجات، يتفاوتون بالعلم، ويتفاوتون بالعمل، ويتفاوتون بالرزق، ويتفاوتون بالأخلاق:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة: 11)،
لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم (النساء: 95)،
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق (النحل: 71)،
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9). •••
وإذا ذكر القرآن الضعف، فلا يذكره لأن الضعف نعمة أو فضيلة مختارة لذاتها، ولكنه يذكره ليقول للضعيف إنه أهل لمعرفة الله إذا جاهد وصبر وأنف أن يسخر لبه وقلبه للمستكبرين، وإلا فإنه لمن المجرمين:
يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (سبأ: 31-32)،
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (القصص: 5-6).
وما من ضعيف هو ضعيف إذا صبر على البلاء، فإذا عرف الصبر عليه فإنه لأقوى من العصبة الأشداء:
الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (الأنفال: 66).
فما كان الإله الذي يدين به المسلم إله ضعفاء أو إله أقوياء، ولكنه إله من يعمل ويصبر ويستحق العون بفضل فيه، جزاؤه أن يكون مع الله، والله مع الصابرين.
بهذه العقيدة الشاملة غلب المسلمون أقوياء الأرض، ثم صمدوا لغلبة الأقوياء عليهم يوم دالت الدول وتبدلت المقادير، وذاق المسلمون بأس القوة مغلوبين مدافعين.
وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية؛ فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا جماعيا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضى والاقتناع؛ إذ كان المتحولون إلى المسيحية أو إلى اليهودية قبلها في أول نشأتها أمما وثنية على الفطرة لا تدين بكتاب، ولم تعرف قبل ذلك عقيدة التوحيد أو الإله الخالق المحيط بكل شيء، ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام، وإنما تفرد الإسلام بهذه المزية دون سائر العقائد الكتابية؛ فتحولت إليها الشعوب فيما بين النهرين وفي أرض الهلال الخصيب وفي مصر وفارس، وهي - فارس - أمة عريقة في الحضارة كانت قبل التحول إلى الإسلام تؤمن بكتابها القديم، وتحول إليه أناس من أهل الأندلس وصقلية، كما تحول إليه أناس من أهل النوبة الذين غبروا على المسيحية أكثر من مائتي سنة، ورغبهم جميعا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير، ويعم بني الإنسان على تعدد الأقوام والأوطان، ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرائع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع.
وإبراز هذه المزية - مزية العقيدة الإسلامية التي أعانت أصحابها على الغلب وعلى الدفاع والصمود - هو الذي نستعين به على النظر في مصير الإسلام بعد هاتين الحالتين، ونريد بهما حالة القوي الغالب وحالة الضعيف الذي لم يسلبه الضعف قوة الصمود للأقوياء، إلى أن يحين الحين ويتبدل بين حالتي الغالب والمغلوب حالته التي يرجوها لغده المأمول، ولئن كانت حالة الصمود حسنى الحالتين في مواقف الضعف، مع شمول العقيدة وبقائها صالحة للنفس الإنسانية في جملتها وللعالم الإنساني في جملته، ليكونن المصير في الغد المأمول أكرم ما يكون مع هذه القوة وهذا الشمول.
في هذه العجالة عن شمول العقيدة الإسلامية إلمامة كافية لمقصدنا في هذا الكتاب الذي نود أن نستقصي فيه كل ما يستقصى عن حقائق الدين في حيز هذه الصفحات.
أما المزايا التي امتازت بها عقائد الإسلام وأحكامه، فنحن مفردون لها ما يلي من فصول الكتاب الأربعة، وهي مبدوءة بفصل عن العقائد، ويليه فصل عن الحقوق، وفصل عن المعاملات، وفصل عن الأخلاق والآداب.
ووجهتنا التي نتجه إليها في هذه البحوث:
أولا:
أن الإسلام يوحي إلى المسلم عقيدة في الذات الإلهية، وعقيدة في الهداية النبوية، وعقيدة في الإنسان لا تعلوها عقيدة في الديانات ولا في الحكمة النظرية أو الحكمة العملية.
وثانيا:
أن أحكام الإسلام لا تعوق المسلم عن غاية تفتحها أمامه أشواط العلم والحضارة.
وثالثا:
أن في الإسلام زادا للأمم الإنسانية في طريق المستقبل الطويل يواتيها بما فيه غنى لها حيث نضبت الأزواد من وطاب العقائد الروحية أو تكاد.
وباسم الله نتجه في وجهتنا، وعلى هدى من الإيمان بالله.
الفصل الأول
العقائد
(1) العقيدة الإلهية
العقيدة في الإله رأس العقائد الدينية بجملتها وتفصيلها. من عرف عقيدة قوم في إلههم فقد عرف نصيب دينهم من رفعة الفهم والوجدان، ومن صحة المقاييس التي يقاس بها الخير والشر وتقدر بها الحسنات والسيئات؛ فلا يهبط دين وعقيدته في الإله عالية، ولا يعلو دين وعقيدته في الإله هابطة ليست مما يناسب صفات الموجود الأول الذي تتبعه جميع الموجودات.
ولقد كان النظر في صفات الله مجال التنافس بين أكبر العقول من أصحاب الفلسفة الفكرية وأصحاب الحكمة الدينية، وقد كانت مهمة الفلاسفة أيسر من مهمة حكماء الأديان؛ لأن الفيلسوف النظري ينطلق في تفكيره وتقديره غير مقيد بفرائض العبادة وحدود المعاملات التي يتقيد بها الحكيم الديني، ويتقيد بها من يأتمون به من أتباعه في الحياة العامة والمعيشة الخاصة؛ فظهر بين الفلاسفة النظريين من سما بالتنزيه الإلهي صعدا إلى أوج لا يلحق به الخيال فضلا عن الفكر والإحساس.
وجاء الإسلام في جوف الصحراء العربية بأسمى عقيدة في الإله الواحد الأحد، صححت فكرة الفلسفة النظرية كما صححت فكرة العقائد الدينية؛ فكان تصحيحه لكل من هاتين الفكرتين - في جانب النقص منها - أعظم المعجزات التي أثبتت له في حكم العقل المنصف والبديهة الصادقة أنه وحي من عند الله.
يقال على الإجماع: إن صفات الإله قد ارتفعت إلى ذروتها العليا من التنزيه والتجريد في مذهب «أرسطو» الفيلسوف اليوناني الكبير.
والذين يرون هذا الرأي لا ينسون مذهب «أفلاطون»: إمام الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، وشيخ الفلسفة الصوفية بين الغربيين إلى العصر الأخير، غير أنهم لا يذكرونه في معرض الكلام على التنزيه في وصف الله؛ لأن مذهبه أقرب إلى الغيبوبة الصوفية منه إلى التفكير الجلي والمنطق المعقول، وطريقته في التنزيه أن يمعن في الزيادة على كل صفة يوصف بها الله، فلا يزال يتخطاها، ثم يتخطاها كلما استطاع الزيادة اللفظية حتى تنقطع الصلة بينها وبين جميع المدلولات المفهومة أو المظنونة. ويرجح الأكثرون أن «أفلاطون» نفسه لم يكن يتصور ما يصوره من تلك الصفات، وإنما كانت غايته القصوى أن يذهب بالتصور إلى منقطع العجز والإعياء.
فمن ذلك أنه ينكر صفة الوحدانية ليقول بصفة الأحدية، ويقول: «إن الواحد غير الأحد؛ لأن الواحد قد يدخل في عداد الاثنين والثلاثة والعشرة، ولا يكون الأحد إلا مفردا بغير تكرار.»
ومن ذلك أنه ينكر صفة الوجود ليقول: إن الله لا يوصف بأنه موجود، تنزيها له عن الصفة التي يقابلها العدم وتشترك فيها الموجودات أو الموجدات.
لهذا يضربون المثل بأرسطو في تنزيه الإله، ولا يضربون المثل بأفلاطون؛ لأن مذهبه ينقطع في صومعة من غيبوبة الذهول لا تمتزج بحياة فكرية ولا بحياة عملية.
ومذهب أرسطو في الإله أنه كائن أزلي أبدي مطلق الكمال لا أول له ولا آخر، ولا عمل له ولا إرادة، منذ كان العمل طلبا لشيء والله غني عن كل طلب، وقد كانت الإرادة اختيارا بين أمرين، والله قد اجتمع عنده الأصلح الأفضل من كل كمال؛ فلا حاجة به إلى الاختيار بين صالح وغير صالح، ولا بين فاضل ومفضول. وليس مما يناسب الإله في رأي أرسطو أن يبتدئ العمل في زمان؛ لأنه أبدي سرمدي لا يطرأ عليه طارئ يدعوه إلى العمل، ولا يستجد عليه من جديد في وجوده المطلق بلا أول ولا آخر ولا جديد ولا قديم. وكل ما يناسب كماله فهو السعادة بنعمة بقائه التي لا بغية وراءها ولا نعمة فوقها ولا دونها، ولا تخرج من نطاقها عناية تعنيه.
فالإله الكامل المطلق الكمال لا يعنيه أن يخلق العالم أو يخلق مادته الأولى وهي «الهيولي»، ولكن لهذه «الهيولي» قابلية للوجود يخرجها من القوة إلى الفعل شوقها إلى الوجود الذي يفيض عليها من قبل الإله، فيدفعها هذا الشوق إلى الوجود ثم يدفعها من النقص إلى الكمال المستطاع في حدودها؛ فتتحرك وتعمل بما فيها من الشوق والقابلية، ولا يقال عنها: إنها من خلقة الله، إلا أن تكون الخلقة على هذا الاعتبار. •••
كمال مطلق لا يعمل ولا يريد.
أو كمال مطلق يوشك أن يكون هو والعدم المطلق على حد السواء.
ولنذكر أنه أرسطو صاحب هذا المذهب قبل كل شيء.
ولنذكر أنه ذلك العقل الهائل الذي يهابه من يحس قدرته؛ فلا يجترئ عليه بالنقد والتسفيه قبل أن يفرغ جهده في التماس المعذرة له من جهل عصره، وقصور الأفكار حوله لا من جهله هو أو قصور تفكيره؛ فإنه لم يعودنا في تفكيره احتمالا قط لا ينقصه قصارى مداه، ولا يستوفي مقتضياته وموانعه جهد ما في الطاقة الإنسانية من استيفاء.
لنذكر أنه أرسطو، لكي نذكر أن هذا العقل النادر لم يؤت من نقص في تصور الصفات العلوية إلا لأنه عاش في زمان لم تتكشف فيه المعرفة من خصائص هذه الكائنات الأرضية «السفلى» التي نحسها ونعيش بينها ، ولو أنه عرف ما هو لاصق بها من خصائصها وأعراضها لكان له رأي في الكمال العلوي غير ذلك الذي ارتآه بمحض الظن والقياس على غير مقيس.
لقد كان يفهم من كمال الكائنات العلوية - السماوية - أنها خالدة باقية لا تفنى؛ لأنها من نور، والنور بسيط لا يعرض له الفناء كما يعرض على التركيب.
ولو أن أرسطو عاش حتى علم أن المادة الأرضية - السفلى - كلها من نور، وأن عناصر المادة كلها تئول إلى الذرات والكهارب، وأن هذه الذرات والكهارب تنشق فتئول إلى شعاع؛ لما ساقه الظن والقياس إلى ذلك الخطأ في التفرقة بين لوازم البقاء ولوازم الفناء، أو بين خصائص البساطة وخصائص التركيب.
ولعل إدراكه لذاك الخطأ في فهم لوازم البساطة والكمال، ولوازم البقاء والفناء؛ كان خليقا أن يهديه إلى فهم خطئه في تصور لوازم الكمال الإلهي؛ فلا يمتنع في عقله أن يجتمع الكمال الواحد من صفات عدة كالصفات الحسنى التي وصف بها الإله في الإسلام، ومنها الرحمة والكرم والقدرة والفعل والإرادة، ولا يمتنع في عقله أن يكون لهذه الصفات لوازمها ومقتضياتها؛ إذ لا تكون قدرة بغير مقدور عليه، ولا يكون كرم بغير إعطاء، ولا تكون مشيئة بغير اختيار بين أمرين، وإذا اختار الله أمرا فهو لا يختاره لذاته - سبحانه وتعالى - بل يختاره لمخلوقاته التي تجوز عليها حالات شتى لا تجوز في حق الإله، وإذا خلق الله شيئا في الزمان فلا ننظر إلى الأبدية الإلهية، بل ينبغي أن ننظر إلى الشيء الموجود على المخلوق في زمانه، ثم لا مانع عقلا من أن تتعلق به إرادة الله الأبدية على أن يكون حيث كان في زمن من الأزمان.
لقد كان مفهوم البساطة في الأبدية الباقية عند أرسطو غير مفهومها الذي لمسناه اليوم لمسا في هذه الكائنات الأرضية السفلية؛ فلا جرم يكون مفهوم الكمال المطلق عندنا غير مفهومه الذي جعله أرسطو أشبه شيء بالعدم المطلق، غير عامل ولا مريد ولا عالم بسوى النعمة والسعادة، قانع بأنه منعم سعيد. •••
وعلى هذا يبقى لنا أن نسأل: هل استطاع أرسطو بتجريده الفلسفي أن يسمو بالكمال الأعلى فوق مرتبته التي يستلهمها المسلم من عقيدة دينه؟
نقول عن يقين: كلا؛ فإن الله في الإسلام إله صمد لا أول له ولا آخر، وله المثل الأعلى؛ فليس كمثله شيء، وهو محيط بكل شيء.
ثم يبقى بعد ذلك أن نسأل: هل تغض العقيدة الدينية من الفكرة الفلسفية في مذهب التنزيه؟
والجواب: كلا، بل الدين هنا فلسفة أصح من الفلسفة إذا قيست بالقياس الفلسفي الصحيح؛ لأن صفات الإله التي تعددت في عقيدة الإسلام لا تعدو أن تكون نفيا للنقائص التي لا تجوز في حق الإله، وليس تعدد النقائص مما يقضي بتعدد الكمال المطلق الذي ينفرد ولا يتعدد؛ فإن الكمال المطلق واحد والنقائص كثيرة لا ينفيها جميعا ذلك الكمال الواحد، وما إيمان المسلم بأن الله عليم قدير فعال لما يريد كريم رحيم، إلا إيمانا بأنه - جل وعلا - قد تنزه عن نقائص الجهل والعجز والجحد والغشم؛ فهو كامل منزه عن جميع النقائص، ومقتضى قدرته أن يعمل ويخلق ويريد لخلقه ما يشاء، ومقتضى عمله وخلقه أن يتنزه عن تلك «العزلة السعيدة» التي توهمها أرسطو مخطئا في التجريد والتنزيه، فهو سعيد بنعمة كماله سعيد بنعمة عطائه، كفايته لذاته العلية لا تأبى له أن يفيض على الخلق كفايتهم من الوجود في الزمان، أي من ذلك الوجود المحدود الذي لا يغض من وجود الله في الأبد بلا أول ولا آخر ولا شريك ولا مثيل.
ومن صفات الله في الإسلام ما يعتبر ردا على فكرة الله في الفلسفة الأرسطية، كما يعتبر ردا على أصحاب التأويل في الأديان الكتابية وغير الكتابية.
فالله عند أرسطو يعقل ذاته ولا يعقل ما دونها، ويتنزه عن الإرادة؛ لأن الإرادة طلب في رأيه والله كمال لا يطلب شيئا غير ذاته، ويجل عن علم الكليات والجزئيات؛ لأنه يحسبها من علم العقول البشرية، ولا يعنى بالخلق رحمة ولا قسوة؛ لأن الخلق أحرى أن يطلب الكمال بالسعي إليه، ولكن الله في الإسلام عالم الغيب والشهادة:
لا يعزب عنه مثقال ذرة (سبأ: 3)،
وهو بكل خلق عليم (يس: 79)،
وما كنا عن الخلق غافلين (المؤمنون: 17)،
وسع ربنا كل شيء علما (الأعراف: 89)،
ألا له الخلق والأمر (الأعراف: 54)،
عليم بذات الصدور (فاطر: 38)،
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان (المائدة: 64).
وفي هذه الآية رد على يهود العرب بمناسبة خاصة تتعلق بالزكاة والصدقات - كما جاء في أقوال بعض المفسرين - ولكنها ترد على كل من يغلون إرادة الله على وجه من الوجوه، ولا يبعد أن يكون في يهود الجزيرة من يشير إلى رواية من روايات الفلسفة الأرسطية لذلك المقال.
وقد أشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين الأديان المتعددة، فجاء فيه من سورة الحج:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد (الحج: 17).
وأشار إلى الدهريين، فجاء في سورة الجاثية:
وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون (الجاثية: 24).
فكانت فكرة الله في الإسلام هي الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة في هذه العقائد الدينية، وفي المذاهب الفلسفية التي تدور عليها؛ ولهذا بلغت المثل الأعلى في صفات الذات الإلهية، وتضمنت تصحيحا للضمائر وتصحيحا للعقول في تقرير ما ينبغي لكمال الله، بقسطاس الإيمان وقسطاس النظر والقياس.
ومن ثم كان فكر الإنسان من وسائل الوصول إلى معرفة الله في الإسلام، وإن كانت الهداية كلها من الله.
ومجمل ما يقال عن عقيدة الذات الإلهية التي جاء بها الإسلام أن الذات الإلهية غاية ما يتصوره العقل البشري من الكمال في أشرف الصفات، وقد جاء الإسلام بالقول الفصل في مسألة البقاء والفناء؛ فالعقل لا يتصور للوجود الدائم والوجود الفاني صورة أقرب إلى الفهم من صورتيهما في العقيدة الإسلامية؛ لأن العقل لا يتصور وجودين سرمديين، كلاهما غير مخلوق، أحدهما مجرد والآخر مادة، وهذا وذاك ليس لهما ابتداء وليس لهما انتهاء.
ولكنه يتصور وجودا أبديا يخلق وجودا زمانيا، أو يتصور وجودا يدوم ووجودا يبتدئ وينتهي في الزمان.
وقديما قال أفلاطون وأصاب فيما قال: «إن الزمان محاكاة للأبد ... لأنه مخلوق، والأبد غير مخلوق.»
فبقاء المخلوقات بقاء في الزمن، وبقاء الخالق بقاء أبدي سرمدي لا يحده الماضي والحاضر والمستقبل؛ لأنها كلها من حدود الحركة والانتقال في تصور أبناء الفناء، ولا تجوز في حق الخالق السرمدي حركة ولا انتقال.
فالله هو
الحي الذي لا يموت (الفرقان: 58)،
وهو الذي يحيي ويميت (المؤمنون: 80)،
كل شيء هالك إلا وجهه (القصص: 88).
1
وأيا كان المرتقى الذي ارتفع إليه تنزيه الفكرة الإلهية في مذهب أرسطو كما شرحناه بعض الشرح، أو مذهب أستاذه أفلاطون كما أومأنا إليه بعض الإيماء؛ فهذا التنزيه الفلسفي قمة منبتة عن البيئة التي عاش فيها الفيلسوفان، ويكاد هذا التنزيه الفلسفي أن يكون خيالا جامحا بالنسبة إلى العقائد الإلهية التي كانت فاشية بين الكهان والمتعبدين من أبناء اليونان.
فلا شك أن صورة «زيوس» رب الأرباب عندهم كانت أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الأرباب المنزهين، ولو لم يبلغ وصف التنزيه عندهم نصيبا ملحوظا من الكمال.
كان «زيوس» حقودا لدودا مشغولا بشهوات الطعام والغرام، لا يبالي من شئون الأرباب والمخلوقات إلا ما يعينه على حفظ سلطانه والتمادي في طغيانه، وكان يغضب على «أسقولاب» إله الطب؛ لأنه يداوي المرضى فيحرمه جباية الضريبة على أرواح الموتى الذين ينتقلون من ظهر الأرض إلى باطن الهاوية، وكان يغضب على «برومثيوس» إله المعرفة والصناعة؛ لأنه يعلم الإنسان أن يستخدم النار في الصناعة وأن يتخذ من المعرفة قوة تضارع قوة الأرباب، وقد حكم عليه بالعقاب الدائم فلم يقنع بموته ولا بإقصائه عن حظيرة الآلهة، بل تفنن في اختراع ألوان العذاب له فقيده إلى جبل سحيق، وأرسل عليه جوارح الطير تنهش كبده طوال النهار حتى إذا جن الليل عادت سليمة في بدنه لتعود الجوارح إلى نهشها بعد مطلع الشمس ... ولا يزال هكذا دواليك في العذاب الدائم مردود الشفاعة مرفوض الدعاء. ومما رواه الشاعر الفيلسوف «هزيود» عن علة غضب الإله على «برومثيوس» أنه قسم له نصيبه من الطعام في وليمة الأرباب فأكثر فيه من العظام، وأقل فيه من اللحوم والشحوم؛ فاعتقد «زيوس» أنه يتعالم عليه بمعرفته وفطنته؛ لأنه اشتهر بين الآلهة بمعرفة وافرة وفطنة نافذة لم يشتهر بها الإله الكبير. ولا يغيب عنا - ونحن نروي أخبار الإله الكبير منقولة عن «هزيود» - أن هذا الشاعر الفيلسوف قد اجتهد قصارى اجتهاده في تنزيه «زيوس»، وتصويره للناس في صورة من القداسة والعظمة تناسب صورة الإله المعبود بعد ارتقاء العبادة شيئا ما في ديانة اليونان الأقدمين.
ومما رواه الرواة المختلفون عن «زيوس» أنه كان يخادع زوجته «هيرة»، ويرسل إله الغمام لمدارة الشمس في مطلعها، حذرا من هبوب زوجته الغيرى عليه مع مطلع النهار ومفاجأته بين عشيقاته على عرش «الأوليمب» ... وحدث مرة أنها فاجأته وهو يقبل ساقيه «جانيميد» راعي الضأن الجميل الذي لمحه يوما في الخلاء، فاختطفه وصعد به إلى السماء ... فلم يتنصل «زيوس» من تهمة الشغف بساقيه، ومضى يسوغ مسلكه لزوجته بما جهلته من لذة الجمع بين رحيق الكأس ورحيق الشفاه. •••
ومثل الأمم القديمة كمثل اليونان في بعد الفارق بين صورة الإله في حكمة الفلاسفة وبين صورته في شعائر الكهان والمتعبدين.
فالهند القديمة كانت تطوي هياكلها ومعابدها على طوائف من الأرباب؛ منها ما يلحق بالحيوان وعناصر الطبيعة، ومنها ما يلحق بالأوثان والأنصاب، وكثير منها يتطلب سدنته أن يتقربوا بالبغاء المقدس وسفك الدماء.
وقد انتهت هذه الأرباب المتعددة إلى الثالوث الأبدي الذي اشتمل على ثلاث من الصور الإلهية، هي الإله «براهما» في صورة الخالق، والإله «فشنو» في صورة الحافظ، والإله «سيفا» في صورة الهادم ... فجعلوا الهدم والفساد من عمل الإله الأعلى الذي يتولاه حين يتشكل لعباده في تلك الصورة.
وزادوا على ذلك أنهم جعلوا لكل إله قرينا يسمونه «الشاكتي» أو الزوجة أو الصاحبة، ينسبون إليها من الشرور ما ينزهون عنه قرينها أو صاحبها.
فهذه الأرباب صور لا تتباعد المسافة بينها وبين صور الشياطين والعفاريت والأرواح الخبيثة المعهودة في أقدم الديانات.
فإذا ارتفعنا في معارج التنزيه والتجريد بلغنا منها ذروتها العليا في صورتين مختلفتين : إحداهما صورة «الكارما»
karma ، والصورة الأخرى «النرڤانا»
NIRVAN ، وكلتاهما تحسب من قبيل المعاني الذهنية، وقل أن توصف بوصف الذات الإلهية.
فالكارما هي القدر الغالب على جميع الموجودات ومنها الآلهة وأفلاك السماء، وهذا القدر هو في الواقع حالة من الحالات العامة يمكن أن نعبر عنها بأنها هي «ما ينبغي»، أو هي الوضع الحاصل على النحو الأمثل؛ فليس القدر المسمى بالكارما عندهم ذاتا إلهية معروفة الصفات، ولكنه مرادف لكلمة «الابتغاء» أو كلمة «الواجب» كما وجب في الحوادث والموجودات.
والنرڤانا حالة عامة كحالة الكارما، إلا أنها إلى العدم أقرب منها إلى الوجود؛ لأنها الحالة التي تنتهي إليها جميع الأرواح حين تفرغ من عناء الوجود، وتتجرد من شواغل الأجساد وشواغل الأرواح على السواء، وتتساوى أرواح الآلهة وأرواح البشر في حالة النرڤانا هذه كلما سعدت بنعمة الخلود غير محسوس ولا مشهود. •••
ولسنا نريد في هذه الصفحات القليلة أن نتتبع الصور الإلهية والربوبية كافة بين أمم الحضارات الأولى، وإنما نجتزئ منها بالنماذج الدالة عليها فيما ارتقت إليه من التنزيه، وفيما هبطت إليه من التجسيم أو التشبيه أو التشويه؛ ولهذا يغنينا عن الاسترسال في شرح عادات الأقدمين أن نضيف إلى ما تقدم مثلا آخر يتمم أمثلة اليونان والهند، وذلك هو مثل الديانة المصرية القديمة من أبعد عهود الفراعنة إلى عهد الديانات الكتابية، وهي - أي الديانة المصرية القديمة - أرفع الديانات فيما نعلم ترقيا إلى ذروة التوحيد والتنزيه، وإن كانت في عبادتها الشائعة تهبط أحيانا إلى مهبط الديانات الغابرة من عبادة الطواطم والأنصاب، وعبادة الأرواح الخبيثة والشياطين.
بلغت ديانة مصر القديمة ذروتها العليا من التوحيد والتنزيه في ديانة «آتون» التي بشر بها الفرعون المنسوب إليه «أخناتون».
ويؤخذ من صلوات «أخناتون» المحفوظة بين أيدينا أنه كان يصلي إلى خالق واحد يكاد يقترب في صفاته من الإله الخالق الذي يصلي له العارفون من أتباع الديانات الكتابية، لولا شائبة من العبادة الوثنية علقت به من عبادة الشمس، فكانت هذه الشمس الدنيوية رمزا له ومرادفا لاسمه في معظم الصلوات. •••
هذه الشواهد من التاريخ القديم شواهد تمثيل لا شواهد حصر وتفصيل، وهي مغنية في الدلالة على المدى الذي وصل إليه تنزيه الفكرة الإلهية في أمم التاريخ القديم جميعها؛ لأنها تدل على ما وصلت إليه الفكرة الإلهية المنزهة في أرفع الحضارات الأولى وهي الحضارة المصرية، والحضارة الهندية، والحضارة اليونانية.
وجملة الملاحظات على تنزيه الفكرة الإلهية عند الأقدمين أنه كان تنزيها خاصا مقصورا على الفئة القليلة من المفكرين والمطلعين على صفوة الأسرار الدينية.
ثم يلاحظ عليه بعد ذلك أنه تنزيه لم يسلم في كل آنة من ضعف يعيبه عقلا ويجعله غير صالح للأخذ به في ديانات الجماعة على الخصوص.
ففي الديانة المصرية لم تسلم فكرة التوحيد من شائبة الوثنية، ولم تزل عبادة الشمس ظاهرة الأثر في عبادة «آتون».
وديانة الهند لم تعلم الناس الإيمان ب «ذات إلهية» معروفة الصفات، وليس في معبوداتها أشرف من الكارما والنرڤانا، وهما بالمعاني الذهنية أشبه منهما بالكائنات الحية، وإحداهما - وهي النرڤانا - إلى الفناء أقرب منها إلى البقاء.
والتنزيه الفلسفي الذي ارتقت إليه حكمة اليونان في مذهب أرسطو يكاد يلحق الكمال المطلق بالعدم المطلق، ويخرج لنا صورة للإله لا تصلح للإيمان بها ولا للاقتناع بها على هدى من الفهم الصحيح.
وكل أولئك لا يبلغ بالتنزيه الإلهي مبلغه الذي جاءت به الديانة الإسلامية صالحا للإيمان به في العقيدة الدينية، وصالحا للأخذ به في مذاهب التفكير.
والديانة الإسلامية - كما هو معلوم - ثالثة الديانات المشهورة باسم الديانات الكتابية، مكانها في علم المقارنة بين الأديان مرتبط بمكان الديانتين الأخريين وهما الموسوية والمسيحية، وتجري المقارنة بين الإسلام وبينهما فعلا في كتابات الغربيين، فلا يتورع أكثرهم من حسبان الإسلام نسخة مشوهة أو محرفة من المسيحية أو الموسوية!
والمسألة - بعد - مسألة نصوص محفوظة وشعائر ملحوظة، لا تحتمل الجدل الطويل في ميزان النقد والمقارنة وإن احتملته في مجال الدعوة والخصومة العصبية، ولا حاجة في المقارنة بين هذه الديانات إلى أكثر من ذكر العقيدة الإلهية في كل منها، للعلم الصحيح بمكانها من التنزيه في حكم الدين وحكم المعرفة النظرية.
إن المراجع التي تلقينا منها عقائد العبريين - كما يدين بها أتباع الديانة الموسوية إلى يومنا هذا - مبسوطة بين أيدي جميع القادرين على مطالعتها في لغاتها الأصيلة أو لغاتها المترجمة، وأشهرها التوراة والتلمود.
فصورة الإله في هذه المراجع من أوائلها إلى أواخرها هي صورة «يهوا» إله شعب إسرائيل، وهي صورة بعيدة عن الوحدانية، يشترك معها آلهة كثيرون تعبدها الأمم التي جاورت العبريين في أوطان نشأتهم وأوطان هجرتهم، ولكن «يهوا» يغار منها ولا يريد من شعب إسرائيل أن يلتفت إليها؛ لأنه يريد أن يستأثر بشعب إسرائيل لنفسه بين سائر الشعوب، وأن يستأثر شعب إسرائيل به لأنفسهم بين سائر الآلهة، وكان إذا غضب منهم لالتفاتهم إلى غيره قال لهم - كما جاء في سفر أشعيا الثاني: «بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه؟» وكان النبي أرميا يقول لهم بلسان الرب إلههم: «إن آباءكم قد تركوني وذهبوا وراء آلهة أخرى وعبدوها وسجدوا لها، وإياي تركوا، وشريعتي لم يحفظوا ...» ثم يقول الرب: «... وأعطيتهم قلبا ليعرفوا أني أنا الرب، فيكونون لي شعبا، وأنا أكون لهم إلها.»
فلم يكن العبريون ينكرون وجود الآلهة الكثيرين غير إلههم الذي يعبدونه تارة ويتركونه تارة أخرى، ولكنهم كانوا يحسبون الكفر به ضربا من خيانة الرعية لملكها واعترافهم بالطاعة لغيره من الملوك القائمين بالملك في أرض غير أرضه وبين رعية غير رعيته، وإذا تركوا «يهوا» حينا من الزمن ثم آثروا الرجعة إلى عبادته فإنما يرجعون إليه؛ لاعتقادهم بالتجربة المزعومة أنه أقدر على النكاية بهم، وأن الآلهة الأخرى عجزت عن حمايتهم من سخطه وانتقامه.
وقد وصفوه في كتبهم المقدسة فقالوا عنه مرة: إنه يحب ريح الشواء. وقالوا عنه مرة أخرى: إنه يتمشى في ظلال الحديقة ليتبرد بهوائها. وقالوا عنه - غير هذا وذاك: إنه يصارع عباده ويصارعونه، وإنه يخاف من مركبات الجبال كما يخافها جنوده، وغبروا ردحا من الدهر وهم يسوون بينه وبين عزازيل شيطان البرية فيتقربون إليه بذبيحة، ويتقربون إلى الشيطان بذبيحة مثلها.
ومن تتبع نعوت «يهوا» من أوائل أيام العبريين في أوطان نشأتهم وأوطان هجرتهم، إلى أواخرها قبل عصر الميلاد المسيحي؛ لم يتبين من تلك النعوت أنهم وسعوا أفق العبادة لهذا الإله، ولا أنهم وسعوا مجال الحظوة عنده، بل إنه ليتبين من نعوته السابقة واللاحقة أنهم كانوا يضيقون أفق عبادته، ويحصرون مجال الحظوة عنده جيلا بعد جيل؛ فكان شعبه المختار في مبدأ الأمر عاما شاملا لقوم إبراهيم، ثم أصبح بعد بضعة قرون محصورا مقصورا على قوم يعقوب بن إسحاق، ثم أصبح بعد ذلك محصورا مقصورا على قوم موسى، ثم على أبناء داود وعلى من يدينون لعرشه بالولاء ... ومن ذريته كان ينبغي أن يظهر المسيح المخلص لهم في آخر الزمان. •••
وجمد العبريون على عقيدتهم الإلهية؛ فظل «يهوا» إلها عبريا يستأثر به أبناء يعقوب بن إسحاق، ولا يرجو الخلاص بمعونة منه إلا الذين يدينون بالولاء لعرش داود وذريته من بعده، فلم يتغير هذا الاعتقاد بين العبريين قبل عصر الميلاد المسيحي، ولم يأت التغيير فيه من قبل أبناء إسرائيل المحافظين على عقيدتهم الأولى، بل أتى هذا التغيير من قبل المصلحين المجددين في الدين اليهودي، وقام به من بينهم رسول مغضوب عليه في شرعتهم متهم بالمروق من زمرتهم، وهو عيسى ابن مريم، رضوان الله عليه.
وابتدأ عيسى ابن مريم دعوته الأولى مختصا بها بني إسرائيل دون سواهم من العالمين، وذكرت لنا الأناجيل تفصيل الحوار الذي دار بين السيد المسيح وبين المرأة الكنعانية التي توسلت إليه أن يخرج الشيطان من ابنتها، فروى إنجيل مرقص في الإصحاح السابع:
إن امرأة بابنتها روح نجس سمعت به؛ فأتت وخرت عند قدميه، وكانت المرأة أممية - أي من أبناء الأمم غير الإسرائيلية - وفي جنسها فينقية سورية، فسألته أن يخرج الشيطان من ابنتها، وأما يسوع فقال لها: دعي البنين أولا يشبعون؛ لأنه ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب! فأجابت وقالت: نعم، يا سيد، والكلاب - أيضا - تحت المائدة تأكل فتات البنين، فقال لها لأجل هذه الكلمة: اذهبي قد خرج الشيطان من ابنتك ...
إن السيد المسيح «خرج من هناك وانصرف إلى نواحي صور وصيدا، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: ارحمني ، يا سيد يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدا. فلم يجبها بكلمة، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها؛ لأنها تصيح وراءنا. فأجاب وقال: لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. فأتت وسجدت له قائلة: يا سيد، أعني. فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب! فقالت: نعم، يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك، ليكن لك كما تريدين. فشفيت ابنتها من تلك الساعة.»
ونحن نعلم من هذه القصة، ومن جملة أخبار التلاميذ في الأناجيل أن السيد المسيح قد ثابر على اختصاص بني إسرائيل بدعوته، ولم يتحول عنهم إلى غيرهم إلا بعد إصرارهم على رفضه ولجاجتهم في إنكار رسالته، فوجد بعد اليأس منهم أنه في حل من صرف الدعوة عنهم إلى الأمم المقيمة بينهم، وضرب المثل لذلك بصاحب الدار الذي أقام وليمة العرس في داره، وأرسل الدعوة إلى ذويه وجيرانه، فتعللوا بالمعاذير والشواغل ولم يستجيبوا لدعوته، فأطلق غلمانه إلى أعطاف الطريق يدعون من يصادفهم من الغرباء وعابري السبيل، على غير معرفة بهم ولا صلة بينه وبينهم، حتى امتلأت بهم الدار، ولم يبق على الموائد مكان لمن اختصهم بالدعوة؛ فأعرضوا عنها.
ويلاحظ في قصة المرأة الكنعانية أنها كانت تدعو المسيح بالسيد ابن داود، وأن عقيدة العبريين لم تزل تعلق آمالهم بالخلاص على يد رسول من ذرية داود، ومن سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
ومضى عصر المسيح، وجاء بعده عصر بولس الرسول، وعقيدة الخلاص الموقوف على سلالة إبراهيم باقية مسلمة بين العبريين الجامدين على تقاليدهم وبين المسيحيين المتحررين من تلك التقاليد، وإنما أضيف إليها تفسير جديد لهذه البنوة، وهو أنها بنوة روحية لا تتوقف على بنوة الجسد، ولا فارق فيها بين من يحيون سنة إبراهيم الخليل من العبريين أو من الأميين الذين يسميهم العبريون «بالجوييم»، أي: الأقوام الغرباء.
فالعقيدة الإلهية - كما دان بها العبريون، وجمدوا عليها إلى عصر الميلاد - إنما هي عقيدة شعب مختار بين الشعوب في إله مختار بين الآلهة، وليس في هذه العقيدة إيمان بالتوحيد، ولا هي مما يتسع لديانة إنسانية، أو مما يصح أن يحسبه الباحث المنصف مقدمة للإيمان بالإله الذي يدعو إليه الإسلام.
ثم تطورت هذه العقيدة الإلهية بعد ظهور المسيحية، فانتقلت من الإيمان بالإله لأبناء إبراهيم في الجسد إلى الإله لأبناء إبراهيم في الروح، وانقضى عصر السيد المسيح وعصر بولس الرسول، واتصلت المسيحية بالأمم الأجنبية - وفي مقدمتها الأمة المصرية - فشاعت فيها على إثر ذلك عقيدة إلهية جديدة في مذهب العبريين، وهي عقيدة الثالوث المجتمع من الأب والابن والروح القدس، وفحواها أن المسيح المخلص هو ابن الله، وأن الله أرسله فداء لأبناء آدم وحواء، وكفارة عن الخطيئة التي وقعا فيها عندما أكلا من شجرة المعرفة في الجنة بعد أن نهاهما عن الاقتراب منها.
وظهر الإسلام وفحوى العقيدة الإلهية كما تطورت بها الديانة المسيحية أن الله الإله واحد من أقانيم ثلاثة، هي الأب والابن والروح القدس، وأن المسيح هو الابن من هذه الأقانيم، وهو ذو طبيعة إلهية واحدة في مذهب فريق من المسيحيين، وذو طبيعتين - إلهية وإنسانية - في مذهب فريق آخر.
ومن البديهي أن الباحث الذي يريد تطبيق علم المقارنة بين الأديان على المسيحية والإسلام مطالب بالرجوع إلى حالة الديانة المسيحية حيث ظهرت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية؛ فلا يجوز لأحد من هؤلاء الباحثين أن يزعم أن الإسلام نسخة محرفة من المسيحية إلا إذا اعتقد أن نبي الإسلام قد أخذ من المسيحية كما عرفها في بيئته العربية، وفيما اتصل به من البيئات الأخرى حول جزيرة العرب. ومهما يكن من تطور العقائد المسيحية في سائر البيئات ومختلف العصور، فالعقيدة المسيحية التي يجوز لصاحب المقارنة بين الأديان أن يجعلها قدوة للإسلام إنما هي عقيدة المسيحيين في الجزيرة العربية وما حولها، وقد وصف «جورج سيل» مترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية حالة المسيحيين في الحجاز وفي سائر الأنحاء القريبة منها، فقال ما ننقله من مقدمة ترجمته للقرآن:
إنه من المحقق أن ما ألم بالكنيسة الشرقية من الاضطهاد واختلال الأحوال في صدر المائة الثالثة للميلاد قد اضطر كثيرين من نصاراها أن يلجئوا إلى بلاد العرب طلبا للحرية، وكان معظمهم يعاقبة؛ فلذا كان معظم نصارى العرب من هذه الفرقة. وأهم القبائل التي تنصرت: حمير وغسان وربيعة وتغلب وبهراء وتنوخ وبعض طيئ وقضاعة وأهل نجران والحيرة ... ولما كانت النصرانية بهذه المثابة من الامتداد في بلاد العرب لزم عن ذلك - ولا بد - أنه كان للنصارى أساقفة في مواضع جمة لتنظم بهم سياسة الكنائس، وقد تقدم ذكر أسقف ظفار، وقال بعضهم كانت نجران مقام أسقف، وكان لليعاقبة أسقفان: يدعى أحدهما أسقف العرب بإطلاق اللفظ، وكان مقامه باكولة، وهي الكوفة عند ابن العبري أو بلدة أخرى بالقرب من بغداد عند أبي الفداء، وثانيهما يدعى أسقف العرب التغلبيين ومقامه بالحيرة. أما النساطرة فلم يكن لهم على هذين الكرسيين سوى أسقف واحد تحت رياسة بطريكهم.
وإلى أن يقول:
أما الكنيسة الشرقية، فإنها أصبحت بعد انقضاض المجمع النيقاوي مرتبكة بمناقشات لا تكاد تنقضي، وانتقض حبلها بمحاكاة الآريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من أهل البدع. على أن الذي ثبت بعد البحث أن كلا من بدعتي النساطرة واليعقوبية كانت بأن تدعي اختلافا في التعبير عن المعتقد أولى من أن تدعي اختلافا في المعتقد نفسه، وأن تدعي حجة يتغلب بها كل من المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعي سببا موجبا لالتئام مجامع عديدة يتردد إليها جماعة القساوسة والأساقفة، ويتماحكون ليعلي كل واحد منهم كلمته، ويحيل القضايا إلى هواه. ثم إن نافذي الكلمة منهم وأصحاب المكانة في قصر الملك كان كل واحد منهم يختص نفرا من قواد الجيش أو من أصحاب الخطب يكون لهم عليهم الولاء ويتقوى بهم؛ وبذلك صارت المناصب تنال بالرشا والنصفة تباع وتشترى جهارا. أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك دماسوس وأرسكينوس في المشاحنة على منصة الأسقفية - أي أسقفية روما - ما أفضى إلى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما، وكان أكثر ما تنشأ المناقشات من القياصرة أنفسهم، ولا سيما القيصر قسطنطينوس؛ فإنه إذ لم يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحي وخرافات العجائز ربك الدين بكثير من المسائل الخلافية ... هذا ما كان عليه حالة النصرانية في بلاد العرب، أما في بلاد هذه الأمة التي هي موضوع بحثنا فلم تكن خيرا من ذلك؛ فكان في نصارى العرب قوم يعتقدون أن النفس تموت مع الجسد وتنشر معه في اليوم الآخر، وقيل: إن أوربيجانوس هو الذي دس فيهم هذا المذهب، وكم وكم من بدعة انتشرت في جزيرة العرب حتى لا نقول نشأت فيها! فمن ذلك بدعة كان أصحابها يقولون بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هي الله، ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها: كليرس، وبها سمي أصحاب هذه البدع كليريين ... وفضلا عن ذلك فقد اجتمع - أيضا - في جزيرة العرب عدد وافر من الفرق المختلفة الأسماء لجئوا إليها هربا من اضطهاد القياصرة ...
كانت عقائد الفرق المسيحية في جزيرة العرب وفي العالم المترامي حول جزيرة العرب على هذا النحو الذي وصفه رجل متعصب على الإسلام، لا يهتم بمحاباته، ولا يظن به أن يتجانف على المسيحية وهو قادر على مداراتها. ومن الواضح البين أن عقائد الفرق المسيحية على ذلك النحو لم تكن مما يغري بالإعجاب أو مما يدعو إلى الاقتداء. ومن الواضح البين أن موقف الإسلام كان موقف المصحح المتمم، ولم يكن موقف الناقل المستعير بغير فهم ولا دراية.
فقد جاء الإسلام بالدعوة إلى إله منزه عن لوثة الشرك، منزه عن جهالة العصبية وسلالة النسب، منزه عن التشبيه الذي تسرب من بقايا الوثنية إلى الأديان الكتابية.
فالله الذي يؤمن به المسلمون إله واحد لم يكن له شركاء
سبحانه عما يشركون (التوبة: 31).
وما هو برب قبيلة ولا سلالة يؤثرها على سواها بغير مأثرة، ولكنه هو
رب العالمين (التكوير: 29)، خلق الناس جميعا ليتعارفوا ويتفاضلوا بالتقوى؛ فلا فضل بينهم لعربي على أعجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
وهو واحد أحد
لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد (الإخلاص: 3-4).
لا يأخذ إنسانا بذنب إنسان، ولا يحاسب أمة خلفت بجريرة أمة سلفت، ولا يدين العالم كله بغير نذير:
ولا تزر وازرة وزر أخرى (فاطر: 18)،
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (البقرة: 134)،
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (الإسراء: 15). •••
ودينه دين الرحمة والعدل، تفتتح كل سورة من كتابه «بسم الله الرحمن الرحيم».
وما ربك بظلام للعبيد (فصلت: 46)،
هو الأول والآخر والظاهر والباطن (الحديد: 3)،
وسع ربنا كل شيء علما (الأعراف: 89)،
وهو بكل خلق عليم (يس: 79).
وللباحث في مقارنات الأديان أن يقول ما يشاء عن هذا الإله الواحد الأحد، رب العالمين، ورب المشرقين والمغربين، إلا أن يقول إنه نسخة مستمدة من عقائد عرب الجاهلية، أو عقائد الفرق الكتابية التي خالطت عقائد الجاهليين على النحو الذي وصفه جورج سيل في مقدمته لترجمة القرآن الكريم؛ فإن العقيدة الإلهية التي تستمد من تراث الجاهليين لن تكون لها صبغة أغلب من صبغة العصبية، ولا مفخرة أظهر من مفاخر الأحساب، ولن تخلو من لوثة الشرك، ولا من عقابيل العبادات التي امتلأت بالخبائث وحلت فيها الرقى والتعاويذ محل الشعائر والصلوات.
ومعجزة المعجزات أن الإسلام لم يكن كذلك، بل كان نقيض ذلك في صراحة حاسمة جازمة لا تأذن بالهوادة ولا بالمساومة؛ فما من خلة كانت أبغض إليه من خلة العصبية الجاهلية والمفاخرة الجاهلية والتناجز الجاهلي على فوارق الأنساب والأحزاب.
فمن صميم بلاد العصبية خرج الدين الذي ينكر العصبية، ومن جوف بلاد القبائل والعشائر خرج الدين الذي يدعو إلى إله واحد رب العالمين ورب المشرق والمغرب، ورب الأمم الإنسانية جميعا، بغير فارق بينها غير فارق الصلاح والإيمان.
على أن الباحثين الذين يصطنعون سمت العلم من علماء المقارنة بين الأديان في الغرب؛ يطلقون نعوتهم على الإسلام سماعا فيما يظهر من مقرراتهم أو من مكرراتهم التقليدية التي لا يبدو منها، أنهم كلفوا عقولهم - جدا وحقا - أن تلم إلمامة واحدة بهذا الدين في جملة أو تفصيل.
ففي كتاب من أحدث الكتب عن أديان بني الإنسان ألفه أستاذ للفلسفة في جامعة كبيرة، يقول المؤلف المتخصص لهذه الدراسات بعد الإشارة إلى السيف والعنف والاقتباس من النصرانية والصابئية والمجوسية:
إن محمدا أسبغ على الله - ربه - ثوبا من الخلق العربي والشخصية العربية
2 ...
ويقول المؤلف: «إن «الحقيقة» التي قررها هنا تتجلى للباحث كلما تقدم في دراسة هذا الدين العربي وهذه الشخصية الإلهية العربية.»
بهذا النعت التقليدي ينعت المؤلف إله الإسلام بعد أن تقدم في دراساته على حد قوله! فماذا كان عساه قائلا لو أنه لم يسمع باسم الإسلام إلا على الإشاعة من بعيد؟!
لعله لم يكن بحاجة إلى التقدم وراء البسملة في سورة الفاتحة ليعلم أن المسلم يدين برب العالمين، وأنه يصف ربه بالرحمة مرتين عند الابتداء بكل سورة من سور كتابه! ولعله كان يحسب المقارنة جدا وحقا، لو أنه قنع بهذه الصفة من صفات إله الإسلام وقارن بينها وبين الصفات التي يختارها غير المسلمين؛ فلا يذكرون الله مفتتح دعواتهم بغير صفة القوة والجبروت
Almighty !
فالله رب العالمين، ملك يوم الدين، لم يكن نسخة محرفة من صورة الله في عقيدة من العقائد الكتابية، بل كان هو الأصل الذي يثوب إليه من ينحرف عن العقيدة في الإله كأكمل ما كانت عليه، وكأكمل ما ينبغي أن يكون.
ومن ثم كانت هذه العقيدة الإلهية في الإسلام مصححة متممة لكل عقيدة سبقتها في مذاهب الديانات أو مذاهب الفلسفة ومباحث الربوبية.
فهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة الهند في الكارما والنرڤانا؛ لأنها عقيدة في خواء أو فناء مسلوب الذات لا تجاوب بينه وبين أبناء الحياة.
وهي عقيدة كاملة صححت وتممت عقيدة المعلم الأول بين فلاسفة الغرب الأقدمين؛ لأنه كان على خطأ في فهم التجريد والتنزيه، ساقه هذا الخطأ إلى القول بكمال مطلق كالعدم المطلق في التجرد من العمل، والتجرد من الإرادة، والتجرد من الروح.
ودين يصحح العقائد الإلهية، ويتممها فيما سبقه من ديانات الأمم وحضاراتها ومذاهب فلاسفتها؛ تراه من أين أتى، ومن أي رسول كان مبعثه ومدعاه؟!
من صحراء العرب !
ومن الرسول الأمي بين الرسل المبعوثين بالكتب والعبادات!
إن لم يكن هذا وحيا من الله، فكيف يكون الوحي من الله؟!
ليكن كيف كان في أخلاد المؤمنين بالوحي الإلهي حيث كان، فما يهتدي رجل «أمي» في أكناف الصحراء إلى إيمان أكمل من كل إيمان تقدم إلا أن يكون ذلك وحيا من الله، وإنه لحجر على البصائر والعقول أن تنكر الوحي على هذه المعجزة العليا؛ لأنه لا يصدق عليها في صورة من صور الحدس أو الخيال. (2) النبوة
نمت في الإسلام فكرة النبوة كما نمت فيه الفكرة الإلهية؛ فبرئت هذه الرسالة السماوية من شوائبها الغليظة التي لصقت بها في عقائد الأقدمين من أتباع الديانات الوثنية والديانات الكتابية، وخلصت من بقايا السحر والكهانة كما خلصت من شعوذة الإيهام الخيالي وبدوات الجنون، الذي كانوا يسمونه قديما بالجنون المقدس لاعتقادهم أن المصابين به يخلطون هذيانهم بوحي الأرواح العلوية التي تستولي عليهم، ونمت نبوة الإسلام نماءها الأوفى حين خلصت من دعوى الخوارق والمغيبات، وهي آية النبوة الكبرى في عرف الأقدمين.
ولم تكن براءة النبوة من هذه الشوائب عرضا مسوقا في أطواء العقيدة بغير قصد ولا بينة، بل كان وصف النبوة على هذه الصفة المطهرة فريضة مكتوبة على المسلم يعلمها من نصوص كتابه، ويؤمن بها إيمانه برسالة نبيه.
فما النبوة بقول ساحر - ولا يفلح الساحرون - وما النبي بكاهن ولا مجنون،
وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه في قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (الحجر: 11-15).
فليست الخوارق مما يغني النبي في دعوة المكابر المفتون؛ إنه ليزعمها إذن ضربا من السحر أو السكر، ولو فتح له الأنبياء بابا من السماء!
ولقد جاءت الخوارق طائعة لنبي الإسلام فصدقها الناس وأبى لهم أن يصدقوها أو يفهموها على غير حقيقتها، ولو أنه سكت عنها لحسبوها له معجزة من المعجزات لم يتحقق مثلها من قبل لأحد من المرسلين.
مات ابنه إبراهيم، وانكسفت الشمس ساعة دفنه، وتصايح المسلمون حول القبر: إنها لآية من آيات الله أن تنكسف الشمس لموت ابن محمد - عليه السلام. وكسوف الشمس يومئذ خبر من أخبار الفلك الثوابت، أيده حساب الفلكيين في العهد الأخير، فلو كان - صلوات الله عليه - رسولا من الرسل الذين يتصيدون الخوارق أو ينكرونها لأنهم لا يستطيعون أن يدعوها لما كلفته هذه الخارقة إلا أن يسكت عنها فلا يدعيها ولا ينكرها، ولكنه لم ينس في ساعة حزنه أمانة الهداية للمؤمنين بدينه، وبادرهم لساعتها مذكرا لهم بآيات الله و«أن الشمس والقمر آيتان له لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ...»
وما نحسب أن النبوة تعظم بكرامة قط أكرم لها من التوكيد بعد التوكيد في القرآن الكريم بتمحيص هذه الرسالة السماوية لهداية الضمائر والعقول، غير مشروطة بما غبر في الأوهام من قيام النبوة كلها على دعوى الخوارق والإنباء بالمغيبات:
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (يونس: 20)،
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (الأعراف: 188)،
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (الأنعام: 50)،
وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو (الأنعام: 59).
بهذه الفكرة الرشيدة عن النبوة يفرق الإسلام بين طريقين شاسعتين في تاريخ الأديان: طريق موغلة في القدم تنحدر إلى مهد النبوات الوثنية حيث تشتبك العبادة بالسحر والكهانة، ثم تتقدم في خطوات وئيدة يلتقي فيها الخبل باليقظة، وتختلط فيها الخرافة بالإلهام الصادق والموعظة الحسنة.
وطريق تليها موغلة في المستقبل، يفتتحها صاحب النبوة الأخيرة، فيعلن أنه يفند السحر والكهانة، ويزري بقداسة الجنون أو جنون القداسة، ويروض بصيرة الإنسان على قبول الهداية وإن لم تروضها له روعة الخوارق ودهشة الغيب المجهول؛ لأنه يروض البصيرة الإنسانية على أن تنظر وتبصر، ولا يستوي الأعمى والبصير.
ومن تأمل هذا الفارق بين الطريقين الشاسعتين في تاريخ الأديان لا جرم يطيل التأمل، فلا يرى عجبا أن تكون هذه النبوة خاتم النبوات؛ إذ كان الإصلاح بعدها منوطا بدعوات يستطيعها من لا يدعي خارقة تفوق طاقة الإنسان، ولا يهول العقول بالكشف عن غيب من الغيوب لا يدريه الإنسان. •••
وأبعد شيء عن البحث الأمين أن تنعقد المقارنة بين هذه النبوة الإسلامية ونبوءات أخرى تقدمتها، فيزعم الباحث أنها نسخة محرفة منها أو منقولة عنها، فإن الفارق بين نبوءة تقوم حجتها الكبرى على هداية العقل والضمير، ونبوءات تقوم حجتها الكبرى على الغرائب والأعاجيب؛ لهو من الفوارق البينة التي لا يمتري فيها باحثان منصفان، ودع عنك الفارق بين نبوءة تدعو إلى رب العالمين ونبوءة تدعو إلى رب سلالة أو رب قبيلة، وربما اعترى الخطأ مقياسا من مقاييس البحث فتساوت لديه الزيادة والنقص وتعادل أمامه الراجح والمرجوح. فأما أن يرجح النقص على الزيادة فذلك هو الخطأ الذي لا ينجم إلا من زيغ في الطبع أو عناد يتعامى عمدا عن الشمس في رائعة النهار.
والواقع أن النبوة الإسلامية جاءت مصححة متممة لكل ما تقدمها من فكرة عن النبوة، كما كانت عقيدة الإسلام الإلهية مصححة متممة لكل ما تقدمها من عقائد بني الإنسان في الإله.
ومن عجيب الاستقصاء أن القرآن الكريم قد أحصى النبوءات الغابرة بأنواعها؛ فلم يدع منها نوعا واحدا يعرفه اليوم أصحاب المقارنة بين الأديان، ومن تلك الأنواع نبوءة السحر ونبوءة الرؤيا والأحلام ونبوءة الكهانة ونبوءة الجذب أو الجنون المقدس ونبوءة التنجيم وطوالع الأفلاك، وكلها مما يدعيه المتنبئون ويدعون معه العلم بالغيب والقدرة على تسخير نواميس الطبيعة، ولكنها على اتفاقها في هذه الدعوة تختلف بمصادرها ونظرة الناس إليها أيما اختلاف.
فنبوءة السحر يغلب عليها أنها موكلة بالأرواح الخبيثة تسخرها للاطلاع على المجهول أو السيطرة على الحوادث والأشياء، ونبوءة الكهانة يغلب عليها أنها موكلة بالأرباب لا تطيع الكاهن، ولكنها تلبي دعواته وصلواته وتفتح لها مغالق المجهول في يقظته أو منامه وترشده بالعلامات والأحلام، ولا تلبي سائر الدعوات والصلوات. ولكنهما - نبوءة السحر ونبوءة الكهانة - تخالفان نبوءة الجذب والجنون المقدس؛ لأن الساحر والكاهن يدريان بما يطلبان ويريدان قصدا ما يطلبانه بالعزائم والصلوات، ولكن المصاب بالجذب أو الجنون المقدس مغلوب على أمره ينطلق لسانه بالعبارات المبهمة وهو لا يعنيها ولعله لا يعيها، ويكثر بين الأمم التي تشيع فيها نبوءة الجذب أن يكون مع المجذوب مفسر يدعي العلم بمغزى كلامه ولحن رموزه وإشاراته، وقد كانوا في اليونان يسمون المجذوب «مانتي»
Manti
ويسمون المفسر «بروفيت»
؛ أي المتكلم بالنيابة عن غيره، ومن هذه الكلمة نقل الأوروبيون كلمة النبوة بجميع معانيها، وقلما يتفق الكهنة والمجذوبون إلا أن يكون الكاهن متوليا للتفسير والتعبير عن مقاصد المجذوب ومضامين رموزه وإشاراته. ويحدث في أكثر الأحيان أن يختلفا ويتنازعا؛ لأنهما مختلفان بوظيفتهما الاجتماعية مختلفان بطبيعة النشأة والبيئة؛ فالمجذوب ثائر لا يتقيد بالمراسم والأوضاع المصطلح عليها، والكاهن محافظ يتلقى علمه الموروث في أكثر الأحيان من آبائه وأجداده، وتتوقف الكهانة على البيئة التي تنشأ فيها الهياكل والصوامع المقصودة في الأرجاء القريبة والبعيدة، ولا يتوقف الجذب على هذه البيئة؛ لأنه قد يعتري صاحبه في البرية كما يعتريه في الحاضر المقصود من أطراف البلاد.
والمقارنة بين النبوة الإسلامية وبين النبوءات التي شاعت في تاريخ العبريين تغنينا عن تعميم المقارنة في عامة الديانات التي سبقت ظهور الإسلام؛ لأن العبريين قد آمنوا بهذه النبوات جميعا، وبينهم ظهرت الديانة الموسوية التي كانت أولى الديانات الكتابية ومرجع المقارنة في مسائل النبوة وشعائر العقيدة التي تدور عليها المقارنة بين عبادات أهل الكتاب.
وقد عرفت قبائل العبريين نبوءات السحر والكهانة والتنجيم كما عرفتها الشعوب البدائية، وابتكرت منها ما ابتكرت على سنة الشعوب كافة، واقتبست منها ما اقتبست بعد اتصالها بجيرانها في المقام من أهل البادية أو أهل الحاضرة، ولكنها على خلاف الشائع بين المقلدين من الكتاب الغربيين قد تعلمت النبوة الإلهية بلفظها ومعناها من شعوب العرب، ولم تكن لهذه الكلمة عند العبريين لفظة تؤديها قبل وفودها على أرض كنعان ومجاورتهم للعرب المقيمين في أرض مدين؛ فكانوا يسمون النبي بالرائي أو الناظر أو رجل الله، ولم يطلقوا عليه اسم النبي إلا بعد معرفتهم بأربعة من أنبياء العرب المذكورين في التوراة، وهم ملكي صادق وأيوب وبلعام وشعيب الذي يسمونه «يثرون» معلم موسى الكليم، ويرجح بعضهم أنه الخضر عليه السلام للمشابهة بين لفظ يثرون وخثرون وخضر في مخارج الحروف، ولما ورد من أخبار الكليم مع الخضر عليهما السلام في تفسير القرآن الكريم.
ومن علماء الأديان الغربيين الذين ذهبوا إلى اقتباس العبريين كلمة النبوة من العرب الأستاذ هولشر
Holscher
والأستاذ شميدث
Schmidt ، اللذان يرجحان أن الكلمة دخلت في اللغة العبرية بعد وفود القوم على فلسطين. إلا أن الأمر غني عن الخبط فيه بالظنون مع المستشرقين؛ من يفقه منهم اللغة العربية ومن لا يفقه منها غير الأشباح والخيالات، فإن وفرة الكلمات التي لا تلتبس بمعنى النبوة في اللغة العربية كالعرافة، والكهانة، والعيافة، والزجر، والرؤية، تغنيها عن اتخاذ كلمة واحدة للرائي وللنبي. وتاريخ النبوات العربية التي وردت في التوراة سابق لاتخاذ العبريين كلمة النبي بدلا من كلمة الرائي والناظر، وتلمذة موسى لنبي «مدين» مذكورة في التوراة قبل سائر النبوات الإسرائيلية، وموسى الكليم - ولا ريب - رائد النبوة الكبرى بين بني إسرائيل. •••
والمطلع على الكتب المأثورة بين بني إسرائيل يتبين منها أنهم آمنوا بهذه النبوات جميعا، وأنهم بعد ارتقائهم إلى الإيمان بالنبوة الإلهية ما زالوا يخلطون بين مطالب السحر والتنجيم ومطالب الهداية، ويجعلون الاطلاع على المغيبات امتحانا لصدق النبي في دعواه أصدق وألزم من كل امتحان، ولم يرتفع بأكبر أنبيائهم ورسلهم عن مطلب الاتجار بالكشف عن المغيبات والاشتغال في التنجيم.
ففي أخبار صموئيل أنهم كانوا يقصدونه ليدلهم على مكان الماشية الضائعة وينقدونه أجره على ردها ... «خذ معك واحدا من الغلمان وقم اذهب فتش عن الأتن. فقال شاول للغلام: فماذا نقدم للرجل؟ لأن الخبز قد نفد من أوعيتنا، وليس من هدية نقدمها لرجل الله، ماذا معنا؟ فعاد الغلام يقول: هو ذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة.»
ويؤخذ من النبوءات التي نسبوها إلى النبي يعقوب جد بني إسرائيل أنهم كانوا يعولون عليه في صناعة التنجيم، فإن النبوءات المقرونة بأسماء أبناء يعقوب تشير إلى أبراج السماء وما ينسب إليها من طوالع، ومن أمثلتها عن شمعون ولاوي أنهما «أخوان سيوفهما آلات ظلم في مجلسهما لا تدخل نفسي؛ لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا، وفي رضائهما عرقبا ثورا ...»
وهذه إشارة إلى برج التوءمين، وهو برج إله الحرب «زجال» عند البابليين، ويصورون أحد التوءمين وفي يده خنجر، ويصورون أخاه وفي يده منجل. وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوءمان.
ومن الأمثلة في هذه النبوءات المنسوبة إلى يعقوب مثل يهودا: «جرو أسد جثا وربض كأسد ولبؤة. لا يزول قضيب من يهودا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب.»
وهذه إشارة إلى برج الأسد، وهو عند البابليين برجان يبدو أمام أحدهما برج يشير إلى علامة الملك الذي تخضع له الملوك.
3
وتجري النبوءات عن سائر الأسماء - اثني عشر اسما - كل اسم منها يوافق برجا من أبراج السماء على مثال ما قدمناه.
وقد كثر عدد الأنبياء في قبائل بني إسرائيل كثرة يفهم منها أنهم كانوا في أزمنتهم المتعاقبة يشبهون في العصور الحديثة أصحاب الأذكار ودراويش الطرق الصوفية؛ لأنهم جاوزوا المئات في بعض العهود واصطنعوا من الرياضة في جماعاتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة الجذب تارة بتعذيب الجسد، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب.
جاء في كتاب صموئيل الأول:
أن شاول أرسل لأخذ داود رسلا فرأوا جماعة الأنبياء يتنبئون وشاول واقف بينهم رئيسا عليهم، فهبط روح الله على رسل شاول فتنبئوا هم أيضا، وأرسل غيرهم فتنبأ هؤلاء ... فخلع هو أيضا ثيابه وتنبأ هو أيضا أمام صموئيل وانتزع عاريا ذلك النهار كله وكل الليل.
وجاء في كتاب صموئيل كذلك: ... أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبئون، فيحل عليهم روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر.
وكانت النبوة صناعة وراثية يتلقاها الأبناء من الآباء كما جاء في سفر الملوك الثاني : «إذ قال بنو الأنبياء لأليشع هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا فلنذهب إلى الأردن.»
وكانت لهم خدمة تلحق بالجيش في بعض المواقع كما جاء في سفر الأيام الأولى حيث قيل: إن داود ورؤساء الجيش «أفرزوا للخدمة بني آساف وغيرهم من المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج.» •••
وهؤلاء المئات من المحسوبين على النبوة لبثوا بين قبائل إسرائيل وقرا فادحا لا يصبر القوم على تكاليفه المرهقة إلا لمنفعة ينتظرونها من زمرة المتنبئين الذين يثبت لهم صدقهم، وليست هذه المنفعة إلا الاعتماد حينا بعد حين على بعض المتنبئين في الكشف عن الخبايا والإنذار بالكوارث المتوقعة، وأهم ما كان يهمهم من هذه الكوارث أن يحذروا غضب «يهوا»؛ لأنهم جربوا أنه أقدر على النقمة من سائر الأرباب.
وحدث ما لا بد أن يحدث في هذه الحالة من الإسفاف بالكشف الروحي تسخيرا له في المطالب اليومية على حسب الحاجة إليه في حينه؛ فبدلا من أن يكون الكشف الروحي لمحة من لمحات الصفاء ترتفع فيها حجب الهوى والضلالة عن البصيرة فتدرك ما لا تدركه في عامة أوقاتها؛ أصبح هذا الكشف صناعة ملازمة لكل من يدعي النبوة بحق أو بغير حق، ووجب على النبي في عرفهم أن يكون مستعدا بكراماته ومعجزاته كلما أرادها أو أريدت منه، وروى القوم من أنباء هذا الاستعداد ما يشبه الاستعداد للمباراة بين فرق الرياضة من الطرفين المتقابلين، وقد ثبتت لهم غلبة أنبياء يهوا على أنبياء البعل على أثر مباراة من هذه المباريات بينهم في التنبؤ والإنذار بالأخطار.
جاء في كتاب الملوك الأول: أن «إيزابل» امرأة آخاب ملك إسرائيل قتلت مئات من أنبياء «يهوا»، فلم ينج منهم غير خمسين خبأهم أحد الوزراء المخلصين للدين، ثم ظهر النبي «إيليا» متحديا للملك قائلا كما جاء في الإصحاح الثامن عشر من الكتاب المذكور: ... ولما رأى آخاب إيليا قال له آخاب أأنت هو مكدر إسرائيل؟ فقال: لم أكدر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم . فالآن أرسل واجمع إلي كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء البعل أربع المائة والخمسين، وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابل. فأرسل آخاب إلى جميع بني إسرائيل وجميع الأنبياء إلى جبل الكرمل، فتقدم إيليا إلى جميع الشعب وقال: حتى تعرجون بين الفرقتين؛ إن كان الرب هو الله فاتبعوه، وإن كان البعل فاتبعوه، فلم يجبه الشعب بكلمة، ثم قال إيليا للشعب: أنا بقيت نبيا للرب وحدي وأنبياء البعل أربعمائة وخمسون رجلا، فليعطونا ثورين فيختاروا لأنفسهم ثورا واحدا ويقطعوه ويضعوه على الحطب، ولكن لا يضعون نارا وأنا أقرب الثور الآخر وأجعله على الحطب، ولكن لا أضع نارا، ثم تدعون باسم آلهتكم وأنا أدعو باسم الرب، والإله الذي يجيب بنار فهو الله، فأجاب جميع الشعب وقالوا: الكلام حسن.
فقال إيليا لأنبياء البعل: اختاروا لأنفسكم ثورا واحدا وقربوا أولا؛ لأنكم أنتم الأكثر، وادعوا باسم آلهتكم، ولكن لا تضعوا نارا. فأخذوا الثور الذي أعطي لهم وقربوه ودعوا باسم البعل من الصباح إلى الظهر قائلين: يا بعل أجبنا. فلم يكن صوت ولا مجيب، وكانوا يرقعون حول المذبح الذي عمل، وعند الظهر سخر بهم إيليا وقال: ادعوا بصوت عال؛ لأنه إله لعله مستغرق أو في خلوة أو في سفر أو لعله نائم فيتنبه. فصرخوا بصوت عال وتقطعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم، ولما جاء الظهر وتنبئوا إلى حين إصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا منغ، قال إيليا إلى جميع الشعب: تقدموا إلي. فتقدم جميع الشعب إليه فرمم مذبح الرب المتهدم ثم أخذ إيليا اثني عشر حجرا بعدد أسباط بني يعقوب الذي كان كلام الرب إليه، قائلا: إسرائيل يكون اسمك، وبنى الحجارة مذبحا باسم الرب، وعمل قناة حول المذبح تسع كيلتين من البذر، ثم رتب الحطب وقطع الثور ووضعه على الحطب وقال املئوا أربع جرات ماء وصبوا على المحرقة وعلى الحطب. ثم قال: ثنوا. فثنوا، وقال: ثلثوا. فثلثوا، فجرى الماء حول المذبح وامتلأت القناة أيضا ماء، وكان عند إصعاد التقدمة أن إيليا النبي تقدم وقال: أيها الرب إله إبراهيم وإسحاق وإسرائيل ليعلم اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور، استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حولت قلوبهم رجوعا. فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة، فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله، الرب هو الله. فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيسون وذبحهم هناك، وقال إيليا لآخاب: اصعد واشرب لأنه حس دوي مطر. فصعد آخاب ليأكل وليشرب، وأما إيليا فصعد إلى رأس الكرمل وخر إلى الأرض، وجعل وجهه بين ركبتيه وقال لغلامه: اصعد تطلع نحو البحر. فصعد وتطلع وقال: ليس شيء. فقال ارجع سبع مرات. وفي المرة السابعة قال: هو ذا غيبة صغيرة قد كف إنسان صاعد من البحر. فقال: اصعد قل لآخاب اشدد وانزل لئلا يمنعك المطر. وكان من هنا إلى هنا أن السماء اسودت من الغيم والريح، وكان مطر عظيم فركب آخاب ومضى إلى يذرعيل، وكانت يد الرب على إيليا فشد حقويه وركض أمام آخاب حتى تجيء إلى يذرعيل.
وقد صاحبت القوم هذه الفكرة عن النبوة الحاضرة عند الطلب منذ أوائل عهودهم إلى أواخر عهدهم بالأنبياء قبل ظهور السيد المسيح؛ فلم تكن النبوة عند القوم في هذه العهود كافة إلا صناعة مرادفة صناعة التنجيم، أو لصناعة الفراسة المنذرة بالكوارث المتوقعة؛ فهي إما استطلاع للخبايا أو صيحة فزع من نقمة «يهوا» الذي تعودوا أن يعاقبهم بالمصائب الحسية كلما انحرفوا عن سنته، وأشركوا بعبادته ربا آخر من أرباب الشعوب التي ينازعونها وتنازعهم على المرعى والمقام.
وما يكون للقوم أن يفهموا من النبوة معنى غير معناها هذا؛ لأنهم قد تعلموا من أحبارهم وكتبة أسفارهم أن أنبياءهم قد حلوا في محل العرافين العائفين، والسحرة والرقاة الذين ينقلون أقوال الآلهة في غير بني إسرائيل؛ فهؤلاء جميعا لا يصدقون ؛ لأنهم ينقلون المعرفة من أرباب غير «يهوا» رب إسرائيل، وأما شعب إسرائيل فقد قيل لهم: «... فيقيم لك الرب إلهك نبيا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون، حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلا: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي! ولا أرى هذه النار العظيمة أيضا لئلا أموت. قال لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا؛ أقيم لها نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه، وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي، وإن قلت في قلبك كيف نعرف الكلام الذي يتكلم به الرب مما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر؛ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي، فلا تخف منه.» (18 سفر التثنية). •••
وهكذا وقر في أخلاد الشعب من أحباره وعلمائه إلى عامة جهلائه أن الكشف على الغيب مرادف لمعنى النبوة، وأن وقوع الخبر هو امتحان الصدق الوحيد الذي يمتحن به الأنبياء الصادقون فيما يتحدثون به عن الإله، وأن الفرق بين أنبيائه وبين السحرة والعرافين والرقاة في الأمم الأخرى إنما هو فرق بين أناس يحسنون الكشف عن الغيب، وأناس يخطئون في هذه الصناعة؛ لأنهم ينقلون أنبياءهم عن آلهة كاذبة لا تستحق العبادة.
وإنه لمن المتفق عليه بين أتباع الديانات الكتابية أن بني إسرائيل لم يعرفوا النبوة على مثال أتم وأكمل من نبوة موسى الكليم، ومع هذا كان أرفع ما تصوروه من معنى وحي الله إليه - عليه السلام - أنه كان يخاطبه فما إلى فم وعيانا بغير حجاب، وفي ذلك يقول كاتب الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج إن الله «نزل في عمود سحاب ووقف في باب الخيمة ودعا هارون ومريم فخرجا كلاهما فقال: اسمعا كلامي، إن كان منكم للرب فبالرؤيا أستعلم له وفي الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل شيء، فما إلى فم وعيانا أتكلم معه لا بالألغاز.»
وكان اعتقادهم أن موسى عليه السلام يسمع كلام الرب فما إلى فم وعيانا بغير حجاب في كل قضية من قضايا الشعب يعرضونها عليه، حتى علمه نبي مدين أن يكل القضاء إلى أناس من ذوي ثقته وخاصة قومه يلقنهم أحكام الشريعة، ويوليهم أمر القضايا مكتفيا بما يعضل عليهم من كبار القضايا. وفي ذلك يقول كاتب الإصحاح الثاني عشر من سفر الخروج:
وقد حدث في الغد أن موسى جلس ليقضي للشعب، فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء، فلما رأى حمو موسى كل ما هو صانع للشعب قال: ما هذا الأمر الذي أنت صانع للشعب؟ ما بالك جالسا وحدك وجميع الشعب واقف عندك من الصباح إلى المساء؟ فقال موسى لحميه: إن الشعب يأتي إلي ليسأل الله؛ إذا كان لهم دعوى يأتون إلي فأقضي بين الرجل وصاحبه وأعرفهم فرائض الله وشرائعه. فقال حمو موسى له: ليس جيدا هذا الأمر الذي أنت صانع، إنك تكل أنت وهذا الشعب الذي معك جميعا؛ لأن الأمر أعظم منك لا تستطيع أن تصنعه وحدك، الآن اسمع لصوتي فأنصحك، فليكن الله معك، كن أنت للشعب أمام الله وقدم أنت الدعاوى إلى الله، وعلمهم الفرائض والشرائع، وعرفهم الطريق الذي يسلكونه والعمل الذي يعملونه، وأنت تنظر من جميع الشعب ذوي قدرة خائفين الله أمناء مبغضين الرشوة وتقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، فيقضون للشعب كل حين ويكون أن كل الدعاوى الكبيرة يجيئون بها إليك، وكل الدعاوى الصغيرة يقضون هم فيها وخفف عن نفسك فهم يحملون معك ...
وبعد نحو ستة قرون من النبوة الموسوية انتهى عهد الأنبياء في بني إسرائيل، ولم يتغير معنى النبوة عندهم في هذه الفترة الطويلة، بل انحدر إلى ما دون ذلك بكثير؛ لأن موسى الكليم كان يخاطب الغيب ليتلقى الشريعة، وينقل إلى الشعب تحذير الله بنصوص ألفاظه، وأما الأنبياء بعده فقد تكاثروا بالمئات ليخاطبوا الغيب فيما دون ذلك من الخبايا اليومية ، أو ليتخذوا العلامات والألغاز نذيرا للشعب بالخسائر الحسية التي تصيبه من جراء الخروج على شريعة موسى.
ويتلخص تاريخ النبوة بين بني إسرائيل إذن في كلمات معدودات: أنهم قد استعاروا فكرة النبوة من جيرانهم العرب الذين ظهر فيهم ملك صادق على عهد إبراهيم الخليل، وظهر فيهم بعد ذلك أيوب وبلعام وشعيب؛ ففهموا من النبوة معنى غير معنى الرؤية والعرافة والسحر والتنجيم، وأنهم ما زالوا يتعلمون من جيرانهم إلى أن أتى موسى الكليم الذي تتلمذ على حميه نبي مدين قبل جهره بدعوته، وبعد أن جهر بهذه الدعوة في مصر وخرج بقومه منها إلى أرض كنعان، ولكنهم أخذوها وسلموها فنقصوا منها ولم يزيدوها، وما كان لهم من حيلة في زيادتها؛ لأنها - كما فهموها - غير قابلة للزيادة والارتقاء، ولا مناص من تدهورها مع الزمن، وهي موقوفة على قوم دون سواهم لا يشاركون الأقوام في هداية واحدة، ولا في جامعة إنسانية ترتفع بمقاييس الأخلاق والفضائل مع ارتفاع بني الإنسان.
كانت قبائل إسرائيل محصورة في نفسها، وكانت عبادتها محصورة في حدودها، وكانت قبلتها القصوى من العبادة أن تسلم في عزلتها مع إلهها الذي احتكرته واحتكرها، فلم تطلب من النبوة إلا ما تلتمسه من السلامة في تلك العزلة: صناعة موقوفة على استطلاع الغيب لتحذيرها من الضربات التي تواجهها ولا تخشاها من إله غير إلهها.
وبعد ستة قرون من آخر رسالة في بني إسرائيل يستمع العالم إلى صوت من جانب الجزيرة العربية يدعو إلى رب العالمين: رب العربي والأعجمي، ورب الأبيض والأسود، ورب كل عشيرة وكل قبيلة، لا يستأثر بقوم ولا يؤثر قوما على قوم، إلا من عمل صالحا واتقى حدود الله.
صوت نبي ينادي كل من بعث إليه أنه لا يعلم الغيب، ولا يملك خزائن الأرض، ولا يدفع السوء عن نفسه فضلا عن قومه، ولا يعلم أن الخوارق والمعجزات تنفع أحدا لا ينتفع بعقله ولا يتفكر فيما يسمع من نبي أو رسول!
صوت نبي يقول للناس: إنه إنسان كسائر الناس، وهو بشير يهدي إلى الحق والرشد، نذير يحذر من الباطل والضلال.
أي مشابهة بين الصوتين؟
بل أي اختلاف قط بينهما يجاوز هذا الاختلاف؟
يرثى لمن يقول: إن الصوتين سواء. فأما من يقول: إن النداء باسم رب العالمين نسخة محرفة من النداء برب القبيلة بين شركائه من أرباب القبائل. فإنما هو خطأ حقيق أن يسمى عجزا في الحس؛ لأنه أظهر للحس من أن يحتاج إلى إطالة بحث أو تعمق في تفكير.
ونختم الكلام على النبوة كما نختم الكلام على العقيدة الإلهية سائلين: كيف تسنى لنبي الإسلام أن ينفرد بهذه الدعوة وحيدا في تاريخ الأديان؟
الإرادة الإلهية هي الجواب الذي لا معدى عنه لمن يسأل ذلك السؤال.
ومن آمن بالإله فلا معدى له عن إرادة الله في تفسير هذه الظاهرة التي لا تظهر لها في أديان الكتابيين وغير الكتابيين ... نعم لا معدى له عن إرادة الله ولو وصف الرسول بما شاء من نفاذ البصيرة وسمو الضمير. (3) الإنسان
الإنسان حيوان ناطق.
الإنسان حيوان مدني بالطبع.
الإنسان حيوان راق.
الإنسان روح علوي سقط إلى الأرض من السماء. •••
هذه التعريفات أشهر ما اشتهر من التعريفات المحيطة بمعنى الإنسان:
أولها:
محيط به من جانب مزاياه العقلية.
وثانيها:
محيط به من جانب علاقاته الاجتماعية.
وثالثها:
ينظر إلى ترتيب الإنسان بين أنواع الأحياء على حسب مذهب التطور.
ورابعها:
ينظر إلى تعريف الإنسان بهذه الصفة إلى قصة الخطيئة التي وقع فيها آدم حين أكل من شجرة المعرفة بغواية الشيطان.
وكل هذه التعريفات تحيط بمعنى الإنسان من بعض نواحيه، وآخرها لا يحيط بمعناه إلا عند من يؤمن بقصة الخطيئة ويؤمن معها بميراث الخطيئة في بني آدم وحواء.
وأما تعريف الإنسان بما وصف به في القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه السلام، فقد اجتمع جملة واحدة في تعريفين جامعين: «الإنسان مخلوق مكلف.» «والإنسان مخلوق على صورة الخالق.»
فالإسلام لا يعرف الخطيئة الموروثة، ولا يعرف السقوط من طبيعة إلى ما دونها؛ فلا يحاسب أحد بذنب أبيه ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس مما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنساني ما دون طبيعته، ولكنه مما يؤمن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقوامه الحرية والتبعة؛ فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه هي الأمانة التي رفعته مقاما فوق مقام الملائكة، وهبطت به مقاما إلى زمرة الشياطين:
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان (الأحزاب: 72)،
بل الإنسان على نفسه بصيرة (القيامة: 14). •••
وبهذه الأمانة ارتفع الإنسان مكانا عليا فوق مكان الملائكة؛ لأنه قادر على الخير والشر، فله فضل على من يصنع الخير؛ لأنه لا يقدر على غيره ولا يعرف سواه:
ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا (الإسراء: 11). •••
وبهذه الأمانة هبط الإنسان غرورا وسرفا إلى عداد الشياطين:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا (الأنعام: 112)،
إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين (الإسراء: 27). •••
وما من نقيصة من نقائص النفس إلا تعرو الإنسان من قبل هذه الأمانة؛ أمانة التكليف:
ليئوس كفور (هود: 9)،
إن الإنسان لظلوم كفار (إبراهيم: 34)،
إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا (المعارج: 19-21)،
وكان الإنسان أكثر شيء جدلا (الكهف: 54)،
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى (العلق: 6-7)،
إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد (العاديات: 6-8)،
إن الإنسان لفي خسر (العصر: 3)،
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه (القيامة: 5)،
وكان الإنسان كفورا (الإسراء: 67)،
وخلق الإنسان ضعيفا (النساء: 28)،
إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى * أم للإنسان ما تمنى (النجم: 23-24).
فهذا الإنسان يتردى من أحسن تكوين إلى أسفل سافلين، ولا يزال في الحالين إنسانا مكلفا قابلا للنهوض بنفسه بعد العثرة، قابلا للتوبة بعد الخطيئة، محاسبا بما جنت يداه غير محاسب بما جناه سواه.
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى (النجم: 39-40)،
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه (الإسراء: 13)،
ولا تزر وازرة وزر أخرى (الأنعام: 164)،
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات (التين: 4-6).
هو مخلوق مكلف.
ذلك جماع ما يوصف به الإنسان تمييزا من العجماوات، وتمييزا من الأرواح العلوية على السواء.
ولهذا كان في أحسن تقويم.
ولهذا يرتد إلى أسفل سافلين.
وقوام التقويم الحسن الإيمان وعمل الصالحات، وسبيل الارتداد إلى أسفل سافلين مطاوعة الهوى والغرور والسرف وطغيان القوة والغنى ومنع الخير والهلع من البلاء والعجلة مع الضعف والإغراء.
وقصة آدم مثل لما يعرض للإنسان من الخطيئة والنجاة.
خطيئته لا تدينه أبدا ولا تدين أبناءه أبدا، ونجاته رهينة بتوبته وما ينتفع به من علم ربه:
وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (طه: 121-122)،
فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (البقرة: 37).
ومن تمام خواص الإنسانية في عقيدة المسلم أن قابلية التكليف في الإنسان متصلة بقابلية العلم ويسرة الانتفاع بقوى الجماد والحيوان في مصالحه وشئون معاشه ...
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 3-5)،
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين * قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (البقرة: 31-32)،
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الإسراء: 70)،
سخر لكم ما في الأرض (الحج: 65)،
سخر لكم ما في السماوات (لقمان: 20).
هذا العلم الذي استعد له الإنسان هو مناط التكليف وهو آمال التبعة التي نهض بها هذا المخلوق المفضل على كثير من المخلوقات، الأمين على نفسه وعليها بما وهب له الله من قدرة ومن دراية.
فإذا قامت الكفارة على الخطيئة الموروثة في المسيحية، فالأمانة في الإسلام هي التي يقوم عليها الخلاص ويرجع إليها التكليف، وتكتب عليها تبعته في حياته غير مسئول عما سلف من قبله؛ تبعة يحملها بما كان له من قدرة عليها وعلى سائر مخلوقات الله التي في ولايته.
ولا بد أن تعرض لنا مسألة القدر مع مسألة التكليف، ومسألة القدر - كما لا يخفى - هي معضلة المعضلات في جميع الأديان ومذاهب الحكمة والفلسفة؛ لأنها هي مسألة الحرية الإنسانية والإرادة المختارة، وهي في الحق مسألة الإنسان الكبرى في علاقته الأبدية بالكون، فلا نهاية لها إلى آخر الزمان، ولم تواجهها عقيدة غابرة أو حاضرة بأفضل مما واجهها به الإسلام.
ونظرة موجزة فيما انتهت إليه العقائد والمذاهب في الأمم الغابرة والحاضرة تمهد لنا وسيلة المقارنة بين مسألة القدر في تلك العقائد والمذاهب جميعا، وبين هذه المسألة في الديانة الإسلامية كما بسطتها آيات القرآن الكريم.
كان الهنود الأقدمون يجعلون للقدر الحكم الذي لا حكم غيره في جميع الموجودات، ومنها الآلهة والناس والأحياء والنبات والجماد، ولا فكاك من قبضة «الكارما» في أدوارها التي تتعاقب بين الوجود والفناء إلى غير انتهاء، ولا اختيار للإنسان في الحالة التي يولد عليها؛ لأنها مقدورة عليه من قبل ميلاده منذ أزل الآزال، ولا تبديل لها إلى أبد الآباد حتى ينفصل من دولاب الخلق، باجتناب الولادة واللياذ بعالم الفناء أو عالم «النرڤانا» المطلق من قيود «الوعي» والشعور بالشقاوة أو النعيم.
وحل المجوس مشكلة القدر بعقيدتهم في الثنوية وانقسام الوجود بين إله النور وإله الظلام؛ فكل ما غلب عليه إله النور فهو خير، وكل ما غلب عليه إله الظلام فهو شر، ولا عاصم لإله النور نفسه من غلبة الشر عليه في تلك الحرب السجال التي لا تنتهي إلا بنهاية للكون كله تتخبط فيها الظنون.
وآمن اليونان بغلبة القدر على العباد والمعبودين، ورواياتهم عن ضرباته تمثله للناس هازئا بهم متحديا لهم يطاردهم ويتجنى عليهم ويريهم عجزهم عن الفرار من نقمته أو نقمة رسوله «نمسيس»
Nemesis
ربة الثأر التي تأخذ الجار بذنب الجار، وتلاحق البعيد بجريرة القريب.
وآمن المصريون الأقدمون بالقدر وبالحرية الإنسانية، فأقاموا في العالم الآخر محكمة سماوية يقف الميت بين يديها ويحاسب على أعماله، وتحسب له أو عليه صلوات الكهنة والشفعاء.
وآمن البابليون بالطوالع التي تلازم الإنسان بحكم مولده تحت نجم من النجوم في علمهم من نجوم السعود أو نجوم النحوس، وجعلوا للأيام نجوما تدور معها ولا تخرج هذه الأيام من طالعها، وجعلوا للفصول نجوما تتداولها ولا تتغير في مجاريها إلا بما يكون من وساطة المنجمين وضحايا أصحاب القرابين.
والديانة الإسرائيلية تؤمن - على ما هو معلوم - باختيار الإله لشعب يؤثره على سائر الشعوب، وذرية يؤثرها على سائر الذراري، وأناس يؤثرهم على سائر الناس قبل خروجهم من بطون الأمهات؛ فبورك يعقوب وحاق السخط الإلهي بعيسوا وهما في البطن جنينان توءمان، وأصابت البركة والسخط بينهما إلى أعقاب الأعقاب: «ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب وكبير يستعبده صغير ...» ولم يبلغ القدر عند بني إسرائيل أن يكون نظاما كونيا يجري عليه قضاء الله مجرى النواميس والشرائع الأخلاقية، بل كان «يهوا» يجري فيه على حكم ثم يندم عليه ويبدله تارة بعد تارة على حسب الحالة التي تطرأ بغير حسبان. قال النبي أرميا يتحدث باسم يهوا: «قم انزل إلى بيت الفخاري وهناك اسمع كلامي. فنزلت إلى بيت الفخاري إذا هو يصنع عملا على الدولاب، ففسد الوعاء الذي كان يصنعه من الطين بيد الفخاري فعاد وعمله وعاء آخر كما حسن في عيني الفخاري أن يصنعه، فعاد إلي كلام الرب قائلا: أما أستطيع أن أصنع لكم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل؟ يقول الرب: هو ذا كالطين بين الفخار أنتم كهذا بيدي يا بيت إسرائيل، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالقلع والهدم والإهلاك فترجع تلك الأمة التي تكلمت عليها عن شرها، فأندم على الشر الذي قصدت أن أصنع بها، وتارة أتكلم على أمة وعلى مملكة بالبناء والغرس فتفعل الشر في عيني فلا تسمع لصوتي فأندم على الخير الذي قلت إني أحسن إليها به.»
وقد ذكر في سفر الخروج أن يهوا وصف نفسه فقال:
أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي.
ثم جاءت المسيحية بعد الإسرائيلية فربطت بين خطيئة آدم وقضاء الموت عليه وعلى أبنائه، ومن لم يربط بين الخطيئة وقضاء الموت من المتأخرين جعل الهلاك الروحي قضاء محتوما بديلا من موت الجسد. وأقدم ما جاء من أقوال الرسل المسيحيين عن قضاء الموت في الإنسان كلام بولس الرسول من رسالته إلى أهل روما؛ فإنه في هذه الرسالة يقرر أن الأكل من الشجرة هو أصل الشر في العالم الإنساني، وكفارته الموت الذي يصيب الجسد، ولا تكون كفارة الروح إلا بفداء السيد المسيح، وقد عاد بولس إلى مثل الفخار والخزف فقال: «ماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلما؟ حاشا لله؛ لأنه يقول لموسى: ارحم من أرحم وارأف بمن أرأف. فليس الأمر لمن يشاء أو لمن يسعى، بل الله الذي يرحم ... ومن أنت أيها الإنسان حتى تحارب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟ أليس للخزاف سلطان على الطين أن يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان؟ فماذا إن كان الله - وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته - احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يبين غنى مجده عمل آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد ...» •••
وتتباعد آراء العلم الطبيعي والفلسفة النظرية في هذه المسألة كما تباعدت عقائد الأديان وأقوال المتدينين فيها، وزبدة آراء العلماء الطبيعيين إلى أوائل القرن العشرين أن قوانين المادة تحكم كل شيء في عالم الجسد؛ فهي ضرورات حتمية لا موضع فيها للحرية الإنسانية إلا أن تجري في مجرى تلك القوانين، ثم جدت في القرن العشرين نظريات تشكك في هذه الحتمية المقيدة بالنواميس والقوانين يقول بها كبار العلماء من طبقة نيلز بوهر الدانماركي صاحب جائزة نوبل للعلوم عن سنة 1922، وهيزنبرج الألماني صاحب جائزة نوبل للعلوم سنة 1932. والأول يقرر أن الكهارب لا تتبع في انتقالها قانونا مطردا تجري عليه في الذرة وهي عنصر المادة، والثاني يقرر أن التجربة العلمية لا تأتي في تكرارها بنتيجة واحدة، وأن التجارب جميعا تؤيد اللاحتمية ولا تؤيد الحتمية التي اصطلح عليها جمهرة العلماء الطبيعيين إلى أوائل القرن العشرين، ويرد على هيزنبرج علماء آخرون فيقولون: إن التجارب تختلف؛ لأن آلات الضبط العلمي لا تحيط بجميع العوامل التي تتكرر في كل تجربة، وإننا إذا تحققنا من وحدة العوامل في كل تجربة متكررة، فالنتيجة لا شك واحدة.
ولا تحصى مذاهب الفلاسفة وتفريعاتهم على هذه المذاهب في مسألة القدر والحرية والجبرية والحتمية واللاحتمية، إلا أننا نستصفي منها زبدة جامعة لمذهب الواقعيين ومذهب الروحيين أو المثاليين؛ فزبدة مذهب الواقعيين أن الإنسان يفعل ما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد، وهم يعنون بذلك أن الإرادة تختار، ولكن هذه الإرادة نفسها مقيدة بتكوين الإنسان الذي تشترك فيه الوراثة وبنية الجسم وضرورات البيئة، فلا يخلق الإنسان إرادته، بل تولد فيه هذه الإرادة وتنشأ معه بغير اختياره؛ فيفعل كما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد.
وزبدة مذهب الروحيين أو المثاليين أن الإنسان جسد وروح؛ فجسده خاضع لأحكام المادة كسائر الأجساد، وروحه طليق مختار يخضع لجسده في أمور ويخضع هو جسده في أمور، وهو المسئول إذا انقاد لدواعي جسده ولم يجهد للانتفاع بحريته في مقاومة تلك الدواعي وموازنتها بما يصلحها عند فسادها ويقومها عند اعوجاجها. •••
وجميع هذه المذاهب لا تحل مشكلة القدر على الوجه الحاسم الذي تتفق عليه العقول وترتاح إليه الضمائر، وليس فيها - بتفصيلاتها - عقيدة تفضل عقيدة المسلم أو تقترب من حل لمسألة القدر لم تقترب منه تلك العقيدة.
وقبل أن نجمل أقوال الثقات في تفسير آيات القرآن الكريم نعود إلى مشكلة الشر التي قلنا في فاتحة هذا الكتاب إنها مشكلة شعورية، وليست مسألة عقلية في جوهرها، ومشكلة القدر هي مشكلة الشر بعينها معادة في عبارات أخرى؛ إذ هي مشكلة المحاسبة على الشر الذي يفعله الإنسان ويريد أن يعلم مبلغ نصيبه من التبعة في احتمال جزائه.
وليس في الأمر مشكلة عقلية؛ لأن العقل لا يستطيع - مع الإيمان بوجود الله - أن ينكر قدرته وحكمته وعدله في إجراء حكمته وقدرته.
والعقل كذلك لا يستطيع أن يعتقد أن الإنسان المكلف والحجر الجامد سواء في الاختيار، ولا يستطيع أن ينكر التفاوت بين الناس في الحرية أو التفاوت بين أعمال الفرد الواحد في الاختيار على حسب الرغبة والمعرفة.
وإنما تبرز المشكلة عندما تمس الإنسان في شعوره، ويحتاج إلى التوفيق بين قدرة الله وعدله فيما يصيبه من ألم الجزاء وعذاب الندم والتبكيت.
ولا شك عندنا في حقيقة واحدة نعتقد أنها تلم شعث الخلاف كثيرا بعد طول التأمل فيها ...
تلك الحقيقة أن العدل الإلهي لا تحيط به النظرة الواحدة إلى حالة واحدة، ولا مناص من التعميم والإحاطة بحالات كثيرة قبل استيعاب وجوه العدل في تصريف الإرادة الإلهية.
إن البقعة السوداء في الصورة الجميلة وصمة قبيحة إذا حجبنا الصورة ونظرنا إلى تلك البقعة بمعزل عنها، ولكن هذه البقعة السوداء قد تكون في الصورة كلها لونا من ألوانها التي لا غنى عنها، أو التي تضيف إلى جمال الصورة ولا يتحقق لها جمال بغيرها.
ونحن في حياتنا القريبة قد نبكي لحادث يصيبنا، ثم نعود فنضحك أو نغتبط بما كسبناه منه بعد فواته.
فالنظر إلى الكون في ألف سنة يكشف لنا من دلائل التوفيق بين القدرة الإلهية والعدل الإلهي ما لا تكشفه النظرة إليه في سنة واحدة، وندع القول عن النظرة للحادث الواحد في الناحية الواحدة من حياة فرد بعينه من أفراد الأمم الإنسانية.
وعلى هذا النحو نقول إننا نقترب من التوفيق بين القدرة الإلهية والعدل الإلهي، ولا نقول إننا نحيط بدلائل هذا التوفيق جميعها؛ فإن الإحاطة بدلائل الحكمة الإلهية أمر غير معقول في حكم العقل نفسه؛ إذ كان العقل المحدود لا يحيط بالقدرة التي ليست لها حدود.
وعلى هذا النحو تتوارد آيات القرآن الكريم عن قدرة الله، وعن حرية الإنسان، وعن عدل الله في إجراء قدرته ومحاسبة المخلوق على حريته:
وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما (الإنسان: 30)،
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (السجدة: 13)،
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الأنفال: 53)،
كل امرئ بما كسب رهين (الطور: 21)،
وما ربك بظلام للعبيد (فصلت: 46)،
وما الله يريد ظلما للعباد (غافر: 31)،
إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (الأعراف: 28).
ولعل الصعوبة الكبرى إنما تساور العقل من فهم قوله تعالى:
ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها (السجدة: 13) فلم لا يشاء أن تؤتى كل نفس هداها على السواء؟
وتذليل الصعوبة في الجواب نفسه؛ فإن الهداية إذا ركبت في طبائع الناس كما تركب خصائص الأجسام على السواء بين كل جسم وجسم، فتلك هي الهداية الآلية التي لا اختلاف بها بين مدارك الأرواح ولوازم الأجسام المادية، ومن اختار ذلك فإنما يختار لنوع الإنسان منزلة دون منزلته التي كرمته وفضلته على سائر المخلوقات.
فالعدل فيما اختاره الله للإنسان أعم وأكرم مما يختاره الإنسان لنفسه إذا هو آثر الهداية التي تسوي بينه وبين الجماد. •••
وأيا كان القرار الذي يسكن إليه المسلم بعد تلاوة هذه الآيات، فمن الصدق لضميره أنه لا بد أن يكون في ذلك القرار عمل للعقيدة الإيمانية، وعمل العقيدة الإيمانية هو أن يعالج شعور القلق بشعور الطمأنينة والثقة، وبخاصة إذا أيقن العقل أن قدرة الله لن تكون إلا على هذه الصفة، وأن حرية الإنسان لن تكون على هذا الوجه، وأن حريته على هذا الوجه لا تناقض إمكان العدل الإلهي متى التمسنا دلائل هذا العدل في آيات الكون كله، ولم نقصرها على حادث في حياة مخلوق يتغير شعوره بآلامه وعواقبها من حين إلى حين. •••
وكثيرا ما تمر بنا في رحلات الغربيين إلى الشرق الإسلامي كلمات منقولة عن التركية والعربية مثل كلمة: «قسمة» وكلمة «مكتوب» وكلمة «مقدر»، يرددونها بالألفاظ محرفة عن ألسنة العامة في البلاد التي يرحلون إليها، ويفهمون منها أن المسلم جبري مستغرق في الجبرية، يستسلم للحوادث ولا يرى أن المحاولة تجديه شيئا في إصلاح شأنه أو تغيير قسمته. ومما لا مراء فيه أن هذه الجبرية مسموعة على أفواه الجهلاء شائعة بينهم في عصور الجمود والاضمحلال، ولكنها إذا نسبت إلى الدين لم يكن لنسبتها إليه سند من الكتاب الكريم، ولا من الحديث الشريف؛ فإن جبرية المسلم العارف لكتابه وسنة نبيه لن تكون كجبرية أحد من الذين آمنوا قديما بالكارما الهندية أو بالطوالع البابلية أو بالقدر الغاشم في الأساطير اليونانية، ولا يستطيع المسلم العارف لكتابه وسنة نبيه أن يدين بجبرية كجبرية المؤمن باصطفاء الله لسلالة من السلالات وخروج سائر السلالات من حظيرة رحمته ونعمته، ولا يستطيع أن يدين بجبرية كجبرية المؤمن بوراثة الخطيئة وقبول الكفارة عنها بعمل غير عمله، وإنما جبرية المسلم على حسب علمه بدينه؛ جبرية ينتهي إليها كل من آمن بقدرة الله وعدله، وآمن بأن الهداية من طريق التكليف أصح وأدنى إلى العدل الإلهي من هداية آلية تتركب في طبائع الناس جميعا، كما تتركب خصائص المادة في طبائع الأجسام. •••
وبعد، فنحن نكتب هذا الفصل عن الإنسان في العصر الذي نريد فيه تعريف محيط الإنسان على التعريفات المحيطة التي اشتهرت من قبل، وأجملناها في أول هذا الفصل لنضيف إليها التعريف المحيط بحقيقة الإنسان في عقيدة الإسلام.
هذا التعريف الجديد الذي زيد في العصر الأخير هو تعريف العلماء النشوئيين القائلين بمذهب التطور أو مذهب النشوء والارتقاء، ومعظمهم يعرفون الإنسان بأنه حيوان راق؛ فيضعون هذا التعريف مقابلا لقول القائلين إن الإنسان روح منكوس أو ملك ساقط من السماء.
ما قول المسلم في هذا المذهب الجديد؟ أتراه يصدقه؟ أتراه يكذبه؟ وهل في نصوص دينه ما يفسر هذا المذهب تفسير الموافقة والقبول؟ وهل في نصوص دينه ما يفسره تفسيرا يوجب عليه رفضه والإعراض عنه؟
نحن لا نحب أن نقحم الكتاب في تفسير المذاهب العلمية والنظريات الطبيعية، كلما ظهر منها مذهب قابل للمناقشة والتعديل أو أظهرت منها نظرية يقول بها أناس ويرفضها آخرون، ومهما يكن من ثبوت النظريات المنسوبة إلى العلم فهو ثبوت إلى حين، لا يلبث أن يتطرق إليه الشك ويتحيفه التعديل والتصحيح، وقريبا رأينا من فضلائنا من يفسر السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، ثم تبين أن السيارات أكثر من عشر، وأن الصغار منها تعد بالمئات ولا يحصرها الإحصاء؛ فليس من الصواب إذن أن نقحم أصول العقيدة في تفسير أقوال وآراء ليست من الأصول في علومها، ولا يصح أن تتوقف عليها الأصول، وحسب الدين من سلامة المعتقد وموافقته للعقل أنه لا يحول بين صاحبه وبين البحث في العلم وقبول الرأي الذي تأتي به فتوح الكشف والاستنباط، وعلى هذه السنة يرجع المسلم إلى آيات كتابه وأحاديث نبيه فلا يرى فيها مانعا يمنعه أن يدرس التطور، ويسترسل في مباحثه العلمية إلى حيث يلهمه الفكر وتقوده التجربة:
ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين * ثم سواه ونفخ فيه من روحه (السجدة: 6-9)،
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين (المؤمنون: 12).
وإذا اعتقد المسلم أن خلق الإنسان الأول مبدوء من الأرض، وأنه مخلوق من سلالة أرضية، فلا عليه بعد ذلك أن يسفر مذهب التطور عن نتيجته المقررة كيف كانت على الوجه القاطع المتفق عليه، فما يكون في هذه النتيجة نقض لعقيدة المسلم في أصل الإنسان: إنه جسد من الأرض وروح من عند الله، وليس في وسع العالم النشوئي أن يدحض هذه العقيدة برأي قاطع أحق منها بالتصديق والإيمان. •••
يقول نيتشه في إحدى كلماته التي لا ندري أفي جد أم مزاح: إن الإنسان قنطرة بين القرد والسوبرمان.
وكاد يمزح من يقول هذه الكلمة وإن لم يقصد إلى المزاح؛ فإن القنطرة التي قصاراها أن تنقل الإنسان من قرد إلى سوبرمان لا توجد، ولا يمكن أن توجد؛ فتلك قنطرة لا يبنيها القرد ولا يبنيها السوبرمان، ولا تبني نفسها بيديها ولا تبنيها الطبيعة التي قد تخطو من حالق إلى الهاوية، وقد تخطو من الهاوية يمنة ويسرة إلى غير وجهة.
إنما الأحجى أن يقال: إن الإنسان قنطرة من الأرض إلى السماء يبنيها الله؛ قنطرة قرارها أسفل سافلين وذروتها أعلى عليين.
معراج من التراب المجبول إلى أفق الأرواح والعقول:
يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه (الانشقاق: 6).
وإنه لملاقيه؛ لأنه مخلوق على صورته كما جاء في الحديث النبوي الشريف.
مخلوق على صورة الخالق.
يرتفع من التراب إلى السماء أوجا فوق أوج في طريق عسر طويل، هو طريق النهوض بأمانة التكليف.
وما من مسلم يدين بصورة جسدية للإله الواحد الأحد الذي «ليس كمثله شيء» وله المثل الأعلى.
صورته في خلد المسلم كوجهه ويده المذكورين في القرآن الكريم: صورة تناسب كماله، ووجه ويد يناسبان ذلك الكمال.
والإنسان مخلوق على صورة الخالق؛ لأن صورته جل وعلا هي صورة كاملة من الصفات الحسنى في مثلها الأعلى.
رحمة وكرم وعلم وعمل ومشيئة ومجد وعظمة وفتح وإبداع وإنشاء.
وكل صفة من هذه الصفات مطلوبة من الإنسان على غاية ما يستطيع.
لا يرتقي ذلك المرتقى الذي لا يدرك بالأبصار ولا بالعقول، ولكنه يرتقي قادرا على الارتقاء من التراب إلى السماء.
مخلوق على صورة الخالق.
مخلوق تهبط به أمانة التكليف إلى أسفل سافلين وترتفع به إلى أعلى عليين.
ذلك هو الإنسان في عقيدة الإله الواحد الأحد الذي لا أول له ولا آخر.
ذلك هو الإنسان في عقيدة النبي الصادق الأمين: نبي يدعو إلى رب العالمين. (4) الشيطان
في الكلمة التمهيدية التي قدمنا بها لكتابنا عن «إبليس» قلنا إن معرفة الإنسان للشيطان كانت فاتحة خير ... لأنه لم يعرف الشيطان إلا بعد أن عرف الخير والشر، وعرف الفرق بين الشر والخير؛ فعرف أن الشر لا يجوز، وكان كل ما يعرفه منه أنه لا يسر ولا يوافق مآربه وشهواته، وعرف أن مخالفة المآرب والشهوات لا تكون شرا على الدوام، بل هي خير في كثير من الأحيان؛ ومن ثم عرف كيف يكبح مآربه وشهواته وهو راض مطمئن؛ لأنه يعلم أنه عامل للخير مستقيم على نهج الصلاح.
وقارنا في فصول الكتاب بين أسلوب الدين في تعليم الأخلاق وأسلوب التلقين والتعليم الذي سميناه بالأسلوب الأكاديمي - أو أسلوب المطالعة والدراسة - وأن بين الأسلوبين في أعماق النفس وفي ميادين العمل لبونا جد بعيد؛ لأن حدود الخير والشر في أحدهما حيوية تمتزج بالشعور والوجدان، وتسمو إلى تقديس الخيرات أو تنحدر إلى النفور من نجاسة الشرور، وما الأسلوب الآخر - أسلوب التلقين والمطالعة - إلا أسلوب أوراق وأذواق تنقسم فيه معاني الخير والشر في الضمير والفكر كأنها أقسام في صفحات أو تصنيفات في الودائع والمخزونات.
وختمنا كتاب إبليس بكلمة عن مقاييس الحقائق التي تعددت وتنوعت، فلا تقاس كلها بمقياس الحساب أو مقياس المعمل أو مقياس التجربة المحسوسة، وبخاصة ما كان منها متصلا بالضمير والوجدان.
ولا نخال أن السريرة الإنسانية تكشف عن أعماقها بعلم من العلوم كهذا العلم - علم المقارنة بين الأديان - وعلم الدراسات النفسية؛ وهو في خطواته الأولى أو على أبواب النتائج التي لا تتفتح إلا بين التردد والانتظار.
لكن الفائدة المبكرة التي خلصت للعقل الإنساني من بواكير البحث في العلمين أن مقاييس الحقائق تختلف وتتعدد، وأن الحقائق كلها لا تقاس بأرقام الحساب وأنابيب المعامل وتجارب العلميين ومناظير الفلكيين.
فها هنا حشد من العقائد والأخيلة تمتلئ به سيرة النوع الإنساني في نحو مائة قرن يدركها التاريخ.
ما هي في أرقام الحساب أو أنابيب المعامل أو تجارب الطبيعة أو مناظير الفلكيين.
سهل على أدعياء العلم أن يعرفوها بكلمتين: حديث خرافة!
وحديث الخرافة يجب أن يلغى. فتعالوا نلغه ونعهد لأدعياء العلم جميعا أن يبدءوا بالنوع الإنساني في تعلم الخير والشر والقداسة واللعنة على برنامج غير هذا البرنامج وتربية غير هذه التربية، وليتسلم أدعياء العلم هذا النوع الإنساني قبل مائة قرن وليأخذوا في تعليمه الأبجدية من هذه الدروس.
ولنفرض أولا فرضا مستحيلا أنهم سيكونون قبل مائة قرن على معرفة بما يسمونه اليوم خرافة، وما يسمونه تحقيقا، وما يسمونه دراسة منطقية أو علمية.
وليبدأ النوع الإنساني في هذه المدرسة بفلسفات الأخلاق على مذاهبها وفروضها واحتمالاتها وردودها ومناقشاتها.
وليحفظ فلسفات الأكاديمية كلها ويتخرج عليها ...
ولقد حفظها ولقد خرج منها بما شاء له أدعياء العلم من آراء ...!
ولقد وصلنا بعد الرحلة الطويلة إلى القرن العشرين، فماذا نقول؟
نقول إن هذا في الحق هو حديث الخرافة الذي لا يعدو الألفاظ والعناوين وأسماء المدارس والمريدين.
لكن النوع الإنساني ترك هذه الأكاديمية قبل مائة قرن، وأمعن في طريقه الذي هداه إليه القدر وأعدته له الفطرة؛ ونتيجة هذا الطريق أنه أعطى الحياة النابضة لكل خلق من أخلاق الخير والشر والقداسة واللعنة، وأن علم العلماء اليوم لا يستطيع أن يقيم من الفوارق المحسوسة بين خلق وخلق فارقا واحدا كالفارق الذي نفهمه ونحسه ونحياه حين نتكلم عن الخلائق الإلهية والخلائق الملكية أو الخلائق الشيطانية، أو عما يجعلها من الخلائق السماوية أو الخلائق الأرضية أو الخلائق الجهنمية.
إن العلماء الذين يستعيرون تعبيراتهم المجازية من هذه الفوارق لا يفعلون ذلك لعبا بالألفاظ أو تظرفا بالتمثيل والتشبيه، ولكنهم يستعيرون ذلك التعبير لأنه أولى وأوضح وأقوى من كل تعبير يستعيرونه من المدرسة النفعية أو المدرسة السلوكية أو المدرسة الانفعالية ومدارس روح الجماعة أو تضامن الهيئات والبيئات، وما إليها من ألفاظ ناصلة ومعان حائلة وأسماء لم تخلق من مسمياتها شيئا، وهيهات أن تخلقه ولو تسمت بها مئات القرون ... وغاية ما تبلغه أنها تأتي إلى محصول القرون بعد زرعه ونقائه واستوائه وحصده، فتكتب العناوين على غلاته وبيادره، ولا تأمن بعد ذلك أن تضل بين تلك العناوين التي كتبتها بيديها.
فهذه الحقائق الوجدانية والقيم الروحية لا تقاس بمقياس الأرقام وأنابيب المعامل، ومن أراد أن يقيسها بهذا المقياس فهو الذي سيخطئ لا محالة، كما يخطئ كل واضع لأمر من الأمور في غير موضعه، وكل من يقيس شيئا وهو يجهل كيف يقاس ... •••
إن الإيمان شوق عميق من أشواق النفس الإنسانية ينساق إليه الإنسان بباعث من فطرته.
أما الشيء الذي يحتاج إلى أناة الفكرة ورحابة الصدر، وقياس كل حقيقة بما يناسبها من مقاييسها وخصائصها، فذلك هو النفاذ إلى أسرار الإيمان.
وكل العقائد الإيمانية سواء في حاجة إلى أناة الفكر ورحابة الصدر وحسن القياس للنفاذ إلى أسرارها، ولكن العقيدة في عمل الشيطان أحوج هذه العقائد جميعا إلى التسليم بسعة الحقائق، وتعدد المقاييس التي تكشف عن بواطنها وتنفذ إلى كنه مدلولاتها.
ومن حضرت في ذهنه سعة الحقائق وجد بين يديه صعوبة لا صعوبة مثلها في رفض فكر الشيطان، كما يرفضها أدعياء العلم الذين لو جروا على سننهم في إثبات الأشياء لرفضوا وجود المادة الملموسة عجزا منهم عن إدراك أصولها، وما أصولها إلا العناصر التي تنشق شعاعا متحركا في أثير لا وزن له ولا حجم ولا حركة ولا لون ولا طعم، ولا تعرف له صفة واحدة من صفات الأجسام بله الأرواح.
وما نعلم من شيء كهذه العقائد في بواعث الخير والشر قد تراءت فيه يد العناية الإلهية آخذة بيمين هذا الإنسان الضعيف - بل هذا الحيوان الجهول - تقوده من عماية الجهالة إلى هداية التمييز بين الفضيلة والرذيلة، وبين الحلال والحرام، وبين المفروض والمحظور.
ومن ثم نرى أن مراحل الانتقال في تصور روح الشر - أو تصور الشيطان - قد تكون من أوضح المعالم لمتابعة الضمير الإنساني في ارتقائه وتمييزه، وإنه لمن السهل أن تعرف الإنسان بمقدار ما يشعر به نحو الشر من النفور أو الخوف، وليست بهذه السهولة معرفتنا للإنسان بمقدار ما يتمثله من المثل العليا للخير والفضيلة؛ لأن المثل العليا بطبيعتها تبتعد عن الواقع وتمتزج بالآمال والفروض، ويشبه هذا في عالم الحس أن قياس الانحطاط بالنسبة إلى الحضيض سهل محدود المسافات، ولكن قياس الصعود والارتفاع بالنسبة إلى الآفاق العليا أصعب من ذلك بكثير.
ونحن - بالمقارنة بين هذه المراحل في تصور فكرة الشيطان وسلطان الشر على النفس البشرية - نستطيع أن نبين مرحلة العقيدة الإسلامية من هذه المراحل، وأن نعرف منها مدى قوة الضمير الإنساني في مواجهة الشر كما طرأت على العقائد لأول مرة في تاريخ الأديان.
بدأ الإنسان خطواته المتعسرة في طريق الخير والشر حيوانا ضعيفا يفهم الضرر ولا يفهم الشر ولا يدريه، وإذا فهم الضرر فإنما هو الضرر في جسده أو فيما يطلبه الجسد من مطالب الطعام والشراب والأمن والراحة، وكانت الأرواح كلها ضارة تلاحقه بالأذى والإساءة ما لم يتوسل إلى مرضاتها بوسائل الشفاعة والضراعة أو بوسائل الضحايا والقرابين.
ثم انقسمت الأرواح عنده إلى ضارة وغير ضارة، وما لم يكن ضارا منها فليس امتناعه عن الضرر لأنه يحب الخير أو يكره الشر، بل هو يمتنع عن الإضرار به لأنه روح من أرواح أسلافه وذوي قرابته يصادقه كما يصادق الأب ذريته والقريب ذوي قرباه.
ثم طالت مرحلته في هذه الطريق حتى سنح له بصيص من التمييز بين الضرر الذي يجوز والضرر الذي لا يجوز، وقد سنح له هذا البصيص من عادة الارتباط بالعهود والمواثيق بينه وبين أربابه وبينه وبين عشرائه وخلفائه، فما كان مخالفا للعهود والمواثيق فهو ضرر مستغرب لا يجوز، وما كان ضررا لا يجوز فهو لون من ألوان الشر الذي كان مجهولا قبل الارتباط بعهود الصلاة والعبادة أو عهود المحالفة والولاء.
وربما عبر الإنسان في هذه المرحلة عشرات القرون حتى وصل إلى عهد الحضارات العليا، ووصل من ثم إلى الديانات التي تلائم عقله وضميره في كل حضارة منها.
هنالك عرف الشر والخير وعرف التمييز بين ما يجوز وما لا يجوز، وهنالك ظهرت بين أممه المتقدمة قوى الشر الكونية التي تتصرف في الوجود كله، وتقضي فيه قضاء يمتد أثره وراء عمر الإنسان الواحد، ووراء أعمال الأجيال والأقوام.
وأرفع ما ارتفع إليه الإنسان في هذه المرحلة عقيدة الهند، فعقيدة الثنوية، فعقيدة مصر الفرعونية.
فكانت عقيدة الهند أن المادة كلها شر أصيل فيها فلا خلاص منه إلا بالخلاص من الجسد، وكان الشر عندهم مرادفا للهدم والفساد، يتولاه الإله الواحد في صورة من صوره الثلاث: صورة الخالق وصورة الحافظ وصورة الهادم الذي يهدم بيديه ما بناه وما حفظه في صورتيه الأخريين.
وكانت عقيدة الثنوية من مجوس فارس أن الشر من عند إله الظلام، وأن الخير من عند إله النور، وأن الغلبة أخيرا لإله النور بعد صراع طويل.
وكانت عقيدة مصر الفرعونية أن الإله «سيت» شرير مع أعدائه ومخالفيه، وربما كان منه الخير لأتباعه ومؤيديه، ولم يكن خلاص الروح عندهم منفصلا عن خلال الجسد، ولا العالم الآخر عندهم مخلوقا على مثال أرفع من مثال الحياة في وادي النيل.
ويميل علماء المقارنة بين الأديان إلى تفضيل العقيدة الهندية على العقيدتين الفارسية والمصرية، ولكنه تفضيل لا يقوم على أساس صحيح؛ لأن إلغاء الخير في عالم المادة بحذافيره لا يفسح فيه مجالا للخير ولا يجعل الخلاص منه إلا كالخلاص من مكان موبوء، حدوده كحدود الأبعاد والمسافات، وليس في هذه العقيدة الهندية ما يجعل للهدم لازمة غير لازمة الخلق والحفظ، فكلها من لوازم عمل الإله بغير تفرقة بين هذه الأطوار تأتي من الإله أو تأتي من العباد.
وربما كانت عقيدة مصر الفرعونية أقرب هذه العقائد الثلاث إلى تنزيه الضمير الإنساني من لوثات الوثنية؛ لأنها جعلت للشر نزعة منفردة بين نظم الأكوان، كأنما هي نزعة التمرد في عالم يقوم على الشريعة والنظام. •••
ثم تميزت من بين عقائد القبائل البدائية والحضارات العليا عقائد الديانات الكتابية التي يدين بها اليوم أكثر من نصف الأمم الإنسانية، ويتغلغل أثرها في الأمم الأخرى شيئا فشيئا ولو لم تتحول عن عقائدها الأولى.
تميزت بين ديانات الأولين الديانة العبرية والديانة المسيحية والديانة الإسلامية، وكانت الديانة العبرية جسرا بين عدوتين: إحداهما عدوة الوثنية والأخرى عدوة التوحيد والتنزيه.
ولهذا لم تتميز قوة الخير وقوة الشر بفاصل حاسم في الديانة العبرية، فكان الشر أحيانا من عمل الشيطان وأحيانا من عمل الحية، وكان الشر بهذه المثابة تارة ضررا لا يجوز، وتارة أخرى ضررا ماديا يأتي من حيوان كريه إلى الناس لما ينفثه من سموم قاتلة، ولم يكن الشيطان منفصلا من زمرة الملائكة، بل كان من زمرة الحاشية الإلهية التي تنفث سموم الوشاية والدسيسة.
وقد كانوا ينسبون العمل الواحد مرة إلى المعبود «يهوا» ومرة إلى الشيطان، فجاء في كتاب صموئيل الثاني أن الرب غضب على إسرائيل فأهاج عليهم الملك داود وأمره بإحصائهم وإحصاء يهودا معهم، وجاء في كتاب الأيام أن الشيطان هو الذي وسوس لداود بإجراء هذا الإحصاء، ولم يرد اسم الشيطان قبل ذلك في كتب التوراة مقرونا بأداة التعريف التي تدل على الأعلام كأنه كان واحدا من أرواح كثيرة تعمل هذه الأعمال التي انحصرت بعد ذلك في روح واحد يسمى الشيطان، ويستعين بمن على شاكلته من الأرواح. •••
ثم انتقلت فكرة الشيطان مرحلة واسعة بعد ظهور المسيحية فتم الانفصال بين الصفات الإلهية والصفات الشيطانية، وأصبح للإله عمل وللشيطان عمل، ولكنه عمل جسيم يوشك على أن يضارع عمل «أهريمان» إله الظلام؛ لأنه سمي في الأناجيل باسم رئيس هذا العالم واسم إله هذا الدهر، وكانت له مملكة الدنيا ولله ملكوت السماوات، واستقل بشطر كبير من قصة الخليقة في السماء والأرض، فلولاه لما وقعت الخطيئة، ولا سقط الجنس البشري، ولا وجبت الكفارة بالفداء.
وانتقلت فكرة الشيطان إلى أبعد مراحلها بعد ظهور الإسلام؛ فهو قوة الشر لا مراء، ولكنها قوة لا سلطان لها على ضمير الإنسان ما لم يستسلم لها بهواه أو بضعف منه عن مقاومة الإغراء:
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان (الحجر: 42)،
إن كيد الشيطان كان ضعيفا (النساء: 76)،
وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم (إبراهيم: 22).
فمن أطاع الشيطان فقد أطاع نفسه فظلمها ولم يظلمها الشيطان:
قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين (الأعراف: 23).
وما يكون لشيطان أن يطلع على الغيب أو ينفذ إلى أسرار العالم المجهول:
لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (سبأ: 14).
وما يكون للشيطان أن يضر أحدا بسحره:
وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله (البقرة: 102).
وما كان لهم من سحر إلا أن تضل الأبصار والبصائر كأنما ضلال المسحور ضرب من ضلال المخمور:
إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (الحجر: 15)،
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (طه: 66).
فما كان سحر الشيطان إلا ضربا من الخيال أو الخبال، وما كان له بقوة من قوى السحر أو قوى العلم أن يهزم ضمير الإنسان، وكل هذه القوة الخفية بجميع خصائصها التي تراكمت حولها في العقائد الغابرة منتهية إلى وجود كأنه العدم، أو كأنه الوهم الذي يملك الضمير الإنساني أن يتجاهله ويمضي على سوائه غير ملتفت إليه لو شاء، وإنه ليشاء فلا يكون له عليه من سلطان لمشيئة الشيطان؛ إذ لا مشيئة له في أمر يوسوس به إلا أن يشاءه الإنسان. •••
بهذه العقيدة الوجدانية الفكرية أقام الإسلام عرش الضمير، وثل عرش الشيطان.
ومن حق البحث الأمين على الباحث المنصف أن يضيفها إلى عقائد الإسلام في الله وفي النبي وفي الإنسان، فإذا عرف الإنصاف فما هو بقادر على أن يزعم أن الإسلام ديانة محرفة من ديانة محرفة من ديانة سبقت، وإذا عرف الصواب فما هو بقادر على أن يجحد مرتقاه في أطوار الإيمان، وأنه غاية ما ارتفع إليه ضمير المؤمن في ديانات الأقدمين والمحدثين. (5) العبادات
يعرف الدين بعباداته بين أناس كثيرين لا يعرفونه بعقائده، وربما استدلوا على العقائد بالعبادات؛ لأن العبادة فرع من العقيدة يشاهد عيانا في حيز التنفيذ أو التطبيق، ولكنها - على هذا - من فروع العقائد التي يقل فيها الخلاف، وتضيق حولها مواضع الجدل في الخصومات المذهبية؛ إذ كان الغالب على العبادة أنها شعائر توقيفية تؤخذ بأوضاعها وأشكالها، ولا يتجه الاعتراض إلى وضع من أوضاعها إلا أمكن أن يتجه إلى الوضع الآخر لو استبدل منها ما يقترحه المقترح بما جرى عليه العمل وقامت عليه الفريضة من نشأتها.
لماذا يكون الصوم شهرا، ولا يكون ثلاثة أسابيع أو خمسة؟
لماذا تكون حصة الزكاة جزءا من عشرة أجزاء، ولا تكون جزءا من تسعة أو من خمسة عشر؟
لماذا نركع ونسجد ولا نصلي قياما أو قياما وركوعا بغير سجود؟
من اعترض بأمثال هذه الاعتراضات فليس ما يمنعه أن يعود إلى الاعتراض لو فرض الصيام ثلاثة أسابيع، أو فرضت الزكاة فوق مقدارها أو دون هذا المقدار، أو فرضت الصلاة على وضع غير وضعها الذي اتفق عليه أتباع الدين.
وليس معنى ذلك أن هذه الأوضاع لا تعرف لها أسباب تدعو إليها وتفسر لنا اتباعها دون غيرها، ولكنها في نهاية الأمر أوضاع «توقيفية» لا موجب من العقل للتحكم فيها بالاقتراح والتعديل؛ لأن المقترح العدل لن يستند إلى حجة أقوى من الحجة التي يرفضها ويميل إلى سواها.
ويسري هذا على كل تنظيم في أمور الدنيا ولا يسري على أمور الدين وحده؛ فلماذا يكون عدد الكتيبة في جيش هذه الأمة 50 - مثلا - ويكون في جيش أمة غيرها 40 أو مائة؟ ولماذا يجعل اللون الأخضر رمزا لهذا المعنى في ألوان العلم القومي عند قوم من الأقوام، وهو مجعول لغير هذا المعنى عند أقوام آخرين ؟
لا مناص في النهاية من أسباب توقيفية يكون التسليم بها أقرب إلى العقل من المجادلة فيها؛ لهذا يقل الخلاف بين أصحاب الأديان في شعائر العبادة حيث يكثر في كل كبيرة وصغيرة من شئون العقائد الفكرية أو عقائد الضمير.
إلا أن هذا كله لا يقضي علينا بقبول كل عبادة على كل وضع يخطر على البال، ولا يمنعنا أن نفاضل بين العبادات فنرى منها عبادة أفضل من عبادة وفريضة أولى بالاتباع من فريضة؛ إذ لا شك أن العبادة التي تؤدي غرضها أفضل من العبادة التي لا تؤدي هذا الغرض ولا تؤدي غرضا من الأغراض، ولا شك في وجود المزايا التي تتفاوت بها العبادات، وإن لم تكن هذه المزايا داخلة في الغرض المقصود بشعائر العبادات.
والغرض من عبادات الأديان ينطوي على أغراض متشعبة يضيق بها الحصر؛ لأنها تقابل أغراض الدنيا جميعا بأغراض الدين، ولكننا قد نجمعها جهد المستطاع في تنبيه المتدين على الدوام إلى حقيقتين لا ينساهما الإنسان في حياته الخاصة أو العامة إلا هبط به النسيان إلى درك البهيمية، واستغرق في هموم مبتذلة لا فرق بينها وبين هموم الحيوان الأعجم - إن صح التعبير عن شواغل الحيوان الأعجم بكلمة الهموم.
إحدى الحقيقتين التي يراد من العبادة المثلى أن تنبه إليها ضمير الإنسان على الدوام؛ هي وجوده الروحي الذي ينبغي أن يشغله على الدوام بمطالب غير مطالبه الجسدية وغير شهواته الحيوانية.
والحقيقة الأخرى التي يراد من العبادة المثلى أن تنبه إليها ضميره؛ هي الوجود الخالد الباقي إلى جانب وجوده الزائل المحدود في حياته الفردية، ولا مناص من تذكير الفرد لهذا الوجود الخالد الباقي إذا أريد فيه أن يحيا حياة بآثارها إلى ما وراء معيشته اليومية ووراء معيشة قومه، بل معيشة أبناء نوعه، وعبثا يترقى الإنسان من مرتبة البهيمية إلى مرتبة تعلوها إن جاز أن يعيش أيامه يوما بعد يوم وهو لا يذكر أنه مطالب بواجب أكبر من واجب الساعة أو واجب العمر كله؛ فإن الترقي في كل صورة من صوره يفضي إلى غاية واحدة هي خلاص الإنسان من ربقة الانحصار في مطالب اليوم والساعة، أو مطالب العمر المحدود بحياته الفردية. •••
عبادة المسلم في جميع فرائضها تتكفل له بالتنبيه الدائم إلى هاتين الحقيقتين.
إنه في صلاته يستقبل النهار ويتوسطه مرتين، ثم يختمه ويستقبل الليل بالوقوف بين يدي الله كأنه يستهديه في عمله ويؤدي إليه الحساب عن هذا العمل من ساعة اليقظة إلى الساعة التي يستسلم فيها للرقاد أو ينطوي فيها تحت جنح الظلام.
وإن المسلم في صيامه ليذكر حق الروح من شرابه وطعامه، ويذكر أنه ذو إرادة تأخذ بيديها زمام جسدها، ولا تترك لهذا الجسد أن يأخذ بزمامها ويتصرف بها على هواه، وأصح ما يكون الصيام الذي ينبه الضمير إلى هذه الحقيقة أن يقدر المرء على ترك الشراب والطعام فترة من الزمن، ولا يكون قصاره منها أن يستبدل شرابا بشراب وطعاما بطعام.
أما الزكاة في فرائض الإسلام، فهي المذكر له بحصة الجماعة من ماله الذي يكسبه بكده وكدحه، وهي المذكر له بأن يعمل لغيره ولا يعمل لنفسه وكفى، وهي الامتحان له فيما تهوى الأنفس من المال والمتاع؛ حيث كان الصيام امتحانا له فيما تهوى الأنفس من الشراب والطعام.
وإذا كان الإسلام دينا يدعو الناس كافة إلى عبادة رب العالمين، فالحج هو الفريضة التي تتمثل فيها هذه الأخوة الإنسانية على تباعد الديار واختلاف الشعوب والأجناس، وهي في اصطلاح العرف الشائع بين الناس بمثابة صلة الرحم وتبادل الزيارة بين أبناء الأسرة الواحدة، يجمعها الملتقى في المكان الذي صدرت منه الدعوة إليها، وهو أجدر مكان في بقاع الأرض أن يتم فيه هذا اللقاء.
ولا حاجة إلى بيان حكمة الركن الأول من أركان الإسلام وهو ركن الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدا رسول الله.
فهاتان الشهادتان هما الركن الذي تقوم عليه أركان العبادات الإسلامية، وبغيره لا يكون المسلم مسلما بعقائده وعباداته.
والشهادتان أسهل العبادات بلفظهما؛ لأنه لا يعدو أن يكون نطقا بكلمات معدودات، ولكنهما بمعناهما أصعب الأركان في الأديان؛ لأنهما انتقال من دين إلى دين ، بل مرحلة واسعة بين تاريخ وتاريخ. •••
وعلى هذه الوتيرة وما شابهها في الفرائض الإسلامية يتاح للمسلم أن يوفق بين عباداته التوقيفية وبين أدائها للغرض من العبادة، وهو تذكيره بوجوده الروحي وتذكيره بوجود أسمى من وجوده وأبقى، وإذا كان تحقيق الغرض من العبادة هو ميزان التفاضل بين الشعائر التوقيفية، فحسب الإسلام من مزية في شعائره أن يوفق بين أوضاعها وأغراضها هذا التوفيق - لو لم تكن له مزية أخرى.
على أن عبادات الإسلام قد امتازت بين عبادات الأديان بمزية لا نظير لها في أرفعها وأرقاها بالنظر إلى حقيقتها أو بالنظر إلى جماهير المتدينين بها، وتلك مزيته البينة التي يرعى بها استقلال الفرد في مسائل الضمير خير رعاية تتحقق لها في نظام حياة.
فالعبادات الإسلامية بأجمعها تكليف لضمير الإنسان وحده، لا يتوقف على توسيط هيكل أو تقريب كهانة.
يصلي حيث أدركه موعد الصلاة، وأينما تكونوا فثم وجه الله.
ويصوم ويفطر في داره أو في موطن عمله، ويحج فيذهب إلى بيت لا سلطان فيه لأصحاب سدانة، ولا حق عنده لأحد في قربانه غير حق المساكين والمعوزين.
ويذهب إلى صلاة الجماعة فلا تتقيد صلاته الجامعة بمراسم كهانة أو إتاوة محراب، ويؤمه في هذه الصلاة الجامعة من هو أهل للإمامة بين الحاضرين باختيارهم لساعتهم إن لم يكن معروفا عندهم قبل ذلك.
إنه الدين الذي نتعلم منه أن الإنسان مخلوق مكلف.
لا جرم تقوم عباداته على رعاية حق الضمير المسئول واستقلاله بمشيئته أكرم رعاية.
ومرة أخرى نعود في ختام هذا الفصل عن العقائد فنسأل: أهذا هو الدين الذي يستبيح من يدري ما يقول أن يزعم أنه نسخة محرفة من دين قديم؟
الفصل الثاني
المعاملات
من العلماء المشتغلين بالمقارنة بين الأديان من يسلم لعقائد الدين سموها ونزاهتها، ولكنه مع هذا يعيب الدين نفسه بشرائعه وأحكام معاملاته؛ إما لأنه يرى أن الأديان ينبغي أن تكون مقصورة على العقائد والوصايا، ولا تتعرض للتشريع وأحكام المعاملة التي تصطدم بالحوادث العملية وتجري مع تقلبات الأحوال في البيئات المختلفة والأزمنة المتعاقبة على سنن شتى، ولا تخضع للنص الواحد في جميع أطوارها وملابساتها.
هذا، أو لأنه يعيب المعاملات لذاتها ويرى فيها نقصا يتجافى بها عن مبادئ العدل وأصول الآداب المرعية بين أمم الحضارة.
وقد تعمدنا - من أجل هذا - أن نتبع الكلام على العقائد الإسلامية بالكلام على المعاملات الإسلامية، وتحرينا في الكلام على هذه المعاملات أن نقصرها على أبواب المعاملة التي وردت فيها أشد الشبهات على الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر، من جانب علماء المقارنة بين الأديان، أو من جانب المبشرين العاملين على تحويل المسلمين في بلادهم من عقائدهم وأحكام دينهم، ونقدم بالقول - على التخصيص - تلك المعاملات التي قيل: إنها علة تأخر المسلمين وعجزهم عن الأخذ بأسباب الحضارة ومجاراة الأمم في ميادين الأعمال الاقتصادية والشرائع العملية. ونعني بها معاملات الشركات والمصارف ومعاملات الجزاء والعقاب في القوانين؛ فليس من غرضنا في هذا الكتاب أن نبسط القول في المعاملات بمعناها المعروف بين الفقهاء من معاملات البيوع أو معاملات الأحوال الشخصية، وما إليها من أبواب الأحكام التي لا ترد الشبهة عليها من خصوم الإسلام وممن يفترون الأباطيل عليه، وربما تناولنا بعض هذه الأبواب في موضعه من الكلام على الحقوق الاجتماعية، ولكننا لا نحسبها من مواطن الشبهة التي يقال من أجلها إنها قد حالت بين المسلمين فعلا وبين النهوض بأعباء الأعمال الاقتصادية وأعمال التشريع في العصر الحديث.
والذي نراه من مراجعة النقد الديني أن المنكرين لتعريض الأديان لشئون المعاملات مخطئون، لا يجشمون عقولهم مئونة الرجوع إلى نشأة الشرائع الدينية في أوقاتها ومناسباتها، وإلا لعرفوا أن هذه الشرائع لازمة للعاملين بها لزوم العقائد والوصايا الأخلاقية، وأن العقائد تصطدم بالواقع كما تصطدم به أحكام الشرائع؛ فلا معنى لاختصاص أحكام الشرائع وحدها بالنقد إذا كانت العقائد معها عرضة للامتحان مع تقلبات الأحوال وتجدد الطوارئ والضرورات.
والواجب في رأينا أن يكون النقد كله موجها إلى المعاملات لذاتها إذا كان فيها ما يجافي مبادئ العدل وأصول الأخلاق، ويحول دون مجاراة الآخذين بها لسنن التطور والتقدم وضرورات الحياة العلمية جيلا بعد جيل.
ولو أن النقاد الدينيين كلفوا أنفسهم أن يتتبعوا أسباب التشريع في الأديان الكتابية الكبرى لعلموا أنها قامت بقيام تلك الأديان في ظروف تحتم النظر في التشريع، كما تحتم النظر في الاعتقاد، ولعلموا أن أديان الحضارات الأولى التي استغنت عن وضع نصوص القوانين لم تكن لتستغني عنها لولا أنها نشأت في دول عريقة الحكومات والأحكام، ومن أعرق تلك الحضارات الأولى حضارة مصر وحضارة بابل وحضارة الهند وحضارة الصين؛ فهذه جميعا قد ظهرت فيها الكهانة مجاورة للدولة صاحبة القوانين والأحكام، ولم تخلص العقائد فيها مع ذلك من الامتزاج بالقوانين في مصادرها وأسانيدها يوم كان كل أمر مقدس واجب الطاعة مستمدا من الأوامر الإلهية، ولكن رسالة الدين هنا لم تكن منعزلة عن رسالة الدولة في عقائدها ولا في شرائعها، فلما قامت رسالة الأنبياء من دعاة الأديان الكتابية قامت بمعزل عن الدولة، بل قامت ثائرة على الدول من حولها، فوجب لها مع العقائد تشريع يتناول أحوال المعاش وأحكام المعاملات.
ويصدق هذا القول على الأديان الكتابية الثلاثة بغير استثناء للمسيحية التي يخطر لبعضهم أنها تعمدت أن تقصر الدين على العقائد والوصايا دون القوانين والمعاملات.
فالواقع أن السيد المسيح قد جاء مؤيدا لشرائع العهد القديم، ولم يجئ مبطلا لها أو معطلا لأحكامها؛ جاء متمما للناموس ولم يجئ هادما للناموس، وكان العالم من حوله مكتظا بالشرائع الدينية والشرائع الدنيوية: للهيكل شرائعه، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، وللدولة شرائعها، من أراد أن يتبعها ويعمل بها فذلك إليه، ومن هنا استطاع المسيح أن يقول للذين تعمدوا أن يحرجوه في مسألة الضرائب: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.» فلم يجد من لوازم رسالته أن يثور على شرائع الدولة ولا على شرائع الدين. ولما جاءه المكابرون من اليهود بالمرأة الزانية ليأمر برجمها ويصطدم من ثم بسلطان الهيكل، رد عليهم كيدهم بإحراجهم كما أحرجوه، فقال لهم: «من لم يخطئ منكم فليرمها أولا بحجر.» فلم يقل إن حكم الرجم باطل، ولم يأمر به فيقيم الحجة عليه لأصحاب السلطان في هيكل العبادة والشريعة ، وكانت ثورته في لبابها ثورة على الرياء في دعوى الأمناء على الشريعة الدينية، ولم تكن ثورة على الأحكام والنصوص كما وردت في كتب العهد القديم. •••
أما الديانة الكتابية الأولى، فمهما يكن الرأي في نصوص شرائعها اليوم، فقد كان التشريع فيها يوم الدعوة إليها لازما كلزوم الدعوة إلى العقيدة أو الوصايا الأخلاقية: كان موسى عليه السلام يقود شعبا بغير دولة إلى أرض يقيمون فيها حكما غير الحكم الذي خضعوا له في موطنهم الذي تركوه من أرض الدولة المصرية، فلم تكن رسالته رسالة عقيدة وحسب، ولم يكن قيام العقيدة ميسورا بغير قيام القانون.
وكل نقد يوجه إلى أحكام المعاملات يمكن أن يوجه مثله إلى العقائد والوصايا؛ لأن التحجر وسوء الفهم غير مقصورين على الأعمال والتطبيقات، أو سبيلهما إلى العقائد النظرية أيسر من سبيلهما إلى الوقائع العملية؛ إذ كانت الوقائع العملية مما يضطر المخطئ إلى الشعور بخطئه، وليس في العقائد النظرية ما يضطر المعتقد إلى الشعور بالخطأ من أول وهلة، إلا إذا تغير شعوره وتغير وجدانه فارتفع بنفسه وبأحوال معيشته من الخطأ إلى الصواب.
ولمن شاء أن يشير إلى المعاملات في كتب الشرائع السماوية كما يشاء، ولكنه يحيد عن جادة الإنصاف إذا اختص الشريعة الإسلامية بنقده كأنها الشريعة الكتابية الوحيدة التي تعرضت للمعاملات؛ فإن الشريعة المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - قد تناولت من أمور المعيشة ما هو اليوم من شئون الأطباء، وتناولت من تشريع الجزاء والعقاب أحكاما لا يقرها اليوم أحد من المؤمنين بها، وإن كان من المؤمنين بإيحاء الشريعة من الله إلى كليم الله.
فمن الشئون التي كان يتولاها الكاهن تمحيص أعراض العلل والأدواء وعزل المصابين بها وإعلان نجاستهم على الملأ؛ لاعتقادهم أن المرض الخبيث المعدي نجاسة منافية للطهارة الدينية أو ضربة من الضربات الإلهية، ويشرح كتاب اللاويين في الإصحاح الثالث عشر منه مثلا من ذلك فيقول في بيان المعاملة الواجبة للمصابين بالبرص:
إذا كان إنسان قد ذهب شعر رأسه فهو أقرع. إنه طاهر. وإن ذهب شعر رأسه من جبهة وجهه فهو أصلع. إنه طاهر. لكن إذا كان في القرعة أو الصلعة ضربة بيضاء ضاربة إلى الحمرة فهو برص مفرخ في قرعته أو في صلعته كمنظر البرص في جلد الجسد، فهو إنسان أبرص. إنه نجس. فيحكم الكاهن بنجاسته. إن ضربته في رأسه. والأبرص الذي فيه الضربة تكون ثيابه مشقوقة ورأسه يكون مشقوقا، ويغطي شاربيه وينادي: نجس، نجس! كل الأيام التي تكون الضربة فيها يكون نجسا. إنه نجس يكون وحده خارج المحلة ...
وكان الكاهن يتولى من شئون الطعام والشراب ما هو ألصق بالمعيشة اليومية من شئون الطب ومعاملة المصابين بالعلل والسقام؛ فالكاهن هو الذي يزكي الطعام المباح ويستولي على نصيب المعبد منه، وإليه المرجع في التمييز بين الأطعمة المطهرة والأطعمة النجسة من لحوم الحيوان.
وتناولت الشريعة معاملات الجزاء والعقاب في الجرائم التي تقع من الناس، وفي الإصابات التي تقع من الحيوان ويجزى بها الحيوان كما يجزى بها صاحبه في بعض الأحيان. ومن أمثلة ذلك عقاب الثور الذي ينطح إنسانا كما جاء في الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج:
إنه إذا نطح ثور رجلا فمات يرجم الثور ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئا، ولكن إذا كان ثورا نطاحا وقد أشهد على صاحبه ولم يضبطه فقتل رجلا أو امرأة، فالثور يرجم وصاحبه أيضا يقتل ...
وتقرر الشريعة كيف تكتب على الألواح وكيف تكون الألواح التي تكتب عليها كما جاء في سفر الخروج، بل تقرر ملابس الهيكل وأنواع الأنسجة التي تخاط منها ثياب الكهان والخدم بأمر من الله لموسى تكرر ذكره في الكتب الخمسة المنسوبة إليه.
هذه الأوامر المفصلة في معاملات المعيشة ومعاملات الجزاء والعقاب مستغربة على السواء في رأي الناظرين إليها من وجهة نظر غير وجهة المتدينين المتشبثين بها إلى اليوم، ولكننا - بعد الإلمام بها - نعود فنكرر أنها لا تسوغ القول بقصر الدين على العقائد والوصايا دون الشرائع والمعاملات؛ فإن الخطأ يعتري العقيدة كما يعتري الشريعة، ومرجع الأمر إذن إلى الصلاح والفساد لا إلى العمل أو الاعتقاد ، وما كانت عقائد بني إسرائيل بأثبت على الزمن من معاملاتهم وشرائعهم التي تداولوها بعد عصر موسى الكليم، ولعل حاجتهم إلى معاملات تشبه تلك المعاملات في الجملة كانت أشد من حاجتهم إلى عقائدهم كما تداولوها بعد عهودهم المهجورة.
وكل ما يجوز لنا أن نستخلصه من دراسة الشريعة المنسوبة إلى موسى أن بني إسرائيل لم تكن لهم رسالة عالمية إنسانية، وأنهم وقد وافقتهم عقائدهم ومعاملاتهم في عزلتهم بين أبناء الحضارات الأولى، فلما انتهت رسالتهم المحدودة بما يوافقهم تفرقوا بين الأمم من غير دولة ولا سيادة على أحد، فلم يقم لهم سلطان يتولى فرض عقائدهم ومعاملاتهم على الأمم ولا على أنفسهم، وانقضى دورهم التاريخي في أمر العقائد وأمر المعاملات.
وكذلك تتفق النظرتان إلى هذا التاريخ المشحون بدلالاته ومغازيه: نظرة المؤمن بحكمة الغيب العجيبة في تسيير مقادير الشعوب، ونظرة المؤمن بعبرة التاريخ دون سواه.
وعلى هذه السنة من المساواة بين حق الدين في نشر العقائد وحقه في فرض الشرائع والمعاملات، ننظر إلى معاملات الدين الإسلامي كما ننظر إلى عقائده، فلا نرى فيها ما يعوقه عن أداء رسالته العالمية الإنسانية التي توافرت له بدعوته إلى إله واحد هو رب العالمين أجمعين، وخالق الأمم بلا تمييز بينها في الحظوة عنده غير ميزة التقوى والصلاح: رب المشرقين والمغربين يصلي له المرء حيث شاء، وأينما تكونوا فثم وجه الله.
فما منع الإسلام قط معاملة بين الناس تنفعهم وتخلو من الضرر بهم والغبن على فريق منهم، وأساس التحريم كله في الإسلام أن يكون في العمل المحرم ضرر، أو إجحاف، أو حطة في العقل والخلق، ما فرض الإسلام من جزاء قط إلا وهو «حدود» بشروطها وقيودها، صالحة على موجب تلك الشروط والقيود للزمان الذي شرعت فيه، ولكل زمان يأتي من بعده؛ لأنها لا تجمد ولا تتحجر ولا تتحرى شيئا غير مصلحة الفرد والجماعة، وكفى باسم «الحدود» تنبيها إلى حقائق الجزاء والعقاب في الإسلام؛ فإنها «حدود» بينة واضحة تقوم حيث قامت أركانها ومقاصدها وتحققت حكمتها وموجباتها، وإلا فهي حدود لا يقربها حاكم ولا محكوم إلا حاقت به لعنة الله.
والشبهة المتوافرة في العصر الحاضر إنما ترد على المعاملات الإسلامية من قبل الناقدين والمبشرين؛ لأنها تمس ضرورات المعيشة المتجددة في كل يوم، وترصد للمسلم في طريقه حيث سار وأينما اضطربت به صروف الرزق والكسب ومرافق العمل والتدبير، ويتحرى الناقد الموطن الحساس من نفس المسلم حين يلقي في روعه أن شيئا في دينه يغل يديه عن العمل في عصر المصارف والشركات، وأن شيئا في دينه يتقهقر به إلى الوراء، ولا يصلح للتطبيق في عصر النظم الحكومية التي تجري القضاء والجزاء على أصول العلم والتهذيب.
وليس في المصارف والشركات شيء نافع بريء من الضرر والغبن يحرمه الإسلام.
وليس في أصول العلم والتهذيب شيء يناقض حدود الجزاء في شريعة الإسلام.
تتلخص شبهة المعاملات الاقتصادية في مسألة واحدة هي مسألة الربا الذي يقول الناقدون إنه قوام المصارف والشركات. •••
وتتلخص شبهة القضاء والجزاء في حدود السرقة والزنا والخمر، والمقارنة بين عقوباتها في الإسلام وعقوباتها في الشرائع الموضوعة التي تسمى بالشرائع العصرية.
ولا ينسى القارئ المسلم - قبل أن يضع نفسه موضع المتهم المطالب بالدفاع عن دينه - أن الناقدين والمبشرين يغالطونه ويغالطون أنفسهم حين يختصون الإسلام بالنقد في مسألة الربا - على التخصيص - فإن الربا محرم أشد التحريم في اليهودية والمسيحية من شرائع العهد القديم إلى شرائع الكنيسة في القرون الوسطى، إلى شرائع اللوثريين وأتباعهم بعد عصر الإصلاح، وقد كان تحريم الربا في اليهودية والمسيحية عاما مجملا بغير بيان للفارق بينه وبين المعاملات المحللة من صفقات البيوع والمبادلات، وأما في الإسلام فما من تحريم قط ورد فيه إلا وهو مشفوع بحدود تقيم الفاصل بينه وبين الكسب الحلال.
حرم الربا تحريما باتا في الكتب المنسوبة إلى موسى عليه السلام؛ فجاء في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج:
إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي.
وفيه بعد ذلك:
إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده إليه؛ لأنه وحده غطاؤه، هو ثوب لجلده، في ماذا ينام!
وجاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التثنية:
لا تقرض أخاك ربا، ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا ...
وسرى هذا التحريم إلى عهد النبي حزقيال والنبي نحميا، فقال النبي نحميا في الإصحاح الخامس من كتابه:
أني بكت العظماء والولاة وقلت لهم إنكم تأخذون الربا كل واحد من أخيه ...
والمقصود بإشارة نحميا أن الربا المحرم إنما هو الربا الذي يأخذه الإسرائيلي من أخيه؛ لأن الربا المأخوذ من أبناء الأمم الأخرى مباح كيف كان، والإصحاح الثالث والعشرون من سفر التثنية المنسوب إلى موسى عليه السلام صريح في إباحة أخذ الربا من الأجنبي؛ حيث يقول مخاطبا شعب إسرائيل:
للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا لكي يباركك الرب إلهك في كل ما تمتد إليه يدك ...
فليس هذا تحريما إنسانيا منبعثا من شعور بالرحمة والعدل في المعاملة، ولكنه تحريم عصبية يبيح من القسوة على أبناء الأمم الإنسانية كافة ما يحرمه في معاملة الإسرائيلي لأخيه.
وقد سرى تحريم الربا في شعب إسرائيل دون غيره إلى ما بعد قيام المسيحية وإعلانها الدعوة إلى جميع الأمم؛ لأنهم أبناء إبراهيم بالروح ... فحرمت الربا في غير شعب إسرائيل، ولم تقيد تحريمه بقوم من المؤمنين دون آخرين.
ثم سرى تحريم الربا من أوائل عهد المسيحية إلى قيام حركة الإصلاح وانشقاق الكنائس عن كنيسة روما البابوية؛ فاتفقت الكنائس جميعا على تحريم الربا، واشتد «لوثر» في هذا التحريم حتى وضع رسالة عن التجارة والربا حرم فيها كثيرا من البيوع الربوية، كالبيع المعروف في الفقه الإسلامي باسم بيع «النجش»، أو المعروف باسم بيع السلم، والنجش هو التواطؤ على رفع السعر لإكراه الآخرين على قبول الشراء بزيادة على سعر السوق، والسلم هو بيع الآجل بالعاجل زيادة في سعر المبيع.
قال لوثر في شرح أنواع الربا التي تروج باسم التجارة ما نلخصه فيما يلي:
إن هناك أناسا لا تبالي ضمائرهم أن يبيعوا بضائعهم بالنسيئة في مقابل أثمان غالية تزيد على أثمانها التي تباع بها نقدا، بل هناك أناس لا يحبون أن يبيعوا شيئا بالنقد ويؤثرون أن يبيعوا سلعهم جميعا على النسيئة ...
ثم قال:
إن هذا التصرف مخالف لأوامر الله مخالفته للعقل والصواب، ومثله في مخالفة الأوامر الإلهية والأوامر العقلية أن يرفع البائع السعر لعلمه بقلة البضاعة المعروضة أو لاحتكاره القليل الموجود من هذه البضاعة، ومثل ذلك وذاك أن يعمد التاجر إلى شراء البضاعة كلها ليحتكر بيعها ويتحكم في رفع أسعارها.
وبادر لوثر على إثر ذلك إلى دفع الاعتراض الذي قد يعترض به من يحتج بتصرف يوسف - عليه السلام - قبل أعوام المجاعة، فقال: «إنه إذا شاء أحد أن يحتج بسلوك يوسف كما ورد في سفر التكوين حين جمع كل الحبوب التي كانت في البلاد، ثم اشترى بها في وقت المجاعة لملك مصر كل ما فيها من أموال وماشية وأرض مما يبدو حقا كأنه احتكار؛ فالجواب على ذلك أن صفقة يوسف هذه لم تكن احتكارا، بل مبايعة شريفة كما جرت عادة البلاد، فإنه لم يمنع أحدا أن يشتري خلال سنوات الرخاء، وإنما كان عمله من وحي الحكمة التي يسرت له أن يجمع حبوب الملك في سنوات الرخاء، بينما كان الآخرون يخزنون منها القليل أو الكثير.»
قال لوثر: إنه من التصرفات التي تدخل في باب المراباة ولا تدخل في باب التجارة أن يعمد أحدهم إلى الاحتكار من طريق المغالاة، فيبيع ما عنده بالسعر الرخيص ليكره غيره على البيع بهذا السعر، فيحل بهم الخراب.
وقال: إنه من قبيل الغش والاحتيال أن يبيع أحد ما ليس في يده؛ لأنه يعلم موضع شرائه فيستطيع أن يعرض على مالكه ثمنا دون الثمن الذي يفرضه على طالب الشراء.
وعد «لوثر» من الربح المحرم أن يتآمر التجار الكبار في أوقات الحروب على إشاعة الأكاذيب لدفع الناس إلى بيع ما عندهم واحتكاره بين أيديهم، ثم تقدير أثمانه على هواهم، وقال: إن بعض الممالك الأوروبية - كالمملكة الإنجليزية - تعقد في عاصمتها مجلسا يراقب الأسواق ويدبر الوسائل لاحتجاز السلع المرغوب فيها لاحتكارها ومقاسمة الدولة في أرباحها.
وقال: إنه من الحيل المعهودة لترويج الربا باسم التجارة أن تباع السلعة إلى أجل ، ويعلم البائع أن شاريها لا بد أن يبيعها في هذا الأجل بأقل من ثمنها ليسدد ما عليه من الدين، ويشتريها بالثمن الذي يضطره إليه.
قال: وهناك تصرف آخر مألوف بين الشركات، وهو أن يودع أحد مبلغا عند تاجر: ألف قطعة من الذهب أو ألفين، على أن يؤدي له التاجر مائة أو مائتين كل سنة سواء ربح أو خسر ... ويسوغ هذه الصفقة بأنها تصرف ينفع التاجر لأنه بغير هذا القرض يظل معطلا بغير عمل، وينفع صاحب المال لأنه بغير هذا القرض يبقى ماله معطلا بغير فائدة.
ومما أخرجه «لوثر» من أبواب التجارة المشروعة وألحقه بالربا المحرم أن يخزن البائع غلاله في الأماكن الرطبة ليزيد في وزنها، وأن يزوق السلعة ليغري الشاري ببذل الثمن الذي يربي على ثمنها، وأن يتخذ من وسائل الاحتكار أو الإغراء ما يمكنه من جمع الثروة الضخمة؛ لأنه - أي لوثر - يقرر في رسالته أن التجارة المحللة لم تكن قط وسيلة لجمع الثروات الضخام، وأنه إذا وجدت ثروة ضخمة فلا بد هنالك من وسيلة غير مشروعة.
ولعل «لوثر» قد بلغ في تحريم البيوع المربية وإلحاقها بالربا الممنوع أو الملعون ما لم يبلغه أحد قبله ولا بعده من رؤساء الدين المسيحي في العصور المتأخرة، ومما لا ريب فيه أن الحالة النفسية التي تساور المصلح الاجتماعي أو الواعظ الديني باعث قوي على التشدد في حظر المحرمات وذرائعها، واتقاء الشبه التي توقع الأبرياء في حبائلها، وهذه الحالة النفسية قد كانت على أشدها في القارة الأوروبية بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر في إبان الدعوة إلى حركة الإصلاح، فقد كان «لوثر» يرجو أن يعمل الملوك والأمراء ورؤساء الدين على كف أذى المرابين والمغالين بالبيع والشراء، فخاب أمله فيهم أجمعين، وثبت له من معرفته بهم ومن إشاعات الناس عنهم أنهم يشجعون الربا والمغالاة بالأرباح لمقاسمة أربابها وابتزاز القروض والإتاوات منهم، وتسخيرهم في محاربة بعضهم بحبس البضائع واحتكار الأسواق. وقد دفعته هذه الحالة النفسية إلى ضروب من التحريم لو أخذت بها أوروبا الاستعمارية بعده لما قامت لها قائمة، ولا جمعت ثرواتها الضخام التي قال بحق: إنها لا تجمع من تجارة بريئة ولا من ربح حلال.
ونحن إنما نشير إلى الحالة النفسية التي دفعت لوثر إلى التشدد في حظر المحرمات وذرائعها لكي نلم بالحالة النفسية التي تلقى بها المسلمون زحف المصارف والشركات الأوروبية على بلادهم وسيطرتها على حكوماتهم وشعوبهم، فما بلغ من ضرر المرابين بالشعوب الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أن يفقدهم كرامة أوطانهم، وأن يذل رءوسهم ونفوسهم كما فعلت المصارف والشركات الأجنبية بالشعوب الإسلامية منذ أغارت عليها مؤيدة بجيوش الدول من ورائها. فهذه المصارف والشركات هي التي مهدت للامتيازات الأجنبية سبلها، وهي التي نصبت شباك الديون لتسويغ الغزو والاحتلال باسم المحافظة على الحقوق وضمان سدادها، وهي التي تذرع بها الساسة لخنق النهضات الوطنية في إبانها وإثقالها بالقيود والأعباء التي تعجزها عن مجاراة الغرب في صناعته وتجارته، وتكفل للاستعمار أن ينشب أظفاره أبدا في أبدانها.
فإذا حق للمصلح الكبير «لوثر» أن يتشاءم من المصارف والشركات وأن يحتسب ثرواتها الضخام في عداد السرقات الملعونة، وهي لا تجني على استقلال الأمم ولا تذلها للواغلين عليها، فخليق بالمسلمين - ولا ريب - أن يتشاءموا من تلك المصارف والشركات مرات، وأن يستريبوا بها ولا يروا فيها لأول وهلة ما يغريهم بالتشبه بها والتسابق بينهم على منهاجها؛ فهي بلاء تعوذوا منه وأجفلوا من قدوته، ولهم العذر كل العذر إذا أغرقوا في الخوف منها حتى أوجسوا خيفة من خيرها الذي لم يعرفوه؛ لأنهم عرفوا شرها ولم يسلموا من بلائه أعواما طوالا قد طالت بحساب المصائب بأضعاف ما طالت بحساب الأيام. •••
على أن الإسلام نفسه قد ظهر في إبان حالة نفسية تشبه الحالة التي أصابت الغرب بين القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر، وتشبه الحالة التي أصابت المسلمين على أيدي المستغلين والمستعمرين. وقد كان ما حرمه الإسلام من الربا وذرائعه بلاء كهذا البلاء الذي شقيت به شعوب الغرب وشقيت به الشعوب الشرقية والإسلامية؛ فقد كان الربا الذي وجده في الجاهلية فنهى عنه وحرمه حقيقا بالتحريم في كل شرع وكل مكان، ومن اطلع على وصفه كما كان يوم حكم الإسلام بتحريمه لم يستطع أن يقول فيه قولين، ولا أن يجعل للشرائع موقفا منه غير موقف التحريم الشديد بغير هوادة تبيح للمحتال أن يتسلل إليه بذرائعه ودواعيه.
فسر الإمام الطبري قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 130).
فقال في أسباب نزول الآية: «إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول له: تقضيني أو تزيدني. فإن كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في السنة الثانية ثم حقة ثم جذعة ثم رباعيا ثم هكذا إلى فوق. وفي العين يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه ...» •••
كان هذا هو الربا الذي تعاطاه الجاهليون وتعاطاه معهم أهل الكتاب من بلاد يثرب، وكانت الآيات المتقدمة أولى الآيات التي نزلت بالنهي عنه وتحريمه، فمنعه الإسلام كما يمنعه اليوم كل قانون معمول به في بلاد المصارف والشركات وكل ما استحدثه من ضروب المعاملات التي تسمى بالمعاملات العصرية، وما من قانون ينتظم عليه أمر الجماعة لا يحرم هذه المعاملة المنكرة ولا يشدد العقاب عليها.
وكان آخر ما نزل من القرآن الكريم آيات في تحريم الربا نزلت قبل وفاة النبي - عليه السلام - بأقل من ثلاثة أشهر، وهي من قوله تعالى في سورة البقرة:
الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون * واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (البقرة: 275-281).
ولا خلاف بين المسلمين على موضوع الربا الذي وردت فيه جميع هذه الآيات؛ فهو ربا الجاهلية المعروف بربا النسيئة، وأحاديث النبي - عليه السلام - في ذلك وأقوال المفسرين لا موضع فيها لخلاف.
ففي الصحيحين أن النبي - عليه السلام - قال: «إنما الربا في النسيئة.»
وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا يشك فيه فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل.
روى الإمام ابن القيم ذلك في إعلام الموقعين: وقسم الربا إلى نوعين: جلي، وخفي، فتحريم الأول قصدا وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، كلما أخره زاد في المال حتى يصير المائة عنده آلافا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج ... وأما الربا الخفي فهو ذريعة للربا الجلي، وهو ما استحدث بعد الجاهلية من بيع الجنس بالجنس على غير سواء؛ فيباع الدرهم بدرهم وزيادة وتباع الكيلة بكيلة وزيادة، من غير مطالب أو تأخير اجتنابا للحكم القاطع في ربا النسيئة، ويسمى هذا الربا بربا الفضل لزيادة أحد المبيعين على الآخر، ويقول ابن القيم إنه من البيع الذي يتخذ ذريعة للربا الممنوع، فهو حرام حيث يكون ذريعة للحرام، ولا اتفاق على القطع بتحريمه لاختلاف بعض الصحابة فيه كعبد الله بن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير، وما يحرم سدا للذرائع يباح للمصالح كما قال الإمام ابن القيم في الجزء الأول من إعلام الموقعين.
1
والحكم الفصل في هذا البيع الذي كانوا يتخذونه ذريعة للربا قول النبي - عليه السلام: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدا بيد.»
وواضح من هذا الحكم أنه يحرم الربا الذي ستروه باسم البيع والشراء، فما يكون لأحد أن يشتري صنفا بصنف مثله على غير سواء إلا أن يكون سفيها أو مضطرا ... والسفه والاضطرار كلاهما مبطل للبيع المشروع، فإذا اختلف الصنفان قيمة فلا حرج في المبايعة؛ لأنهما يختلفان بالمقايضة، فلا وجه للتحريم هنا ولا التباس بين البيع المحلل والربا الممنوع. •••
وبالمقارنة بين الأديان الكتابية بعد تلخيص الحكم الإسلامي في مسألة الربا، نعلم أن الناقدين لا حجة لهم في اختصاص الإسلام بالنقد لما يزعمونه من تعويقه أعمال الحضارة بتحريمه هذه المعاملات؛ لأنه لم ينفرد بتحريم الربا بين هذه الأديان، حتى ما كان من قبيل البيوع التي تدس الربا وراء ستار من البيع والشراء؛ فهذه أيضا قد حرمتها المسيحية على ما تقدم في رسالة «لوثر» التي أخذت بها جميع المذاهب من مذهب الكنيسة البروتستانتية!
وبغير حاجة إلى المقارنة بين الأديان الكتابية نعلم أن هؤلاء الناقدين لا حجة لهم أصلا على الإسلام فيما حرمه من ربا النسيئة أو ربا الفضل بأنواعه، كما حرم الإسلام من هذه المعاملات كل تصرف فيه ظلم واضطرار وأكل للحقوق بالباطل وابتزاز للأموال في غير عمل ولا طائل؛ وازدهار الحضارة مرهون بإلغاء كل تصرف من هذا القبيل، غير مرهون على زعمهم بحمايته والإغضاء عنه وعن ذرائعه. وفي وسع المصارف والشركات أن تتجنبه وتمضي في عملها حيث كانت في البلاد الإسلامية؛ فليس في الإسلام نص ولا تأويل يحرم التصرف النافع الذي لا اضطرار فيه ولا اغتصاب للحقوق، وما كان من قبيل الاضطرار والاغتصاب في أعمال المصارف والشركات فقد حرمته القوانين الوضعية بما اشترعته من قيود الرقابة وحدود الربح والفائدة؛ فما استطاعت حكومة من الحكومات المتحضرة أن تقف مكتوفة اليدين لتطلق أيدي المرابين في تثمير الديون بغير ثمرة للمدين، وبغير ربح غير ربح الدائن المتحكم في فرائس الضنك والاضطرار.
ولا نحب أن ندع هذا الموضوع قبل الإلماع في هذه العجالة إلى مذاهب الفلاسفة والعلماء في الربا بعد الإلماع إلى مذاهب الأديان فيه.
فمن أقدم البحوث الفلسفية عن الربا بحث المعلم الأول أرسطو - في كتابه عن السياسة - ومذهبه فيه أنه ربح مصطنع لا يدخل في باب التجارة المشروعة، وعنده أن المعاملة على أنوع ثلاثة: معاملة طبيعية، وهي استبدال حاجة من حاجات المعيشة بحاجة أخرى كاستبدال الثوب بالطعام، ومعاملة صناعية وهي استبدال النقد بحاجة من حاجات المعيشة وهي التجارة التي لا حرج فيها، ومعاملة مصطنعة ملفقة وهي اتخاذ النقد نفسه سلعة تباع، فإنما حق النقد أن يكون وسيلة للمبايعة ومعيارا تعرف به أسعار السلع المختلفة، وأما اتخاذه سلعة تباع وتشترى فهو خروج به من غرضه وابتذال للتجارة في غير مصلحتها.
واعتمد الحبر الفيلسوف توما الأكويني - حجة المسيحية في القرون الوسطى - رأي أرسطو هذا في النقد، فأوجب به تحريم الربا من الوجهة الفلسفية، وأخرج من تعريف الربا كل تصرف لا يحدث فيه تبادل النقد فعلا، وإنما يؤخر فيه إعطاء النقد لسداد ريع أو أجرة أو ثمن بضاعة ... وعقب توما الأكويني أتباع نظروا في تعريف الربا من الوجهة الفلسفية العلمية فلم يجعلوا منه ما هو بمثابة تعويض الدائن عن فوات ربح كان في وسعه
Lucrum Cessans ، أو تعويضه عن خسارة أصابته من جراء دينه
Damum Emergens ، أو عن خسارة أصابته من جراء المماطلة في الوفاء بحقه في موعد السداد المحدود.
ودرج الفلاسفة على اعتماد رأي أرسطو وتوما الأكويني في النقد إلى فاتحة عصر الفلسفة الحديثة، فقال دافيد هيوم
Hume
في كتاب المحاضرات السياسية الذي طبع سنة 1752: «إن النقد ليس مادة ولكنه أداتها ... وإنه ليس دولابا من دواليب التجارة ولكنه الزيت الذي يلين مدارها .»
وبدأت فلسفة الاقتصاد الحديث بدراسات «أبي الاقتصاد » آدم سميث
Adam Smith (1723-1790)، وهو معاصر للفيلسوف دافيد هيوم، ورأيه في ريع الأرض أنه إذا تكاثر في حساب الثروة العامة كان من قبيل الكسب بغير عمل، وهو لا يمنع الربح من الديون، ولكنه يحده ويستحسن الإقلال من قيمته، وعلى هذا الرأي درج الاقتصاديون المحدثون إلى عهد المذهب الاقتصادي الجديد الذي هدم كثيرا أو بدل كثيرا من آراء الاقتصاديين السلفيين، ولكنه حافظ على رأيهم في استحسان الإقلال من ربح الديون، وزعم أن القليل منه يشجع المقترضين على الانتفاع بالأموال المدخرة، ولا يرهقهم بأعباء السداد أو يحرمهم ثمرة العمل الذي يجتذبون الأموال المدخرة إلى أسواقه، بدلا من تعطيلها في خزائن الشركات وودائع الصناديق. •••
وتعتبر قضية الربا في القرن العشرين من القضايا المؤجلة أو المعلقة، إلى حين؛ لأن الانقلابات التي تجمعت من حوادث هذا القرن قد نقلت القضية من البحث في الثمرة إلى البحث في جذور الشجرة من أصولها: كانوا يسألون من قبل عن ثمرات الأموال المحللة أو المحرمة ولمن تكون، فأصبحوا اليوم يسألون عن الأموال من مصادرها إلى مواردها لمن تكون كلها، ومن هو صاحب الحق الأول في ثمراتها!
فالاقتصاديون الماديون ينكرون ملك رءوس الأموال أصلا، ويرفضون السماح للفرد بملك شيء يمكن أن يسمى مالا أو رأس مال، ولا معيار عندهم لحق الفرد في أجور العمل إلا ما تفرضه له الجماعة من نفقة على قدر الحاجة إليها، ولا موضع للكلام عن الأرباح المحللة أو المحرمة حيث لا يكون رأس مال ولا يكون أصل معترف به تتفرع عليه الفواضل من المكاسب والأجور.
وغير الاقتصاديين الماديين يعترفون للفرد بحق الملك وحق حيازة الأموال، ولكنهم ينتقلون في توزيع المرافق الكبرى شيئا فشيئا إلى الملكية العامة أو الملكية على المشاع باسم التأميم أو الاستيلاء ووضع خطط التعمير.
والمذهبان معا يتفقان على ضرورة الحد من الثروات الكبيرة بعد استيفاء جميع الضرائب والرسوم، فإذا بقيت لصاحب المال حصة من الربح تزيد على مقدار معلوم أخذتها الدولة باسم الأمة، وفاقا لمبدأ من مبادئ التشريع مصطلح عليه بين أمم الحضارة التي تكثر فيها الثروات الضخام، وتكثر فيها النفقات العامة للتعمير والمعونة أو للحيطة والدفاع. •••
ونحن لا نريد أن نقارن هنا بين الإسلام والديانات الكتابية في قضية الربا بأنواعه، ولكننا نريد أن نقارن بينه وبين المذاهب الاقتصادية التي يظن أصحابها أنهم يحيطون بحكمة التشريع عامة في جميع العصور؛ لأنهم حسبوا أن فترة من فترات الزمن تستوعب هذه الحكمة وتفرغ منها على نحو لا يقبل المراجعة والتعديل، فإذا خيل إليهم في وقت من الأوقات أن الحضارة مرهونة بنظام معلوم في المصارف والشركات، خطر لهم أن يفرضوا هذا النظام بعجره وبجره على الماضي والحاضر والمستقبل في المشرق والمغرب وبين جميع الملل والأقوام، وطلبوا إلى أصحاب العقائد أن ينسخوها، وإلى أصحاب الشرائع أن ينقضوها، وإلى أصحاب المبادئ الخلقية والفكرية أن يقتلعوها من جذورها، واجترءوا على من يناقضهم وينظر إلى ما فوق أنوفهم فاتهموه بالجمود والنكسة، وألقوا عليه تبعة الفساد والرجعة بالعقول إلى الوراء.
وها هي ذي قواعد الحضارة التي يتعللون بها تتطلب اليوم من نظم الاقتصاد ما لم تكن تتطلبه قبل خمسين سنة، وسوف تتطلب بعد خمسين سنة ما لم تتطلبه اليوم، فما هو الميزان العادل الذي تصح فيه الموازنة بين المذاهب وبين الدين؟ هل نبيح لهذه المذاهب المتقلبة أن تفرض سلطانها على الدين الذي لا مزية له إن لم تركن منه ضمائر الأمم إلى قرار مكين ثابت على تقلب الزعازع والأحوال؟ هل ننتظر من الدين أن يعرقل هذه المذاهب ويأخذ الصواب منها بذنب الخطأ، فيحرم الصواب والخطأ على السواء؟
لا هذا ولا ذاك.
بل يمضي كل مذهب إلى مداه المقدور، ويتسع الدين لأحداث الزمن فلا يتصدى لها في مجراها ولا يمنعها أن تذهب إلى مداها، وأن تضطرب اضطرابها لمستقر لها تمحصه الأيام:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد: 17).
وتلك هي مزية الإسلام بين المذاهب والأديان؛ لا يقف في طريق رأي صالح، ولا يحول بينه وبين التجارب تنبذ منه لا سبيل إلى قبوله وتبقي منه ما هو صالح للبقاء.
وتلك الزعازع التي تمخضت عن حوادث القرن العشرين ينظر إليها الإسلام وهو ثابت على قراره المكين؛ فلا يمنع صالحا منها أن يثبت صلاحه، ولا يدع لفاسد منها أن يطغى بفساده طغيانا لا رجعة فيه.
إنه لا يمنع الملكية العامة، بل يأمر بها في مرافق الجماعة، ولا يبيح لأحد أن يملك موارد الماء والنار والكلأ، كما جاء في الحديث الشريف،
2
ومن فقهائه في مذهب الظاهرية من يشترط العمل لاستحقاق الكسب حتى في تأجير الأرض وزراعة الشجر وجني الثمرات.
ولا يبطل الإسلام ملكية الآحاد، ولكنه يخول الجماعة أن تحتسب لها نصيبا منها يقدره الإمام بتفويض من الأمة، وتزيد حصة الجماعة كيف زادت فلا ينكر الإسلام هذه الزيادة؛ لأنه يحرم كنز الذهب والفضة ويأمر بتوزيع الثروة بين الناس
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر: 7).
وقوام الأمر كله فيما يبيح ويمنع مرجع واحد ثابت على الزمن ثبوت الجماعة البشرية، وهو المصلحة العليا التي تتقدم فيها مصلحة الكثير على مصلحة القليل، ويتقدم فيها حساب الزمن الطويل على حساب الزمن القصير.
ولتكن المصلحة ملكا أو ربحا أو تجارة أو مرفقا تتداوله الأيدي باسم من الأسماء حينا بعد حين، فما كان فيه ظلم وإكراه وأكل للأموال بالباطل فهو حرام، وما برئ من هذه الآفات جميعا فهو حلال لا يمنعه أحد، ومن منعه من رعية أو إمام فهو المخالف لعقيدة الإسلام. •••
ويقال عن حدود الجزاء إجمالا ما يقال عن الربا بأنواعه، فلا حجة لمن يختص الإسلام بالنقد في مسائل الحدود؛ لأنه لم يفرض على جريمة من الجرائم عقابا أقسى مما فرضته الأديان الكتابية قبله، وما فرضته الشرائع الموضوعة في أوانه.
ولا حجة لمن ينقد العقوبات؛ لأنه يقارن بينها وبين عقوبات العصر الحديث، فإن الحدود في الإسلام بينة لا تناقض مصلحة الجماعة في زمن من الأزمان.
ولقد كانت الشريعة الإسلامية ضرورة لا محيد عنها في إبان الدعوة الإسلامية؛ فلم يكن من الميسور ولا من المعقول أن تلبث الأمة الإسلامية حقبة من الزمن على شريعة الجاهلية، أو تمضي في حياتها العامة مهلا بغير شريعة يدين بها الحاكم والمحكوم، ونزلت شريعتها في حينها على مثال لا تفضله شريعة عاصرتها في جملتها ولا في تفصيلها، وتعاقبت بعدها العصور وما في عارض من عوارضها حالة لم تقدر لها الشريعة كفايتها من التصرف والتوفيق.
ولسنا في هذا الكتاب بحاجة إلى أن نضيف شيئا في موضوع الحدود إلى ما أجملناه عنه في رسالتنا عن الشيوعية والإسلام؛ فإن الإفاضة في البحوث الفقهية ليست من أغراض كتابنا هذا، ولم تكن من أغراض ذلك الكتاب، وبحسبنا من مسألة الحدود أن نجلو الشبهة عن قواعدها وندع للمستزيد أن يتوسع في شروحها وتفريعاتها حيث يطيب له المزيد منها، فإنما استقرت حكمة الإسلام على جلاء القواعد وتوطيد القاعدة سليمة يقام عليها ما يقام من بناء سليم.
تنزل الشريعة الإسلامية في الجزيرة العربية على عهد الجاهلية، يوم كانت شريعتها الغالبة بين جميع القبائل العربية شريعة الغارات التي تستباح فيها دماء المغلوب وأمواله ونساؤه، وكل مملوك له في حوزة الفرد أو حوزة القبيلة، وكان أهل الكتاب يدينون بشريعة موسى التي لم يبطلها السيد المسيح، ولها حدود مفصلة في التوراة وقصاص تؤخذ فيه العين بالعين والسن بالسن، كما ذكرها القرآن الكريم.
فإذا جاء الإسلام بعقوبات لا تصلح لعهد الدعوة لم يعط التشريع حقه في ذلك العهد ولا في العصور التالية، ولكنه يعطي التشريع حقوقه جميعا إذا صلح لزمانه ولم ينقطع صلاحه لما بعده، ولم يمتنع فيه باب الاجتهاد عند اختلاف الأحوال، فيشتمل جزاؤه على جنايات الحدود والقصاص، وعلى الجنايات التي تستحدثها أحوال المجتمعات، ويأخذها الشارع بما يلائمها من موجبات الجزاء.
وهذا ما صنعه الإسلام في جنايات الحدود والقصاص، وفي غيرها من الجنايات التي تدخل عند الفقهاء في باب التعزير، وعلينا أن نذكر:
أولا، أن الحدود مقيدة بشروط وأركان لا بد من توافرها جميعا بالبينة القاطعة، وإلا سقط الحد أو انتقل إلى عقوبات التعزير إذا كان ثبوته لم يبلغ من اليقين مبلغ الثبوت الواجب لإقامة الحدود.
وأن نذكر - ثانيا - أن القصاص مشروط فيه العمد وإرادة الأذى بعينه، فإن لم يثبت العمد فالجزاء الدية أو التعزير، وقد يجتمعان أو يكتفى بالدية دون التعزير أو بالتعزير دون الدية.
ولنذكر أن جرائم التعزير تشمل جميع الجرائم التي يعاقب عليها بالسجن أو بالغرامة أو بالعقوبات البدنية.
ولنذكر في جميع هذه الأحوال أن الشريعة الإسلامية توجب درء الحدود بالشبهات للشك في ركن من أركان الجناية أو ركن من أركان الشهادة؛ فلا يقام الحد، وينظر ولي الأمر في التأديب بعقوبة من عقوبات التعزير.
ولنضرب المثل بأكبر جنايات الحدود وأشيعها في الجاهلية العربية وجاهليات الأمم في عنفوانها، وهي جناية قطع الطريق والعبث في الأرض بالفساد؛ ففي هذه الجناية يقول القرآن الكريم:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (المائدة: 33-34).
فهذه جناية لها عقوبات متعددة على حسب الأضرار والجرائر، ومنها القتل والصلب وقطع الأطراف والنفي؛ وهو بمعنى النبذ من الجماعة إما بالسجن أو بالإقصاء، ويلزم العقاب من لزمته أحكام الدين، فإذا كانت جنايته قد انتهت بالتوبة قبل أن يلزمه قضاء الإسلام، فهذا هو الباب الذي فتحه الإسلام لابتداء عهد وانتهاء عهد غبر بأوزاره وعاداته، وانطوى حساب الجناية والعقاب فيه بانتهائه.
وأشد هذه العقوبات لم يكن شديدا في عرف أمة من الأمم عوقب فيها من يقطعون الطريق ويعيثون في الأرض بالفساد، مع حضور الحذر وكثرة مغرياته وقلة الزواجر الاجتماعية التي تحمي المجتمع من أضراره وجرائره، وقد كانت عقوبات القتل والتمثيل قائمة في جميع الأمم مع قيام الجريمة وقيام أسباب الحذر منها، وظلت كذلك إلى القرن السابع عشر في البلاد الأوروبية التي استقر فيها الأمن بعد الفزع، وانتظمت فيها حراسة الطريق بعد الفوضى التي طغت عليها من جراء فوضى الجوار بين الحكومات.
وتلحق بجناية قطع الطريق جناية السرقة التي لا غصب فيها، وشروطها أن يكون السارق عاقلا مكلفا، وأن يكون المال المسروق محرزا مملوكا لمن يحرزه بغير شبهة، بالغا نصاب السرقة كما يتفق عليه الفقهاء، وكل جريمة من قبيل السرقة لم تثبت فيها هذه الأركان المشروطة، فلا يؤخذ فيها الجاني بحد السرقة ويؤخذ فيها بعقوبات التعزير، وعند الصرورة التي يقدرها الإمام يجوز العفو كما عفا عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - عن الغلامين السارقين في عام المجاعة.
ولا بد أن يمتد نظر الباحث على مدى مئات السنين قبل أن يسأل عن صلاح الشريعة لعصر من العصور، ولا محل لسؤاله إذا أراد أن يحصر هذه الشريعة في زمن واحد وبيئة واحدة، ولكنه يحسن السؤال إذا عرض أمامه أحوالا للأمم فيها القديم والحديث، وفيها الهمجي والمتحضر، وفيها المسالم المأمون والشرير المحذور، ثم سأل: هل في الشريعة قصور عن حالة من الحالات التي تعرض لتلك الأمم في جميع أطوارها؟ وهل هناك عقوبة نصت عليها الشريعة لم تكن صالحة من تلك الحالات؟
فهكذا توزن الشرائع التي تحيط بالمجتمعات في مئات السنين، وبغير هذا الوزن تكثر منافذ الخطأ أو يبطل السؤال فلا محل للسؤال.
3 •••
وغني عن القول بعد هذه الاعتبارات أن فهم الشريعة بنصوصها لا يغني عن فهمها بروحها وحكمتها.
وروح التشريع الإسلامي كما ظهرت في نصوص الأحكام وأركان الثبوت روح سمحة جانحة إلى العذر وتمهيد الطريق للتوبة والصلاح، فليست العقوبة غرضا مطلوبا لذاته يبادر إليها ولي الأمر خفيف الضمير معفى من الحرج والمراجعة، ولكنها ضرورة يدفعها ما دفعتها الشبهة والأمل في التوبة والصلاح، وليس الإمام الذي يتحرج من إقامة الحد في غير موقعه من الثبوت وتوافر الأركان مخالفا للإسلام مقصرا في إقامة حدوده، بل المخالف للإسلام المقصر في إقامة الحدود من يهجم على العقوبة قبل أن يستوفي أركانها ويدرأ كل شبهة فيها تأتي لمصلحة المتهم أو لمصلحة الجماعة، وإنما الإمام الحق في الإسلام يذكر أن إطلاق المذنب خير من إدانة البريء، وأن التحرج أولى ما يكون بمن يعاقب على الحرج في أمور الدنيا والدين.
وسيأتي البيان عن مهمة الإمام في تطبيق الحدود والأحكام، وتقدير المصالح والضرورات في أمور الجزاء وأمور السياسة الشرعية على التعميم، ولكننا ننتهي بهذه العجالة عن المعاملات إلى غايتها إذا عرفنا أن الإسلام لا يوجب على الناس معاملة تضر، ولا ينهاهم عن معاملة تفيد، وأنه يؤدي للمؤمنين به خير ما تؤديه العقيدة الثابتة على تعاقب الأجيال ... لا تمنع التجربة الصالحة أن تثبت صلاحها، ولا تفرط في الدائم اللازم ذهابا مع العاجل المشكوك فيه.
الفصل الثالث
الحقوق
(1) الحرية الإسلامية
أصدق ما قيل في الأديان العالمية أنها ثورات واسعة، ولا تقاس السعة في هذه الثورات بامتداد المكان ولا بكثرة العدد؛ لأنها أوسع ما تكون إذا نشبت في داخل النفس الإنسانية، وكانت القوة الثائرة والقوة المتغلبة فيها مملكة واحدة هي مملكة الضمير.
ولا نهاية يومئذ لمظاهر التبديل والتغيير التي تتكشف بها الثورة في تلك المملكة الصغيرة الكبيرة؛ لأنها تلحق بكل ما تزاوله النفس من شئونها الباطنة والظاهرة؛ تلحق بالأفكار والهواجس الخفية، وتلحق بالعادات أو الأخلاق، وتلحق بالعرف والقانون، وتلحق بالنظم الاجتماعية والدساتير الحكومية، وتلحق بالحاكمين والمحكومين، وتلحق بكل مملكة؛ لأنها لحقت قبل ذلك بتلك المملكة الصغيرة الكبيرة: مملكة الضمير!
وأوسع ما تكون ثورة الضمير إذا جاءت من قبل الثورة في تقدير الحقوق.
إن الثائر لضيق نزل به يهدأ إذا انفرج ذلك الضيق، وإنه ليثور كما تثور الريح المحجوزة والحيوان الحبيس، ما هو إلا أن يرتفع الحاجز وينفتح الباب حتى تهدأ الثورة ويسكن الثائر والمثير، ولكنه إذا وثب وثبته في سبيل حق يؤمن به لا يرجع عنه أو يظفر به كما يطلبه، وإذا ظفر به لنفسه لم يكفف عن الطلب وهو يراه مضيعا عند غيره، ويكاد يلمس في كل شيء نذيرا له بضياع الحق، وحافزا له على حمايته أن يضيع؛ فإنما الثورة الباطنة هي محضأ الثورة الظاهرة، وطالب الحق هو المطلوب الذي لا ينام عن طلبه، وهو الرقيب على سريرته قبل كل رقيب.
ولم تعلن في ثورات العالم الدينية حقوق عامة للإنسان قبل ثورة الإسلام في القرن السادس للميلاد ؛ لأن الإنسان نفسه لم يكن عاما فيوليه الدين حقوقا عامة، وإنما ولد هذا الإنسان - العام - يوم آمن الناس بإله يتساوى لديه كل إنسان وكل إنسان، ويوم نيطت حقوقه بواجباته بغير تفرقة بين قبيل وقبيل.
فمن تحصيل الحاصل أن يقال إن حقوق الإنسان لم تكن منظورة من ثورة دينية قبل ثورة الدين الذي دعا الناس إلى عبادة رب العالمين، فإنما توجد الحقوق العامة إذا وجد صاحبها الذي يستحقها ويؤدي لها فرائضها، ولم يوجد لهذه الحقوق صاحب مضطلع بها في ثورة دينية قبل ثورة الإسلام؛ إذ لم يكن هناك الإنسان الذي يتساوى في كل قبيل وكل مكان.
على أننا نرجع إلى تاريخ الثورات الاجتماعية أو السياسة قبل الإسلام، فلا نراها تخالف الثورات الدينية المعاصرة لها في كبير طائل، ولا نرى بينها حركة يصدق عليها أنها حركة «حقوق إنسانية» بمعنى من معاني هذه العبارات كما نفهمها في العصر الحاضر؛ فربما كان بينها ما يسمونه بحركات الديمقراطية في بلاد اليونان، وربما بدا لهم من كلمة الديمقراطية أنها من حركات الشعب، فهي على هذا خليقة أن تحسب من حركات الحقوق الإنسانية، وليست هي كذلك حتى في دلالتها اللفظية التي نشأ منها الغلط في فهم حقيقتها؛ لأن كلمة «ديموس» اليونانية كانت تطلق على المحلة التي تسكنها القبيلة، ثم أطلق النظام الديمقراطي عندهم على الحكومة التي تشترك القبائل في انتخابها، ولم يكن اشتراكها في الانتخاب اعترافا بحق إنساني يتساوى فيه آحاد الناس، وإنما كان اعترافا بالقبيلة واتقاء لمعارضها وإضرابها عن العمل في الجيش وتلبية نفير الدفاع.
ومثل هذا الحق في رومة «التربيون» الذي تنتخبه القبيلة ويشتق من اسمها
Tribe ، ولا شأن لانتخابه بما نسميه اليوم حقوق الإنسان.
وقد توالت على اليونان والرومان أنواع من الحكومات الديمقراطية لم يكن لها من مبدأ تقوم عليه غير أنها خطط عملية لأمن الفتنة، واستجلاب الولاء من المجندين للجيش والأسطول من أبناء القبائل وأصحاب الصناعات، وآية ذلك أن الحكومة الديمقراطية نشأت بين الأسبرطيين أصحاب النظم والإجراءات الإدارية، ولم تنشأ بين الأثينيين أصحاب الفلسفات والبحوث النظرية، وليس هذا بالمستغرب من اليونان الأقدمين إذا نظرنا إلى حقوق الانتخاب في الديمقراطيات الغربية إلى أواسط القرن العشرين ... فإن هذا الحق كان يتدرج في التعميم على حسب الحاجة إلى الناخبين في مصانع الحرب وفي جيوش المقاتلين، فناله العمال في البلاد الصناعية قبل أن يناله الزارع، ونالته المرأة بعد أن أصبحت عاملة في المصانع تنوب فيها عن الجند المقاتلين، وناله السود في الولايات المتحدة بعد اضطرار الدولة إلى خدمتهم في المصانع وفي الجيوش على التدريج بين الحربين العالميتين.
غير هذا ولا ريب هو المقصود بالديمقراطية الإنسانية، فإنها حقوق معترف بها للإنسان، وليست خططا عملية يوجبها تكافؤ القوى بين الطوائف وجماهير الناخبين، وليست الديمقراطية الإنسانية مما يتصور بغير عناصره الثلاث التي لا انفصال بينها، وهي: المساواة والمسئولية الفردية وقيام الحكم على الشورى وعلى دستور معلوم من الحدود والتبعات، وهذه هي العناصر الثلاثة التي نادى بها الإسلام لأول مرة في تاريخ الإنسان:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13)،
كل امرئ بما كسب رهين (الطور: 21)،
وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38).
ونبي الإسلام هو القائل - صلوات الله عليه: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لقرشي على حبشي إلا بالتقوى.»
وهو القائل - صلوات الله عليه - في خطبة الوداع:
أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض فضل إلا بالتقوى.
وهو القائل - صلوات الله عليه: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، ويا بني عبد مناف، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، ما أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئا.»
وطالما قيل عن هذه الديمقراطية الإسلامية إنها هي الديمقراطية العربية نقلها الإسلام في بيئة الصحراء التي نشأ فيها.
وهي كلمة من كلمات القشور التي تجوز على الأسماع بغير عناء؛ لأن الطلاقة شبيهة بالمعهود من الصحراء في الحس والخيال.
إلا أن الطلاقة الحسية - فيما وراء القشور - لا تشبه حرية الحقوق في أصل من أصولها التي تقوم عليها ... إنها كطلاقة الريح في الفضاء وطلاقة العصفور في الهواء وطلاقة الأوابد بعيدا من المطاردين والأعداء، وشتان الحرية الإنسانية - حرية الحقوق المرعية - وهذه الطلاقة التي يتمتع بها الحيوان والإنسان على السواء بمعزل عن العوارض والرقباء.
فإذا تركنا هذه الطلاقة في بيدائها الغافلة عنها، وبحثنا عن حرية الحقوق في حكومة من حكومات الجاهلية لم نجد ثمة إلا استبدادا بالأمر كأشد ما عرف الاستبداد في دولة من دول الطغيان ذوات الصولة والصولجان؛ فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال. وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه لأن:
قبيلته لا يغدرون بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول:
أنت المملك فوقهم
وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثلما
ذل الأشيقر ذو الخزامة
وكان عمرو بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار، وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره.
وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء، ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء.
وقد قيل عن عزة كليب وائل: إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه. وقيل: «لا حر بوادي عوف»؛ لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره، فكلهم أحرار في حكم العبيد.
ومن القصص المشهورة قصة عمليق ملك طسم وجديس الذي كان يستبيح كل عروس قبل أن تزف إلى عريسها، وفيه تقول فتاتهم عفيرة:
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
فكونوا نساء لا تعاب على الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما
خلقتم لأثواب العروس وللنسل
ويستوي أن تصح هذه القصة على علاتها أو لا تصح منها إلا الرواية والنظم الموضوع؛ فإنها لصحيحة بجوهرها كل الصحة إذا وقر في أذهان الرواة والسامعين أن الظلم حق للقادر المعتز بقدرته، وأن إذلال الأعزاء علامة العزة فوق كل عزيز. ولو لم يكن هذا دأب الملوك في معهود العرب الأولين لما قالت إحدى الملكات فيما رواه القرآن الكريم على لسانها:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون (النمل: 34). •••
فالديمقراطية الإسلامية إذن لم تكن نباتا نما في الجاهلية وورثه الإسلام منها؛ لأن الديمقراطية لم يكن لها وجود في الجاهلية لوجود الإمارة والرئاسة الحكومية، وما كان منها غير ذلك من قبيل الطلاقة المرسلة في الصحراء الواسعة فإنما هو طلاقة مادية كطلاقة الطائر في جوه، أو كطلاقة الهواء الذي لا عائق له في فضائه، والماء الذي لا عائق له في مجراه. وتلك الطلاقة المادية - إن جاز أن نسميها حرية - فإنما هي الحرية التي يستمتع بها المرء؛ لأنها شيء مزهود فيه لا يجد من يصادره أو يرغب فيه.
ولم تكن الديمقراطية الإسلامية كذلك نباتا منقولا من تربة أجنبية؛ لأن الديمقراطية الإسلامية ديمقراطية حقوق تلازم الإنسان، وما نبت قبلها من الديمقراطيات فهو على أحسنه خطط عملية تمليها الضرورة على حسب الحاجة إليها، وليس هناك «إنسان» يحق له أن يطلبه إذا فقد القدرة عليه؛ لأن هذا «الإنسان» صاحب الحق في الديمقراطية باعتباره «إنسانا» مساويا لسائر أبناء آدم وحواء لم يكن له وجود مفهوم قبل الدعوة الإسلامية.
لم تنبت الديمقراطية الإسلامية في تربة الصحراء ولا في تربة الحضارة، ولكنها كانت معجزة إلهية مثلها في الظهور بين الجاهليين كمثل الإيمان بالإله الواحد الأحد الذي لا يحابي قوما لأنهم قومه دون سائر الأقوام، ولا يلعن قوما لأنهم ورثوا اللعنة من الآباء والأجداد.
حق الإنسان والإيمان بالله رب العالمين كلاهما معجزة إلهية تجلت بها قدرة الله على غير مثال سابق متسلسل من أسبابه في بيئته، ولا فيما جاورها من البيئات؛ فإن السوابق التي سلفت قبل الدعوة الإسلامية كانت كسوابق المرض الذي يتطلب الدواء، ولم تكن كسوابق العلاج الذي ينتهي بالشفاء، وتلك هي السوابق التي تتجلى فيها قدرة الله على يد رسول من رسله ينبعث بالهداية ملهما موفقا بوحي من الله، فيصنع المعجزة التي لم تمهد لها أسبابها ودواعيها؛ لأن أسبابها الخفية ودواعيها الكامنة في السريرة الإنسانية تفوت ذرع العقول ولا تدخل في الحساب.
ولسنا نحب أن يفهم القارئ من كلامنا أن المعجزة الإلهية تقلب أوضاع الأمور وتأتي في أوانها بغير سبب مقدور، وإنما نريد أن نقول: إن الأسباب لا تنكشف كلها لعلم الإنسان، وإن علم الله هو الذي يحيط بالخوارق التي لا تدخل في الحسبان.
فالمرض الذي يؤدي إلى الموت سبب، والمرض الذي يؤدي إلى العلاج المنقذ سبب، فإذا اختلط علينا السببان وجاء الشفاء من حيث نتوقع الهلاك والفناء، فتلك معجزة من المعجزات الإلهية علمها عند الله، وأسبابها غير الأسباب التي نقدرها لها قبل وقوعها.
نشأت الدعوة الإسلامية في بيئة مريضة بأدواء العصبيات وضروب الضلال في اختلاط من العبادات والخرافات، فلو جرت الأسباب التي ندركها في مجراها المعهود، فالدعوة التي تأتي من قبل هذه البيئة لن تدعو إلى إله واحد يتساوى لديه جميع الناس، ولن تمنح الإنسان حقا واحدا يتساوى فيه جميع الناس.
ولكن هذه الدعوة جاءت بهذا وذاك؛ جاءت بالدعوة إلى رب العالمين وإلى الحق الذي يتساوى فيه أبناء آدم وحواء، وجاءت بذلك لأن إنسانا واحدا خلق الله فيه من قوة الروح ما يكافئ تلك العصبيات جميعا وتلك الضلالات جميعا، ويتغلب عليها ويجريها في غير مجراها.
ذلك هو رسول الله.
وتلك هي المعجزة الإلهية.
وأسبابها نفهمها الآن، بعد أن هدينا إليها، ولكننا لم نكن لنفهمها لو ترقبناها قبل وقوعها وانتظرناها من حيث تنتظر الأسباب العاملة في حياتنا، ولا سيما الأسباب التي نحسبها اليوم من الأسباب «الطبيعية» دون سواها. معجزة من المعجزات الإلهية أن تجيء الدعوة إلى رب العالمين من صحراء لا تعرف غير الفوارق بين العصبيات والأنساب.
ومعجزة مثلها أن يجيء من تلك الدعوة حق الإنسان الذي يرفعه عمله ولا يرفعه نسبه، أيا كان هذا النسب بين الأعراق والأقوام.
ولا انفصال بين المعجزتين بعد الروية في السبب الذي تنبعثان منه والنهاية التي تؤديان إليها.
كلتا المعجزتين صادرة من ينبوع واحد؛ فمن آمن برب العالمين لم يؤمن برب فريق دون فريق من الناس، ومن آمن بالمساواة بين أعمال الناس وحقوقهم فلن يؤمن برب غير ربهم أجمعين.
ويقال بحق: إن الإنسان يتطلب المثل الأعلى في الصفات الإلهية، وإنه من أجل هذا لا ينزه حاكمه عن صفة يقبل الاتصاف بها في حق الله.
ومن البديهي أنه لا يتخيل حاكمه منزها عن المحاباة بين رعاياه إذا جاز عنده أن الله لا يتنزه عن المحاباة بين خلقه في غير عمل ولا مزية.
فلا جرم كان الإيمان برب العالمين إيمانا بحق العدل والمساواة، وإيمانا بالديمقراطية التي تقوم على هذا الحق في الأرض وفي السماء.
ولله المثل الأعلى.
والله في عقيدة المسلم هو أحكم الحاكمين.
فهو الحاكم الذي لا يظلم أحدا، ولا يحاسب أحدا بغير تكليف، ولا يغير ما بالعبد حتى يغير ما بنفسه، ولا يأمر الحاكم بأمر إلا كان هذا الأمر من شريعته في عباده، ومن نواميسه في قضائه وقدره ...
ولا يظلم ربك أحدا (الكهف: 49)،
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (النساء: 40)،
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الأنفال: 53)،
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم (الرعد: 11)،
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (الإسراء: 15)،
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: 24).
وإذا كان هذا عهد الله على نفسه أمام خلقه، فالثورة التي جاء بها الإسلام في عالم الحقوق أرفع وأوسع من أن تحسب من تلك الثورات التي تبتدئ وتنتهي في نطاق الحركات الاجتماعية أو السياسة. إنها ثورة كونية ترتفع بالحقوق والقيم في نظر الإنسان إلى أعلى فأعلى وإلى أكمل فأكمل؛ فلا تبقى له من علاقة ببني نوعه أو بالكون الذي يحتويه إلا ارتفعت بمقدار ما ارتفع عنده من حق ومن قيمة. •••
ومن أجمل ما في الإسلام أن هذه الحقوق العليا فيه لا تحرم الإنسان حقه في الحياة، ولا تزهده في طيباتها ومحاسنها؛ فحق الضمير لا يجور على حقه في الحياة الدنيا. وهو مأمور بالسعي والعمل والاستمتاع بما يكسبه بسعيه وعمله من نعمتها وزينتها، أمره بذلك كأمره برعاية حقه من العدل والحرية والكرامة:
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا (البقرة: 168)،
يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم (البقرة: 267)،
يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا (الأعراف: 31)،
لا تحرموا طيبات ما أحل الله (المائدة: 87). •••
ونقول: إن الأمر بحق الحياة من أجمل ما جاء به الإسلام؛ لأن الإنسان لم يتعود من الدين قبله أن يأمره بهذا الحق، وإنما تعود من أديان كثيرة أن تنهاه عنه، وأن تجعل زهده في الأرض شرطا لحظوته في السماء. (2) الأمة
آمن المسلمون بالحق الإلهي فجعلوا الأمة مصدرا لجميع السلطات ومرجعا لجميع المسئوليات؛ وهذا هو الحق الإلهي إذا فهم على سوائه ولم تنحرف به الأهواء إلى غير معناه، خدمة للمطامع وتزجية للمآرب عند ذوي السلطان.
لا مصدر للسلطة العامة في الإسلام غير الأمة.
ولا مرجع فيه للمسئولية العامة غير الأمة.
ولا تعارض بين هذا وبين نصوص الكتاب وسنة الرسول.
فإن النصوص والسنن لا تقوم بذاتها، بل تقوم بمن يفهمها ويعلمها ويعمل بها ويؤديها على وجوهها، وكل أولئك تشمله الأمة بما انطوت عليه من خاصتها وعامتها، وجملة ذوي الحل والعقد والعاملين من عليتها وسوادها.
فهي التي تأتمر بنصوص الكتاب والسنة، وهي المسئولة عن صوابها وخطئها حيث ائتمرت به واتفقت عليه أو اختلفت فيه .
وأول ما تكرر من ذلك الحق كان في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان مأمورا بمشاورة أمته، وكان الأمر بينهم شورى في كل شأن من الشئون غير التبليغ الذي خصه الله به ولولاه لم تكن الدعوة إلى هذا الدين:
وشاورهم في الأمر (آل عمران: 159)،
وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38).
ولما قبض - عليه السلام - إلى الرفيق الأعلى كانت ولاية الأمر بعده لمن توليه الأمة وتبايعه على الخلافة، وتولاها من تولاها من الخلفاء الراشدين بالبيعة العامة، ولم يدع أحد بعدهم حقا في ولايتها بغير هذه البيعة.
ولا يوجد في الإسلام حق بغير تبعة، فحق الأمة فيه وتبعتها متكافئان متساويان.
حقها تام وتبعتها تامة.
حقها تام لا يصدها عنه ذو سلطان بغير رضاها، وتبعتها تامة لا يعفيها من جرائرها عذر من الأعذار.
وهي متكافلة متضامنة في حقوقها وتبعاتها؛ لأنها متكافلة متضامنة فيما يصيبها من عواقب أعمالها ...
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة (الأنفال: 25).
فلا عذر لها في ضلال تنساق إليه متابعة لأسلافها، ولا عذر لها في ضلال تنساق إليه متابعة لأحبارها وكبرائها، فإن اللائمة لتعود عليها في ذلك كله كما عادت على الذين من قبلها:
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (البقرة: 170)،
قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله (التوبة: 30-31)،
قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها (النساء: 97). •••
هذه المسئولية التامة المتناسقة بين طوائف الأمة وطبقاتها تمليها شريعة تامة متناسقة في عقائدها وتكاليفها، ولولا هذا التناسق في الدين الإسلامي لكان اضطلاع الأمة بمسئولياتها العامة من النقائض التي لا تعقل في قسطاس العدل أو في منطق الواقع؛ لأنها تسوم الناس من جانب ما تبطله من الجانب الآخر.
فالأحبار والكهان في الأمم الخالية كانوا يقومون بينها هيئة مفروضة عليها، مرسومة بمراسمها الموروثة وأزيائها المقررة وإتاواتها المضروبة عليها كأنها ضرائب الدولة، وكانت هذه الهيئة قائمة في الطليعة تهتدي فيهتدي من يليها، وتضل فلا يملك أحد سبل الهداية من ورائها، وكان سبيل الهداية الوحيد أن يتصدى نبي من الأنبياء لهذا السد المغلق فيحطمه، ويفتح فيه الثغرة التي يسلكها من يتطلع إلى بصيص من النور يطالعه من لدنها.
ولو فرض الإسلام على الأمم هيئة كهذه الهيئة لما استقام للأمة حقها العام، ولا تسنى لها أن تضطلع بتبعاتها العامة، إلا أنه أعفاها من طغيان الكهانة وفتح أمامها منادح للفكر الإنساني لم تكن مفتوحة من قبله؛ فجعل النصيحة حقا لكل قادر عليه من أولي الفهم والدراية، وجعل العلم وظيفة عامة يطلبها من يشاء ويتولاها من يشاء، ولا سلطان له على الناس غير سلطان القدوة الحسنة والإقناع بالحجة والبينة الصادقة، وهو المسئول إن خان هذه الأمانة، والمستمعون له هم المسئولون إن سمعوها فلم يستجيبوا لندائها:
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران: 104).
وما هلكت الأمم من قبلهم إلا لأنهم
كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه (المائدة: 79).
وإن كلمة «المنكر» وحدها لكافية في الدلالة على هذه الفريضة العامة؛ فإنها من الإنكار الذي يشيع بين الناس فلا يجري بينهم أمر من الأمور أنكروه ولم يتعارفوا عليه. فإذا اصطلحوا على المنكر وجهلوا الأمر بالمعروف، فتلك أيضا جريرتهم يحاسبون عليها ما دام من حقهم أن يتجنبوها، ولا ظلم ولا حيف في هذه المسئوليات العامة بين الأمم، بل الظلم والحيف أن يتساوى الجاهلون والعارفون، أو تتساوى جماعة الجهلاء الذين نفعتهم ويلات الجهل وبلاياه فجهدوا جهدهم للخلاص منه، وجماعة الجهلاء الذين سدروا مع الجهل ولم يشعروا بويلاته وبلاياه، ولا يحل في قسطاس العدل على كل حال أن تكون الأمة مصدرا لجميع السلطات إلا إذا كانت مع هذا مرجعا لجميع التبعات والمسئوليات،
ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (آل عمران: 182). •••
ولا يحسب على الإسلام أن المسلمين لم يحفظوا حقهم ولم يضطلعوا بتبعتهم، وإنما يحسب عليه أنهم حفظوا الحق ثم ندموا على حفظه، واضطلعوا بالتبعة ثم ندموا على الاضطلاع بها، أو يحسب عليهم أنهم ضيعوا الحق فلم يصبهم بلاء من تضييعهم إياه، وأنهم نكصوا عن التبعة فلم يصبهم بلاء من النكوص عنه. ولم يحدث من هذا ما يدعو المسلم إلى الندم على إيمانه بدينه، ولكنه قد حدث منه مرارا ما يدعوه إلى الندم على التفريط في أوامر هذا الدين القويم ونواهيه. •••
ولعله من علامات الخير أن تدول الدول وأن يذهب ما أفسدت من أمور الدين والدنيا، وتبقى للمسلم عقيدته في حقوق أمته مصونة في قلوب المحافظين والمجددين ملحوظة في آراء الوادعين والثائرين، يقول أشدهم محافظة ما يقوله أشدهم قلقا وثورة، ويتلاقى الماضي والمستقبل لديهم أجمعين على كلمة سواء يسمعها من شاء بعد أربعة عشر قرنا، كما سمعها أسلافه قبل أربعة عشر قرنا في صدر الإسلام وإبان الدعوة المحمدية.
يقول إمام من أشهر الأئمة المتأخرين بالمحافظة على القديم:
إن كتب الكلام ... كلها مطبقة متفقة على أن منصب الخليفة والإمام إنما يكون بمبايعة أهل الحل والعقد، وأن الإمام إنما هو وكيل الأمة، وأنهم هم الذين يولونه ملك السلطة، وأنهم يملكون خلعه وعزله، وشرطوا لذلك شروطا أخذوها من الأحاديث الصحيحة. وليس لهم مذهب سوى هذا المذهب
1 ...
ولا يفوتنا في ختام هذه الكلمة عن حقوق الأمة أن ننبه إلى حقيقة النسبة إلى الأمة حيثما وردت في القرآن الكريم؛ فإن كتاب الله يعني بهذه الكلمة أن الخطاب الإلهي موجه إلى الأمم عامة لا تستأثر به أمة، ولا تحجب عنه أمة، خلافا لمن قال من بني إسرائيل إن «الأمم» لا تتلقى خطابا من الله وإنهم وحدهم - أمة إسرائيل - قد استأثروا بهذا الخطاب دون خلق الله.
ويدل على ذلك أن كلمة «الأميين» قد وردت في القرآن الكريم مقابلة لأهل الكتاب، أو لأهل الكتاب من بني إسرائيل خاصة في غير موضع، فالأميون قد وردت في سورة آل عمران مرتين منسوبة إلى كل أمة غير بني إسرائيل:
ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل (آل عمران: 75)،
وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين (آل عمران: 20). •••
وقد وردت بهذا المعنى حيث جاء في القرآن الكريم أن الله
بعث في الأميين رسولا (الجمعة: 3)، تكذيبا لدعوة الذين يزعمون أن الله تعالى لا يخاطب الأمم، وتذكيرا لهم بأن الأمة هي موضع الخطاب من الله كلما بعث إليها برسول:
وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر: 24). (3) الأسرة
الأسرة هي الأمة الصغيرة، ومنها تعلم النوع الإنساني أفضل أخلاقه الاجتماعية، وهي في الوقت نفسه أجمل أخلاقه وأنفعها.
من الأسرة تعلم النوع الإنساني الرحمة والكرم، وليس في أخلاقه جميعا ما هو أجمل منهما وأنفع له في مجتمعاته.
فالرحمة في اللغة العربية من الرحم أو القرابة، وهي كذلك في اللغات الهندية الجرمانية؛ لأن كلمة «كايند»
Kind
مأخوذة كذلك من الرحم، وكلمة الطفل التي تتمثل الرحمة كلها في العطف عليه مأخوذة منها.
والكرم في اللغة العربية مأخوذ من النسب الصريح الذي لا هجنة فيه، وهو في اللغات الهندية الجرمانية مأخوذ كذلك من «الجانر»
Genre ...
والمنسوب إليها هو الكريم.
وإذا تتبعنا سائر الفضائل والمناقب الخلقية المحمودة بلغنا بها في أصل من أصولها - على الأقل - مصدرا من مصادر الحياة في الأسرة؛ فالغيرة والعزة والوفاء ورعاية الحرمات كلها قريبة النسب من فضائل الأسرة الأولى، ولا تزال من فضائلها بعد تطور الأسرة في أطوارها العديدة منذ عشرات القرون.
ولا بقاء لما كسبه الإنسان من أخلاق المروءة والإيثار إذا هجر الأسرة وفكك روابطها ووشائجها.
فمن عادى الأسرة فهو عدو للنوع الإنساني في ماضيه ومستقبله. ولا يعادي الأسرة أحد إلا تبينت عداوته للنوع الإنساني من نظرته إلى تاريخ الأجيال الماضية، كأنه ينظر إلى عدو يضمر له البغضاء ويهدم كل ما أقامه من بناء.
وما من سيئة تحسب على الأسرة بالغة ما بلغت سيئاتها من الكثرة والضرر هي مسوغة لمحب بني الإنسان أن يهدم الأسرة من أجلها، ويعفي على آثارها.
فحب الأسرة - حقا - قد سول للناس كثيرا من الجشع والأثرة، ومن الجبن والبخل، ومن الكيد والإجرام.
وكذلك حب الإنسان نفسه قد فعل هذا في العالم الإنساني وزيادة.
ولكننا لا نمحو الإنسان ولا نمحو الأسرة من أجل الأثرة وأضرارها، وإنما نمحو الأثرة ما استطعنا ونوفق بينها وبين الإيثار غاية ما يستطاع التوفيق بين الخليقتين، ونفلح في ذلك مع الزمن؛ لأننا أفلحنا كثيرا في تعميم روابط الأسرة الصغيرة بين أبناء الأسرة الكبيرة وهي الأمة، ولأننا أفلحنا كثيرا في تعميم المنافع والمرافق من هذه المثابة فضلا عن المناقب ومكارم الأخلاق. فلولا الأسرة لم تحفظ صناعة نافعة توارثها الأبناء عن الآباء، ثم توارثها أبناء الأمة جمعاء، ولولا الأسرة ما اجتمعت الثروات التي تفرقت شيئا فشيئا بين الوارثين وغير الوارثين من الأعقاب، ولولا الأسرة لاستجاب لدعوة الهدم والتخريب كل من لا خلاق له من حثالات الخلق ونفاياتهم في كل جماعة بشرية؛ فالأسرة هي التي تمسك اليوم ما بناه النوع الإنساني في ماضيه، وهي التي تئول به غدا إلى أعقابه وذراريه حقبة بعد حقبة وجيلا بعد جيل.
لا أمة حيث لا أسرة.
بل لا آدمية، حيث لا أسرة.
ولن ينسى الناس أنهم أبناء آدم وحواء إلا نسوا أنهم أبناء رحم واحد وأسرة واحدة، كائنا ما كان تأويلهم لقصة آدم وحواء.
ومتى علمنا أن واجب الإنسان لبني نوعه في الإسلام إنما هو واجب الأسرة الكبرى التي جمعت أخوة الشعوب والقبائل لتتعارف بينها، فقد علمنا شأن الأسرة في هذا الدين، وعلمنا أن قرابة الرحم والرحمة حجة القرابة بين الإخوة من أبناء آدم وحواء، وأنها هي شفاعة كل إنسان عند كل إنسان. •••
تقوم الأسرة في الإسلام على أنها كيان دائم تراد له السعة والامتداد والوئام.
وتتحقق سعة الأسرة وامتدادها ووئامها بنظامين من النظم التي شرعها لها الإسلام، وهما نظام المحارم في الزواج ونظام الميراث.
فالإسلام يحرم الزواج بالأقربين، ولا يبيح من ذوي القرابة إلا من أوشكوا أن يكونوا غرباء، فالزواج يجمع منهم في الأسرة من أوشكوا أن يتفرقوا كأبناء العمومة والخئولة:
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (النساء: 23).
والمقاصد من هذا التحريم منوعة لا نحصيها في هذا المقام، أجلها وأجداها توسعة الأسرة ووقايتها من شواجر الخصومة والبغضاء، وأن يتحقق بالزواج من أسباب المودة والنسب ما لم يتحقق بالقرابة، فيرجع إلى الأسرة من أوشك أن ينفصل عنها، ويحرم الزواج بذوي القرابة الحميمة التي لا حاجة بها إلى توثيق النسب والمصاهرة، وهما في القرآن الكريم من آيات خلق الإنسان كما جاء في سورة الفرقان:
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (الفرقان: 54).
ويشرع الإسلام نظام الميراث؛ لأن الأسرة كيان يعيش ويتصل عمره بعد انقضاء أعمار أعضائه، ولا اعتراض على نظام الميراث من وجهة النظر إلى طبائع الأحياء ولا من وجهة النظر إلى المصلحة الاجتماعية، فإن الأبناء يرثون من آبائهم ما أرادوه وما لم يريدوه، وحق لهم أن يرثوا ما خلفوه من عروض كما ورثوا عنهم ما خلفوه من خليقة لا فكاك منها، ولا غبن على المجتمع في اختصاص الأبناء بثمرة العمل الذي توفر عليه الآباء؛ لأن هذه الثمرة إذا بقيت في المجتمع كان الورثة أحق بها من سواهم، وكان الغبن في النهاية أن يتساوى العامل لغده والعامل الذي لا ينظر إلى غير يومه وساعته، أو يتساوى من يعمل ويبني للدوام ومن لا يعمل ولا يبالي ما يصيب المجتمع بعد يومه الذي يعيش فيه.
ويتحقق وئام الأسرة وامتدادها بما فرضه الإسلام من حقوق لكل عضو من أعضائها، فلا حق لإنسان على إنسان أعظم من حق الآباء والأمهات في الإسلام على الأبناء والذرية. وبحسبك أنه كاد أن يكون البر بهم مقرونا بالإيمان بوحدانية الله:
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا (الأنعام: 151).
وكادت الطاعة لهم ألا يسبقها واجب غير الطاعة للإله المعبود:
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير * وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا (لقمان: 14-15)،
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (الإسراء: 23-24).
وفي القرآن الكريم غير الوصايا في هذه الآيات وصايا مثلها تذكر كلما ذكر الوالدان، وفيه من الآيات ما يتصل به شكر الإنسان لنعمة الله على أبويه بدعائه إلى الله أن يصلح له ذريته، وأن يلهمه العمل الذي تصلح به حياته الباقية:
ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين (الأحقاف: 15). •••
وربما سبق إلى الخاطر في عصرنا هذا أن البر بالأبناء لا يحتاج إلى وصية دينية كوصية الأبناء بالآباء؛ لما ركب في طباع الأحياء من حب البنين والرقة لصغار الأطفال على العموم. إلا أن أحوال الأمم وأحكام شرائعها قبل الإسلام تنبئ عن مسيس الحاجة إلى هذه الوصية؛ لأن أخطاء العرف الشائع فيها كانت أشد من أخطاء العرف الشائع في معاملة الأبناء للآباء؛ فكان الولد في شريعة الرومان بمثابة العبد الذي يملكه والده ويتصرف فيه برأيه في كل ما يرتضيه له قبل بلوغ رشده، وكانت شريعة حمورابي توجب على الأب الذي يقتل ولدا لغيره أن يقدم ولده لأبي القتيل يقتص منه بقتله، وكان اليهود يقتلون الأبناء والبنات مع أبيهم إذا جنى الأب جناية لم يشتركوا فيها ولم يعلموها، ومن ذاك ما في الإصحاح السابع من كتاب يشوع حين اعترف عخان بن زارح بسرقة الرداء النفيس والفضة:
فأرسل يشوع رسلا فركبوا إلى الخيمة، وإذا هي مطمورة في خيمته والفضة تحتها، فأخذوها من وسط الخيمة وأتوا بها إلى يشوع وإلى جميع بني إسرائيل وبسطوها أمام الرب؛ فأخذ يشوع عخان بن زارح والفضة والرداء ولسان الذهب وبنيه وبناته وبقره وحميره وغنمه وخيمته وكل ماله وجميع إسرائيل معه وصعدوا بهم إلى وادي عجور، فقال يشوع: كيف كدرتنا يكدرك الرب في هذا اليوم؟ فرجمه جميع بني إسرائيل بالحجارة وأحرقوهم بالنار ورجموهم بالحجارة وأقاموا فوقه رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم، فرجع الرب عن حمو غضبه.
ولذلك دعي اسم ذلك المكان وادي عجور إلى هذا اليوم.
أما عرب الجاهلية الذين نزل فيهم القرآن الكريم فقد أبيح بينهم قتل الأولاد، وجرت بينهم شريعة الثأر من الابن بذنب أبيه مجرى العرف المحمود، فلما جاء الإسلام أثبت للولد حقا في الحياة والملك كحق أبويه، وشرع له من مولده حقوق الرضاع والحضانة، وكان أبر بالأبناء من آبائهم وأمهاتهم؛ لأنه كان يأخذ العهد عليهم ألا يقتلوا أبناءهم، ويحميهم مما لا يحتمون منه بحنان الأبوة والأمومة:
يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن (الممتحنة: 12)،
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم (الأنعام: 140)،
ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم (الإسراء: 31).
أما حقوق الأسرة من حيث الروابط الزوجية، فقد جاء الإسلام فيها بالجديد الصالح وأقام حقوق الزوجين على أساس العدل بينهما، وأقام العدل على أساس المساواة بين الحقوق والواجبات، وهي المساواة العادلة حقا في هذا الموضوع؛ إذ كانت المساواة بين الذين لا يتساوون بأعمالهم وكفايتهم ظلما لا عدل فيه.
ولم يهبط الإسلام بمنزلة المرأة في جانب من جوانب حياتها العامة أو حياتها البيتية التي وجدها عليها، ولكنه ارتفع بها من الدرك الذي هبطت إليه في الحضارة الغابرة وعقائد الأمم التي تأثرت بتلك الحضارات قبل ظهوره، وكلها لم تكن على حالة مرضية في بلاد العالم المعمور.
كانت المرأة في الحضارة الرومانية تابعا له حقوق القاصر أو ليست له حقوق مستقلة على الإطلاق.
وكانت في الحضارة الهندية عائقا للخلاص من دولاب الحياة الجسدية، وخلاص المرء مرهون ب «الموكشا» أي بالانفصال عنها، وكان حقها في الحياة منتهيا بانتهاء أجل الزوج، تحرق على جدثه عند وفاته، ولا تعيش بعده إلا حاقت بها اللعنة الأبدية وتحاماها الآل والأقربون.
وكان للمرأة في الحضارة المصرية القديمة حظ من الكرامة يجيز لها الجلوس على العرش، ويبوئها مكان الرعاية في الأسرة، ولكن الأمة المصرية كانت من الأمم التي شاعت فيها عقيدة الخطيئة بعد الميلاد، وشاع فيها مع اعتقاد الخطيئة الأبدية أن المرأة هي علة تلك الخطيئة وخليفة الشيطان وشرك الغواية والرذيلة، ولا نجاة للروح إلا بالنجاة من أوهاقها وحبائلها.
وكانت معيشة البداوة في الجاهلية العربية تمنح المرأة بعض الحرية؛ لأنها كانت عضوا نافعا في تلك المعيشة البدوية تسقي وترعى وتنسج وتستخرج الطعام من الألبان والثمرات، ولكن هذه المعيشة البدوية نفسها كانت ترغب الآباء في ذرية البنين وتزهدهم في ذرية البنات؛ لأن البنين جند القبيلة وحماة حوزتها وعدتها في شن الغارات والتأهب لردها، فلم يكن أبغض إلى الأب من خبر يأتيه بمولد أنثى ولو كان ذا وفرة ووفرة، ومنهم من كان يئد البنات إشفاقا من العار إن لم يئدهن خشية إملاق، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم حيث جاء في سورة النحل:
وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (النحل: 58-59).
وتكررت الإشارة إليه؛ حيث جاء في سورة الزخرف بعد تسفيه الذين جعلوا للرحمن جزءا من عباده:
أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم (الزخرف: 16-17).
فلما بعث النبي - صلوات الله عليه - بالدعوة الإسلامية لم تكن للمرأة منزلة مرضية ولا حقوق مرعية في وطن من أوطان الحضارة أو البداوة، فدحض الإسلام عنها هذه الوصمة، وخولها من الحقوق ما يساوي حقوق الرجل في كل شيء إلا في حق القوامة:
الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (النساء: 34)،
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة (البقرة: 228). •••
وهذا الذي عنيناه بالمساواة بين الحقوق والواجبات؛ لأن المساواة بين الرجل والمرأة في جميع الكفايات والأعمال أمر لم يقم عليه دليل من تكوين الفطرة ولا من تجارب الأمم، ولا من حكم البداهة والمشاهدة، بل قام الدليل على نقيضه في جميع هذه الاعتبارات. ولم تتجاهل الأمم فوارق الجنسين إلا كان تجاهلها لها من قبيل تجاهل الطبيعة التي تضطر من يتجاهلها إلى الاعتراف بها بعد حين، ولو من قبيل الاعتراف بتقسيم العمل بين جنسين لم يخلقا مختلفين عبثا بعد أن غبرت عليهما ألوف السنين، وأخرى أن يكون طول الزمن مع تطور الأحوال الاجتماعية سببا لاختصاص كل منهما بوظيفة غير وظيفة الجنس الآخر، ولا سيما في الخصائص التي تفترق فيها كفاية الحياة البيتية وكفاية الحياة الخارجية، فإن طول الزمن لا يلغي الفوارق، بل يزيدها ويجعل لكل منها موضعا لا يشابه سواه.
إن تكوين الفطرة في مسألة النسل التي هي قوام حياة الأسرة يفرق بين الذكر والأنثى تفرقة لا سبيل في الإغضاء عنها في حياة النوع الإنساني على الخصوص؛ فإن وظيفة النسل طليقة في الرجل يصلح لها ما صلحت بنيته طول حياته إلى السبعين وما بعد السبعين، ووظيفة التناسل في المرأة مقيدة بالحمل مرة واحدة في كل عام، وقلما تصلح لها المرأة بعد الخامسة والأربعين أو الخمسين في أكثر الأحوال.
وفي تجارب الأمم شواهد ملموسة على الفارق الأصيل بين الجنسين في الكفاية العقلية والكفاية الخلقية؛ فإن المرأة على العموم لا تساوي الرجل في عمل اشتركا فيه، ولو كان من الأعمال التي انقطعت لها المرأة منذ عاش الجنسان في معيشة واحدة؛ لا تطبخ كما يطبخ، ولا تتقن الأزياء كما يتقنها، ولا تبدع في صناعة التجميل كما يبدع فيها، ولا تحسن أن ترثي ميتا عزيزا عليها كما يرثي موتاه، وهي منذ بدء الخليقة تردد النواح وتنفرد بأكثر مراسم الحداد. ومن اللغو أن يقال إن هذه الفوارق إنما نجمت من عسف الرجل واستبداده، فإن الرجل لم يكن ينهى المرأة أن تطبخ وأن تخيط الثياب وأن تتزين أو ترقص أو تترنم بالأغاني والأناشيد، ولو أنه نهاها فاستطاع أن ينهاها في بيتها وفي الدنيا الرحيبة لقد كان ذلك منه دليلا على غلبة العقل والإرادة لا ريب فيه.
وندع الإرادة في كل شيء ونتأمل الغريزة الجنسية المركبة في إناث جميع الأنواع، فهل من المجهول الخفي أن الأنثى تكتم إرادتها ولا تجهر بها وأنها تتصدى للذكر حتى يلتفت إليها؟ وهل من المجهول الخفي أن أصوات الذكور تغلظ وتقوى بعد بلوغ النضج لانفرادها بالدعاء الجنسي، واقتران هذا الدعاء بالنمو في كل قوة تكفل لها الغلبة والسبق في صراع الانتخاب الجنسي؟ وهل مما يستطاع ادعاؤه هنا أن هذه الفوارق الأصيلة قد خلقها ذكور الحيوان، ولم تكن عن حكمة عميقة في بنيان الجنسين، ينقاد إليها الذكور كما ينقاد إليها الإناث؟
وإذا اعتبرنا مسألة القوامة من وجهة «إدارية» بحتة، واعتبرنا أن الأسرة هيئة لا غنى لها عن قيم يتولاها، فمن يكون هذا القيم من الزوجين؟ أتكون القوامة للمرأة أم تكون للرجل؟ أتكون حقوق الأبناء في ذمتها أم تكون في ذمته؟
إن هذه الأمور من وقائع الحياة التي لا ترحم من يتجاهلها، ولا تحلها تحيات الأندية ولا جعجعة الفروسية الكاذبة في بقاياها المتخلفة من عصورها المنقرضة، وما كان للمرأة في أحسن حالاتها في تلك العصور المنقرضة من مكانة غير مكانة العشيقة في قصص الغرام ... كأنما هي مباهاة الفارس بشجاعته تعلو به في كل موقف له مع المخلوقة الضعيفة أن يكون كموقفه مع الأنداد والنظراء.
ولا نحب أن نغضي عن الباعث الذي يتذرع به من ينكرون قوامة الرجل لادعاء المساواة بين الجنسين؛ فإنهم يتذرعون لدعواهم هذه باضطرار المرأة إلى الكدح لنفسها أحيانا في ميدان العمال طلبا للقوت ولوازم المعيشة. فهذه - ولا مراء - حالة واقعة تكثر في المجتمعات الحديثة كلما اختلت فيها وسائل العيش، وتأزمت فيها أسباب الكفاح على الأرزاق. ولكننا نراهم كأنهم يحسبونها حالة حسنة يبنون عليها دعائم المستقبل، ولا يحسبونها حالة سيئة تتضافر الجهود على إصلاحها وتدبير وسائل الخلاص منها، وما هي في الواقع إلا كالحالة السيئة التي دفعت الآباء والأمهات إلى الزج بأطفالهم في ميدان الكفاح على الرزق، فأنكرتها القوانين وحرمتها أشد التحريم، ولم تجعلها حجة تسوغ بقاءها وتقيم عليها ما تستتبعه من النظم الحديثة في الأسرة أو في الحياة الخارجية. •••
وإذا أعطيت هذه الاعتبارات قسطها من الجد والروية، صح لدينا أن الإسلام قد جاء بالهداية الصالحة في تقرير مكان المرأة من الأسرة بالقياس إلى الحالة التي كانت عليها قبل الدعوة الإسلامية، وبالقياس إلى الحالات التي يحتمل أن تئول إليها في جميع الظروف والعوارض الاجتماعية؛ إذ رفعها الإسلام من الهوان الذي ران عليها من ركام العادات الخالية، وأقام حقوقها الزوجية على الأساس الذي يحسن في جميع الأحوال أن تقام عليه.
إن الإسلام لم يمنع الاكتفاء بزوجة واحدة، بل استحسنه وحض عليه، ولم يوجب تعدد الزوجات، بل أنكره وحذر منه، ولكنه شرع لأزواج يعيشون على الأرض ولم يشرع لأزواج تعيش في السماء. ولا مناص في كل تشريع من النظر إلى جميع العوارض والتقدير لجميع الاحتمالات، وفي هذه الاحتمالات - ولا ريب - ما يجعل إباحة التعدد خيرا وأسلم من تحريمه بغير تفرقة بين ظروف المجتمع المختلفة، أو بين الظروف المختلفة التي يدفع إليها الأزواج. •••
وينبغي أن ننبه إلى وهم غالب بين الجهلاء والمتعجلين من المثقفين عن سنن الأديان في تعدد الأزواج قبل الإسلام؛ إذ الغالب على أوهامهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أباح تعدد الزوجات أو أنه أول دين أباحه بعد الموسوية والمسيحية.
وليس هذا بصحيح كما يبدو من مراجعة يسيرة لأحكام الزواج في الشرائع القديمة، وفي شرائع أهل الكتاب، فلا حجر على تعدد الزوجات في شريعة قديمة سبقت قبل التوراة والإنجيل، ولا حجر على تعدد الزوجات في التوراة أو في الإنجيل، بل هو مباح مأثور عن الأنبياء أنفسهم من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد الميلاد، ولم يرد في الأناجيل نص واحد يحرم ما أباحه العهد القديم للآباء والأنبياء، ولمن دونهم من الخاصة والعامة، وما ورد في الأناجيل يشير إلى الإباحة في جميع الحالات والاستثناء في حالة واحدة، وهي حالة الأسقف حين لا يطيق الرهبانية فيقنع بزوجة واحدة اكتفاء بأهون الشرور. وقد استحسن القديس أوغسطين أن يتخذ الرجل سرية مع زوجته إذا عقمت هذه وثبت عليها العقم، وحرم مثل ذلك على الزوجة إذا ثبت لها عقم زوجها؛ لأن الأسرة لا يكون لها سيدان،
2
واعترفت الكنيسة بأبناء شرعيين للعاهل شرلمان من عدة زوجات، وقال وستر مارك
Wester Mark
العالم الثقة في تاريخ الزواج: إن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيرا في الحالات التي تحصيها الكنيسة والدولة. وعرض جروتيوس - العالم القانوني المشهور - لهذا الموضوع في بحث من بحوثه الفقهية فاستصوب شريعة الآباء العبرانيين والأنبياء في العهد القديم. •••
فالإسلام لم يأت ببدعة فيما أباح من تعدد الزوجات، وإنما الجديد الذي أتى به أنه أصلح ما أفسدته الفوضى من هذه الإباحة المطلقة من كل قيد، وأنه حسب حساب الضرورات التي لا يغفل عنها الشارع الحكيم، فلم يحرم أمرا قد تدعو إليه الضرورة الحازبة، ويجوز أن تكون إباحته خيرا من تحريمه في بعض ظروف الأسرة أو بعض الظروف الاجتماعية العامة.
أما أن هذه الظروف قد تضطر أناسا إلى الزواج بأكثر من واحدة، فالأمر فيها موكول إلى الذين يعانون تلك الضرورات من الرجال والنساء، ومن تلك الضرورات أن يحتفظ الرجل بزوجته عقيما أو مريضة لا يريد فراقها ولا تريد فراقه، ومنها أن يتكاثر عدد النساء في أوقات الحروب والفتن مع ما يشاهد من زيادة عدد النساء على الرجال في كثير من الأوقات، فإذا رضيت المرأة في هذه الأحوال أن تتزوج من ذي حليلة، فذلك أكرم لها من الرضى بعلاقة الخليلة التي لا حقوق لها على زوجها، وأكرم لها كثيرا من الرضى بابتذال الفاقة أو بذل النفس في سوق الرذيلة.
ومن حسنات التشريع في جميع هذه الضرورات أنه يحسب حسابها، ولا ينسى الحيطة لاتقاء ما يتقى من أضرارها ومن سوء التصرف فيها ... وكذلك صنع الإسلام بعد إباحة تعدد الزوجات للضرورة القصوى؛ فإنه اشترط فيه العدل ونبه الرجال إلى صعوبة العدل بين النساء مع الحرص عليه:
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة (النساء: 3)،
ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم (النساء: 129).
واشترط على الأزواج القدرة على تكاليف الحياة الزوجية والتسوية في السكن والرزق بينهم وبين الزوجات ...
أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم (الطلاق: 6)،
وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف (البقرة: 233).
ولا يسقط عن الزوج واجب الإحسان في المعاملة سواء اتصلت بينه وبين حليلته آصرة الزواج أو انتهت بينهما هذه الآصرة إلى الفراق بغير رجعة:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله (البقرة: 229).
بل لا يسقط عنه هذا الواجب حتى في حالة الطلاق بعد زواج لم تنعقد فيه الصلة بين الزوجين:
يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (الأحزاب: 49).
وهناك حيطة تعدل سلطان التشريع كله في أمر تعدد الزوجات؛ لأنها تكل القول الفصل فيه إلى اختيار المرأة، فإن شاءت قبلته وإن لم تشأ رفضته، فلا يجوز إكراهها عليه ولا يصح الزواج إذا بني على الإكراه.
وفي الحديث الشريف: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن.» وفيه: إن الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها سكوتها.
3
وقد أبطل النبي
صلى الله عليه وسلم
زواجا أكرهت فيه فتاة بكر على الزواج بأمر أبيها لمصلحة له في زواجها بابن أخيه، وحدثت عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه النسائي: «أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه يرفع له خسيسته وأنا كارهة، فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها فقالت: يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.» (رواه ابن ماجة).
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - فيما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة: «إن جارية بكرا أتت النبي
صلى الله عليه وسلم
فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها رسول الله ...»
وعلماء الفقه متفقون على أن للمرأة الرشيدة أن تلي جميع العقود بنفسها، وأن توكل فيها من تشاء ولا يعترض عليها، وأنها أحق من وليها بالأمر في عقود الزواج إذا خالفها ولم يستأمرها.
ولا حرج على المرأة في تشريع تعدد الزوجات متى كان الرأي فيه موكولا إلى مشيئتها تأبى منه ما تأباه وتقبل منه ما لا ترى فيه غضاضة عليها، أو ترى أنه ضرورة أخف لديها من ضرورات تأباها.
ثم يأتي العرف الاجتماعي فيتولى تنظيم التشريع فوق هذه الولاية الموكولة إلى الزوجات، وإن العرف الاجتماعي ليقدر في هذه الشئون على تنظيم أقوى من كل سلطان، ومن أمثلة التنظيم الذي يتولاه العرف كما قلنا في غير هذا الكتاب: «إنه يحد من رغبات الطبقة الغنية في هذه المسألة كما يحد من رغبات الطبقة الفقيرة فيها على اختلاف أنواع الحدود؛ فالطبقة الغنية أقدر على الإنفاق وأقدر من ثم على تعدد الزوجات، ولكن الرجل الغني يأبى لبنته أن تعيش مع ضرة أو ضرائر متعددات، والمرأة الغنية تطلب لنفسها ولأبنائها نفقات ترتفع مع ارتفاع درجة الغنى حتى يشعر الأغنياء أنفسهم بثقلها إذا تعددت بين زوجات كثيرات؛ فلا ينطلق الزوج الغني في رغباته على حسب غناه، بل يقيم له العرف حدودا وموانع من عنده تكف من رغباته لتثوب به إلى الاعتدال؛ ولهذا نرى في الواقع أن الطبقات الغنية تكتفي بزوجة واحدة في معظم الأحيان. وربما كان للاختيار نصيب من ذلك كنصيب الاضطرار؛ لأن الأغنياء يستوفون حظوظهم من العلم والثقافة؛ فيدركون بلطف الذوق مزايا العطف المتبادل بين زوجين متكافئين في الكرامة والشعور.
والطبقة الفقيرة لا ترفض المرأة فيها ما ترفضه المرأة الغنية من معيشة الضرائر، ولكن العجز عن الإنفاق يمنعها أن تنطلق مع الرغبة كما تشاء، فلا تستبيح تعديد الزوجات بغير حدود. وهكذا تقوم الشريعة في تعدد الزوجات بما عليها ويقوم العرف الاجتماعي بما عليه ، ويقع الإلزام حيث ينبغي أن يقع مع الرغبة والاختيار.»
4
ومما يعمله العرف الاجتماعي في أحوال الضرورة أن يكون الزوج غنيا، وأن تكون المرأة المرغوب فيها من الطبقة الفقيرة؛ ففي هذه الحالة ترغب المرأة المخطوبة في قبول الزوجات باختيارها أو تضطر إليه تطلعا منها إلى معيشة أحب من معيشتها، فلا تزال الضرورة في هذه الحالة أكرم لها من ضرورة تغريها بالتفريط في العرض طمعا في المال. •••
على أن العرف الاجتماعي - مع سلطانه الغالب - قد يستفيد من روح الدين وحكمة التشريع فوق ما يستفيد من نصوصه في أوامره ونواهيه. وروح الدين الإسلامي التي سرت إلى العرف في المجتمعات الإسلامية أن الزواج رحم ومودة وسكن:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم: 21).
فلا زواج بغير مودة ورحمة، ولا حكمة للزواج إن لم يكن ملاذا يأوي فيه الزوجان معا إلى سكن يلقيان عنده أعباء الصراع العنيف في الحياة الخارجية إلى حين. وخير الزواج ما استطاع أن يدبر للإنسان كهفا أمينا يثوب إليه كلما ألجأته المتاعب والشواغل إلى ظلاله. وإنه ليعيش من الدنيا في جحيم موصول العذاب إن لم يكن له فيها ذلك الكهف الأمين وذلك الملجأ الحصين ... فإن عز عليه أن يجده كما أراده فليس ذلك بحجة، على أن حياة الجحيم هي الحياة المثلى، وأن كهوف الأمان ليست بالمطلب الجدير بالطلب والصيان.
ومن قديم الزمن هيأت الأمومة طبيعة المرأة لتدبير ذلك السكن وتزويده بزاد المودة والرحمة. ومن أراد أن يتكلم بلغة «الاستغلال» والانتفاع بالفرص، فله أن يقول إن النوع الإنساني خليق أن يستغل الفوارق بين طبيعتي الجنسين لينتفع بكل منهما غاية ما ينتفعه في موضعه وبحاله، وليكن ذلك من قبيل تقسيم العمل وتخصيص كل طبيعة لما يناسبها ولا يكن خصومة على دعاوى المساواة أو الرجحان؛ فما خلق الجنسان ليكون كل منهما مساويا لصاحبه في طراز واحد من المزايا والملكات، وإنما خلقت لكل منهما مزاياه وملكاته ليكمل بها صاحبه ويزيد بها ثروة النوع كله من خصائص النفس وألوان الفهم والشعور.
وعلى هذه السنة الطبيعية الاجتماعية - من تقسيم العمل وإتقان كل عامل لضرب من ضروبه - يتعاون الزوجان كل فيما هو أصلح له من مطالب الحياة: على الرجل شطر الكفاح في سبيل الرزق وكفاية أهله مئونة الكدح في مضطرب الزحام والصراع، وعلى المرأة شطر السكن الأمين وكلاءة الجيل المقبل في نشأته الأولى، وليس بالشطر الزهيد حضانة الغد وإعداد مستقبل الإنسانية مرحلة بعد مرحلة على الدوام. •••
وتحتوي الشريعة الإسلامية تفصيلا مسهبا عن حقوق كل من الزوجين قبل الآخر وقبل الأسرة في مجموعها، وكلها تتجه إلى هذه الغاية المقصودة من إقامة الأسرة على المودة والرحمة، ولا ينحرف عنها حق من الحقوق عن هذه الغاية بلا استثناء حق التأديب لرب الأسرة؛ فإن حق التأديب لا ينفي المودة والرحمة، ولم ينفهما فيما هو أمس الأمور بالمودة والرحمة؛ وهو تربية البنين وتربية المتعلمين، وتخويل رب الأسرة حق التأديب بدل من أحوال كثيرة كلها غير صالح، وكلها غير معقول في شئون القوامة البيتية، فإما أن يكون لرب الأسرة هذا الحق في معظم الشئون البيتية، وإما أن يستغنى عن التأديب في الأسرة أو يوكل التأديب فيها إلى دور الشرطة والقضاء في كل كبيرة وصغيرة تعرض للزوجين على الرضى والغضب والجهر والنجوى. هذا أو يكون التأديب المسموح به أن ينصرم حبل الزواج وأن ينهدم بناء البيوت على من فيها من الآباء والأمهات والبنين.
ولا يخفى أن عقوبات التأديب إنما توضع للمسيئات والمسيئين، ولا توضع لمن هم غنيون عن التأديب متورعون عن الإساءة، وليس من أدب التشريع أن تسقط الشرائع حساب كل نقيصة تسترذلها وتأنف منها، فما دامت النقيصة من النقائص التي تعرض للإنسان ولو في حالة من ألوف الحالات، فخلو التشريع منها قصور يعاب على الشريعة ولا يمتنع به الضرر الواقع من تلك النقيصة. ولو حذف من القوانين كل عيب تأنف من ذكرها لما بقيت في تلك القوانين بقية تستلزمها الضرورة الموجبة لبقائها؛ إذ كانت العيوب التي لا تأنف الأسماع منها أهون الأضرار الاجتماعية وأغناها عن التشريع والعقاب.
والأدب العام - بعد - شيء غير عقوبات التأديب في القانون؛ فالحياء يأبى للرجل الكريم أن يضرب امرأته وأن يعاملها بما يغض من كرامتها، ومما أنكره النبي
صلى الله عليه وسلم
غير مرة أن يضرب الرجل امرأته وهو يأنس إليها في داره: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العير؟»
إلا أن الخلائق المستحسنة - خلائق الكرامة والحياء - ليست هي الخلائق التي توجب الحساب والعقاب، وليست هي الخلائق التي يقف عندها التشريع وتبطل بعدها فرائض الزجر والمؤاخذة؛ فإذا وضعت العقوبات في مواضعها فلا مناص من أن يحسب فيها الحساب للحميد والذميم من الأخلاق والعيوب، بل لا مناص لحسبان الحساب للذميم خاصة؛ لأن الضرورة هنا ضرورة النهي والردع، وليست ضرورة الثواب والتشجيع. وبين الوعظ والهجر والعقوبة البدنية تتفاوت العقوبات الزوجية في الإسلام، ثم يكون التحكيم أو الفراق:
واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا * وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (النساء: 34-35).
وإنه لمن السخف الرخيص أن يقال إن جنس النساء قد برئ من المرأة التي يصلحها الضرب ولا يصلحها غيره. ونقول: إنه سخف رخيص وخيم؛ لأنه ذلك السخف الذي يضر كثيرا ولا يفيد أحدا إلا الذي يشتري سمعة الكياسة في سوق الحذلقة «التقليدية»، ويسميه الغربيون بينهم باسمه الذي هو به حقيق؛ وهو اسم الدعي المتحذلق
Snob ... ولقد وجد هؤلاء في أمم لم تستكثر عقوبة الجلد على كرامة الرجولة وكرامة الجندية، وغبرت مئات السنين وهي تعلن القوانين التي توجب العقوبة البدنية لمن يخالفون الأوامر أو النظم العسكرية، وإن لهم مع ذلك لندحة من العقوبات المستطاعة في المعاهد العامة كالحبس والتأخير وتنزيل الرتبة وقطع الأجور والحرمان من أنواط الشرف والفصل من الخدمة، فلولا أنها حذلقة خاوية لا تفيد أحدا ولا تدل على كياسة صادقة، لما جاز في عرف هؤلاء الأدعياء أن تسري عقوبة الجلد في مؤاخذة الجنود ، وأن تمتنع بعد إخفاق الحيل جميعا في عقوبة النشوز.
ولم تترك هذه العقوبة على كراهتها بغير حدها المعقول الذي تمليه كل مشكلة بحسبها من الخلق المعهود في آداب الزوجين، وإنما حدها الصالح أن تكون أصلح من الفراق وهدم بناء الأسرة في تقدير الرجل والمرأة، فإن لم تكن كذلك فهي المضارة التي توجب التحكيم بين الأسرتين، أو توجب الطلاق بحكم الشريعة مرجعها الأخير الذي ينبغي أن يؤخر إلى أقصاه بعد انقطاع الحيلة وذهاب الرجاء في الوفاق:
ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه (البقرة: 231).
ويحق للمرأة عند نشوز زوجها وإعراضه أن تلجأ إلى حكم غير حكمه ترضاه قبل شكواها من أذى المضارة التي توجب الطلاق ...
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير (النساء: 128). •••
فإذا جاز لباحث يتوخى الصدق أن يعقب على تشريع الإسلام، فمن واجبه أن يحمد لهذا التشريع أنه قدر للواقع حسابه، وأحاط كل تقدير بما يستدعيه من الحيطة والضمان الميسور في أمثال هذه العلاقات، وإن نظرة الشريعة الإسلامية إلى حقوق المرأة من مبدئها قد كانت نظرة تصحيح لما سلف من الشرائع، وإتمام لما نقص فيها.
فلم يكن للزواج حدود في الشرائع الوضعية، ولا في الشرائع الدينية قبل الإسلام، ولا كان فيها ما يعتبر شريعة وافية مقدرة لأحواله وضروراته عند المقارنة بينها وبين الشريعة الإسلامية.
كانت المرأة كالرقيق في قوانين الدولة التي كانت تسمى أم القوانين وهي الدولة الرومانية.
وكانت حطاما يحرق بقيد الحياة على ضريح زوجها في الديانة البرهمية.
وكانت ديانة العهد القديم تبيح لمن يشاء أن يتزوج ما يشاء بلا قيد ولا ضمان، وبهذه الإباحة وردت فيه أخبار إبراهيم ويعقوب وموسى وداود وسليمان.
ثم جاءت المسيحية فلم تنقض حكما من أحكام الناموس في أمر الزواج. وسئل بولس الرسول عن شرط الأسقف فكتب في رسالته الأولى إلى تيموثاوس أنه ينبغي أن يكون «بلا لوم بعل امرأة واحدة»، وهو تخصيص لا موجب له لو كان هذا هو الحكم العام المرعي بين جميع المؤمنين بالدين .
وظل آباء الكنيسة في الغرب يبيحون تعدد الزوجات، ويعترفون بأبناء الملوك الشرعيين من أزواج متعددات، فلما منعته بعد القرن السابع عشر على إثر الخلاف بينها وبين الملوك الخارجين عليها؛ كانت حجة منعه أن الاكتفاء بالواحدة أخف الشرور لمن لا يقدر على الرهبانية، ولم يكن منعه إكبارا لشأن المرأة يوم كان الخلاف بينهم على أنها ذات روح أو أنها جسد بغير روح ... ولم يكن بينهم خلاف يومئذ على أنها حبالة الشيطان، أبعد ما يكون الإنسان عنها أسلم ما يكون.
وبينما أمم الحضارة في إجماعها هذا على تلك النظرة الزرية إلى المرأة كانت أمة الصحراء تقضي فيها قضاء لا خيار بينه وبين ما عداه؛ كانت تتشاءم بمولدها، ولا تبالي أن تعالجها بالدفن في مهدها، مخافة العار أو مخافة الإملاق.
ومن تلك الزاوية النائية عن العالم تقبل عليه دعوة سماوية تنصفها من ظلم وترفعها من ضعة، وتبسط لها كنف المودة والرحمة وتنتزع لها من القلوب عدلا أعيى على الرءوس، وتقيد من مباح الزواج ما لم يقيده عرف ولا قانون، وتجعل لها الخيار بين ما ترضاه منه وما تأباه، وتستجد لها حياة يستحي المنصف والمكابر أن يجحدا فضلها العميم على ما كانت عليه.
وأما بعد هذا فماذا جاءت به القرون بعد القرون من زيادة لها على نصيبها من عدل الإسلام؟
خير ما لها في الإسلام لم يدركه خير ما لها في العصر الحديث، وشر ما يصيبها من الإسلام رحمة ونعمة بالقياس إلى الشر الذي يسلمها العصر الحديث إليه.
ولا تزال فضائل العصر الحديث في حاضرها ومآلها دعوى لم يؤيدها ثبوت من حوادث الواقع، ولا من مبادئ النظر.
فأما حوادث الواقع فشكوى المرأة منها في بيتها وفي دنياها كأسوأ ما كانت في عهد من العهود.
وأما مبادئ النظر فلا خير للمرأة أن تكون على مبدأ القرون الوسطى شيطانا يسلم الإنسان ما سلم منه، ولا خير لها أن تكون على مبدأ الفروسية الكاذبة ملكا في مباذل السوقة، ولا هي في خير مع الناس حتى يقنعوا لها الطبيعة - إن استطاعوا - ويقنعوا أنفسهم قبلها أن المرأة والرجل ندان متساويان متعادلان. (4) زواج النبي
يندر أن يطرق خصوم الإسلام موضوع الزواج دون أن يعرجوا منه إلى زواج النبي، ويتذرعوا به إلى القدح في شخصه الكريم والتشكيك من ثم في دعوته المباركة ودينه القويم.
وللإسلام خصوم محترفون وخصوم ينكرونه على قدر جهلهم به وبسيرة نبيه - عليه السلام.
ولا خفاء بخصومه المحترفين؛ فهم جماعة المبشرين الذين اتخذوا القدح في الإسلام صناعة يتفرغون لها ويعيشون منها، وصناعتهم هذه لا تصطنع عملا لها أهم وأخطر من عملها في تبشير المسلمين أو تبشير الوثنيين وأشباه الوثنيين لكيلا يتحولوا من الوثنية إلى الإسلام؛ فلا غنى لأصحاب هذه الخصومة - أو هذه الحرفة - من اختلاق المآخذ وتصيد التهم التي تجري بها أرزاقهم وتتصل بها أعمالهم، سواء عرفوا الحقيقة من وراء هذه المآخذ وهذه التهم أو جهلوها وأعرضوا عن البحث فيها؛ لأنهم يريدون الاتهام ولا يستريحون إلى معرفة تهدم كل ما عملوه وتصرفهم عن كل ما ألفوه وعقدوا النية عليه.
أما خصوم الإسلام من غير زمرة المبشرين فأكثرهم يخاصمونه على السماع، ولا يعنيهم أن يبحثوه ولا أن يبحثوا دينا من الأديان، حتى الدين الذي آمنوا وشبوا من حجور أمهاتهم عليه. وقليل من أولئك الخصوم غير المحترفين من يتلقف الدراسات الإسلامية تلقفا لا يفيد الدارس، ولا ينبغي منه إلا أن يعلم ما تعلمه لطائفة من التلاميذ يكفيهم منه أن يعرف من أخبار الإسلام ما لم يعرفوه. وبعض هؤلاء الدارسين المدرسين حسن النية؛ لا يأبى أن يعترف بالحقيقة إذا استمع إليها، وبعضهم سيئ النية؛ لأنه مسخر في خدمة الاستعمار وما إليها من الدعايات الدولية؛ فلا يعنيه من المعرفة إلا ما يملى له في عمله ويمهد لدعايته.
وما اتفق خصوم الإسلام - عن سوء نية - على شيء كما اتفقوا على خطة التبشير في موضوع الزواج على الخصوص، فكلهم يحسب أن المقتل الذي يصاب منه الإسلام في هذا الموضوع هو تشويه سمعة النبي - عليه السلام - وتمثيله لأتباعه في صورة معيبة لا تلائم شرف النبوة ، ولا يتصف صاحبها بفضيلة الصدق في طلب الإصلاح، وأي صورة تغنيهم في هذا الغرض الأثيم كما تغنيهم صورة الرجل الشهوان الغارق في لذات الجسد العازف في معيشته البيتية ورسالته العامة عن عفاف القلب والروح؟
إنهم لعلى صواب في الخطة التي تخيروها لإصابة الإسلام في مقتله من هذا الطريق الوجيز.
وإنهم لعلى أشد الخطأ في اختيارهم هذه الخطة بعينها؛ إذ إن جلاء الحقيقة في هذا الموضوع أهون شيء على المسلم العارف بدينه، المطلع على سيرة نبيه، فإذا بمقتلهم المظنون حجة يكتفي بها المسلم ولا يحتاج إلى حجة غيرها لتعظيم نبيه وتبرئة دينه من قالة السوء الذي يفترى عليه.
فلا حجة للمسلم على صدق محمد - عليه السلام - في رسالته أصدق من سيرته في زواجه وفي اختيار زوجاته، وليس للنبوة من آية أشرف من آيتها في معيشة نبي الإسلام من مطلع حياته إلى يوم وفاته.
ما الذي يفعله الرجل الشهوان الغارق في لذات الجسد إذا بلغ من المكانة والسلطان ما بلغه محمد بين قومه؟
لم يكن عسيرا عليه أن يجمع إليه أجمل بنات العرب، وأفتن جواري الفرس والروم على تخوم الجزيرة العربية.
ولم يكن عسيرا عليه أن يوفر لنفسه ولأهله من الطعام والكساء والزينة ما لم يتوفر لسيد من سادات الجزيرة في زمانه.
فهل فعل محمد ذلك بعد نجاحه؟
هل فعل محمد ذلك في مطلع حياته؟
كلا، لم يفعله قط بل فعل نقيضه، وكاد أن يفقد زوجاته لشكايتهن من شظف العيش في داره.
ولم يحدث قط أن اختار زوجة واحدة لأنها مليحة أو وسيمة، ولم يبن بعذراء قط إلا العذراء التي علم قومه جميعا أنه اختارها؛ لأنها بنت صديقه وصفيه وخليفته من بعده: أبي بكر الصديق - رضي الله عنه.
هذا الرجل - الذي يفتري عليه الأثمة الكاذبون أنه الشهوان الغارق في لذات حسه - قد كانت زوجته الأولى تقارب الخمسين، وكان هو في عنفوان الشباب لا يجاوز الخامسة والعشرين وقد اختارته زوجا لها؛ لأنه الصادق الأمين فيما اشتهر به بين قومه من صفة وسيرة، وفيما لقبه به عارفوه وعارفو الصدق والأمانة فيه. وعاش معها إلى يوم وفاتها على أحسن حال من السيرة الطاهرة والسمعة النقية، ثم وفى لها بعد موتها فلم يفكر في الزواج حتى عرضته عليه سيدة مسلمة رقت له في عزلته فخطبت له السيدة عائشة بإذنه، ولم تكن هذه الفتاة العزيزة عليه تسمع منه كلمة لا ترضيها غير ثنائه على زوجته الراحلة ووفائه لذكراها.
وما بنى - عليه السلام - بواحدة من أمهات المسلمين لما وصفت به عنده من جمال ونضارة، وإنما كانت صلة الرحم والضن بهن على المهانة هي الباعث الأكبر في نفسه الشريفة على التفكير في الزواج بهن. ومعظمهن كن أرامل مأيمات فقدن الأزواج أو الأولياء، وليس من يتقدم لخطبتهن من الأكفاء لهن إن لم يفكر فيهن رسول الله.
فالسيدة سودة بنت زمعة مات ابن عمها المتزوج بها بعد عودته من الهجرة إلى الحبشة، ولا مأوى لها بعد موته إلا أن تعود إلى أهلها فيكرهوها على الردة أو تتزوج بغير كفء لها أو بكفء لها لا يريدها.
والسيدة هند بنت أبي أمية - أم سلمة - مات زوجها عبد الله المخزومي، وكان أيضا ابن عمها، أصابه جرح في غزوة أحد فقضى عليه، وكانت كهلة مسنة فاعتذرت إلى الرسول - عليه السلام - بسنها لتعفيه من خطبتها، فواساها قائلا: سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك وأن يخلفك خيرا، فقالت: ومن يكون خيرا لي من أبي سلمة؟ وكان الرسول عليه السلام يعلم أن أبا بكر وعمر قد خطباها فاعتذرت بمثل ما اعتذرت به إليه، فطيب خاطرها وأعاد عليها الخطب حتى قبلتها.
والسيدة رملة بنت أبي سفيان تركت أباها وهاجرت مع زوجها إلى الحبشة، فتنصر زوجها وفارقها في غربتها بغير عائل يكفلها، فأرسل النبي - عليه السلام - إلى النجاشي يطلبها من هذه الغربة المهلكة وينقذها من أهلها إذا عادت إليهم راغمة من هجرتها في سبيل دينها، ولعل في الزواج بها سببا يصل بينه وبين أبي سفيان بوشيجة النسب فتميل به من جفاء العداوة إلى مودة تخرجه من ظلمات الشرك إلى هداية الإسلام.
والسيدة جويرية بنت الحارث سيد قومها كانت بين السبايا في غزوة بني المصطلق، فأكرمها النبي
صلى الله عليه وسلم
من أن تذل ذلة السباء فتزوجها وأعتقها، وحض المسلمين على إعتاق سباياهم فأسلموا جميعا وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه والبقاء عند رسول الله، فاختارت البقاء في حرم رسول الله.
والسيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب مات زوجها، فعرضها أبوها على أبي بكر فسكت وعرضها على عثمان فسكت، وبث عمر أسفه للنبي فلم يشأ أن يضن على صديقه ووليه بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر قبله، وقال له: يتزوج حفصة من هو خير لها من أبي بكر وعثمان.
والسيدة صفية الإسرائيلية بنت سيد بني قريظة خيرها النبي بين أن يردها إلى أهلها أو يعتقها ويتزوجها، فاختارت البقاء عنده على العودة إلى ذويها، ولولا الخلق الرفيع الذي جبلت عليه نفسه الشريفة لما علمنا أن السيدة صفية قصيرة يعيبها صواحبها بالقصر، ولكنه سمع إحدى صواحبها تعيبها بقصرها فقال لها ما معناه من روايات لا تخرج عن هذا المعنى: إنك قد نطقت بكلمة لو ألقيت في البحر لكدرته، وجبر خاطر الأسيرة الغريبة أن تسمع في بيته ما يكدرها ويغض منها.
والسيدة زينب بنت جحش - ابنة عمته - زوجها من مولاه ومتبناه زيد بن حارثة، فنفرت منه وعز على زيد أن يروضها على طاعته، فأذن له النبي في طلاقها، فتزوجها - عليه السلام - لأنه هو المسئول عن زواجها، وما كان جمالها خفيا عليه قبل تزويجها بمولاه؛ لأنها كانت بنت عمته يراها من طفولتها ولم تفاجئه بروعة لم يعهدها.
والسيدة زينب بنت خزيمة مات زوجها عبد الله بن جحش قتيلا في غزوة أحد، ولم يكن بين المسلمين القلائل في صحبته من تقدم لخطبتها، فتكفل بها - عليه السلام - إذ لا كفيل لها من قومها.
وهذا هو التحريم المشهور في أباطيل المبشرين وأشباه المبشرين، وهذه هي بواعث النفس التي استعصى على المبطلين أن يفهموها على جليتها، فلم يفهموا منها إلا أنها بواعث إنسان غارق في لذات الحس شهوان !
ولقد أقام هؤلاء الزوجات في بيت لا يجدن فيه من الرغد ما يجده الزوجات في بيوت الكثيرين من الرجال مسلمين كانوا أو مشركين. وعلى هذا الشرف الذي لا يدانيه عند المرأة المسلمة شرف الملكات أو الأميرات، شقت عليهن شدة العيش في بيت لا يصبن فيه من الطعام والزينة فوق الكفاف والقناعة بأيسر اليسير، فاتفقن على مفاتحته في الأمر واجتمعن يسألنه المزيد من النفقة، وهي موفورة لديه لو شاء أن يزيد في حصته من الفيء، فلا يعترضه أحد ولا يحاسبه عليه، إلا أن الرجل المحكم في الأنفس والأموال - سيد الجزيرة العربية - لم يستطع أن يزيدهن على نصيبه ونصيبهن من الطعام والزينة، فأمهلهن شهرا وخيرهن بعده أن يفارقنه، ولهن منه حق المرأة المفارقة من المتاع الحسن، أو يقبلن ما قبله لنفسه معهن من ذلك العيش الكفاف.
ولو أن هذا الخبر من أخبار بيت النبي كان من حوادث السيرة المحمدية التي تخفى على المطلعين المتوسعين في الاطلاع، لكان للمبطلين بعض العذر فيما يفترونه على نبي الإسلام من كذب وبهتان، إلا أنه خبر يعلمه كل من اطلع على القرآن ووقف على أسباب التنزيل، وليس بينها ما هو أشهر في كتب التفسير من أسباب نزول هذه الآيات في سورة الأحزاب:
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا * وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (الأحزاب: 28-29).
وأقل المبشرين المحترفين ولعا بالتفتيش عن خفايا السيرة النبوية خليق أن يطلع على تفاصيل هذا الحادث بحذافيره؛ لأنه ورد في القرآن الكريم خاصا بالمسألة التي يتكالب المبشرون المحترفون على استقصاء أخبارها وإحصاء شواردها، وهي مسألة الزواج وتعدد الزوجات. وقد كان لهذا الحادث الفريد في سيرة النبي صدى لم يبلغه حادث من الحوادث التي عنيت بها العشيرة الإسلامية حين كانت في بيئتها المحدودة تحيط بإيمانها إحاطة الأسرة بأبيها.
حدث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «كنا تحدثنا أن غسان تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء فضرب بابي ضربا شديدا وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم! قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا بل أعظم منه وأطول؛ طلق النبي
صلى الله عليه وسلم
نساءه ...»
ولما تألب ربات البيت يشكون ويلحفن في طلب المزيد من النفقة لبث النبي في داره مهموما بأمره، وأقبل أبو بكر فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم، فدخل الدار ولحق به عمر بن الخطاب فوجد النبي واجما وحوله نساؤه، فأحب أبو بكر أن يسري عنه بكلمة يقولها ... وكأنه فطن لسر هذا الوجوم من النبي بين نسائه المجتمعات حوله، فقال: «يا رسول الله! لو رأيت بنت خارجة، سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها! فضحك النبي وقال: هن حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها، ويقولان: تسألن رسول الله ما ليس عنده؟ فقلن: والله لا نسأل رسول الله شيئا - أبدا - ليس عنده ...»
وهجر النبي نساءه شهرا، يمهلهن أن يخترن بعد الروية بين البقاء على ما تيسر له ولهن من الرزق وبين الانصراف بمتعة الطلاق. وبدأ بالسيدة عائشة فقال: إني أريد أن أعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك. فسألته: وما هو يا رسول الله؟ فعرض عليها الخيرة مع سائر نسائه في أمرهن، فقالت: أفيك يا رسول الله أستشير قومي؟ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأجابت أمهات المسلمين بما أجابت به السيدة عائشة، وانتهت هذه الأزمة المكربة بسلام، وما استطاع صاحب الدار - وهو يومئذ أقدر رجل في العالم المعمور - أن يحل أزمة داره بغير إحدى اثنتين: أن يجمع النية على فراق نسائه أو يقنعن معه بما لديهن من رزق كفاف.
أعن مثل هذا الرجل يقال إنه حلس شهوات وأسير لذات؟
أعن مثله يقال إنه ابتغى من رسالته مأربا يبغيه الدعاة غير الهداية والإصلاح؟
فيم كان هذا الشقاء بأهوال الرسالة وأوجالها من ميعة الشباب إلى سن لا متعة فيها لمن صاحبه التوفيق والظفر ، أو لمن صاحبته الخيبة والهزيمة؟
ومن أراد الدعوة لغير الهداية والإصلاح فلماذا يريدها، وما الذي يغنمه من ورائها؟
أتراه يريدها مخاطرا بأمته وحياته مستخفا بالهجرة من وطنه والعزلة بين أهله، ليسوم نفسه بعد ذلك عيشة لا يقنع بها أقرب الناس منه وأعلاهم شرفا بالانتماء إليه؟
أمن أجل الحس ولذاته يتزوج الرجل بمن تزوج بهن وهو سيد الجزيرة العربية، وأقدر رجالها على اصطفاء النساء الحسان من الحرائر؟
وهل يتزوج بهن الشهوان الغارق في لذات الحس ليقتدين به في اجتواء الترف والزينة وخلوص الضمير للإيمان بالله وابتغاء الدار الآخرة؟
وما مأربه من كل ذلك إن كان له مأرب في طويته غير مأربه في العلانية؟
وعلام يجاهد نفسه ذلك الجهاد في بيته وبين قومه إن لم تكن له رسالة يؤمن بها، ولم تكن هذه الرسالة أحب إليه من النعمة والأمان؟
إن المبشرين المحترفين لم يكشفوا من مسألة الزواج في السيرة النبوية مقتلا يصيب محمدا أو يصيب دعوته من ورائه، ولكنهم قد كشفوا منها حجة لا حجة مثلها في الدلالة على صدق دعوته وإيمانه برسالته، وإخلاصه لها في سره كإخلاصه لها في علانيته، ولولا أنهم يعولون على جهل المستمعين لهم لاجتهدوا في السكوت عن مسألة الزواج خاصة أشد من اجتهادهم في التشهير بها واللغط فيها.
وعلم الله ما كانت براءة محمد من فريتهم مرتهنة بجلاء الحقيقة في مسألة الزواج والزوجات؛ فإن أحدا يفقه ما يفوه به ولا يسيغ أن يقول إن عملا كالذي قام به محمد يضطلع به رجل غارق في لذات الحس مشغول بشهوات الجسد. ولئن كان كذلك ثم استطاع أن يتم دعوته في حياته، وأن يبقيها تامة قوية لخلفائه ليكونن إذن آية الآيات على تكوين من الخلق لا يدانيه تكوين.
ولسنا نعتقد أن دينا رفيعا يسول للمتدين به أن يفتري الأباطيل على خلق الله، وأقبح من ذلك في شرع الدين الرفيع أن يكون الافتراء على الناس سبيلا إلى التبشير بكلمات الله، ولكن المبشرين المحترفين لا يدينون بالله ولا بالناس، وإنما يدينون بعبادة الجسد الذي ينكرونه ذلك الإنكار ويؤمنون به في أعمالهم وأقوالهم أخس الإيمان. (5) الطبقة
الطبقة في المجتمع هي الفئة التي تتشابه به في درجة العمل، ونمط المعيشة ومأثور الخلق والعادة، وهي - بعد الأمة والأسرة - أكثر الوحدات الاجتماعية ذكرا وأكبرها خطرا في العصر الحاضر.
والناس مصطلحون على تقسيم الطبقات إلى ثلاث: غنية وفقيرة وميسورة، أو عليا ودنيا ووسطى، ولعله تقسيم مستعار من مرتفعات المكان التي يمكن أن تنقسم إلى فوقية وتحتية ومستوية، أو من الرسوم الجغرافية التي يمكن أن تنقسم إلى شرقية وغربية ومتوسطة، أو تنظيمات الجيوش التي يمكن أن تنقسم إلى طليعة وساقة وقلب. أما تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات من حيث درجات العمل وأنماط المعيشة ومأثورات الخلق والعادة، فهو تقسيم على وجه التشبيه والتقريب، كأنه تقسيم الناس إلى ثلاثة ألوان بين البياض والسواد، أو تقسيمهم إلى ثلاثة أشكال من ملامح الوجوه؛ وكلها تقسيمات تقبل على وجه التشبيه والتقريب لا على وجه الدقة والتحقيق.
فلا نهاية للفوارق بين الناس في الطائفة الواحدة ولا في العمل الواحد، ولا يوجد فاصل واحد تنحصر فيه أسباب التفرقة بين طائفة وطائفة أو بين واحد وواحد من أبناء الطائفة؛ لأن المرجع في أسباب هذه التفرقة لا يقف بنا في النهاية دون الظاهرة الكونية التي لا يشذ عنها كائن واحد بين السماوات والأرضين، فليس في أجرام السماوات الواسعة جرمان يتساويان في الحجم أو في الحركة أو في الضوء أو في المسافة، وليس على فرع واحد من شجرة ورقتان تتساويان في السعة أو في اللون أو في الموضع أو في مادة العصا النباتية، وليست هنالك ورقة واحدة تتساوى في وقتين من أوقات النهار والليل.
وإذا بلغ من عمق هذه الظاهرة الكونية واتساعها أن تتمثل في المادة الجامدة في تركيبها المحدود، فأحرى بالجماعة الإنسانية التي لا تنحصر تراكيبها الحسية والمعنوية ألا تضيق فيها عوامل هذه الظاهرة حتى تنحصر برمتها في سبب من أسباب الأخلاق أو سبب من أسباب الفكر أو أسباب الاقتصاد أو أسباب العوارض الطبيعية؛ فإن هذه العوامل المتشابكة في كل جماعة إنسانية تتساند وتتناظر وتعمل عمل الأضداد كما تعمل عمل الأشباه في كل معرض من معارض الحياة، ونحسب أنه لو جاز أن يكون بينها عامل أضعف من سائر العوامل، لكان أضعفها جميعا عامل الاقتصاد الذي زعم جماعة الماديين التاريخيين أنه هو عاملها الوحيد، أو عاملها الذي لا يقوى على مناهضته عامل سواه.
في بلاد الطبقات - بلاد الهند - لم تكن السيادة العليا لطبقة التجار وذوي الأموال والمرافق الصناعية والزراعية، بل كان هؤلاء معدودين من الطبقة الثالثة أو الثانية على أكبر تقدير، ومن فوقهم جميعا طبقة المقاتلين وفرسان الحروب وذوي الشجاعة والدربة على استخدام السلاح.
والإقطاعيون في أوروبا لم يكونوا يوما من أيامهم طبقة متفقة في المصلحة أو متجاورة على وئام وسلام، بل كان اسمها نفسه مشتقا من المنازعة والخصومة، وكانت العداوة بين كل فارس منها وجيرانه أشد من العداوة بين الفارس والفلاح.
ورأس المال زال من البلاد الروسية وزال معه أغنياؤها وسراتها ونبلاؤها، وظهرت فيها - مع هذا - طبقة حاكمة من الخبراء والمهندسين لا تدانيها في سطوتها واستبدادها طبقة حاكمة في أشهر البلاد باستبداد نظم الصناعة ورءوس الأموال.
والصناعة الكبرى لم تكن هي الطور الاقتصادي الأخير الذي جرد العمال طبقة مستقلة تتقدم الصفوف لما يسمونه حرب الطبقات، ولكنهم تجردوا لهذه الحرب؛ لأنهم تجمعوا في أمكنة متقاربة يتفقون فيها على المطالب والحركات، ويستطيعون باتفاقهم أن يعطلوا الأعمال في المصانع ويكرهوا أصحابها على الإصغاء إليهم، وكذلك فعل العمال في عهد الرومان قبل عهد الصناعة الكبرى بنحو عشرين قرنا حين ثاروا بقيادة «سبارتكوس»، وفعل عمال إسبرطة قبلهم ما فعلوه، ومنهم طوائف «الهيلوب» الذين كانوا يقتسمون حصة من غلال الأرض الزراعية كما كانوا يتقاضون الأجور.
والطبقة الغنية يخرج منها من يخرج ويدخل إليها من يدخل كلما تغيرت فيهم صفاتهم النفسية أو الفكرية؛ فغني اليوم فقير الغد، وفقير الأمس غني اليوم، على حسب صفاتهم أو حسب الفرص التي تتهيأ لهم ويسوسونها بعقولهم وأخلاقهم، لا لأن العوامل الاقتصادية وحدها هي التي تخلق طبقات المجتمع وتبقيها إلى أن تتبدل هذه فتتبدل تلك معها، كأنهما - معا - كتلة صماء تتغير من فترة إلى فترة، ولا عمل فيها لإرادة الداخلين فيها ولا الخارجين منها. •••
وستبقى الطبقات ما بقي الناس مختلفين، وسيبقى الاختلاف بينهم بلا عد وبلا حد، يقسمه من يريد التقريب والإيجاز ثلاثا ثلاثا أو أربعا أربعا أو اثنتين اثنتين، إلا أنه سيرجع في مئات الفوارق وألوفها إلى تلك الظاهرة الكونية التي لا تدع ورقتين على فرع واحد من الشجرة الواحدة متشابهتين كل التشابه في تركيب الأجزاء، وأحرى ألا يتشابه التركيب في الجماعات الإنسانية ولو تشابهت ظروفها الاقتصادية كل التشابه فيما بدا واستتر، وفيما يملكه الأفراد أو تملكه الجماعات من إرادة وتدبير. •••
ويحق لنا أن ننظر إلى المسألة من وجهة أخرى غير وجهة الواقع الذي لا حيلة لنا فيه، فنسأل: أترانا نسلم لهذه الظاهرة الكونية لأنها قضاء حتم ينفذ فينا كما ينفذ في الكون كله من أعلاه إلى أدناه؟ أترانا نبدل من هذه الظاهرة الكونية لو ملكنا التبديل في حياتنا الإنسانية؛ فلا ندع بين الإنسان والإنسان موضعا لاختلاف التركيب في الأجسام أو في العقول أو في الأحوال والأطوار؟
لو أننا فعلنا ذلك لظلمنا أنفسنا وحرمنا النوع الإنساني ثروة من الأفكار والعواطف والأذواق يجني علينا الحرمان منها أفرادا وجماعات ... فإن هذه الثروة النفسية هي التي تميزنا من الأحياء الدنيا، وهي التي تميز المتقدمين منا على المتأخرين، وهي التي تفيدنا من تنويع الكفايات وتوزيع الأعمال، وتجعل كل فريق منا لازما لكل فريق بين سكان الكرة الأرضية قاطبة أو بين السكان في كل بقعة من بقاعها على انفراد. ويظل هذا التنويع في أفكارنا وأخلاقنا وأذواقنا ثروة نفسية نحرص عليها ولو ثبت أنها - في أصولها - ضرورات اجتماعية تقسرنا عليها المنفعة المادية والحاجة الحيوانية؛ فإن الضرورات التي تفتح لنا آفاقا من الفكر والخلق والذوق تنوعها وتوسع جوانبها خير من الضرورة التي تحبسنا في أفق ضيق يهبط بنا شيئا فشيئا إلى حضيض تحت حضيض من الحيوانية العجماء.
فلو أننا ملكنا زمام أمانينا بأيدينا لما طاب لنا أن نلغي طبقات الناس التي يخلقها تنوع الأفكار والأخلاق والأذواق، ولا بد أن يخلق معها اختلافا في درجات الأعمال وأنماط المعيشة ومأثورات العرف والعادة؛ فإن شر المجتمعات لمجتمع متشابه قليل المزايا يصدق عليه ما قاله الشاعر العربي بفطرته السليمة في بني الجهيم:
وبنو الجهيم قبيلة ملعونة
حص اللحى متشابهو الألوان
وإن مجتمعا كهذا المجتمع الضيق المتشابه في أحوال أبنائه وأطوارهم لشر من المجتمع الذي تتنوع فيه الأحوال والأطوار، ولو طغى فيه أناس على آخرين وثار فيه المقهورون على الطغاة القاهرين، فإنه يئول في آخرة المطاف إلى بقاء الأصلح من الفريقين أو بقاء الصالح من أخلاق كل فريق.
ولعلنا نرجو من هذا الصراع خيره في هذا العصر إذا كان من آثار شروره أن نعلم بها، وأن نعرف ما نحذره منها، ونسعى إلى اجتنابه بما في وسعنا، فإذا لم يكن من أمانينا أن نمحو الاختلاف لأنه محو للتنويع أو محو لثروتنا الإنسانية، فليكن من أمانينا أن نجعله اختلافا لا طغيان فيه ولا استئثار، ولا مذلة فيه من الجانب الآخر ولا حرمان.
وخير المجتمعات إذن مجتمع يسمح للكفايات والمزايا الخلقية بالمجال الذي يناسبها في الحياة العامة، ولكنه لا يسمح لها بأن تحرم أحدا حقه أو تقف بينه وبين مجاله الذي استعد له بما هو أهله، ولو لم يولد فيه ولم يكن منه بالنسب والوراثة.
وهذا المجتمع هو الذي يأمر به الإسلام ويحمده ويزكيه بتعاليمه ووصاياه.
فهو لا يمنع التفاوت بين أقدار الناس وإن كانوا من الأنبياء والمرسلين:
ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض (الإسراء: 55)،
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات (البقرة: 253).
ولا يسوي الإسلام بين العلماء والجهلاء، ولا بين المؤمنين في صدق الإيمان:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9)،
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (المجادلة: 11). •••
وليس من العدل في الإسلام أن يختلف الناس في العمل ويتساووا في الأرزاق؛ فهم مختلفون في درجات الرزق كاختلافهم في درجات العلم والإيمان:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات (الزخرف: 32)،
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق (النحل: 71). •••
إلا أن هذا التفاضل في العلم أو في الرزق لا يقوم على النسب الموروث ولا على الغصب والسطوة، وإنما يقوم على العمل، ولا يحق لأحد أن يحتفظ به إلا بمقدار ما يبتغي فيه بعمله:
إنما المؤمنون إخوة (الحجرات: 10)،
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم (الأنعام: 165)،
ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون (الأنعام: 132).
ولا يخفى أن المجتمع الإسلامي مجتمع ضمائر ونفوس يخاطبها الدين، ولديها سبل الخطاب الذي يراد به صلاح العقول والأبدان، فإذا خص الإسلام طائفة بالخطاب فتلك هي الطائفة التي تمتاز بالعلم والقوامة الفكرية في الأمة، ولا يحمد الإسلام من مجتمع إنساني أن يخلو من هذه الطائفة التي تناط بها النصيحة، وتوكل إليها مهمة الهداية إلى الرشد والتحذير من الضلالة في مصالح الدين والدنيا، وتلك هي جماعة أهل الذكر وجماعة الداعين إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهي الجماعة التي سماها فقهاء الإسلام بعد ذلك بأولي الحل والعقد، ووكلوا إليها ترشيح الإمام والرقابة على ولاية الأمور، تطوعا لا يندبهم له أحد ولا يفرضه أمر مرسوم يتحكم فيه سلطان الدولة، ولكنها أمانة العلم ينهض بها من هو أهل لها، ويستمع له من يستمع وهو مسئول عن صوابه أو خطئه في الثقة والاختيار:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل: 43)،
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران: 104).
وأسوأ المجتمعات في الدين الإسلامي مجتمع أقوام لا يتواصون بالخير ولا يتناهون عن منكر فعلوه، إلا أن الإسلام يعنى بالضمائر والنفوس ويقرن إلى ذلك على الدوام عنايته بمرافق الدنيا ومصالح الأجسام. •••
فالمسلم مأمور كما تقدم - في غير موضع - بأن يستوفي نصيبه من طيبات دنياه، وله أن يجمع من المال ما يستحقه بعمله وتدبيره، ولكن في غير إسراف ولا استئثار ولا احتكار.
كسب المال مباح محمود، ولكن الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في الخير ملعونون مستحقون للعذاب الأليم:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (التوبة: 34).
وصلاح المال أن تتداوله الأيدي
كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (الحشر: 7).
وليس من الخير في غنى المال أن يجمعه الإنسان حتى يطغيه:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى (العلق: 6-7).
أما المحتكرون فهم منبوذون من المجتمع الإسلامي يبرأ منهم ويلعنهم الله، كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون.»
5
وكما جاء فيها: «من احتكر طعاما أربعين يوما يريد به الغلاء فقد برئ من الله وبرئ الله منه.»
ودفعا للحيلة في المضاربة بالنقد أو بالطعام لاحتكاره وتحليل الربا عليه؛ فقد نهى - عليه السلام - أشد النهي عن مبادلة المعادن والأطعمة المتماثلة بزيادة فيها، فقال في روايات متشابهة: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ...»
والإسلام يحب للمسلم أن يعمل ويكسب، ويكره له أن يتبطل ويتكل على غيره. وأحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم
تؤكد الأوامر الإلهية في هذا المعنى فيما يجمعه قوله تعالى:
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (التوبة: 105).
والنبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال.»
ويقول: «أفضل الكسب كسب الرجل بيده.»
وكان الخليفة العظيم عمر بن الخطاب مؤسس الدولة الإسلامية يقول: «والله لئن جاءت الأعاجم بالأعمال وجئنا بغير عمل فهم أولى بمحمد منا يوم القيامة، فإن من قصر به عمله لا يسرع به حسبه ...»
فلا عذر في المجتمع الإسلامي لمن يقعد عن العمل والكسب وهو قادر عليهما. أما الذي يقعد عنهما اضطرارا لعجز أصابه أو حرج وقع فيه، فله على المجتمع حق مفروض لا هوادة فيه يؤديه عنه كل من ملك نصاب الزكاة، وهي إحدى الفرائض الخمس التي بني عليها الإسلام، ولم يتكرر في القرآن الكريم ذكر فريضة منها كما تكرر ذكر هذه الفريضة بلفظها أو بلفظ يدل عليها كالصدقة والإحسان والبر وإطعام اليتامى والمساكين. ومن الآيات التي ورد فيها الحض على الزكاة ما يعلم المسلم أن البر في العقيدة وإيتاء المال لأصحاب الحق المشروع فيه:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب (البقرة: 177).
ومما ورد في الحض على الزكاة باسم الصدقات مع بيان مستحقيها قوله تعالى في سورة التوبة:
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله (التوبة: 60).
وتجب الزكاة على الأنعام والماشية وعلى الأموال وعروض التجارة وغلات الزروع. ونصاب الزكاة في الإبل خمس وفي البقر ثلاثون وفي الغنم أربعون، ونصابها في الأموال والعروض وثمرات الزروع يضارع هذه القيمة على وجه التقريب، والحصة المفروضة على النصاب تضارع ربع العشر من رأس المال، والحصة المفروضة على الثمرات تضارع العشر مما يسقيه المطر ونصف العشر مما تسقيه الغروب وأدوات الري على إجمالها.
ففي كل سنة يستحق المعوزون المفتقرون إلى المعونة جزءا من أربعين جزءا من رءوس الأموال في الأمة، أو جزءا من عشرة أجزاء من ثمرات الزراعة وما إليها، وهو مقدار من الثروة العامة لا يخصص مقدار مثله في الأمم الحديثة التي تقررت فيها حصة من موارد الدولة للإنفاق على العجزة والشيوخ، ومن يستحقون العون لغير تفريط أو تقصير.
ومن الآيات المتقدمة نعلم أن المستحقين للزكاة ثمانية أصناف هم: (1) الفقراء، وهم الذين يملكون شيئا دون نصاب الزكاة ويستنفدونه في حاجاتهم وضروراتهم، و(2) المساكين، وهم الذين لا يملكون شيئا، و(3) عمال الزكاة، وهم موظفو الدولة الذين يحصلونها أو يوزعونها، و(4) المؤلفة قلوبهم، وهم المسلمون حديثو العهد بالإسلام ممن تخشى عليهم الفتنة أو الكفر يستألفهم الإسلام ولا يعملون ما يؤذي المسلمين، و(5) الأرقاء الذين يفتدون من الأسر بالمال، و(6) المكنوبون بالمغارم، و(7) المجاهدون الذين يحتاجون إلى النفقة، و(8) الغرباء المنقطعون عمن يعولهم، وكل من هو في حكم هؤلاء اضطرارا إلى رعاية المجتمع وعجزا عن ولاية أمره بنفسه. •••
ولم يقصد الإسلام بفريضة الزكاة أن يجعلها حلا لمشكلة الفقر في المجتمعات الإنسانية؛ فإنما تحل مشكلة الفقر في المجتمع الإسلامي بالعمل والسعي في طلب الرزق يتعاون على تدبير وسائلهما ولاة الأمر وطلاب الأعمال، ويحاسب الإمام على التواني في هذه المهمة كما يحاسب على التواني في سائر مصالح الرعية. ولا شك أن الإسلام قد صنع في حل مشكلة الفقر من أساسها صنيعه الذي لم يسبقه إليه دين من الأديان الكتابية أو أديان الحضارات الغابرة؛ فإنه مسح عن الفقر قداسته التي جللته بها عبادات الأمم، وأحاطته بها في الصوامع والبيع والمحاريب المنقطعة عن العمران، ومسح عنه تلك القداسة من جذورها حين أنكر تعذيب الجسد وحرمانه، وحين رفع عن الجسد مسبة الدنس والنجاسة المتأصلة في دخيلة التكوين؛ فأوجب على المسلم أن ينعم بطيبات الرزق، وأنكر عليه أن يحرم مما أحل الله من تلك الطيبات التي لا تقف عند حدود الضروريات، بل تتخطاها إلى الزينة والجمال. ومن استهان بأثر هذه النظرة السليمة إلى الفقر، فليتخيل كيف كانت مشكلة الفقر تساس للعلاج بين أناس ينظرون إليه نظرة التقديس، وينظرون إلى متاع الجسد نظرة الزراية والتدنيس! وليتخيل الفارق البعيد بين مجتمع يعمل على تعظيم الفقر واعتبار العمل في طلب الرزق غلطا تبتلى به الروح من غواية الجسم المرذول، وبين مجتمع يعمل على إيجاب السعي ويلوم أبناءه على تحريم الطيبات والزهد في الدنيا، ويؤاخذ الإنسان إذا مد يده بالسؤال وعنده قوت يكفيه مؤنة السؤال.
إن الإسلام قد جاء بالوسيلة التي لا غنى عنها في مكافحة الفقر وحل مشكلته يوم جعله ضرورة لا تباح للمسلم إلا كما تباح الضرورات التي لا حيلة فيها ولا اختيار معها. وإنما فرض الزكاة لمن أصابتهم تلك الضرورات وأقعدتهم عن السعي، واستنفدوا - مع المجتمع - كل حيلة في تدبير العمل المستطاع. ومن لم يكن منهم مستطيعا عملا بتدبير من الإمام أو بتدبير من نفسه فهو مكفول الرزق بما تجبيه الدولة من حصة الزكاة حقا معلوما يتقاضونه من الإمام ولا هوادة فيه.
وليست حصة الزكاة بالقدر الصغير عند المقارنة بينها وبين الحصة التي تخصص من ثروة الأمة في المجتمعات الحديثة للإنفاق على العجزة والشيوخ والمنقطعين عمن يعولهم؛ فإنها - كما هو معلوم - تضارع جزءا من أربعين جزءا من ثروة الأمة في كل سنة، أو تضارع عشر الثمرات الزراعية وما إليها، وليس في مجتمع من المجتمعات - حتى الشيوعية منها - من يزيد على هذا القدر في الإنفاق على ذوي الحاجات من العجزة والشيوخ. إلا أن الإسلام مع هذا لم يقصر الإحسان على فريضة الزكاة، ولا أسقط على القادرين واجب الغوث لمن يعرفونهم ويقدرون على إمدادهم بما يعينهم على شدائدهم؛ إذ ليست الزكاة هي كل ما يصنعه المحسنون القادرون على الإحسان، ولكنها هي الإحسان الذي تفرضه الدولة، وتستخلصه من المفروض عليهم عنوة إن لم يؤدوه طواعية في موعده المعلوم.
وإذا انفصلت مشكلة الفقر ومشكلة الطبقات على هذا النحو، فالعاطلون كلهم في كفالة المجتمع، والطبقات كلها عاملة منتجة تنحل مشكلتها بتصحيح أوضاعها وتوطيد هذه الأوضاع على نظام عادل في مجتمع سليم.
وآخر الحلول التي أسفرت عنها تجارب القرون المتطاولة في مشكلة حرب الطبقات أن هذه المشكلة لا تزال بإزالة الطبقات، بل بإزالة الحرب بينها، وإن هذه الحرب تمنع كلما تقاربت الفجوة الواسعة بين الطبقات، فلا إفراط في الغنى ولا إفراط في الفقر، ولا سبيل لفريق منها أن يجوز على فريق سواه، وقد ابتدع خبراء الصناعة والاقتصاد في العصر الأخير وسيلة للتقارب بين ذوي الأموال وطوائف الصناع والعمال أن يشتركوا في المصلحة الكبرى متعاونين عليها مساهمين فيها، إما بتوزيع الحصص على تفاوت مقاديرها، وإما بتعميم المرافق التعاونية التي تتلاقى فيها منافع المنتجين والمستنفدين وأرباح البائعين والشراة.
وليس في هذا الحل شرط من شروطه لا تيسره تعاليم الإسلام ووصاياه، فإن التعاون أدب من آدابه يأمر به الناس جميعا، وتندب للتنبيه إليه أمة تتواصى بالمعروف وتتناهى عن المنكر:
وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان (المائدة: 2)،
وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر (العصر : 3). •••
وواجب الكبار فيه كواجب الصغار؛ فليس من المسلمين كبير لا يرحم الصغير وصغير لا يوقر الكبير، كما جاء في الحديث الشريف: «ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر.»
وإنه لمما ييسر هذا التعاون بين طوائف الأمة أن تقرر فيها كفالة الضعفاء فرضا محتوما على القادرين، وأن يمتنع حبس المال في أيدي فريق من الناس؛ فلا إفراط في الغنى ولا إفراط في الفاقة، ولا استئثار ولا حرمان.
ولا تحل مشكلة الطبقات بالرأي أو بالواقع إلا على هذا النحو الذي ينتهي إلى إزالة حرب الطبقات ولا ينتهي إلى إزالة الطبقات؛ فالعالم بخير ما دام فيه أنواع الكفايات وفوارق المزايا والصفات، وما دامت هذه الأنواع والفوارق فيه يتمم بعضها بعضا ويجري بعضها على معونة بعض. والعالم على شر ما يكون إذا زال فيه كل خلاف بزوال الأداة المختلف عليها: يتنازع الناس الأموال فتزول الأموال، ويتنازعون الحكم فيزول الحكم، ويتنازعون الحرية فتزول الحرية، وما هم في الحق بقادرين على إزالة شيء واحد يتنازعون عليه، فلو أزالوا فوارق الأرزاق لم يزيلوا الفوارق بينهم على الذكاء والغباء، أو على القوة والضعف، أو على الجاه والخمول، أو على الوسامة والدمامة، أو على الذرية والعقم ... ولو أنهم أزالوها لزالوا أجمعين، ولكنهم باقون برحمة الله
ولا يزالون مختلفين (هود: 118). (6) الرق
شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق؛ إذ كان الرق مشروعا قبل الإسلام في القوانين الوضعية والدينية بجميع أنواعه: رق الأسر في الحروب، ورق السبي في غارات القبائل بعضها على بعض، ورق البيع والشراء، ومنه رق الاستدانة أو الوفاء بالديون.
وكانت اليهودية تبيحه، ونشأت المسيحية وهو مباح فلم تحرمه، ولم تنظر إلى تحريمه في المستقبل، وأمر بولس الرسول العبيد بإطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح، فقال في رسالته إلى أهل أفسس:
أيها العبيد! أطيعوا سادتكم حسب الجسد بحوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كما يرضي الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس، عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا.
وأوصى الرسول بطرس بمثل هذه الوصية، وأوجبها آباء الكنيسة؛ لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوه من غضب السيد الأعظم، وأضاف القديس الفيلسوف توما الأكويني رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين فلم يعترض على الرق بل زكاه؛ لأنه - على رأي أستاذه أرسطو - حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية، وليس مما يناقض الإيمان أن يقنع الإنسان من الدنيا بأهون نصيب.
ومذهب أرسطو في الرق أن فريقا من الناس مخلوقون للعبودية؛ لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر؛ فهم آلات حية تلحق في عملها بالآلات الجامدة، ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال والتمييز؛ فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل الرشيد.
وأستاذ أرسطو - أفلاطون - يقضي في جمهوريته الفاضلة بحرمان العبيد حق «المواطنة»، وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من سادتهم أو من السادة الغرباء، ومن تطاول منهم على سيد غريب أسلمته الدولة إليه ليقتص منه كما يريد.
وقد شرعت الحضارة اليونانية نظام الرق العام، كما شرعت نظام الرق الخاص أو تسخير العبيد في خدمة البيوت والأفراد؛ فكان للهياكل في آسيا الصغرى أرقاؤها الموقوفون عليها، وكانت عليهم واجبات الخدمة والحراسة، ولم يكن من حقهم ولاية أعمال الكهانة والعبادة العامة.
وانقضى على العالم عصور بعد عصور وهذا النظام شائع في أرجائه بين الأمم المعروفة في القارات الثلاث، ينتشر بين أمم الحضارة وقبائل البادية التي تكثر فيها غارات السلب والمرعى، ويقل انتشاره بين الأمم الزراعية عند أودية الأنهار الكبرى كوادي النيل وأودية الأنهار الهندية. إلا أن الأمم في الأودية الهندية كانت تأخذ بنظام الطبقة المسخرة أو الطبقة المنبوذة، وهي في حكم الرقيق العام من وجهة النظر إلى المكانة الاجتماعية والحقوق الإنسانية.
وعلى هذه الحالة كان العالم كله يوم مبعث الدعوة الإسلامية من قبل الصحراء ليس فيه من يستغرب هذه الحالة، أو من يشعر بحاجة إلى تعديل فيها حيث يكثر الأرقاء أو حيث يقلون.
ففي البلاد التي كثر فيها عدد الأرقاء كانت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية فيها مرتبطة بأعمال الرقيق في البيوت والمزارع والمرافق العامة؛ فلم يكن تغيير هذه الأوضاع مما يخطر على البال، ولم يكن تغييرها مستطاعا بين يوم وليلة، لو أنه خطر على بال أحد.
وفي البلاد التي قل فيها عدد الأرقاء لم تكن هناك مسألة حازبة أو معجلة تسمى مسألة الرقيق وتستدعي من ذوي الشأن اهتماما بالتغيير والتعديل.
وكان عدد الأرقاء قليلا في البادية العربية بالقياس إلى أمم الحضارة؛ إذ كان عددهم بين المسلمين الأوائل لا يزيد على عدد الأصابع في اليدين، فلم يكن بدعا من الدين الجديد أن يترك الحالة في الصحراء العربية - وفي العالم - على ما كانت عليه: حالة لا يستغربها أحد، ولا يفكر أحد في تغييرها أو تعديلها. ولكنه لم يتركها، ولم يغفلها، ولم يؤجلها بين الإغضاء والاستحسان لهوانها وقلة جدواها، بل جرى فيها على دأبه في علاج المساوئ الاجتماعية والأخلاقية: يصلح منها ما هو قابل للإصلاح في حينه، ويمهد للتقدم إلى المزيد من الإصلاح مع الزمن كلما تهيأت دواعيه.
ونحن نحب أن نلخص ما صنعه الإسلام في هذه المسألة قبل أربعة عشر قرنا في بضع كلمات: إنه حرم الرق جميعا، ولم يبح منه إلا ما هو مباح إلى الآن. وفحوى ذلك أنه قد صنع خير ما يطلب منه أن يصنع، وأن الأمم الإنسانية لم تأت بجديد في هذه المسألة بعد الذي تقدم به الإسلام قبل ألف ونيف وثلاثمائة عام.
فالذي أباحه الإسلام من الرق مباح اليوم في أمم الحضارة التي تعاهدت على منع الرقيق منذ القرن الثامن عشر إلى الآن.
لأن هذه الأمم التي اتفقت على معاهدات الرق تبيح الأسر، واستبقاء الأسرى إلى أن يتم الصلح بين المتحاربين على تبادل الأسرى أو التعويض عنهم بالفداء والغرامة.
وهذا هو كل ما أباحه الإسلام من الرق أو من الأسر على التعبير الصحيح، وغاية ما هنالك من فرق بين الماضي قبل أربعة عشر قرنا وبين الحاضر في القرن العشرين أن الدول في عصرنا هذا تتولى الاتفاق على تبادل الأسرى أو على افتداء بعضهم بالغرامة والتعويض. أما في عصر الدعوة الإسلامية فلم تكن دولة من الدول تشغل نفسها بهذا الواجب نحو رعاياها المأسورين، فمن وقع منهم في الأسر بقي فيه حتى يفتدي نفسه بعمله أو بماله، إذا سمح له الآسرون بالفداء.
فماذا لو أن الدول العصرية بقيت على خطة الدول في القرن السادس للميلاد؟ ماذا لو أن الحروب اليوم انتهت كما كانت تنتهي في عصر الدعوة الإسلامية بغير اتفاق على تبادل الأسرى، أو على افتكاكهم من الأسر بالتعويض والغرامة؟
كانت حالة الأسرى اليوم تشبه حالة الأسرى قبل أربعة عشر قرنا في حقوق العمل والحرية والتمتع بالمزايا الاجتماعية، وكان كل أسير يظل في موطن أسره رقيقا مسخرا في الخدمة العامة أو الخاصة محروما من المساواة في حقوق المواطنة بينه وبين أبناء الأمة الغالبة.
حالة كحالة الرق التي سمح بها الإسلام على كره واضطرار.
ولكن الإسلام لم يقنع بها في إبان دعوته، وأضاف إلى شريعته في الرق نوافل وشروطا تسبق الشريعة الدولية بأكثر من ألف سنة. فإذا كانت الشريعة الدولية لم تعرف الدولة في فكاك رعاياها من الأسر، فقد سبق الإسلام إلى فرض هذا الواجب على الدولة فجعل من مصارف الزكاة إنفاقها «في الرقاب»؛ أي فكاك الأسرى، وأن يحسب للأسرى حق من الفيء والغنيمة كحق غيرهم من المقاتلين.
وإذا كان ارتباط الأسرى ضربة لازب في الحروب، فالإسلام لم يجعله حتما مقضيا في جميع الحروب، وحرص على التخفيف من شدته ما تيسر التخفيف منه، وجعل المن في التسريح أفضل الخطتين:
فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها (محمد: 4).
وحث المسلمين على قبول الفدية من الأسير أو من أوليائه:
والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم (النور: 33).
وقد كثرت وصايا النبي
صلى الله عليه وسلم
بالأرقاء، فقال في بعض الأحاديث: «أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم.» وكانت من آخر وصاياه قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى وصيته ب «الصلاة وما ملكت إيمانكم»، ونهى المسلمين أن يتكلم أحد عما ملك فيقول: عبدي وأمتي، وإنما يذكرهم فيقول: فتاي وفتاتي كما يذكر أبناءه وبناته. وكان
صلى الله عليه وسلم
يعلم صحابته بالقدوة في معاملة الرقيق كما يعلمهم بالفريضة؛ فكان يتورع عن تأديب وصيفته ضربا بالسواك، وقال لوصيفة أرسلها فأبطأت في الطريق: «لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك.»
ومن الوسائل الفردية التي تحرى بها الإسلام تعميم العتق وتعجيل فكاك الأسرى أنه جعل العتق كفارة عن كثير من الذنوب، كالقتل الخطأ والحنث باليمين ومخالفة قسم الظهار:
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة (النساء: 92)،
لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة (المائدة: 89)،
والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا (المجادلة: 3).
ويحسب من الرذائل المأخوذة على الإنسان السيئ أنه لا يقتحم هذه العقبة أو لا ينهض بهذه الفدية المؤكدة:
فلا اقتحم العقبة * وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة (البلد: 11-15). •••
فالعتق إذن هو الذي شرعه الإسلام في أمر الرق. وأما نظام الرق بأنواعه فقد وجده مشروعا فحرمه جميعا، ولم يبح منه إلا ما هو مباح إلى اليوم في نظام الأسرى وتستخيرهم في أعمال من يأسرونهم من المتقاتلين. وسبق القوانين الدولية بتقريره إلزام الدولة واجب السعي في إطلاق أسراها وإعتاقهم بالفداء، وشفع ذلك بالوسائل الفردية فيما تنتقل به الذمة إلى الأفراد من مالكي الأرقاء بعد وفاء الدولة بذمتها.
ولا يقال هنا إنه عمل كثير أو قليل، بل يقال إنه العمل الوحيد الذي استطيع في محاربة نظام الرق، ولم تستطع أمم الإنسانية ما هو خير منه في علاج هذه المسألة إلى الآن. •••
أي شفاعة كانت لأولئك المساكين المنسيين في عصر يصفونه بحق - في تاريخ العالم - بأنه عصر الجهالة والظلمات؟
لقد كانوا - على كثرتهم أو قلتهم - أهون شأنا من أن يحفل بهم صاحب شريعة أو ولاية، ولم يبلغ من مسألتهم في جزيرة العرب ولا في بلد من بلاد العالم أن تسمى مشكلة تلح على ولاة الأمر أن ينظروا في حلها بما يرضي العبيد أو بما يرضي السادة المتحكمين فيهم؛ كانت مسألتهم من المسائل المفروغ منها أو من مسائل العادة التي يتقبلها الناس على علاتها، ولا يستغربون منها شيئا يدعوهم إلى تعديلها، بل إلى الكلام فيها. فإذا بالإسلام يملي لهم على المجتمع حلا كحل الظافر المنتصر في كفاح يسام مغلوبه ما لم يكن ليرضاه باختياره، وإذا بالنظام العريق في أمم الحضارة بقية من بقايا الأمس رهينة بيومها الموعود.
شأن الأرقاء في الجزيرة العربية أهون يومئذ من أن يدعو ولاة الأمر إلى عناية به على قسر أو على اختيار.
وشأن الأسرى في حروب الدول يومئذ كشأن الطريدة من الحيوان لا تسلم من التمزيق إلا لتغنى غناء المطية المسخرة في غير رحمة ولا مبالاة بحساب. وشرائع الدين - كشرائع العرف - قدوة لا يقاس عليها ما شرعه الإسلام بغير سابقة في أمر الأسرى ولا في أمر الأرقاء.
شريعة العهد القديم كما نص عليها الإصحاح العشرون من كتاب التثنية تقول للمقاتل المؤمن بها:
حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير وتستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة وكل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك . هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا. أما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريما ...
وأقسى من هذا الجزاء جزاء المدن التي ينجم فيها ناجم بالدعوة إلى غير إله إسرائيل، فإنها كما جاء في الإصحاح الثالث عشر من كتاب التثنية:
فضربا تضرب بحد السيف وتحرم بكل ما فيها مع بهائمها بحد السيف تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلا إلى الأبد لا تبنى بعده ...
فالقدوة في حروب الدين وحروب الفتح تغري بالقسوة ولا تغري بالعفو والرحمة. وأحرى بعرب الجاهلية أن يكونوا في قسوة بني إسرائيل أو أشد منهم قسوة؛ لأنهم أهل بادية مثلهم «يدهم على كل إنسان ويد كل إنسان عليهم» كما قيل عنهم في العهد القديم ... فإذا عللت وصايا الرق في الإسلام بالعلل الطبيعية التي تسيغها عقول منكريه، فماذا يقول الذين ينكرون الدعوة الإسلامية تعصبا لدين آخر؟ وماذا يقول الذين ينكرونها من الجاهلين للأديان؟
يقول المنكرون المتعصبون لدين غير الإسلام: إن الدعوة برمتها تلفيق رجل دجال. ولا ندري كيف تسيغ عقولهم أن يكون الرسول الدجال أرفع أدبا وأشرف خلقا وأبر بالإنسانية الضعيفة من الرسل الصادقين.
ويقول المنكرون من أنصار العلل الطبيعية: إن الدعوة الإسلامية وليدة البلاد العربية خرجت من أطواء عقائدها وتقاليدها ومأثوراتها. ولا ندري كيف يكون الإبهام والغموض إذا كان هذا هو التعليل والتفسير؛ فإننا لا نقول شيئا ترضاه العقول وتستريح إليه إذا قلنا: إن البيئة العربية جاءت بنقيض المنتظر منها، ونقيض المنتظر من العالم حواليها.
إن تصديق أعجب الخوارق لأجدر بعقول الفريقين من قبول هذا اللغو الذي صدقوه واطمأنوا إليه. ونحن نريد للدعوة الإسلامية سببها المعقول، فلا نرى تناقضا بين هذا السبب وبين الواقع الذي لا غرابة فيه إلا إذا أوجبنا نحن على عقولنا أن نستغربه متعسفين.
فالغريب عندنا أن يأتي رجل دجال بما لم تأت به أرفع الحضارات والديانات من قبله ، والغريب عندنا أن يكون محمد مبعوثا بإرادة الأمة العربية وهي ما هي في أيام الجاهلية.
أما الواقع الموافق للعقل، ولا من مناقضة فيه لنواميس الكون، فهو أن يخلق الله إنسانا كاملا يلهمه الحق والرشد ويعينه إلى الهداية عليهما بعمل يستطيعه ويستطيع الناس أن يفهموه - متى حدث - كما يفهمون جلائل الأعمال، إلا أنهم لا يستطيعون أن يتوقعوه إذا قصروه على المألوف المعهود في سياق التاريخ.
وهذا تفسيرنا لوصايا الرق في الإسلام، ترتضيه عقولنا ونقول عن يقين: إنه أقرب إلى العقل من معجزة الدجل ومعجزة النقائض المستحيلة، ونحسب أن المكابرة تقصر عن الذهاب إلى الأمد الذي يدفعها إليه من لا يفرقون بين الدجل والصدق أو لا يفرقون بين الواقع والمستحيل. •••
وتنطوي القرون وينكشف الزمن عن أزمة الرق الكبرى في التاريخ الحديث.
إن وصايا الإسلام في مسألة الرق خولفت كثيرا، وكان من مخالفيها كثير من المسلمين، ولكن الإسلام - على الرغم من هذه المخالفة المنكرة - لا يضيره ولا يغض منه قضاء التجربة العملية عند الموازنة بين جناية جميع المسلمين على الأرقاء وجناية الآخرين من أتباع الأديان الكتابية.
فالقارة الأفريقية - في بلاد السود - مفتوحة أمام أبناء السواحل المجاورة لها منذ مئات السنين، ولم تفتح للنخاسين من الغرب إلا بعد اتصال الملاحة على ساحل البحر الأطلسي في العالم القديم والعالم الجديد.
وفي أقل من خمسين سنة نقل النخاسون الغربيون جموعا من العبيد السود تبلغ عدة الباقين من ذريتهم - بعد القتل والاضطهاد - نحو خمسة عشر مليونا في الأمريكتين؛ عدد يضارع خمسة أضعاف ضحايا النخاسة في القارات الثلاث منذ أكثر من ألف سنة، وهو فارق جسيم بحساب الأرقاء يكفي للإبانة عن الهاوية السحيقة في التجربة العملية بين النخاستين، ولكنه فارق هين إلى جانب الفارق في حظوظ أولئك الضحايا بين العالم القديم والعالم الجديد؛ فإن في الأمريكتين إلى اليوم أمة من السود معزولة بأنسابها وحظوظها وحقوقها العملية، وليس في بلاد الشرق أمة من هذا القبيل؛ لأن الأسود الذي ينتقل إليها يحسب من أهلها بعد جيل واحد، له ما لهم وعليه ما عليهم بغير حاجة إلى حماية من التشريع أو نصوص الدساتير. (7) حقوق الحرب
شاع عن الإسلام أنه دين السيف، وهو قول يصح في هذا الدين إذا أراد قائله أنه دين يفرض الجهاد ومنه الجهاد بالسلاح، ولكنه غلط بين إذا أريد به أن الإسلام قد انتشر بحد السيف أو أنه يضع القتال في موضع الإقناع.
وقد فطن لسخف هذا الادعاء كاتب غربي كبير هو توماس كارليل صاحب كتاب: «الأبطال وعبادة البطولة»؛ فإنه اتخذ محمدا - عليه السلام - مثلا لبطولة النبوة، وقال ما معناه:
إن اتهامه بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس أو يستجيبوا لدعوته، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم فقد آمنوا به طائعين مصدقين وتعرضوا للحرب من أعدائهم قبل أن يقدروا عليها.
والواقع الثابت في أخبار الدعوة الإسلامية أن المسلمين كانوا هم ضحايا القسر والتعذيب قبل أن يقدروا على دفع الأذى من مشركي قريش في مكة المكرمة؛ فهجروا ديارهم وتغربوا من أهليهم حتى بلغوا إلى الحبشة في هجرتهم، فهل يأمنون على أنفسهم في مدينة عربية قبل التجائهم إلى «يثرب» وإقامتهم في جوار أخوال النبي
صلى الله عليه وسلم ، مع ما بين المدينتين من التنافس الذي فتح للمسلمين بينهما ثغرة للأمان؟ ولم يكن أهل يثرب ليرحبوا بمقدمهم لولا ما بين القبيلتين الكبيرتين فيها «قبيلتي الأوس والخزرج» من نزاع على الإمارة فتح بينهما كذلك ثغرة أخرى يأوي إليها المسلمون بعد أن ضاق بهم جوار الكعبة، وهو الجوار الذي لم يضق من قبل بكل لائذيه في عهد الجاهلية.
ولم يعمد المسلمون قط إلى القوة إلا لمحارية القوة التي تصدهم عن الإقناع، فإذا رصدت لهم الدولة القوية جنودها حاربوها؛ لأن القوة لا تحارب بالحجة والبينة، وإذا كفوا عنهم لم يتعرضوا لها بسوء.
لذلك سالموا الحبشة ولم يحاربوها، ولذلك حاربوا الفرس؛ لأن كسرى أرسل إلى عامله في اليمن يأمره بتأديب النبي أو ضرب عنقه وإرسال رأسه إليه. وحاربوا الروم؛ لأنهم أرسلوا طلائعهم إلى تبوك فبادرهم النبي
صلى الله عليه وسلم
بتجريد السرية المشهورة إلى تخوم الحجاز الشمالية، وعادت السرية بغير قتال حين وجدت في تبوك أن الروم لا يتأهبون للزحف على بلاد العرب ذلك العام.
ولم يفاتح النبي
صلى الله عليه وسلم
أحدا بالعداء في بلاد الدولتين، إنما كتب إلى الملوك والأمراء يبلغهم دعوته بالحسنى، ولم تقع الحرب بعد هذا البلاغ بين المسلمين وجنود الفرس والروم إلا بعد تحريضهم القبائل العربية في العراق والشام على غزو الحجاز، وإعدادهم العدة لقتال المسلمين، وقد علم المسلمون بإصرارهم على اغتنام الفرصة العاجلة لمباغتتهم بالحرب من أطراف الجزيرة، ولولا اشتغال كسرى وهرقل بالفتن الداخلية في بلادهما لبوغت المسلمون بتلك الحرب قبل أن يتأهبوا لمدافعتها أو التحصن دونها.
وفي الجزيرة العربية لم تقع حرب بين المسلمين وقبائلها إلا أن تكون حرب دفاع أو مبادرة إلى اتقاء الهجوم المبيت في أرض تلك القبائل، وكانت العداوة سافرة بين المسلمين ومشركي قريش لا يكتمها المشركون ولا يواربون فيها، ولا يخفون أنهم عقدوا النية على الإيقاع بمحمد وأصحابه وفض العرب من حوله وإيذاء كل من يدخل منهم في دينه؛ فلم تكن بين المسلمين والمشركين حالة غير حالة الحرب إلا في أيام صلح الحديبية، ثم عادت الحرب سجالا بين الفريقين حتى تم فتح مكة وانتقلت الحرب من قتال سافر بين المشركين والمسلمين إلى قتال بالدس والمكيدة بين هؤلاء وزمرة المنافقين. وقد حرص الإسلام على تسمية كل عدو من أعدائه باسمه لا يعدوه، ولم يخلط بين حرب الشرك وحرب النفاق؛ لأنه لا يحاسب على العداوة بالنيات كما يحاسب على العداوة بالأعمال. أما قبائل الجزيرة العربية في قريش فلم يحاربهم الإسلام إلا حرب دفاع أو حرب مبادرة لاتقاء الهجوم من جانبها، وأخبار السرايا الإسلامية في بلاد العرب معروفة محفوظة بأسبابها ومقدماتها، وكلها كما أحصاها المؤرخ العصري - أحمد زكي باشا - حروب دفاع واتقاء هجوم. «ونذكر من بعد ذلك غزوة بني قينقاع من يهود المدينة؛ فقد حاربهم المسلمون لنقضهم العهد بعد غزوة بدر الكبرى ، وهتكهم حرمة سيدة من نساء الأنصار، ثم غزوة بني غطفان، ولم يخرج المسلمون لقتالهم إلا بعد أن علموا أن بني ثعلبة ومحارب من غطفان تجمعوا برئاسة دعثور المحاربي للإغارة على المدينة، ثم سرية عاصم بن ثابت الأنصاري وكانوا مع رهط عضل والقارة الذين خانوهم ودلوا عليهم هذيلا قوم سفيان بن خالد الهذلي الذي قتله عبد الله بن أنيس، ثم سرية المنذر بن عمرو وهم سبعون رجلا يسمون القراء، أخذهم عامر بن مالك ملاعب الأسنة لطمعه في هداية قومه وإيمانهم، فلم يرع قومه جواره وقتلوا القراء، ثم غزوة بني النضير من يهود المدينة؛ وذلك لنقضهم العهد وإلقائهم صخرة على النبي
صلى الله عليه وسلم
لما كان في ديارهم، ثم غزوة دومة الجندل، ولم يخرج المسلمون إلا لما علموا أن في ذلك المكان أعرابا يقطعون الطريق على المارة ويريدون الإغارة على المدينة، ثم غزوة بني المصطلق وهؤلاء ممن ساعدوا المشركين في أحد، ولم يكتفوا بذلك بل أرادوا جمع الجموع للإغارة على المدينة، ثم غزوة بني قريظة من يهود المدينة لنقضهم العهد واجتماعهم مع الأحزاب، ثم غزوة الخندق وكانت مع الأحزاب الذين حاصروا المدينة، ثم غزوة بني لحيان لقتلهم عاصم بن ثابت وإخوانه الذين حزن عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم غزوة الغابة لإغارة عيينة بن حصن في أربعين راكبا على لقاح للنبي
صلى الله عليه وسلم
كانت ترعى الغابة، ثم سرية محمد بن مسلمة إلى القصة لما بلغ المسلمين أن بذلك الموضع ناسا يريدون الإغارة على نعم المسلمين التي ترعى بالهيفاء، ثم سرية زيد بن حارثة لمعاكسة بني سليم الذين كانوا من الأحزاب يوم الخندق، ثم سرية زيد كذلك للإغارة على بني فزارة الذين تعرضوا له، ثم سرية عمر بن الخطاب لما بلغ المسلمين من أن جمعا من هوازن يظهرون العداوة للمسلمين، ثم سرية بشير بن سعيد لما بلغهم من أن عيينة بن حصن واعد جماعة من غطفان مقيمين بقرب خيبر للإغارة على المدينة، ثم سرية غالب الليثي ليقتص من بني مرة بفدك؛ لأنهم أصابوا سرية بشير بن سعد، ثم غزوة مؤتة وكانت لتعرض شرحبيل بن عمرو الغساني للحارث بن عمير الأزدي رسول النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أمير بصرى يحمل كتابا وقتله إياه، ولم يقتل للنبي
صلى الله عليه وسلم
رسول غيره حتى وجد لذلك وجدا شديدا، ثم سرية عمرو بن العاص لما بلغهم من أن جماعة من قضاعة يتجمعون في ديارهم وراء وادي القرى للإغارة على المدينة، ثم سرية علي بن أبي طالب لما بلغهم من أن بني سعد بن بكر يجمعون الجموع لمساعدة يهود خيبر على حرب المسلمين، ثم غزوة خيبر؛ لأن أهلها كانوا أعظم محرض للأحزاب، ثم سرية عبد الله بن رواحة لما بلغهم من أن باين رزام رئيس اليهود يسعى في تحريض العرب على قتال المسلمين، ثم سرية عمرو بن أمية الضمري لقتل أبي سفيان جزاء إرساله من يقتل النبي
صلى الله عليه وسلم
غدرا، ثم حرب العراق لما ارتكبه كسرى عندما أرسل إليه كتاب عرض عليه فيه الإسلام، فإنه مزق الكتاب وكتب إلى بازان - أمير له باليمن - يقول له: «بلغني أن رجلا من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي، فسر إليه فاستتبه فإن تاب وإلا فابعث إلي برأسه؛ أيكتب إلي هذا الكتاب وهو عبدي؟» فعبث بازان بكتاب كسرى إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
مع فارسين يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، فقدما إليه وقالا له: شاهنشاه بعث إلى الملك بازان يأمره أن يبعث إليك من يأتي بك، وقد بعثنا إليك فإن أبيت هلكت وأهلكت قومك وخربت بلادك، فليس بعد ذلك عذر للمسلمين في امتناعهم عن حرب الفرس خصوصا وقد كان للعرب ثارات كثيرة في ذمة العجم ... ثم غزوة تبوك لما بلغ المسلمين من أن الروم جمعت الجموع تريد غزوهم في بلادهم، وقد أعقبها فتح الشام والقسم الأعظم من دولة الروم.»
6 •••
فهذا حق السيف كما استخدمه الإسلام في أشد الأوقات حاجة إليه.
حق السيف مرادف لحق الحياة، وكل ما أوجب الإسلام فإنما أوجبه لأنه مضطر إليه أو مضطر إلى التخلي عن حقه في الحياة، وحقه في حرية الدعوة والاعتقاد. فإن يكن درءا للعدوان والافتيات على حق الحياة وحق الحرية، فالإسلام في كلمتين هو دين السلام.
وأيسر من استقصاء الحروب وأسبابها في صدر الإسلام أن نلقي نظرة عامة على خريطة العالم في الوقت الحاضر لنعلم أن السيف لم يعمل في انتشار هذا الدين إلا القليل مما عمله الإقناع والقدوة الحسنة؛ فإن البلاد التي قلت فيها حروب الإسلام هي البلاد التي يقيم فيها اليوم أكثر مسلمي العالم، وهي بلاد إندونيسيا والهند والصين وسواحل القارة الأفريقية وما يليها من سهول الصحاري الواسعة؛ فإن عدد المسلمين فيها قريب من ثلاثمائة مليون، ولم يقع فيها من الحروب بين المسلمين وأبناء تلك البلاد إلا القليل الذي لا يجدي في تحويل الآلاف عن دينهم بله الملايين، ونقارن بين هذه البلاد والبلاد التي اتجهت إليها غزوات المسلمين لأول مرة في صدر الدعوة الإسلامية، وهي بلاد العراق والشام؛ فإن عدد المسلمين فيها اليوم قلما يزيد على عشرة ملايين يعيش بينهم من اختاروا البقاء على دينهم من المسيحيين واليهود والوثنيين أو أشباه الوثنيين. ومن المفيد في هذا الصدد أن نعقد المقارنة بين البلاد التي قامت فيها الدولة الإسلامية والبلاد التي قامت فيها الدولة المسيحية من القارة الأوروبية؛ فلم يبق في هذه القارة أحد على دينه الأول قبل دخول المسيحية، وقد أقام المسلمون قرونا في الأندلس وخرجوا منها وأبناؤها اليوم كلهم مسيحيون.
وأنفع من الإحصاءات والمقارنات أن نتفهم دخيلة الدين من روحه التي تصبغ العقيدة بصبغتها فيما يعيه المتدين على قصد منه، أو فيما ينساق إليه بوحي من روح دينه كأنه عادة مطبوعة لا يلتفت إلى قصده منها. وروح الإسلام في العلاقة بين المسلم وسائر بني الإنسان تشف عنها كل آية وردت في القرآن الكريم عن حكمة الاجتماع من أكبر الجماعات إلى أصغرها، ومن جماعة النوع الإنساني في جملته إلى جماعة الأسرة، وطبيعة الاجتماع في كل مخلوق إنساني منذ تكوينه في أصلاب آبائه وأجداده . فما هي حكمة الاجتماع في الشعوب والقبائل؟ وما هي حكمة الاجتماع في بنيان الأسرة؟ وما هي حكمة الاجتماع في خلق الإنسان في بطن أمه؟
حكمتها كلها فيما يتعلمه المسلم من كتابه أنها وشيجة من وشائج المودة والرحمة، وسبيل إلى التعارف والتقارب بين الغرباء.
فالتعارف هو حكمة التعدد والتكاثر بين الشعوب والقبائل من أبناء آدم وحواء:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا (الحجرات: 13).
والمودة والرحمة هي حكمة الاجتماع في الأسرة:
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم: 21).
والنسب هو حكمة الاجتماع من خلق الإنسان منذ تكوينه في صلب أبيه:
وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا (الفرقان: 54).
والمؤمنون إخوة، والناس إخوان من ذكر وأنثى، وشر ما يخشاه الناس من رذائلهم أنها تلقي بينهم العداوة والبغضاء:
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر (المائدة: 91).
والعداوة والبغضاء هما الجزاء الذي يصيب الله به من ينسون آياته ويكفرون بنعمته، وهما الجزاء الذي أصاب الله به أهل الكتاب بعد ما جاءهم من البينات فضلوا عن سوائه، ولم يبق لهم من دينهم غير اسم يدعونه:
ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة (المائدة: 14)،
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (المائدة: 64). •••
ولا خفاء بروح الدين كما توحيه إلى وجدان المسلم هذه الآيات وما في معناها من كلمات كتابه؛ فإنها تلهمه أن المودة والرحمة حكمة الله في خلقه، وأن العداوة والبغضاء عقاب لمن يضلون عن حكمته ومغبة السوء التي تستدرجهم إليها الرذيلة والمعصية. ومن آمن بالله على هدي هذا الدين فقد آمن بإله يرضيه من عباده أن يسلكوا سبيل المودة والسلام، ويسخطه منهم أن يسلكوا سبيل العداوة والعدوان.
وقد تعددت آراء المشترعين وأصحاب الآراء في القوانين بين طائفة ترى أن الإنسان مطبوع على الشر، وأن حالة الحرب هي الحالة الطبيعية بين الناس حتى تتقرر بينهم حالة غيرها من أحوال المصالحة والتراضي على المسالمة والأمانة، وطائفة ترى أن الإنسان - بطبعه - مخلوق وديع يدفعه الخوف والحاجة إلى المشاكسة فيتعدى على كره ويصد العدوان على كره، وتجري عادته على وفاق ما تمليه عليه معيشة الأمن والرخاء أو معيشة القلق والاضطراب.
والإسلام دين ينظر إلى هذه المشكلة نظرة الدين، ولا يعنيه الواقع ليجعله مثلا مختارا للعلاقة بين الناس، بل يعنيه الواقع ليختار لهم ما هو أجدر باختيارهم وأصلح لشئون أفرادهم وجماعاتهم، ويروضهم على أن يكونوا خيرا من الواقع فيما يطيقونه وينفعهم أن يطيقوه.
فالعلاقة بين الناس في دستور الإسلام علاقة سلم حتى يضطروا إلى الحرب دفاعا عن أنفسهم أو اتقاء لهجوم تكون المبادرة فيه ضربا من الدفاع؛ فالحرب يومئذ واجبة على المسلم وجوبا لا هوادة فيه، وهو - مع وجوبها - مأمور بأن يكتفي من الحرب بالقدر الذي يكفل له دفع الأذى، ومأمور بتأخيرها ما بقيت له وسيلة إلى الصبر والمسالمة، ويتكرر هذا الأمر كلما تكرر الإذن بالقتال والتحريض عليه، وكل تحريض أمر به ولي الأمر في القرآن فهو التحريض على تجنيد الجند وحض العزائم على حرب لم يبق له محيد عنها، ولا غرض له منها إلا أن يكف بأس المعتدين عليه وعلى قومه، ثم لا إكراه له في هذه الحرب على متطوع لقتال أو نجدة، وهذا هو موضع التحريض في قوله تعالى:
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا وأشد تنكيلا (النساء: 84).
أما أواصر القتال فمن آياتها في القرآن الكريم ما ورد في سورة البقرة:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة: 190)،
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله (البقرة: 194).
وفي سورة النحل:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (النحل: 125-126).
وفي سورة الأنفال:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله (الأنفال: 61).
وفي سورة النساء:
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (النساء: 90). •••
أما المشركون الذين لم يصدوا المسلمين عن دينهم ولم يبادئوهم بالعدوان فلا حرج على المسلم أن يبر بهم، ويعدل في معاملتهم، وأن يعاهدهم ويوفي لهم عهدهم إلى مدته، وإلى أن ينقضوه مخالفين بما عاهدوا عليه إن لم يكن له أجل محدود:
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون (الممتحنة: 8-9). •••
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين (التوبة: 4).
ولم يجعل الإسلام وفاء المعاهدين بعهودهم تدبيرا من تدبيرات السياسة أو ضرورة من ضروراتها التي تجوز فيها المراوغة عند القدرة عليها، بل جعله أمانة من أمانات العقل والضمير وخلقا شريفا يكاد الخارج عليه أن يخرج من آدميته ويسلك في عداد السائمة التي لا ملامة عليها:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا (النحل: 91)،
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون * الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون (الأنفال: 55-56)،
كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (التوبة: 7). •••
ومن توكيد الإسلام لواجب الوفاء بالعهد أنه يحرم على المسلمين أن يستبيحوا الانتصار للقوم منهم يستنصرونهم في الدين إذا كان بينهم وبين أعداء المستنصرين لهم عهد وميثاق:
وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق (الأنفال: 72). •••
ولا يبيح الإسلام لولي الأمر أن يستخدم السيف فيما شجر بين المسلمين من نزاع يخاف أن يفضي بينهم إلى القتال إلا إذا بغت طائفة منهم على الأخرى؛ فله بعد استنفاد الحيلة في الإصلاح بينهما أن يقاتل الفئة الباغية حتى تكف عن بغيها:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (الحجرات: 9).
وفيما عدا العلاقة التي تنعقد بين المسلمين وأبناء دينهم، أو بينهم وبين المعاهدين لا تكون الأمة التي لا ترتبط بالدين ولا ترتبط بالعهد إلا عدوا يخاف ضرره ولا يؤمن جانبه إلا على وجه من الوجهين: أن يقبل الدين أو يقبل الميثاق.
والإسلام يسمي بلاد هذا العدو «دار حرب»؛ لأنها بلاد لا سلام فيها للمسلم، ويفرق بين حقوقها وحقوق المسلمين أو حقوق المعاهدين، ولا يعترف لها بهذه الحقوق أو تلك إلا أن تدين بالإسلام أو تقبل الصلح على عهد متفق عليه.
وليس معنى هذا التقسيم الطبيعي في الحقوق أن الإسلام يكره القوم على قبوله؛ إذ إن نص القرآن الكريم يمنع الإكراه في الدين:
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم (البقرة: 256).
ولكن معنى تقسيم البلاد إلى بلاد سلم وبلاد حرب أن بلاد الحرب لا تدخل في السلم إلا إذا قبلت الدين أو تعاهدت على الصلح بقتال أو بغير قتال. وتأبى طبيعة الأمور تقسيما لحقوق السلم والحرب غير هذا التقسيم.
ومتى وقعت الحرب فلا قتال لأحد غير المقاتلين ولو كان من بلاد الأعداء، ولم يكن النبي - عليه السلام - وخلفاؤه يتركون المقاتلين من المسلمين المتوجهين إلى الحرب بغير وصاية مشددة يحاسبونهم عليها فيما يتبعونه من خطة قبل الرعايا المسالمين من أعدائهم، وخلاصة هذه الوصايا كما أجملها الخليفة الأول أبو بكر الصديق: «ألا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم للصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.»
وتشتمل تعاليم الإسلام على أحكام مفصلة لكل حالة من الحالات التي تعرض بين المتحاربين في أثناء القتال أو بعده، وهي حالات الأمان والاستئمان والمهادنة والموادعة والصلح على معاهدة.
فالأمان هو: «رفع استباحة الحربي ورقه وماله حين قتاله أو العزم عليه.»
والاستئمان هو: «تأمين حربي ينزل لأمر ينصرف بانقضائه.»
والمهادنة: «عقد لمسلم مع حربي على المسالمة مدة ليس هو فيها على حكم الإسلام.»
والموادعة: «عقد غير لازم محتمل النقض، للإمام أن ينبذه» حسب قوله تعالى:
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء (الأنفال: 58)، ويشترط في حالة النبذ أن يبلغه القائد إلى جنده وإلى الأعداء وهم على حكم الأمان حتى يعلموا بانتهاء الموادعة.
7
والوفاء بالشرط المتفق عليه في كل حالة من هذه الحالات فريضة مؤكدة بنصوص القرآن الكريم، ونصوص الأحاديث النبوية، تقدمت بها الأمثلة في معاهدات النبي - عليه السلام - ومعاهدات خلفائه رضوان الله عليهم، وأشهرها عهد الحديبية قبل فتح مكة وعهد بيت المقدس بعد فتح الشام.
فالنبي - عليه السلام - قد اتفق على عهد الحديبية بعد هجرته من مكة بست سنوات، وكان يريد الكعبة معتمرا مع طائفة من صحبه فتصدى له المشركون وحالوا بينه وبين البيت الحرام، فقال النبي - عليه السلام - لرسولهم: «إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس، فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي وينفذن الله أمره.» ثم أنفذت قريش رسولها سهيل بن عمرو العامري، فاتفق مع النبي - عليه السلام - على أن يرجع النبي وصحبه فلا يدخلوا مكة تلك السنة، فإذا كانت السنة القادمة دخلوها فأقاموا فيها ثلاثا بعد أن تخرج منها قريش، وتهادنوا عشر سنين لا حرب فيها ولا أغلال ولا أسلال، ومن أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليهم، ومن أتى قريشا من المسلمين لم يردوه، واستكثر المسلمون هذا الشرط فقال - عليه السلام: «نعم، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فيجعل الله له فرجا ومخرجا، ومن أحب منهم أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.»
ثم أخذ النبي - عليه السلام - في إملاء العهد وابتدأه «بسم الله الرحمن الرحيم»، فأبى سهيل بن عمرو أن يبدأ العهد بهذه الفاتحة الإسلامية وقال: «بل يكتب: باسمك اللهم.» فأجابه النبي إلى ما طلب ومضى يملي قائلا: «هذا ما قاضى عليه رسول الله.» فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
وبينما هم يكتبون العهد لم يفرغوا منه أقبل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في القيود، فرمى بنفسه بين المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه. وأخذ بتلابيب ولده، فقال النبي لأبي جندل: «يا أبا جندل! قد لجت القضية بيننا وبينهم ولا نغدر.» ومضى النبي وصحبه على رعاية عهدهم حتى نقضته قريش وأمدت بني بكر بالسلاح والأزواد في حربهم لخزاعة، فأصبح المسلمون في حل من نقض ذلك العهد، وعمدوا إلى مكة فاتحين ففتحوها بعد ذلك بقليل.
أما عهد بيت المقدس فذلك هو العهد الذي كتبه الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء، وهو أشهر العهود في صدر الإسلام بعد عهد الحديبية، وفيه يقول الخليفة العظيم: «إنه أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، وإنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينقض منها ولا من صلبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وأن يخرجوا منها الروم واللسوت، ومن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام معهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ... ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بينه وبين صلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.»
وقد حدث في أثناء التعاهد على هذا الصلح حادث كحادث أبي جندل عند كتابة صلح الحديبية، فحان موعد الصلاة والخليفة العظيم في كنيسة بيت المقدس، ولا مانع عند المسلم من إقامة الصلاة في الكنائس أو في معابد الأديان غير الإسلام؛ إذ أينما تكونوا فثم وجه الله، ولكنه أشفق أن يقيم الصلاة في مكان فيحرص المسلمون بعده على احتجاز ذلك المكان الذي صلى فيه أمير المؤمنين؛ فخرج من الكنيسة وصلى في جوارها ولم يبح لنفسه أن يورط أتباعه في ذريعة يتعللون بها لمخالفة عهد من عهوده.
وكلا العهدين - عهد مكة وعهد بيت المقدس - يفند زعم الزاعمين أن الإسلام يعتمد على الإكراه في نشر دعوته. وثانيهما - وهو عهد الصلح في الشام بعد هزيمة دولة الروم - واضح في بيان الشروط التي يعرضها الإسلام على المعاهدين بعد الحرب التي ينتصر فيها؛ فمن أحب أن يقيم في مكانه فله أن يقيم وهو آمن على نفسه ودينه وحريته، ومن أحب أن يرحل إلى بلاد الدولة المنهزمة فله أن يرحل كما أراد وهو آمن في طريقه، ومن دان بالإسلام فهو مقبول في زمرة المسلمين، ومن بقي على دينه فليس عليه إلا أن يؤدي الجزية فتحميه الدولة مما يحمى منه سائر رعاياها، وله ما لهم وعليه ما عليهم إلا الحرب، فإنها لا تطلب منه في خدمة دين غير دينه.
وشرع الإسلام القتال على درجات، فلم يشرع حالة إلا وضع لها حدودها وبين للمسلمين ما يجب عليهم فيها، وتم له في نحو عشرين سنة قانون دولي كامل لأحوال الحرب مع المقاتلين على اختلافهم، فأتم في القرن السادس ما بدأت فيه أوروبا في القرن السابع عشر، ولم يزل قاصرا عن غايته مهملا في ساعة الحاجة إليه.
بدأ النبي - عليه السلام - دعوته واستجاب له من استجاب من قومه وهو لا يأذن بقتال، فلما اشتد به وبأصحابه ما أصابهم من أذى المشركين فعذبوهم وفتنوهم وأخرجوهم من ديارهم كان ذلك بداءة الإذن بمقاتلة المعتدين في الحد الذي يكفي لدفع العدوان - كما تقدم - ولا يبقي بعده أثرا للضغينة والانتقام:
أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله (الحج: 39-40).
وكان النبي - صلوات الله عليه - يعاقب في حروبه بمثل ما عوقب به ولا يجاوزه إلى اللدد في الخصومة، فإذا انتهت الحرب على عهد من العهود وفى به وأخذ على أتباعه أن يفوا به في غير أغلال ولا أسلال؛ أي في غير خيانة ولا مراوغة. وثابر على الوفاء في جميع عهوده، وثابر أهل الجزيرة من المشركين واليهود على الغدر بكل عهد من تلك العهود، وعقدوا النية سرا وجهرا على إعنات المسلمين وإخراجهم من ديارهم، لا يحرمون حراما في مهادنتهم ولا في مسالمتهم، ولا يزالون يؤلبون عليهم الأعداء من داخل الجزيرة وخارجها، وأصروا على ذلك مرة بعد مرة حتى أصبحت معاهداتهم عبثا لا يفيد ولا يغني عن القتال فترة إلا ردهم إليه بعد قليل، ووضح من لدد القوم وإصرارهم عليه أنهم لا يهادنون إلا ليتوفروا على جمع العدة وتأليب العدو من الخصوم والأحلاف، فبطلت حكمة الدعوة إلى العهد، ولم يبق للمسلمين من سبيل إلى الأمان معهم إلا أن يخرجوهم من حيث أرادوا أن يخرجوا المسلمين، ولا يبقوا أحدا غير مسلم في تلك الجزيرة التي أبت أن تكون وطنا للمشركين وأحلافهم دون سواهم؛ فانتهت حكمة التخيير بين المعاهدة والقتال، ووجب الخيار بين أمرين لا ثالث لهما، وهما الجوار على الإسلام أو على الخضوع لحكمه، فلا جوار في الجزيرة لأحد من المشركين وأحلافهم اليهود إلا أن يدين بالإسلام أو بالطاعة:
وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل (البقرة: 191).
وقال النبي - عليه السلام - يومئذ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله.»
وفي هذا المعنى ينص القرآن الكريم على محاربة أهل الكتاب الذين تحالفوا مع المشركين ونقضوا العهود المتوالية بينهم وبين النبي كما تقدم في ذكر الغزوات والسرايا:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون (التوبة: 29).
والوجه الوحيد الذي ينصرف إليه هذا الحكم أنه حيطة لا محيد عنها لضمان أمن المسلمين مع من يجاورونهم في ديارهم ويتآمرون على حربهم، فلا يحل للمسئول عن المسلمين أن يكل أمانهم إلى عهد ينقض في كل مرة، ولكنه يأمن عليهم في جوار قوم مسلمين أو قوم مطيعين للدولة يؤدون لها حقها، فهم إذن لا يملكون من الاستقلال بالعمل في طاعة تلك الدولة ما يملكه المعاهد المؤمن على عهوده.
وعلى الجملة شرع الإسلام حكما لكل حالة يمكن أن توجد بينه وبين جيرانه على الحذر أو على الأمان؛ فنص على حالة الدفاع والعدوان، ونص على الدفاع الواجب في حدوده على حسب العدوان، ونص على التعاهد والمسالمة إلى مدة أو إلى غير مدة، ولما بطلت جدوى المعاهدة لم تبق له خطة يأخذ بها أعداءه غير واحدة من اثنتين: الحرب أو الخضوع للإسلام إيمانا به أو طاعة لمولاه، ولم يجعل الإيمان بالإسلام حتما على أعدائه المصرين على العداء، بل جعله خيارا بين أمرين، ومن سام الإسلام أن يرضى بغير هذين الأمرين فقد سامه أن يرضى بحالة ثالثة لا يرضاها أحد، وهي حالة الخوف الدائم من عدو متربص به لا تجدي معه المهادنة، ولا يؤمن على عهد من العهود.
وانقضى عهد النبي - صلوات الله عليه - والمسلمون يعلمون حدودهم في كل علاقة تعرض لهم بين أنفسهم وبينهم وبين جيرانهم: علاقة المودة والوئام، وعلاقة الشغب والفتنة، وعلاقة الحرب أو علاقة التعاهد أو علاقة الموادعة والمهادنة أو علاقة الأمان والاستئمان. وهذه العناية بإقامة الحدود وبيان واجباتها هي وحدها حجة قائمة للإسلام على خصومه الذين يتهمونه بأنه دين الإكراه الذي لا يعرف غير شريعة السيف؛ فمن كان لا يعرف غير شريعة السيف فما حاجته إلى بيان لكل حالة من حالات السلم والحرب بأحكامها وواجباتها وحدودها وتبعاتها؟ لا حاجة به إلى حد من هذه الحدود ما دام معه السيف الذي يجرده متى استطاع، ولا حاجة به إلى حد من هذه الحدود ما دام عزلا من السيف مغلوبا على كل حال. فإنما يبحث عن تلك الحدود من يضع السيف في موضعه، ويأبى أن يضعه في موضع المسالمة والإقناع، وكذلك كانت شريعة الإسلام منذ وجب فيه القتال، ولم يوجبه إلا البغي والقسر والعنت والإخراج من الديار. •••
وبينما كانت هذه الحدود معلومة مقسومة بأقسامها وتبعاتها في شريعة الإسلام كانت العلاقة بين الأمم في القارات الثلاث فوضى لا تثوب إلى ضابط، ولا يستقر بينها السلام إلا حيث يمتنع وجود المحارب، فيمتنع وجود الحرب بالضرورة التي لا اختيار فيها.
كانت شريعة الرومان أن كل قوي يجاورك عدو تقضي عليه، فلم يكن للقارة الحديثة (التي سموها بقرطاجنة) من ذنب إلا أنها دولة قوية تعيش على العدوة الأخرى من بحرهم الذي أغلقوه دون غيرهم
mare clausum ، أو الذين سموه بحرنا وحرموا على غيرهم أن يشاركهم فيه
mare Nostrum .
وكذلك كانت شريعة فارس في الشرق مع من يجاورها، وكذلك كانت شريعة الإسكندر وخلفائه على دولته الواسعة، وكذلك بقيت شريعة الدول في القارة الأوروبية إلى القرن السابع عشر أول عهدهم بالبحث في الشرائع الدولية وحقوق الحرب والسلام، فلم يلتفتوا قط إلى البحث في الحقوق يوم كان الحق كله للسيف تتولاه دولة واحدة تخضع من حولها من الرعايا المتفرقين، ولا تنازعها دولة أخرى في ولايتها عليهم واستبدادها بأمرهم، لم تكن هنالك شريعة في الحقوق يوم كانت شريعة السيف كافية مغنية لمن يملكه إذا غلب، ولمن يخضع له إذا حقت عليه الغلبة، فلما انقسمت الدولة الكبرى في القارة الأوروبية تفرقت الدول شيعا، وتنازعت العروش والتيجان تنازع الحطام الموروث لا تنازع الحقوق والواجبات بين الأمم والشعوب، ويومئذ - في أوائل القرن السابع عشر - بدأت بحوثهم في حدود الحرب والسلام، وتصدى فقيههم الكبير جروتيوس
Grotius
لاستنباط هذه الحدود من وقائع الأحوال فيما سماه بقانون الحرب
Dejury Belt ، ولا يزال بينهم أساس المراجع إلى العصر الحديث. لم يحدث فيه جديد ذو بال إلا أنهم يرجعون عنه إلى الوراء عدة قرون، فيبيحون اليوم ما كان محظورا من اقتحام الحرب بغير علة أو بلاغ.
وإن القارئ المسلم ليبتسم حين يقرأ في مراجع تلك البحوث الفجة أنها بحوث في شريعة تسري على العالم الأوروبي الذي كان معروفا يومئذ باسم العالم المسيحي
Christendom ، ولا تسري على العالم المحمدي
Mohammedism
لأنه عالم جهالة لا يفقه هذه الحدود، ولا يلتزم بواجباتها وتبعاتها ... فمن دواعي السخرية حقا أن يقال هذا عن دين يتناول المتعلم المبتدئ فيه مرجعا من مراجع أصوله التي فرغ البحث فيها منذ القرن السادس للميلاد، فيرى فيه أحكام الإعلان والتبليغ والنبذ والمعاهدة والصلح والذمة والهدنة والموادعة والسفارة والوساطة، ويرى لكل حكم من الأحكام واجباته على المسلم في حالتي إبرامه ونقضه، وواجبات الإمام والرعية فيه مفصلة مرددة كأنها صيغ العقود التي يتحرى فيها الموثقون غاية التوكيد والتقييد منعا للأغلال والأسلال، كما جاء في أول عهد بين الإسلام والمشركين، فإن القارئ المسلم حين يمر بذلك السخف المضحك في بواكير القانون الدولي عند القوم ليحس كأنه على مشهد من ألاعيب أطفال يتواصون فيما بينهم على كتمان أسرارهم عن كبارهم؛ لأن هؤلاء الكبار الخبثاء أغرار لا أمان لهم على تلك الأسرار! •••
ومن البديهي أن الأديان تعليم يبين للناس مواطن التحليل والتحريم، وليست هي بالقوى المادية التي تجرهم من أعناقهم إلى الخير وتحيطهم بالسدود لتصدهم عن مقارفة الشر، وليست هي بترياق الساعة الذي يقال في أساطير السحر إنه يبرئ الأدواء لساعته ويخلفها بالصحة السابغة والشباب المقلد. وقصاراها من الهداية أنها كالمصابيح التي تنير المسالك أمام السالك وتبطل العذر لمن يسلك أسوأ الطريقين على علم بما فيه من السوء والعوج وما في غيره من السداد والاستقامة، وهي على هذا كسب عظيم لبني الإنسان يضيرهم أن يفقدوه؛ فالناس يخالفون القوانين والآداب كل يوم ولا يقال - من أجل هذا - إنهم لم يكسبوا شيئا بتدوين القوانين والمطالبة برعايتها، وإنهم في الزمن الذي يخالفون فيه القانون لا يزالون كما كانوا في زمن الهمجية السائمة لا يميزون بين المحرم والمباح، ولا يعرفون أنهم خالفوا القانون أو لم يخالفوه.
والمسلمون قد تعلموا أصول «القانون الدولي» قبل ظهور القانون الدولي في الغرب بأكثر من عشرة قرون، فخالفوه كثيرا فيما بينهم وخالفوه كثيرا فيما بينهم وبين غيرهم، وتمحلوا المعاذير أحيانا لتسويغ الحرب التي لا تسوغ، ونقض العهود التي يوصيهم الدين برعايتها، وظهر بينهم المجرمون الدوليون كما يظهر المجرمون والعصاة مع كل قانون وكل عرف مأثور، إلا أن هؤلاء المجرمين - كثروا أو قلوا - لم يبطلوا فضيلة دينهم ولم ينسخوا أحكامه بعصيانهم، وذهبوا وبقيت تلك الأحكام ماثلة أمام ولاة الأمر يطيعونها أو يسول لهم الطمع أن يتعدوا حدودها، فلا يجسروا على تعديها جهرة إلا أن يتمحلوا لها معاذيرها ويبدلوا معالمها، ومن لج به البغي فتعدى حدودها ولم يكترث لعواقب العدوان لم ينج من تلك العواقب في مصيره، وانتهى به البغي إلى نهاية كل جامح عسوف مستبد برأيه.
ولما تجاورت دول الإسلام ودول الغرب حول البحر الأبيض المتوسط كانت شريعة الدول الغربية في القانون الدولي هي الشريعة التي خلفتها لها دولة الرومان.
من جاورك فهو عدوك تخضعه أو يخضعك، وتبدأ بالحرب متى استطعت أو يبدؤك هو بالحرب متى استطاع ... وكانت هذه الشريعة على أشدها في معاملتهم لبلاد المسلمين؛ لأنهم أفردوها بعداء واحد فوق كل عداء.
وإذا وضع الميزان بين هذه الدول في هذه الفترة ذهبت كل غدرة من جانب الدول الإسلامية بغدرة مثلها من جانب الدول الغربية، وبقيت في كفة الغرب غدرات كثيرة لا نظير لها، ولا مسوغ لها غير شريعة العداء الدائم في جميع الأحوال.
والترك العثمانيون هم مضرب المثل عند الغربيين للشريعة التي تجوز في معاملات الغرب ولا تجوز في معاملات الأمم الأخرى. ومنهم من يخلط بين كلمة التركي وكلمة المسلم فيظن أن المسلمين كلهم من الترك، ويكتب كتابهم يومئذ عن قسوة التركي وذمة التركي ولباس التركي ولغة التركي، وهو يشمل بالكلمة جميع المخالفين للأوروبيين من المسلمين، وحقهم في عرف القوم أنهم لا حق لهم معروف بين حقوق الآدميين.
ولكن هؤلاء الترك لم يكن من شريعتهم قط أنهم يعاملون أناسا سلبت حقوقهم، واستبيحت دماؤهم وأموالهم لهم بلا سبب ولا مسوغ غير الخلاف في الدين، وطالما هم سلاطين الترك بإكراه المسيحيين في بلادهم على الإسلام أو تستباح دماؤهم وأموالهم، فنهاهم عن ذلك شيوخ الإسلام وقيدوهم بالفتاوى الشرعية التي لا تبيح للسلطان المسلم أن يقتل ذميا، أو يقتل مخالفا يقبل أداء الجزية بعد تخييره بينها وبين المعاهدة أو الإسلام ... ولولا هذه الفتاوى لاستطاع سلاطين الترك أن يحولوا أوروبا الشرقية إلى الدين الإسلامي في جيل واحد أو جيلين، ولولا أن الفتاوى الشرعية كانت لها رهبتها في ضمير السلطان المسلم لما اكترث لها أولئك السلاطين الأقوياء المتحكمون في ممالكهم، ولا سيما أيام الفتوح التي أضافت إلى قوتهم عظمة المجد وخيلاء الظفر والسطو؛ فقد كانت رهبة الفتوى من العالم العارف بأوامر الدين ونواهيه تخيف بطل الحرب الذي لا تخيفه الجيوش والمعامع؛ لأنها رهبة من الله سيد السادة وملك الملوك القادر على أن يخذل المنتصر وينصر المخذول، بل كانت هذه الرهبة تزلزل العروش تحت أربابها وتطيح بهم من فوقها، وكثيرا ما لجأ إليها السلاطين أنفسهم لإجازة ولاية بعدهم لا تجيزها لهم قوة السيف والمال، أو لإجازة العقاب الذي يحلونه بالعصاة ولا بد له من سند شرعي يسوغه لولي الأمر القادر عليه، وما استطاع السلطان أن يوقع بجمع «الانكشارية» المتمردين على الإصلاح إلا بسند من تلك الفتاوى يحتمي به من غضب الله وغضب رعاياه.
ومن أضاليل فقهاء الغرب في القانون الدولي أنهم أسقطوا حقوق الترك في المعاملات الدولية؛ لأنهم مغيرون على البلاد الأوروبية في غير مسوغ للإغارة عليها ، وهم - أي هؤلاء الفقهاء - لا يشق عليهم أن يعلموا مسوغ تلك الإغارة لو كان لهم ميزان واحد للمعاملات بين الدول يزنون به حقوقها جميعا على سواء؛ فإن العالم الأوروبي باتفاق ملوكه وأمرائه وبابواته قد شهر الحرب على العالم الإسلامي في حروبه الصليبية قبل زحف الترك العثمانيين على آسيا الصغرى في أواخر القرن الثالث عشر للميلاد، وكانت أخبار مذابح المسلمين في بيت المقدس وفي المغرب الأندلسي تجوب آفاق القارة الآسيوية إلى أقصاها شرقا، وتجوب آفاق القارة الأفريقية إلى أقصاها جنوبا، وتتغلغل في أنحاء العالم الإسلامي مع الحجاج والمهاجرين في كل عام، فلا تدع مسلما في الأرض بمعزل عن الشعور بحالة الحرب الداهمة؛ لأنه يعلم أنها مشهورة عليه. ولعل فقهاء الغرب يجهلون عمق هذا الشعور الذي ملأ جوانب العالم الإسلامي عدة قرون؛ لأنهم يجهلون مدى انتشار الخبر الذي يهم شعوب المسلمين على أفواه القوافل المترددة في آسيا وأفريقيا من الحجاج والمهاجرين. وعمق هذا الشعور هو الذي قوض دولتي الإسبان والبرتغال في آسيا قبل سائر المستعمرين؛ لأنهما وصلتا إلى الشرق الإسلامي مسبوقتين بسمعة العداوة التي لا عداوة مثلها لشعوب الإسلام. أما أن يعلم فقهاء الغرب عمق هذا الشعور في بلاد العالم الإسلامي ثم يستكثروا على شعب من شعوبه أن ينظر إلى الغرب نظرته إلى محارب يقتص منه فلا عذر له إلا الأثرة العمياء التي تجيز لصاحبها أن يقتحم بلاد غيره، ثم لا يفهم من اقتحام بلاده بعد ذلك إلا أنه عدوان بغير سابقة وبغير حجة!
وتأبى الحوادث إلا أن تجيء عفوا بما ينقض دعوى هؤلاء الفقهاء عن رعاية الإسلام للقوانين والعهود، فيطلق الغرب نفسه لقب «سليمان القانوني» على سلطان من أكبر سلاطين القسطنطينية لم يشتهر بعمل من أعماله الحربية كما اشتهر بأعماله القانونية التي أقامت المعاملات بين الغرب وبلاده على سنن التشريع والمعاهدة، وهذه هي السنن التي اعترف بها في إبان مجده وقوته منحا سخية للغرب، فما زالت حتى أصبحت مع الضعف قيودا وأغلالها يتحكم بها المستعمرون الغربيون في أعناق الشرقيين! •••
ونحن نكتب هذه السطور عن حقوق الأمم في الإسلام وعن حقوقها عند الفقهاء الغربيين بعد أن تنبهوا إلى البحث فيها منذ أوائل القرن السابع عشر، ولا ندري ما مصير هذه الحقوق من الوجهة العملية في عالمنا الحديث.
فقد تقهقرت دول الغرب في بعض أحكام القانون الدولي إلى ظلمات القرون الوسطى، وأسقطت حرمته في أخطر الحقوق وهي حق المفاتحة بالحرب أو حق الإغارة على الأمم بغير إعلان.
وإن تقدم العالم الإسلامي بالقانون الدولي لهو ضرورة قاسرة ليس فيها كبير فضل من نصوص وأحكام، ولا كبير فضل للمقاصد والنيات؛ فإن اشتباك العالم في المصالح بعد اقتراب أنحائه بالمواصلات وتسامع الأخبار قد خلق بين الأمم علاقات مقصودة وغير مقصودة ترغم القوى على محاسنة الضعيف، وتجعل الخطر في بعض أطراف الكرة الأرضية محسوسا به في أبعد أطرافها من بلاد الأقوياء والضعفاء.
فهذه العلاقات مرجوة الخير مبتدئة بالأمم في طريق لا يسهل عليها النكوص عنه، وهي آمنة على سلامتها وسلامة العالم الإنساني في جملته، فإذا صح فيها رجاء العالم الإنساني فهو رجاء يساق الغرب فيه بسائق الضرورة العمياء، ويقل فيه فضل السعي والتدبير، ولكنه رجاء يتلقاه المسلم تصديقا لإيمانه بالله ولعقيدته في حكمته؛ لأنه يؤمن بأن التعارف بين الناس هو الحكمة الإلهية من خلق الشعوب والقبائل واختلاف الأجناس والألوان. (8) حق الإمام
الإمام في الإسلام هو وكيل الأمة في إقامة حدود الله، فحقه مرادف لحق الأمة ما قام بهذه الأمانة؛ لأنه يتولى الإمامة لإيتاء كل ذي حق حقه، ويملك الأمر وتجب له الطاعة فيما تدعو مصلحة الأمة فيه إلى تشريع جديد، وطاعته مقرونة بطاعة الله ورسوله:
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء: 59).
وفي الحديث الشريف: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني، اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة.»
8
وليس للإمام أن يعطل حدا من حدود الله.
وليس له أن يقيم حدا منها في غير موضعه.
وإقامته في غير موضعه أن يقام حيث لا تثبت أركانه ولا تدرأ شبهاته؛ فالإمام الذي يعطل الحد مخالف لأوامر الله، والإمام الذي يقيم حدا ليس بثابت الأركان ولا مدروء الشبهات مخالف لأوامر الله.
وعلى الإمام تقع تبعة الأمة كلها في تقدير مصالحها وضروراتها، وتقدير ما يترتب على هذه المصالح والضرورات من إجراء الأحكام أو وقفها أو التوفيق بينها وبين أحوالها.
وليس هذا من الاجتهاد الذي يجوز فيه الخلاف؛ لأن الاجتهاد اعتماد على تقدير لم يرد فيه نص صريح، وأما رعاية الضرورات فقد وردت فيها نصوص صريحة لا تفهم على معنى من المعاني إن لم يكن معناها أن للاضطرار حكما غير حكم الاختيار، وأن تقدير الاضطرار في تطبيق الشرع موكول إلى ولي الأمر ساعة حصوله:
فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه (البقرة: 173)،
وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه (الأنعام: 119)،
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (المائدة: 3).
والأمر بالتفكير نص صريح في القرآن الكريم كهذه النصوص عن الضرورات، فليس من الدين أن يتلقى المسلم آيات ربه في كتابه وآيات ربه في خلقه بغير تفكير:
فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (الأعراف: 176)،
إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (النحل: 11)،
إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (النحل: 67)،
كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (الروم: 28)،
قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (الأنعام: 50)،
ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (البقرة: 219).
وليس في القرآن الكريم أمر واجب على الإنسان أكثر من واجب العقل والتفكير، وليس فيه نعي على قوم أشد من النعي على الذين لا يعقلون ولا يتفكرون.
فرعاية الضرورات نص صريح، والأمر بالتعقل والتفكير نص صريح، ومن قال بغير ذلك فهو الذي يجتهد برأي من عنده يخالف صريح النصوص.
أما موضع الاجتهاد الذي يطلب من الإمام في مسائل التشريع فهو الذي فصله الفقهاء في أبواب القياس أو الاستحسان أو الاستصلاح، وقد أجملها العالم الفاضل الأستاذ عبد الوهاب خلاف في كتابه عن مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه فقال: «إنه إذا عرضت للمكلف واقعة فيها حكم دل عليه نص في القرآن أو السنة انعقد عليه إجماع المجتهدين من المسلمين في عصر من العصور، وجب اتباع هذا الحكم، ولا مجال للاجتهاد بالرأي في حكم هذه الواقعة، وإذا عرضت واقعة ليس فيها حكم بنص ولا إجماع ولكن ظهر للمجتهد أنها تساوي واقعة فيها حكم بنص أو إجماع في العلة التي بني عليها حكم النص أو الإجماع، فإنه يسوي بين الواقعتين في حكم النص لتساويهما في العلة التي بني عليها، وهذه التسوية هي القياس، وهو أول طريق الاجتهاد بالرأي؛ لأن المجتهد يستنبط علة حكم النص باجتهاده برأيه، ويتحقق من وجودها في الواقعة المسكوت عنها باجتهاده برأيه.» «وإذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص حكما فيها، أو يقتضي القياس الظاهر المتبادر حكما فيها، أو يقتضي تطبيق الحكم الكلي حكما فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه الواقعة ظروفا وملابسات خاصة تجعل تطبيق النص العام أو الحكم الكلي عليها أو اتباع القياس الظاهر فيها يفوت المصلحة، أو يؤدي إلى مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى حكم آخر اقتضاه تخصيصها في العام أو استثناؤها من الكلي، أو اقتضاه قياس خفي غير متبادر؛ فهذا العدول هو الاستحسان، وهو من طرق الاجتهاد بالرأي؛ لأن المجتهد يقدر الظروف الخاصة لهذه الواقعة باجتهاده برأيه، ويرجح دليلا على دليل باجتهاده برأيه.» «وإذا عرضت واقعة ليس فيها حكم بنص ولا إجماع ولا قياس ولا يتعارض فيها دليلان، وظهر للمجتهد أن هذه الواقعة فيها أمر مناسب لتشريع حكم، أي أن تشريع الحكم بناء عليه يحقق مصلحة مطلقة؛ لأنه يجلب نفعا أو يدفع ضررا، فاجتهد في تشريع الحكم لتحقيق هذه المصلحة فهذا هو الاستصلاح، وهو من طريق الاجتهاد بالرأي؛ لأن المجتهد يهتدي إلى الأمر المناسب في الواقعة برأيه، ويهتدي إلى الحكم الذي يبنيه عليه برأيه.» «فواقعة القياس واقعة ليس فيها حكم بنص أو إجماع ألحقت بواقعة فيها حكم بنص وإجماع، وواقعة الاستحسان واقعة تعارض في حكمها دليلان، وعدل المجتهد فيها عن حكم أظهر الدليلين لسند استند إليه في العدول، وواقعة الاستصلاح واقعة بكر لا حكم فيها بنص ولا إجماع ولا قياس، وشرع فيها المجتهد لتحقيق مصلحة معينة.»
واجتهاد الصحابة بإذن النبي - عليه السلام - هو السند الذي يرجع إليه الفقهاء في جواز الاجتهاد أو وجوبه عند الاضطرار إليه، وأشهر وصاياه - عليه السلام - لكبار صحبه وصيته لمعاذ بن جبل وعمرو بن العاص.
وقد روى الإمام أحمد بسند مرفوع إلى أصحاب معاذ من أهل حمص فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال معاذ: فضرب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صدري ثم قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله.
وروي عن عمرو بن العاص أنه جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال له: يا عمرو اقض بينهما. قال: أنت أولى بذلك مني يا نبي الله. قال: وإن كان. قال: على ماذا أقضي؟ قال: إن أصبت القضاء بينهما لك عشر حسنات، وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.
ويلاحظ بعض رواة الأحاديث أن حديث معاذ مرفوع إلى أصحاب له مجهولين، فيقول الإمام ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين» ردا على هذه الملاحظة إن الحديث وإن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حدث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح؟ بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك. كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث، وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به ... قال أبو بكر الخطيب: وقد قيل إن عبادة بن أنس رواه عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة. على أن أهل العلم نقلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا وصية لوارث.» وقوله في البحر: «هو الطهور ماؤه والحل ميتته.» وقوله: «إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع.» وقوله: «الدية على العاقلة.» وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد، ولكن لما تلقنها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم في طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له ...
وقد عني الإمام ابن القيم بمناقشة مخالفيه على ديدن فقهاء الإسلام في التحرج من إبداء الرأي أو معارضته بغير دليل، والحرص على إبراء الذمة في كل قول يأخذون به أو ينقدونه، فأجاب المتشككين في إسناد الحديث بالحجة التي اصطلح عليها علماء الأثر، ولكنه كان في غنى عن ذلك بأدلة الاجتهاد الكثيرة من أعمال النبي - عليه السلام - وأعمال الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم. وفي هذا الأمر خاصة - أمر معاذ رضي الله عنه - كان الإمام ابن القيم في غنى عن مناقشة السند بإثبات حقيقة واحدة لا شك فيها؛ وهي أن معاذا ولي القضاء قبل تمام التنزيل ولما تتنزل الآية الشريفة:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة: 3)، ولو لم يكن من حق الإمام أن يقضي بما يراه موافقا للقرآن الكريم لما أمكن أن تسند الولاية إلى أحد، وفي القرآن الكريم بقية يجهلها الولاة، وكيفما كان تأويل المتأولين في جواز الاجتهاد فما يكون لصاحب رأي في الإسلام أن يزعم أن الناس أمروا بالنصوص الكتابية كما تؤمر الآلات التي تساق إلى عملها ولا تدري حكمته، ولا تفقه معنى لتحريم الحرام وتحليل الحلال، وأنهم لم يؤمروا بالنصوص كما يؤمر العقلاء المكلفون بالنصوص المتواترة أن يتدبروا أمر الله ونواهيه، ويتدبروا آيات الله في الكتاب وآياته في الأرض والسماء. ويئس مثل المتعالمين الذين يحتجون بالكتب ولا يفقهونها، فإنهم كما جاء في القرآن الكريم:
كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله (الجمعة: 5)، على أن الأدلة على جواز الاجتهاد، بل على وجوبه، كثيرة كما قدمنا فيما ثبت من أعمال النبي - عليه الصلاة والسلام - وأعمال خلفائه الراشدين، ولا سيما الخليفة الثاني الذي تولى خلافة النبي في دولة واسعة الأطراف تتطلب من الإمام أن يتصرف في تطبيق النصوص كلما عرضت له المشكلات بجديد لم يكن على عهد به قبل اتساع الدولة.
فالنبي - عليه السلام - تدرج في إيجاب التكليف، وجاء في رواية الإمام أحمد: «إن وفد ثقيف اشترطوا على رسول الله ألا يحشروا ولا يعشروا ولا يجمعوا ولا يستعلي عليهم غيرهم؛ أي لا يخرجوا للغزو ولا يؤدوا الزكاة ولا يصلوا ولا يولى عليهم أحد من غير قبيلتهم، فقال - عليه الصلاة والسلام: «لكم ألا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه».»
وقبل النبي منهم ما اشترطوه وهو يقول كما جاء في رواية أبي داود أنهم «سيصدقون ويجاهدون»، أي أنهم سيؤدون فرائض الإسلام متى ثبت الإيمان في قلوبهم وشاهدوا غيرهم من المسلمين يتصدقون ويخرجون للجهاد.
وروى أبو داود عن عبد الله بن فضالة عن أبيه قال: «علمني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكان فيما علمني: وحافظ على الصلوات الخمس. قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عني. فقال: حافظ على العصرين - وما كانت من لغتنا - فقلت: وما العصران؟ فقال: صلاة قبل طلوع الشمي وصلاة قبل غروبها.»
ومثل هذه الرواية أن رجلا أتى النبي - عليه الصلاة والسلام - فأسلم على أنه لا يصلي صلاتين فقبل ذلك منه.
وروى البخاري عن أم عطية أنها قالت: «بايعنا
صلى الله عليه وسلم
فقرأ علينا:
أن لا يشركن بالله شيئا
ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة يدها وقالت: أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها. فما قال لها
صلى الله عليه وسلم
شيئا، فانطلقت ورجعت فبايعها.» وفي رواية النسائي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: «فاذهبي فأسعديها.» فذهبت فأسعدتها ثم جاءت فبايعت.
9
وقد صنع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك ترغيبا للمشركين في الإسلام، وتأليفا لقلوبهم وتدرجا بهم في الصبر على فرائضه وفضائله، وتعويدا لهم أن يطيعوا أوامر دينهم عن رغبة فيها واقتداء حسن بمن يطيعونها.
وتعددت مسائل الاجتهاد التي قضى بها الفاروق في خلافته؛ فأعفى من العقوبة، وأسقط سهم المؤلفة قلوبهم، وفرض الخراج، وأنشأ من المكافآت والعقوبات ما لم يكن معمولا به قبل خلافته.
كان يقول: لا تقطع اليد في عذق ولا عام سنة، وسرق غلمة لحاطب بن أبي بلتعة ناقة لرجل من مزينة وأقروا بالسرقة، فقال عمر لكثير بن الصلت: اذهب فاقطع أيديهم، ولمح في وجوههم شحوبا فأمر بردهم، وقال: أما والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى أن أحدهم أكل ما حرم الله عليه حوله لقطعت أيديهم، وايم الله إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك. ثم قال: يا مزني! بكم أريدت منك ناقتك؟ قال بأربعمائة، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمائة.
وسئل الإمام أحمد بن حنبل: أتعمل به؟ قال: إي لعمري، لا تقطع يد السارق إن حملته الحاجة على ذلك والناس في مجاعة وشدة.
وأسقط عمر سهم المؤلفة قلوبهم، وكان النبي - عليه السلام - قد أعطى أبا سفيان والأقرع بن حابس وعباس بن مرداس وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن كل واحد منهم مائة من الإبل. وطلب عيينة بن حصن والأقرع بن حابس أرضا من أبي بكر الصديق فكتب لهما بها، فلما رأى عمر الكتاب مزقه وقال: إن الله أعز الإسلام وأغنى عنكم، فإن ثبتم عليه وإلا فبيننا وبينكم السيف.
ومن سوء الفهم أن يقال إن الفارق خالف النص في هذه القضية، وإنما يقال إنه اجتهد في فهم النص كما ينبغي، وإنه بحث عن المؤلفة قلوبهم فلم يجدهم؛ لأن تأليف القلوب إنما يكون مع مصلحة للإسلام والمسلمين، فإن لم يكن تأليف لم يكن هناك مؤلفة يستحقون العطاء. ولو أن عيينة والأقرع وأصحابهما سئلوا يومئذ: أهم من المؤلفة قلوبهم يستحقون العطاء لأنهم ضعاف الإيمان لما قبلوا أن يثبتوا في ديوان العطاء.
ولما فتحت أرض الجزيرة وما وراءها لم يشأ أن يقسمها وقال: كيف بمن يأتي من المسلمين؟ يجد الأرض قد قسمت وورثت عن الآباء! ما هذا برأي! ثم أرسل إلى عشرة من الأنصار وقال لهم: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملت من أمركم ... قد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين المقاتلة والذرية، ولمن يأتي من بعدهم. أرأيتم هذه الثغور؟ لا بد لها من رجال يلزمونها. أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر؟ لا بد لها أن تشحن بالجيوش وإدرار العطاء عليهم. فمن أين أعطي هؤلاء إذا قسمت الأرضين والعلوج؟! فقالوا جميعا: الرأي رأيك، نعم ما قلت وما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال، وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.
وقد أخذ عمر بتمييز السابقين إلى الإسلام بالمكافأة على الذين تبعوهم كرها ولم يشهدوا من الغزوات ما شهدوه، وأنفذ فتوى علي - رضي الله عنه - حين أفتى بمعاقبة شارب الخمر بعقوبة القاذف؛ لأن المخمور لا يملك لسانه إذا سكر وهذى، وأمضى كثيرا من المكافآت والعقوبات على هذا القياس.
ولم يتحرج الخليفة الأول من الاجتهاد بالرأي عند وجوبه، وإنما كثر الاجتهاد في عهد الخليفة الثاني لكثرة دواعيه، وكان الصديق يقدم على الاجتهاد أحيانا حين يحجم عنه صاحبه كما حدث في حروب الردة؛ حيث أمر الصديق بحرب مانعي الزكاة، وتردد عمر في جواز حرب الناطق بالشهادتين.
وسئل الصديق عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها برأي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد.
واجتهد عثمان وعلي كما اجتهد أبو بكر وعمر - رضوان الله عليهم - فمن اجتهاد عثمان أن يأمر بكتابة المصحف على حرف واحد منعا لاختلاف الألسنة في القراءة، ويوشك أن يكون لعلي - رضي الله عنه - رأي في كل معضلة عرضت للخلفاء من قبله، وربما رأى الرأي ثم عدل عنه ثم عدل عن عدوله كما حدث في فتواه بيع أمهات البنين؛ فقد كان اتفق مع عمر على منع بيعهن، ثم قال لقاضيه عبيدة السلماني كأنه يخيره بين البيع ومنعه، فقال عبيدة: يا أمير المؤمنين، رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال: اقضوا بما كنتم تقضون، فإني أكره الخلاف.
ولم ينته الاجتهاد بعد الخلفاء الراشدين؛ لأن الاجتهاد إنما أوجبه أنه ضرورة تعرض للإمام المسئول مع تقلب الأحوال وتجدد الطوارئ والمناسبات، وأحرى أن يكون للتابعين ألزم منه للأولين الذين كانوا على مقربة من معاهد التنزيل وجيرة النبي صاحب الرسالة.
غير أن أهل الذكر الذين يوليهم المجتمع الإسلامي أمانة العلم والأمر بالمعروف قد بادروا إلى دعم أسس التشريع، واستنبطوا له الضوابط والآداب من آيات الكتاب وأحاديث الرسول ومأثور السلف الصالح، فخلصت لهم من ذلك نخبة قيمة من القواعد والشروط يحق لنا أن نسميها قوانين التقنين، وهي تقابل اليوم ما يسمى في عرف المشترعين الغربيين بالحكم وجوامع الأمثال
Maxims .
ومن هذه القواعد أن اليسر مفضل على الحظر في أوامر الشرع ونواهيه؛ فحيثما أمكن السماح فهو أفضل من الحجر والتقييد، لقوله تعالى:
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر (البقرة: 185)، ولما أثر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - في حديث السيدة عائشة أنه: «ما خير رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن يكن إثما كان أبعد الناس عنه.»
ومن قواعد التشريع أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، وما رآه المسلمون حسنا فهو حسن، وأنه «لا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة»، و«أن الضرورات تبيح المحظورات»، وأنه «لا ضرر ولا ضرار»، و«أن اختيار أخف الضررين مصلحة» و«البينة على المدعي واليمين على من أنكر»، و«الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا»، و«لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس أن تراجع الحق»، و«إياك والغضب والقلق والضجر والتأذي بالناس.»
ومن ضوابط التشريع فصل السلطات وفصل عمل الحكم عن عمل التنفيذ، وفي ذلك يقول أحمد بن القرافي في الذخيرة: «إن ولاية القضاء متناولة للحكم لا يندرج فيها غيره، وليس للقاضي السياسة العامة ... وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما ... وليس للقاضي قسمة الغنائم وتفريق أموال بيت المال على المصالح وإقامة الحدود وتركيب الجيوش وقتال البغاة.»
ومن ضوابط التشريع حق النقض «فيما خالف نص آية أو سنة أو إجماع أو ما يثبت من عمل أهل المدينة أو القياس الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا أو الدليل القاطع الذي لا يحمل اختلاف الآراء.»
وتفصيل ذلك مستفيض في كتب الفقهاء.
فالإمامة - بهذه الضوابط والآداب - مصدر دائم من مصادر التشريع لكل زمن بما يستجد فيه، ولكل حالة بما يناسبها، يواجه به الإسلام ضرورات التشريع بغير حجر على الإمام أو على الأمة، وحقهما في ذلك سواء؛ لأن الإمام وكيل الأمة في حماية الحقوق، ولأن إجماع الأمة هو الحجة التي يستند إليها الإمام كلما تيسر الإجماع التام، فما تيسر منه كاف في إجراء أعمال الإمامة.
ولا تقع في الحسبان - بهذه المثابة - قضية واحدة يقال إن مصادر التشريع الإسلامي تضيق عن حكمها الذي يناسب زمانها وأحوالها، ولا يجوز مع هذا أن نحسب الشريعة الإسلامية من الشرائع المتحجرة التي لا تقبل المرونة، وإن كانت كذلك لا تحسب من الشرائع الرخوة التي لا تتماسك على أساس متين.
وقد حاول حاكم من أكبر حكام الغرب أن يلصق بالتشريع الإسلامي مظنة التحجر في العصر الحاضر، فشاء القدر أن يجري عليه قصاصا كان ينعاه على التشريع الإسلامي في معاقبة المفسدين؛ لأنه أمر بإحراق عصابة من اللصوص في مزرعة من القصب لاذت بها وتحصنت فيها من مطارديها، في جهة البلينا من صعيد مصر، فأمر الحاكم مفتشه من قومه بأن يشعل النار في المزرعة، ويتصيد من يهرب منها ضربا بالرصاص.
ذلك الحاكم هو لورد كرومر قيصر قصر الدوبارة في القاهرة كما يلقبونه في زمنه، وقد أخذ على الشيخ العباسي مفتي الديار المصرية أنه سئل عن عقاب العصابات فذكره كما جاء في الآية الكريمة:
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم (المائدة: 33-34).
وهذه عقوبات فرضت في الجزيرة العربية قبل استفتاء الشيخ العباسي (سنة 1890) بثلاثة عشر قرنا، وفيها التخيير بين القتل وقطع الأطراف وبين السجن أو الإقصاء من الديار، وفيها العفو عمن تاب واستقام، وليس فيها الإحراق الذي كان للحاكم مندوحة عنه، لو أنه آثر أن يصبر على محاصرة المفسدين حتى يستسلموا له طائعين.
وقبل الاحتلال البريطاني لمصر - في أثناء الاحتلال الفرنسي في القرن الثامن عشر - حكم قضاة نابليون على سليمان الحلبي قاتل القائد كليبر بالقتل على الخازوق وقطع يديه ورجليه يدا بعد يد ورجلا بعد رجل، ثم إحراقه حيا بعد هذا التعذيب.
أما الذين حاكمتهم محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر للميلاد - أي بعد بعثة النبي العربي بسبعة قرون - فحكمت عليهم بالإحراق فعدتهم مئات وألوف، منهم العلماء والأدباء والقساوسة والمتهمون بالسحر ومحالفة الشيطان، وليس منهم سفاح ولا قاطع طريق، وذنبهم كله أنهم يحلون من المعرفة ما يحرمه رجال الدين.
ولا نعلم أن أحدا من قضاة التفتيش أو من قضاة نابليون ندم على إحراق الناس بقية الحياة، ولكننا نعلم أن خليفة مسلما عاقب لصا من عتاة الجناة المفسدين غدر بعهد الأمان وقتل الأبرياء وتحدى ولي الأمر وأعوانه واستحق حكم الموت، فأحرقه الخليفة بالنار؛ ذلك هو الفجاءة بن إياس بن عبد ياليل الذي وفد على الخليفة أبي بكر الصديق يسأله سلاحا يحارب به المرتدين ويحمي به الطريق، فلما أعطاه السلاح خرج به يقطع الطريق وينهب السابلة ويحارب المسلمين، فطارده الخليفة حتى ظفر به فألقى به في النار، وعاش بقية حياته يندم على هذه المثلة؛ لأنها من غضب الحدة، وإن كان غضبا لا يعاب. •••
والعبرة في معظم هذه الأخطاء التي يقع فيها نقاد الشريعة الإسلامية من ساسة الغرب أنهم يرغبون في توجيهها، ولا يكلفون أنفسهم أن يترددوا فيها، ولولا ذلك لما وجهوا نقدهم إلى موضع الاستيفاء والضمان من هذه الشريعة؛ لأنهم لم يسألوا أنفسهم قط في أمر العقوبات التي يستعظمونها: هل هم على يقين أنها لم تكن في حالة من الحالات رادعة أو لازمة للتحذير والتخويف؟ وهل أوجبتها الشريعة الإسلامية في جميع الحالات ولم توجب معها عقوبة أخرى تصلح للأخذ بها في زمانها وفي غير زمانها؟ وهم خلقاء أن يترددوا في النقد إذا كلفوا أنفسهم بعض هذه الأسئلة؛ لأنهم ينكرون على الشريعة الإسلامية شرط التشريع الذي يزعمون أنهم يطلبونه وهو الوفاء بحاجة الزمن والمطابقة لجميع الأحوال، ويسقطون من حسابهم مصدر التشريع الدائم في الإسلام، وهو مصدر الإمامة ومن ورائه حق الأمة أو حق الإجماع، فإن هذا المصدر أوفى من أكبر المصادر العصرية التي يعولون عليها وهو مصدر السيادة؛ إذ كانت السيادة معززة بحق ولاة الأمر وحق الاستفتاء العام، وكانت الإمامة شاملة لهذه الحقوق جميعا، وتزيد عليها قداسة الدين واتفاق الأمة في جميع أزمنتها، كأنها وحدة عامة لا تتقيد بإرادة الأحياء في فترة واحدة.
ولا حاجة للأمة في عصر من عصورها إلى مصدر من التشريع أوفى من مصدر السيادة بهذا المعنى الواسع المحيط بكل حرمة من حرمات الشرع في غير حد، ولا حجر على حرية الأحياء ولا حرية الأجيال المقبلة؛ لأن التبعة على قدر السلطة في كل جيل من أجيال الأحياء.
وما من جهة واحدة يستند إليها حق الإمامة كله في الإسلام، ولا استثناء في ذلك لصاحب الرسالة وأمين التبليغ نبي الإسلام - عليه السلام:
ليس لك من الأمر شيء (آل عمران: 128)،
إنما أنا بشر مثلكم (الكهف: 110)،
وما أنت عليهم بجبار (ق: 45)،
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله (آل عمران: 64).
ويؤمر النبي بمشاورة المسلمين:
وشاورهم في الأمر (آل عمران: 159).
ويؤمر المسلمون بالمشاورة بينهم:
وأمرهم شورى بينهم (الشورى: 38). •••
فحق الإمامة إذن أعم من حق السيادة؛ لأنه - في جانبي التشريع والتنفيذ - مستمد من أوامر الله وسنة رسول الله واجتهاد أولياء الأمر، واجتهاد الجماعة الإسلامية كلها برأيها على أتم صورة يثبت عليها.
ولهذه وجبت للإمامة طاعة تناسب هذه القداسة، فلا حدود لها إلا أن يأمر الإمام بالخروج من الدين أو بمعصية الخالق فهو لا يطاع إذن؛ لأنه ليس بإمام. وقسطاس العهد بين الإمام ورعيته كما جاء في حديث عبادة بن الصامت: «بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وعلى ألا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.» ويتمم الحديث في رواية أخرى «ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ...»
ويقول عثمان بن عفان - رضي الله عنه: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.»
وفي الأثر: «إن السلطان ظل الله في أرضه يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإذا عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإذا جار كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر.»
وليس حق الإمامة بالبداهة حق الإمام لشخصه، ولا هو من الحقوق التي يمكن أن تحصر في جهة واحدة، وإنما يحق للإمام منه ما هو حقه بموجب البيعة والأمانة العامة؛ فهو مطيع في هذه الأمانة مطاع.
ومن ثم وجب أن يتولى الإمام عمله باختيار رعاياه. ولا بد من البيعة العامة لكل إمام مسئول تجب له الطاعة، يرشحه من استطاع من أولي الحل والعقد، وينعقد له الأمر بعد إجازة هذا الترشيح بالبيعة العامة، ويجوز أن يرشحه واحد أو يشترط في ترشيحه اتفاق عدد المسلمين تجوز لهم صلاة الجماعة. إلا أن الاتفاق على عدد المرشحين لا يغني عن المرجع الأخير وهو اتفاق الجماعة بلا خلاف أو اتفاقها على القدر الذي ترجح به الكفة وتمتنع به الفتنة. ومن أقدم على الفتنة فإثمها عليه يقضي فيه الإمام المختار أو يقضي فيه سلطان الجماعة حيث استقام لها سلطان مشروع. •••
ومن تمام التكافل «والتضامن» في المجتمع الإسلامي أن أمانة «الإمامة» لا تعفي الأمة من واجب النصيحة لإمامها، وقد جمع نبي الإسلام الدين في كلمتين إذ قال: «الدين النصيحة.» وسئل: لمن يا رسول الله؟ فقال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.»
وقال - عليه السلام - في حديث آخر: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.»
وإزاء هذا الواجب من الرعية واجب يتممه من قبل الإمام، ويتأسى فيه الأئمة بصاحب الإمامة الأولى الذي قال لرجل أصابه وجل عند لقائه: «رويدك يا هذا، إنما أنا بشر، أنا ابن امرأة أعرابية كانت تأكد القديد.» وفي كتاب الله خطاب للنبي ولكل إمام متبوع:
واخفض جناحك للمؤمنين (الحجر: 88)،
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (الشعراء: 215).
وختام القول في هذا الحق المحيط بجميع الحقوق - حق الإمامة - أنه باب مفتوح للتشريع في كل عصر وكل مجتمع، وأنه يكفل للأمة الإسلامية ما يكفله حق السيادة وزيادة؛ فلا منفذ لنقد التشريع الإسلامي في جميع مصادره ما بقي له هذا المصدر مستمدا من ضمير الإنسان وحكمة الله.
الفصل الرابع
الأخلاق والآداب
التناسق ظاهرة عجيبة في الإسلام، يلمسها من تأمل فيه وألقى عليه في مجموعه نظرة عامة بين عقائده وعباداته، وبين ما يشرعه من المعاملات والحقوق ويحمده من الأخلاق والآداب.
هنالك وحدة تامة أو بنية واحدة يجمعها ما يجمع البنية الحية من تجاوب الوظائف وتناسق الجوارح والأعضاء.
ويندر أن تقرأ في كلام ناقد من الأجانب عن اللغة العربية شيئا من مآخذ التناقض في الإسلام إلا بدا لك بعد قليل أنه مخطئ، وأن مرد الخطأ عنده إلى جهل الإسلام أو جهل اللغة العربية، وبعضهم يجهلها وهو من المستشرقين؛ لأنه يستظهر ألفاظها ولا يتذوقها، ولا ينفذ إلى لبابها من وراء نصوص القواعد والتراكيب.
قرأنا لبعضهم أخيرا كتابا عن الشيطان يلم فيه بصفة إبليس في الإسلام، ويستغرب فيه من هذا الدين أن يقول عن الله إنه أمر الملائكة بالسجود لآدم ... مع أنه الدين الذي اشتهر بغاية التشديد في إنكار الشرك وتكفير كل ساجد لغير الله.
ومرد الخطأ فيما بدر إلى الكاتب من التناقض بين التوحيد وبين السجود لآدم أنه فهم السجود بمعنى الصلاة دون غيرها من معاني الكلمة في اللغة العربية، وفاته أن الكلمة عرفت في اللغة العربية قبل أن يعرف العرب صلاة الإسلام، ولم يفهموا منها أنها كلمة تنصرف إلى العبادة دون غيرها؛ لأنهم يقولون: «سجدت عينه» أي أغضت، و«أسجد عينه» أي غض منها، و«سجدت النخلة» أي مالت، و«سجد» أي غض رأسه بالتحية، و«سجد لعظيم» أي وقره وخشع بين يديه. ولا تناقض على معنى من هذه المعاني بين السجود لآدم وتوحيد الله، وإنما السجود هنا هو التعظيم المستفاد من القصة كلها، وهو تعظيم الإنسان على غيره من المخلوقات.
وبعضهم يرى أن الإسلام مناقض بطبيعته للعمل والسعي في سبيل الحياة؛ لأنه يفهم من الإسلام أنه التواكل وتسليم الأمر إلى الله بغير حاجة إلى الحول والقوة؛ لأنه «لا حول ولا قوة إلا بالله».
وجهل هؤلاء بالفهم أكبر من جهلهم باللغة؛ لأن الإسلام إلى الله وحده وتحريم الإسلام لغيره يأبى على المسلم أن يسلم للظلم أو يسلم للتحكم من الناس أو من صروف الحياة، وينهاه أن يستسلم للخيبة وللقسمة الجائرة، وأن يستسلم لكل قضاء لا يرضاه ويعلم أن الله لا يرضاه.
وبعضهم يرى أن الإسلام والسلم نقيضان؛ لأنه يفهم من كلمة أسلم أنها التسليم في الحرب
Surrender
أو التسليم قبل الحرب خوفا من القتال، فكل مسلم فهو خاضع للسيف هزيمة بعد الحرب أو خوفا من الحرب قبل إشهارها عليه.
وهؤلاء المتحذلقون على اللغة التي يجهلونها يفوتهم أن كلمة «أسلم» في ميدان الحرب هي نفسها مأخوذة من إعطاء اليد أو بسطها للمصافحة، وأن المقصود بهذه الكلمة في الدين أنها استقبال الله والاتجاه إليه، فمن أسلم وجهه لله فقد استقبل طريقه وأعطاه وجهه ولم يتحول عنه إلى غيره. وكل المتدينين قبل الدعوة المحمدية موصوفون بأنهم مسلمون كما جاء في سورة البقرة:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (البقرة: 130-133).
وفي القرآن الكريم أن المسلمين وصفوا بالإسلام في الكتب الأولى كما جاء في سورة الحج:
وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل (الحج: 78).
وأكثر ما اطلعنا عليه من النقائض المزعومة فهو من قبيل هذه الأخطاء في التفرقة بين الكلمات على معانيها المطلقة، وبين هذه الألفاظ على معانيها التي قيدها الاصطلاح أو خصصتها لغة القرآن الكريم.
وفيما عدا هذه النقائض وما إليها يروع الباحث في الإسلام ذلك التناسق بين عقائده وأحكامه أو بين عقائده وأخلاقه. ولعل هذا التناسق أظهر ما يكون بين الأخلاق المتعددة التي حمدها الدين من المسلم، وهي متفرقات تجمعها وحدة لا تستوعبها وحدتها الإسلامية؛ فهي في جملة وصفها أخلاق إسلامية وكفى.
هل هي أخلاق قوة؟ هل هي أخلاق محبة؟ هل هي أخلاق قصد واعتدال؟ هل هي أخلاق اجتماعية؟ هل هي أخلاق إنسانية؟
هي كذلك أحيانا ولكنها ليست كذلك في جميع الأحيان؛ لأن أخلاق القوة قد تفهم على وجوه متعددة، أو متناقضة، يحمد الإسلام بعضها ولا يحمد بعضها، أو يذمها جميعا إذا فهمت على مذهب فلاسفة القوة في العصر الأخير.
وقد توصف الأخلاق في الإسلام بأنها «أخلاق محبة»؛ لأن أصول العلاقات بين الناس قائمة في الإسلام على شرعة المحبة والأخوة كأنهم من أسرة واحدة، ولكن الإسلام ينكر من المسلم أن يحب الخبيث كما يحب الطيب، ويعرف العداوة في الحق كما يعرف الصداقة فيه.
وليس قوام الأخلاق كله في التوسط أو في القصد والاعتدال على مذهب الفلسفة اليونانية أو فلسفة أرسطو على الخصوص. وليس مآل الأخلاق كله في الإسلام إلى وحي المجتمع أو وحي الإنسانية برمتها؛ لأن المجتمع قد يدان بأخلاقه كما يدان الفرد، ولأن الإنسانية لا ترتفع إلى ما فوق جوانب الضعف فيها إن لم يكن لها من المثل العليا ما يسمو عليها، أو تسمو هي إليه جيلا بعد جيل. •••
أخلاق القوة في العصر الأخير مقترنة باسم «فردريك نيتشه» رسول السوبرمان الذي كاد إيمانه بالسوبرمان أن ينقلب إلى عداوة للإنسان.
فالسوبرمان لا يرحم ولا يغفر ولا يعرف للضعيف نصيبا من «الإنسان الأعلى» غير نصيب الزراية والإذلال، أو الإبادة والاستئصال، محافظة على سلامة النوع من عدوى الضعف وعواقب الإبقاء على الضعفاء، وهم في عرفه أولى بالاجتناب من مرضى الجذام.
والأخلاق عنده قسمان: قسم للسادة لا يقبله العبيد، وقسم للعبيد لا يقبله السادة؛ فليس بين الفريقين جامعة إنسانية تلتقي بهم في صفة من الصفات، بل هم أعداء يتسلط منهم القادر على العاجز، ولا يحسن بالمتسلط أن يقبل من العاجز غير الخنوع والهبوط في الذلة من هاوية إلى هاوية، لا نهاية غير الانقراض والفناء. •••
وأخلاق القوة عرفت قبل نيتشه بتفسير لا تفسير فيه عند الحاجة إلى تفسير؛ لأنه يجعل القوة مرادفة للاستحسان، ولا ندري منه لماذا يكون هذا الاستحسان.
وتفسير الفيلسوف هوبز
Hobbes
للقوة من هذا القبيل.
فالناس على زعم هؤلاء المفسرين يحمدون الرحمة؛ لأنهم يحمدون القوة، ويرون في الرحمة دليلا على قوة الرحيم؛ لأنه يتفضل بها على الضعيف ويترفع بها عن معاملته كما يعامل الأنداد والنظراء.
والناس يحمدون العفو؛ لأن الذي يعفو عن المسيء إليه يعتد بقوته ويأمنه إن وفى له بالشكر أو غدر به على السواء.
وهم يحمدون الكرم؛ لأنه عطاء، ولا يملك ما يفضل من حاجته ويجود به على المفتقر إليه غير الأقوياء.
وهم يحمدون الصبر؛ لأن القوي جليد يتماسك لصدمة المصاب ولا يتضعضع تحت وقره الثقيل؛ فهو يصبر على بلائه لأنه قوي يحتمل منه ما لا يحتمله الضعيف. ولا يكون القوي جزوعا وإن عظم عليه المصاب.
وهم يحمدون الدهاء؛ لأنه قوة في العقل يتمكن بها صاحب العقل القوي من تسخير الأقوياء بالأجسام، ويحمدون الذكاء والحذق والمعرفة والبراعة في صناعة من الصناعات؛ لأنها علامة من علامات القوة على نحو من الأنحاء.
وهذه الفضائل - أو المزايا - تفيد أصحابها قوة كما تنمي فيهم القوة التي تصدر عنها؛ فهي محمودة لما تدل عليه، ولما تؤدي إليه.
أما العظمة والمجد والشجاعة فلا حاجة بها إلى تفسير عند من يرجعون بالأخلاق جميعا إلى القوة على هذا الأسلوب؛ لأنها ظاهرة بقوتها معترف بسبب الإعجاب بها بين الأقوياء أو الضعفاء.
وقبل الرجوع بالأخلاق المثلى إلى القوة على مذهب هوبز أو على مذهب نيتشه، كانت المدرسة اليونانية تعتبر الأخلاق الفاضلة وسطا بين طرفين، أو تحث طالب الفضيلة على الاعتدال في جميع الأمور، والاتجاه إلى الحسن من كل خلق على قدر حظه من الاعتدال.
فالشجاعة وسط بين التهور والجبن، والكرم وسط بين الإسراف والبخل، والصبر وسط بين الجمود والجزع، والحلم وسط بين النزق والبلادة، والرحمة وسط بين القسوة والخور، وكل فضيلة على هذا القياس فهي مسألة توسط في المسافة بين غايتين.
وفي زماننا هذا يغلب على مدارس الأخلاق أنها تئول بالفضائل كلها إلى باعث واحد، وهو باعث المصلحة الاجتماعية، أو باعث الغرائز النوعية التي يتصل بها بقاء نوع الإنسان. ومن هذه المدارس ما يحصر المصلحة في الطبقة الغالبة على المجتمع؛ فلا مصلحة للمجتمع كله في الأخلاق الفاضلة التي يحمدها المجتمع في عهد من العهود، ولكن المصلحة فيها للطبقة المتحكمة فيه بثروتها وسطوتها، فما تراه حسنا فهو الحسن بالنسبة إليها لاستبقاء منافعها، وهي إذن تسوم الطبقات الأخرى أن تستحسنه على المحاكاة والتقليد وإن لم يكن لها خير فيه. •••
والإسلام يحمد كثيرا من الأخلاق المحمود في هذه المذاهب، ولكننا لا نستطيع أن نجمع الأخلاق الإسلامية كافة في نطاق مذهب منها، ولا سيما مذهب القوة في فلسفة نيتشه، ومذهب الطبقة الاجتماعية في فلسفة الماديين.
فمذهب القوة في رأي نيتشه يناقض جميع الأديان الإلهية، ولعله يوافق دينا يعتقد أتباعه أنه دين إله واحد يختارونه ويختارهم فيستبقيهم ويمحق غيرهم من العالمين ... ولكنه لا يوافق الأديان التي تدعو إلى إله واحد للأقوياء والضعفاء. وقد يكون الأخذ بمذهب القوة في رأي نيتشه هدما لهذه الأديان من قواعدها واقتلاعا لها من جذورها؛ إذ لا قيمة للدين ما لم ينشئ أمام القوة الطاغية قوة تكبحها وتهذبها، وهي قوة الضمير. ولا رسالة للدين بين البشر إن لم تكن رسالته أن يربي فيهم وازعا للقوة البدنية وقوة المطامع والشهوات. وقد تعلم الناس دهرا طويلا أن حماية المريض غير حماية المرض، وأن العناية بالمرضى تئول على الدوام إلى عناية بالصحة، يستفيد منها الأصحاء كما يستفيد منها المصابون، وليس بالعسير عليهم أن يتعلموا كذلك أن حماية الضعيف غير حماية الضعف، وأن العناية بالضعفاء تئول إلى عناية شاملة يستفيد منها الأقوياء والضعفاء، أو تكون فائدة الأقوياء منها مقدمة على فائدة الضعفاء.
وتفسير «هوبز» للقوة لا يقرب مذهب القوة كثيرا إلى حقيقة الأخلاق الإسلامية؛ لأن الإسلام لا يحمد من الأخلاق أنها حيلة ملتوية أو مستقيمة إلى طلب القوة، بل يحمد منها في كل شأن من شئون الإنسان أنها وسيلة إلى طلب الكمال، ويحبب إلى الإنسان أحيانا أن يؤثر الهزيمة مع الكمال على الظفر مع القوة، إذا كان الظفر وسيلة من وسائل القوة الباغية التي لا تتورع عن النجاح بكل سلاح.
ومذهب الفلسفة اليونانية ينتهي بنا إلى مقياس للأخلاق شبيه بمقاييس الهندسة والحساب، بعيد عن تقدير العوامل النفسية والقيم الروحية في الأخلاق العليا على التخصيص. وقد تصدق هذه الفلسفة إذا كان المطلوب من الإنسان أن يختار بين رذيلتين محققتين؛ فإنه في هذه الحالة يحسن الاختيار بالتوسط بين طرفين متقابلين كلاهما مذموم ومتروك، إلا أننا لا نقول من أجل ذلك إن الكرم نقص في رذيلة البخل، أو نقص في رذيلة السرف، ولا نقول من أجل ذلك إن الكرم إذا زاد أصبح سرفا، وإن السرف إذا نقص أصبح كرما، بل تكون الزيادة في الكرم كرما كبيرا، والنقص في السرف سرفا قليلا، ولا يكون الكرم أبدا درجة من درجات السرف، ولا البخل أبدا درجة من درجات الكرم، بل هي أخلاق متباينة في الباعث متباينة في القيمة، يتقارب الطرفان فيها أحدهما من الآخر، ولا يتقارب الطرف من الوسط كما يظهر من قياس الهندسة أو قياس الحساب.
وقد رأينا في مباحث العلل النفسية التي كشفها العلم الحديث أن الشذوذ يقرب بين المسرفين والبخلاء في أعراض متشابهة، وأن العلة الكامنة في التركيب قد تظهر في الأسرة الواحدة بخلا في أحد الأخوين، وسرفا في الأخ الآخر، أو تظهر في أحدهما هوسا بالإقدام والاقتحام، وتظهر في أخيه هوسا بالحذر والإحجام؛ فلا إفراط هنا ولا تفريط، في «كمية» واحدة تقاس بمقياس الهندسة والحساب، ولكنها خلائق متباينة تختلف بالباعث لها، وتختلف بقيمتها في معايير الأخلاق.
ولو صح مذهب الفلسفة اليونانية أو مذهب أرسطو على الأصح لما جاز للإنسان أن يطلب المزيد من فضيلة الكرم - مثلا - لأنه ينتقل على هذا الرأي إلى رذيلة السرف والتبذير. إلا أن زيادة الكرم لا تكون إلا زيادة في فضيلة مشكورة، ولا بد من التفرقة بين زيادة الكرم وزيادة العطاء؛ فإنهما في الواقع أمران مختلفان، وقد قيل: لا خير في السرف ولا سرف في الخير. وفي القول الثاني توضيح لازم للقول الأول؛ لأن زيادة الخير إلى أقصى حدوده واجبة لا تخرج به عن كونه خيرا محمودا يزداد حمده مع ازدياده، ولا يحسب من السرف على وجه من الوجوه.
وإنما يلتبس الأمر على أصحاب مدرسة التوسط في جميع الأمور؛ لأنهم ينظرون في تقدير الكرم إلى المال المبذول وإلى مصلحة الباذل في حساب المال، ولا التباس في الأمر إذا نظروا إلى الباعث والموجب والمصلحة في عمومها ولو ناقضت مصلحة الباذل في بعض الأحيان.
فمن كانت طاقته أن ينفق ألف دينار ولا يتقاضاه الواجب أو تتقاضاه مصلحته أن ينفق ألفين فهو مسرف ما في ذلك خلاف؛ لأنه يفعل شيئا يضره ولا توجبه عليه مصلحة أكبر من مصلحته. أما إذا كان باعث الإنفاق شيئا غير مصلحته وغير هواه وكان حبس المال في يديه ضارا وخيم العاقبة على الناس وعليه في النهاية، فالكرم أن يزداد في الإنفاق على حسب المصلحة العظمى، وعلى قدر التضحية وإنكار الذات يكون حظ البذل من الفضيلة المحمودة أو حظه من الخير الذي لا سرف فيه.
وتصعب المقارنة بين التطرف والتوسط حين تكون المسألة مسألة درجات ولا تكون هناك مقادير تعد بالأرقام، فإذا ترخصنا فقلنا إن الكريم هو الذي يبذل ألف دينار، وإن المسرف هو الذي يبذل ألفين أو ثلاثة آلاف، والبخيل هو الذي يبذل مائة أو لا يبذل شيئا على الإطلاق؛ فمن هو الشجاع ومن هو المتهور ومن هو الجبان؟
ليست هنا مقادير تعد بالأرقام، فإذا عرفنا أن الجبان هو الذي يحجم عن الخطر فمن هو الشجاع؟ ومن هو المتهور؟ إن التهور ليكونن أفضل من الشجاعة إذا قلنا إن الشجاع قليل الإقدام على الخطر وإن المتهور كثير الإقدام عليه، أو قلنا إن درجة الخطر الذي يقدم عليه المتهور أعظم من درجة الخطر الذي يقدم عليه الشجاع، ولكننا حين نقول إن الشجاع هو الذي يقدم على الخطر حيث يجب الإقدام عليه نرجع بالفضيلة والرذيلة إلى مقياس الواجب وتقديره، وتصبح المسألة هنا مسألة قدرة على فهم الواجب والعمل به، وليست مسألة أعداد أو أبعاد ... فالمتهور والجبان كلاهما عاجز عن فهم الواجب والعمل به، والشجاع هو القادر على الفهم والعمل، ولا يستقيم في التعبير إذن أن نقول إن المتهور أكثر شجاعة من الشجاع، وإن الجبان أقل شجاعة منه؛ لأنهما معا خلو من الشجاعة الواجبة بغير إفراط أو تفريط.
ولن يشذ الإنسان عن الاعتدال في الطبع إذا هو آثر أن يذهب في كل فضيلة إلى نهايتها القصوى، فماذا يعاب في جمال الوجوه - مثلا - إذا انتهى إلى غاية لا غاية بعدها في معهود الأبصار؟ وماذا يعاب في جمال الأخلاق إذا انتهى إلى مثل تلك الغاية في معهود البصائر؟ إن كلمة من كلمات اللغة العربية العامرة بمدلولاتها النفسية والفكرية لتهدينا إلى قسطاس الحمد في كل حسنة مأثورة، فكلمة «ناهيك» - حين نقول: ناهيك من رجل أو ناهيك من عمل أو ناهيك من خلق - هي قسطاس الثناء فيما تنشده النفوس الإنسانية من كل فضل منشود؛ فهو الفضل الذي ينتهي بنا إلى النهاية فلا نتطلع بعده إلى مزيد.
غير أن مذهب الاعتدال - مع هذا - أقرب المذاهب إلى فهم الأخلاق المحمودة في الإسلام، على اعتبار أن خلق الاعتدال فضيلة مستقلة تدل على طبع سليم وعقل رشيد يقدران لكل عمل قدره، ولا يمنعهما الاعتدال أن يذهبا به إلى غاية الكمال، إذا كان له هذا القدر بين أقدار الأخلاق. •••
ومذهب المصلحة الاجتماعية لا يناقض مكارم الأخلاق الإسلامية كل المناقضة ولا يوافقها كل الموافقة؛ إذ مجمل الرأي في الإسلام أن المجتمع يقاس بالدين وليس الدين يقاس بالمجتمع، فقد يسفل المجتمع فتنفق فيه الآراء والأهواء على مصلحة يأباها الدين ويحسبها مضرة أو مفسدة يؤنب المجتمع من أجلها كما يؤنب الأفراد.
وربما كانت مصلحة النوع الإنساني أصدق المقاييس للخلق المحمود في الإسلام، ولكن النوع الإنساني يترقى في العلم بمصالحه حقبة بعد حقبة، ومن حوافزه إلى الترقي أن تكون أمامه أمثلة عليا للأخلاق أرفع من مألوف الأخلاق التي يسترسل معها بغير جهد وبغير رياضة وبغير تربية مفروضة عليه، يعتقد أنه يتلقاها ممن هو أكبر من الإنسان، وأحق منه بالطاعة والإصغاء إلى هدايته وتعليمه.
لا بد من الفضائل الإلهية في تعليم الإنسان مكارم الأخلاق، وما اكتسب الإنسان أفضل أخلاقه إلا من الإيمان بمصدر سماوي يعلو به عن طبيعته الأرضية.
وهذا هو المقياس الأوفى لمكارم الأخلاق في الإسلام.
ليس مقياسها الأوفى أنها أخلاق قوة، ولا أنها أوساط بين أطراف، ولا أنها ترجمان لمنفعة النوع الإنساني بأجمعه في وقت من الأوقات.
وإنما مقياسها أنها أخلاق كاملة، وأن الكمال اقتراب من الله.
وقد يكون الكمال كالجمال مقياسا غير متفق عليه قابلا للتفاوت - بل للتناقض - كما تتفاوت مقاييس العرف وتتناقض في كثير من المعقولات والمحسوسات ... لكننا نقول قولا مفيدا حين نقول إن الإنسان يحب أجمل الوجوه، أو أجمل الشمائل، أو أجمل الخصال، ونقول قولا مفيدا حين نضع الكمال في موضع الجمال.
إلا أن الإسلام يقرن المثل الأعلى في كل فضيلة بالصفات الإلهية،
ولله المثل الأعلى (النحل: 60).
وكل صفة من صفات الله الحسنى محفوظة في القرآن الكريم، يترسمها المسلم ليبلغ فيها غاية المستطاع في طاقة المخلوق.
و
لا تكلف نفس إلا وسعها (البقرة: 233)، كما جاء في غير موضع من الكتاب الحكيم.
ليس للأخلاق الإسلامية مقياس جامع من القوة، ولا من التوسط بين الأطراف، ولا من منفعة أمة قد تناقضها منفعة أمة غيرها، ولا من منفعة الأمم جميعا في عصر يتلوه عصر غيره بمنفعة أكرم منها وأحرى بالسعي إليها.
فالدين الإسلامي بعقائده وآدابه - أو بجملته وتفصيله - يستحب القوة للمسلم ويأمره بإعداد عدتها من قدرة الروح والبدن، ولكنه يستحبها قوة تعطف على الضعيف وتحسن إلى المسكين واليتيم، ويمقتها قوة تصان بالجبروت والخيلاء، ولا ينال الضعفاء منها غير الهوان والإذلال:
إن الله لا يحب كل مختال فخور (لقمان: 18)،
فلبئس مثوى المتكبرين (النحل: 29)،
أليس في جهنم مثوى للمتكبرين (الزمر: 60). •••
ولا يستحب الإسلام القوة للقوي إلا ليدفع بها عدوان الأقوياء على المستضعفين عن دفع العدوان:
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان (النساء: 75).
ولم يوصف الله بالكبرياء في مقام الوعيد للكبرياء بالنكال والإذلال، إلا ليذكر المتكبر الجبار أن الله أقدر منه على التكبر والجبروت. •••
والإسلام يزكي مذهب التوسط فيما يقبل التوسط بالمقادير أو بالدرجات كالإنفاق الذي ينتهي الإسراف فيه إلى اللوم والحسرة:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (الإسراء: 29)،
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (الفرقان: 67)،
كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (الأنعام: 141)،
وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (الأعراف: 31).
ولكن القسطاس في فضائل الإسلام لا يرجع إلى المقدار والتوسط فيه، بل يرجع إلى الواجب وما يقتضيه لكل أمر من الأمور ، فإذا وجب بذل المال كله وبذل الحياة معه في سبيل الحق فلا هوادة ولا توسط هنا بين طرفين، وإنما هو واجب واحد يحمد من المرء أن يذهب فيه إلى أقصاه.
ولا يصدق هذا على شئون القوة والكرم وحسب، بل يصدق في شئون الرحمة حيث تجب لمن هو أهل لها.
فالإسلام على كراهته الذل لأتباعه يستحب منهم الذل في الرحمة بالوالدين الشيخين:
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة (الإسراء: 24).
لأن الذل هنا زيادة في الرحمة يأتي من كرامة في النفس ولا يأتي من هوان فيها.
وملاك الاعتدال في الخلق الإسلامي أن المسلم يؤمر بالعمل لدنياه كما يعمل لدينه، ويؤمر بصلاح الجسد كما يؤمر بصلاح الروح؛ فلا يكون في هذه الدنيا روحا محضا ولا يكون فيها جسدا محضا، ومن أبى عليه دينه أن يكون في هذه الدنيا جسدا محضا فمن العنت أن يقال إنه يعمل ليكون جسدا محضا في عالم الرضوان: عالم الروح والصفاء.
وقد ضلل بعض المغرضين من دعاة الأديان عقولا كثيرة في شتى الأقطار حين زعموا أن الخطاب بالمحسوسات في أمر الجنة والنار مقصور على العقيدة الإسلامية، وأن المؤمنين بالدين لا يؤمنون بالنعيم المحسوس إلا إذا كانوا من المؤمنين بالقرآن.
والأنبياء والقديسون في جميع الأديان الكتابية قد تمثلوا المحسوس في رضوان الله، ووصفوه على هذه الصفة في كتب العهد القديم والعهد الجديد وفي كتب التراتيل والدعوات؛ ففي العهد القديم يصف أشعياء يوم الرضوان في الإصحاح الخامس والعشرين من سفره فيقول:
يصنع رب الجنود لجميع الشعوب في هذا الجبل وليمة سمائن ووليمة خمر على دردي سمائن ممخة: دردي مصفى ويفني في هذا الجبل وجه النقاب؛ النقاب الذي على كل الشعوب والغطاء المغطى به على كل الأمم. يبلغ الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه.
وفي العهد الجديد يقول يوحنا اللاهوتي في الإصحاح الرابع من رؤياه:
بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء، والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلا: «اصعد إلى هنا فأريك ما لا بد أن يصير بعد هذا.» وللوقت صرت في الروح، وإذا عرش موضوع في السماء وعلى العرش جالس. وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق، وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه الزمرد، وحول العرش أربعة وعشرون عرشا، ورأيت على العروش أربعة وعشرين شيخا جالسين متسربلين بثياب بيض وعلى رءوسهم أكاليل من ذهب، ومن العرش تخرج بروق ورعود وأصوات، وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله، وقدام العرش بحر زجاج شبه البلور، وفي وسط العرش وحول العرش أربعة حيوانات مملوءة عيونا من قدام ومن وراء، والحيوان الأول شبه الأسد والحيوان الثاني شبه عجل والحيوان الثالث له وجه مثل وجه إنسان والحيوان الرابع شبه نسر طائر.
ويقول في الإصحاح العشرين:
متى تمت الألف السنة يحل الشيطان من سجنه ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض: يأجوج ومأجوج، ليجمعهم للحرب وعددهم مثل رمل البحر ... فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم ... وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت ... وكل من لم يوجد مكتوبا في سفر الحياة طرح في بحيرة النار.
ويقول في الإصحاح الحادي والعشرين:
ثم رأيت سماء جديدة وأرضا جديدة؛ لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضيئتان، والبحر لا يوجد فيما بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها، وسمعت صوتا عظيما من السماء قائلا: هو ذا مسكن الله مع الناس.
وكانت آمال النعيم المحسوس تساور قلوب القديسين في صدر المسيحية فضلا عن عامة العباد بين غمار الدهماء. ومن أشهر هؤلاء الأقطاب المعدودين رجل عاش في سورية في القرن الرابع للميلاد وترك بعده تراتيل مقروءة يتغنى بها طلاب النعيم؛ وهو القديس إفرايم الذي يقول في إحدى هذه التراتيل:
ورأيت مساكن الصالحين رأيتهم تقطر منهم العطور ويفوح منهم العبير تزينهم ضفائر الفاكهة والريحان ... وكل من عف عن خمر الدنيا تعطشت إليه خمر الفردوس، وكل من عف عن الشهوات تلقته الحسان في صدر طهور.
واتفق أحبار الغرب وأحبار الشرق في وصف النعيم بهذه الصفة، فقال القديس أرنيوس
Irenius
أسقف ليون في القرن الثاني (سنة 178 للميلاد):
إنما السيد المسيح أنبأ يوحنا اللاهوتي أن ستأتي أيام يكون فيها كروم لكل كرمة عشرة آلاف غصن، ولكل غصن عشرة آلاف فرع، ولكل فرع عشرة آلاف عسلوج، ولكل عسلوج عشرة آلاف عنقود، ولكل عنقود عشرة آلاف عنبة، وتعصر العنبة منها فتدر من الخمر مائتين وخمسة وسبعين رطلا.
1
ولم يبلغ الإسلام هذا المبلغ من التمثيل بالمحسوسات، ولكنه يشفعها بعقيدته التي تمنع المسلم أن يكون جسدا محضا في دنياه فضلا عن آخرته، وينهى المسلم أن يقيس نعيم الرضوان على نعيم الدنيا:
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون (السجدة: 17).
أو كما جاء الحديث الشريف: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.» •••
ونحن لا نعرض لهذا البحث في موضوع الأخلاق الإسلامية إلا لأن الأديان جميعا تنظر إلى النعيم الإلهي كأنه المثل الأعلى للحياة الدنيوية، وليس في المثل الأعلى في الحياة - في عقيدة المسلم - ما يجعله على زعم المضللين من أعداء الإسلام جسدا محضا في أخلاقه وآدابه، أو يجور على الجانب الأخلاقي فيه، ومن أبى على دينه أن يكون في الأرض جسدا محضا فمن السخف أن يقال إنه يرتضي لنفسه أن يكون جسدا محضا في جوار الله الذي بلغ به الإسلام غاية ما يتصوره العقل والضمير من التنزيه.
وهذا قسطاس لا يخطئ في تقويم كل خلق حسن يستحبه الدين في المسلم؛ فإنه مأمور ألا ينسى نصيبه من الحياة الجسدية، ولكنه مأمور في الوقت نفسه أن ينظر إلى صفات الله الحسنى كما تجلت في أسمائه التي وردت في القرآن الكريم؛ فهي قبلته التي يهتدي بها في كل مكارم الأخلاق، لا يكلف أن يدرك منها شأو الكمال الإلهي، لكنه يكلف منها بما في وسعه كأنها قطب السماء الذي يهتدي به ملاح البحر وهو يعلم أنه فلكه الرفيع بعيد المنال. •••
والأخلاق التي يهتدي إليها المسلم بهدي الأسماء الحسنى كثيرة وافية بخير ما يتحراه الإنسان في مراتب الكمال المطلوبة لكمالها، مع عموم نفعها في حياة الفرد والجماعة، ومنها: العزة، والقدرة، والمتانة، والكرم، والإحسان، والرحمة، والود، والصبر، والعفو، والعدل، والصدق، والحكمة، والرشد، والحفاظ، والحلم، واللطف، والولاء، والسلام، والجمال.
وكلها منشود لأنه كمال لا يقاس إلا بمقياس الكمال، وإنه ليوافق مقياس القوة والتوسط والمصلحة الاجتماعية في أجمل مطالبها وأصحها على هدي الفكر وهدي الضمير، ثم لا تستوعبه مدرسة خاصة من هذه المدارس المتفرقة كما تستوعبه مدرسة الإسلام، أو مدرسة الكمال بهداية الأسماء الحسنى.
وخير للمجتمع الإنساني أن تقاس الأخلاق فيه بهذا القسطاس ولا تقاس بمنفعة تفسد بفساد المجتمع نفسه، وتنحرف مع انحراف نظرته إلى منافعه ومضاره؛ فإن المجتمع قد يصاب بآفات الذل والعجز والهزال والبخل والسوء والقسوة والبغضاء وسائر الآفات الموبقة من نقائض الخلائق الإلهية، فيصلحها الترياق من الدين، أو يصلحها أن تقلع عنها ولا يصلحها أن تتمادى فيها.
إن أدب الإسلام يخرج للمجتمع الإنسان الكامل، فيخرج له الإنسان الاجتماعي الكامل في أقوى صوره وفي أجملها.
يخرج له السوبرمان الذي لا يطغى على أحد، ويخرج له الجنتلمان الذي لا يسيء إلى أحد.
ومن عناية الإسلام بالتفصيل والاستيفاء في كل أمر من الأمور أنه يشفع الأصول بفروعها في مسائل الأخلاق ومسائل الفرائض والعبادات ... فمما لا خفاء به أن الرجل الذي يعرف العزة والصدق واللطف «جنتلمان» على أجمل ما تكون «الجنتلمانية» في رأي الرجل المهذب الكريم، ولكن الإسلام يستوفي صفاته بتفصيلاتها؛ لأنه يخاطب الناس كافة ويتوجه بالإرشاد إلى أحوج الناس إليه، فلا يدع الإرشاد إلى الآداب الاجتماعية في أدق تفصيلاتها التي تحسب من آداب المجاملات في اللقاء والتحية بين الناس، أو في عرف السلوك في المحضر والمغيب.
لا يدخل أحد بيتا حتى يستأذن:
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها (النور: 27).
ولا يحيى بتحية إلا أجابها بمثلها أو بأفضل منها:
وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها (النساء: 86).
ولا يحسن بالمرء أن يقول للناس إلا قولا حسنا:
وقولوا للناس حسنا (البقرة: 83).
ولا يحسن به أن يسخر ممن يستصغره ويستطيل عليه:
لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب (الحجرات: 11).
ولا يحسن أن يقول عن الناس سوءا في المحضر أو المغيب:
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا (الحجرات: 12). •••
ولا خفاء بصفات الكمال في القرآن الكريم، ولكن الإسلام في مجموعه بنية حية متسقة تصدر في العقائد والأخلاق من ينبوع واحد؛ فمن عرف عقيدة المسلم عرف أن الخلق الذي يحمده الإسلام هو الخلق الذي يرتضيه إنسان يؤمن بأن الله رب العالمين، وأن النبوة تعليم لا تنجيم، وأن الإنسان مخلوق مكلف على صورة الله، وأن الشيطان يغوي الضعيف ولا يستولي عليه إلا إذا ولاه زمامه بيديه، وأن العالم بما رحب أسرة واحدة من خلق الله أكرمها عند الله أتقاها لله.
خاتمة
نختتم بهذه الكلمة فصولا كتبناها عن حقائق الإسلام وأباطيل خصومه في العصر الحاضر. ونحن نعلم أن هذه القوة الروحية الخالدة في مفترق طريق وعرة تقف لديها لتثبت وجودها في مستقبلها بعد أن أثبتت وجودها في ماضيها.
ولقد وقف الإسلام مرات في مثل هذا المفترق أمام خصومه منذ قيام الدعوة المحمدية، وصمد لحملات عنيفة كهذه الحملات التي يشنها عليه خصومه في العصر الحاضر، ولكنها على أكثرها كانت من قبيل الحملات المادية - أو الحربية - التي شنها منافسوه من أرباب الدولة والسلطان، وقل أن وقف الإسلام طويلا أمام قوة يحفل بها لأنها تتصدى له من الوجهة الروحية؛ إذ كانت القوى الروحية التي تصدت له فيما مضى تنظر إلى ماضيها فتلمس فيه الفارق بينها وبينه، ولا تأمن عاقبة الجولة في هذا المجال، وهي مجردة من عدة الدولة والسلطان، وكانت من جانبها مشغولة بخصوماتها ومنازعاتها بين نحلها ومذاهبها، تتجرد للحملة عليه إلا أن تتأهب للغلبة عليه بقوة السلاح!
أما حملات العصر الحديث فأهونها - فيما نرى - حملات الدولة والسلطان، وهي الحملات التي شنها عليه الاستعمار، ثم ظهر منها بعد حين أنها لم تقتل فيه قوة المقاومة، ولم تمنعه أن يصمد لها في ميدان البأس والحيلة، فكان صمود الإسلام لمحنة الاستعمار آية من آيات القوة الروحية التي تسعد المعتصمين بها حين تخذلهم قوة السلاح وقوة السياسة وقوة العلم وقوة المال. ولو لم يكن في هذه العقيدة الخالدة سر أعمق جدا من أسرار العقائد الشائعة لما اعتصم المسلمون منها بمعتصم نافع أمام هذه القوى المتضافرة عليها مجتمعات.
ولنا إذن أن نقول - على ثقة - إن القضية الروحية بين الإسلام والاستعمار قضية بلغت حلها المأمول أو كادت أن تبلغه؛ فهي قضية مفروغ منها في هذا القرن العشرين.
ولنا منذ الساعة أن نقول على ثقة إن حملات الخصوم الذين يهاجمون الإسلام صائرة إلى هذا المصير. إلا أننا ننظر إلى قوى معروفة من الجانبين، ونرى أن فرصة الإسلام في هذه الجولة خليقة أن تبعث في الصدور أملا أكبر من الأمل في مجرد الثبات والصمود، وبخاصة حين نذكر أن العدة التي يعتد بها خصوم الإسلام في حملاتهم عليه هي عدة سلبية لا يعتمدون فيها على حجتهم وبيناتهم كما يعتمدون فيها على ضعف العقائد عامة في عصر المادية الطاغية على العقول والضمائر؛ فهم ضعفاء يجردون الحملة على الإسلام لظنهم أن الشبهات المادية زلزلته من داخله، وفتحت بين أهله ثغرة ينفذ منها المهاجم وإن ضعف وضعفت معه حجته وبيناته، فإذا انكشفت هذه الرغوة عن زبدتها وعرضت قوى الإسلام وقوى خصومه عرضا يناسب هذا العصر الحديث، فالذي يتقدم هو الإسلام، والذي يرتد أو يذعن للحقيقة هو الخصم المستعد للإنصاف. •••
يتلقى الإسلام أشد الحملات في العصر الحاضر من منكريه لأنهم يحترفون التبشير بدين آخر، أو من منكريه لأنهم ينكرون جميع الأديان.
وكلا الخصمين لا يستطيع أن ينال من الإسلام إذا وزن بميزان واحد، وأخذ بمعيار واحد فيما يؤيده من دعواه، وفيما ينكره من دعوى الإسلام.
لا يستطيع المبشر المحترف أن ينال من الإسلام بما يدعيه عليه من التحريف والتشويه للأديان التي سبقته، فإن الإسلام في الإله وفي النبوة وفي الخير والشر وفي حقوق الإنسان أرفع وأصلح مما جاءت به الأديان التي سبقته إذا وزنت كلها بميزان واحد يأخذ هنا بما يأخذ هناك. وليس في عقائد الإسلام ما يعتبره المنصف نكسة إلى الوراء أو يعتبره تطورا في عقيدة تترقى مع الزمن حسبما يعرض لها من الظروف والملابسات؛ فإن من هذه العقائد - كالعقيدة في رب العالمين - ما ينقض عقائد الشرك وعقائد العصبية والاستئثار، ويصدر من بيئة مشحونة بمفاخر العصبيات والسلالات، وإنه لمن تعسف القول أن يقال إنها هي البيئة التي يتطور فيها الإيمان بإله القبيلة ليصبح إلها واحدا يؤاسي بين الشعوب والقبائل، يحاسبها بأعمالها ولا يحاسبها بآبائها وأنسابها، أو بما سلف من خطايا الآباء والأسلاف.
ومن ينكر النبوة على صاحب الدعوة لعلة من العلل الماجنة التي يتمحلونها، فهو مرغم على إنكار نبوات كثيرة يتقبلها ولا يشك في مصدرها السماوي ومعاذيرها المقبولة عند الله.
والمؤمنون بالعهد القديم يؤمنون بما جاء فيه عن داود - عليه السلام - ويؤمنون برضوان الله عنه واختصاصه بالبشارة الإلهية من ذريته، ويقرءون ما جاء في الإصحاح الخامس عشر من سفر صموئيل الثاني عن قصة داود مع القائد «أوريا» وزوجته التي بنى بها بعد تعريضه للقتل وهو في خدمته يهجر داره، ويجازف بحياته لمحاربة أعدائه.
يقول راوي القصة كما جاءت في الإصحاح الخامس عشر من كتاب صموئيل الثاني: ... قال داود لأوريا: أقم هنا اليوم أيضا وغدا أطلقك. فأقام أوريا في أورشليم ذلك اليوم وغده، ودعاه داود فأكل أمامه وشرب وأسكره، وخرج عند المساء ليضطجع في مضجعه مع عبيد سيده وإلى بيته لم ينزل. وفي الصباح كتب داود مكتوبا إلى يؤاب وأرسله بيد أوريا وكتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وكان في محاصرة يؤاب المدينة أنه جعل أوريا في الموضع الذي علم أن رجال البأس فيه ... فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات رجلها ندبت بعلها، ولما مضت المناحة أرسل داود وضمها إلى بيته وصارت له امرأة وولدت له أبناء. وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب ...
فمن كانت هذه القصة في عقيدته لا تغض من النبوة ولا تدعو إلى إنكارها، فليس له أن ينكر نبوة رسول الإسلام لما يتعلل به من أحاديث زواجه ولو صح منها كل ما يدعيه، وهو غير صحيح، وليس له - وهو يزن النبوات بميزان واحد - أن يستنكر النبوة على صاحب رسالة ترتقي بالعقيدة الإلهية وبالرسالة النبوية ذلك المرتقى الذي لا يخفى على بصير يفتح عينيه ولا يغمضهما بيديه.
أما الذين يحملون على الإسلام من غير المتدينين، فهم جماعة الماديين الذين ينكرون الإسلام لأنهم ينكرون جميع الأديان، ويرفضون وجود الله فيرفضون الإيمان بصدور شيء من الأشياء من عند الله.
وآفة هؤلاء الماديين ضيق الأفق العقلي أو ضيق حظيرة النفس في حالتي التصديق والإنكار.
فهم ينكرون الرسالة النبوية؛ لأنهم لا يقدرون على تصورها في غير الصورة التي يرفضونها، ولعلهم يلذ لهم أن يتصوروها على هذه الصورة لأنها تتمشى في طبائعهم مع شهوة الإنكار التي تتسلط على عقول المسخاء، ولا سيما المسخاء من أدعياء العلم والتفكير.
ولا يراد من هؤلاء أن ينبذوا العقل ليدركوا حتى حق الإسلام، ولكن يراد منهم أن يوسعوا أفق العقل؛ فيعلموا من ثم أن العقل لا يمنعهم أن يدركوا حق الإسلام، بل يمنعهم أن يقبلوا عقلا أنه وحي من عند الله.
فمن حقائق العقل والعلم أن الشكوك لا تبطل فرضا من الفروض إلا إذا كانت قاطعة في بطلانه، ولا يجوز فيها الأخذ بأحد الرأيين المختلفين ... فما هي شكوكهم التي يوردونها على الإسلام فتمنع أن يكون دينا صالحا، أو تمنع أن يكون دينا من عند الله؟!
لا يجوز أن ينكروه لما فيه من التعبيرات الرمزية؛ لأن التعبيرات الرمزية متمثلة في كل حاسة من حواس الأحياء، متمثلة في شعوره الوجداني وشعوره الذي يعول فيه على البصر أو على الخيال.
ولا يجوز لهم أن ينكروه لأن الجهلاء يفهمونه كما يفهم الجهلاء كل شيء؛ فكل حقيقة كبرت أو صغرت لا بد أن يفهمها الجهلاء فهما يخالف ما يفهمه منها العارفون وذوو البصر والدراية.
ولا يجوز لهم أن ينكروه لأن العصور المتعاقبة تتدرج في فهمه والنفاذ إلى سره؛ فهكذا ينبغي أن تتدرج العصور في النفاذ إلى سر الدين الذي تدين به أجيال بعد أجيال، وهكذا يكون الخطاب في الأديان؛ لأنها لا تدين النفوس إذا توجه بها الخطاب اليوم ليلغى بعد يوم من الأيام.
فإذا وجد الدين الصالح فلن يكون في وسع العقل أن يتصوره في غير هذه الصورة من التعبيرات الرمزية، ومن اختلاف العلماء والجهلاء في فهمه، ومن تفاوت الاستعداد له على حسب الاستعداد بين الأجيال والأمم. وإنه لعقل بديع ذلك العقل الذي ينكر الشيء ثم لا يستطيع أن يتصوره حقا إلا على الصورة التي أنكرها!
ونحن لم نكتب فصول هذا الكتاب لنبشر بالإسلام هؤلاء الماديين المتعطشين إلى إنكار كل معنى شريف من معاني الحياة البشرية، ولكننا كتبناه للمتدين المنصف الذي يستطيع أن ينظر إلى دينه وإلى هذا الدين نظرة واحدة، وكتبناه أولا وآخرا للمسلم الذي يتلقى حملات خصوم الإسلام من المتدينين وغير المتدينين، ليعلم أنه خليق أن يطمئن إلى حقائق دينه في هذا العصر سواء نظر إليها بعين العقل أو بعين الإيمان، وأنه خليق أن يواجه الغد بما يؤمن به من عقائد دينه ومعاملاته وحقوقه وآدابه وأخلاقه، فلا يعوقه عائق منها أن يجاري الزمن في المستقبل إلى أبعد مجراه.
وإذا وفى المسلم بأمانة الشكر وعرفان الجميل، فلا ينسى أنه مدين لهذا الدين الحنيف بوجوده الروحي ووجوده المادي في حاضره الذي وصل إليه بعد عهود شتى من عهود المحنة والبلاء، ولولا قوة بالغة يعتصم بها المسلم من هذه العروة الوثقى لضاع بوجوده الروحي ووجوده المادي في غمار يمحوه ولا يبقي له على معالم بقاء ... ومن حق هذا الدين عليه أن يسلمه إلى الأعقاب قوة يعتصم بها العالم في مستقبله بين زعازع المحن التي ابتليت بها الإنسانية في هذا الزمن العصيب ... لعله من نصيب هذا الميراث في غده القريب أن يكون مصداقا لنبوءة الإسلام بحكمته جل وعلا في خلق عباده شعوبا وقبائل متفرقين، ولعل هذا الدين القويم الذي دعا أول دعوة إلى رب العالمين أن يكون دين الشعوب والأمم متعارفين متسالمين مسلمين، ولا تكونن أمانة الدين يومئذ سياسة حسنة نخدم بها - نحن المسلمين - حاضرنا ومصيرنا، بل هو الإيمان بإرادة الله كما تتجلى لخلقه يؤديها كل من عرفها بمقدار ما عرف منها، وسيذكرها كل من ينجو بها من أمم العالم؛ فيذكر الرسالة الإلهية التي تفتتح باسم الله الرحمن الرحيم وتختتم بحمد الله رب العالمين.
Unknown page