وكنت أتوقع في خوف وإشفاق أن تفاتحني بما يقوم في نفسها من الوساوس، وكان ذلك يضاعف آلامي النفسية، ورجوت أن تنقشع تلك السحابة من سماء حياتي دون أن تترك وراءها أثرا لحزن أو ألم أو تأنيب ضمير. وانقلبت حياتنا تمثيلا ثقيلا، وكان كل منا يعلم بما يشعر به صاحبه نحوه، ولكنا كنا نتجاهل كل شيء .. لماذا لم تصارحني بشعورها؟ .. ولماذا لم تهب للدفاع عن سعادتها الموهومة؟ لم يحدث شيء من هذا.
وقد عدت ظهر يوم من عملي بالتفتيش فوجدت حجرتنا خالية، وبحثت عيناي عن آثارها اللطيفة التي تعودت رؤيتها، كالفساتين التي كانت تعلقها على المشجب أو الحقيبة التي كانت تضعها على المائدة، فلم أر أثرا، وأسرعت إلى الدولاب وفتحته على مصراعيه فلم أجد سوى ثيابي، وناديت الخادم وسألته عنها، فأخبرني أن الهانم تركت الفندق الساعة العاشرة صباحا، وأنه أحضر لها بنفسه التاكسي.
وبحثت هنا وهناك عن خطاب أو ورقة لأني كنت أتوقع أن تترك لي كلمة، ولكني لم أعثر على شيء.
لقد تركتني دون كلمة، وانتهى كل شيء!
وجلست صامتا واجما تتنازعني العواطف، ولم أشعر براحة للخلاص الذي جاءني بدون مشقة، وأحسست بخجل وألم ووحشة ثقيلة، ولم أجد رغبة في الطعام، فقمت من فوري أبحث عن مسكن جديد؛ لأنه كان يتعذر علي أن أبيت ليلتي في تلك الحجرة المهجورة.
وسكت الراوي لحظة ثم أردف: ومضت سنوات لم أرها فيها، ثم رأيتها منذ عهد قريب تساير شابا أنيقا في ميدان المحطة، ولكني لا أدري إن كانت ما تزال تبحث عن الحب والعطف أم إنها استسلمت إلى القنوط!
خيانة في رسائل
- هذه أول أزمة تصيب حبنا! نعم، طالما آلمني الفراق الهين، وأجهدني الشوق إلى اللقاء، وعذبني الدلال. أما الوداع، أما الرحيل إلى قنا، فذا أمر جديد يدفع إلى نفسي شعورا بالحزن لا عهد لها به؛ فهلا عدلت عن السفر ! - لو كان الأمر إلي ما رغبت نفسي أدنى رغبة في السفر، فما أحفل بقضاء الشتاء في أعالي الصعيد بعض احتفالي بالقرب منك كيما أواصل هذا اللقاء السعيد! ولكن ما حيلتي وهذا ما يريده أبي ويفعله منذ أحيل إلى المعاش. ولقد اعتاد أن يمضي شهرا أو شهرين من الشتاء في قنا عند عمي الدكتور. - يستطيع عقلي أن يتصور المعجزات، ولكن لا أستطيع أن أتصور ما عسي أن تكون عليه حياتي في هذين الشهرين؛ فهذا الحب غدا حياة لشعوري، وهذا اللقاء أمسى ألفة لنفسي، أجد فيهما راحة بعد تعب، وعزاء عن شوق دائم، فما عسى أن أصنع؟ بل ما يكون زادي وسلوتي؟
فوضعت يدا خمرية ناعمة على كتفه، وداعبت بأطراف أناملها خده، وهمست في أذنه: هذا شعوري وهذا حزني، ولولا كراهيتي للعزاء لنصحت لك بالتعزي والتلهي؛ فليس أمامنا سوى الصبر الجميل حتى ينطوي دهر الفراق ويتصل حبل اللقاء .. ومع هذا فما أسعدك وما أبأسني! - كيف؟ - لن أسعد بقراءة كلمة طوال مدة غيابي؛ لأنك لا تستطيع أن تكتب إلي، أما أنت فتستطيع أن تطلع على همسات روحي كلما مكنتني الفرص من اختلاس الكتابة إليك .. فأينا أسعد حظا؟ - من تؤاتيه فرص التعبير فيخفف من مراجل عاطفته.
وهنا ظللت وجهه سحابة كدر، وسألها بعد تردد: هل لك أبناء عم؟
Unknown page