ولم تكن هذه أول مرة يهبط فيها إلى هذه القهوة التائهة في الصحراء؛ فقد زارها زيارة سعيدة لم تكن في الحسبان منذ أمد قريب. وما دفعه إليها تلك المرة إلا الملل الراكد على نفسه التي شبعت من أهواء الدنيا، وعانت من الفراغ مر العناء، وتركته يتخبط حائرا ما بين الميادين والأزقة لا يهتدي إلى مستقر. وما عاد به إليها هذه المرة إلا ما طالع خياله من أطياف الذكريات الحلوة.
وجلس يلقي على المكان نظرة تذكر وحنين، ولم يكن يرى منظرا غريبا؛ فإنه يذكر ولا شك تلك الأبنية العالية التي يتصاعد الدخان من أعاليها ويدوي قرع الآلات في داخلها، وهذه الصحراء المترامية التي تنتهي شطآنها البعيدة إلى مآذن القاهرة المعزية، ولكن ما له يلتفت يمنة ويسرة، هل يفتقد منظرا يذكره ولا يجده؟
نعم إن الصورة التي انتزعها رأسه من المكان في تلك الليلة القمراء ناقصة .. ولا تنقص شيئا تافها، بل تنقص مدينة كاملة .. مدينة الصفائح الغريبة .. كانت تقع أمام القهوة مباشرة على بعد عشرة أمتار من مدخلها، وكانت مبانيها أكواخا من الصفائح التي علاها الصدأ، تأوي رجالا ونساء وأطفالا، وترعي في عرصاتها المعز والكلاب .. أين يا ترى هذه المدينة، أم تراه اشتبه عليه الأمر؟
ولكي يقطع الشك باليقين نادى النادل وسأله وهو يشير بيده إلى الموضع الخلاء الذي أحدث ارتيابه: ألم تكن توجد هنا أكواخ من الصفائح؟
فهز الغلام رأسه علامة الإيجاب وقال: بلى يا بك. - فأين ذهبت؟ - هدمتها الحكومة.
قطب الشاب جبينه وسأله: متى .. ولأي سبب؟ - منذ ثلاثة أشهر، بعد أن تأكد البوليس من أن ساكنيها من اللصوص والقتلة.
لم يكن في الخبر ما يثير الدهشة، ولكنه ذكر شخصية عزيزة فقال: كان يوجد هنا رجل مغن يدعى أبو لبة .. أو أبو رنة لا أذكر .. ألا تعلم أين هو؟
فتفكر الغلام دقيقة ثم قال: لعله أبو سنة يا بك. - أظنه هو، كان يغني غناء جميلا وينشد إنشادا ساحرا. - نعم هو يا بك، ولكنه شنق وا أسفاه!
وانزعج الشاب وسأله: أتقول إنه شنق؟ - نعم شنق بغير شك. - ولماذا شنق؟ - لسبب تافه جدا.
فاستولت الدهشة على الشاب وسأله: كيف يشنق لسبب تافه .. ماذا فعل؟
Unknown page