ولم تجبني، ولازمت الصمت حينا، وبدا على وجهها الاهتمام والتفكير، فخفق قلبي وساورني الخوف والقلق؛ ولكني أحسست فجأة بذراعها تلتف بذراعي، وسرنا مشتبكين كالعشاق أو الأزواج، فأثلج صدري، وغمرني الفرح والفوز، وقنعت بذلك جوابا.
وفي مساء ذلك اليوم افتتحنا معا مأدبة الحب، فعدنا إلى ريش وأخذنا حقائبنا ورحلنا إلى لوران، ونزلنا في فندق أكس لا شابل، وهو فندق هادئ منعزل يقوم على شاطئ البحر كزاهد عازف يولي ظهره ضجيج الحياة، ويستقبل أفق الأبدية والأحلام.
وعشت أياما أذكرها دائما كما يذكر السقيم عهد الصحة والعافية؛ كان الحب فيها الحاكم القاهر المستبد الطاغي الذي لا يترك لشيء مكانا من عقولنا أو نفوسنا. وكنت أعلم أنها أيام وإن طالت قصار، وإن صفت فإلى انتهاء سريع؛ فأقبلت عليها بنهم وجشع أملأ من حسنها قلبي وحواسي؛ كي لا أدع زيادة لمستزيد، غير مؤجل متعة إلى غد أو مبق على لذة إلى حين، أو تارك ثمرة بلا قطف والتهام .. وكانت شريكتي سعيدة راضية يسكرها الحب وتستخفها آيات العطف، فتستزيد منها كما يستزيد منها الثمل من الطرب.
وتبين لي بغير كبير عناء أن آمالنا متباينة، فكنت لا أفكر إلا في حاضري، وأود لو أمتص ما فيه من حلاوة في رشفة واحدة .. أما هي فكانت تنظر إلى بعيد، ولا تفتأ تذكر المستقبل، وترغب رغبة صادقة في أن تطمئن إلى دوام السعادة والحب. وقد عجبت لذلك، وعلمت أني لم أفهم بعد تلك المرأة. وقد ظننتها حينا امرأة مستهترة متقلبة الأهواء، تجوب البلاد بعيدا عن زوجها طلبا للحب الآثم وانتهابا للذات .. ولكني وجدتها هادئة الطبع، عظيمة المودة، لا تسيطر عليها النزوات العمياء التي تورد أصحابها مهالك الفتن.
وكانت أيامنا الأولى أيام حب خالص، فلم يكدر صفوي مكدر، إلا أن إفراطي الشديد ردني إلى شيء من اليقظة والانتباه، فاستطاع فكري أن يتناول أمورا غير الحب.
فكرت في أني أعتدي لأول مرة على حرمة الزوجية، ولم يكن سبق لي أن اقترفت هذا الإثم المنكر، فوخزتني شكة الألم وأحسست بخوف غامض، وزاد من ألمي أني كنت على عتبة الحياة الزوجية، وساءلت نفسي في رعب: ألا يجوز أن يقتص الله مني ويصيبني يوما في المقتل الذي طعنت فيه الآخرين.
وهنا قاطعه أحد المستمعين قائلا: وهل صدقت مخاوفك فيما بعد؟
وضحك البعض، ونظر محدثنا إلى مقاطعه شزرا، ثم استأنف حديثه قائلا: ثم فكرت في أمر آخر لا يقل عن سابقه خطورة، فكرت في أمر الزوج الغريب الذي يترك لزوجته الحبل على الغارب، ما الذي عساه يفرق بينهما؟ .. وكيف يرضى عن هذه الحياة الغريبة؟ .. وألا يمكن أن يظهر بغتة في أفقنا الهادئ فتكون الطامة التي لا تدفع.
وكانت هذه الأفكار تساورني خارج الفندق بعيدا عن ظلها الخفيف، ولكني وجدت نفسي مسوقا إلى مفاتحتها بهذا الحديث وقد فعلت، فسألتها يوما: أما من أخبار عن زوجك؟
فاكفهر وجهها وأظلمت عيناها، وقالت: دع هذا الحديث جانبا.
Unknown page