وكان يصف نكاته فيقول إنها ملح أدبية وفكاهة عالية، ويغمز السيد حسن فيقول عن الفكاهة القديمة إنها سباب وفحش، ويحمل على «قافية أهل البلد» فيقول إنها أقوال مكررة مبتذلة ونوادر محفوظة وجناس سخيف لا روح فيه .. وكان السيد حسن يصغي إلى هذه الأقوال في عدم اكتراث وهزء، وربما نال من قائلها على طريقته باستهانة، ثم لم يلبث أن حقد عليه وكرهه؛ لأنه كان إذا قال نكتة ظريفة بادر الشاب إلى تعكير الصفو بسعال أو حمحمة أو بطرحه فجأة سؤالا جديا عسى أن يهيج اهتمام القوم ويلهيهم عن أثر النكتة. ورأى فيه عدوا حقيقيا، فشمر للكفاح والمنافسة في ميدان المزاح واللهو، وانقض على الزنفلي وانقض الزنفلي عليه واشتبكا في معارك حامية، واستعمل كل ما وهبه الله من الذكاء والبداهة والفكاهة، وصنع المستحيل ليربح الأنصار والمعجبين والمصفقين.
فإذا صاحت الديكة مذكرة اللاهين بأن الفجر انبثق انفض القوم فرحين، وعاد العدوان مهمومين مفكرين يحصي كل منهما ما أثاره من ضحك وما أهاج من مسرة وما ابتدع من فكاهة، ويذكر أسيفا حزينا ما ظفر به عدوه من آي النصر والتفوق ومن ضحك له من الرفاق. وظل كبار التجار وأهل البلد على ولائهم القديم للسيد حسن شلضم، أما الزنفلي فقد اكتسب الكثيرين من الأفندية والبكوات، وكان لذلك وقع شديد في نفس السيد حسن؛ فقد كانت الدنيا جميعا له يمرح فيها كيف شاء فقنع مضطرا مقهورا بنصفها.
ولكن علام الأسف والحزن؟ إن هذا العالم الجديد لا يستحق أسفا ولا حزنا. أين السادة الكرام الأجلاء؟ مات أكثرهم وانزوي من بقي منهم على قيد الحياة، إما لمرض أو فقر .. أين السيد جلال الشابوري رحمه الله الذي كان ينقده جنيها ذهبيا للنكتة الحلوة؟ أين الشيخ طلعت الإسلامبولي الذي كان يهديه كل ثلاثة شهور جبة وقفطانا لا يقدران بثمن؟ هذا إلى الفواكه المختلفة في إبان نضوجها؟ ذهب الجميع، ذهبت دنياهم الحلوة وبقيت هذه الدنيا العجيبة التي يخطب فيها النساء في المحافل العامة ويهدد التلاميذ معلميهم بالإهانة والضرب، ويغنيها عبد الوهاب بعد عبده الحامولي ومحمد عثمان، ويباع فيها قنطار القطن بريالين، فهل هذه دنيا يأسف السيد حسن شلضم على أنه ليس فارس ميدانها؟
وكان يداعبه بعض معارفه أحيانا فيقولون له: «راحت عليك يا سيد شلضم.» فكانت تقع من نفسه موقع السم الزعاف، وكان يصر على أسنانه المثرمة ويتصنع الاستهانة ويقول: سامحك الله يا غلام، أتحسب أن شلضم من الهوان بحيث يرضى أن يهرج في هذا الزمان البائس المأزوم، أو أن يمازح هذا الجيل الذي لا يتذوق النكتة؟! فشر وألف فشر! إن مثلي ومثل الزنفلي فكالحامولي في الزمن القديم، وهؤلاء المغنين النائحين الذين يتسترون على عيوب حناجرهم بالإكثار من الآلات والموسيقيين.
والحقيقة أن ظله أخذ يتقلص بسرعة، ومضى الموت يقتنص رفاقه أو المعجبين به واحدا بعد واحد، وتزايد على الأيام شعوره بالوحشة والغربة.
تغير كل شيء، حتي موطن اللهو القديم الذي كان ملهى الكبراء والأثرياء أصبح مباءة السوء وسوق الأوباش واللصوص والبلطجية، ولم يعد للمهرج مكانة خاصة في جماعات الهوى؛ فقد ابتذلت صناعته وبات كل يهرج لحسابه الخاص.
وفي ذات مساء، وكان السيد حسن يحتسي كأسا من الكونياك في حانة بسوق الخضار، سقط بغتة فاقد النطق.
ورقد أخيرا على الفراش، مسلما جسمه الهائل إلى قبضة المرض الجبار، وقد تمردت أعضاؤه جميعا على إرادته، وبات عاجزا عن تحريكها إلا عينيه يقلبهما ذاهلا في سقف الحجرة ذي العمد الخشبية العتيقة يبرز من شقوقها ذيل البرص أو رأسه، ويغشى ما بينها نسيج العنكبوت.
إن تلك الحياة العامرة بألوان اللذات والسرور والأفراح قد اختتمت بهذا الرقاد الأليم، وإن النور والغبطة والرفقاء قد تفانوا في هذه الظلمة الموحشة، وانتهى كل شيء كما ينتهي الحلم الحلو، وانتهى في لحظة قصيرة كأنه لم يدم سنين وسنين، وجاءت الساعة الرهيبة التي يتساءل فيها الإنسان في حسرة مريرة .. أحقا كان هذا الجسم سليما .. أحقا كان هذا القلب حيا .. أحقا كانت الدنيا حلوة سعيدة لذيذة الطعم .. أحقا ذهب كل هذا إلى غير رجعة؟
وقاوم جسمه المرض بضعة أشهر قضاها في وحدة ووحشة وقنوط، لم يزره فيها سوى أبنائه وبناته، ذلك الرجل الذي كان يوما قلب القاهرة السعيد وثغرها الضاحك، حتى وافاه الأجل بالأمس القريب في ذلك البيت العتيق بحارة جعيصة الذي شاهد مولده وعرسه ومجده وأخيرا .. مماته.
Unknown page