همس الجنون
الزيف
الشريدة
خيانة في رسائل
من مذكرات شاب
الهذيان
يقظة المومياء
كيدهن
روض الفرج
هذا القرن
الجوع
بذلة الأسير
نحن رجال
الشر المعبود
الورقة المهلكة
ثمن السعادة
حلم ساعة
الثمن
نكث الأمومة
حياة للغير
مفترق الطرق
إصلاح القبور
المرض المتبادل
حياة مهرج
عبث أرستقراطي
مرض طبيب
فلفل
صوت من العالم الآخر
همس الجنون
الزيف
الشريدة
خيانة في رسائل
من مذكرات شاب
الهذيان
يقظة المومياء
كيدهن
روض الفرج
هذا القرن
الجوع
بذلة الأسير
نحن رجال
الشر المعبود
الورقة المهلكة
ثمن السعادة
حلم ساعة
الثمن
نكث الأمومة
حياة للغير
مفترق الطرق
إصلاح القبور
المرض المتبادل
حياة مهرج
عبث أرستقراطي
مرض طبيب
فلفل
صوت من العالم الآخر
همس الجنون
همس الجنون
تأليف
نجيب محفوظ
همس الجنون
ما الجنون؟
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج؛ أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق. وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفا بعض الوقت بالخانكة، ويذكر - الآن أيضا - ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعا، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة - قصيرة كانت والحمد لله - فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لا يدري من أمرها شيئا تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة. ويجيء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة، وما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتي تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارا كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متي وقعت؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئا غير العقل، وأن صاحبه أمسى فردا شاذا يجب عزله بعيدا عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟!
كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعله ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل، وزهده في الناس والنشاط؛ ولذلك عدل عن مرحلة التعليم في وقت باكر، وأبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به. وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة فيشبك راحتيه على ركبته، ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع؛ فعلى كرسيه من الطوار كانت حياته ولذته. ولكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال، كان تمثالا من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس وهو بمعزل عن الحياة جميعا.
ثم ماذا؟!
حدث في الماء الآسن حركة غريبة فجائية كأنما ألقي فيه بحجر.
كيف؟!
رأى يوما - إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار - عمالا يملئون الطريق، يرشون رملا أصفر فاقعا يسر الناظرين، بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل: لماذا يرشون الرمل؟ ثم قال لنفسه إنه يثور فيملأ الخياشيم ويؤذي الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمونه، فلماذا يرشونه إذن؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك، فخال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد في عملية الرش أولا، والكنس أخيرا، والأذى فيما بين هذا وذاك؛ حيرة أي حيرة، بل أحس ميلا إلى الضحك، ونادرا ما كان يفعل، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ، فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديدة، ومضى يومه حائرا أو ضاحكا، يحدث نفسه فيقول كالذاهل: يرشون فيؤذون ثم يكنسون .. ها ها ها!
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرآة يهيئ من شأنه، فوقعت عيناه على ربطة رقبته، وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل: لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة، ومضى يقلب عينيه في أجزاء من ملابسة جميعا بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضا؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته.
ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهرا طويلا قانعا مطمئنا. كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه؟! أجل على رغمه. وقد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه، وكبر عليه أن يرضى بقيد على رغمه. أليس الإنسان حرا؟ وتفكر مليا ثم أجاب بحماس: بلى أنا حر. وملأه بغتة الشعور بالحرية، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه، إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء، غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة لسبب خارجي أو باعث باطني. حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة، وأنقذها بحماس فائق من وطأة العلل. وداخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب، فألقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السبل مسيرين مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا؛ إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حين يريد، مزدريا كل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية. توقف عن مسيره بغتة وهو يقول لنفسه: «ها أنا ذا أقف لغير ما سبب.» ونظر فيما حوله في ثوان ثم تساءل؛ أيستطيع أن يرفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع، وها هو ذا يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى؛ هل تؤاتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة؟ وقال لنفسه: فلم لا أستطيع؟ وما عسى أن يعتاق حريتي؟! وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة، وملأته ثقة بالنفس لا حد لها؛ فمضى يتأسف على ما فاته - طوال عمره - من فرص كانت حرية بأن تمتعه بحريته وتسعده، واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين، فرأى على طواره مائدة ملأى بما لذ وطاب، يجلس إليها رجل وامرأة متقابلان يأكلان مريئا ويشربان هنيئا، وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبل عرايا إلا من أسمال بالية، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة؛ فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر، وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام، ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين: «ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين.» ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام، هذا حق لا ريب فيه، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان؛ فهل ثمة مانع يمنعه من تحقيق رغبته؟ .. هيهات، وربما كان التردد ممكنا في زمن مضى، أما الآن ... واقترب من المائدة بهدوء، ومد يده إلى الطبق وتناول الدجاجة، ثم رمي بها عند أقدام العرايا، وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمرا نكرا، غير عابئ بالزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم، بل غلبه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكا حتى دمعت عيناه، وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته، بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود. لم تطاوعه نفسه؛ فقد فقدت قدرتها على الجمود، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه، حتي هم بالنهوض، إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصا غير غريب عن ناظريه، وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد المقهى مثله، وكان جسما ضخما وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو، كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس، وكأنه يراه لأول مرة. بدا له قبحه وشذوذه عاريا، فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه، ولم تفارقه عيناه، وثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضا ممتلئا مغريا. وتساءل؛ أيتركه يمر بسلام؟ معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية، وعاهده ألا يخالف له أمرا. وهز منكبيه استهانة، واقترب من الرجل فكاد يلاصقه، ورفع يده وهوي بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة، فرنت الصفعة رنينا عاليا، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكا، ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة، فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربا وركلا حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثا، ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم؛ وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل، وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، ولم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان، وأبى أن يغيب عنها ثانية واحدة من حياته؛ ومن ثم ألقى بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية، وبصق على وجوه، وركل بطونا وظهورا، ولم ينج في كل حال من اللكمات والسباب؛ فحطمت نظارته، ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه، ونغضت ثنيتاه، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر، ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه، ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل؛ ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر، ترفل في ثوب رقيق شفاف، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعا ودهشة، وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.
وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية، فخطر له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة! إن رجلا ما فعل ذلك على أية حال، فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما، ومد يده بسرعة البرق وقرص! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات، وأحاط به كثيرون، ولكنهم في النهاية تركوه! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم، ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم. تركوه على أية حال. ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءا! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه، فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلا من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينيه نظرة غائبة، وعاد يتساءل؛ لماذا يدع نفسه سجينا في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه؟! وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق، فغليت مراجله، ولم يستطع معها صبرا، وأخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعا؛ فبدا عاريا كما خلقه الله، وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكا، واندفع في سبيله.
الزيف
كان التياترو مكتظا بالنظارة، حيث كانت تمثل رواية البخيل لموليير، وكان جمهوره كالمعتاد خليطا من طلاب التسلية ومحبي الظهور ومدعي الفن وعشاق الخيال. وكان علي أفندي جبر، المترجم بوزارة الزراعة، بين الجالسين في الصفوف الأمامية، وكان يتتبع التمثيل بين اليقظة والنوم، واضعا خده على يده، ومسندا مرفقه إلى مسند المقعد. وكان قد طالع في بعض المجلات عن الرواية ما جعله يظنها آية من آيات الكوميدي، فجاء التياترو بنفس تواقة إلى الضحك والسرور، وسرعان ما خاب رجاؤه وفترت حماسته، وكاد يستسلم للنعاس، ولكن الأقدار أرادت أن تتبرع بتعويضه عن خيبته؛ ففي أثناء الاستراحة دنا منه النادل وانحني على أذنه، وقال باحترام وتأدب: هل للبك أن يتفضل بالذهاب إلى البنوار رقم واحد؟
ثم ذهب إلى حال سبيله، ونظر علي أفندي إلى البنوار رقم واحد فرأى الستار الأبيض مسدلا عليه، فأدرك أن به «حريما»، وقام من توه وغادر الصالة، وقصد إلى البنوار وهو يضرب أخماسا في أسداس، وطرق الباب مستأذنا، فسمع صوتا رخيما لا يعرفه يقول: تفضل.
فتردد لحظة سريعة لأنه أدرك - لدى سماعه الصوت الغريب - أن في الأمر خطأ، ولكنه كان من الرجال الذين تغلبهم على نفوسهم في محضر النساء جسارة غير محدودة، وحب للمجازفات، وثقة بالنفس وطيدة، فاقتحم الباب غير هياب، وصار وجها لوجه أمام السيدة الجالسة. وكانت في الأربعين ممتلئة الجسم ناضجة الأنوثة، يزين وجهها العاجي حسن تركي ممصر، ويدل على طبقتها العالية ثوبها الأنيق ونظرتها الرفيعة وحليها الثمينة، وقد بهر الرجل أمام روعة الحسن، وانحنى باحترام وهو يقول في إشفاق: «وا أسفاه، ستعلم السيدة بالخطأ وسرعان ما تنتهي المقابلة!» ولكن خاب ظنه لأن السيدة ابتسمت إليه تحييه كأنه هو المعني، وقالت برقة تعرفه بنفسها: أرجوك ألا يسوءك إقلاقي لراحتك .. أنا أرملة المغفور له علي باشا عاصم!
يسوءه! ينبغي أن يعد نفسه من المحظوظين في هذه الدنيا؛ لأن سيدة كتلك السيدة تقول له مثل ذلك الكلام بتلك اللهجة الرقيقة! ترى لماذا دعته لبنوارها؟ فهو لا يذكر أنه رآها من قبل، وإن كان يعلم علم اليقين أنه قرأ اسمها في بعض الأخبار الخاصة بالجمعيات النسائية، وخيل إليه غروره أنها ربما رأته من حيث لم يرها، وأنها ربما وقع في نفسها منه - كما حدث لغيرها، وإن كن لسن من نوعها - ما علقها به؛ فإذا صدق حدسه - والدلائل تجمع على صدقه - فهي تدعوه كما دعت قديما امرأة العزيز فتاها!
وأحس بنشوة فرح وزهو، وقال للمرأة بكل رقة وهو ينظر إليها كما ينظر الإنسان إلى شيء ثمين يملكه: العفو يا صاحبة السعادة .. خادمك.
وهم أن يقدم لها شخصه العزيز، واستدلت السيدة من لهجته على ذلك، فأشارت إليه بيدها البضة، وقالت بسرعة وهي تبسم عن در نضيد: وهل أنت في حاجة إلى تعريف يا أستاذ ...؟ تفضل.
وجلس كما أرادت، ولكن عبارتها الأخيرة قلبت ما بنفسه رأسا على عقب؛ فعلاه الوجوم، وأطفأ الكدر نور السرور في عينيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون فاتنا محبوبا من النساء، وأن تقع في غرامه حرم عاصم باشا، ولكن مما لا ريب فيه أنه في حاجة إلى تعريف ككل إنسان، وأنه لم يكن أبدا في غنى عن التعريف، فماذا تعني السيدة الجميلة بقولها هذا؟ إنه يكاد يهتدي إلى وجه الحق، وقد ساعده على ذلك قولها له «يا أستاذ»؛ فهل تظن السيدة أنه شاعر مصر الأكبر، بل شاعر الشرق العربي جميعا الأستاذ محمد نور الدين؟
والحق أن المشابهة التي بينه وبين سيد الشعراء معروفة مشهورة، يعلم بها جميع أصحابه، وطالما جعلوا منها موضوعا للتنكيت والقفش؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل الذي يحد من أعلى بجبهة عالية، ومن أسفل بذقن عريضة، وكلاهما له هذا الأنف الروماني العظيم، والشارب الشركسي الغزير، ولا اختلاف بينهما إلا أنه أطول من الشاعر وأعظم امتلاء؛ وهذا يدل على أن السيدة - فيما لو صدق ظنه - لم تر الشاعر إلا في إحدى صوره التي تظهر أحيانا في المجلات والصحف.
وا أسفاه! ذاق حلاوة الفوز ومرارة الهزيمة في لحظة واحدة، فهل يتراجع ويرضى بالغنيمة بالإياب؟ ولكن مثل هذا التردد لم يكن ليخالجه إلا لحظات قصيرة العمر؛ لأنه - كما قلنا - يفقد رشاده في حضرة النساء، ولا يفكر إلا في انتهاب اللذة واقتناص الفرصة، فجلس مبتسما على ما به من خيبة مريرة، مطمئنا كما ينبغي لشاعر مصر العظيم.
وقالت السيدة: سيدي الأستاذ، إن معرفتي بك قديمة جدا لا كما تظن، وإن أفضالك على روحي لا تقدر بثمن، ولا يحصيها عد، وطالما منيت نفسي بالتحدث إليك، وكم كان فرحي عظيما حين عثر بصري بك فلم أتردد عن دعوتك، وإني أرجو يا سيدي أن تغفر لي تطفلي.
فقال علي أفندي وقلبه يلعن الشاعر: ما أسعدني بعطفك يا سيدتي! إننا معشر الشعراء لنحرق أرواحنا في سبيل الخلود والشهرة، ومثل إعجابك يا سيدتي أثمن لدي من الخلود والشهرة!
فتوردت وجنتا المرأة، ورنت إليه بعينين ناعستين، وقرأت في عينيه ما حملها على تجنب حديث العواطف وإن كانت تضمر الرجوع إليه في المستقبل! فقالت: هل أعجبتك الرواية؟
الرواية التي صدعت رأسه وفر منها إلى النعاس!
إنه كان حكيما فلم يسارع إلى مصارحتها برأيه، ولم تنتظر السيدة جوابه، فقالت بثقة: لا شك أنك تعجب بها أيما إعجاب؛ لأنها من تلك الفكاهة العالية التي كتبت عنها فصلا رائعا في كتابك الخالد «فلسفة الجمال»، وقد كان هذا الفصل سبيلي إلى تذوق موليير وتوين وشو.
فحمد الله أن لم يذكر رأيه الحقيقي، وهز رأسه باسما، وقال باطمئنان عجيب: البخيل آية فنية رائعة، وهي من الآيات التي لا تمنح كنوزها مرة واحدة. ولقد قرأتها مرة وأخرى، وها أنا ذا أشاهدها للمرة الثالثة، وفي كل مرة أفوز بحسن جديد!
فابتسمت السيدة وقالت: إذن أصاب ظني!
فقال علي أفندي: إنك يا سيدتي آية في الذكاء.
ولم يأذن الوقت بالاسترسال في الأحاديث؛ إذ دق الجرس معلنا انتهاء الاستراحة، فاضطر علي أفندي أن يستأذن في طلب الانصراف، وقالت السيدة وهي تودعه: أرجو أن تشرف قصري بزيارتك.
فقال وهو ينحني على يدها: لي عظيم الشرف يا سيدتي. - يوم الأربعاء الساعة السابعة مساء .. شارع خمارويه رقم 10 بالزمالك.
وتنهدت المرأة ارتياحا، وظنت أنها نالت أمنية من أعز أمانيها. وكانت مخلوقة سعيدة الحظ كأن الأقدار تتوخى راحتها؛ تزوجت من رجل من رجال مصر القانونيين المعدودين، فتمتعت برجولته، وكفاها الموت شر شيخوخته، وترك لها مالا وجاها واسما عظيما، ولكن ضايقها ظهور منافسة خطيرة لها هي أرملة الدكتور إبراهيم باشا رشدي، يجري ذكر جمالها - مثلها - على الألسن، وتتحدث بثرائها المجتمعات، وقد وضعتهما المصادفات في حي واحد، وأغرت بينهما العداوة والبغضاء؛ فكلتاهما تتمتع بأنوثة ناضجة وجمال فتان وثروة طائلة، وتملك قصرا فخما يتيه على قصور الأمراء. وكانت كل منهما تعتز بنفسها، وتود لو يغلب نورها نور الأخرى، فتنافستا في اقتناء السيارات الثمينة والتحف النادرة والثياب الأنيقة، وتسابقتا في ميدان الظهور تعرضان حسنهما وتنثران حديثهما، واتخذت كل منهما بطانة من كرائم الأسر والآنسات المثقفات. وقد علمت حرم عاصم باشا يوما أن منافستها دعت إلى تأليف جمعية المرأة الحديثة، فلم يرتح لها جانب حتى كونت جمعية تعليم الأميات. وسمعت يوما بأن الأخرى تبرعت بمبلغ كبير من المال مساهمة في إنشاء مدرسة كبيرة، وأن الصحف أثنت عليها جميل الثناء، فأمرت بتشييد جامع كبير في عزبتها، ودعت لالتقاط صوره مصور أكبر مجلة في مصر، وطلبت إليه أن يثني على ورعها وتقواها!
وكان آخر ما نمى إلى مسامعها من أخبار منافستها ما لاكته الألسن من أن الموسيقار المعروف الأستاذ الشربيني قد شغف بها حبا، وأنه لا يفتأ يتردد على قصرها، وأن الدور الذائع الصيت «حبيت يا قلبي»، الذي يتغنى به المصريون جميعا وتهفو إليه نفوسهم؛ لحن بوحي جمالها! وما علمت بهذه الأخبار حتي التهبت نفسها التهابا واحترق قلبها احتراقا، وتلفتت يمنة ويسرة تبحث عن عاشق «شهير» تصير بحبه حديثا ممتعا، وتغدو له وحيا ملهما، فذكرت شاعر مصر محمد نور الدين؛ فهو المصري الوحيد الذي له ما للشربيني من الشهرة والمكانة، وهو أجدر الناس بتخليدها في قصيدة كما خلد الشربيني منافستها في أسطوانة. وفي تلك الأثناء رأت الشاعر مصادفة في التياترو، وكانت تفكر في وسيلة تصل بها إليه، فهل كنا مغالين إذ قلنا إنها نالت أمنية من أعز أمانيها؟ •••
أما علي أفندي جبر، فقد رجع إلى مقعده وهو يلقي على الحاضرين نظرة فاحصة خشية أن يكون الشاعر الأصلي بين النظارة! وقد ساءل نفسه: «ألا يجدر بي أن أفر؟» ولكنه لم يكن جادا في سؤاله؛ لأنه لم يعتد الفرار من ميدان النساء.
ولم يأل جهدا في التأهب والاستعداد ليتقن تمثيل شخصيته الجديدة، فطبع بطاقات باسم محمد نور الدين، ورأى عن حكمة أن يلقي نظرة سطحية على مؤلفات الشاعر؛ فذهب إلى مكتبه وطلب مؤلفاته، فسأله الكتبي: كلها؟
فقال: نعم.
فقال الرجل: الطلب غير ممكن الآن يا أستاذ؛ لأن بعضها نفد، والبعض غير موجود في المكتبة؛ فإذا انتظرت إلى الغد ...
ولكنه قاطعه متسائلا: ما الحاضر بين يديك؟
فقال الرجل: دواوينه الأربعة؛ النور والظلام، والجحيم، والرحلة الروحية ، والسماء السابعة؛ وكتاب فلسفة الجمال، والرحلة الشرقية، والجزء الثاني من كتاب الغد.
وهاله الأمر وأسقط في يده، ولم ير بدا من ابتياعها جميعا، وكانت المرة الأولى في حياته التي يشتري فيها ديوان شعر؛ لأنه بطبعه لا يحب الشعر ولا يهضمه، ولا يجد مسوغا مطلقا للقوافي التي يضمنها معانيه؛ فلماذا لا يرسل الكلام على سجيته؟ وإنه لينفث في آذان النساء غزلا يعتقد أنه أرق الكلام وأمتعه، ومع هذا لم يشعر بالحاجة إلى تنسيقه في بيت من الشعر، ولم يقرأ من الشعر طوال حياته سوى المحفوظات المدرسية وهو كاره؛ فما كان يخطر له على بال أن يشتري ديوانا من الشعر فضلا عن أربعة دواوين كاملة، ولكن قدر فكان!
وقال لنفسه متبرما وهو يحملها إلى بيته: «أعقل أن يكلفني الحب مالا أو مطاردة خطرة أو صبرا طويلا أو شجارا عنيفا، أما الذي لا أعقله أن يتقاضاني قراءة هذه الكتب؛ فهل أنا عاشق أم تلميذ؟»
وأخذ يقلب صفحات الكتب، فغص بالشعر كما توقع ولم يفقه له معنى، ولو كان يسيرا مثل «إذا نام غر في دجى الليل فاسهر» لهان الأمر، ولكنه كان من نوع عجيب؛ سهل الألفاظ مغلق المعاني! وهذا غزل نور الدين، فما بالك لو تطاول إلى الأغراض الأخرى التي يجفل قلبه من مجرد تلاوة عنواناتها؟! والأدهى من ذلك وذاك أن نثره ليس بخير من شعره؛ فقد قرأ صفحات من كتاب فلسفة الجمال ما كان يظن أن إنسانا عاقلا ينشرها على الملأ، وضاق صدره بنور الدين وشعره ونثره فرمي بالكتب جميعا، ولكنه قال بإصرار وعناد: «سأذهب يوم الأربعاء.»
وفي الموعد المسمى ذهب إلى قصر السيدة الجليلة بشارع خمارويه، وكان بادي الوجاهة والأناقة، وأرسل بطاقة إلى ربة القصر، فقاده الخادم إلى صالون رائع لم ير أجمل منه على كثرة ما غشي من الصالونات الفخمة، ولكنه لم يدهش لأن منظر الحديقة والقصر الخارجي سلبه كل دهشة. وكان يكره الانتظار؛ لأن أمثاله من المغامرين تؤاتيهم النجدة بداهة وارتجالا، وتشحذ أسلحتهم في أثناء المعمعة، مثله في ذلك مثل الخطيب المطبوع الذي يلهمه الجمهور المعاني فيتدفق؛ ولذلك أحس بارتياح عجيب حين رآها تشرق عليه من باب الصالون في فستان أبيض غير كتوم، يعلن عن جمال كل ثنية من ثنيات جسمها اللدن، ويبين خاصة عن الخصر الدقيق الذي يتعلق به كفلاها الثقيلان، فطرد بقوة إرادته بقية قلق كانت عالقة بنفسه، وانحني باحترام، فأعطته يدها فضغط عليها بحنو، ثم قال وهما يجلسان: لقد حسبت الأيام ساعة فساعة!
فابتسمت السيدة وقالت بلهجة لم تخل من عتاب: هذا معني مبتذل لا قرابة بينه وبين معانيك الشعرية الخالدة.
فاحتدم الغيظ في قلبه، ولعن الشعر والشاعر، وتذكر قراءته لبعض المعاني «الخالدة» التي لم يفقه لها معني، وعجب كيف تؤثرها هذه السيدة العجيبة على عبارته البسيطة التي طالما نصبت الشراك وغزت الحصون! وأراد أن يلتمس لعجزه عن خلق المعاني «الخالدة» عذرا فلسفيا، فقال: معذرة يا سيدتي، إني إذا غشيني لألاء الحسن السامي تركت نفسي على فطرتها، وهجرت إلى حين المعاني التي يبدعها التفكير والتكلف.
فاتسعت عينا السيدة الجميلتان، وقالت بإنكار: يا عجبا! ألست القائل يا أستاذ في مقدمة ديوانك إن شعرك شعر الفطرة والطبع؟ أولست الآخذ على شعراء المدرسة القديمة تكلفهم؟!
فأسقط في يده، ووجد أن الحذر لم ينفعه، وخشي أن يفقد ثقته بنفسه، فقال بلهجة العالم الذي يعني ما يقول: إن الشعر يا سيدتي مزيج من الفطرة والتفكير، والتفكير غير التكلف، وما أردت قوله هو أن الشاعر في حضرة الحسن يستبد به الشعور الخالص.
وأشفق من أن تسأله مثلا عن الفرق بين التفكير والتكلف أو معنى الشعور الخالص، ولكن السيدة قالت بإعجاب: صدقت يا أستاذ، ولعل هذا يفسر قولك إن الشعر لا يعبر عن عاطفة إلا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها.
فهز رأسه مبتسما وهو يتنهد ارتياحا: وهو الحق المبين يا سيدتي. أرى أن رأسك متوج بتاجي الحسن والأدب!
فتورد خداها وقالت بحماس: إني واحدة من قرائك المعجبين .. وقد قرأت مؤلفاتك بإمعان وشغف.
فقال: أين لي قراء مثلك يا سيدتي العزيزة؟ .. إن البلد لا يقدر الكاتبين. - هذا حق وا أسفاه على وجه العموم! ولكن يقال إن لك جمهورا تحسد عليه يا سيدي الأستاذ.
فأشار بيده إشارة تدل على الأسف وقال: لو أتيح لي أن أكتب باللغة الإنجليزية مثلا!
فسألته السيدة بقلق: أوليس لك الجمهور الذي تحسد عليه؟
فقال باطمئنان: جمهور قرائي يربو على ضعفي جمهور أي كاتب آخر في الشرق الإسلامي. - يا لها من مكانة سامية!
فهز رأسه أسفا وقال: لقد دفعت شبابي وقوتي ثمنا لها. - أآسف أنت على هذا؟ - لا أدري. - لقد خلدت شبابك في آثارك الباقية. - أيهما أفضل؟ أن يخلد شبابي كي يتمتع به غيري أم يفنى وأتمتع به وحدي؟ - لا تناقض بين الاثنين؛ فإنك تستطيع أن تستهلكه في متعتك ثم تخلده في شعرك، أتسألني وأنت أستاذي؟! - هذه سعادة لا تتاح لغير المجدودين. - وإنك لمن المجدودين.
فنظر إليها نظرة لو تحولت إلى كلمة لوقع قائلها تحت طائلة قانون العقوبات، وكان يجيد هذه اللغة، ثم قال بخبث: إنك يا سيدتي تتحدثين عن حظي كما لو كان مصيره بين يديك.
فتخضب خداها باحمرار طبيعي غلب أحمرها الصناعي الخفيف، وما كانت تكره أن يكون مصير سعادته بين يديها، ولكنها ادخرت هذا الحديث إلى وقت آخر، فغيرت مجراه وقالت فجأة: ينبغي أن أنتهز فرصة وجودك معي لأسألك عن معنى بعض الأبيات الشعرية التي استغلقت علي.
فخفق قلبه خفقة شديدة أيقظته من غيبوبة الغرام، وذعر ذعرا شديدا؛ إذ كيف له بشرح معاني شعر نور الدين المغلقة وهو الذي لا يفهم أيسر الشعر وأسلسه؟ وخشي إن تردد أن يخسر كل شيء بعد أن أوفى على الفوز، فقال بقوة: اعفيني يا سيدتي.
فسألته دهشة: ولم؟ هل يبرم الشاعر بشعره أحيانا؟ - ليس الأمر كذلك، ولكن قد يسمو الشاعر حينا على شعره فيخاله بعض مظاهر العالم المادي! وإني الآن في نشوة روحية من تلك النشوات التي تخلق الشعر، فكيف أنزل إلى الشرح والتفسير؟
فغمرتها موجة فرح وسعادة، وسألت نفسها: «ترى هل أكون غدا بطلة قصيدة رائعة خالدة؟» سألته في لهفة : أحقا ما تقول يا سيدي؟ - كيف يداخلك شك في هذا؟ تالله إذا لم تخلق هذه الساعة شعرا فلا خلق الشعر أبدا!
فامتلأ قلب المرأة فرحا ومنت نفسها بأسعد الأماني.
وفي تلك اللحظة دخلت خادم تعلن قدوم زائرات، ولم تفاجأ السيدة - كما فوجئ الأستاذ - بقدومهن، كأنها كانت على موعد معهن، وأمرت الخادمة بإدخالهن، وبعد لحظة قصيرة دخل ثلاث آنسات حسان يحتار ماء الشباب في وجوههن، وتلقتهن بترحاب، وقدمت إليهن الشاعر بلهجة فخار قائلة: الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.
وقدمتهن إليه واحدة واحدة قائلة إنهن من عضوات جمعية تعليم الأميات التي تتشرف برئاستها، ثم قالت: إنهن أديبات مثقفات، ولكن وا أسفاه فإن ثقافتهن قاصرة على الأدب الفرنسي الذي يتعشقنه إلى درجة أن جعلن الفرنسية لغة حوارهن، وإني أرجو أن يكون تعرفك بهن يا سيدي سببا لتوجيههن إلى الثقافة العصرية.
فعجب علي أفندي وتساءل دهشا: ترى هل يعلمن الفلاحات الأميات مبادئ اللغة الفرنسية؟!
استطردت السيدة تقول للآنسات: ستجدن في صديقي الشاعر محدثا جليلا، ولكني ما لهذا دعوتكن الليلة، فقد حجزت البنوار الأول في تياترو رمسيس لنشاهد معا رواية البخيل، ولا بأس أن يشاهدها الأستاذ للمرة الرابعة إكراما لي.
والحقيقة أن السيدة ما قصدت بدعوتهن إلا أن تذيع بينهن نبأ صداقتها للشاعر لكي يذعنها بدورهن في الصالونات الراقية فيتصل خبرها حتما بعلم منافستها الخطيرة، وما ذهابها بهن إلى تياترو رمسيس إلا لهذا الغرض نفسه.
وقد تضايق علي أفندي من حضور الزائرات، وتضايق أكثر من دعوته إلى التياترو، وكان يرجو أن تطول خلوته بها، ولكنه كان يبالغ في التشاؤم ولا يدري بالسعادة التي تخبئها له الأقدار؛ ففي الاستراحة انتهزت السيدة فرصة خروج الآنسات من البنوار وقالت له في خفر: ستعود معي إلى القصر.
ولم يكن للدعوة إلا معنى واحد، فتساءل علي أفندي؛ ترى كيف يتخلص من الآنسات؟ ولكن السيدة لم تعمل لذلك حسابا؛ فعند انتهاء التمثيل عادت السيارة بهم جميعا، وودعهما الفتيات عند مبتدأ شارع خمارويه، ثم سارت بهما السيارة وحدهما إلى القصر السعيد، فأيقن أنه رغم طول تجاربه جاهل بالنساء، وأنه لم يعرف قبل الآن امرأة مغرمة بالفضائح!
وكانت ليلة ... •••
وبعد يومين ذهب علي أفندي جبر إلى زيارة المعرض الرابع عشر للفنون الجميلة. لم يكن من الهواة، ولكنه كان من محبي الظهور والادعاء، وكان حبه للنساء يدفعه إلى ارتياد الأماكن التي يحتمل وجودهن بها، فمضى يسير في الحجرات الأنيقة وينظر بعينين فاترتين إلى اللوحات، حتى استرعت انتباهه من بينها صورة فلاحة عارية تستحم في النيل، وقد أجادت الريشة تصوير قدها النحيف وثدييها الناهدين، وأضفت على سمرة بشرتها سحرا شهويا عجيبا، فوقف أمامها طويلا لغير وجه الفن، وذكر - لرؤيتها - ذلك الجسد البض المكتنز، والردفين المكورين كأنهما إسفنجة هائلة مشبعة بالماء، والساقين الممكورين، والبشرة العجيبة ذات الرائحة الزكية؛ ذكر ذاك الحسن الذي رمي به الحظ بين يديه قضاء وقدرا .. أي ليلة جميلة كأنها حلم لذيذ، لا يجود بمثلها عالم الحقائق. وكأنه أراد أن يتأكد أنه حقيقة لا حلم، فأخرج مذكرته وقرأ فيها الموعد المنتظر الذي كتبته بيدها الرخصة.
وكأنما المصادفة لم تقنع بما أتت من عجب عجاب، فإنه لفي تأمله وتذكره إذ أحس بيد توضع على كتفه، فالتفت إلى الوراء فرأي صاحبته الجميلة واقفة بين جماعة من السيدات الأرستقراطيات، واستولت عليه الدهشة وعلاه الارتباك. أما السيدة فقد التفتت إلى صواحبها وقالت بتيه: ائذن لي أن أقدم إليكن صديقي الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.
فابتسمن إليه بترحيب إلا واحدة رددت النظر بينه وبين الأرملة، وقالت ضاحكة: يا لها من نكتة بارعة يا سيدتي!
فسألتها السيدة: أي نكتة تعنين يا سيدتي؟
فلم تحفل السيدة بإنكار الأرملة الجميلة، وقالت وهي تحدج علي أفندي بنظرة استغراب: رحماك يا ربي، الآن صدقت قول القائل: يخلق من الشبه أربعين!
فاحتدمت الأرملة غيظا وقالت: إني لا أفقه لما تقولين معنى. - بلي تفقهين كل المعنى وتريدين أن تضاحكينا، والحق أن الشبه الذي بين شاعرنا المجيد وحضرة البك شبه عجيب.
فاشتد الغيظ بالأرملة، والتفتت إلى علي أفندي وقالت: تكلم يا أستاذ لتعلم عصمتها أني لا أهزل.
وكان علي أفندي في حالة يرثى لها، وقد خانته جسارته تلقاء نظرات السيدة الجريئة التي لا شك تعرف الشاعر الأصلي تمام المعرفة، فلم يجد مناصا من الهرب، فتظاهر بالدهشة، وابتسم إلى الأرملة البائسة وقال: معذرة يا سيدتي .. يخلق من الشبه أربعين.
وكان يتكلم بلهجة جدية لا تترك أثرا للشك في نفس السامع؛ فجحظت عينا السيدة دهشة وانزعاجا، وعلا ضحك صاحباتها، وتأملنه بإمعان وهي تكاد تجن من الدهشة، وسألته: ألست أنت الشاعر؟
فأجاب بهدوء: كلا يا سيدتي .. أنا موظف بوزارة الزراعة. - ألم تقابلني قبل الآن؟ - لم يحصل لي هذا الشرف يا سيدتي.
قال علي أفندي ذلك وأحنى رأسه تحية وذهب تاركا السيدة لصديقاتها الضاحكات، وقالت السيدة الأخرى: إني أعجب كيف يخدعك بصرك إلى هذا الحد، ألا ترين أني فطنت إلى الحقيقة من النظرة الأولى؟!
فقالت الأرملة الذاهلة تداري خجلها: ما أعجب الشبه بينهما!
فقالت الأخرى: ولكن شتان ما بين قامتيهما.
وقالت أخرى ساخرة: سيغضب «صديقك» الشاعر حين يعلم بهذا الخطأ الغريب.
وغادر علي أفندي المعرض مضطربا. ولما تنسم الهواء الطلق انفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه، على أن الموقف لم يكن يخلو من دواعي الأسف ما دام قد خسر الموعد المنتظر، وكان يمني نفسه بأكثر من ليلة واحدة.
الشريدة
الغالب على أحاديث الشبان في هذه الأيام أن تتجه نحو غرضين؛ النساء والسياسة، وحول هذين الموضوعين دار الحديث في مجتمع من الأصدقاء كان من حظي المشاركة فيه محدثا ومنصتا. وقد بدأ الحديث فاترا مبتذلا فلم يستطع أن يجذب إلا بعض انتباهي، حتى تكلم ذلك الصديق البارع وتدفقت الذكريات على لسانه الذرب، فألقيت إليه بانتباهي كله؛ لأن حديثه كان قصة مستوفاة العناصر، ومثل هذا الحديث يستبد بمشاعري استبداد المال بقلب اليهودي الشحيح، وإليك ما قصه صاحبي، قال:
لا يكاد يخلو تاريخ شاب من امرأة، ولكنه قد يخلو من المرأة المؤثرة التي تترك وراءها شاهدا عميقا لا ينال منه طمس السنين كالوشم في اليد أو الصدر. وقد عرفت نساء كثيرات لا أذكر منهن إلا أثرا ذاهبا من اللذة أو الألم، أو أطيافا في الظلام والنسيان، إلا امرأة بدت في فترة من حياتي كالكوكب الدري ينير أبدا ويضيء ما حوله، فلا أنساها ولا يغمر النسيان حياتي التي غمرتها بروحها الرقيق .. لماذا؟ .. ألأنها كانت أجمل من عرفت .. أو أحبهن إلى قلبي؟ لا أعتقد هذا، ولكن ربما لأنها كانت أتعسهن جميعا، ولأن تعاستها هذه كانت السبب الخفي في سعادتي بها زمنا طيبا لن يعود أبدا.
ويرجع عهد معرفتي بها إلى يوم من أيام عام 1920، وكنت آنئذ طالبا في السنة الأولى بمدرسة الزراعة العليا، استيقظت ذلك اليوم في الصباح المبكر كعادتي، فجاءتني والدتي وقالت لي: حسونة .. أرى أن أخبرك أن ضيفة نزلت ببيتنا، وأنها ربما أقامت بيننا إلى أجل غير مسمي.
فنظرت إليها بغرابة وقلت لها: من هي؟ - زينب هانم زوج اليوزباشي محمد راضي جارنا.
فاستولت علي الدهشة وقلت: لكنها ما زالت عروسا في شهر العسل .. أليس كذلك؟ - هو ذلك يا بني، والظاهر أنها تعسة الحظ؛ لأنها اضطرت إلى هجر بيتها والالتجاء إلي في الصباح الباكر، وزوجها ولا شك رجل غليظ فظ لا تسهل معاشرته، وإلا ما تركها تهيم على وجهها وهو يعلم أن لا أقارب لها في القاهرة.
وكانت والدتي شديدة التأثر، فقلت: مسكينة.
فقالت بانفعال: كانت أم هذه الشابة صديقة صباي، وإني أرجو صادقة أن تعيش بيننا سعيدة.
ثم أردفت بلهجة ذات مغزي: وأن تكون لها يا حسونة أخا كريما.
وبادرت قائلا: طبعا .. طبعا .. يا أماه.
وذهبت إلى المدرسة وأنا أتذكر كلمة والدتي الأخيرة واللهجة التي قالتها بها، وأحسست بمزيج من الخجل والغضب. ترى هل تشفق والدتي من سلوكي علي ضيفتنا؟ ثم خطر لي أن أتساءل: «هل هي جميلة إلى حد تبرير مخاوف والدتي؟» .. حامت أفكاري حول ذلك طول الطريق من مصر الجديدة إلى الجيزة. والحق أن كلمة والدتي البريئة أوجدت في نفسي منذ البداية الاستعداد الذي كانت تشفق منه أيما إشفاق.
كان جو بيتنا غاية في الهدوء؛ فوالدي كان حينذاك قاضيا بمحكمة طنطا الأهلية، وكان يقيم نصف الأسبوع في القاهرة ونصفه الثاني في محل عمله، وكان أخي علي في المدرسة الحربية، وأخي عادل في بعثة مدرسة الطب بالنمسا. وفي ذلك الجو المغمور بالهدوء والسكينة عرفت زينب هانم العروس التعسة .. وقد خيل إلي وأنا ألقي عليها النظرة الأولى أني أرى صبية صغيرة. نعم كانت بضة ممتلئة بادية الأنوثة، ولكني قرأت في عينيها العسليتين نظرة براءة وسذاجة، بل طفولة كاملة لولا ما يلوح فيهما بين الحين والحين من الحزن العميق الذي لا تعرفه الطفولة الحقة.
وكان الشباب في ذلك العهد غيرهم الآن، كانوا أعظم استقامة، وأدنى إلى العفة والطهر، وأرعي عهدا للتقاليد، وكانت المرأة المصونة تبدو دائما وكأنها محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة، وكان الحب بعيدا نسبيا عن التهتك والابتذال اللذين صرعاه أخيرا وأورداه الإباحية والجنون؛ فكانت العواطف تزدهر في القلب وتنبت الآمال والأماني، وتنصهر في العقل وتخلق الأخيلة والأحلام، وتكتسي بحلي نادرة من صنع الأوهام والأطياف.
فكان يقنعني من زينب نظرة أختلسها من وجهها الحسن أو جسمها البض؛ لتكون زادي في النهار والليل وفي اليقظة والنوم، وأصبحت وأمسيت في عالم أثيري جميل بث في وجداني حياة ناضرة كالحياة التي ينشرها الربيع في الحقول والبساتين. على أن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ فجرى الحديث بيننا مرات، ولعبنا الورق مرة والنرد أخرى، وغالبتني عواطفي فوسوست إلي نفسي أن أتشجع، وتساءلت بخبث: لماذا لا أجرب حظي؟ لماذا لا ألمس أناملها في أثناء اللعب مثلا، أو أهدي إليها مجدولين فتكون فاتحة حديث لا يعلم ختامه إلا الله؟ .. ولكني لقيت من التردد الشيء الكثير، ولم تسعفني الجرأة التي تعلمتها فيما بعد، وضاع الوقت هباء، حتى رجعت يوما إلى البيت فوجدت والدتي وحدها .. وكنت تعودت أن أراها إلى جانبها، وأحسست بوحشة وضيق، وكتمت رغبة تلح علي بالسؤال لأن تلوث نفسي أفقدني صراحة الأبرياء، وظننت السؤال فاضحي، ولم تدعني والدتي فريسة العذاب، فقالت لي: شكرا لله؛ فقد جاء جارنا الضابط واعتذر لزوجته، وعاد بها لأنه نقل إلى أسيوط، وقد كلفتني أن أهدي إليك تحياتها.
وأحسست في الحال إحساس الطالب الذي يمنى بالسقوط في الامتحان وهو يحلم باختيار الوظيفة اللائقة به. وضاق صدري ذلك اليوم بالبيت ففررت إلى الخارج لأخلو إلى نفسي بعيدا عن عيني والداتي. على أن الصبا دائما قادر على جرف الأحزان والهموم، فاستطعت أن أبرأ في مدة وجيزة، ونسيت في غمرة الحياة والآمال تلك الحسرة التي عصرت قلبي أياما، فكانت مثل «الزكام» الذي يفقد الإنسان طعم الحياة حينما يزول سريعا فكأنه لم يكن.
ودارت الأيام وانتهيت من الدراسة، وحصلت على الدبلوم، ووظفت في وزارة الزراعة سنة 1925، ثم انتقلت إلى تفتيش الإسكندرية بعد ذلك بخمس سنوات. وفي الأيام الأولى لهبوطي إلى الإسكندرية آثرت أن أنزل بفندق لأستريح من وعثاء السفر وأبحث في هدوء عن مسكن مناسب، ووقع اختياري على فندق «ريش» لحسن موقعه من البحر؛ لأننا كنا في سبتمبر، وهو من الشهور المحبوبة في الإسكندرية، يطيب فيه الجو ويهدأ البحر ويصفو؛ فحملت حقيبتي ونزلت في حجرة من حجرات الطابق الثاني، وأذكر أنه لم يكد يتركني الخادم ويغلق وراءه الباب حتى سمعت طرقا، فدلفت إلى الباب وفتحته، ورأيت لدهشتي صديقنا الدكتور أحمد شلبي، واستقبلته بشوق، وأجلسته إلى جانبي، وكان يقول لي: أحقا هو أنت؟
ثم أردف: كنت تاركا باب حجرتي مفتوحا فلمحتك وأنت تتبع الخادم، وعرفتك في الحال. - هذه فرصة سعيدة. - يا حظك! - أي حظ تعني؟ .. أنت تعلم أن موظفي الزراعة لا حظ لهم يحسدون عليه.
فقال ضاحكا: أنا لا أتكلم عن الكادر .. ولكن عن فوزك بهذه الحجرة .. فيا حظك! - وما الداعي إلى هذا الحسد؟ .. هي حجرة دون حجرات الصف المقابل التي تطل نوافذها على البحر. - هذا حق، ولكن شرفتها تمس شرفة الحجرة رقم 24 التي إلى يمينك، وحسبك هذا. - وما شأن الحجرة رقم 24؟
فقال وهو يتنهد: تقيم بها امرأة حسناء وحيدة. - وحيدة! - نعم .. وإلى هذا يعود السبب في أن حجرات هذا الطابق مأهولة كلها. - لعلها ممثلة أو راقصة. - هو ما يظنه الرقم 27.
فقلت مستفهما: الرقم 27؟ - أعني زميلي الدكتور الصواف المقيم في الحجرة رقم 27، ولكني لم أوافقه على ظنه؛ لأني خبير بالصالات والمراقص جميعا، والأعجب من هذا أنها تبدو محترمة، ولا ينقصها إلا زوج لتكون من المصونات حقا.
فابتسمت وقلت: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - أوه .. كل الأرقام تطاردها مطاردة عنيفة. - ألم يفز أي رقم بطائل؟ - في الظاهر لا، والله أعلم بالسرائر.
وجالسني صديقي ربع ساعة، تحدث فيها ما شاء له الحديث، ثم ودعني وانصرف إلى حجرته. وكنت تعبا منهوك القوى، فنمت ساعة نوما عميقا واستيقظت عند العصر، وفتحت شرفتي وجلست فيها أستروح هواء البحر المنعش، ولاحت مني نظرة إلى الشرفة التي إلى يميني، فتذكرت ما قال صديقي الدكتور، وأدمنت النظر إليها باهتمام وشغف، ولكني استرددت نظري بسرعة لأني سمعت صرير بابها وهو يفتح، ونظرت أمامي، ولحظت بروز شخص، وخيل إلي أنه امرأة، وتأكد ظني عندما عطست، وحافظت على جمودي وتظاهرت بعدم الاكتراث .. وغالبا ما يفيد البرود، وهو إن لم يفد يعزي عن الخيبة.
ولكني لم أثبت طويلا، ونازعني شغف إلى النظر، فألقيت ببصري إلى جارتي، ورأيت امرأة أول ما راعني منها شعور بعدم الغرابة سرعان ما تحول إلى يقين بأني رأيتها من قبل، وأنا أتمتع بذاكرة لا تخيب قط في حفظ الصور؛ فلم ألبث أن تذكرت .. تذكرت جارتنا القديمة .. التي عاشت معي في بيت واحد بضعة أيام كانت كافية لإنضاج وجداني .. وتملكتني الدهشة والاهتمام.
ولاحت منها نظرة إلي فالتقت عينانا، وتوقعت بقلب خافق أن أطالع في وجهها آية التذكر، وتحفزت للسلام، ولكن خاب رجائي؛ لأن نظرتها كانت جامدة لا حياة فيها، ولم تلبث أن ولتني ظهرها وعادت من حيث أتت. وا أسفاه! نسيتني بغير شك .. وما من شك في أنها هي جارتنا القديمة، وهي ما تزال تحافظ على جمالها وأنوثتها، ولكن ما لها تعيش وحدها في هذا الفندق .. وما الذي يحملها على هذه الوحدة الغريبة .. وأين زوجها يا ترى؟
وطال تفكيري في شأنها حتى قمت لارتداء ثيابي وغادرت حجرتي، وشاءت المصادفات أن يفتح باب حجرتها على أثر خروجي مباشرة، فتباطأت في خطاي حتي حاذتني وهبطنا الأدراج معا، ووجدت في نفسي رغبة شديدة في محادثتها، ولم أكن أحجم في مثل ذاك الموقف، فقلت لها بهدوء غريب: سعيدة يا هانم .. لعلك تذكرينني.
فحدجتني بنظرة إنكار، ولعلها ظنت أني أتذرع بالحيلة لاستدراجها إلى محادثتي، وأسرعت الخطى فلحقت بها عند باب الفندق وقلت لها: أهكذا تنسين جيرانك بسرعة؟ .. ألا تذكرين حرم حسن بك همام القاضي؟
فألقت علي نظرة غريبة، ولاحت في عينيها الأحلام، وسمعتها تتمتم: عدالات هانم .. شارع الزقازيق!
فقلت بفرح: نعم، هذه هي والدتي .. وهذا شارعنا.
فهشت لي وسارت إلى جانبي وهي تقول: أأنت ابنها؟ .. تذكرت .. كيف حال عدالات هانم؟
فقلت بسرور وقد أيقظ صوتها وجدي القديم بها: والدتي بخير .. كيف حالك أنت يا هانم؟ - عال، ولكن أين عدالات هانم؟ .. هل أنت وحدك؟ - نعم، الأسرة في رأس البر لأن والدي يحبها ويفضلها على الإسكندرية، وأنا هنا بحكم عملي. - نسيت اسمك. - حسونة.
وكنت نسيت اسمها كذلك، ولكني نفرت بطبعي من سؤالها عنه، فمشيت إلى جانبها صامتا، وكان وجداني في يقظة قوية، وأصارحكم القول بأني من الذين لا يملكون عواطفهم إذا خلوا إلى امرأة أيا كان جمالها، وإن رغبتي في النساء عامة لا تعرف التخصص. وقد كنت قبل نحو عشرين عاما ذا استعداد للحب، ولكني فقدت بمرور الزمن واطراد التجارب وكثرة الأهواء تلك الموهبة الجميلة، ودنوت كثيرا من الحيوانات الراقية. وكنت في ذلك الوقت خاطبا، وكنت اخترت خطيبتي من بين عشرات الفتيات، ولكن ذلك لم يمنع قلبي - ذلك اليوم - من التعلق السريع بتلك المرأة ومعاناة الرغبة والطمع، قلت لها: أأنت وحدك هنا؟
فقالت بلا اكتراث: نعم! - وزوجك؟ - في السلوم. - ولماذا تعيشين وحدك؟
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: لا ينقصك إلا أن تفتح محضرا للتحقيق وتطالبني بالشهود.
فخجلت من فضولي، وضحكت أداري خجلي، ولم تكن عواطفي تكف عن الطغيان، فقلت: ألا يحسن بنا أن نبحث عن مكان صالح للجلوس؟
فهزت رأسها وقالت بعناد ظريف: كلا، أنا أفضل المشي لأني أريد أن أنحف.
فنظرت إلى جسمها البض الممتلئ نظرة معذب، ووجدت في كلامها فرصة ذهبية لا ينبغي أن تفلت مني، فقلت بإعجاب: وما جدوي هذا التعب؟ .. إن جسمك كامل الفتنة.
فألقت علي نظرة جمعت بين الانتقاد والدلال، وقالت وهي تشير إلى جسمها: هذه موضة قديمة.
فقلت بحماس: هذا جميل وكفى .. وما عدا ذلك فلا وزن له عندي. - وعند الناس؟ - نعم وعند الناس.
كدت أنسى هذا؛ إذ خيل إلي الوهم الساحر أني صاحب الشأن الأوحد، وعلى أنها قالت ما قالت وهي تبتسم إلي بإغراء، فاستخفني الوهم مرة أخرى، واشتد بي الطمع، فقلت: أنت لم تتغيري في هذه الفترة الطويلة، وكأن التي أراها الآن هي السيدة الجميلة التي أشرقت بغتة في بيتنا بمصر الجديدة منذ عشرة أعوام، وغربت بغتة كذلك فتركتني أحلم بها أياما وشهورا.
فنظرت إلي بخبث وقالت: يا لك من ماكر!
فقلت ضاحكا: ما وجه الغرابة في ذلك؟ .. من يرى هذا الحسن ولا يتمناه؟ - الظاهر أني سأجد من الواجب أن أفارقك لأنجو من أمانيك. - حاشا أن تفعلي .. بل حاشاي أن أتركك تفعلين. إن فوزي بلقائك بعد هذا الغياب الطويل نعمة من البطر الشرير الكفر بها. - إنك تحدثني كما لو كنا عاشقين افترقا ثم تلاقيا. - هذا شعورك. - هو أدنى إلى الوهم. - أما من ناحيتي فلا. - وأما من ناحيتي فنعم.
ولكنها قالت ذلك بدلال ورقة، وهي تبتسم ابتسامة عذبة تسيل إغراء. ولم أدهش لما تبدي من استسلام؛ لأن حالتها في الواقع كانت تدعو إلى الريبة، وتذكرت ما قال صديقي الدكتور شلبي فقلت: إني أعجب لماذا تقيمين وحدك في هذا الفندق! - أراك تعود إلى التحقيق. - كلا، لا داعي للتحقيق، ولكني علمت أن المقيمين بالطابق الثاني يضايقونك. - أبدا، لعلهم يضايقونك أنت.
فتنهدت وتعمدت أن أسمعها تنهدي، ثم قلت: فليكن .. ألا ترين من الحكمة أن نترك فندق ريش؟ - نترك؟! - نعم .. أنا أعني ما أقول، وأعرف فندقا هادئا في لوران، فما رأيك؟
ولم تجبني، ولازمت الصمت حينا، وبدا على وجهها الاهتمام والتفكير، فخفق قلبي وساورني الخوف والقلق؛ ولكني أحسست فجأة بذراعها تلتف بذراعي، وسرنا مشتبكين كالعشاق أو الأزواج، فأثلج صدري، وغمرني الفرح والفوز، وقنعت بذلك جوابا.
وفي مساء ذلك اليوم افتتحنا معا مأدبة الحب، فعدنا إلى ريش وأخذنا حقائبنا ورحلنا إلى لوران، ونزلنا في فندق أكس لا شابل، وهو فندق هادئ منعزل يقوم على شاطئ البحر كزاهد عازف يولي ظهره ضجيج الحياة، ويستقبل أفق الأبدية والأحلام.
وعشت أياما أذكرها دائما كما يذكر السقيم عهد الصحة والعافية؛ كان الحب فيها الحاكم القاهر المستبد الطاغي الذي لا يترك لشيء مكانا من عقولنا أو نفوسنا. وكنت أعلم أنها أيام وإن طالت قصار، وإن صفت فإلى انتهاء سريع؛ فأقبلت عليها بنهم وجشع أملأ من حسنها قلبي وحواسي؛ كي لا أدع زيادة لمستزيد، غير مؤجل متعة إلى غد أو مبق على لذة إلى حين، أو تارك ثمرة بلا قطف والتهام .. وكانت شريكتي سعيدة راضية يسكرها الحب وتستخفها آيات العطف، فتستزيد منها كما يستزيد منها الثمل من الطرب.
وتبين لي بغير كبير عناء أن آمالنا متباينة، فكنت لا أفكر إلا في حاضري، وأود لو أمتص ما فيه من حلاوة في رشفة واحدة .. أما هي فكانت تنظر إلى بعيد، ولا تفتأ تذكر المستقبل، وترغب رغبة صادقة في أن تطمئن إلى دوام السعادة والحب. وقد عجبت لذلك، وعلمت أني لم أفهم بعد تلك المرأة. وقد ظننتها حينا امرأة مستهترة متقلبة الأهواء، تجوب البلاد بعيدا عن زوجها طلبا للحب الآثم وانتهابا للذات .. ولكني وجدتها هادئة الطبع، عظيمة المودة، لا تسيطر عليها النزوات العمياء التي تورد أصحابها مهالك الفتن.
وكانت أيامنا الأولى أيام حب خالص، فلم يكدر صفوي مكدر، إلا أن إفراطي الشديد ردني إلى شيء من اليقظة والانتباه، فاستطاع فكري أن يتناول أمورا غير الحب.
فكرت في أني أعتدي لأول مرة على حرمة الزوجية، ولم يكن سبق لي أن اقترفت هذا الإثم المنكر، فوخزتني شكة الألم وأحسست بخوف غامض، وزاد من ألمي أني كنت على عتبة الحياة الزوجية، وساءلت نفسي في رعب: ألا يجوز أن يقتص الله مني ويصيبني يوما في المقتل الذي طعنت فيه الآخرين.
وهنا قاطعه أحد المستمعين قائلا: وهل صدقت مخاوفك فيما بعد؟
وضحك البعض، ونظر محدثنا إلى مقاطعه شزرا، ثم استأنف حديثه قائلا: ثم فكرت في أمر آخر لا يقل عن سابقه خطورة، فكرت في أمر الزوج الغريب الذي يترك لزوجته الحبل على الغارب، ما الذي عساه يفرق بينهما؟ .. وكيف يرضى عن هذه الحياة الغريبة؟ .. وألا يمكن أن يظهر بغتة في أفقنا الهادئ فتكون الطامة التي لا تدفع.
وكانت هذه الأفكار تساورني خارج الفندق بعيدا عن ظلها الخفيف، ولكني وجدت نفسي مسوقا إلى مفاتحتها بهذا الحديث وقد فعلت، فسألتها يوما: أما من أخبار عن زوجك؟
فاكفهر وجهها وأظلمت عيناها، وقالت: دع هذا الحديث جانبا.
فاضطررت ساعتئذ إلى السكوت، وفي نيتي أن أعيد الكرة مهما كلفني ذلك. وكانت تتحاشى هذا الحديث وتتهرب منه، ولكني قلت لها يوما بإخلاص وحزم: ينبغي أن تعلمي أنه ليس الفضول الذي يدفعني إلى معاودة السؤال، ولكنه اهتمام بشخص أعزه وأحبه، وأرجو دائما أن يفتح لي صدره وقلبه.
كم فرحت لكلامي هذا .. لقد التصقت بي بوجد وحنان، وتنهدت بسعادة وقالت: يا للسعادة .. طالما ضرعت إلى الله أن يهبني قلبا حنونا محبا.
فداعبت خصلة من شعرها الأسود بيدي وقلت: إذن هيا وصارحيني بكل شيء. - ولكنه حديث مؤلم كريه.
فقلت: أنا لا أدري شيئا؛ لأنك لم تريدي أن تطلعيني على شيء، ولكني كنت أرجح دائما أن حياتك الزوجية غير سليمة، ومهما يكن من أمر فينبغي أن أعلم كيف يتركك زوجك هكذا!
فهزت منكبيها باستهانة وقالت: إنه لا يعرف مقري على وجه التحقيق. - ما أعجب هذا! .. أستطيع أن أفهم أنكما غير متحابين، ولكن الذي لا أستطيع فهمه هو أن تبقيا زوجين بعد ذلك. - إنه لا يطلقني لأنه لا يستطيع الاستغناء عن مالي .. وسوى ذلك فلم يكن زوجا قط، وهو لا يطيق أن يكون زوجا في يوم من الأيام .. على أني في الواقع لا أرغب في الطلاق.
فحدقت في وجهها دهشا وقلت: هذا أعجب! - لا تعجب لشيء، ألا ترى أني هكذا مالكة لحريتي؟ ولو كنت مطلقة ما استطعت أن أذهب إلى حيث أشاء، ولو كان لي من يهمه أمري ويحنو علي بصدق لتغير مصيري من بادئ الأمر، ولكني وحيدة، وحيدة في هذه الدنيا الواسعة، أنت لا تدري ما الوحدة .. أما أنا فقد تجرعت مذاقها طوال هذه السنين .. مات أبواي، والتحق أخي الأوحد بوظيفة في قنصلية اليونان، ونبذني زوجي .. فليس لي مكان آوي إليه أو قلب يعطف علي، أنا منبوذة في هذه الدنيا.
فوجمت صامتا وغلبني التأثر الشديد، ورأيت وجهها الجميل محتقنا كقطعة من الجمر، ولمحت دمعة حبيسة في عينيها، فقلت: إنك جميلة وغنية، فماذا كان يريد هذا الأحمق؟ - إنه وحش ضار وقاس جحود، لم أستطع أن أعاشره كزوجة إلا أياما معدودات، ثم اضطرني إلى حياة التشرد والهيمان .. ولو وهبني الله طفلا لاستعنت به على الصبر والرضا، ولكني حرمت حتى من هذا العزاء.
وكانت تتكلم بتأثر شديد فيخيل إلي أني سأتبعها إلى البكاء، وثرت في نفسي على الحظ التعس الذي ضيق عليها الخناق، وخطرت لي فكرة فقلت لها: ألم يكن في وسعك إصلاح ما أفسد الحظ؟
فضحكت ضحكة مريرة وقالت: الحظ التعس لا يصلحه شيء، وأنا ما قصرت قط. وأصارحك القول بأني كنت أحبه، وما وافقت على الزواج منه إلا لأني أحببته يوما، ولكنه مضى بعد الأسبوع الأول من زواجنا يقضي الليل خارج البيت ولا يعود إلا قبيل الفجر، وكنت إذا انبريت لإصلاحه ومدافعة الشقاء الذي يهددني به سخر مني وهزأ بمحاولاتي. ولما ضاق بي ترك السخرية والهزء وعمد إلى الخشونة والفظاظة.
وسكتت عن الحديث دقائق وهي مستسلمة إلى الشعور الأليم الذي أحدثته الذكريات، ثم أردفت بصوت أعمق ووجه أشد اكفهرارا: وأدركني اليأس منه ولما أتم شهرا كاملا في بيتي الجديد؛ وكان ذلك لحادثة همجية لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي؛ أيئستني من الخير ودمرت كل فضيلة في نفسي؛ ففي ليلة من ليالي شهر العسل كنت مستغرقة في النوم بعد سهاد حزين، وإذا بهزة عنيفة توقظني من نومي، فاستيقظت فزعة صارخة ونظرت بعينين مرتعبتين، فرأيته جالسا إلى حافة الفراش، وهممت بتعنيفه، ولكن لساني لم يتحرك في فمي؛ لأنه كان في حالة سكر شديد كما تبينت ذلك من نظرته الذاهلة ووجهه المحتقن والرائحة التي تنبعث من فمه. وكان هناك ما هو أدهى من ذلك؛ كانت تقف قريبة منه امرأة غريبة في مثل حالته من السكر الشديد، كانت تنتظر بلا ريب أن أوسع لها مكاني من فراش العرس، ولم يمهلني حتى أفيق من فزعي ودهشتي، فقال لي بلسانه الثقيل الملتوي: «تفضلي خارجا.» ولم تنتظر صاحبته، فدنت من الفراش وارتمت إلى جانبي. ولم أتمالك نفسي، ففزعت من مكاني إلى أرض الغرفة وفقدت رشدي، فانفجرت غاضبة وانهلت عليه سبا ولعنا، ولكنه هز كتفيه استهانة واستلقى إلى جانبها، فغادرت الحجرة في حالة جنونية، وأحسست برغبة لا تقاوم في هجر البيت. وكانت ثيابي في الدولاب داخل الحجرة، فأخذت غطاء المائدة القطيفة وتلفعت به، وفتحت الباب ووليت خارجا والديوك تصيح معلنة طلوع الفجر، وهرولت في الطريق الموحش لا ألوي على شيء، حتى انتهت قدماي إلى البيت الوحيد الذي تعودنا الذهاب إليه .. بيت والدتك .. ولعلك تذكر الأيام القلائل التي قضيتها عندكم .. إني لا أنسى تلك الليلة أبدا، ولا تزال قائمة في نفسي بجميع تفاصيلها .. وقد كانت فاصلة في حياتي بين عهدين.
إني أذكر تلك الأيام بلا ريب .. ولكن كم كنت أجهل ما تخفي من التعاسة والبؤس.
واحترمت فترة الصمت التي تلت ذلك ثم سألتها: كيف عدت إليه بعد ذلك؟
فهزت رأسها باشمئزاز وقالت: في تلك الليلة انتهت حياتي الزوجية في الواقع، ولكني كنت بلا مأوى وبلا معين، فماذا أصنع؟ .. عرض علي اتفاقية فقبلتها، وهي أن أعطيه من مالي على أن يعطيني حريتي. وقد كان .. وغدوت حرة أقيم حيث أشاء وأفعل ما أشاء لا أسأل عما أفعل.
وهالني الأمر فقلت: وهل عشت سعيدة؟
فتنهدت وقالت: ليت ذلك كان ممكنا .. ما تمنيت على الله من شيء مثلما تمنيت أن يسلبني حريتي هذه في لقاء أن أحظى بالسعادة التي أحلم بها والعطف الذي أتحرق إليه؛ وأنا مستعدة دائما أن أتنازل عن حريتي بائنة لمن يهبني قلبه وإخلاصه .. كم تعبت وكم بحثت .. وكم ضقت بحريتي!
الآن علمت كل شيء .. لقد صرفت هذه المرأة التعسة عشرة أعوام في البحث عن العبودية السعيدة، فهل يا ترى وفقت إلى ما تريد؟ .. كلا، هي لم توفق ولا ريب، ولو أنها وفقت إلى الحبيب الصادق ما ارتمت بين أحضاني أنا بهذه السهولة. لقد انصرمت السنوات العشر في خيبة مريرة وخدع أليمة. وما من شك في أن الكثيرين تلقفوها بشراهة وجشع كما أفعل الآن، ثم ردوها قهرا بعد شبع إلى حريتها البغيضة. وهكذا فالحرية نفسها تهون وترخص أحيانا، وتعيى في طلب المستبد الغاصب.
ولما انتهت من سرد قصتها نظرت إلي بطمأنينة واستسلام، ثم ألصقت جبهتها بجبهتي، وسمعتها تهمس في أذني قائلة: وأخيرا ...
وفهمت مدلول تلك الكلمة، وعلمت أني ألعب في روايتها البائسة دور الأمل الأخير؛ فإما أن أقوم به كما تتمنى أحلامها وإما أن أشفي بها على اليأس القاتل.
وأحسست بثقل تبعني، وران علي صدري هم عظيم، وتساءلت حيران: ترى ما هي أحلامها؟ .. أن تدوم هذه العشرة؟ .. وكيف لي بدوامها وأنا على قاب قوسين أو أدنى من الزواج؟ .. ومضى تأثري الشديد لتعاستها يهدأ نوعا، وأخذت أفكر في نفسي وأنظر إلى علاقتي بها بعين متشائمة، وأتساءل في قسوة وأسف عن طريقة للخلاص .. وكانت تأتي علي أوقات أعجب فيها من أنانيتي، وأتساءل في اشمئزاز: إذن كيف كان شأن من لم يشعر نحوها بغير الشهوة والطمع؟ الحق أن عالمنا الإنساني عالم شديد القسوة، وما أضيع الفلسفة التي تعب أصحابها في الدعوة إلى القسوة وتحقيق تنازع البقاء؛ فهي في الحق تحصيل حاصل وجهد ما كان أحرى باذليه بالضن به.
على أن الذي أزعجني هو أن زينب فطنت لمشاعري الخفية من غير أن أصارحها بها، وبدا لي ذلك في وجومها وبرودها وقنوطها. ولم أدهش؛ فإني من الذين لا يدرون كيف يخفون ما بنفوسهم، وتفضحهم أعينهم وإيماءاتهم. ولم أكن بيت قط نية مصارحتها بعاطفة مما يعتلج في صدري أو بفكر مما يحترق في رأسي، وقد كنت أفكر في حالتها بعطف ومودة، ولكن العطف شيء والحب شيء.
وكنت أتوقع في خوف وإشفاق أن تفاتحني بما يقوم في نفسها من الوساوس، وكان ذلك يضاعف آلامي النفسية، ورجوت أن تنقشع تلك السحابة من سماء حياتي دون أن تترك وراءها أثرا لحزن أو ألم أو تأنيب ضمير. وانقلبت حياتنا تمثيلا ثقيلا، وكان كل منا يعلم بما يشعر به صاحبه نحوه، ولكنا كنا نتجاهل كل شيء .. لماذا لم تصارحني بشعورها؟ .. ولماذا لم تهب للدفاع عن سعادتها الموهومة؟ لم يحدث شيء من هذا.
وقد عدت ظهر يوم من عملي بالتفتيش فوجدت حجرتنا خالية، وبحثت عيناي عن آثارها اللطيفة التي تعودت رؤيتها، كالفساتين التي كانت تعلقها على المشجب أو الحقيبة التي كانت تضعها على المائدة، فلم أر أثرا، وأسرعت إلى الدولاب وفتحته على مصراعيه فلم أجد سوى ثيابي، وناديت الخادم وسألته عنها، فأخبرني أن الهانم تركت الفندق الساعة العاشرة صباحا، وأنه أحضر لها بنفسه التاكسي.
وبحثت هنا وهناك عن خطاب أو ورقة لأني كنت أتوقع أن تترك لي كلمة، ولكني لم أعثر على شيء.
لقد تركتني دون كلمة، وانتهى كل شيء!
وجلست صامتا واجما تتنازعني العواطف، ولم أشعر براحة للخلاص الذي جاءني بدون مشقة، وأحسست بخجل وألم ووحشة ثقيلة، ولم أجد رغبة في الطعام، فقمت من فوري أبحث عن مسكن جديد؛ لأنه كان يتعذر علي أن أبيت ليلتي في تلك الحجرة المهجورة.
وسكت الراوي لحظة ثم أردف: ومضت سنوات لم أرها فيها، ثم رأيتها منذ عهد قريب تساير شابا أنيقا في ميدان المحطة، ولكني لا أدري إن كانت ما تزال تبحث عن الحب والعطف أم إنها استسلمت إلى القنوط!
خيانة في رسائل
- هذه أول أزمة تصيب حبنا! نعم، طالما آلمني الفراق الهين، وأجهدني الشوق إلى اللقاء، وعذبني الدلال. أما الوداع، أما الرحيل إلى قنا، فذا أمر جديد يدفع إلى نفسي شعورا بالحزن لا عهد لها به؛ فهلا عدلت عن السفر ! - لو كان الأمر إلي ما رغبت نفسي أدنى رغبة في السفر، فما أحفل بقضاء الشتاء في أعالي الصعيد بعض احتفالي بالقرب منك كيما أواصل هذا اللقاء السعيد! ولكن ما حيلتي وهذا ما يريده أبي ويفعله منذ أحيل إلى المعاش. ولقد اعتاد أن يمضي شهرا أو شهرين من الشتاء في قنا عند عمي الدكتور. - يستطيع عقلي أن يتصور المعجزات، ولكن لا أستطيع أن أتصور ما عسي أن تكون عليه حياتي في هذين الشهرين؛ فهذا الحب غدا حياة لشعوري، وهذا اللقاء أمسى ألفة لنفسي، أجد فيهما راحة بعد تعب، وعزاء عن شوق دائم، فما عسى أن أصنع؟ بل ما يكون زادي وسلوتي؟
فوضعت يدا خمرية ناعمة على كتفه، وداعبت بأطراف أناملها خده، وهمست في أذنه: هذا شعوري وهذا حزني، ولولا كراهيتي للعزاء لنصحت لك بالتعزي والتلهي؛ فليس أمامنا سوى الصبر الجميل حتى ينطوي دهر الفراق ويتصل حبل اللقاء .. ومع هذا فما أسعدك وما أبأسني! - كيف؟ - لن أسعد بقراءة كلمة طوال مدة غيابي؛ لأنك لا تستطيع أن تكتب إلي، أما أنت فتستطيع أن تطلع على همسات روحي كلما مكنتني الفرص من اختلاس الكتابة إليك .. فأينا أسعد حظا؟ - من تؤاتيه فرص التعبير فيخفف من مراجل عاطفته.
وهنا ظللت وجهه سحابة كدر، وسألها بعد تردد: هل لك أبناء عم؟
فابتسمت ابتسامة دلت على أنها سرت للقلق الذي بعثه هذا السؤال، وأجابته: نعم لي .. ولكنهم لم يجاوزوا عهد الطفولة، ولو كان الأمر كما تتوهم ما أوجب أدنى خوف أيها الرعديد الغيور .. والآن هات فمك أودعك ... وهيا نقول معا هذه الكلمة المروعة التي تفزع لها القلوب: «أستودعك الله.»
من الغد يصبح لنا في قنا حبيبان عزيزان؛ حبيبة القلب عائدة، وصديق الصبا وزميل عهد الدراسة الأستاذ أحمد مرزوق المدرس بمدرسة قنا، ولكنه بينما يتصل بصديقه بالكتابة فهو محروم بحكم الظروف من تمام هذا الاتصال الروحي بحبيبته؛ لأن حبهما ما يزال سرا خفيا لما يدر بأمره الأهل.
وانقضت أربعة أيام على سفر عائدة، ثم وصله منها كتاب جاء فيه : «حبيبي حسني، أعجب لهذه الوحشة كيف تجثم على صدري وأنت معي .. نعم أنت معي لم تفارقني لحظة سواء في ضجيج النهار أو في سكون الليل؛ معي وأنا أرسل الطرف من نافذة القطار أشاهد الحقول الممتدة وأشجار النخيل المبعثرة؛ معي وأنا بين أهل عمي أتلقى الأحاديث وأرد عليها، وأضاحك هذا وأسمع لذاك؛ معي في كل مكان وكل حين، فلا عجب لنفسي بعد ذلك أن هزها الحنين إليك، أو استشعرت وحشة وضيقا في البعد عنك، أو ألهبها الشوق عذابا وجوي.
وأرجو ألا تتهمني بالتكاسل عن الكتابة إليك؛ فبيت عمي عامر بالأطفال، وهم لا يتركونني لحظة أخلو إلى نفسي؛ وقد انبعثت كلمات هذا الكتاب من شعوري، وامتلأ بها عقلي، وتمثلت في حواسي، وحفظتها عن ظهر قلب قبل أن تؤاتيني الفرص فأسطرها لك خلسة على ضوء القمر المتسلل من نافذة حجرتي، والعيون قد أغمضها عني المنام .. فاعذرني إن تأخرت عنك رسائلي، وارجع إن شئت إلى قلبك؛ فاعتقادي أنه يملي عليك عن لساني ما أحب أن أقوله لك دائما.
أما عن قنا فجوها دافئ جميل، وخلا ذلك فنحن في منفى، ولولا ما يربحه أبي فيها من صحة وعافية ما تركته يسكن إليها لحظة من الزمان.»
فأخذ من الكتاب كل ما استطاع أن يمنحه من العزاء والسلوة والسعادة.
وكان صديقه مرزوق لا ينقطع عن مراسلته وإن خلت كتابته من الطرافة والجدة؛ فهي التحيات المحفوظة وبث الأشواق والتلهف على إدبار العام الدراسي وإقبال العطلة الصيفية، إلا أنه أضاف إلى هذه المحفوظات في آخر خطاب ما نصه: «طالما قلت لك إني أعيش في قنا كما عاش أبونا آدم قبل أن يخلق الله منه أمنا حواء. لا يقع بصري على وجه امرأة قط، وإن كنت أرى أحيانا بعض الأصدقاء يشيرون إلى كتلة من الثياب السوداء الملفوفة تسير كعمود من الدخان الكثيف، وأسمعهم يقولون: انظر إلى هذه المرأة.
ولكن وقع بالأمس ما يعد حدثا تاريخيا في حياة قنا؛ إذ حضر الدكتور سامي حسني مفتش الصحة إلى البستان العمومي وفي صحبته غادة جميلة سافرة الوجه، فهز البلد وزلزل كيانه. إنه رجل جسور لا يعبأ بآراء المتزمتين، وتجده دائما على استعداد للرد على تطفل المتطفلين بما يجعله مثلا وعبرة، ولم يلبث أن شاع الخبر وملأ الأسماع؛ فهرع الموظفون من مدرسين ومهندسين وكتبة إلى البستان وهم يسوون أربطة الرقبة ويحكمون أوضاع الطربوش على رءوسهم؛ فلو رأيت البستان حينذاك لحسبته حديقة غناء في مصر الجديدة أو قصر النيل.
إنها شابة جميلة تحمل في طياتها عطر القاهرة المعبق، فليهنأ قفر قنا بهذا العطر العذب.»
فخفق قلبه لدى مطالعة الكتاب، ولم يداخله أدنى شك في معرفة صاحبة الشخصية الجميلة التي أثارت لوعة الشباب في قنا.
يا له من كلام يحمل فرحا وألما، والألم فيه أكثر! أيجوز أن تسعد قنا ومن فيها بحبيبته ويبقى هو في القاهرة تسيل نفسه حسرات عليها؟
وهم أن يكتب لصديقه كتابا يعلنه فيه بأن الفتاة التي هز مقدمها قنا هي حبيبته اليوم، ثم خطيبته غدا، ولكنه جفل من هذا الإعلان ووجد رغبة خفية أن يكتمه إياه، وأن يطلب منه أن يوافيه بأخبارها التي تستحق الرواية والحديث.
لقد تردد لحظة وطرح على نفسه هذا السؤال: ألا يعد هذا تجسسا منه على حبيبته؟
وهل يجوز هذا في شرع المحبين؟ أوليس الأفضل أن يربأ بنفسه عن أن يضع صاحبته موضع الاتهام والظنة!
ولكن عاطفة الندم هذه لم تستطع أن تقهر عواطف قلبه الجياشة السوداء، فطردها من نفسه وكتب إلى صديقه بما أملت عليه شكوكه من بادئ الأمر.
وبعد حين وصله كتاب ثان من صديقه جاء فيه عن عائدة ما يلي: «تغير كل شيء في قنا وكل شيء في حياتي، ولم تعد قنا قبرا موحشا فاغرا فاه مكشرا عن أنيابه، ولم تعد حياتي سأما ثقيلا متصلا. كيف لا يكون هذا وأنا مطمئن إلى أني سأحظى أصيل كل يوم برؤية ذلك الوجه السافر المبتسم الذي يحيي موات النفوس، ويبعث مصفر الأمل؟ .. ما أجملها، وما أعذبها!
علمت الآن أنها ابنة أخي مفتش الصحة، أو هذا ما علمته قنا عامة وعلمه شبابها خاصة. إن جميع العيون تلتهمها التهام الجوع؛ فلعل هذه الضجة تثير الغيرة في نفوس الآباء الموظفين، فتشجعهم على الاستهتار بتقاليد الصعيد وأهليه، وإبراز بناتهم للعيان، ومهما يكن من الأمر فنحن الرابحون.
لا تخش على أخيك من قهر؛ فهو بطل صنديد، وشخصية لا يشق لها غبار، وإن عيني لتنفذان من بين العيون جميعا وتجذبان عينيها إلي؛ فصبرا، ولتعلمن بعد حين في أي مخبأ من مخابئ القدر كانت تنتظره هذه المفاجآت!»
ما هذا الذي يقوله مرزوق من أن عينيه تجذبان إليه عينيها؟ إن لعيني مرزوق أن تجذبا كيف تشاءان .. أما عينا صاحبته فما بالهما تنجذبان وتستجيبان؟ .. هلا يكون ذلك مجرد نظر بريء، فسره صديقه على ما يهوي غروره ويحب؟ .. إنه لا يشك أبدا في إخلاص عائدة، ولكن ينبغي ألا ينسى أن لصاحبه عينين جميلتين يحس الناظر إليهما سخونة في أعصابه ولذعة في قلبه، وهو - إلى ذلك - مدرس محترم من حملة الديبلومات العالية، ومن ذوي المستقبل السعيد. أما هو فلم يزد على أن يكون موظفا صغيرا، كل مؤهلاته شهادة البكالوريا، ومستقبله مظلم محدود، أفلا يكون لكل هذه الفوارق أثر في الحب؟
إنه يشعر بحزن عميق يخيم على نفسه فيجعلها من الكآبة كنفس هرم متشائم، ويحس بسم الغيرة ينطلق من قلبه ويلوث دمه .. أواه .. إن أحلامه وآماله تتأرجح على كف رجيم.
وفي ذلك الوقت أتاه كتاب من عائدة، فانكب عليه بلهفة، وتلاه مرة بعد أخرى، ولم يكن يخرج في معناه عن رسالتها الأولى، فتزعزعت شكوكه، وعاودته الثقة، وذاق بعض الطمأنينة والشفاء، وحمل غرور صديقه إثم ما جنى عليه كتابه من الشك والعذاب، ولكنه تسلم رسالة من صديقه بعد ذلك بأسبوع، جاء فيها: «كن على يقين من أن العاطفة النامية لم تعد قاصرة على جانب واحد؛ فعينا الفتاة - واسمها عائدة - تقتحمان الحاضرين من الشبان وتستقران علي أنا. إني أطالع في وجهها عند حضوري سيما الشوق والتطلع تحاول أن تخفيهما بعدم اكتراث مفتعل، وأقرأ في عينيها استجابات خفية لرسائلي الصامتة الملتهبة، وأستشف أحيانا على فمها ابتسامة خفيفة، ولعلها تخاطب عمها أو أحد أبنائه الصغار بصوت مسموع وهي تعنيني. لا تدهش لأقوالي فإني أطاردها في إصرار، وأتتبعها في عناء، وأخاطبها بصوت مكتوم تنبئ به عني شفتاي المتحركتان، وأبعث إليها بإشارات الشكوى والرجاء. وقد اقتربت مني مرة وهي تلاعب طفلا من أبناء عمها، وسمعتها تقول له أو لي إن شئت: «دائما في أعقابي، فماذا تصنع لو رجعت إلى مصر؟» فقلت لها بصوت مسموع: «لعلك لا تعودين ..» إنها كلمة ذات مغزي خاص إذا قالها شاب أعزب موظف مثلي؛ وقد كان لها الأثر الجميل. والآن أفتني فإنك خبير طبيب عالم بأحوالي؛ هل أقدم أم حسبي ما ذقت من لذة بريئة وأولي ظهري ودا لن ينتهي بالتئام؟ .. إن ثمرة الحب ناضجة دانية تنتظر من يقطفها، ما رأيك؟»
يا للظلام .. يا للألم الساخر .. عبثا يحاول دفع هذه الآيات بالشك والتكذيب؛ فعائدة بلا ريب هي التي لا تستطيع مغالبة الشوق بالتستر وعدم الاكتراث المفتعل، وهي التي تحادث الغير وتعني المجدود من الرجال، هي التي تجيب عيناها الإجابات الخفية .. وهي تسكرها سير الزواج.
فيا للظلام، ويا للخيبة القاتلة .. والأدهى أنه يريد منه أن يكون مستشارا في مأساة قلبه .. لعله يرجو أن يشير بما يقطع خيط العنكبوت الذي يمسك بكفه أحلامه وسعادته .. فيا للسخرية! من المستطاع أن يحاول إنقاذ سعادته فيعلن صديقه بالحقيقة السافرة، ويضع آماله بين يدي شهامته وما يعهد فيه من الإخلاص والمروءة، ولكن كبرياءه تأبى عليه أن يكون في حبه من المسترحمين السائلين، وهو يندفع برغبة جنونية نحو جحيم العذاب كأنما يستطيب النار الموقدة. وأبى إلا أن يعرض حبه لأقسى امتحان؛ فإما إلى نعيم الطمأنينة، وإما إلى أهوال العذاب؛ وعليه فقد تمالك وكتب إلى صديقه: «إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردد؛ فإن حكمة الدنيا لتذوب حسرة على ثمرة حب ناضجة يزهد فيها الإنسان. أقدم ولا تبال بالنتائج البعيدة، وتمتع بالحب في منفى قنا ولا تحملن نفسك هموم التفكير في الغد، ولا تغفل عن تزويدي بكل جديد؛ فإني أصبحت من تتبع حبك على حب شديد.»
وانتظر رد صاحبه بصبر نافد وجزع لحوح، حتى وافاه منه كتاب جاء فيه ما يلي: «بوركت من حكيم سديد الرأي! لقد اتبعت نصحك أيها الأخ، وضربت لها موعدا همسا، ووافيت إليه صباح اليوم الثاني وأنا حائر بين الشك واليقين، بين اليأس والأمل، ولكن لشد ما كان فرحي عندما رأيتها قادمة، والحقيقة أنها كانت مترددة مذعورة على رغم خلو المكان الذي يوحي بالطمأنينة في خفية عن أعين الرقباء، وبلغ الذعر أنها مرت بي غير ملتفتة إلى يدي الممتدة كأنها جاءت لغير موعدي، فتتبعتها وحييتها وطمأنتها حتى قالت لي مضطربة: لا أدري كيف جئت .. كيف أطعتك .. إنني مضطربة.
فهدأت من خاطرها، وسكنت اضطرابها، ولاطفتها بما أوتيت من بيان ومران وحماس حتى أفرخ روعها واطمأنت.
لقد تحدثنا طويلا، بل طويلا جدا، ولو أردت أن أسطر لك ما دار بيننا ما انتهيت وما وسعتني الأسطر؛ فحسبك أن تعلم أنها فتاة جميلة رشيقة حلوة المعشر، مهذبة الطباع، وإن كانت تغلب عليها حدة الإحساس وتوقد العاطفة والذهاب مع الخيال. وقد حامت بمهارة حول موضوع الزواج، فجاريتها بخفة ولباقة لا تهويان بها إلى قرار اليأس ولا تعلوان بها إلى عهد الميثاق، وعند الافتراق تناولت منها قبلة خلت لحلاوة جدتها أنها أول قبلة تنالها شفتاي.»
انتهى الأمر، وتبددت الأحلام، وخابت الآمال، وقضت على قلبه الذي انتهي طويلا بأفراح الحب أن يتجرع آلام اليأس والخيبة.
وانقطعت عنه رسائلها، ولكنه كان على علم متصل بأحوالها من رسائل صديقه التي جاءته تتري.
وقد كتب إليه في إحداها: «أنا - باختصار - سعيد جدا؛ فحياتي مليئة بالبهجة والمسرة، وعائدة خير عزاء عن الوحدة والوحشة في هذا المنفى السحيق، وإني كلما أذكر أني سأحرم هذه المتعة بعد شهر يشيب شعري من الهول، وأضمها إلى صدري بشغف، وألتهم منها قبلات ملتهبة كأني أختزن منها ما أعود إليه عند الفراق. أما هي فتعتقد أنها لن تعود إلى القاهرة أو أنها تعود لكي ترجع إلى الأبد؛ فمن يدريها أن لي خطيبة تنتظرني في القاهرة من سنوات طويلة؟!
وبهذه المناسبة أقول لك إن عائدة من اللاتي وهبهن الله دلالا وفتنة، ولكنها على قدر غير هين من الاستهتار والنزق، أما خطيبتي فشابة حيية هادئة الطبع وعلى خلق عظيم، وإني أدخرها للزواج وأنا سعيد.»
وكتب إليه في رسالة أخرى: «معذرة أيها الصديق عن تأخير غير مقصود، والحق ماذا أقول لك؛ فالحياة الجميلة هي هي .. لقاء فأحاديث، فمداعبات، فتقبيل وعناق، فوداع ولقاء. إنها غدت مجنونة بي، وكلما مرت ساعة اشتد بها الجزع وتكاد تنطق جوارحها؛ أن اذهب إلى والدي وخاطبه في حبنا لأكون لك طول العمر.
إنها أمنية طبيعية، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.»
ثم كتب إليه بعد حين: «قومت الألفة تلعثم الحياء، وصيرت التلميح تصريحا، وأمست عائدة تلح علي أن أكلم أباها لتتخذ علاقتنا الصيغة الشرعية المقدسة، وكانت حياتي تكون السعادة نفسها لولا هذه المنغصات.
والحق أني أجد بين يديها سعادة صافية جعلتني شديد العطف عليها، وبعثت في الضمير ألما مبرحا. وإنه ليسوءني ما أبيت لها من نية الغدر والهجر؛ لأني في الحقيقة لم أر فيها أكثر من ملهاة ممتعة أسكن إليها في هذا المنفى القصي. وما أشبه غرامي هذا بغرام الرحالة الجواب؛ تتعدد وعوده تعدد ما يجوبه من البلدان. وما يثير النفس يا صديقي أني أول أمس على أثر عودتي من لقائها، جلست إلى مكتبي شاردا أقلب بعض الكتب، فما راعني إلا ديوان شوقي تنشق صفحاته عن صورة حفظتها فيه وكدت أنساها، هي صورة خطيبتي بوجهها الصبيح الجميل وقد سطر على ظهرها بخط جميل «تذكار الوفاء»؛ فكأنه سوط عذاب ألهبني نارا، ألا فليغفر الله ما تقدم من ذنبي وما تأخر أيتها الحبيبة! والحق لقد اضطرب فؤادي، وألقيت على الصورة نظرة ذعر سريعة ثم أخفيتها عن عيني أو أخفيت عيني عنها؛ لأنه وقع في نفسي أنها تعلم بخبيئتي، وأنها تصوب نحوي نظرة لا تعيش أمامها الخيانة.»
وكتب إليه في رسالة أخرى يقول: «لست فتي عصريا كما كنت أعتقد؛ ولو أني كنت كذلك لما هالني الغدر، ولأكبرت على نفسي الخيانة، ولسهل علي اصطناع الوداد للفتيات اصطناع تحيات الصباح والمساء؛ ولهذا تجدني معذبا موزع القلب؛ فلا أنا بالراضي على نفسي لأني نكثت ميثاق خطيبتي، ولا أنا بالسعيد بما ألقى من حب عائدة الذي رماني تفانيها في هاوية من الندم.
ولا يخفى عليك أن الملل عرف طريقه إلى نفسي، وأني بت منه في سقام، وقد كان ذلك مقدورا، ولكن ما الذي عجل به؟! .. لعله ذكرى خطيبتي، أو لعله أني أقبلت على عائدة إقبال منهوم جائع فامتصصت حلاوتها، أو ربما كان ذلك لأن جمالها طلاء لا يخفى من ورائه شخصية ذات بهاء وجلال.»
ثم كتب: «أمسى اللقاء غير ذي متعة؛ لأني من ناحية بت أعاني من السأم وإرهاق الضمير، ومن ناحية أخرى فالفتاة تصر على مخاطبتي في شأن الزواج، ولا تكاد تصبر عن هذا الموضوع؛ فرمت بي في الحرج والحيرة، وينتهي موعد اللقاء ونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب المفضوحين.»
وأخيرا كتب إليه يقول: «لأول مرة أخلف الميعاد، وإني لأعذر نفسي وأغبطها، وأرجو أن تفهم الفتاة أن هذا مني إعلان بالقطيعة، ولم يكن من هذا بد بعد أن بلغنا في علاقتنا موضوعا ينبغي أن يتقرر فيه المصير، فإما إلى يمين وإما إلى شمال، وما كان ينبغي لي أن أختار من جديد، وما أحببت ذلك قط؛ فإن خطيبتي تنتظر أوبتي بفارغ الصبر، وهي أكرم على نفسي من هذه الفتاة التافهة الثرثارة التي لم يميزها الله إلا بمظاهر الجمال المبتذل لا يلبث أن يتبخر أثره في الهواء. ومهما يكن من أمر فلن ينقضي أسبوع حتى تكون الآنسة عائدة في طريقها إلى حيث ألقت.» •••
قرأ جميع هذه الرسائل - رسائل صديقه وقاتله - بإمعان شديد.
وكانت تتسلط على نفسه في ذلك الوقت عاطفتان؛ عاطفة حزن عميق وشعور حاد بالخيبة والغيرة وانهيار الأمل جعلته لا يذوق لذة في اليقظة ولا راحة في السهاد، وعاطفة تشف وانتقام أن تنتهي بها الخيانة إلى مثل ما انتهت به الحال من خيبة أمل وانهيار صرح سعادة.
ولم يفرط في واحدة من هذه الرسائل التي سجلت تاريخ أكبر هزة عنيفة امتحن بها شبابه، فجمعها في رزمة، وحفظها في حق عاجي جميل، ووضعها في مكان أمين وانتظر.
جاءته رسالة مقتضبة من عائدة نفسها تعلنه بقدومها، وترجو أن يذهب للقائها في موعدهما المعهود عند العصر.
وفكر من أمره طويلا، تفكير من تسيطر عليه عاطفة مسمومة ونفس جريحة حتى انتهى من أمره إلى تدبير، فذهب إلى الموعد في الساعة المعهودة، ولم ينتظر هذه المرة لأنه وجدها في انتظاره، واستقبلته بيدين مفتوحتين وابتسامة مشرقة، فضمها بين ذراعيه ولثم شفتيها وهو يبتسم ابتسامة كلفته غاليا من الجهد وضبط النفس.
وجلسا إلى نفسيهما كما كانا يفعلان في الأيام الخوالي السعيدة، وسمعها تقول بفرح فائض: وأخيرا.
فردد قولها «وأخيرا»، ثم نظر إليها بعينين مبتهجتين تخفيان دهشة، وقال لنفسه: يا عجبا! ما أقدركن أيها النساء على إخفاء مشاعركن وتكلف ما ليس بكن!
وانطلقت هي تقول: أستطيع أن أخبرك كم ثانية غبتها عني طوال هذه المدة الثقيلة لا أرجعها الله. - الذي يبدو لي أن استغراقك في حساب الزمن شغلك عن الكتابة إلي. - أتسخر مني؟ .. آه لو تعلم كم كانت تكلفني الرسالة التي أكتبها إليك!
كنت أتسلل إلى مكان قصي بالبيت كي أخفي نفسي عن أعين أبناء عمي .. فيجدون في أثري ويهددون عزلتي، ويفزعون أخيلتي المنسجمة وعواطفي الحارة، فإذا انتهيت منها احترت كيف أسلمها إلى صندوق البريد. - ألم يكن الخروج هينا عليك؟ - أحيانا مع عمي. - لم لم تخرجي في الصباح وعمك في عمله والجو خال؟! - لو فعلت لكان أمرا مثيرا .. والشبان هناك جائعون أرذال عديمو الشرف. - يا سلام! - نعم يا عزيزي. - أرى عذرهم بينا .. فمن يطالع هذا الوجه الجميل ولا يقهر على الحب قلبه؟ ولكن ماذا صنعوا معك حتى استحقوا عندك هذا الحكم القاسي؟
فصمتت لحظة ثم قالت: إنها صغائر مألوفة لا يني عنها الشبان .. ولكنها ليست بذات بال .. فلندع هذا الآن .. فاعتقادي أنه لدينا ما يلذ لنا حديثه أكثر من هذا. - طبعا .. طبعا .. ولكن وا أسفاه قد قدر علي أن أحرم هذه اللذة الليلة .. لأن أمي مريضة وينبغي أن أكون إلى جانبها سريعا، فلنؤجل هذا الحديث الممتع إلى المرة القادمة.
فنظرت إليه قلقة وسألت: ما لك؟ لست كعهدي بك! تقول إن أمك مريضة؟ لا بأس عليها، أمضطر إلى الذهاب إليها حالا؟
إنه يحس برغبة شديدة تدفعه إلى الانفجار لينفس عن صدره بعض غليانه المكتوم وحقده المدفون، ويود لو يجبه هذا الرياء بما يمزق قناعه ويهتك ستره ويفضح شناعته؛ ولو فعل ما جنى على الرحمة والعدالة، فمن حقه أن يصب جام غضبه، ويثأر لآلام قلبه، ويمحق الخيانة والمكر السيئ.
ولكنه كان قد انتهى من أمره إلى مرفأ لا يريم عنه، وكان بطبعه هادئا رزينا كتوما يبذ فيه العقل الهوى، وتتغلب لديه الحكمة على الثورة، فغالب دواعي الغضب في نفسه حتى أسكنها، وقال بهدوء غريب: إني تعب مهموم مكدود الذهن، ولولا شدة شوقي لرؤيتك ما هان علي أن أغادر أمي وهي طريحة الفراش .. فلنفرغ من هذا اللقاء ولو على مضض .. والآن اسمحي لي أن أقدم إليك هدية جميلة؛ هذا الحق العاجي .. ورجائي ألا تمسيه إلا حين خلوتك إلى نفسك في غرفتك لتحظي بالمفاجأة السعيدة في غيبة عن أعين الرقباء .. وإلى اللقاء القريب أيتها الحبيبة.
من مذكرات شاب
2 يونيو:
هذا يوم طيب، حصلت على البكالوريوس وتوج كفاحي الأول بالنجاح فتنفست الصعداء؛ لأنه من الحق أن أقول إن حياتي المدرسية كانت شاقة غير مأمونة العثار، وإني تحملتها على مضض متعوذا بالصبر، وقليل من أقراني من يصدق أن رئيس فرقة كرة القدم بالخديوية وبطل السباحة والغلام الشاطر نال البكالوريا فضلا عن البكالوريوس.
5 يوليو:
عدنا اليوم - أنا ووالدتي - من الإسكندرية بعد قضاء شهر في ضيافة عمتي، وانتقل بي الفكر إلى قريبي سعادة ش. ع. بك؛ ففي جاهه وفي منصبه سحر يفتح لي أبواب الحكومة.
6 يوليو:
زرت قريبي في قصره.
هنأني وتحدث معي مليا، ثم بغتني بهذا السؤال: «وما هو بكالوريوس اللغة الإنجليزية هذا؟» وأجبته عما يسأل عنه متذكرا قول القائل: إن أصعب التعريفات ما خص المسائل البسيطة. على أنه هز رأسه استهانة وقال لي: «كان أولى بك أن تدرس علما من العلوم، فعصرنا عصر علم وعمل، إني لأتساءل كيف يمكنني مساعدتك؟»
وقلت وأنا لا أدري: «أي وظيفة يا سعادة البك.» فضحك الرجل وقال: «لو كنت مهندسا مثلا ما وجدت مشقة في وضعك في المكان اللائق بك، ولكن ماذا تفعل الحكومة بالأدب والتاريخ؟»
21 يوليو:
هل يصبح هذا اليوم من الأيام التي أؤرخ بها؟
ذهبت إلى حديقة صولت لمقابلة صديق من السعداء (أي الموظفين)، فجلسنا نتحدث في السياسة والرياضة والزواج - وصديقي من المتزوجين أيضا - ثم لفت ناظري إلى مائدة غير بعيدة جلس إليها كهل وفتاة في مقتبل العمر، ثم قال لي إن الرجل هو ح. و. بك من كبار موظفي المعارف، وإن الفتاة كريمته، ثم قال لي مبتسما: «هذه الفتاة تعد بحق جسرا ممهدا لوظيفة محترمة.» واتجه بصري مرة أخرى إلى البك وإلى الفتاة خاصة. لم تكن ممن حبتهن الطبيعة بنعمة الجمال، ولكنها رشيقة معتدلة القوام .. لم أشعر بنفور منها ولا ميل إليها .. ليست جميلة ولكنها ليست قبيحة .. وهنالك الروح والعقل والتربية والأصل الطيب .. وهنالك الوظيفة ...
وعدت إلى منزلي وأنا أفكر.
25 يوليو:
جذبتني حديقة صولت فاتخذت منها مجلسا مختارا كل مساء، وغالبا ما أقضي سهرة طويلة منفردا. من التجاوز أن أقول منفردا؛ فعن يميني أو يساري أو أمامي يجلس البك وكريمته، والحق أني لم أخترع هذا المجلس مدفوعا برأي رأيته، ولكن بمشاعر غامضة لم تتمخض بعد عن فكرة واضحة، تاركا توضيحها لمعترك التجربة نفسه؛ فلم يخف أمري عن عيني الفتاة وإن بدا والدها كأنه لم يبصرني قط، والتقت أعيننا مرارا، وللأعين لغة معجمها الغرائز والأحاسيس، فباتت هذه المغازلة الصامتة عادة جميلة، وإخالها أمست مشغولة بي، أما أنا فأحس نشوة ظفر واهتماما مشوبا بحب الاستطلاع .. ترى هل يمكن أن أحب هذه الفتاة؟ .. لا أجد جوابا؛ فالحب كما يعرف أحيانا من أول نظرة قد لا يعرف ولا يكتسب إلا بطول العشرة.
28 يوليو :
بتنا صديقين صامتين، وقد حرثت الأرض وسمدتها؛ فما إن تلقى المودة حتى تنبت شجرة الحب المورقة. وامتلأت نفسي ثقة فصحت عزيمتي على السير في الطريق حتى نهايته؛ أي حتى أخطبها إلى والدها .. ولكن ينبغي أن أظفر بقلبها حتى إذا لم أرق في عين البك وجدت في عاطفتها عونا لا ينبذ له إرادة .. ولكن هل يعد عملي هذا نذالة؟ .. هل ... من الخسة أن أخطب فتاة لأجد وظيفة؟ .. ما وجه الاختلاف بين هذا وبين أن أخطبها لأقضي وطرا أو أنجب ذرية؟ .. فهذه الغايات جميعها وسائل في ذاتها لإرضاء غرائز ثابتة، تشبع الوظيفة واحدة منها ليست بأحطها على الإطلاق .. ترى هل يقوم تفكيري على أساس صحيح من الحق أم إن عاطفتي تستخدم العقل والمنطق في تبرير هناتها؟
6 أغسطس:
ذهبت اليوم لمقابلة حضرة صاحب العزة ح. و. بك، فأدخلني خادم نوبي إلى فراندا تشرف على حديقة الفيلا الغناء.
وجاء البك بعد دقائق في ثوب حريري فاخر، فسلم علي سلاما حارا أذهب عني الارتباك ورد إلي جناني، وقدم لي سيجارة ثم تفحصني بنظرة ثاقبة، وأخذنا في الحديث فسألني عن مؤهلاتي وعما أنتويه لمستقبلي. قلت له: إني أروم الاشتغال بالتدريس. فسألني عما إذا كنت حاصلا على دبلوم التربية، فأجبته بالنفي .. ولكني أكدت له أن كثيرين من أقراني اشتغلوا بالتدريس بغير هذا الدبلوم، ولكن بالوصايات التي لا ترد، فهز رأسه هزة لها معناها، وقال: «إني أرجو لك كل خير.» ثم أرسل في طلب ابنته، فلم أتمالك أن خفق قلبي وشعرت بحرارة الاضطراب تلفح وجهي. وجاءت الشابة مرتدية ثوبا أبيض يكشف عن ذراعيها، ناشرة في الجو رائحة طيبة مخدرة، فراعني جمال جسمها وحيويته، وقدمها إلي قائلا: «آنسة سعاد .. ابنتي.» وقدمني إليها وأخبرني أنها متخرجة من الجامعة الأمريكية، وأنها أستاذة في الأدب الإنجليزي مثلي، وأن أمها متوفاة، ثم اقترح ضاحكا أن يكون حديثنا بالإنجليزية - وهو من خريجي جامعة إكسترا - فتحدثنا طويلا، حديثا قريب التناول ولكنه لذيذ ممتع. والواقع أن سحر النساء يتجلى فيما ينفثن في الحديث التافه من لذة .. وقد طبت نفسا.
10 أغسطس:
عدت إلى مقابلة البك مرة أخرى، فقال لي بلهجة دلت على الأسف: «لا توجد وظائف خالية لتدريس اللغة الإنجليزية.» وتريث قليلا ثم استدرك: «ولكن توجد وظيفة مدرس لغة فرنسية .. هل تجيد الفرنسية؟» والواقع أن معلوماتي في الفرنسية تعادل معلومات طالب البكالوريا أو هي كانت كذلك قبل أربع سنوات، ولكني وجدت نفسي حيال وظيفة محترمة درجة سادسة وربما بعثة أيضا، فأجبته بجسارتي الطبيعية: «إني أجيد الفرنسية يا سيدي.» فقال الرجل بسرور: «انتهينا يا بطل.»
14 أغسطس:
يوم جميل؛ اصطحبت «سعاد» للنزهة فتمشينا في جزيرة الروضة جنبا إلى جنب. وهذه أول مرة آخذ فيها حذري في محادثة فتاة؛ فلا يخفى أنها مثقفة ذكية ذات تجارب، كثيرة الاختلاط بأفاضل الرجال من أصدقاء والدها. فقلت لنفسي إنه يحسن ألا أتملقها تملقا رخيصا مبتذلا. وجرى الحديث بيننا فقلت لها إني سعيد بمعرفتها معجب بثقافتها وذكائها، ثم شعرت بأني لم أقل كل ما ينبغي أن يقال، وألح علي شعوري فقلت إن لها حسنا يروقني، ولكنها حدجتني بنظرة ذات معنى وقالت لي مبتسمة: «كلا، لست جميلة البتة.» فقلت لها مستعينا بالجدل على مداراة عواطفي: «سنظل نختلف في الجمال كما اختلف الذين من قبلنا .. ولكن حسبي ما تقول النظرية الذاتية؛ فجمال امرأة هو ما يطيب لي منها .. وأهم الأشياء جميعا أن تلقى حياتنا المشتركة قناعة وسعادة.» فضحكت ضحكة رقيقة وسألتني كالمتهكمة: «أقصيدة غزل أم رثاء؟!» فقلت بلهجة دلت على الإخلاص والصدق: «لا استحققت الرثاء أبدا.» ثم صارحتها بما زعمت أنه رأيي في الحب والزواج، وأسهبت في ذلك إسهابا، وتعمدت أن تدل لهجتي على البساطة والإخلاص .. وأصغت إلي بكل جوارحها، ولم تواصل الصمت فاشتركت في الحديث، وكأنما تعبنا بعد ذلك فسرنا صامتين وكلانا مغرق في أفكاره، وعلى حين غرة ضغطت على يدها وقلت لها همسا بالإنجليزية: «أحبك.» فتورد وجهها واضطرب جفناها.
والآن - وأنا منفرد في حجرتي - أذكر حذري بسخرية واستهزاء.
15 أكتوبر:
نزلت الميدان ولا سلاح لي إلا جرأتي والثقة المكتسبة من نفوذ صهري، وقد داخلني شيء من الطمأنينة حين أيقنت أني سأدرس مبادئ بسيطة سهلة. أما العقبة الحقيقية ففي النطق والكتابة، ولا أدري شيئا عما يخبئه المستقبل لي من الصعوبات. بدأت الدرس بتوجيهات عملية كما هو مقرر في برنامج الدراسة، فجعلت أقول لهم بعض العبارات التي حفظتها عن ظهر قلب مستعينا بتفهيمها بالإشارة، مثل: قوموا، اجلسوا، افتحوا الشباك، أغلقوا الشباك. وقد لاحظت أن تلميذا - من الجالسين في الصف الأول - يحسن الفهم، فأثنيت عليه؛ فما راعني إلا أن وقف وقال لي جملة بالفرنسية في وضوح وسرعة، فلم أفهم شيئا فبهت، ولكن لا أظن أنه بدا على وجهي شيء مما يقوم في نفسي، وتطوع تلميذ ساءه ما نال قرينه من الظفر بإخباري بأن أمه فرنسية، وساءني الخبر، وأسفت له في نفسي، وأردت أن أتقي شره فنهرته قائلا: إنه لا يجوز أن يتكلم قبل أن يؤذن له.
هذا رقيب لم أكن أتوقعه يذكرني وجوده بالمثل القائل: «في كل خرابة لنا عفريت.»
27 أكتوبر:
الحياة شاقة لا لذة فيها، إني أدرس وأنا قلق، وأصحح مئات الكراسات، ثم أذاكر كأنني تلميذ من التلاميذ، فمن يصدق بعد هذا أني أوشك أن أختم شهر العسل؟ وكيف أطمع في أن تطيب لي الحياة .. وما يخفي شيء عن عيني زوجتي؟ فهي تعلم بمتاعبي جميعا. وقد أقنعتها بضرورة سفري في بعثة، فاقتنعت ووعدت بدورها بإقناع والدها؛ فكلانا لا يمكن أن يتذوق طعم الحياة الحلو إذا استغرقني ذاك التيار العنيف من العمل والقلق وعدم الثقة بالنفس .. ومع هذا فلشد ما يحسدني أناس على زيجتي وعلى الدرجة السادسة!
7 نوفمبر:
حضر درسي اليوم مسيو روبير مفتش اللغة الفرنسية.
وكنت أتوقع حضوره بين يوم وآخر أستفز حنانه القلق، لقد أمكنني أن ألزم التلميذ طاهر - ابن الفرنسية - حد الصمت، ولكن كيف أنجو من مخالب هذا المفتش؟ .. وجاء الرجل واختار موقفه في نهاية الفصل، وجعلت أشرح الدرس بعناية فائقة مختلسا - بين حين وآخر - النظرات من وجهه المعتصم بلحيته السوداء المجللة بالمشيب، فلم أستطع أن أنفذ من عينيه الجامدتين إلى حقيقة مشاعره، ورأيته يتحرك متمهلا ويفحص بعض الكراسات، فمضى قلبي يروح معه ويجيء، ثم نظر نحوي وقال بصوت مرتفع: «مسيو.» فأمسكت، واتجه نظري نحوه وقد تملكني الارتباك، فطلب إلي أن أوجه إلى التلاميذ أسئلة عن الموضوع، فصدعت بالأمر حامدا الله على أنه لم يدعني إلى محادثته علانية، ثم وجهت عدة أسئلة في لهجة مضطربة، خصصت التلميذ طاهر بأكثرها.
وفي نهاية الدرس خلا الرجل بي، وحدجني بنظرة ثاقبة ثم سألني عن مؤهلاتي، فأهاج سؤاله دمي وأجبته بالحقيقة، فلم يخف دهشته، واعتذرت عن الواقع بأني لا ينقصني إلا التمرين على الكلام، فقال لي بلهجة باردة: «ولكن يا سيدي ليس المدرس إلا معلم كلام.» فغصصت بقوله وسكت.
وفي هذه الساعة التي أكتب فيها تجلس زوجي إلى أبيها تلح عليه في وجوب سفري بالبعثة.
15 يونيو:
أما هذا فيوم عصيب سأذكره ما حييت؛ ففي صباحه كان امتحان الإملاء للغة الفرنسية، وفي مسائه كان الامتحان الشفوي، وكان علي أن أقف على منصة أنا ونفر من المدرسين الفرنسيين لنملي على الممتحنين، فاتخذت مكاني مضطرب النفس خافق القلب لا أدري كيف يعلو صوتي بنطق كلمات لا أحسن نطقها على مسمع من المدرسين الفرنسيين والمراقبين ورئيس اللجنة. وشعرت بحرارة تلفح وجهي ورأسي، وأوشكت جسارتي أن تخونني، وكان ترتيبي في الإلقاء الثاني بعد مسيو بوابيه مباشرة، فقست المسافة التي تفصل بيننا بعيني وأرهفت سمعي، وألقيت به إليه لألتقط حركاته الصوتية التقاطا دقيقا. وبدأت الإملاء فاستجمعت انتباهي في أذني اليمنى متناسيا ما حولي، وأملى الرجل عبارته الأولى فحاكيته مخرجا مخرجا، ولكن الظاهر أن صوتي لم يرتفع للدرجة المطلوبة ولم يتضح كما ينبغي؛ لأني سمعت ضجة من حولي وأصواتا تهتف بي: «مرة ثانية من فضلك.» فتميزت من الغيظ والحنق؛ لأنه لم يبق في رأسي من النطق الصحيح إلا أصداء، واضطررت إلى الإعادة مخاطرا.
وتكرر الإملاء فالإصغاء فالترديد فالعذاب، وما لبثت أن أدركت أن أنظار بعض المراقبين متجهة صوبي، فتضاعف اضطرابي وحرجي، ولمحت واحدا منهم يبتسم ابتسامة تدل على الهزء والسخرية، فغلى دمي، وتركت المنصة أخيرا في حالة إعياء وألم شديدين.
ولم يمض على عذابي هذا بضع ساعات حتى عدت مرة أخرى إلى المدرسة لأمتحن الشفوي، وكان الممتحنون مقسمين إلى لجان، تتكون كل لجنة من مدرسين، وعرفت أني في لجنة «ج»، ووجدت زميلي ينتظرني بها، وهو شاب فرنسي في مقتبل العمر، فحييته بلطف وابتسمت إليه ما وسعني اللطف والتودد، ولم يداخلني شك في عجزي عن لعب هذا الدور الجديد، فرأيت أن أظفر بوسائل أخرى .. جالست الشاب وقدمت له سيجارة فاخرة، وطالعته بنظرة منكسرة حزينة، فسألني عما بي فأخبرته بأني متعب مريض. وهكذا فعلت كما يفعل التلاميذ الكسالى استدرارا لرحمة الممتحنين وتساهلهم. ولما بدأ الامتحان قدمت له سيجارة أخرى، وطلبت إليه أن يعفيني من امتحان المناقشات رحمة برأسي مكتفيا بأن أمتحن التلاميذ في المطالعة، وقبل الشاب بسرور، وأخرجت علبة السجائر الفاخرة، ووضعتها على حافة القمطر مفتوحة ثم دعوت فراشا وطلبت القهوة.
ولا أدري كيف انتهى هذا اليوم العصيب، وبه أختم أشق عام في حياتي.
15 يوليو:
علمت أني اخترت بين أعضاء البعثة، وعما قليل تعلن أسماؤنا في الصحف؛ فالشكر والحمد لله، وسأعود من فرنسا بعد عامين مستردا ثقتي بنفسي فلا يضطرب قلبي للقاء مفتش أو امتحان شفوي، وحسبت أول وهلة أني مسافر وحدي، ولكن صهري أخبرني بأن زوجي ستسافر معي.
فليكن، لست على أية حال شقيا. وهبني تزوجت من أجمل فتاة في مصر، فهل كان جمالها بقادر على أن يحتفظ بسحره وأسراره أبد الدهر؟ .. إن للعادة سلطانا لا يقاوم؛ فهي تجعل من الغريب الذي ينفرنا شذوذه شيئا مألوفا وربما محبوبا، كما تهبط بالجمال من عرشه وتفقده جدته وفتوته، السعيد السعيد من راض نفسه على الواقع والتمس أسباب الرضا والقناعة حيثما كان!
الهذيان
أوشك الفجر أن يطلع، وتصايحت الديكة إيذانا بطلائع النور، فأخلدت الحجرة إلى السكون والصمت، كأنما أسلمها أنين المرض الموجع وتأوه الإشفاق الأليم إلى الهمود. كانت ترقد على الفراش امرأة شابة يبدو من اصفرار وجهها وذبول خديها وشفتيها وتضعضع كيانها أنها تعاني وبال مرض يهتصر شبابها. وعلى فراش قريب رقد شاب في مقتبل العمر يثقل جفنيه السهاد، ويأبى القلق أن تلتقي أهدابهما، يطالع وجه المريضة في حزن ثم يعطف رأسه إلى مهد جديد، فيجري الحنان في عينيه الذابلتين ويتمتم في رجاء صادق: «اللهم صن حياة الأم المسكينة .. وطفلتنا البريئة.»
وكان الشاب من ذوي القلوب الرقيقة والنفوس الندية بالرحمة والعطف، وكان على عهد صباه يلذ لرفاقه أن يدعوه «رجل البيت»؛ لما طبع عليه من النفور من المجتمعات والأندية، والاشتراك في المظاهرات التي تستهوي أقرانه، والانجذاب نحو البيت بسبب وبغير سبب؛ فكان يقضي نهاره في الحديقة يسقي أشجار البرتقال والليمون، أو في السطح بين الدجاج والحمام؛ فإذا كان الخميس أعطى ذراعه لشقيقته ومضيا معا إلى السينما؛ ولذلك أخذ يفكر في الزواج تفكيرا جديا منذ اليوم الذي عين فيه مهندسا بمصلحة الأشغال العسكرية، وراح يقتصد من مرتبه ما يقوم بنفقات الزواج من مهر وشبكة وهدايا وفرح، كما كان يفعل شباب الجيل الماضي؛ فلم يكد يمضي عليه عامان خارج المدرسة حتى تزوج. ولم يدهش أحد أن تنعطف هكذا سريعا إلى الزواج هذه النفس المطمئنة إلى الحياة البيتية منذ نعومة الصبا، ولكنه كان سيئ الحظ؛ فما كاد يستدير عام ويستقبل طفلة حتى أصيبت زوجه بحمى النفاس؛ فزلزل بيته الهادئ المطمئن وارتجت حياته السعيدة. وقد عرف منذ اليوم الأول للمرض ما الخوف وما الإشفاق وما الجزع، واندفع إلى استدعاء أعظم الأخصائيين من الأطباء من حملة الباشوية والبكوية غير مبق على مال أو ضان بثمين، حتى اضطر إلى بيع الراديو وساعته الذهبية، ولو طلب إليه أن ينقل دمه إليها لأداه إلى آخر قطرة .. وبالغ في ذلك، فطلب من مصلحته إجازة كي لا يفارق المريضة. وكان يرقب أعين الفاحصين من الأطباء ويسألهم، ويطالع وجه زوجه ساعة بعد ساعة، ويسأل العرافين، ويزور أضرحة الأولياء، ويفسر الأحلام، ملتمسا الطمأنينة في مظانها جميعا.
وهل ينسى الليالي التي قضاها مسهدا قلقا لا يغمض له جفن ينظر ببصر حائر إلى الوجه الشاحب على ضوء المصباح الأحمر الخافت؟ .. وكانت هي مسكينة تستحق الرثاء، تضطرب بين النوم والقلق واليقظة الحائرة، وبين النزاع والهذيان، وما هذا الهذيان؟! .. إنه ظاهرة عجيبة تدل على أن الإنسان قد يخون نفسه كما يخون الآخرين. كان يصغي إليها وهي تذكر بلسان متقطع أسماء أناس وأماكن وحوادث كثيرة، وكان شاركها شهود بعضها، فجرى الابتسام على فيه، وترطب التهاب عينيه المحمرتين بنظرة حنان. وفي ذات ليلة سمعها تناديه بصوت واضح قائلة: «صابر.» فهرع إليها متسائلا: «نعيمة .. هل تحتاجين إلى شيء؟» ولكنه أدرك أنه خدع لأنها كانت مغمضة العينين يابسة الفم كما يبدو من ازدراد ريقها بصعوبة، فعلم أنها ماضية في هذيانها الذي لا ينتهي، فعاد إلى سريره، وما كاد يرقد مرة أخرى حتى سمعها تقول وكأنها تحادثه: «صابر» .. أنا متألمة خجلة.» فهز رأسه المثقل المتعب وقال لنفسه: «أنت متألمة بغير شك، أعانك الله على ما أنت فيه، ولكن مم تخجلين؟ إن هذا الابتلاء لا يخجل أحدا وإن كان يحزننا جميعا.» وظن أنها متألمة لما يتكلفه من حولها من العناء والسهر، فرمقها بنظرة حنان، ورجا أن يكون هذا الشعور من آي اليقظة والشفاء، واستدركت المرأة تقول: «زوجي أحسن الأزواج، أما أنا فشقية .. لست أهلا لوفائه.»
فتنهد الشاب حزنا وتمتم قائلا بصوت غير مسموع: «أنت أهل لكل خير.» وأراد أن يناديها لعله ينتشلها من تيار أفكارها المحمومة، ولكنها حركت رأسها بعنف على الوسادة وقالت بحنق: «راشد .. كفى وابتعد عني .. ابتعد ودعني.» وكان يهم بمناداتها فاحتبس الكلام في فيه. وحملقت عيناه المسهدتان، وبدا على وجهه الذهول والإنكار، وجلس في فراشه وهو يتساءل: «راشد! من راشد هذا؟» وكان يشعر شعورا باطنيا بأنه لا يسمع هذا الاسم لأول مرة، وكأنما سبق أن آذى مشاعره، وأسند جبينه إلى كفه وأغمض عينيه، وكأن صاحب هذا الاسم يعيش في الظلام؛ فقد رآه وعرفه، وأحس لذلك رجفة تسري في مفاصله .. راشد أمين أو أمين راشد - لا يذكر - شاب نافسه في طلب يدها على عهد خطبته لها، ولولا أن والدها فضله هو واختاره لكان قد تزوج منها. وقد تذكر أنه رآه مرة وإن كان لا يحفظ من صورته أي أثر؛ ورفع رأسه مرة أخرى ونظر إليها بعينين مرتابتين لا تصدقان، ورغب رغبة حارة في أن يستزيدها ويستوضحها، ولكنه لم يدر كيف يحثها على الكلام، ورأى شفتيها تتحركان في ضعف، فدنا من حافة سريرها وأرهف السمع وكتم أنفاسه وهو يعاني جزعا مجنونا، فسمع صوتها يقول فيما يشبه الأنين: «من يقول هذا؟ .. أف .. والخيانة .. راشد .. صابر .. الخيانة شيء قذر.» فشبك كفيه وشدهما على صدره بحالة عصبية كأنما يضرع إلى شيء مجهول أن يمنع كارثة على وشك الوقوع، وذهل بصره من طول الجمود على وجهها، فغاب عنه ما حوله، وكبر الوجه في وهمه حتى ملأ الفراغ الذي أمامه فثقل عليه وسمج، ودوي صدى صوتها في أذنيه، فصار كطنين لا ينقطع، وثقل تنفسه ويبس حلقه .. ما هذا الذي تتكلم عنه؟! وما هذه الخيانة التي أطلق الهذيان عقدة كتمانها فانطلقت خبيثة منكرة أنكى من الحمى؟! هل يكذب الهذيان؟ كيف يكذب الهذيان؟! ولكن كيف يصدق أذنيه وما بذل زوج لزوجه عشر ما بذل من الرقة والمودة، وما بذلت زوجة لزوجها عشر ما كانت تبذله من الصفاء والإخلاص؟! فكيف انطوى هذا على أقذر ما تبتلى به الضمائر والنفوس؟ رباه .. إنها تقول إن الخيانة شيء قذر، وإنها لكذلك، ولكن لا يفرغ في هذيانه من قذارتها إلا من انغمس في بؤرتها. رباه .. لقد ظن أن ما ابتلي به من مرض زوجه أقصى ما ابتلي به إنسان، فإذا به بلاء هين عابر، لا يقاس بما هتك الهذيان أستاره. وأحس اليأس يحبس أنفاسه، وكان صابر دمث الأخلاق، لين الجانب، رقيق الحاشية، لا يدفعه الغضب إلى الانفعال الشديد والعدوان، ولكنه يشل حركته، ويعطف اندفاع أعصابه إلى صميم نفسه، فيجعله كسيارة يدفعها محركها، وتقيد الفرملة عجلاتها، ولكنه بالرغم من هذا تحول رأسه بحركة عصبية إلى سرير الطفلة، وبرح فراشه في سكون، ودنا منه وأزاح ستاره، وألقى نظرة غريبة على الوجه الصغير المدمج القسمات وأدام إليه النظر، والشك والألم يأكلان قلبه بقسوة، ثم تحول عنه إلى وجه زوجه كأنه يسألها ويستوضحها، ودنا من فراشها كالسائر في نومه حتي التصق به، وكانت مغمضة العينين، بادية الاصفرار والخور، تقلب رأسها ذات اليمين وذات الشمال، فألقى عليها نظرة جامدة، جرى فيها بريق القسوة جريان البرق في السحاب الداكن، وكان قبل لحظات إذا وقف موقفه هذا اضطرب جسمه من الحنان والرحمة، ودمعت عيناه، ولكن قلبه تحجر هذه المرة فمال عليها حتي نسمت عليها أنفاسه وسألها: «نعيمة .. نعيمة .. ماذا فعل راشد؟» فلم تنتبه إليه ولم تصح، فرفع صوته وناداها وهو لا يدري: «نعيمة.» فبلغ صوته مسمعي أمها في الحجرة القريبة، وقامت المرأة من فراشها مضطربة وهي تظن الظنون، وهرعت إليه متسائلة: ما لها؟ .. هل أعطيتها الدواء؟ ولم يكن أعطاها شيئا، وكان يريد استبقاء حالة الهذيان التي تعانيها ليستنطقها ما يريد، فكذب عليها في استهانة وقسوة: «نعم هي بخير والحمد لله.» وعاد إلى فراشه، وأسند رأسه المثخن بالجراح إلى الوسادة ليتخلص منها، ولبثت حماته قليلا. وفي أثناء ذلك أخلدت المريضة إلى الهدوء والسكينة كأنما راحت في نوم عميق، فبرحت المرأة الغرفة، وكان يتشوق إلى إيقاظها، ولكنه خشي التي في الخارج، فمضى بقية الليل مفتوح العينين محموم الرأس بالأخيلة الشيطانية وعيناه زائغتان ما بين فراش المريضة ومهد الطفلة.
وحين سفور الصباح عاودت اليقظة المريضة، وبدا عليها أنها لا تحس شيئا حتي اهتدت عيناها إليه فدبت فيها حياة ضعيفة، وقالت بصوت غدا من وهنه كالصفير: «ما الذي أيقظك؟ لماذا ترهق نفسك هكذا؟» فرد عليها بنظرة جامدة، وكانت تبدو ذاك الصباح أشد هزالا وشحوبا، ولاحت في عينيها نظرة الوداع المخيفة، وكان يشغل باله شيء واحد أسهده الليل، ولم يجهل أن إثارته خطر يهدد بالقضاء عليها، ولكنه لم يحس سواه ولم يبال غيره. وكان يشعر نحوها ساعته بحنق وكراهية ورغبة في الانتقام؛ فقال بلهجة جافة: «تكلمت الليلة الماضية كثيرا، فشرقت وغربت، وأجرى الهذيان على لسانك كلاما يحتاج إلى إيضاح.» فلم تفهم شيئا، ونظرت إليه بعينين لا تعبران عن شيء سوى الذهول المطلق، وأراد أن يسترسل ولكنه منعه عن الاسترسال صراخ الطفلة فجأة، فما لبثت أن هرعت إلى الحجرة حماته والمرضعة، فنكص على عقبيه مغضبا وهو يقول لنفسه: «الطفلة الملعونة تداري فضيحة أمها وأبيها!» وغادر البيت يهيم على وجهه، ومضى يحدث نفسه: «كان ينبغي أن أعلم كل شيء وقد أتيحت لي فرص، لماذا أفر من صراخ الطفلة، أو من ظهور جدتها؟ الحقيقة أني ضعيف .. ضعيف .. دائما يندي قلبي بالحنان والعطف، فما كان أجدر بي أن أكون ممرضة .. أما رجلا فلا .. لست رجلا ولست زوجا .. فأمثالي نساء كاملات، أو رجال مغفلون .. ومع هذا هل أنا في حاجة إلى دليل جديد؟ دمرت حياتي وانتهى كل شيء.»
وقضى النهار ضالا لا يقر، يتردد الألم في صدره مع أنفاسه، وعاد مع الأصيل إلى البيت فوجدها أسوأ حالا وأشد هزالا. وأقبلت عليه حماته تسأله أين كان، وتقص عليه ما قاله الطيب، فلم ينفذ شيء من قولها إلى صدره، وعاف الرد عليها بتاتا، بل لذ له أن تقول إن الحالة سيئة، فلتتألم كما يتألم، ولكن كيف يفهمها أنه يعلم كل شيء؟ كيف يحادثها في هذا الموضوع الخطير وأمها لا ترضى بمفارقتها في مثل تلك الحال الخطيرة؟ واشتد به الحنق، فاعتزم أن يمنع عنها الدواء ليعاودها الهذيان سريعا فيسمع منه ما امتنع منه سماعه في اليقظة، وملأ الفنجان ماء خالصا، ووضعه على فم المريضة فازدردته بامتعاض .. وعاد إلى فراشه يرقب الفرصة، ولكن زوجه لم تنم في تلك الليلة ولم تهذ، واشتد عليها الألم فباتت تئن وتشكو وتضطرب. واستدعى الطبيب عند الليل فعاينها، ولكنه لم ينصح بشيء، وهمس في أذنه بأن الحالة جد خطيرة .. وبعد هذا التصريح بنصف ساعة احتضرت المريضة وفاضت روحها.
وخلا إلى نفسه وكان الذهول مطبقا على حواسه جميعا؛ لأن الموت والخيانة الزوجية انتظما تجاربه الشخصية معا في ساعة واحدة دون عهد سابق بهما. وماتت نعيمة ولم يحزن لموتها، ولكن حادثة الموت أذهلت نفسه الرقيقة المرهفة. على أن الحقيقة لم تغب عنه، فقال: لم تمت كما يظنون .. أنا قتلتها .. قتلتها لأني منعت عنها الدواء ليلتين متواليتين هما أشد ليالي المرض ... «فأنا قتلتها» .. وجعل يردد «أنا قتلتها»؛ فكان يشعر لها بوقع غريب في نفسه يمتزج فيه الخوف بالارتياح.
ثم قال مرة أخرى: «وقتلتني هي حيا، وألصقت اسمي قسرا بطفلة إنسان سواي .. ولكني قاتل فلست إذن مغفلا.»
وأسند رأسه إلى يده وراح في تأمل طويل، وقد سرى في جسده قشعريرة البرد والخوف. •••
كيف انقضت تلك الأيام التي أعقبت الوفاة؟ .. انقضت في ألم وقلق ومخاوف لا يمكن أن تتمثل لعقل إنسان، ثم أعلن عن رغبته فجأة في السفر إلى لبنان انتجاعا للصحة والراحة، وكان في الحق يفر من أفكاره وطفلته. ومضى إلى الإسكندرية واستقل سفينة، والظاهر أن نفسه الرقيقة تعرضت في البحر لأزمة عنيفة هدت كيانها وأتلفت أعصابه، فاستشعر اليأس من الدنيا جميعا وألقى بنفسه في اليم خلاصا من عذابه وآلامه، محتفظا بأسراره لقلبه ولبطون الأسماك.
وكان يترحم عليه المترحمون فيقولون: «ما رأينا إنسانا يحب زوجه كالمرحوم صابر، فلا هو صبر على فقدانها ولا احتمل الدنيا بعدها، فقضى على نفسه بعد موتها بأيام .. رحمهما الله.»
يقظة المومياء
أجد حرجا كبيرا في رواية هذه القصة؛ لأن بعض حوادثها يخرق قوانين العقل والطبيعة جميعا؛ ولو كان مردها إلى الخيال ما تحرجت، ولكنها وقعت في عالم الحقيقة، وكان ضحيتها رجل من رجال مصر الأفذاذ المعروفين في الأوساط السياسية والأرستقراطية، وراويتها الذي أنقل عنه أستاذ كبير بالجامعة، لا يجوز أن يرتقي الشك إلى عقله وخلقه، ولم يعرف عنه قط ميل إلى الأوهام والخرافات، ولكني - والحق يقال - لا أدري كيف أصدقها فضلا عن أن أحمل الآخرين على تصديقها؛ وليس ذلك لندرة المعجزات في عصرنا، فمما لا جدال فيه أن عصرنا عصر المعجزات والخوارق، ولكن العقلاء في أيامنا هذه لا يقبلون أمرا بغير تعليل، كما أنه لا يستعصي شيء على إيمانهم مع التعليل المعقول. وإني حيال قصة عجيبة لها من دواعي التصديق رواية حكيم وشواهد ملموسة، ولكن التعليل العلمي ما يزال يتأبى عليها، فهلا أعذر على شعوري بالحرج في تقديمها ؟
ومهما يكن من أمر فإليك ما رواه جناب البروفسير دريان «أستاذ الآثار المصرية القديمة» بجامعة فؤاد الأول، قال: في ذلك اليوم الأسيف الذي خفق فيه قلب مصر خفقة الحزن والألم، ذهبت إلى زيارة المغفور له محمود باشا الأرنئوطي في قصره العظيم بصعيد مصر، وأذكر أنني وجدت عنده جماعة من الأصدقاء الذين كانوا يترددون عليه كلما أسعدتهم الظروف، منهم المسيو سارو ناظر مدرسة الفنون الجميلة العليا، والدكتور بيير طبيب الأمراض العقلية، واحتوانا جميعا «صالونه» الأنيق البديع الحافل بآيات الفن الجميل من لوحات وتماثيل كأنها احتشدت في تلك البقعة لتؤدي تحية العبقرية الحديثة إلى ذكرى عبقرية الفراعين الخالدة تحت أطلال الوادي، يتوهج نورها خلل ظلمات السنين مثل سنا النجوم المتألقة في السماء، الساري في تضاعيف الليل البهيم.
وكان المغفور له من أغنى أغنياء المصريين وأوسعهم ثقافة وأسماهم خلقا، وقد قال عنه مرة صديقنا الأستاذ لامبير: إنه ثلاث شخصيات تقمصت رجلا، فهو تركي الجنس، مصري الوطن، فرنسي القلب والعقل، فأدى تعريفه أتم أداء. والحق أنه كان أكبر صديق لفرنسا في الشرق، وكان يعدها وطنه الثاني، وكانت أسعد أيامه تلك التي قضاها تحت سمائها، واتخذ أصدقاءه جميعا من أبنائها سواء منهم من يعيش على ضفاف النيل أو في جنات السين. وكنت إخال نفسي وأنا في «صالونه» أني انتقلت فجأة إلى باريس؛ فالأثاث فرنسي، والجالسون فرنسيون، ولغة الكلام فرنسية، والطعام فرنسي. وإن كثيرا من الفرنسيين المثقفين لا يعرفونه إلا كهاو فذ من هواة الفنون الجميلة، أو كشاعر يقرض الشعر الوجداني الجميل بالفرنسية، أما أنا فقد عرفته - إلى هذا - محبا لفرنسا متعصبا لثقافتها وداعية لسياستها.
أخذت مجلسي في ذلك اليوم إلى جانب الباشا، وكان المسيو سارو يقول وهو يتأمل بعينيه الواسعتين الجاحظتين تمثالا نصفيا برونزيا لأنشتين: إن قصرك يا صاحب السعادة يحتاج إلى تغيير طفيف لكي يصير متحفا كاملا.
وقال الدكتور مؤمنا على كلامه وهو يتخلل لحيته بأنامله: صدقت؛ فهو معرض دائم لجميع العبقريات والمدارس على السواء مع ميل ظاهر للفنانين الفرنسيين.
فقال الباشا: الفضل في ذلك يرجع إلى ذوقي المعتدل الذي يساوي بين النزعات المختلفة ويعدل بين أهواء المدارس، ويهوى تذوق الجمال سواء أكان بديعه براكستليس أو رفائيل أو سييزان، مع استثناء البدع الحديثة المتطرفة.
فقلت ناظرا بطرف خفي إلى المسيو سارو وكان يحلو لي دائما أن أداعبه: لو استطاعت وزارة المعارف أن تنقل هذا الصالون إلى مدرسة الفنون الجميلة العليا لاستغنت عن إرسال بعثات إلى فرنسا وإيطاليا.
فضحك المسيو سارو وقال موجها الخطاب إلي: بل لعلها تستغني عن ناظر المدرسة الفرنسي أيضا.
ولكن الباشا قال جادا: اطمئن يا عزيزي سارو؛ فإنه إذا قدر على هذا المتحف أن يترك الصعيد فسيتخذ طريقه رأسا إلى باريس.
فنظرنا إليه نظرة استفهام ودهشة وكأننا لا نصدق آذاننا.
فالواقع أن مجموعة الباشا الفنية كانت تقدر بمئات الألوف من الجنيهات، وقد تسربت جميعها إلى جيوب الفرنسيين، فكان غريبا أن يفكر في إهدائها إلى فرنسا، وكان يحق لنا أن نفرح ونبتهج، ولكني لم أتمالك أن أسأله متعجبا: أحقا ما تقول يا إكسلنس؟
قال الباشا بهدوء: نعم يا صديقي دوريان .. ولم لا؟
فقال المسيو سارو: يا له من حظ سعيد حقيق باغتباطنا نحن الفرنسيين، ولكني أقول لسعادتك مخلصا إني أخشى أن يسبب لك متاعب كثيرة.
وأمنت على رأي المسيو سارو.
وردد الرجل عينيه الزرقاوين بيننا وقد لاحت فيهما نظرة ساخرة، وسألنا متجاهلا: ولمه؟
فقلت بلا تردد: ستجد الصحافة في ذلك موضوعا أي موضوع!
وقال الدكتور بيير: وما من شك في أن الصحافة الوطنية عدو لك قديم .. وهل نسيت يا صاحب المعالي حملاتها المغرضة عليك واتهاماتها إياك بأنك تبعثر أموال الفلاح في فرنسا بلا حساب؟!
فصاح الباشا بإنكار: أموال الفلاح!
فبادر الدكتور يقول معتذرا: معذرة يا باشا .. هذا قولهم!
فهز سعادته منكبيه استهانة، وزم شفتيه احتقارا، وقال وهو يثبت نظارته الذهبية على عينيه: أنا لا آبه لهذه الأصوات المنكرة الوضيعة، وما دام ضميري الفني لا يرتاح لبقاء مثل هذه الآيات وسط هذا الشعب الحيواني، فلن تقبر هنا أبدا.
وكنت أعرف رأي صديقي الباشا عن المصريين واحتقاره لهم. ومما يحكى في هذا الصدد أنه تقدم له منذ عام طبيب مصري نابغة حاصل على رتبة البكوية طالبا يد ابنته، فطرده شر طرد لأنه فلاح بن فلاح. على أني - مع موافقتي على كثير من التهم التي يكيلها الباشا لبني وطنه - لم أكن أتبعه رأيه إلى النهاية، ولما قلت له: سعادتك شديد النقد.
فقهقه الباشا ضاحكا وقال: أنت يا عزيزي دريان رجل وهبت حياتك الثمينة للماضي البعيد، وربما لاحت لك في غياهبه لمع عبقرية خلفها القدماء لا تفتأ توقظ عطفك وحنينك على أحفادهم، ولكن شتان بين الفراعين والفلاحين، لا يجوز أن تنسى يا صديقي أن المصريين شعب فول.
فضحكت وقلت له: عفوا يا صاحب السعادة، ألا تعلم أن السير ماكنزي أستاذ آداب اللغة الإنجليزية بكلية الآداب صرح أخيرا بأنه أصبح يفضل الفول عن البودنج؟
فضحك الباشا، وضحك الحاضرون جميعا وقال سعادته: أنت تفهم ما أعني، ولكنك تحب المزاح، المصريون حيوانات أليفة طبعها الذل، وخلقها التذلل، وقد عاشوا عبيدا على فتات موائد الحاكمين منذ آلاف السنين، ومثل هؤلاء لا يحق لهم أن يأسفوا على إهداء هذا المتحف إلى باريس.
فقال المسيو سارو: نحن لا نتكلم عما يحق أو لا يحق، ولكن عن الواقع، والواقع أنهم سيأسفون (ثم قال بلهجة ذات مغزى) وستأسف معهم صحافتهم.
ولكن لم يبد على الباشا أدنى اكتراث، وكان بطبعه يتعالى على ضجيج الجماهير وصرخات الصحف المفتعلة، وربما كان لأصله التركي دخل كبير في تشبثه بآرائه وعناده واحتقاره للمصريين. ولم يرد أن نسترسل في ذاك الحديث فأغلق بلباقته النادرة بابه، وانشغلنا ساعة باحتساء القهوة الفرنسية اللذيذة التي لم أذق مثلها في مصر، ثم نظر الباشا إلي باهتمام وقال: ألم تعلم يا مسيو دريان أني بدأت أنافسك في اكتشاف الكنوز؟
فنظرت إليه مستفهما وسألته: ماذا تعني يا إكسلنس؟
فضحك الباشا، وقال وهو يشير إلى حديقة القصر من نافذة الصالون: على بعد أذرع منا تجري عملية حفر جليلة الشأن في حديقة قصري.
فبدا علينا الاهتمام جميعا، وتوقعت سماع خبر مثير، وكان لكلمة حفر تأثير خاص في نفسي؛ لأني قضيت شطرا كبيرا من عمري - قبل أن أشتغل في الجامعة - أحفر وأنقب في أرض مصر الغنية الساحرة.
وقال الباشا وهو ما يزال يبتسم: أرجو ألا تسخروا مني يا سادة؛ فقد فعلت ما كان يفعله الملوك الأقدمون مع السحرة والمشعوذين، ولا أدري كيف رضخت وأذعنت، ولكن لا داعي للأسف؛ فقليل من الخرافة يريح العقل الكلف بالحقائق والعلوم. ومجمل الحكاية أنه جاء قصري منذ يومين رجل معروف في هذا البلد يدعى الشيخ جاد الله، يحترمه العامة ويقدسونه، وكم ذا بمصر من المقدسين، وألح في طلبي وأذنت له وأنا أعجب لشأنه، وحياني الرجل على طريقته، وبشرني بأنه استدل بعلمه الروحاني وبكتبه القديمة عن وجود كنز ثمين في باطن حديقتي، وطلب إلي بتوسل أن آذن له في الكشف عنه تحت إشرافي، ومناني بالذهب واللآلئ في مقابل أن أعده بالحلوان. وضقت به وهممت بطرده، ولكنه ضرع إلي وتوسل حتى استعبر وقال لي: لا تهزأ بعلم الله، ولا تستهن بعباده المقربين. فضحكت طويلا، ثم خطر لي خاطر سريع فقلت لنفسي: لماذا لا أجاري الرجل في وهمه وأسايره على اعتقاده؟! لن أخسر شيئا وسأفوز حتما بنوع من التسلية. وقد فعلت يا أصدقائي، وأذنت للرجل وأنا أتظاهر بالجد، وها هو ذا يحفر في حديقتي، ويعاونه في عمله الشاق اثنان من خدمي المؤمنين، فما رأيكم؟
قال الباشا ذلك وضحك عاليا، فضحك الجميع، أما أنا فكرت بي الذاكرة إلى الماضي إلى حادثة مشابهة، فقلت: طبيعي أنكم لا تؤمنون بعلم الشيخ جاد الله، ولا أنا أستطيع أن أومن به وا أسفاه، ولكني لا أستطيع كذلك أن أنسى أني اكتشفت قبر الكاهن «قمنا» بفضل خرافة كهذه!
فبدت الدهشة على وجوه الحاضرين، وسألني الباشا: أحقا ما تقول يا سيدي الأستاذ؟
فقلت: نعم يا باشا، لقد دلني يوما شيخ مثل الشيخ جاد الله على بقعة من الأرض في وادي الملوك، وقال لي: إنه استدل بكتبه وعلمه على وجود كنز فيها، فضربنا فيها بمعاولنا ، ولم نلبث أياما حتى اكتشفنا مقبرة «قمنا» .. وهذا بلا شك من عبقريات المصادفات.
فضحك الدكتور بيير وقال متهكما: ولماذا تعلل ذلك بالمصادفات فتجحد العلم القديم؟ .. ألا يجوز أن الفراعنة يورثون أحفادهم أسرارهم الخفية كما يورثونهم سحنتهم وكثيرا من تقاليدهم؟
ومضينا نتفكه بأمثال هذا الحديث، وطرقنا غيره أحاديث كثيرة، ومضى الوقت لذيذا ممتعا، وعند الأصيل استأذن الضيوف في الانصراف، وأما أنا فأعلنت عن رغبتي في مشاهدة عملية الحفر التي يجريها الشيخ جاد الله، وغادرنا جميعا الصالون إلى الحديقة، وسرنا إلى الباب الخارجي لتوديع الأصدقاء. ولم نكد نقطع خطوات حتى وصلت إلى مسامعنا ضجة عظيمة، واعترضت طريقنا جماعة من الخدم رأيناهم يمسكون بتلابيب صعيدي ويوسعونه ضربا ولكما، ثم ساقوه بشدة إلى سعادة الباشا، وقال له أحدهم: يا صاحب السعادة ضبطنا هذا اللص وهو يسرق طعام بيميش.
وكنت أعرف بيميش حق المعرفة؛ فهو كلب الباشا العزيز، وآثر مخلوقات الله بقلبه بعد زوجه وأولاده، وهو يعيش في قصر الباشا منعما مكرما، يقوم على خدمته خدم وحشم، ويكشف عليه طبيب بيطري مرة كل شهر، ويقدم له كل يوم لحم وعظام ولبن وثريد. ولم تكن هذه أول مرة يسطو فيها الصعايدة على غذاء بيميش .. وكان السارق صعيديا قحا، يتميز بالسحنة المصرية العتيقة، ويبدو على هيئته البؤس والفقر. وقد حدجه الباشا بنظرة قاسية وقال له بعنف: كيف سولت لك نفسك انتهاك حرمة بيتي؟
فقال الرجل بتوسل وهو يلهث من أثر الجهد الذي بذله في مقاومة الخدم: كنت جائعا يا صاحب السعادة، ورأيت اللحم المسلوق مبعثرا على الحشائش فخانتني قوتي، ولم أكن ذقت اللحم منذ عيد الأضحى!
فالتفت الباشا إلي وقال هازئا: أرأيت الفرق بين بائسنا وبائسكم؟ .. إن بائسكم دفعه الجوع إلى سرقة رغيف، أما بائسنا فالرغيف ليس عسيرا عليه، ولكنه لا يرضى إلا باللحم المسلوق!
ثم التفت مرة أخرى إلى السارق، ورفع عصاه، وضربه على كتفه بشدة، وشده وصاح بالخدم: خذوه إلى الخفير.
وضحك الدكتور بيير وهو يسلم وقال للباشا: ماذا تفعل غدا إذا شم الصعايدة رائحة الذهب المكدس في كنز الشيخ جاد الله؟
فقال الباشا فورا: سأحيطه بسياج من الخفراء كخط ماجينو.
وعدنا - أنا والباشا - وتبعته صامتا إلى حيث يشتغل الشيخ جاد الله الذي يوشك أن يصير أثريا عظيما. وكان الرجل منهمكا في عمله هو ومعاوناه؛ يضربون الأرض بفئوسهم ويرفعون الأتربة في المقاطف ويلقونها جانبا، وكان الشيخ جاد الله تلمع عيناه ببريق حاد يدل على العزم والأمل، وتنبعث في ساعديه النحيلتين قوة غير طبيعية. كان يدنو حقا من هدفه الذي هداه إلى سبيله عمله الإلهي، فتمثل لي في شخصه العجيب الإنسان بنشاطه، وإيمانه وأوهامه، والحق أننا نخلق لأنفسنا آلهة وأوهاما ولكنا نؤمن بها إيمانا عجيبا، فيخلق لنا إيماننا عوالم غاية في البداعة والجمال، ألم يخلق أجداد الشيخ جاد الله - الذي يذكرني وجهه بتمثال الكاتب المعروف - الحضارة الأولى للإنسان؟ .. ألم يبدعوا الجمال على سطح الأرض وفي بطنها على السواء؟ .. أولم يستوحوا في عملهم وتفكيرهم أوزوريس وآمون؟ وما أوزوريس وآمون؟ لا شيء في الغالب .. أما حضارتهم فكانت شيئا أي شيء .. بل هي حضارتنا الراهنة.
وقفنا نشاهد الشيخ المؤمن، أما الباشا فيبتسم ابتسامة ساخرة، وأما أنا فأستغرق في أحلامي، وكلانا لا يدري بما يخبئه له القدر تحت آكام ذلك التراب. وكان العمل يبدو عقيما، فتململ الباشا واقترح علي أن نجلس في الفراندا فاتبعته صامتا، ولكنا لم نكد نصعد السلالم الأولى حتى لحق بنا الشيخ جاد الله عدوا وصاح بفمه المثرم: مولاي .. مولاي .. تعال انظر.
فالتفتنا إليه بحركة أتوماتيكية، وكان قلبي يخفق خفقانا غريبا على أثر نداء الشيخ، وذكرني بشبيه له قديم كان يفصل في حياتي بين الفشل والنجاح واليأس والأمل، وهبطنا السلم دون إبطاء لأن الرجل كان قد عاد أدراجه، وتبعناه وكلانا يغالب رغبة في العدو.
ووجدنا الرجال الثلاثة يزحزحون صخرة كبيرة، مساحتها متر مربع على وجه التقريب، فدنونا منهم فرأينا الصخرة تكشف عن فوهة في مثل اتساعها، فنظرت إلى الباشا، ونظر إلي بعينين تنطقان بالدهشة والذهول، ثم نظرنا إلى داخل الفوهة فرأينا سلما صغيرا ينتهي إلى دهليز يتجه إلى الداخل موازيا لسطح الأرض. وكانت الشمس تؤذن بالمغيب، فقلت للباشا: «إلينا بمصباح.» فأرسل الباشا أحد الخادمين لإحضار مصباح، وعاد الرجل بالمصباح فأمرته أن يتقدمنا، ولكنه تردد وانكمش فهممت بأخذه منه، ولكن كان الشيخ جاد الله أسرع مني إليه، فأمسك به بيده ومضى يتلو من القرآن وتعاويذ غريبة، ثم نزل بقدمين ثابتتين فتبعته وتبعني الخادمان المضطربان.
ووجدنا أنفسنا في دهليز مستطيل لا يتجاوز طوله عشرة أمتار، ويعلو سقفه عن هامتنا بعدة أشبار، وكانت أرضه متربة، أما جدرانه فمن الجرانيت. وتقدمنا جميعا في خطوات بطيئة حتى اعترض سبيلنا باب حجري يأخذ على المقتحمين طريقهم، ولم يكن منظره غريبا علي ولا الرموز المحفورة في وسطه، فجرى بصري عليها، ثم التفت إلى الباشا وقلت بصوت متهدج: لقد اكتشفت يا صاحب السعادة مقبرة أثرية .. فها هنا يرقد القائد حور من عظام الأسرة الثامنة عشرة.
ولكن الشيخ جاد قال بعنف وغضب: بل وراء هذا الباب كنز .. هكذا يقول الكتاب الذي لا يكذب.
فهززت كتفي قائلا: سمه كيف شئت، المهم أن نفتحه.
فعاد الشيخ يقول: فتح الكنز عمل يسير؛ فهذا الباب لا يطيع ويرضخ إلا بقراءة طويلة أبدؤها الآن وأستغرق حتى مطلع الفجر .. هل أنتم مطهرون؟
وتأثر بأقواله الخادمان ونظرا إلى مولاهما بارتباك؛ لأنهما اعتقدا أنهما على وشك المثول في حضرة القوة الخفية. ولم يكن في الوقت متسع للتطهر والقراءة، فقلت للشيخ بحزم: إننا لم نبلغ هذا الباب بقراءة، فينبغي أن نقتحمه بمثل ما اقتحمنا الذي قبله.
وهم الشيخ أن يعترض ولكن لم يجده اعتراضه، وانتهره الباشا فصمت وهو يرمقني شزرا. واستأنفوا العمل من جديد، وتيقظت غريزتي فعملت معهم حتي أزحت العقبة الكئود، ووجدنا أمامنا منفذا إلى مثوى حور الأبدي.
وكنت خبيرا بتلك الأعمال، فأمرتهم أن يتريثوا في أماكنهم وقتا قصيرا ريثما يتجدد الهواء، وكانت ساعة انتظار شديدة الوقع علينا جميعا. وكان الباشا صامتا ذاهلا كمن هو في حلم عجيب، وكان الخادمان ينظران بعينين ساهمتين إلى الرجل الذي يؤمنان به، وكان الشيخ يحملني تبعة ما قد يحدث لاستهانتي برأيه. أما أنا فكنت أحلم بما عسى أن يقع عليه بصري، وساءلت نفسي: تري هل من المستطاع أن أفوز بتحفة أثرية أزين بها عقد متحفنا الخالد في باريس؟
ثم دخلت، ودخل خلفي الأرنئوطي باشا ثم الشيخ جاد الله، وآثر الخادمان أن يلبثا في الدهليز الخارجي؛ فلما اختفى عنهما نور المصباح وأظلم المكان اندفعا إلى الداخل وانكمشا في ركن، وكانت حجرة تابوت كما يدل مظهرها، وقد شاهدت أمثالها مرات عديدة، وكان التابوت موضوعا في مكانه وعلى غطائه صورة ذهبية لصاحبه، وإلى جانبه تقوم ثلاثة تماثيل بالحجم الطبيعي؛ أحدها لرجل - من المرجح أنه حور نفسه - والآخر امرأة يستدل من وضعها إلى جانبه أنها زوجه، وأمامها تمثال صغير لغلام، وفي الناحية المقابلة وضعت صناديق مغلقة وآنية ملونة ومقاعد ومناضد وعدد حربية، وكانت الجدران ملأي بالرسوم والنقوش والرموز.
ألقيت نظرة سريعة مفعمة بالروعة على ذلك العالم المبعوث، ولكن الباشا لم يدعني لتأملاتي، فقال لي ولم أكن أعلم أنها آخر أقواله في هذه الدنيا: الأوفق يا أستاذ دريان أن نبلغ الأمر إلى الحكومة في الحال.
فأحسست بخيبة أمل وقلت: انتظر قليلا يا باشا ريثما ألقي نظرة عجلى.
ودنوت من الصناديق والأثاث والباشا إلى يميني، ومضيت أفحصها بعين خبيرة مشوقة، ونفسي تحدثني بفتحها ومشاهدة ما بداخلها، وكنت أومن بأنها تحوي طعاما وثيابا وحليا، ولكن أنى لمثلي أن يملك إرادته حيال تلك المخلفات الجليلة التي تستحوذ على منبض التأثر من قلبي ووجداني .. ثم لا تنس التابوت والتماثيل والمومياء .. يا لها من مفاتن!
وقطع علي تأملاتي أن سمعت صوت الشيخ جاد القبيح وهو يهتف: «هش.» فالتفت إليه منزعجا مغضبا؛ لأن أية همسة آنئذ تثير أعصابي، ولكن الشيخ قال ببلاهة: «عصفور.»
فانتهرته قائلا: أي عصفور هذا يا شيخ؟ .. أهذا وقت هزل؟
فقال الرجل: رأيت عصفورا يرف بجناحيه فوق التابوت.
فالتفتنا إلى التابوت ولكنا لم نر شيئا، وكان من العبث أن نسأل الخادمين، فقلت للشيخ: دعنا من أوهامك يا شيخ جاد الله.
ثم ضحكت وقلت للباشا بالفرنسية: عسى أن يكون العصفور روح الميت «كا» جاء لزيارته معنا.
ثم عدت إلى مطالعة الصناديق والجدران التي تحادث قلبي بلغة صامتة لا يعيها سواي، ولكني لم أستطع التأمل بتاتا؛ لأنا سمعنا الخادمين يصيحان بذعر: يا سعادة الباشا!
فالتفتنا إليهما بسرعة وقد امتلأت غيظا وحنقا، ولكني شاهدتهما في حالة غريبة من الرعب؛ التصق كل منهما بصاحبه، واتسعت عيناهما وجحظتا وأرسلتا نظرة صلبة جامدة ميتة إلى ناحية التابوت، وتصلب الشيخ جاد الله في وقفته ويده قابضة على المصباح وعيناه لا تتحولان عن نفس الهدف، فنظرت إلى التابوت وقد نسيت غضبي، فرأيت غطاءه مرفوعا، والمومياء ممددة أمامنا في لفائفها!
ما هذا؟ .. كيف فتح التابوت؟ .. هل أثرت في إقامتي الطويلة في الشرق فغدت عيني تتأثر إلى هذا الحد المضحك بأوهامه وسحره؟
ولكن أي سحر هناك؟! .. إني أري المومياء أمامي، ولست الوحيد الذي يراها؛ فها هو ذا الباشا قد تحول إلى تمثال، وها هم الرجال الثلاثة يكادون يموتون من فرط الهلع والذعر .. فأي وهم هذا؟!
والحق أنني أحس بالخجل كلما اضطرتني الظروف إلى سرد ما حدث بعد ذلك؛ لأني أحدث في العادة أناسا عقلاء مثقفين درسوا تيلور وليفي برول ودركيم، ولكن ما حيلتي؟ .. إن ديكارت نفسه لو كان في مكاني تلك الساعة ما أتته الشجاعة على الهزء بحواسه.
ماذا رأيت؟
رأيت المومياء تتحرك وتقعد في التابوت في حركة خفيفة لا يقدر عليها المخمور أو المثقل بالنوم فضلا عن المبعوث من عالم الأموات، ثم قفزت قفزة غاية في الرشاقة انتصبت قبالتنا أمام التابوت.
وكنت موليا ظهري الخادمين والشيخ جاد الله فلم أر ما حل بهم، ولكن ارتعاش النور الذي يضيء الحجرة دل على كهربة اليد التي تمسك به، وكنت في حالة يتعذر وصفها. وأعترف أن مفاصلي تفككت من الرعب الذي لا يوصف، وذعرت ذعرا لم أحس بمثله في حياتي على الإطلاق، ولا تكاد تذكر إلى جانبه أهوال الأيام الشديدة التي قضيتها في الجبهة الشرقية ومعركة المارن.
يا للعجب! .. ألم يكن حيال مومياء .. أو حيال جثة ردت إليها الحياة بطريقة خفية .. أو أمام قائد مصري كان يرتجف هولا وخشوعا إذا اجتاز عتبة القصر الفرعوني؟ ولكن هل كان من الممكن أن يخالج نفسي في تلك الساعة فكر من هذه الأفكار؟ .. بل هب أنه خالجها، فهل كان يستطيع أن يهدئ من رعبها شيئا؟ .. فزعت فزعا قاتلا .. على أن عيني استطاعتا أن تريا كما استطاعت ذاكرتي أن تحفظ ما رأت عيناي.
ولم أجد أمامي مومياء بل رجلا حيا كامل الرجولة والحياة، وكانت هيئته تذكر بتلك الصور التي ترى بكثرة على جدران المعابد، فكان يرتدي ثوبا أبيض ووزرة قصيرة، ويغطي رأسه الكبير بقلنسوة أنيقة، ويحلي صدره العريض بنياشين كثيرة زاهية، وكان مهيبا رهيبا متعاليا، ولكني بالرغم من جلاله خيل إلي أني رأيته من قبل، وذكرت بالفعل الصعيدي الذي ساقه الخدم إلى الباشا واتهموه بسرقة غذاء الكلب بيميش، كان شبها غريبا، ولكنه اقتصر على الطول واللون والقسمات دون الروح والحياة، ولولا ما كان يبدي الماثل أمامي من النبل والتعالي لربما خالجتني شكوك.
وكان يحدج الباشا بنظرة قاسية لا يحولها عنه كأنه لا يرى سواه.
ماذا أقول يا سادة؟ .. لقد سمعته يتكلم .. إي والله، لقد تكلم حور بعد أن صمت ثلاثة آلاف من السنين، وتكلم بتلك اللغة القديمة التي طواها الموت منذ آلاف السنين، وسوف أنسى كل شيء في دنياي قبل أن أنسى كلمة واحدة مما نطق به لسانه.
قال لصديقي الباشا السيئ الحظ بصوت لم أسمع مثله جلالا؛ لأني لم أتشرف بعد بمخاطبة الملوك. - ألا تعرفني أيها العبد؟ .. لماذا لا تجثو ساجدا بين يدي؟
ولم أسمع للباشا صوتا، ولا استطاع بصري أن يتحول إليه، ولكني سمعت العظيم ذا الصوت العظيم يقول مرة أخرى: لم أشعر بقهر أسر الموت إلا حين شاهدت روحي هذه العجائب التي تحدث في الدنيا وأنا مقيد بأصفاد الأبدية لا أستطيع حراكا، ولم أقدر أن أذهب إليك لأن حياتي انتهت كما قضى أوزوريس .. ولكنك سعيت إلي بقدميك .. وإني لأعجب كيف سولت لك نفسك هذا الفعل الأحمق .. أبلغ بك البطر الجنون ؟ .. ألا تحمد الآلهة أن حالت بيني وبينك بالموت؟ ماذا جئت تفعل أيها العبد؟ ألم يقنعك أن تنهب أبنائي فأتيت تنهب قبري؟ .. تكلم أيها العبد.
ولكن أنى للمسكين أن يتكلم .. إنه لا يفقه شيئا .. ولا يبدي حراكا .. لقد دبت الحياة في المومياء .. وفارقت قلب الباشا الحي.
أما المومياء فعادت تقول: ما لك لا تتكلم؟ .. ألست حور؟ .. ألست عبدي شنق؟ .. ألا تذكر أني جئت بك من الشمال في إحدى الغزوات الظافرة؟ .. أتتجاهلني أيها العبد؟ .. إن جلدك الأبيض الذي يرمز إلى العبودية يفضحك مهما تنكرت .. ما هذه الملابس المضحكة التي ترتديها؟ .. وما هذه الأبهة الكاذبة التي تختفي وراءها؟
وظن حور أن الباشا لا يريد أن يتكلم، فانتفخت أوداجه، وتقطب جبينه، وصاح غاضبا: ما الذي دهاك؟ ما الذي دهى الأرض فجعل أعزتها أذلة وأذلتها أعزة، وخفض السادة عبيدا ورفع العبيد سادة؟ كيف تملك أيها العبد هذا القصر ويعمل أبنائي فيه خدما؟ أين التقاليد المتوارثة، والقوانين المقدسة؟ ما هذا العبث؟
واشتد الغضب بحور فاستحالت عيناه جمرتين يتطاير منهما الشرر، وصاح بصوت كالرعد: كيف تتجاسر على ابني أيها العبد؟ لقد سمته الذل بقساوة دلت على العبودية التي تنضح بها نفسك، ضربته بعصاك لأنه جائع، ودفعت إخوته إلى ضربه، أيجوع في مصر أبناؤها؟ الويل لك أيها العبد!
ولم يكد يتم كلامه حتي تقدم نحو الباشا مزمجرا كأسد هصور يهم بفريسته.
ولكن الباشا التعس لم ينتظره؛ لأنه كان قد فقد قوة الاحتمال، فسقط على الأرض لا حراك به، وكأن تهديد حور قد أشاع في الحجرة رعبا جديدا أتى على البقية الباقية من التماسك في النفوس، فما لبث الشيخ جاد الله أن سقط على وجهه وسقط معه المصباح، فانطفأ نوره وساد الظلام، وانكمشت بغتة كأني أتقي ضربة قاتلة لا أدري من أين تقع على رأسي، وحملقت في الظلام وأنا أنتفض فرقا وذعرا، ثم خارت قواي، وشاء حظي الحسن أن أفقد شعوري وأغيب عن العالمين. •••
سادتي .. إنه لتأتي علي أوقات يصيبني فيها ذهول وتخامرني شكوك، فأسائل نفسي مرتابا: هل كان حقا ما رأيت أم كان وهما؟ .. وربما ملت أحيانا إلى تكذيب نفسي، ولكن كلما أميل إلى الشك تصدمني حقائق لا قبل لي بها .. فما قولكم مثلا في شهادة الشيخ جاد الله وهو حي يرزق ويستطيع أن يعيد لكم ما حكيت .. وما قولكم في جنون الخادمين التعيسين .. ومقبرة حور .. والقصر المهجور؟ .. بل ما قولكم في حادثة موت المغفور له محمود باشا الأرنئوطي التي ما يزال يذكرها جميع قراء الصحف ويعجبون لها أشد العجب؟
كيدهن
هل يتمنى الإنسان على الله أكثر من أن يهبه زوجة حسناء وثروة طائلة، ويمتعه بصحة سابغة وبنين، ويبوئه مركزا اجتماعيا فذا؟ وقد فاز حضرة صاحب العزة جمال بك ذهني بأولئك جميعا؛ كانت له زوجة شابة حسناء يعزي وجهها الحسن عن أحزان الدنيا جميعا، ووهبه الله أربعة من الأبناء كالورود صحة وجمالا، وترقى في مراتب الدولة حتى ولي كرسي الاستشارة في أكبر هيئة قضائية، وورث عن والديه ثروة طائلة ما بين عقار ومزارع، ومع ذلك فمن كان يطلع على وجهه ذلك اليوم إذ هو جالس في شرفة قصره المطلة على شارع السرايات يأخذه العجب لهذا الاكفهرار الذي يظله، وتلك النظرة القلقة التي تحار في عينيه منذرة بالشقاء!
ولا سبيل إلى إبطال هذا العجب ما لم نلم بماضيه؛ لأن حاضر الإنسان يقع غالبا من ماضيه موقع النتيجة من المقدمات، وإن كانت لا تدعم العلاقة بينهما في الحياة بما تدعم به في المنطق من الضرورة والأحكام. ومهما يكن من الأمر فقد كان ماضي صاحب العزة حافلا بالشباب المرح السعيد، والعقل النزيه، والذكاء الوقاد، والمغامرات التي تجعل من الشباب ديوان شعر غنيا بالذكريات العذبة؛ لأنه كان من الرجال القليلين الذين يصادفهم أجمل التوفيق وأسعده في دنيا النساء، فعشق عددا وافرا من الممثلات والراقصات وربات القصور المصونات غير متردد ولا حرج، ورشف من كئوس الهوى خمرا صافية أعمته نشوتها عن طي الأعوام، فما يدري يوما إلا وهو يصحو على عاذل يقول: «أتبلغ الخامسة والأربعين ولما تتزوج؟» الخامسة والأربعون .. أحقا ذهب الشباب الناضر وولى؟ أحقا تسنم ذروة الكهولة؟
ووجد نفسه يفكر في مسألة الزواج تفكير شاب يهدف للثلاثين، ويكاد الزواج أن يكون كالموت نهاية كل رجل، وإلا فلمن يترك هذه الثروة الطائلة التي يمتلكها؟ ومن يؤنس وحشته إذا احتجزه البيت يوما؟ ومن يعينه على متاعب الشيخوخة وأهوال الكبر إذا تألبت عليه عوامل الفناء؟
ولكنه لم يغفل عن أنه مغامر عشاق، ومثله يستطيع أن يقرأ قلب المرأة كما يقرأ الكتاب المفتوح، ويعرف طبيعتها معرفته لبديهيات الحساب؛ لذلك رأى أن الحكمة تملي عليه ألا يختار زوجة شابة تفصل بينها وبينه عشرات الأعوام، وصحت عزيمته على الزواج من أرمل أو مطلقة في الثلاثين على أدنى تقدير؛ حذرا من أن يقضى عليه بما قضى على ضحاياه الكثيرين.
ولكنه شاء غير ما شاءت الأقدار، وما حيلته في ذلك؟ لم يكن هو الذي يبرم الأقدار حين دعي يوما إلى حفل زفاف، فراح مالكا لفؤاده وعاد مسلوب الفؤاد والإرادة، ولم يكن هو الذي يخلق الأعمار؛ إذ كانت التي سلبته فؤاده في العشرين من عمرها، ربما قلت إنه ينبغي له أن يغلب الحكمة والعقل على الهوى، ولكن وا أسفاه فإن هذا القول وأمثاله لا يجدي فيمن تسيطر عليهم الشهوات؛ فجميعهم - أيا كانت الشهوة التي تتحكم فيهم - لا يرون في العقل سوي وسيلة لتحقيق شهواتهم، يستوي في ذلك منهم من يعبد الله أو يعبد المال أو يعبد النساء؛ فلم يتردد جمال بك عن سلوك سبيله المحتوم، وخطب الآنسة حياة إلى والدها الأستاذ محمد عويس الخبير بالمجلس الحسبي، وتمت الزيجة، وأثمرت على الأيام أربعة من الأبناء أكبرهم في المدرسة الثانوية وأصغرهم في الروضة.
ولكن للزمن حكمه الصارم كذلك؛ فقد أحيل المستشار في هذا الأسبوع إلى المعاش وأذن النذير بمجيء الخامسة والستين بكوارثها المعهودة من نضوب الأعصاب، وبرودة الاضمحلال، وتنكر معالم الدنيا وتألب أمراضها، وما كان به من ظمأ ولا جوع؛ فقد ارتوت نفسه من لذائذ الدنيا، وأخذ نصيبه كاملا من متاعها الغرور، ولكن دب بقلبه دبيب القلق الذي تعود بواعثه إلى تلك الزوجة الحسناء التي يعطيها الزمن - الآخذ منه - نضجا وكمالا، ويزيدها كل يوم حسنا على حسن، وما كانت مخاوفه أوهاما ولا محض حذر تمليه مغامراته الماضية، ولكنه شاهد هذا الصباح في شرفة الفيلا التي تواجه قصره ضابط بوليس شابا، يتألق جماله في بذلته الرسمية المزدانة بالنجوم الذهبية، وتنفخ صدره قوة الشباب وغروره، وتعبث أنامله بشاربه الأنيق الصغير؛ فانقبض صدره لمرآه، وتوجس منه خيفة لغير سبب بين. عجب كيف أنه لم يره قبل اليوم، وهل يقيم في هذه الفيلا يا ترى من زمن بعيد، وهل هو متزوج أو أعزب. وكان يستطيع أن يسأل زوجه عما يحيره، ولكنه نفر من هذا نفورا عجيبا، وآثر عليه الجهل والحيرة.
وكان قلقه غريبا لدرجة أنه ود لو يستطيع أن يحمل زوجه على نقل حجرة النوم إلى الجهة الأخرى من القصر المطلة على شارع القشلاق وإحلال المكتبة محلها، ولكنه لم يدر كيف يعلل طلبه، وأبت كبرياؤه عليه أن يفاتحها بشأنه.
ووجد في حياة الفراغ الجديدة فرصة طيبة لمراقبة «غريمه» في صمت وحذر، فلاحظ أنه يتناول الشاي كل صباح في شرفته، وأنه يعود فيجلس بها عند الأصيل ساعة أو نحو ذلك، وفي تلك الأثناء يصادف أن تدخل زوجه إلى الشرفة فيديم الشاب النظر إليها، وخيل إليه أن بصرها يتجه أحيانا إلى شرفته، نعم يحتمل ألا يكون وراء هذه النظرات أي معني سوء، ولكن يتعذر عليه أن يتصور أنه من الممكن أن ينظر شاب إلى مثل زوجه الحسناء نظرة بريئة لا يشوبها طمع.
وضاق بصمته المرهق، فأشار يوما إلى شرفة الضابط وسألها: من يقيم في هذه الفيلا؟
فقالت: جار جديد، أظنه مفتشا في الداخلية.
فسألها بلا اكتراث في الظاهر: ومن الضابط الذي يظهر أحيانا كثيرة في هذه الشرفة؟ - أي ضابط؟ .. لا أدري لعله ابن المفتش.
فوقع تجاهلها من نفسه موقعا أليما، واشتد غضبه اشتدادا لا يستند إلى أسباب معقولة، فقال: لا أشك في أنه ضابط أحمق وقح.
فبدت الدهشة على وجهها وسألته: ما الذي يغضبك عليه؟
فقال بحدة: رأيته مرارا ينظر إليك نظرات وقحة سافلة، جعلتني أفكر جديا في نقل حجرة النوم إلى الجهة الأخرى.
فقالت بلهجة استياء: ولكنه تعب لا مبرر له، وأرى أنه يتضمن إهانة قاسية لي يا بك. - كلا يا هانم، ما أردت هذا قط، ولكني أحب أن تتمتعي بحريتك بعيدا عن تطفل العيون.
فهزت منكبيها استهانة وقالت: افعل ما بدا لك.
وتحققت مشيئته، ولكن آلمته استهانتها، واعتقد أنه تسرع تسرعا معيبا ورطه فيه الغضب، وأحس من تصرفه بخزي أليم، وكبر عليه أن يمتلئ رعبا من نظرة يرسلها هذا الشاب المغرور، وما عسى أن يفيده نقل حجرة من مكان إلى مكان؟ وهل يعني هذا زحزحة الحب من موضعه إذا كان أنشب أظافره في لحم قلبها الطري؟ .. هيهات.
ولم تهادنه شكوكه ومخاوفه. وقد ثقلت عليه وطأتها يوما، وكان يجلس في قهوة لونابارك مع محام كبير، فاستأذن بغتة وقام إلى سيارته التي انطلقت به إلى قصره وبلغت شارع السرايات، وكان الوقت أصيلا، ونظر خلال زجاج النافذة فرأى زوجته في شرفة المكتبة ونظر الناحية الأخرى فرأى الشيطان.
وكان يعهد في زوجه البرود والرزانة والسيطرة على الأعصاب، وكانت كعهده بها فلم تفاجأ بحضوره، وسألته بإنكار: خير .. ما الذي أتى بك قبل ميعادك؟
فانفجر غاضبا وسألها بغيظ وحنق: قولي لي أنت ما الذي أتى بك إلى هذه الشرفة؟
فقالت بغضب وإباء: إنك تهينني يا بك إهانة لا تحتمل.
فاشتد به الغيظ وقال بعنف: أنت تحاولين تضليلي باصطناع هذا الإباء الكاذب. - عهدي بك أعظم أدبا من هذا. - ما شاء الله، وددت لو يستمع إليك أبناؤنا إذ تعلمين أباهم الأدب. - أما أنا فلا أود أن يستمعوا إلى أبيهم وهو يكيل التهم لشرف أمهم.
فنظر إليها نظرة عميقة وهو يضرع إلى الله أن يطلعه على خبيئة نفسها، وجعل يتساءل في حيرة: ترى هل هي صادقة في غضبها؟ هل هي حقا بريئة مما رماها به؟ وتنهد حزينا شقيا، وقال كأنه يحادث نفسه: حقا إن الشك مس من الجنون.
فقالت باستياء: ألا ترى أنك تعترف بأنك شككت في؟
فعاوده الغضب وقال لها بمرارة: لماذا تعودين إلى الظهور بهذه الشرفة، وفي هذه الساعة المعهودة؟ أصغي إلي يا هانم، أنا لا أسمح لامرأة بأن تتغفلني أبدا. - هذا كلام لا يليق برجل له مكانتك وأخلاقك، ويجدر بك أن تنادي عقلك الذي غرب به الغضب، فماذا ينفعك إغلاق الأبواب والنوافذ إذا أنا بيت الغدر؟ .. وما يضيرك ظهوري بكل مكان إذا انطوى قلبي على الإخلاص والأمانة؟
فقال بذهول: الإخلاص .. الأمانة .. ما عدت أفقه معني لهذه الكلمات لأن عقلي تسمم فينبغي أن تفهمي ذلك جيدا، قد يكون المرض لعلة، وقد يكون لغير العلة إلا الوهم، فاعملي على إعادة الطمأنينة إلى نفسي، ودعي الوعيد جانبا .. فأنا رجل لا يمكن أن تتغفله امرأة مهما أوتيت من المكر والدهاء. - أهكذا تتغير بعد العشرة الطويلة وتنقلب إنسانا غير الإنسان لأنك رأيت شابا ينظر إلي من بعيد؟
وأي امرأة لا تلتهمها العيون كلما بدت للناظرين؟
نظرة من بعيد. كلا ليس الأمر كذلك، إنها تكذب وتجد في الكذب، وهي تعلم بما يعذبه ويشقيه، إنها تتجاهل الحقيقة وليس لتجاهلها إلا معنى واحد، إنها تتغفله ولكنها لن تفوز بطائل. - أصغي إلي يا هانم، لا بد من وضع حد لكل هذا.
فنظرت إليه بارتياع وقالت: يا له من قول خطير.
فقال: لا خطورة هنالك، إني أقر بأني أخطأت فيما صنعت من تغيير ترتيب بيتنا، وأقر بأنه ليس لي الحق في الحجر عليك لأنه ينبغي أن أكون أرفع من العوام، فاذهبي إلى حيث تشائين وتنقلي كما تشتهين، ولكن لن أفارقك، وأظن أن هذا من حقي أيضا.
فلم تتمالك نفسها من الضحك وسألته: أبدا؟
فقال بهدوء: سألازمك كظلك. - يا له من أسر مرهق. - لك؟ - كلا .. فإنه يسعدني، ولا شك، أن يظل زوجي إلى جانبي، ولكن كيف لك أنت بالصبر على هجر لونابارك وسنت جيمس؟ - هذا شأن يعنيني وحدي.
فلم تزد على أن قالت: افعل ما فيه راحتك.
ومضى البك يحقق وعيده دون إمهال، فخلع ثيابه وارتدى البيجاما والروب دي شامبر وجلس إلى جانبها، وتسلسلت الأيام على منوال واحد، فكانا يقطعان النهار معا يتحادثان حينا ويطالعان حينا آخر، فإذا سئمت من جلستها وقامت إلى الشرقة أخذ مقعدا إلى جانبها، أو نزلت إلى حديقة القصر تتريض في مماشيها؛ رافقها، حتى إذا ولى النهار وجاء الليل وحانت ساعة النوم، أويا معا إلى مخدعهما فنام ملء جفنيه.
وكانا يخرجان كثيرا لزيارة الأصدقاء والأقارب، ويغشيان الملاعب والملاهي والسينمات، فلا يفترقان دقيقة، وثابر على حياته الجديدة مثابرة الصابرين، ولازمها حقا كظلها، وحافظ على كلمته أن يتركها تفعل ما تشاء على أن تتركه يفعل ما يشاء كذلك. ولم تظهر السيدة أي تذمر، وقضت أيامها مرحة ضاحكة كأنها أسعد الأزواج حقا. وفي يوم من الأيام اقترحت عليه أن يذهبا إلى شيكوريل لشراء حاجاتها وحاجات الأولاد، فذهبا معا ودخلا المحل الشهير، ودارت به على الأقسام المختلفة تشاهد البضائع وتسأل البائعين، وصعدا إلى الطابق الثاني وجالا هنا وهناك، وهو يتبعها صامتا يقف حيث تقف ويسير حيث تسير، فمر على تجوالهما ساعتان أو يزيد لم يسترح الشيخ فيهما دقيقة واحدة، حتى لهث من شدة التعب وعلا صدره وانخفض، وسال عرقه باردا، واشترت ذلك اليوم شريطا من الدانتلا!
ثم عادا إلى السيارة، فارتمى الرجل على مقعده منهوك القوى، وقال لها: لم تشتري شيئا ذا بال.
فقالت: ينبغي التريث في الشراء، سنعود غدا.
وعادا في الغد، ودارت به كما فعلت بالأمس، ولكنه لم يحتمل المشي والوقوف، ولحقه الإعياء فقال لها: سأنتظرك في السيارة.
وانتظرها ساعة أو يزيد، ثم حضرت يتبعها غلام يحمل المشتريات، فسألها البك: هل انتهيت والحمد لله؟
فقالت بهدوء: هذه كسوة حسني.
فقال الرجل دهشا: حسني فقط؟! .. وإخوته؟ .. وأنت؟
فقالت: لسه يا بك .. لسه .. أرجو ألا تنكر علي تباطئي؛ فهذه طريقتي في الشراء وإن كنت تطلع عليها لأول مرة.
وجاءا معا في اليوم التالي، ودخلت الزوجة إلى المحل، وانتظر البك في السيارة، وفات على دخولها ساعة ثم ساعة أخرى؛ فتململ البك في جلسته، وأحس برغبته في الحركة؛ فغادر السيارة ودخل إلى المحل، وبحث عن زوجته بعينيه، ومضى يسير هنا وهناك، ولكن الظاهر أنها كانت بالطابق العلوي، فصعد الأدراج على مهل، وقطع المكان ذهابا وإيابا، ولكنه لم يعثر لها على أثر، فعاد أدراجه وهم بالبحث مرة أخرى في الطابق الأول، ولكنه رآها مقبلة من أقصى المحل والغلام يتبعها يحمل المشتريات، فلم يرد أن يظهر لها نفسه وسبقها إلى السيارة .. وتساءل في صمته: كيف لم يعثر بها مع أن المحل لم يكن مزدحما؟ هل لأنه لم يحسن البحث يا تري؟ .. ولذعه الشك .. هل من الممكن .. ولكن هذا بعيد عن التصور.
وجاءت معه في غداة اليوم التالي، ودخلت المحل ولبث هو في السيارة كما فعل بالأمس، ولكنه لم يمهلها إلا دقيقة واحدة، ثم تبعها على الأثر ورآها تسرع الخطا منعطفة إلى يمين الداخل؛ فظن أنها قاصدة إلى المصعد، ولكنها واصلت السير إلى باب المحل الجانبي وخرجت منه، فخفق قلبه بشدة، وتبعها بخطى سريعة وبلغ الباب، ثم نظر إلى الطريق فرآها تدخل «لاكلير» المواجهة لباب المحل، وشاهدها تدخل إلى المصعد ثم صعد بها، فاجتاز الطريق ودخل العمارة وانتظر هبوط المصعد، وسأل البواب عن الطابق الذي صعد إليه، فرفع الرجل بصره وقال: «الطابق الرابع.» فدخل المصعد وضغط الزر رقم 4 وخرج منه، فوجد نفسه في ردهة تواجهه ثلاثة أبواب، فألقى عليها نظرة هائلة وهو يقول: ترى في أيها دخلت؟! واقترب من أولها فقرأ عليه المسيو فالديمير كراوس المحامي بالمحكمة المختلطة، وقرأ على الباب الثاني اسم ه. ليفي متعهد راديو تلفنكن، وكتب على الثالث «مدموازيل فلورا خياطة للسيدات». ووقف أمام الباب الأخير لا يريم، وقد انحصر فيه ارتيابه، وضغط على الجرس ففتح الباب، ودخل قبل أن يؤذن له بالدخول، فتراجعت أمامه التي فتحت الباب دهشة مستاءة، وألفى نفسه في ردهة متوسطة الحجم تحيط بها حجرات أربع، منها ثلاث مغلقة الأبواب وواحدة مفتوح بابها على مصراعيه، ويرى بداخلها بعض السيدات والأوانس؛ منهن من تطمئن إلى مقعدها، ومنهن من تقف أمام المرآة لتلقي النظرة الأولى على فستانها الجديد. وانتبه إلى الفتاة الواقفة أمامه يبدو على وجهها الإنكار، وسمعها تسأله: هل المدام مع البك؟
فالتفت إلى مغزى السؤال وتحير كيف يجيب أو كيف يعتذر عن وجوده؛ لأنه اندفع تحت تأثير الغضب والحنق اندفاعا لم يتدبر أمره، وألقى على الأبواب المغلقة نظرة ارتياب وقهر، وود لو يستطيع أن يقتحمها ليرى ما بداخلها، ولكنه لم يفعل شيئا لأنه لم يكن فقد عقله، ولأنه هو رجل القانون لم تكن تخفى عليه مغبة عمله فيما لو أخطأ تقديره وحسبانه، وكأنه أراد أن يقامر بما تبقى لديه فسألها: أليست هذه شقة مدموازيل فلورا؟!
فقالت الخبيثة: بلى، ألم تقرأ اللافتة يا مسيو؟
فقال: إن زوجتي سبقتني إلى هنا.
فسألته: ما اسمك يا سيدي؟
فقال: جمال ذهني.
صاحت بصوت عال لدرجة مزعجة: مدام جمال ذهني.
ولكن سيدة من الموجودات لم تلب النداء، فقالت: المدام غير موجودة بلا شك.
قالت ذلك بلهجة من ترى وجوب انتهاء المقابلة عند هذا الحد، فلم ير بدا من الخروج، وأغلق الباب خلفه، ولكنه لم يتحرك من مكانه، ولبث يرمق الباب بعين متقدة، ترى هل أخطأ البواب حسبانه، أم إن الشيطانة موجودة بداخل شقة الخياطة؟ ولماذا صرخت الفتاة الملعونة بهذا الصوت المزعج وهي تنادي مدام جمال ذهني؟! ألا يجوز أنها فعلت ذلك لتحذر الغافلين؟ وهل يجوز أن يبقي في مكانه لا يحرك ساكنا وزوجه في داخل الشقة في خلوة غرامية؟ فما عسى أن يفعل؟ وكيف يضبط الآثمة متلبسة بجريمتها؟
وعند ذاك فتح الباب، فتقهقر خطوتين، وخرجت سيدة، وأوصلتها الفتاة الإفرنجية، وقد رأته ولكنها لم تباله، وأغلقت الباب مرة أخرى.
فمضى يروح ويجيء في حيرة شديدة. من المؤكد أنها في هذه العمارة؛ فقد رآها وهي تدخل ورآها وهي تندس في المصعد، وأكد البواب أنها صعدت إلى الطابق الرابع، وها هو ذا الطابق الرابع، ولا مكان يصح افتراض دخولها إليه إلا شقة الخياطة؛ فالشيطانة لا شك في الداخل، ولكن ما عسى أن يفعل؟ هل يظل يروح ويجيء أم ينتظر إلى ما شاء الله؟ ومما يزيد ارتباكه أن وقوفه هكذا قد يريب الصاعدين والهابطين وتيارهم لا ينقطع. ومرت عليه ساعة كاملة كانت أقسى ساعات حياته جميعا، ونال منه التعب والقهر كل منال، فاضطر إلى مغادرة مكانه وفي نيته أن ينتظرها لدى الباب الخارجي، ولكن خطر له خاطر أزعجه، فسأل البواب: هل للعمارة مدخل آخر؟
فأجابه الرجل بلهجته البربرية بأن للعمارة ثلاثة أبواب، فأحس باليأس وذاق مرارة الخيبة، وعض شفتيه من الحق والغيظ، وكبر عليه أن تتغفله الشيطانة وتمثل به هذا التمثيل المزري. وكان ما عاناه عقله وجسمه فوق ما يحتمله شيخ في سنه، فعاد خائر القوى إلى سيارته. وكم كانت دهشته عظيمة حين هم بالدخول فرأى زوجه جالسة آمنة مطمئنة تنتظر أوبته منذ زمن غير يسير، وقد نظرت إليه بإنكار وسألته: أين كنت يا بك؟
فأنعم في وجهها النظر فرآها تبتسم ابتسامتها المألوفة، ولكن لم يخف على عينه الثاقبة شحوب لونها ونظرتها الدالة على الإثم بقدر دلالتها على الطهارة المصطنعة؛ فهي شيطانة بلا ريب، ولكنها لم تتعود الإجرام بعد.
وجلس إلى جانبها صامتا وانطلقت بهما السيارة.
وكان مقهورا مغلوبا على أمره، يعاني مرارة الهزيمة، ويحس كأن يدا تخنق كبرياءه خنقا. وكان يسوءه أن يجلس هكذا إلى جانب المرأة التي تغفلته وهزأت بكرامته ولوثت عرضه .. ولم يرتب قط أنها تعلم بأمر مطاردته الفاشلة لها. ومن يعلم؟ فلعلها تضحك في سرها الآن من خيبته وهزيمته. يا له من تصور لا يحتمل!
لقد أنذرها بأنه لن يتركها لحظة، ثم اضطر إلى تركها أو هي اضطرته إلى ذلك، ولكن لم يخطر له على بال أن تتخذ من زيارتها لشيكوريل سبيلا إلى مقابلة عشيقها.
واستسلم للتفكير الحزين، وذكر طريقة عامة الشعب في الانتقام من الخائنات، فوجد نفسه - في محنته - يقرها، وهل تستحق الأفعى إلا تهشيم رأسها؟ .. أما هو البك الوجيه المثقف فيجلس إلى جانب معذبته يعاني آلامه في صبر، ويشيع كبريائه إلى القبر وهو كظيم. وكيف يفعل غير ذلك وهو القاضي الذي قضى حياته في خدمة القانون؟
ولاحت منه التفاتة إلى الطريق، فرأى بعض المارة يحدجون السيارة بنظراتهم المتطفلة، فسأل نفسه: تري هل ينفسون عليه السيارة الفخمة والزوجة الحسناء؟
حقا إنه يستحق الرثاء، وسيكون أحق بالرثاء في مستقبله حين يخلي يده منها - وهو ما صدقت نيته عليه - فكيف تكون حياته بلا زوجة؟ وكيف تكون حياة أبنائه بلا أم؟
وهل تزوج يوم تزوج إلا إشفاقا من أن يلحقه الكبر وهو وحيد فيعاني مرارة الشيخوخة ووحشة الوحدة؟
روض الفرج
اعتدل الأسطى شلبي في جلسته، وجعل يفتل شاربه الغزير ويرفع حاجبيه الكثيفين، ويقول للشاب الجالس إلى يمينه على الكنبة: وما الداعي إلى التعجيل بالسفر؟
فقال له صاحبه وهو شاب في الثالثة عشرة من عمره تدل قوة بنيته وسذاجة نظراته على ريفيته القحة: وما الداعي إلى البقاء وقد انتهيت من أداء امتحاني؟
فقال الأسطي شلبي يتفلسف: وهل الغاية من الدنيا تنتهي بانتهاء امتحان النقل من السنة الأولى إلى السنة الثانية الثانوية؟ ينبغي أن تروح عن نفسك قليلا، فما العيشة التي أنت ذاهب إليها إلا قطعة من البادية القاسية لا أثر فيها للهو والمرح.
فقال الشاب: أخشى أن يقلق والدي لتأخري. - وماذا يضيره لو تأخرت يوما آخر وقد غبت عنه عاما مدرسيا كاملا؟ تعال نذهب معا هذا المساء إلى روض الفرج والعشاق لمشاهدة رواية «اشمعني»، وهي كوميديا في غاية الإضحاك والبهجة .. ما رأيك؟
وضحك الأسطى شلبي وهو ينظر إلى عبد المعز بإغراء، فابتسم الشاب وقال بتسليم: فليكن .. سأؤجل السفر إلى غد.
فابتسم الأسطى مسرورا وقال له بخيلاء: نعم الرأي، وستري بعد قليل عشيقتي تقوم بتمثيل الدور الأول في رواية «اشمعنى».
وارتدى عبد المعز ثيابه، وكانت تبدو على هيئة الطلبة الريفيين الذين يندر أن تنسجم «البدلة» مع قامتهم، ويبدو الطربوش غريبا على رءوسهم. أما الأسطى فقد وقف أمام المرآة في دل وتيه، وارتدى قفطانه الزاهي وجبته البنية الأنيقة، وأمال الطربوش حتى مس حاجبه الأيمن، وأمسك بعصاه المذهبة اليد، وتقدم قريبه يختال في مشيته كالطاووس.
والأسطي شلبي هذا بدأ حياته كصبي حلاق بسيط، ثم استقل بصالون جميل أتاه منه رزقه رغدا، ثم اشتغل بالسمسرة وصادفه فيها توفيق كبير فنمت أرباحه، واستطاع أن ينفق عن سعة على عشيقاته العديدات من نجوم روض الفرج.
أما عبد المعز فهو ابن أحد أقرباء الأسطي شلبي المدعو الشيخ طه، شيخ كتاب وواعظ بالعريش. وقد جاء فتح مدرسة العريش الابتدائية متأخرا؛ مما دعا ولاة الأمور إلى التجاوز عن شروط سن القبول، فالتحق بها عبد المعز وهو ابن ثلاثة عشر عاما، وبعد انتهائه من تعليمه الابتدائي أرسله أبوه إلى قرية شلبي ليتم تعليمه الثانوي، مؤثرا بعد القاهرة مع الاطمئنان عليه في بيت قريبه على قرب الزقازيق مع إقامته وحده.
على أن الأسطي شلبي لم يكن عند حسن ظن الشيخ طه؛ فكان يدعو أحيانا عبد المعز إلى المقهى، واقترح عليه مرة أن يعلمه النرد ليستعينا به على تزجية أوقات الفراغ. وكان الشاب حكيما مجتهدا، فلم يستسلم لإغراء قريبه، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يسلمه فيها زمامه فذهب معه إلى روض الفرج، ودخلا كازينو البسفور لمشاهدة رواية «اشمعنى». وبدا الشاب بطيئا في فهم النكت و«القفشات»، وأخذ يقلب عينيه بين الضاحكين في استغراب وحيرة، ولكن جذب عينيه إلى المسرح ظهور ممثلة قابلها الجمهور بعاصفة من التصفيق والتهليل، وكانت امرأة فارعة طولا وعرضا، مزججة الحاجبين مكحلة العينين محمرة الخدين والشفتين، تنوء بحمل ردفين ثقيلين ولا ريب يرهقانها ثقلا، بل ما أحراهما أن يميدا بها لولا أن وازنتهما العناية بثديين كبطيختين، وإن كانتا - بقدرة قادر - ناهضين، وكانت تتثني وتتمايل وتتخنث في كلامها وتتكسر وكأنها تتأوه وتتوجع، والنظارة لا يكفون عن إبداء الإعجاب، يرقونها من أعين الحساد. وفتل الأسطي شلبي شاربيه بقوة وزهو، ومال على أذن صاحبه وهمس قائلا: هذه عشيقتي نور الحياة .. انظر!
وكان عبد المعز ينظر بعينين جشعتين، فزاد ذلك مسرة الرجل، فعاد يقول: إن بعض الظرفاء ممن يعرفون أني المالك لقلب هذه المرأة يقولون لي: «حقا إنك لمن كبار ذوي الأملاك.»
وقهقه الرجل ضاحكا تياها فخورا.
وفي أثناء فترة الاستراحة رأى عبد المعز الممثلة الحسناء آتية صوب الركن المنعزل الذي يجلسان فيه، تتبختر كأنها ترقص، وتوزع النظرات الناعسة بلا عدل ولا رحمة، ثم رآها تسلم على الأسطى شلبي وتقول له ضاحكة: كيف حالك يا رجل؟
وسمع قريبه يحييها قائلا: وما جدوى سؤالك عن حالي ما دمت تلتهمين مالي وصحتي بلا رأفة؟
فضحكت ضحكة مثيرة، وجلست تشارب الرجل كأسا من الويسكي، وكبر على عبد المعز أنها لم تباله؛ ورأت المرأة ارتباكه، فمدت يدها المكتنزة وقرصته في خده وهي تقول: وكيف حالك يا نونو؟
فاحمر وجه عبد المعز استحياء، وأحس باستياء، وشغل بشعوره عما حوله فلم ينتبه إلى ما دار بين المرأة وقريبه، وجعل يختلس النظرات إلى وجهها الممتلئ فأحس نحوها بانجذاب عجيب، والظاهر أن المرأة لم تهمله؛ لأنها عادت تداعبه فسألته: كم عشقت من النساء يا غلام؟
وكان عبد المعز يشعر بميل إلى التحدث إليها، فأغضى من سخريتها وسألها بدوره: وهل يهمك أن تعرفي ذلك؟ - كيف لا؟ - ولمه؟ - لأسباب كثيرة أقلها أن أعرف عمرك. - وما علاقة العمر بالعشق؟
فغمزت بعينيها وقالت: نحن معشر أهل الهوى نقدر الأعمار بحساب الحب، مثلنا مثل العرافة التي تهتدي إلى معرفة الأعمار بالرمل والنجوم.
فضحك الأسطي شلبي وقال: إذن فعبد المعز لم يولد بعد على تقديرك.
فضربت المرأة صدرها بيدها وقالت بإنكار: رباه .. ولم تحرم نفسك من الحب يا بني؟ .. ألا ترى الأسطي شلبي لا يفيق من الهوى وإن رد إلى أرذل العمر؟
فتغاضب شلبي وقال محتجا: أيقال عني أنا مثل هذا الكلام؟ (وفتل شاربه واستمر قائلا) أهذا شارب رجل رد إلى أرذل العمر؟
فعبثت أناملها المخضبة بالحناء بشاربه وقالت: أقسم أنك سرقت هذا الشارب من زبون شارد الفكر!
ولم يكن لدى الممثلة متسع من الوقت لتسترسل في مداعباتها، فشربت كأسها وحيت الأسطي وقرصت عبد المعز مرة أخرى، وسارت ترقص على نغم موسيقاها الباطنة.
واختتم التمثيل عند منتصف الليل، وانتظر الأسطي شلبي السيدة نور الحياة حتى انتهت من تغيير ملابسها وعادت إليه، وركب ثلاثتهم تاكسي انطلق بهم صوب المدينة. وفي أثناء الطريق كان عبد المعز يختلس من الوجه الممتلئ الجميل نظرات جائعة، وكانت المرأة بعينين نصف مفتوحتين لا تخفى عليها خافية، وقد وجدت لذة غريبة في مشاهدة قلقه وتحيره، وأرادت أن تغضي عنه استهانة فلم يطاوعها وجدانها، وأخيرا أحست نحوه بعطف غريب لم تحاول إخفاءه. وبلغ التاكسي ميدان المحطة فأمر الأسطى السائق بالتوقف ريثما يودعهما عبد المعز الذي قدر له أن يعود إلى البيت وحده تلك الليلة، وأرادت نور الحياة أن تحسن توديعه فقالت: يا عيني .. أتعود إلى البيت وحدك؟ .. خذ هذه القبلة لتؤنس وحشتك.
ومالت نحوه بسرعة وقبلت فمه قبلة فاضحة ذات رنين عجيب.
ووقف الشاب ينظر إلى التاكسي الذي ابتعد بهما في جوف الليل إلى حيث لا يعلم، وكان ذاهلا محموما يتصاعد الدم إلى رأسه كما يتصاعد الزئبق إلى الترمومتر، ويحس بالقبلة على شفتيه ويدوي رنينها في أذنيه، ويشم رائحة الفم المعطر بالقرنفل، واهتاجت أعصابه تلك الليلة الفريدة في حياته، فجعلت تخلق له الأحلام وتدني إليه الأماني، وأنامت بين ذراعيه نور الحياة بشحمها ولحمها لتروي اشتهاءه بفنون الحب جميعا.
ولدى ضحى اليوم الثاني رجع الأسطي شلبي إلى بيته، وقد أدهشه أن يرى عبد المعز ما يزال قابعا به لم يسافر ولا تبدو عليه هيئة المسافرين، فقال له: ظننت أنك سافرت إلى العريش.
فسأله الشاب بقلق: أيضايقك أن أبقى مدة أخرى؟ - كلا وألف مرة كلا .. على الرحب والسعة دائما .. ولكن قل لي بالله ما الذي حملك على تغيير رأيك.
فقال الشاب مبتسما مرتبكا وهو ينظر بعينيه إلى الأرض: روض الفرج دون غيره. ليتني أستطيع أن أشبع من ملاهيه!
وقال الأسطي شلبي لنفسه: ترى هو روض الفرج حقا أم نور الحياة؟ على أنه لم يبال هيامه، واعتقد أنه عبث طفولة لا يقابل بغير الهزء والسخرية؟ فاصطحبه معه إلى روض الفرج. وكان تعلق الغلام بنور الحياة بينا لا يحتاج إلى دليل، أما الذي لم يدر بخلد إنسان أبدا ولا كان محل احتمال قط فهو أن تعلق المرأة بالغلام، ولو أنه من المسلم به دائما أن عالم الحب حافل بالمفاجآت غني بالغرائب والعجائب.
وكانت الظواهر تجمع على حب تلك المرأة الهائلة لذاك الغلام الغرير، فكانت تأنس به وتخف إلى محضره وتعاطيه نظرات حنان وعطف ومودة، وكان لسان حالها ينطق بالرغبة الحارة في الانفراد به، وكانا يطلبان غفلة من الأسطي شلبي ليتناجيا بغمزة عين أو ينفسا عن صدريهما بلمسة يد، وفي أثناء ذلك لا تكف ركبته عن تحسس فخذها المكتنز.
وحاول الأسطي شلبي أن يهزأ به في حضرتها أكثر من مرة، فكانت تغضب وتنهره حتى ضاق صدره، وجعل يفتل شاربه بعنف ويقول لنفسه: «أيغلب هذا الشارب الذي يقف عليه الصقر؟ هيهات ثم هيهات.»
وفي أثناء ذلك استبطأ الشيخ حضور ابنه، فأرسل إليه خطابا يحثه فيه على العودة بلا إبطاء. وانتهز الأسطى الفرصة الذهبية فنصح الشاب بإطاعة والده، ولكنه أجاب، أو قلبه أجاب: «لا أستطيع.» وانفجر حقد الأسطي شلبي في كتاب حرره للشيخ طه كاشفه فيه بتدهور ابنه إلى الحضيض والفساد، وصارحه بهيامه بإحدى غانيات روض الفرج، وأهاب به أن يدركه أو يتردى في الهاوية إلى الأبد.
وجن جنون الشيخ الواعظ، فشد رحاله إلى القاهرة فبلغها عصرا، واستقبله الأسطي شلبي استقبالا يدل على الإخلاص والمحبة، ولم يتردد فمضى به إلى روض الفرج، وكان يوسوس في صدره بما يزيد مخاوفه ويهيج بلابله، وانتهيا إلى كازينو البوسفور، وكان الستار مرفوعا، فسار إلى مكان يطلعان منه على الركن الأيمن الذي يجلس به عبد المعز يشاهد التمثيل في الظاهر وينتظر نور الحياة في الحقيقة، ومال الأسطى على أذن الشيخ وقال هامسا: ستوافيه إلى هذه المائدة بعد قليل.
فضرب الرجل حجره بيده في حالة عصبية، وقال بتأثر: ألا يكفيه أن يغشى هذه البؤرة الفاسدة؟
فقال الأسطي شلبي بلهجة دلت على الحزن والأسف: إن ما ينفطر له القلب حقا أن عبد المعز كان شابا طاهر الخلق.
فتنهد الرجل بحسرة وقال كالداهش: ولكن من أين له المال الذي ينفقه على ممثلة؟ - أظن أن العلاقة بينهما لم تجاوز خطى التعارف الأولى؛ ولهذا أهبت بك أن تدركه ولما يهو.
فقال الشيخ بلوم وحزن: لقد سكت يا شيخ شلبي أكثر مما ينبغي، كان يجب أن تحذرني من بادئ الأمر.
فقال الأسطى بيقين: أقسم بالله أني ما علمت بسقطته حتى بادرت إلى الكتابة إليك.
وعند ذلك نزل الستار فوجه الرجلان انتباههما إلى الشاب الموليهما ظهره. وما لبثا أن رأيا نور الحياة تسير إليه في مشية الإوزة العصرية وتجلس قبالته، ونظر الأسطي شلبي إلى الشيخ طه فرآه ينظر إلى المرأة نظرة فاحصة، وسمعه يصرخ صرخة مكتومة ويهتف بصوت مبحوح مرتجف: يا رحمة الله!
ورآه يقف مرتعش الأوصال زائغ البصر، فأشفق من عاقبة التهور، وقال له بتوسل: هدئ من روعك يا شيخ طه!
ولكن الشيخ طه لم يستطع أن يهدئ روعه، وسار كالمترنح حتي وقف خلف ابنه الذي لا يحس به، وألقى على الممثلة نظرات وحش مفترس، وألقت عليه نور الحياة نظرة احتقار عاجلة من النظرات التي تدخرها للمتطفلين، ولكنها علقت بوجهه ولم تبرح، وعبثا حاولت أن تحول عينيها عنه كالمستهوي، وعجب الأسطي شلبي لما رآها تتلبسها حالة دهشة وفزع كتلك التي تلبست الشيخ طه حين وقوع نظره عليها، فحار لأمرها، وقال لنفسه بقلق: «ليست هذه مسألة عبد المعز.»
وفي تلك الأثناء التفت عبد المعز إلى الوراء فوقعت عيناه على أبيه، فجمد في مكانه كالصنم، ولكن أباه لم يباله كما توقع، واكتفى أن أمسك يده بقسوة ووضعها في يد شلبي، وقال بشدة لا تحتمل المراجعة: اسبقاني إلى البيت.
فمضى الأسطي شلبي مع الشاب المرتعب وهو يتمتم: «خلصنا من الابن طلع لنا الأب.»
ولما خلا الشيخ والممثلة قال الرجل باحتقار: السلام عليك أيتها الفاجرة التي ما كنت أظن أن الله سيبتليني برؤيتها مرة أخرى.
ولم ترد عليه المرأة الهائلة، بل استكانت وبدا عليها الذهول والقلق، وتعلق عقلها بالشاب الذي ذهب، فعاد الرجل يقول باللهجة نفسها: حقا هذه البؤرة التي أعدت لأمثالك، لقد كنت يوما ريفية بسيطة، ولكن نفسك كانت ملوثة تبرأ منها نفوس الريفيات جميعا. كنت فاجرة بالطبيعة والفطرة، فكان من المحتم أن ينتهي بك المطاف إلى روض الفرج أو إلى هاوية أشد وعورة، أيتها الفاجرة.
وكانت نور الحياة تفكر في أمور أخرى ألهتها عن الإصغاء إليه، فسألته بخوف وإشفاق وهي تشير إلى الناحية التي ذهب إليها الأسطي شلبي وعبد المعز: هل هو ...؟
ولم تقو على إتمام سؤالها، فقال الرجل بوحشية: نعم .. نعم .. هو ابني .. بل هو الطفل الذي تركته في القماط وفررت مع ذلك القصاب المنحوس غير آبهة بالأمومة ولا بالزوجية .. هو ابنك أيتها الفاجرة، فقولي ماذا صنعت به.
وابيض وجه المرأة، وعلاه الكركم، وزاغ بصرها، فقال الرجل بقسوة: هل وقعت الجريمة النكراء؟! هل حدث الإثم الأكبر؟ هل سفلت يا فاجرة إلى مرتبة الحشرات والكلاب؟ والله ما كنت أحب أن يشارك ابني في هذه الجريمة الشنعاء، ولكنه الانتقام الإلهي الصارم أعمى بصرك، وطبع على بصيرتك ليذيقك علقم الندامة ويضرب عليك المذلة والهوان إلى أبد الآبدين.
وكانت المرأة في حالة ذهول شديد حجب من حواسها إدراك العالم المحيط بها ومنه الشيخ طه، فغلبت هواجس ضميرها صوت الرجل المرغي المزبد، وجعلت تحدث نفسها: ابني .. رباه .. أهذا إذن سر حبي له وعطفي عليه؟ .. ابني .. لكأنه حلم بعيد التحقيق.
فقال الرجل الغاضب: فلتموتي كمدا جزاء إثمك الشنيع.
فأشارت المرأة إليه بيدها إشارة غضب واحتقار، وقالت: كفي هذيانا؛ فإنه لم يقع بيني وبين ابني ما يخجل منه أحدنا أو كلانا.
فاشتد غضب الرجل للهجتها، وصاح بصوت انفجاري: إياك وأن تقولي ابنك، لقد ماتت أمه حين ولادته. أفاهمة أنت؟
ودوى صوته فالتفت النظارة إلى ناحيتهما من كل صوب، وكادت تفقد الممثلة صوابها، ولم تر بدا من الانسحاب السريع، وغادر الشيخ مكانه ورجع إلى بيت الأسطي شلبي، ولم يطمئن به المكان فأخذ ابنه ومضيا إلى محطة مصر، وفي أثناء الطريق قال له: لن ترى القاهرة مرة أخرى إن شاء الله .. وسأحولك إلى مدرسة الزقازيق والله المستعان.
وصمت عبد المعز فلم تنفرج شفتاه عن كلمة، وظل جامدا كالتمثال حتي أوى إلى حجرته، وكان في قرارة نفسه غاضبا على أبيه. ولعله لو رأى الشيخ وهو يختم صلاته ذاك المساء فيبسط يديه ويدعو ويتوسل ويذرف الدموع الساخنة، لربما سكت عنه الغضب، وأجبرته حناياه على الذهاب إليه ليستغفره ويسترحمه، ولكنه كان لا يرى من الدنيا جميعا سوى وجه ممتلئ مستدير، حلو الابتسامة، جم المحبة والحنان، يراه في النور والظلام، ويراه حين ينظر وحين يغمض جفنيه؛ فهو لا يبرح مخيلته ولا يدع له فرصة للراحة أو الاطمئنان. ولم يفكر قط في النسيان أو التعزي، ولكنه كان يبتغي الوسيلة إلى الفرار إلى القاهرة مهما كلفه الأمر.
ولاحت الفرصة المطلوبة بعد أسبوع من وصوله إلى العريش حين اضطر أبوه إلى سفر يقتضيه التغيب بضعة أيام، ولم يدع الفرصة تفلت؛ لأنه كان عازما عزما أكيدا أمات ضميره وهزم نوازع الخير في نفسه، ففتح صوان والده وبعثر ما فيه من الثياب، فعثر - كما قدر - على خمسة جنيهات دسها في جيبه وفر من البيت.
وبلغ القاهرة ظهرا، وكان مضطربا متعبا، فاستراح في مقهي حتي العصر، ثم ركب إلى روض الفرج فإلى كازينو البوسفور، وقصد إلى الركن المعهود، ولكنه لمح عن بعد الأسطي شلبي جالسا إلى المائدة في اطمئنان ودعة ينتظر الحبيبة، فغلى الدم في عروقه، وود لو يخسف به الأرض، وحار لحظة قصيرة ثم لم يتردد، فقصد رأسا إلى حجرات الممثلات، وبحث عن حجرة نور الحياة، ولم يصبر حتي يؤذن له فاقتحم بابها.
وكانت مفاجأة غير متوقعة، فقامت نور الحياة واقفة تاركة أدوات المكياج والتواليت تسقط من يديها، ويبدو على أسارير وجهها فرح قهري، وكادت تفتح له ذراعيها وتضمه إلى صدرها الخفاق وتعاطيه قبل الحنان والأمومة، ولكنها تنبهت إلى نفسها فتصلبت في وقفتها، وجمدت أسارير وجهها، وبدت عليها الحيرة والذهول، ولم يكن لديها متسع للتفكير والتقدير، ولكنها أحست بأن الطريق التي تدفعها عواطفها إليه ليس الطريق الذي ينبغي لها سلوكه.
ولم ترد عيناه أن ترى في وجهها سوى الفرح الذي كساه لأول وهلة، فأقبل عليها مفتوح الذراعين، ولكنها أغضت عنه وسألته بلهجة غريبة: عبد المعز .. ما الذي أتى بك إلى هنا ؟
فقال بلهجة المستغيث وهو يشفق من تغيرها إشفاقا: أنت تعلمين بما أتى بي، فكيف تتجاهلينه؟!
ونفذت لهجته التوسلية إلى سويداء قلبها فخفق بشدة، وكاد يطير من بين يديها، ولكنها ضغطت عليه بقسوة لم تعهدها في نفسها من قبل، وسكتت هنيهة لتضبط عواطفها كي لا يظهر اضطراب وجدانها في نبرات صوتها، ثم قالت: لا أفقه لما تقول معني.
فتنهد الشاب بحرقة، وترك ذراعيه تسقطان إلى جانبه، وقال: أتيت لأني لا أحتمل البعد عنك، وليس بي من قوة أستطيع بها التصبر أو التعزي، فعبثا حاولت أن أقيم لرجاء والدي وزنا، وعبثا حاولت أن أصرف نفسي عن التفكير فيك، وانتهزت فرصة سفر والدي لألوذ بالفرار، ولم أحسن التدبير؛ إذ كانت ظروفي في غاية القسوة، فأخذت نقود أبي.
وأسكته عن إتمام حديثه صرخة فرت من فم المرأة الخائفة المشفقة، وسمعها تسأله بألم: هل سرقت؟
فلم يحسن فهم الباعث لها على سؤالها، وقال بتأثر شديد: نعم سرقت، ولست آسفا على ما فعلت لأنه كان سبيلي الوحيد إليك، ولن أتردد عن أي تضحية في سبيل أن أحظى بقربك، وها هي نقودي فافعلي بها ما تشائين.
ولكنها أشارت إليه بيدها فأسكتته، وسألته بجفاء يعلم الله كم كلفها من جهد وعذاب: هل يعود أبوك من سفره سريعا؟ - بعد يومين أو ثلاثة.
فتنهدت المرأة ارتياحا وقالت: ينبغي أن ترجع في الحال إلى بلدك لترد النقود إلى مكانها فلا يعلم أبوك بجريمتك.
ولكنه قال بجزع وخوف: هذا مستحيل، أنا لا أستطيع مفارقتك أبدا. - هذا كلام فارغ وعبث طائش، والحب سريع الزوال، أما أثر الجريمة فلا يزول.
فقال بإصرار: لن أفارقك أبدا.
وخشيت إن هي لانت له وطاوعت قلبها أن تقضي عليه، فقالت بصرامة: ينبغي يا هذا أن تذهب سريعا، وإلا وجهت إلي تهمة تحريضك على السرقة.
فبغت الشاب، وأحس بخيبة مريرة، وسألها: أهذا كل ما يهمك من أمر عودتي؟ - طبعا. - أتجدين في القول؟ - وهل هذا وقت هزل؟! - وفيم كانت مودتك لي؟ - وأي مودة هذه التي تهون على النفس ما تهددني به جريمتك؟
فقال الشاب بانفعال شديد: ولكني ارتكبت هذه الجريمة من أجلك أنت! - لقد جئت أمرا نكرا. إن عشاقي الكثيرين ليتوددون إلي بغير ارتكاب الجرائم.
فتنهد عبد المعز تنهد اليائس المغيظ وقال: وإذا كنت تكذبين؟
فقالت وكانت في حالة من الإعياء شديدة: أنت الذي أخطأت فهمي .. نعم إني لا أنكر أني ذكرت في حديثي معك الحب، ولكنه كان حبا بريئا كحب أمك مثلا.
وكان دم عبد المعز يغلي في عروقه غليانا، وكان الغضب يفور في قلبه وينفث أمام عينيه سحائب من دخان كثيف، فصاح بصوت مرتعش النبرات: لا تشبهي نفسك الآثمة بأمي الطاهرة فتقلقي رقدتها الآمنة أيتها العاهرة.
ولم يشف الكلام غليله فلطمها على وجهها - في غيبوبة الغضب - وبصق عليها.
ثم ولى الأدبار فلم يقدر له أن يرى بشاعة الألم الذي قلص أساريرها، ولا الحزن الذي طفر بالشيخوخة على وجهها، ولا رآها تمسح بصقته بيدها ودمعها ينهمل.
ومضى في طريقه لا يلوي على شيء هائجا ثائرا كالزوبعة، وركب الترام ونزل منه، واستقل القطار وهو يحدث نفسه ويتهدد ويتوعد ويتجرع غصص الندم والأسف.
وأراد الله ستره فأعاد النقود إلى مكانها، ومحا أثر الجريمة بيديه، ونجا من شر عظيم.
وقد ظن أن الدرس القاسي الذي تعلمه كفيل بأن يجتث من نفسه كل ما كان من ميل أو عاطفة نحو نور الحياة وأمثالها جميعا، ولكنه حين عاودته طمأنينته وسكونه وجد عقله ينزع به إلى روض الفرج، وقد غالط نفسه وقاوم نزوعه، ولكنه وجد عقله مجبرا على التفكير والتذكر، فساءل نفسه: ماذا فعلت نور الحياة مما استحق من غضبي؟ ألأنها توددت إلي؟ فهذه صناعتها وفنها، أم لأنها أشفقت على نفسها من عواقب جريمتي؟! فهذا ما ينتظر من أي إنسان مهما كان أدبه وكان تهذيبه. وربما كان من الطبيعي أن أغضب بعد أن منيت بالخيبة وذهبت تضحيتي هباء، ولكن لم يكن طبيعيا قط أن أصب عليها جام غضبي، وماذا فعلت هي تلقاء ذلك؟ لا شيء، لقد لطمتها وبصقت عليها، فماذا فعلت وهي القادرة على «البهدلة »؟
ومضت الأيام تلو الأيام، وانتظر على رجاء أن يمحو الزمن من نفسه تلك الذكرى المؤلمة. وكان يجد في أعماقه عاطفة غريبة لم يعترف بها قط، وطالما غالط نفسه فيها، ولكن ربما غلبته على أمره أحيانا فيتنهد حزنا ويقول لنفسه آسفا محسورا: «ليتني لم أمدد لها يدي بسوء.»
هذا القرن
انتصف الليل، وخيم السكون، وشمل الصمت الدور والطرقات، وانتشرت أنوار المصابيح الباهتة كأنها تؤنس وحشة الأشجار المغروسة في الأفاريز.
وقد مزق السكون الآمن بوق سيارة أتت مسرعة من مبتدأ شارع العباس، ثم وقفت أمام الباب الحديدي المغلق لفيلا آية في الأناقة والجمال. ونفخ السائق في البوق مرات، فخرج البواب من كوخه الخشبي وفتح الباب، واندفعت السيارة إلى داخل الحديقة التي لا يبدو منها إلا أشباح الأشجار، ودارت دورة غير كاملة، وصعدت منحدرا ثم وقفت أمام الباب الداخلي للقصر، ونزل السائق مسرعا، وضغط على مفتاح كهربائي على كثب من الباب فأضاء مصباحا وأرسل نورا أزرق هادئا، ثم فتح باب السيارة ووقف كالتمثال.
وانتظر لحظات وثواني ودقائق، ثم أخذه العجب فأرسل ناظريه إلى داخل السيارة، فرأى الباشا وزوجه مستغرقين في نوم ثقيل، وكانت السيدة ملقية برأسها إلى الركن، وجسمها الضخم الهائل ممدودا، يبدو في الفستان اللامع الملتصق به، كفرس البحر؛ وكان الباشا مسندا رأسه إلى كتفها يحسبه من رآه لضآلة جسمه ونحافته وقصر قامته غلاما صغيرا، لولا شاربه الغليظ الطويل الذي يرسم مع جسمه الدقيق صورة صليب متساوي الأطراف على وجه التقريب.
ولم ير السائق بدا من إيقاظ سيده، فقال بصوت خافت: سعادة الباشا .. سعادة الباشا.
فلم يبعث نداؤه فيهما أي أثر للحياة، فرفع الرجل صوته قائلا: سعادة الباشا.
واستطاع نداؤه في هذه المرة أن يوقظه فتحرك رأسه، واضطرب شاربه كأنه جناحا نسر يخفقان، قال بلسان ثقيل متلعثم: من؟ - وصلنا يا صاحب السعادة. - وماذا تريد؟ - عفوا يا صاحب السعادة، تفضل بالنزول لتصعد إلى مخدعك.
ففتح الباشا عينيه المحمرتين وكأن النور اللطيف الذي ينير المكان آذاهما، فأغمضهما بسرعة وتحسس بيده ذراع زوجه العاري كأنه قربة مملوءة بالمياه، وقال بصوته الثقيل: يا هانم .. زينب هانم.
فشهقت المرأة شهقة قوية لو أصاب تيارها الباشا لابتلعته، وقالت بتبرم وسخط: من؟ - وصلنا. - وماذا تريد يا باشا؟ - تفضلي لنصعد إلى مخدعنا. - أصعد؟! .. أنا لا أستطيع أن أتحرك، فكيف لي بالصعود؟! - ما العمل؟ .. هل نقضي الليل في السيارة؟ - ولم لا؟ .. المقعد وثير لين كالفراش، وهاك ضجعة مريحة، فما معني التعب؟
فقال الباشا للسائق وهو ما يزال مغمض الجفنين: يا حسن .. اذهب أنت .. سننام ها هنا.
فارتبك السائق وقال بتحرج: العفو يا صاحب السعادة .. هذا غير طبيعي، وسيرى البواب في الصباح ويرى الخدم.
فانثنى إلى زوجه قائلا: يا هانم هذا غير طبيعي، وسيرى البواب في الصباح ويرى الخدم. - ومن الذي يكلمك؟ - السائق. - أف .. لا تضايقني .. ماذا يهمنا من البواب أو الخدم أو السائق؟
فقال الباشا للسائق بنفس اللهجة: أف .. لا تضايقني ... ماذا يهمنا من البواب أو الخدم أو السائق؟
فسكت الرجل، ولكن لم تطاوعه نفسه على الذهاب فوقف ينتظر، أما الباشا فأخرج منديله وجفف عرقه، وقال وهو يفك ربطة عنقه: الدنيا شديدة الحرارة.
فاعتدلت المرأة في جلستها، ولم تلبث أن صاحت: يا لطيف! - ما لك؟ - المقعد يميد بي كأني في أرجوحة!
وأرادت أن تمسك بشيء، فوقعت يدها المتخبطة على شارب الباشا فتألم الرجل، ونزع شاربه من كفها وهو يقول ضاحكا: دعي شاربي .. وهل تحسبينه حبل الأرجوحة؟ - أنا في غاية التعب. - شربت كثيرا يا زينب هانم .. شربت أكثر مما ينبغي لك! - وماذا كنت أستطيع أن أفعل سوى ذلك؟ الكل كان يشرب رجالا ونساء .. أنت نفسك شربت كثيرا يا باشا. - أنا متعود على الشرب يا هانم .. أنا أستطيع أن أشرب حانة كاملة في ليلة واحدة! - ومع ذلك لم تتمالك أعصابك الليلة .. وعلا صوتك بالضحك على غير عادتك، بل وضحكت مني أنا يا ناقص! - كيف ذلك؟ .. هذا مستحيل. - مستحيل! ألا تذكر ساعة خروجنا من البوفيه؟ .. كنت تسير ورائي فنظرت إلينا عديلة هانم، تلك المرأة الوقحة، وقالت: «كان الله في عون إبراهيم باشا؛ فهو زوج ومروض.» وضحك جميع المدعوين، وضحكت أنت أيضا! - أنا لا أذكر هذا. - طبعا لأنك لم تكن في وعيك، ومع ذلك فأنت تزعم أنك تستطيع أن تشرب حانه في ليلة واحدة .. أليس كذلك؟ ولكني انتقمت منك فضحكت منك مع الضاحكين بعد ذلك مباشرة. - وكيف كان ذلك؟ - كان جماعة من الحاضرين يتعجبون لنحافة قدك، فاعتذر الأميرالاي فتحي بك عن صغر حجمك بقوله: «إن شاربك الثقيل يعوق جسمك عن النمو.» فضحكت مع الضاحكات والضاحكين .. واحدة بواحدة. - يا له من ضابط وقح! - أنت المسئول عن جعلنا أضحوكة في كل مكان .. لماذا لا تقص شاربك؟ - أقص شاربي! هل جننت يا هانم؟! - وما وجه الجنون في هذا؟! .. إنه حمل ثقيل على جسمك الرقيق. - أيكون الرجل رجلا بجسمه؟! - أيكون رجلا بشاربه؟ - معلوم، انظري إلى مثلك، فأنت امرأة ولك جسم فيل .. ولكن هل توجد امرأة بشارب؟ - الحق أقول لك إني هممت مرة بقص شاربك في أثناء نومك .. لولا الخوف! - وما الذي أخافك؟ - أشفقت من أن يصبح زواجنا لاغيا. - ولمه؟ هل أنت زوجي أم زوج شاربي؟ - الحقيقة أنك بغير هذا الشارب تغدو غلاما لم يبلغ السن القانونية للزواج؟ - هذا هذر سكارى، والأولى بك أن تنحفي جسمك الهائل؛ فضخامته الشاذة هي المدعاة الحقيقية إلى السخرية .. ألم تري صديقاتك الليلة؟ .. كلهن نحيفات اللهم إلا راضية هانم، وهي على كل حال لا تزن نصف وزنك. - أنت المسئول عن وزني. - أنا؟!
نعم .. لأنك كنت دائما تؤكد لي أنك تحب اللحم العجالي والبقري .. وأنت تحتقر الوزن «الهايف»! .. وها أنت ذا تتملص من تبعاتك كما تفعل وأنت وزير! - ما شاء الله! .. هذا قول أعدائي السياسيين، وأرى أني أجحد في بيتي كما جحدت من قبل في ميدان السياسة الملعون، وأني خسرت الدنيا جميعا. - بل ربحت شيئا مؤكدا. - وما هو؟ - أنك صاحب مقام رفيع! - يا هانم أنت في سكرك كالحشاشين، والحق أنك تستأهلين رتبة .. ولكن لا أدري أي رتبة تناسبك .. فلأفكر قليلا .. ما رأيك في لقب الصدر الأعظم؟!
وهنا قطع حديث الزوجين طرق عنيف على باب القصر الخارجي ، وشق الصمت المخيم صوت منكر يصيح: يا بواب .. يا عم محمد.
فسكت الزوجان دهشة واعتدلا قليلا في جلستهما وأرهفا السمع، وخف السائق مسرعا إلى الباب ليرى ما هناك. •••
كان الشرطي المكلف بالحراسة الليلية يسير الهوينى في شارع العباس، ولما بلغ قصر الباشا سار بحذائه وعرج ملازما للسور إلى شارع الإلهامي، وانتبه من سهوه إلى حركة في أعلى السور، فنظر إلى مصدرها فرأى رجلا يقفز من الحائط ويسقط على بعد ذراع منه، وقد تولاه الذعر لظهور الشرطي المفاجئ، فتسمرت قدماه بالأرض .. وأسرع الحارس إليه وقبض على ذراعه بقسوة وهو يصيح به: يا ابن الملعون، أتحسب البلد بلا حكومة؟
وكان المقبوض عليه أفنديا أنيق الملبس، كشف نور المصباح الخافت في وجهه عن ملامح وديعة ونظرة أدنى إلى الرقة والجبن منها إلى الشر أو التحدي، ففحصه الشرطي بنظرة شديدة وهو يتحسس جيوبه، وقال له متهكما: إخالك لم تسرق سوى هذه البذلة!
فقال الشاب وهو يلهث من الاضطراب والخوف. - اتركني يا حضرة الشاويش، أنا لست لصا كما تتوهم. - عفارم عليك .. فمن تكون يا مولانا؟ - أقسم بالله العظيم أني لست لصا .. ولم أسرق في حياتي قط، وهاك جيوبي فتشها كما تشاء. - آه .. هل كنت في القصر زائرا إذن؟ - أنا .. من أهل القصر؟ - فهمت يا سيدي فهمت .. أنت ابن الباشا بلا شك، وما قفزك من السور إلا رياضة بدنية كنت تقوم بها في هذه الساعة المتأخرة من الليل! - بل أردت أن أخرج بسرعة. - وما الذي يدعو إلى الخروج بعد منتصف الليل؟ - سفر لا يقبل التأجيل. - أوليس للقصر باب؟ - لم أجد وقتا لإيقاظ البواب. - يا مغيث .. هذا حقا عصر السرعة .. وليس ببعيد أن أرى غدا من يقفز من نافذة الطابق الثالث أو الرابع؛ لأنه ليس لديه متسع من الوقت يهبط فيه السلم .. عوفيت يا سيدي عوفيت. - أراك لا تصدقني يا حضرة الشاويش .. أؤكد لك أني من أهل القصر .. غير أني استسهلت أن أقفز على هذا السور الصغير. - معلوم .. معلوم .. وليس الذنب ذنبك .. ولكن ذنب من يحتم تعليم الألعاب الرياضية والتدريب العسكري .. على أني أجد نفسي مضطرا إلى تأخيرك يوما أو عدة أيام وربما عدة أشهر.
قال ذلك ودفعه أمامه .. ولكن الشاب ألصق قدميه بالأرض وقال يتوسل: لست لصا .. لست لصا والله .. أنا من أهل القصر. - إذا كان ما تقوله حقا فما عليك إلا أن تدخل القصر مرة ثانية فأصدقك. - حسن، اترك ذراعي وسترى. - ادخل البيت من بابه .. تعال.
وساقه إلى باب القصر، وطرقه وهو ينادي البواب.
وأتى السائق على صوته مسرعا وأيقظ البواب، فقام الرجل ساخطا وفتح الباب، وأحدث ظهور الشرطي والمقبوض عليه دهشتهما، ونظرا إليهما متسائلين، فقال الشرطي: قبضت على هذا الشاب وهو يقفز من سور القصر، فادعى أنه من أهل الدار، فهل تعرفانه؟
فأضاء البواب المصباح الكهربائي، ونظر السائق إلى وجه الشاب الشاحب وقال مسرعا: هذه هي المرة الأولى التي تقع عليه عيناي.
وسأل البواب الشرطي: هل وجدت معه شيئا؟ - سيفتش في القسم.
وفي تلك اللحظة سمع صوت الباشا الثمل يصيح في سكون الليل: يا حسن، من عندك؟
فهرع السائق إلى الباشا، وطمع الشرطي في سماع كلمة ثناء من صاحب السعادة، فساق الشاب أمامه وتبع السائق، وقال حسن لسيده: قبضوا يا صاحب السعادة على لص يقفز من سور القصر.
فقام الباشا واقفا وغادر السيارة وهو يقول: كيف؟ دي لولو كانت في البيت وحدها.
وهرع نحو الباب الداخلي، وتبعته زوجته في تعثر ظاهر، وكان الباشا يصيح: لولو .. لولو!
وفتح الباب، وظهرت غادة جميلة في لباس النوم الأبيض الشفاف، أشرقت في الظلماء كالشمس ناشرة في الجو عطرا يفعل في الأعصاب فعل الموسيقى العذبة، فصاح الوالدان: الحمد لله .. هل أنت بخير يا لولو؟
فأجابت بصوت له في الأذن وقع العطر في الأنف: نعم يا ماما، ماذا حدث؟
فقال الباشا: قبضوا على لص يقفز من سور القصر.
فخفق قلب الفتاة، وقالت بصوت متهدج: لص! - ألم تسمعي حركة؟ - كلا. - الحمد لله.
وسار الباشا إلى حيث يوجد اللص والشرطي والسائق والبواب، وتبعته زوجته ولولو، ورأت الفتاة وجه المقبوض عليه على ضوء المصباح الهادئ فاشتد خفقان قلبها، وزاغت عيناها، وخفضت بصرها ذاهلة مضطربة.
وقال الشرطي: يدعي هذا المجرم أنه من أهل البيت يا صاحب السعادة.
فأنعمت زينب هانم النظر في وجه الشاب بعينين أطفأت الخمر نورهما وقالت: كذب .. هذا لص جريء.
ولكن ساورها الشك في صحة بصرها، فمالت إلى زوجها وسألته بصوت خافت: أليس كذلك يا باشا؟
فنظر الباشا إلى الشاب بعينين ذاهلتين كعيني زوجه وقال: بلى .. بلى .. هذا لص ولا شك.
ثم مال على أذن لولو وسألها: أليس كذلك يا لولو؟
ولم تجب الفتاة، أو على الأصح لم تسمع السؤال، فسأل الباشا السائق: هل تعرف هذا الشاب يا حسن .. هل هو من أهلنا؟!
وكان السائق يختلس من لولو نظرات ملتهبة ويراقبها بارتياب، فقال بانفعال: هذا لص مجرم يا صاحب السعادة.
فقال الباشا للشاب بلسان متلعثم ثقيل: كيف تسول لك نفسك ادعاء قرابتي؟! - لست لصا يا صاحب السعادة. - فما كنت تفعل هنا؟ - لا أدري يا صاحب السعادة. - ما شاء الله .. هل سقطت من طائرة في حديقتي؟ - كلا يا سعادة الباشا .. ولكني وجدت نفسي بغتة في الحديقة .. لا أدري كيف ساقتني قدماي إلى هنا!
فقال الشرطي: ستجد نفسك في السجن إن شاء الله.
وغضب الباشا لمقاطعة الشرطي، وقال له بعنف: يا عسكري .. لا تقطع علي التحقيق.
فقال الشرطي بسرعة: حاضر يا أفندم.
وسأل الباشا الشاب: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ - أنا آسف يا صاحب السعادة، كنت سكران، وقادتني قدماي إلى هنا من غير أن يراني أحد، ونمت على الحشائش بضع ساعات، ثم استيقظت في حالة أدنى إلى الوعي والانتباه، فأدركت خطئي، وحاولت إصلاحه بالهروب فوقعت في يدي الشرطي .. لست لصا .. فتشوني فلن تعثروا على شيء. - وماذا شربت؟
وكان السائق في حالة سيئة من الغيظ والحنق فقال: هذا لص كذاب يا صاحب السعادة، وينبغي أن نسوقه إلى القسم.
ولكن الباشا انتهره قائلا: لا تقاطع التحقيق.
وسأل الباشا وهو يهز رأسه بدهاء: ماذا شربت؟ - ويسكي يا صاحب السعادة.
فسألته زينب هانم: بالصودا؟ - نعم.
فمالت المرأة على زوجها وهمست: انظر إلى فعل الويسكي بالصودا.
فرد عليها بصوت خافت: نعم .. الويسكي بالصودا شراب ملعون.
ثم دنا من الشاب وهو يقول: دعنا نفتشك أولا.
فاستسلم الشاب إليه، ودس الباشا يديه في جيوبه، ولم يجد سوى حافظته، فأراد تفتيشها، ولكن الشاب لم يمكنه منها، وأثارت مقاومته شكوك الحاضرين، فقبض الشرطي على يديه بقسوة وأخذ الباشا الحافظة، وكانت لحقت به زوجته وابنته، وأخرج محتوياتها، وكان بها ورقة من ذات الجنيه وعدة بطاقات وصور صغيرة، ولاحت منه نظرة عارضة إلى الصور، فأيقظت انتباهه وشحذت بصره، فنظر إليها بإمعان فرأى صورة لولو، ولولو بذاتها، هل يصدق عينيه .. أم إنها الخمر؟ .. ونظر إلى زوجته يستعين بعينيها، فرأى بهما دهشة وإنكارا، والتفت إلى لولو فرآها تتسحب بخفة وتعود إلى القصر تسير بخطوات متئدة غير مبالية بشيء.
وسمع الشرطي يسأل بصوته الغليظ: هل وجدت بها مسروقات يا صاحب السعادة؟
فرد محتويات الحافظة إلى موضعها، وأعادها إلى صاحبها وهو يقول بلسانه المتلعثم: كلا، ما بها يخصه دون غيره.
وكان السائق على بعد قريب من مولاه، فاستطاعت عيناه الحادتان أن تريا، فارتد إلى حالة جنونية من الغضب والغيظ، وقال لسيده بصوت متهدج: إن عدم العثور على شيء معه لا يبرئه بحال، وهو ولا شك قد حاول السرقة فلم يفلح.
فقال الباشا: سأتحقق مما إذا كان سكران.
ومال على فم الشاب يشمه ثم قال: الآن حصحص الحق .. هذا الشاب سكران بغير شك.
فكاد السائق يجن، وقال بغضب: العفو يا صاحب السعادة، العادة أن الإنسان إذا كان شاربا لا يشم الخمر في أفواه الآخرين!
فانتفخ الباشا غضبا، وفتل شاربه بغطرسة، وصاح بالسائق: أنا شارب يا كلب! - العفو يا صاحب السعادة .. أنا أعني ... - لا أقبل منك كلاما يا سفيه، لقد قضت سفاهتك على أسباب رزقك في هذا البيت. يا عسكري، دع هذا الشاب لي الآن وخذ هذا الوقح خارجا.
وصدع الشرطي بما أمر، وخلا المكان إلا من الباشا وزوجته والشاب.
قال الباشا للشاب بلهجة تنم عن التهديد والوعيد: ألا تعرف من أنا؟ - أعرف طبعا يا صاحب السعادة. - فكيف إذن تسول لك نفسك انتهاك حرمة بيتي؟ - أنا غايتي شريفة يا صاحب السعادة. - وهل يوجد شرف بعد منتصف الليل؟
وسألته السيدة: ما صناعتك؟ - موظف. - هذا يعني أنك صعلوك. - صعلوك! - نعم .. إن الكاتب الحقير الذي لا يجد له وظيفة تشرفه يطبع على بطاقته كلمة موظف، وهي لا تعني في الواقع إلا أنه كاتب حقير .. أليس كذلك؟ - ...؟ - في أي وزارة؟ - المساحة. - ما شاء الله؟ .. وما هي مؤهلاتك؟ - ...! - ما هي مؤهلاتك؟ أجبني! - البكالوريا. - يا خبر أسود .. وماهيتك؟ - ...! - وماهيتك .. أتوسل إليك أن تجيبني؟ - ستة جنيهات! - عال .. ولماذا تحب ابنة الباشا؟ - سيدتي ... - لماذا لم تحب ابنة كلب من طبقتك.
وتنهد الباشا من قلب مكلوم وقال للشاب: تفضل مع السلامة.
وصعد الزوجان إلى مخدعهما وقد نال التعب منهما كل منال، فارتمى الباشا على «الشيزلنج»، واستلقت السيدة على الفراش، وكانا واجمين حزينين.
وتنهد الباشا وقال لها: أيعجبك هذا؟ - أنت دائما تلقي علي تبعة كل شيء. - أنا رجل ينوء بعبء ثقيل، سواء في الوزارة أو مجلس الشيوخ أو الشركات؛ فأنت وحدك المسئولة عن فساد أخلاق بناتك. - لا تتكلم يا سيدي عن بناتي بهذه اللهجة التي لا أقبلها بحال .. إني أعلم أنهن أشرف النساء جميعا! - إذن أنت ترضين عن هذه الأفعال الشائنة؟
ألا ترين أن مأساة الأخت الكبرى تتكرر؟ تلك الفتاة البائسة التي أردت أن أزوجها من طبيب كبير فوقعت في غرام صعلوك متشرد ممن يسمونهم بالموسيقيين. - لا تتكلم عن صهرك بمثل هذه الألفاظ؛ فليس هو الآن بالصعلوك ولا المتشرد، ولكنه مفتش موسيقي محترم بوزارة المعارف! - أنا الذي عينته في هذه الوظيفة التي هو غير أهل لها بحال .. أنا الذي خلقته. - اخلق هذا أيضا من أجل لولو. - ولكنه غير قابل للخلق .. لقد كان الأول مغنيا فاستطعت أن أصنع منه مفتشا للموسيقى وإن كان لا يفقه شيئا في الموسيقى، ولكن ما عسى أن أصنع بهذا وكل مؤهلاته البكالوريا؟ الأوفق أن نطرده! - ليت ذلك ممكنا .. ولكنك تعلم أن لولو عنيدة صلبة الإرادة ، فلنوار سوأتنا ونصنع منه شيئا. - مهما فعلت فلن يكون أكثر من كاتب. - حنانيك يا باشا، هل شح الزمان حتى تتزوج ابنة واحد باشا مثلك ووزير سابق (ووزير لاحق إن شاء الله) من كاتب؟! - وما ذنب الزمان إذا كانت ابنة الباشا مجنونة مثل لولو؟ - دع أحاديث الغضب جانبا، وقل لي: ألا يمكن إلحاقه بأي وظيفة في مفوضية أو قنصلية؟ - مفوضية أو قنصلية؟ .. أهذا كلام يقال على واحد كل مؤهلاته البكالوريا؟ - أف .. أنا أعلم جيدا أنك متعب، ومهما يكن من أمر فينبغي ألا تكون درجته أقل من السادسة، وألا تقل ماهيته عن خمسة عشر جنيها .. وأمامك أصدقاؤك الوزراء، فليختره أي واحد منهم سكرتيرا له. - ليس الأمر سهلا يا هانم كما يبدو لك؛ فالصحف تقف بالمرصاد للمحسوبيات والاستثناءات. - وهل يرضي الصحف أن تتزوج ابنة واحد باشا من كاتب بستة جنيهات؟ - إن للصحافة هموما لا تدع لها وقتا للتفكير في مسألة زواج لولو! - إن مستقبل لولو لفوق الصحافة وهمومها، فينبغي أن تخلق هذا الشاب من جديد. - هل كتب علي أن أخلق كل يوم شابا من جديد؟ - أرجو أن تذكر أنك كنت موظفا بائسا حين تزوجتك، وأنه لولا المغفور له والدي ... - إن أباك لم يخلقني، ولكنه أتاح الظروف المناسبة لعظمتي الكامنة. - صه .. لولا أبي لكنت الآن موظفا بالدرجة السابعة على أكثر تقدير. - أبهذا الكلام تدافعين عن ذوق بناتك القذر؟ - معلهش يا باشا، إنهن ورثن عني ذلك الذوق الذي حملني فيما مضى على الزواج منك. •••
وكان السائق هائجا غاضبا، يلعن ويتوعد، والشرطي يهدئ روعه ويعزيه عن «قطع عيشه» بكلمات لا تغني، وقد قال له: أنت مخطئ يا حسن .. لماذا تدخل فيما لا يعنيك؟
قال محتدا: أهذا رجل؟ - وما الذي يغضبك أنت؟ إنها ابنته لا ابنتك.
ثم غمز بعينه وتساءل: أم هناك سبب آخر لهذا الغضب؟ .. أهو غضب أم غيرة يا شيطان؟!
فلما لم يرد عليه الجواب قال له وهو يودعه: معلهش يا حسن؛ فالحق أن الباشا لم يعرف يربي غير شنبه.
الجوع
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه، فلم تعد الخسارة تهز أعصابه أو تكرب نفسه، كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكئوس وقذف الدعابات، ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء، ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لخمار دار برأسه، فرغب في تنسم هواء الخريف الرطيب في الخارج ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا وغادر النادي، وكان الطريق كالمقفر والجو لطيفا منعشا، فسرت منه إلى رأسه الساخن الدائر قرة وسكينة، فجد في السير مصفرا صفيرا خافتا وأحيانا مترنما، لغير غاية، وانحرف إلى الطريق المؤدي إلى قنطرة قصر النيل، وبصر بها في نهايته فانشرح صدره وحث خطاه؛ فلما بلغها مضى يسير الهوينى التماسا لمزيد من الراحة والانتعاش، ولم يكن يقطعها في تلك الساعة إلا السيارات المنطلقة في فترات متقطعة، إلا أنه حين بلغ ثلثها الأخير لاحت منه التفاتة إلى الجانب الأيسر منها، فرأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر ينحني متقوسا على سور القنطرة ملقيا برأسه إلى النهر فلم يلق إليه بالا، ومضى إلى نهاية القنطرة، ولم يجد رغبة للتوغل فيما وراءها فتحول إلى الجانب الأيسر ليعود من حيث أتى، وكان الرجل ما زال في تقوسه واستغراقه إن لم تكن أسكرته نسائم الهواء الرطيب فتسلل النوم إلى جفنيه .. ولما صار منه على بعد قريب رآه يقفز بحركة مباغتة إلى أعلى السور، ثم توثب كأنما ليلقي بنفسه إلى النيل، فاندفع نحوه بسرعة جنونية وأدركه في اللحظة الفاصلة، فأمسك بيسراه وجذبه إلى الخلف بشدة، فسقط على الإفريز عوضا عن أن يسقط في النهر، وبلغ منه الانفعال، وتدافعت أنفاسه، وتفرس وجه الرجل الذي هانت عليه الحياة فرآه يحدجه بنظرة جامدة ووجه مكفهر، وقد لاح لعينيه هزاله ورثاثته وشدة اصفرار وجهه، فصاح به: ماذا كنت فاعلا بنفسك؟
فلم ينبس بكلمة، وظل على جموده واكفهراره، وتمالك الوجيه عواطفه فعجب لما يدفع مثل ذلك الرجل إلى الانتحار وهو لا يعلو على الحيوان - والحيوان في العادة لا ينتحر - فسأله: هل كنت حقا تروم الانتحار؟ لماذا؟ .. دعني أشم فمك، هل أنت ثمل أم مجنون؟ .. تكلم يا حيوان.
فقال الرجل بصوت مبحوح دل على الحقد والاستهانة: أنا جائع.
فنظر إليه كالمرتاب وقال: كذبت .. إن الكلاب الضالة تجد قوتها .. ولن أصدق أن إنسانا يموت جوعا في هذا البلد .. ولكن هل تدمن الحشيش أو المنزول؟
فقال بنفس اللهجة: لك عذرك .. فإنك لم تعرف الجوع .. هل ذقت الجوع؟ .. هل بت ليلة بعد ليلة تتلوى من عض أنيابه؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك من نهشة أمعدتهم؟ .. هل رأيت صغارك يوما يمضغون عيدان الحصيرة ويأكلون طين الأرض؟ .. تكلم يا إنسان .. وإذا لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تحول بينهم وبين الخلاص من غائلة الجوع؟
فامتعضت نفسه، وسأله بلهجة لم تخل من شك: أتعني حقا أن لك زوجا وأطفالا؟
ففطن الرجل إلى بواعث شكه، وعبس وجهه امتعاضا وقال: كنت يوما قادرا على الزواج والإنفاق .. كنت عاملا بمصانع عبد القوي شاكر.
وأحدث الاسم في نفس الوجيه هزة عنيفة لأنه اسم والده، وكان يوشك أن يسأم ويضجر، فاسترجع اهتمامه وسأل الرجل: هل حقا كنت عاملا مرتزقا؟! - نعم .. وبلغت يوميتي ستة قروش .. وكنت محترما ومحبوبا، وكفلت الحياة لزوجي وأمي وأطفالي الستة، بل كنت أعظم جلدا من البك صاحب المصانع العظيمة؛ لأني تعودت الرضا والقناعة حيث جعل يتذمر ويشكو سوء الحال ويعتل بالعلل لقطع رزق البعض والتقتير على البعض الآخر .. لم تكن الحياة رغدا ولا يسرا .. ولكنها كانت مشقة بالرجاء والأمل.
وأمسك الرجل عن الكلام كأن استرجاع الذكريات الحلوة استنفد البقية الباقية من حيويته وقواه، فجزع الوجيه وقال له: هيه .. وكيف انقلب بك الحال إلى هذا المصير؟
فرفع يمناه إلى أعلى فتدلى كم الجلباب الممزق كأنه لا يوجد فيه ما يمسك به، وبرز من أحد خروقه بقية عضده كأنه رجل أريكة تداعت وأكلها التقادم، وأشار إليها بيسراه وقال: أرأيت إلى هذا؟ .. لقد هوت الآلة الجبارة على ذراعي وأنا منشغل عنها بما بين يدي فلن تبق منه إلا على ما ترى، وأطاحت بالجزء النافع الذي أكسب به قوتي، فجعلتني في ثانية شيئا تافها عن الحاجة .. ولما تماثلت للشفاء مضيت إلى البك صاحب المصنع منكسر الفؤاد مفعم النفس بالقنوط، فتلقاني آسفا وأعلن أني قطعت ذراعي من جراء إهمالي، فقلت له إنه القضاء الذي لا يرد، فهز رأسه آسفا وتصدق علي بمبلغ يسير، فقلت له إن هذا المبلغ نافد عاجلا أو آجلا، وإني وأسرتي سنموت جوعا إذا لم تدركنا رحمته .. فوعدني أن يتصدق علي بثلاثين قرشا كل شهر .. وكان هذا أقصى ما ظفرت به منه، وأدركت أن حياتي دمرت تدميرا، وأني وأمي وزوجي وأطفالي الستة قد ألقي بنا إلى الفقر والجوع .. ولشد ما وجدت الحياة قاسية لا رحمة فيها .. فتجرعت مرارتها قطرة فقطرة، وهمت على وجهي في الطرقات أسأل السابلة مستدرا رحمتهم بعرض بقية عضدي على أنظارهم، متلهفا على الملاليم وكسر الخبز. وعلم الله أني كنت ذا حياء وأنفة، وأن إماتة هذه العاطفة النبيلة كلفني ما لا أطيق من الألم والخجل، واشتدت وطأة العيش فبعت الضروري من أثاث حجرتنا بثمن بخس، وتمزقت ثيابنا وتعرى الأطفال .. وتهالكنا من الجوع .. وكان أقسى ما في حياتنا صراخ الأطفال وعويلهم وشكواهم؛ فجوع دهر طويل أخف على نفسي من قول طفلي وهو يتطلع إلي كالمستغيث ودموعه منهمرة: «أبتي .. أنا جائع.» ولاحقتني هذه الآلام فجعلت صدري جحيما، وبغضت لي الدنيا، وولدت في قلبي شعور المقت والحقد، وتضاعف إحساسي بعجزي وهواني حتى قال صاحب ممن جمعنا الجوع في ميدان واحد: «ما لك تكلف نفسك ما لا تطيق من الهم كأنك امرأة مترفة تأكل كل يوم رطل لحمة .. سيتحجر قلبك ويصبح الجوع مستملحا، فتجيب ابنك إذا شكا إليك الجوع كما أجيب ابني .. بلطمة تنسيه الجوع.»
وسكت الرجل وقد بلغ منه الإعياء والتأثر، وبدأ الوجيه يضجر مرة أخرى ويفكر في حل للعقبة التي اعترضت سبيله ليتخلص منها على وجه مرض، فسأل الرجل: أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟
فقال الرجل وهو يهز رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر:
الأطفال نائمين هادئين، فاستولت علي الدهشة كيف نزلت عليهم السكينة؛ هل تعودوا الجوع فما عاد يقرصهم؟! .. وكانت زوجي وأمي نائمتين أيضا، فأيقظت أكبر الأطفال وأدنيته مني، وما إن أفاق من ذهول النوم حتى اندفع يقول لي فرحا: «أكلنا عيشا ساخنا.» فسألته: «من أتى به؟» فقال: «عم سليمان الفران.» فنفذ الاسم إلى صدري المتهالك كالرصاصة، وشددت قبضة يدي على ساعده، وسألته وقد طالعت في وجهه أثر ما لاح في وجهي من التغيير: «وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتى بنفسه إلى هنا؟» فقال: «أرسلها مع غلامه.» فلم أرتح إلى جوابه على الرغم أنه لم يحقق شكوكي، ودفعته ساخطا غاضبا، واستقر بصري على وجه زوجي وقد تملكني الحنق وتخايلت لعيني أشباح مخيفة. لقد امتلأت عيناها بالنوم بعد أن امتلأ بطنها .. بعد أن ملأها الوغد الذي خطب ودها فيما مضى وراجعه هواه فسعي يحذق إلى استغلال ما تعاني من الشقاء والجوع. إني أدرك كل شيء، وأدركه بمشاعري التي نشأت عليها ولم يظفر الجوع بإماتتها بعد .. إنها ما تزال حية في صدري تبعث في نفسي الغيرة وفي قلبي الغضب .. وتشبعت أفكاري بروح الجريمة والعدوان .. هل أنقض على المرأة النائمة فأكتم أنفاسها؟ كانت رغبتي في الفتك عظيمة جبارة، ولكن لاحت مني التفاتة إلى الأطفال فترددت. من لهم بعد أمهم وأبيهم؟ وتخاذلت وتداعت إرادتي .. ونفست عن غضبي فركلتها بعنف وغادرت الفناء وصراخها الفزع يلاحقني، ثم همت على وجهي في الطرق التي أتسول فيها .. وجعلت أتخبط على غير هدى .. وعاودتني أفكار العدوان .. هل أرجع إلى الفرن وأثب على عم سليمان وثبة الهلاك، أم أرصد عبد القوي بك وأطعنه طعنة قاتلة؟ .. ولكن ما أعجزني .. فقدت يمناي ودب الإعياء في جسمي وأطرافي وتضعضعت حواسي، ثم بلغت بي قدماي هذا المكان ورأيت النهر الجاري في وحشة الليل فانجابت عني الوساوس، وأدركت للحال كيف ينبغي أن أنهي الحياة، وخلت أن النيل ضالتي المنشودة، وكأن قضاء إلهيا هداني إليه ليدلني على سبيل الخلاص والراحة، واستولت علي فكرة الموت واستبدت بي، وتفكرت في عجزي وضعفي وجوعي، وفي عذاب أطفالي وشقائهم، فحمدت الله على أني لم أطع غضبي وأقتل زوجي، وقلت لنفسي إنني إذا اختفيت من حياتها فلن يعييها إطعام الأطفال، ليكن معهم سليمان أو غيره، أما أنا فلا، وما علي إلا أن أوجه غضبي إلى نفسي فتكون الضحية .. وألقيت بناظري إلى النهر طويلا، واستسلمت لليأس، ثم توثبت لألقي بنفسي، ولكنك حلت بيني وبين ما أريد. هذا كل ما هنالك، فهل أدركت الآن أي شر فعلت؟
وكان الوجيه يصغي إلى الرجل مصطبرا ويعمل فكره، فسأله: هل إذا تركتك الآن تعود؟
قال الرجل بهدوء وتصميم: إن شاء الله.
فضحك الوجيه، وكان قد بت في المسألة برأي قاطع، وبحث في جيوبه عن نقود فضية فعثر بقطعة ذات عشرة قروش، فدسها في يد الرجل وقال: استعن بهذه على إصلاح أمرك، وإذا طلع عليك صباح الغد فتوجه من فورك إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه، وستجدني هنالك في انتظارك، وهاك بطاقة تقدمها لمن يعترض سبيلك.
وأعطاه البطاقة، ودفعه عن السور وهو يقول: أجل عزمتك؛ فما يزال لديك متسع من الأمل، وسأجد لك عملا كبواب أو خادم أو ما شاكل ذلك .. تقدم وعد إلى رشدك .. ولكن خبرني قبل أن أنسى ما اسمك.
وجعل الرجل ينظر إليه بعينين ذاهلتين كأنه لا يصدق أذنيه. ولما سأله عن اسمه قال بصوت غريب: «إبراهيم حنفي.» فدفعه الشاب مرة أخرى: افعل ما أمرتك به يا إبراهيم .. سلام عليك.
وتحول عنه ومضى في طريقه متفكرا .. يعجب كيف أنه أتى في الوقت المناسب ليعفي أباه من وزر ثقيل. وكان ينطوي في قرارة نفسه على سذاجة، فأيقن أن ما ساقه إلى الرجل في الوقت المناسب شيء أكبر من المصادفة، فأثلج صدره وشعر بارتياح وطمأنينة.
ولكن فكرة خطرت له بباله فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجد في السير.
ولكن فكرة خطرت له بباله، فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجد في السير:
أخسرها كل ليلة في النادي؟!»
بذلة الأسير
كان «جحشة» بائع السجائر أول السابقين إلى محطة الزقازيق حين اقترب ميعاد قدوم القطار، وكان يعد المحطة بحق سوقه النافقة، فيمضي على الإفريز في نشاط منقطع النظير يتصيد الزبائن بعينيه الصغيرتين الخبيرتين. ولعل «جحشة» لو سئل عن مهنته للعنها شر لعنة؛ لأنه كغالبية الناس برم بحياته، ساخط على حظه. ولعله لو ملك حرية الاختيار لآثر أن يكون سائق سيارة أحد الأغنياء، فيرتدي لباس الأفندية ويأكل من طعام البك، ويرافقه إلى الأماكن المختارة في الصيف والشتاء مؤثرا من أعمال الكفاح في سبيل القوت ما هو أدنى إلى التسلية والملهاة. على أنه كانت له أسبابه الخاصة ودواعيه الخفية لإيثار هذا العمل وتمنيه من يوم أن رأى «الغر» - سائق أحد الأعيان - يتعرض للفتاة نبوية خادم المأمور في الطريق ويغازلها بجسارة وثقة، بل سمعه مرة يقول لها وهو يفرك يديه حبورا: «سآتي قريبا ومعي الخاتم.» ورأى الفتاة تبتسم في دلال وترفع طرف الملاءة عن رأسها كأنها تسويها. والحقيقة أنها أرادت أن تبدي عن شعرها الفاحم المدهون بالزيت .. رأى ذلك فالتهب قلبه، وأحس الغيرة تنهشه نهشا موجعا. وكان به من عينيها السوداوين أوجاع وأمراض، وكان يتبعها عن كثب ويقطع عليها السبيل في الذهاب والإياب، حتى إذا خلا بها في عطفة أعاد على أذنيها ما قال لها الغر: «سآتي قربيا ومعي الخاتم.» ولكنها لوت عنه رأسها وقطبت جبينها وقالت باحتقار: «هات لك قبقاب أحسن.» فنظر إلى قدميه الغليظتين كأنهما بطنا بخفي جمل، وجلبابه القذر، وطاقيته المعفرة، وقال: «هذا سبب شقائي وأفول نجمي.» ونفس على «الغر» عمله وتمناه .. على أن آماله لم تقطعه عن مهنته، فثابر على كده قانعا من آلامه بالأحلام. وقصد في ذلك الأصيل إلى محطة الزقازيق يحمل صندوقه وينظر القادم، ونظر إلى الأفق فرأى القطار قادما من بعد كأنه سحابة دخان، وما زال يدنو ويقترب وتتميز أجزاؤه ويتصاعد ضجيجه حتى وقف على إفريز المحطة، وهرع «جحشة» إلى العربات المتراصة، فرأى - لدهشته - على الأبواب حراسا مسلحين ووجوها غريبة تطل من النوافذ بأعين ذاهلة منكسرة. وتساءل الخلق، فقيل لهم بأن هؤلاء أسرى الإيطاليين الذين تساقطوا بين أيدي عدوهم بغير حساب، وأنهم يساقون الآن إلى المعتقلات.
فوقف «جحشة» متحيرا يقلب عينيه في الوجوه المغبرة، ثم أدركته الكآبة لأنه أيقن أن تلك الوجوه الشاحبة الغارقة في البؤس والفقر لن يكون في وسعها إشباع نهمها من سجائره .. ووجدهم يلتهمون صندوقه بشراهة وجوع، فألقى عليهم نظرة سخط واحتقار، وهم أن يوليهم ظهره ويعود من حيث أتى، ولكنه سمع صوتا يصيح به بالعربية بلهجة إفرنجية قائلا: سجائر.
فحدجه بنظرة دهشة وريبة، ثم فرك سبابته بإبهامه: أي نقود. ففهم الجندي وأومأ برأسه، فاقترب محاذرا ووقف على بعد لا تبلغه يد الجندي، فخلع الجندي جاكتته بهدوء وقال له وهو يلوح بها: هذه نقودي.
فتعجب «جحشة» وتفرس في الجاكتة الرمادية ذات الأزرار الصفراء بين الدهشة والطمع، ووجب قلبه، ولكنه لم يكن ساذجا أو مغفلا فأخفى ما قام بنفسه أن يقع فريسة جشع الإيطالي، وأبرز في هدوء ظاهري علبة سجائر، ومد يده ليأخذ الجاكتة، فقطب الجندي جبينه وصاح به: علبة واحدة بجاكتة؟ هات عشرا.
فذعر جحشة وتراجع إلى الوراء وقد غاض طمعه، وأوشك أن يأخذ في غير السبيل، فصاح به الجندي: أعطني عددا مناسبا .. تسعا .. أو ثماني.
فهز الشاب رأسه بعناد، فقال الجندي: إذن سبعا.
ولكنه هز رأسه كما فعل في الأولى، وتظاهر بأنه يعتزم المسير، فقنع الجندي بست ثم هبط إلى خمس، فلوح «جحشة» بيده متظاهرا باليأس، وتراجع إلى المقعد وجلس، فصاح به الجندي المجنون: تعال، رضيت بأربع.
فلم يلق إليه بالا. وليدله على عدم اكتراثه أشعل سيجارة ومضى يدخن في تلذذ وهدوء، فثارت ثائرة الجندي وأهاجه الغضب، وبدا وكأنه ليس له غاية في الوجود سوى الاستيلاء على سجائر، فهبط بطلبه إلى ثلاث ثم إلى اثنتين، ولبث «جحشة» جالسا يغالب اضطرام عواطفه وأوجاع طمعه. ولما نزل الجندي إلى اثنتين أبدى حركة بغير إرادة رآها الجندي، فقال له وهو يمد يده بالجاكتة: هات.
فلم ير بدا من النهوض، ودنا من القطار حتى أخذ الجاكتة وأعطى الجندي العلبتين، وتفرس الجاكتة بعين جذلة راضية، وقد لاحت على شفتيه ابتسامة ظفر، ووضع الصندوق على المقعد، وارتدى الجاكتة وزررها فبدت فضفاضة، ولكنه لم يعن بذلك، وتاه عجبا وسرورا، واسترد صندوقه، وأخذ يقطع الإفريز فخورا طروبا، وارتسمت لعينيه صورة نبوية في ملاءتها اللف فقال متمتما: لو تراني الآن! نعم لن تتجافاني بعد اليوم، ولن تلوي وجهها عني احتقارا، ولن يجد «الغر» ما يفخر به علي، ولكنه ذكر أن الغر يرتدي بذلة كاملة لا جاكتة مفردة، فكيف السبيل إلى البنطلون؟ وفكر مليا، وألقى على رءوس الأسرى المطلة من نوافذ القطار نظرة ذات معنى، ولعب الطمع بقلبه من جديد فاضطربت نفسه بعد أن أوشكت أن تستقر، ودلف إلى القطار ونادى بجرأة: سجائر. سجائر. العلبة بمنطلون لمن ليس معه نقود .. العلبة بمنطلون.
وأعاد نداءه مثنى وثلاث، وخشي أن يغيب عن الأفهام مقصده فمضى يومئ إلى الجاكتة التي يرتديها ويلوح بعلبة سجائر، وأحدثت إيماءته الأثر المرجو فلم يتردد جندي أن يهم بخلع جاكتته، ولكنه سارع نحوه وأومأ إليه أن يتمهل، ثم أشار إلى بنطلونه يعني أن ذلك بغيته، وهز الجندي منكبيه باستهانة وخلع البنطلون وتم التبادل. وقبضت يد «جحشة» على البنطلون بقوة يكاد يطير من الفرح، وتقهقر إلى مكانه الأول وأخذ يرتدي البنطلون، وانتهى في أقل من دقيقة فصار جنديا إيطاليا كاملا .. ترى هل ينقصه شيء؟ المؤسف حقا أن هؤلاء الأسرى لا يغطون رءوسهم بالطرابيش .. ولكنهم يضعون أقدامهم في أحذية، ولا غنى عن حذاء ليتساوي بالغر الذي يكرب حياته. وحمل صندوقه وهرع إلى القطار وهو يصرخ: سجائر .. العلبة بحذاء .. العلبة بحذاء.
واستعان على التفاهم بالإشارة كما فعل في المرة الأولى، ولكنه قبل أن يظفر بزبون جديد آذنت صفارة القطار بالمسير، فتمخضت عن موجة نشاط شملت الحراس جميعا. وكانت سحائب الظلام تغشى جوانب المحطة، وطائر الليل يحلق في الفضاء، فتوقف جحشة وفي نفسه لوعة، وفي عينيه حسرة وغيظ. ولما أخذ القطار يتحرك لمحه حارس في عربة أمامية فبدا على وجهه الغضب، وصاح بالإنجليزية ثم بالإيطالية: اصعد بسرعة. اصعد أيها الأسير.
فلم يفهم «جحشة» ما يقول، وأراد أن ينفس عن صدره فجعل يقلده في حركاته مستهزئا مطمئنا إلى بعده عن متناول يده، فصاح به الحارس مرة أخرى والقطار يبتعد رويدا رويدا: اصعد .. إني أحذرك .. اصعد.
فزم جحشة شفتيه احتقارا وولاه ظهره وهم بالمسير، فكور الحارس قبضة يسراه مهددا وصوب بندقيته نحو الشاب الغافل .. وأطلق النار. ودوي عزيف الرصاصة يصم الآذان وأعقبتها صرخة ألم وفزع، وتصلب جسم «جحشة» في مكانه فسقط الصندوق من يده، وتناثرت علب السجائر والكبريت، ثم انقلب على وجهه جثة هامدة.
نحن رجال
كانت عطفة شنكل من زينتها في حلة باهرة؛ فسماؤها أعلام خضراء وثريات حمراء وبيضاء، وأرضها رمال صفراء، وعلى مدخلها أقيم قوس من سعف النخل والورد والرياحين، وقد راحت جماعات الغلمان الحفاة تعدو لاهية عابثة بين قوس الاستقبال وباب آخر بيت في العطفة أسبغت الزينات على جدرانه الباهتة المتداعية بهاء وجدة، فدل الحال على أن القوم يحتفلون بعرس أو ختان أو عودة حاج. وقبيل الغروب بدت عند منعطف الطريق طلائع موكب مكون من عربات ثلاث عقدت على مقدم أولاها هالات الورود والأزهار، وطوقت أعناق جيادها بأهلة من الرياحين، واقترب الموكب يتهادى حاملة عرباته الرجال الأشداء ذوي العمائم البيض والجلابيب الفضفاضة والعصي الغليظة حتى وقف أمام العطفة، وكان يتوسط القعود في العربة الأولى شاب في مقتبل العمر غزير الشارب يرتدي جلابية حريرية بيضاء ويعصب رأسه بلاسة وقطائم، فنهض في خيلاء وغادر العربة معتمدا على عصا عجراء، فأقبل نحوه المنتظرون محتفين يسلمون عليه ويقولون بلسان واحد: مبارك يا معلم جعدة .. ربنا يزيد ويبارك يا معلم.
وانطلق الغلمان يهتفون منشدين: «يا ابن عطفتنا يا جعدة ...» وقد تعالت الزغاريد من أبواب البيوت المتداعية ومن وراء خصاص النوافذ، وتلقى القادم التحيات بابتسام وزهو، وسار في شبه دائرة من الصحاب متبخترا مرحا لا تسعه الدنيا من السرور والغبطة.
لم يكن المعلم جعدة عريسا ولا مختونا ولا حاجا، كان في الحقيقة عائدا من السجن، وليس عليه في ذلك من بأس؛ فما من فتى من فتيان عطفة شنكل إلا وقد زار السجن مرة أو أكثر، ولكن جعدة وحده الذي شق سبيله إلى الجاه والثروة؛ فإذا كانت شنكل قد أنجبت شطارا وفتوات عديدين فلم تنجب في الواقع إلا غنيا واحدا هو جعدة.
كان قبل الحرب بائع بطاطا يسوق عربته الصغيرة حاسرا جلابيته الزرقاء إلى ما فوق ركبته، ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئا حتى عربته كان يكتريها بقرش في اليوم؛ فلما كانت الحرب وجد له عملا في المعسكر البريطاني بالعباسية، وسرعان ما خلع جلابيته وارتدى قميصا وبنطلونا كاكيين وحذاء أسود أنيقا، واستطاع في مدة وجيزة أن يتقن السباب باللغة الإنجليزية وباللهجة الاسكتلندية .. وتنقل في عمله بين معسكرات عديدة حتى رمت به النوى إلى التل الكبير، وهناك ابتسم له الحظ فترامت الأخبار بأنه يتاجر في المهمات والأغذية، بل قيل إنه تعهد بالغسل في المعسكر جميعه، وتناثرت عنه حكايات كالأساطير مؤداها أنه أثرى ثراء فاحشا، وأنه أمسى يلعب بالجنيه لعب عابث مقتدر .. ثم قال الرواة يوما إنه ضبط متلبسا بالاتجار في أغذية الجيش، وقضي عليه بالسجن عاما، ولكنه على أية حال دخل السجن من المثرين وكذلك فارقه. وقد زف شقيقه إلى الأهل والأحباب خبر الإفراج عنه، وأقام الزينات وأتى بالزمار والمنشدين، وأقسم ليجعلن من يوم أخيه يوما مشهودا. وهكذا عاد جعدة إلى عطفته كالعرسان، واستقبل بالزغاريد والدفوف والمزامير، ومضوا به إلى منظرة بالفناء حيث كان يبيت وعربة البطاطا قبل أربعة أعوام، فرشت بالحصر ورصت إلى جوانبها أرائك، فجلس في الصدر يحيط به الإخوان الأقربون، ومدت المقاعد في الفناء وتصدر المكان الزمار وأعوانه، وزمرت المزامير وأنشد المنشدون، واستبق الفتيان إلى الرقص، ودارت أكواب الشربات والجوزة والبوري، وشمل الفرح البيت والناس جميعا، أما في المنظرة فقد جيء بزجاجات الكونياك حيث جمع الصفاء بين الأحباب فأترعت الأكواب ودارت على الأفواه النهمة المشتاقة، وجرى اسم جعدة على الألسنة وتعالى له الدعاء، ومال الشاب على أذن شقيقه وقد ألحت عليه شهوة الظهور والإعلان عن النعمة، وقال له: «ابسط يديك حتى تروي العطاش وتشبع الجياع وتسر القلوب؛ هذا يوم أخيك.»
ومضى يشارب الجالسين ويضاحكهم ممتلئ النفس ثقة وطمأنينة وسعادة، وكان بين ساعة وأخرى يبرز حافظته الكبيرة ويستخرج منها ورقة ويرمي بها إلى حجر أخيه قائلا: «هات الشيء الفلاني .. هات الشيء الفلاني .. أنا خادم الإخوان .. لا بد أن ينبسط الإخوان.»
ومضت ساعات الليل الأولى في رقص وزمر وأكل وشرب، وقد شرب جعدة حتى سكر وانبعثت النشوة في دمه، فاهتز طربا وقهقه ضاحكا، وداخلته رقة فملأت نسائم الأريحية فؤاده، ولم يلبث أن نازعه شوقه القديم إلى الرقص، وكان في زمانه الأول يهوى الرقص ويحبه، وربما تقدم الزفة شارعا بعد شارع بشغف لا يعرف التعب والملل، فلم يعص شوقه، ونهض بجسمه الفارع ودعا الزمار، فجاءه الرجل وتبعه رفاقه وأقاموا على عتبة المنظرة متأهبين، ووقف جعدة وسط الحجرة قابضا على عصاه بيمناه ومد يسراه إلى شقيقه فأعطاه كوبا ممتلئا إلى نصفه، ولكنه صاح به في خيلاء وقد سرت بأطرافه حمية الخمر: «املأه حتى آخره.» .. وأخذ الكوب المترع وهو يكفي أربعة أشخاص ثم ردد عينيه في الجمع المحيط به وأنشأ يقول: نحن رجال، نحن إخوان، نذل من يتنكر لإخوانه، نذل من ينسي أصله. يعيش الوفاء.
ورفع الكوب إلى فمه فأفرغه دفعة واحدة، والتفت إلى الزمار وأومأ له برأسه، فنفخ الرجل في مزماره ونقروا على الدفوف، وبقدرة عجيبة انتقل الإيقاع من المزمار والدف إلى وسط جعدة ورقبته وسيقانه وعصاه، فحال إلى موجة مترنحة تذهب وتجيء، وتجيء وتذهب، والإخوان يرجعون النقر بأكفهم هاتفين مع الإيقاع: «يعيش الوفاء .. يعيش الوفاء.» وشعر جعدة وهو يتمايل ذات اليمين وذات الشمال بأنه ينبعث من جوفه لسان لهب ثم ينطلق في عروقه نافخا نارا وطربا وجنونا، وما زال في رقص وخيلاء حتى اكتفى، فلوح بعصاه للزمار فأمسك، ووقف جعدة لاهثا حتى تمالك أنفاسه، ثم مد يده إلى شقيقه فأعطاه كوبا آخر، وقلب وجهه في القعود كما فعل أول مرة، ثم استدرك قائلا: نحن رجال، والبيوت للنسوان. القابع خاسر، والجسور فائز. انطلق يا جعدة، إلى العباسية يا جعدة، إلى الأهرام يا جعدة، إلى حلوان يا جعدة، إلى التل الكبير يا جعدة. اشتغل يا جعدة، الحذق والشطارة يا جعدة، عاد القرش يا جعدة .. يعيش القرش يا جعدة.
وأفرغ الكوب في فيه كسائل الجحيم، وغمز للزمار بعينيه فدقت الطبول وأسلم نفسه لشيطان الرقص يذرع به الدائرة في رشاقة القيان، والإخوان يهتفون مع الدفوف: «يعيش القرش .. يعيش القرش.» وقد تصاعدت أبخرة الخمر إلى رأسه، فخال في رقصه أنه يسبح في عباب مصطفق أو يطير على جناحي ريح مجنونة، وما زال يرقص ويرقص حتي أعياه الرقص، فتوقف وقد احمرت عيناه وتشعث شاربه، ولبث برهة يستريح، ثم مد يده ناحية شقيقه وتناول الكوب الثالث بعنف وشره، وصاح بإخوانه: نحن رجال .. هل توجد جسارة بغير ثمن؟ هل الزناتي سلم؟ هل عنتر سلم؟ زلت بنا القدم وما يقع إلا الشاطر، ودفعونا إلى السجن .. السجن للرجال .. ما عيب إلا العيب، يعيش السجن للرجال.
وصب الكوب في جوفه وقد فقد إحساس الذوق، وانقلب وحشا لو أفرغوا فيه حانة لابتلعها، وزمر الزامر، وصفقت الأيدي، وتعالى الإنشاد: «يعيش السجن للرجال.» واندفع يرقص بغير وعي وكأن نبض قلبه يرسل موجات كهربائية إلى أطرافه، وتركزت في رأسه أوهام غريبة بثت في نفسه خيلاء الخالقين، وطال به المطال حتى أمسك الزمار رحمة به فكف مترنحا ثملا، وجعل يبتسم ابتسامة بلهاء وينظر ببصر زائغ، وعلى حين غرة طالعت عينيه من عالم الذاكرة صورة ذات حسن وبهاء، فأهاجت قلبه كوحش رأى فريسة شهية، وخال أنه يسمع فرقعة قبقابها وتمطقها باللبان؛ فدغدغت قلبه لسعات الهيام، ومد يده نحو أخيه في ثورة فائرة، ولكن الرجل اقترب منه مشفقا، ومال على أذنه وهمس له: «أسرفت يا معلم.» فتولاه الغضب وصاح به: «نحن رجال، هات.» وأخذ الكوب المترع، وقال بلسان ملتو وقد عاودته الصورة الجميلة: نحن رجال .. الرجل بغير زواج ناقص .. الزواج فرض وسنة، شلبية المصونة بنت عم طلبة جارنا وعمنا .. يا عم طلبة اقرأ الفاتحة.
وأنشد الرجال «يعيش الحب .. يعيش الحب.» واشترك معهم عم طلبة نفسه وقد لعبت به الخمر. وشرب جعدة الكوب فاستولى عليه السكر والذهول وما عاد يدري أقائما أم قاعدا، راقصا أم واقفا، في البيت أم في الخلاء، وصار رقصه أشبه بالترنح، وثقلت جفونه واحتقن الدم في وجهه، وأمر أخوه الزمار أن يكف فخمد جعدة في مكانه معتمدا على عصاه، وتحول نحو أخيه، ومد إليه يسراه كعادته، ولكنه لم يستطع أن يحمل ذراعه هذه المرة فردت إلى جنبه، وقال له شقيقه: أسرفت على نفسك يا معلم .. هلم معي إلى الخارج تنشق الهواء الرطيب.
ولكنه هز رأسه غاضبا، وسار مترنحا إلى المائدة، وملأ الكوب حتي فاض منه الكحول وسال، ورفعه إلى فيه بيد مرتعشة وهو يتمتم بلسان ثقيل: نحن رجال.
وأفرغه حتى الثمالة، ورمي به إلى الأرض فتحطم عند قدميه، ونظر في وجوه السكارى بعينين لا تريان شيئا، وقال بلسان ثقيل ملتو لا يكاد يبين: نحن .. رجال .. افرحوا، ابتسمت لكم الدنيا .. مالي وما أملك لكم .. حظي حظكم .. لن أنسى الإخوان .. يعيش الحظ.
ونقروا على الدفوف وأنشدوا مهللين: «يعيش الحظ .. يعيش الحظ.» وأراد أن يرقص، أن يخطو إلى الأمام، ولكنه كان قد فقد كل قوة يمسك بها نفسه، فاندفع مترنحا وسقط على وجهه فاصطدم رأسه بالأرض في عنف وشدة، وأمسك المنشدون ونهض القوم فزعين، ورفعوه بأيديهم وحملوه إلى الأريكة التي كان يجلس عليها، ومال عنقه على مسند الأريكة وانحلت مفاصله جميعا، وجاء قوم ونضحوه على وجهه، فرفع جفنيه الثقيلين لحظات، ولما رأى الأعين المحدقة به همس بصوت ثقيل متعثر: دعوني .. نحن رجال .. افرحوا. الحظ!
ثم شعر في رأسه بدوي هائل وكأن مائة مطرقة تدق مخه، وفقد الحركة والإرادة والكلام.
وكان المعلم بيومي في الحاضرين، كان إذا سكر حمله أصحابه إلى بيته وطرحوه على لحافة فيروح في نوم عميق لا يفيق منه إلا ضحى اليوم الثاني، فقال للقوم ناصحا: دعوه ينم؛ فالنوم دواؤه، وسوف يصحو غدا صحيحا معافي.
وبادروا إلى حمله وأرقدوه على فراش أخيه وتركوه في سلام .. وعاد القوم إلى لهوهم يشربون ويسمرون.
وراح جعدة في نوم عميق كما قدر المعلم بيومي، ولكن حدث ما لم يقدر أحد من السكارى ولا دار لهم بخلد، انفجر شريان ونزف دمه، وتسللت الحياة من جسمه نقطة فنقطة حتى تركته جثة هامدة، فنام نوما عميقا لا يقظة بعده ولا إفاقة، وكان ذلك قبيل انبثاق الفجر، وقد تصايحت الديكة، فاختلط صياحها بهتاف الهاتفين وإنشاد المنشدين.
الشر المعبود
قبل أن يستولي أول ملك على عرش مصر، كان الوادي مقاطعات مستقلة لكل واحدة إله ودين وحاكم، وقد اشتهرت من بينها مقاطعة «خنوم» لما توفر لها من خصوبة الأرض واعتدال الجو وكثرة السكان، ولكنها كانت تدفع نصيبها كاملا من ضريبة الشقاء والأحزان، ففسق بها المترفون، وتضور الفلاحون جوعا، وعاث الأشرار في الأرض فسادا، وفتكت الأمراض والأوبئة بالضعاف والبائسين، وشمر للإصلاح رجال المقاطعة المسئولون، وعلى رأسهم القاضي «سومر» وحارس الأمن «رام» والطبيب «تحب»، وكافحوا الجريمة والعيوب مكافحة شديدة صارت مضرب الأمثال على الجهاد والصدق والعزم.
وفي أحد الأجيال التي مرت على تلك المقاطعة ظهر بها رجل غريب، كان شيخا طاعنا في السن حليق الرأس والذقن كعادة الكهنة المصريين، وطويل القامة نحيل الجسم، تلوح في عينيه نظرة حادة تهزأ من فعل السنين، يشع منها نور الفطنة والحكمة، وكان رجلا غريبا حقا؛ فما لمست قدماه بلدا حتى تساءل أهله عجبا .. من الرجل؟ .. وأي بلد قذفه؟ وما الذي يريد؟ وكيف يضرب في الأرض حين ينبغي أن يخلد إلى السكينة والراحة في انتظار الانتقال إلى عالم أوزوريس؟
ولم يقف به شذوذه عند حد. كان يثير وراءه عواصف الضجيج وزوابع الفتنة أينما حل وحيثما يتجه؛ فكان يغشى الأسواق ويزور المعابد ويدعو نفسه إلى الحفلات على غير معرفة بأصحابها، ويضع نفسه فيما لا يعنيه؛ فكان يحادث الأزواج عن زوجاتهم والزوجات عن أزواجهن ، والآباء من أبنائهم، ويجادل السادة والنبلاء، ويكلم الخدم والعبيد، ويترك خلفه أثرا عميقا قويا يهيج في النفوس ثورة جامحة يشتد من حولها الجدل والخصام.
وأثارت حياة الغريب مخاوف «رام» حارس الأمن فاتبعه كالظل وراقبه عن كثب، وارتاب في أمره فقبض عليه وقدمه إلى القاضي لينظر في شأنه العجيب. وكان القاضي سومر رجلا طاعنا في السن عظيم التجارب؛ قضي أربعين عاما من حياته الجليلة يجاهد جهاد الأبطال تحت راية العدل والحقيقة، فأنفذ القضاء في حيوات المئين من المتمردين، وملأ السجون بالآلاف من الأشرار والمجرمين، وكان يعمل صادقا مخلصا على تطهير المقاطعة من أعداء السلام والطمأنينة.
ولما مثل بين يديه الرجل الغريب أخذه العجب واستولت عليه الحيرة، وساءل نفسه عما يرتكبه هذا الشيخ الفاني، ثم سأله بصوته المتزن وهو يلقي عليه نظرة فاحصة: ما اسمك أيها الشيخ؟
فصمت الرجل ولم يجب، وهز رأسه كأنه لا يريد أن يتكلم أو لا يدري ما يقول.
واستاء القاضي من لياذه بالصمت بغير سبب معقول، وسأله بلهجة خشنة: لماذا لا تجيب؟ .. قل ما اسمك.
فقال الرجل بصوت خافت وعلى فمه ابتسامة خفيفة غامضة: لا أدري يا سيدي.
فتضاعف استياء القاضي وقال منتهرا: ألا تدري ما اسمك حقا؟ - بلى يا سيدي .. نسيته. - أتقول إنك نسيت اسمك .. بم يدعوك الناس؟
لا أحد يدعوني، لقد مات أهلي وذوي، ولبثت في الدنيا دهرا طويلا لا يدعوني أحد ولا يناديني إنسان، وكان رأسي مفعما بالأفكار والأحلام فنسيت اسمي.
واتهم القاضي الشيخ بالبله والخرف، وتحول عنه يائسا إلى حارس الأمن وسأله: ما الذي حملك على سوق هذا الرجل إلى المحكمة؟
فقال «رام»: إنه يا سيدي رجل لا يستريح ولا يريح، يتطفل على الناس ويجادلهم في الخير والشر، ولا يدعهم إلا وقد فرقت بينهم الفتنة والشقاق.
فالتفت إليه القاضي وسأله: ما الذي تريده من وراء ذلك؟
فحدجه الشيخ بنظرة حادة، وقال بصوت قوي النبرات يهزأ بالسنين التي عاشها في هذه الدنيا: أريد أن أصلح هذه الدنيا البشعة يا سيدي.
فابتسم القاضي وسأله: أليس يوجد من يهب حياته لهذا العمل النبيل وهو قادر عليه؟ ماذا يفعل القاضي وحارس الأمن والطبيب؟ اطمئن أيها الشيخ وأرح نفسك ولا تحمل شيخوختك ما لا طاقة لها به من بلوغ هذا المطلب العسير، وغيرك عليه أقدر.
فهز الرجل رأسه بعناد وقال: جميع من ذكرت قد وجدوا منذ الأزل، ولكنهم لم يقدروا بعد على تغيير هذه البشاعة التي تشوه وجه الدنيا. ولا نزال نرى في كل بقعة من الأرض نذر الشر وآثار الجريمة. - وهل تنجح أنت إذا أخفقت جميع هذه القوى المؤتلفة؟ - نعم يا سيدي .. أمهلني وسوف ترى.
فابتسم القاضي في استخفاف وسأله: وماذا تدخر من الوسائل مما ليس لديهم؟ - إنهم يا سيدي يطاردون الأشرار ويعالجون الأمراض ويضمدون الجراح .. أما أنا فسبيلي أن أقضي على الداء. إن الداء كمين في مخبئه آمنا، وهم لا يكترثون إلا لآثاره، وقد أنعمت النظر فوجدت أن المعدة أصلا بلاء هذه المقاطعة، وجدت كثيرين لا يستطيعون أن يملئوا منها فراغا فيعيوا جوعا، وآخرين لا يتركون بها فراغا قط فيهلكوا نهما، ومن التجاذب والتنافر بين هاتين المعدتين يحدث السلب والنهب والقتل؛ فالداء بين والدواء بين.
فقال القاضي: على العكس مما ترى، هذا داء لا دواء له!
هذا قولهم يا سيدي، وما يقولونه إلا لأنه ينقصهم شيء متعني الرب به، هو الإيمان بالخير. إنهم لا يؤمنون بالخير حق الإيمان، ويجاهدون في سبيله جهاد الآلات الصماء التي لا تحس، ويعملون بالأجر وللجاه والمجد .. فإذا خلوا إلى أنفسهم تهالكوا على ما يجاهرون بمقته من الإثم. هذا شأنهم يا سيدي، أما أنا فمؤمن حقا بالخير، فدعني أعمل على طريقتي وأمهلني رويدا.
وأهاج كلام الرجل الغضب في نفس حارس الأمن؛ إذ حسبه يلمزه من قريب، ولكن القاضي كان أوسع صدرا وألين قلبا، فأغضى عن قول الرجل. ولما لم يجد في عمله ما يستحق عقوبة أطلق سراحه بعد أن أسدى إليه النصح.
وغادر الرجل المحكمة وهو يحس بنشوة الظفر، وكان على وجه اليقين مؤيدا بروح سام لأنه كان يسير في الأرض بقوة مارد، ويتدفق في الحديث بحماسة شاب، ويفيض عليه قلبه بتفاؤل نبي، وكان لسانه ينفث سحرا حلالا وحجة تلزم المتكبرين، فاستطاع في مدة وجيزة أن يستأثر بآذان القوم ويسحر قلوبهم ويهيج عاطفة الخير في نفوسهم ويوجههم إلى حيث يريد، فاتبعه الفقير وخضع له الغني وذل له المتمرد العاصي. وكان أساس دعوته الجمال والاعتدال اللذان يعيش في ظلهما الفقير بالقناعة والغني بما فيه الكفاية. ووجد فيه ذاك المجتمع المريض طبيبا صادقا بارعا فتعلق بمثله واعتنق مبادئه. وجاءت النتائج باهرة يخطف نورها الأبصار ويذهل عقول العقلاء، فسحقت الجريمة وهزم الشر وأدبرت الأمراض، وأظلت السعادة بجناحيها المقاطعة، فهلل الحكام وكبروا، وآمنوا بالرجل الذي كانوا فيه يمترون، وسعدوا جميعا لبلوغ الغاية النبيلة التي أنفقوا أعمارهم عبثا في سبيل بلوغها.
وتقدم الزمان بخطى هادئة في جو صاف وطريق معبد، وتحولت الأمور إلى غير ما عهد الناس.
وكان الحكام أول من أحس بالعهد الجديد، والحق أنهم وجدوا أنفسهم عاطلين، والراحة لذة لا يذوقها إلا العاملون، فثقل الفراغ على ظهورهم، وشاهدوا بأعين جزعة مجدهم ينهار وريحهم تذهب ونورهم ينقلب ظلاما.
كان حارس الأمن قوة ترهب أينما يحل، فرد إلى شيء تقتحمه العيون وتستهين به القلوب، وأضحى تمر به العامة وكأنها تمر بصنم محطم.
وكان القاضي قوة قدسية ومهابة إلهية، فأصبح يقلب كفيه آسفا حزينا لا يسمع تحية ولا رجاء، ولا يساق إلى رحابه من يهابه، فأحس بعزلة ووحشة، وبات كمعبد مهجور في الصحراء. وأن الطبيب بشكوى مكتومة، وحبس نفسه في داره لا يزوره إنسان ولا يزور إنسانا، وكان يكنز المال في القدور فأصبح ينفق مما جمع وقلبه واجف.
اطمأن الإقليم جميعا إلى الخير إلا أولئك الذين وهبوا أنفسهم «صناعة الخير». كانوا حيارى يائسين يتلفتون يمينا وشمالا فلا يجدون لأنفسهم مخرجا مما هم فيه، وكان حارس الأمن أشدهم عذابا؛ لأنه كان أعظمهم جراءة، ولكنه كان يخشى أن يقدم على التصريح بمخاوفه فيجد آذانا صماء وقلوبا مطمئنة إلى الخير. ولما نفد صبره انتهز فرصة اجتماعه بإخوانه وأقرانه وقال بشيء من التهيب متسائلا: ماذا نفعل لو استغني الحاكم عن خدماتنا غدا؟
فاصفرت الوجوه، وسأله سائل بلسان ملعثم: أمن المحتمل أن يستغني عنا حقا؟
فقال رام وهو يهز كتفيه استهانة: وماذا نفعل حتى نستحق البقاء؟
وكأنه بقوله هذا رفع صماما عن مرجل يغلي ففاض كل بما في قلبه، فقال واحد منهم: هذه حال لا يمكن السكوت عليها.
وقال آخر وهو يهز قبضة يده: لقد أفسد الشيخ الخرف المقاطعة.
وقال ثالث: إنه يحطم القوى الإنسانية العالية بهذه الدعوة الفاسدة التي تعوق التقدم وتقتل الهمم.
وسرت النجوي من لسان إلى لسان، وأبان كل عما بنفسه إلا القاضي فإنه لزم الصمت، وسها إلى الأفق البعيد كأنه لا يسمع مما يدور حوله شيئا، وكاد مظهره يجلب اليأس إلى قلوب الكثيرين من أعوانه، إلا أن رام همس لهم خارجا: لا تخشوا القاضي؛ فقلبه معنا، ولكن لسانه الذي مرن على الكلام عن العدالة لا يطاوعه على ما نحن بسبيله.
واتفقت كلمتهم.
وأشرقت الشمس ذات صباح فإذا بالرجل الغريب قد اختفى، وبحث عنه مريدوه في كل مكان، وفتشوا عنه في كل بقعة من الإقليم فلم يعثروا له على أثر.
وأحدث اختفاؤه دهشة وانزعاجا، وأثار أقاويل متباينة؛ فمن قائل إنه هجر المقاطعة إلى غيرها بعد أن اطمأن إلى ثبات عقيدته، ومن قائل إنه صعد إلى السماء بعد أن أدى رسالته. وشمل الحزن المقاطعة كلها ووجفت القلوب جميعا.
وتنفس السادة الصعداء، وانتظروا على أمل سعيد وكلهم يحلم بالمجد الآفل والنعيم الذاهب، ويمني نفسه ويستنظرها.
ولكن النفس يلحقها الجزع كلما دنت من الأمل المرتقب، فباتت أعصاب القوم ثائرة وقلوبهم حائرة، وكان يقض مضاجعهم أن يروا عامة الناس ما تزال متمسكة بالدعوة، مخلصة لذكرى الشيخ الغريب.
واهتاج الغضب حارس الأمن فصاح: ينبغي ألا تدوم هذه الحال.
ونظرت إليه أعين أحياها الطمع وأضناها الأمل، فاستدرك قائلا همسا: أعرف في مقاطعة «بتاح» راقصة فاتنة أولتها الآلهة حسنا لا يقاوم، فلماذا لا نستعيرها أشهرا؟ وإني أعلم أن حاكم الإقليم راغب في نفيها لما يهيج جمالها من الفتنة والملاحقة، فليكن إقليم خنوم منفاها إلى حين؛ وهي بغير شك حقيقة بأن تفرق ما بين الأخ وأخيه والزوج وزوجه، وبأن تغري الأغنياء بالانقضاض على السلاسل التي وضعوها في أعناقهم طائعين .. انتظروا خيرا قريبا.
وحقق ذلك العبقري فكرته الخطيرة.
وشاهدوا جميعا بأعين مشرقة بنور الفرح ذلك النظام يتقوض بنيانه ويتهاوي حجرا على حجر، وردت المعدة إلى عرشها تتحكم في الرقاب والعقول، وعادت الحياة الشيطانية تملأ جو «خنوم» الهادئ، وتعصف بالسلام المخيم على ربوعه، واستأنفت عصبة الحكم جهادها، ووجدت نفسها مرة أخرى تكافح وتناضل عن الخير والعدالة والسلام.
الورقة المهلكة
انتهى المطاف بالشمس إلى الأفق الغربي، وقد شملها الهدوء والوجوم والأسى بعد أن ولى عنها تيه الفتوة وزهو الشباب، ومضى شعاعها الشاحب يوغل شرقا مودعا رمال الصحراء المتاخمة للعباسية موسعا وراءه للسمرة الزاحفة.
ولم يكن في الطريق الذي يخترق الصحراء - في تلك الساعة - سوى سيارة بيضاء صغيرة تسير على مهل، كأنه لا غاية لها سوى المسير، ويسوقها شاب تدل نظرة عينيه المظلمتين على الملل وعدم الاكتراث.
وتقدمت السيارة في الطريق حتى حاذت أبنية المصانع الجديدة التي تشغل مساحة واسعة من فضاء تلك الصحراء، ثم وقفت أمام بناء صغير كتب على لوحة في أعلى واجهته «مطعم وقهوة الزملاء»، وكان البناء مكونا من قسمين؛ واحد مسقف رصت به موائد الطعام الخشبية التي يتناول عليها الطعام عمال المصانع القريبة، والآخر مكشوف معشوشب الأرض، وضعت به الكراسي حول نافورة من ماء آسن، أقيمت حولها عمد خشبية علقت برءوسها الكلبهات.
ألقى الشاب نظرة على البناء وقد لاحت في عينيه الأحلام، وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه الممتلئتين، وغادر السيارة فبدت قامته الرشيقة وبذلته الأنيقة، ودخل إلى القهوة واختار ركنا قصيا، وكان المكان خاليا ساكنا؛ لأنه لا تدب فيه الحياة عادة إلا بعد انصراف العمال في المساء، فجلس يحتسي فنجانا من القهوة والنادل على بعد منه يرمقه بنظرة ملؤها الإنكار والدهشة.
ولم تكن هذه أول مرة يهبط فيها إلى هذه القهوة التائهة في الصحراء؛ فقد زارها زيارة سعيدة لم تكن في الحسبان منذ أمد قريب. وما دفعه إليها تلك المرة إلا الملل الراكد على نفسه التي شبعت من أهواء الدنيا، وعانت من الفراغ مر العناء، وتركته يتخبط حائرا ما بين الميادين والأزقة لا يهتدي إلى مستقر. وما عاد به إليها هذه المرة إلا ما طالع خياله من أطياف الذكريات الحلوة.
وجلس يلقي على المكان نظرة تذكر وحنين، ولم يكن يرى منظرا غريبا؛ فإنه يذكر ولا شك تلك الأبنية العالية التي يتصاعد الدخان من أعاليها ويدوي قرع الآلات في داخلها، وهذه الصحراء المترامية التي تنتهي شطآنها البعيدة إلى مآذن القاهرة المعزية، ولكن ما له يلتفت يمنة ويسرة، هل يفتقد منظرا يذكره ولا يجده؟
نعم إن الصورة التي انتزعها رأسه من المكان في تلك الليلة القمراء ناقصة .. ولا تنقص شيئا تافها، بل تنقص مدينة كاملة .. مدينة الصفائح الغريبة .. كانت تقع أمام القهوة مباشرة على بعد عشرة أمتار من مدخلها، وكانت مبانيها أكواخا من الصفائح التي علاها الصدأ، تأوي رجالا ونساء وأطفالا، وترعي في عرصاتها المعز والكلاب .. أين يا ترى هذه المدينة، أم تراه اشتبه عليه الأمر؟
ولكي يقطع الشك باليقين نادى النادل وسأله وهو يشير بيده إلى الموضع الخلاء الذي أحدث ارتيابه: ألم تكن توجد هنا أكواخ من الصفائح؟
فهز الغلام رأسه علامة الإيجاب وقال: بلى يا بك. - فأين ذهبت؟ - هدمتها الحكومة.
قطب الشاب جبينه وسأله: متى .. ولأي سبب؟ - منذ ثلاثة أشهر، بعد أن تأكد البوليس من أن ساكنيها من اللصوص والقتلة.
لم يكن في الخبر ما يثير الدهشة، ولكنه ذكر شخصية عزيزة فقال: كان يوجد هنا رجل مغن يدعى أبو لبة .. أو أبو رنة لا أذكر .. ألا تعلم أين هو؟
فتفكر الغلام دقيقة ثم قال: لعله أبو سنة يا بك. - أظنه هو، كان يغني غناء جميلا وينشد إنشادا ساحرا. - نعم هو يا بك، ولكنه شنق وا أسفاه!
وانزعج الشاب وسأله: أتقول إنه شنق؟ - نعم شنق بغير شك. - ولماذا شنق؟ - لسبب تافه جدا.
فاستولت الدهشة على الشاب وسأله: كيف يشنق لسبب تافه .. ماذا فعل؟
فقال الغلام بهدوء: قتل.
فابتسم الشاب بالرغم من انزعاجه وقال: ولكن ليس هذا بالسبب التافه. - قتل بغيا.
ولم يستطع الغلام أن يتم حديثه؛ لأنه قطعه عليه دخول جماعة من العمال ونداء المعلم له، فحيا الشاب وانصرف إلى عمله.
لقد وقعت أحداث غريبة منذ زيارته الأولى لهذه القهوة.
دمرت مدينة، وتشتت أهلها، وشنق رجل كانت حنجرته تنفث سحرا وبهجة؛ فما أتعس مجيئه هذه الليلة! جاء يطلب لهوا ومسرة فوجد خرابا وموتا.
ولبث كئيبا، وراح يفكر في زيارته الأولى تلك الليلة القمراء السعيدة.
كان في مساء تلك الليلة جالسا في سانت جيمس يشارب جماعة من صحبه كما هي عادته كل مساء، وقد تركوا الحانة في الساعة العاشرة، ورأى بعضهم أن يمضوا الليل في صالة رقص أو غناء أو نساء، ولكنه لم يجد من حواسه ميلا إلى تلك المتع.
كان ضيق الصدر من طول ما فعل به الملل والفراغ، وكان يعاني شبعا ثقيلا صرف هواه عن الدنيا جميعا، فأمسى الرقص والغناء والنساء ألفاظا لا معنى لها، وانقلب جسد الأهواء الفاتن في عينيه جثة هامدة، فودع صحبه وتركهم يذهبون.
وتلفت يمنة ويسرة في حيرة .. إلى أين يذهب؟ ولم ينقذه من حيرته إغراء .. فترك لملله ووحدته وسكره.
ثم استقل سيارته الصغيرة وانطلق بها على غير هدى، وساقه التخبط إلى العباسية، ودفعته العباسية إلى صحرائها الشرقية، ولفتت ناظريه - في الطريق الصحراوي الملتوي - أنوار خافتة تنبعث من القهوة المنعزلة، فهدأ من سرعة السيارة، ونظر صوبها فسره منظر الجالسين يتسامرون ويلعبون النرد والورق، وحمل الهواء إلى أنفه رائحة «التمباك المعسل»، فتسربت إلى مخه وأطربت أعصاب رأسه، فانقشع عنه كابوس السقم، وأدار السيارة إلى أمام مدينة الصفائح ووقف، وحسب أن جلسة في هذه القهوة ونفسا من هذه «الجوزة» يساويان نعيم الدنيا الذي أنهك قواه وأضنى قلبه.
ولفت شخصه الغريب أنظار الجالسين، ولكنه لم يجد حرجا ولم يستشعر خجلا؛ إذ أخفت الخمر عن عينيه نظرات الآخرين، وقصد إلى ركن خال واطمأن إلى كرسي وطلب جوزة .. وكان القمر بدرا، والسماء صافية كأنها تعرت تستحم في نوره البهي، فبهره سحر النور وجمال الليل وفتنة الصحراء القائمة وكأنه يرى القمر لأول مرة، بل لعله كان يراه لأول مرة حقا؛ لأنه كان في العادة يمر على محاسن الكون ومفاتنه بعيني أعمى وأذني أصم، أما تلك الليلة - والخمر في رأسه، و«الجوزة» في فمه - فقد نظر وقلب وجهه الذاهل في أقطار السماء والفضاء، وخال الأنوار الهادئة ترقص طربا والقمر الساطع ينشد نشيدا ترتله السموات والأرض، وأحس كأنه متعلق بأطراف النور الفضي كمن يتقلب على بركة من الزئبق. أي حسن .. وأي شعور .. في تلك الساعة السعيدة نسي مرضه العضال وحزنه الثقيل والملل الجاثم على صدره، وذهب عنه شبعه المزمن، وأحس بجدة وبعث ومتعة وحب؛ فأنشد الصامت في أذنيه، وابتسم العابس لعينيه، ولولا الحياء لاندفع يرقص ويغني وينشد طربا وفرحا. وبالغ صاحب القهوة في إكرامه والترحيب به، وأحضر له «الجوزة» بنفسه وهو يقول بتودد: آنست وشرفت.
وكان شيخا في الستين، قصير القامة، بطينا، ضخم الوجه والرقبة، فلم يسع دانش - اسم الشاب - إلا أن يشكره.
وأراد الرجل أن يبالغ في إكرامه فقال: أتحب يا بك أن تسمع غناء بلديا؟
فسر دانش وقال لنفسه: ليلة قمراء وخمر وجوزة وغناء بلدي، يا لها من ليلة سعيدة حقا .. وقال بحماس للرجل: نعم .. نعم .. أين المغني؟
فنادى الرجل: أبا سنة .. تعال.
وتقدم من بين صفوف الجالسين شاب طويل القامة عريض المنكبين، لم يجل نور القمر الشاحب قسمات وجهه، وأسدل ظلا على أسماله البالية.
دنا من صاحب القهوة وقال: نعم؟
فقال له الرجل: اقعد يا عم .. يريد البك أن يسمع غناءك.
وقال دانش: نعم .. أسمعنا .. أسمعنا.
ثم التفت إلى صاحب القهوة وقال: يا معلم .. هات «للأستاذ» جوزة.
وانبسطت أسارير الشاب فرفع يده إلى رأسه تحية، وتربع جالسا على الأرض أمام البك، وسعل مرات متوالية يسلك حنجرته، ثم أسند رأسه إلى كفه ومضى يغني «ليالي» في صوت جميل ظن دانش في نشوته أنه أجمل من أصوات الحور في الجنان، ثم أنشد:
بكره وبعده وبعد اللي وراه بعده
وإن غاب حبيبك ما لكش في البلد بعده
وكان رأسه يهتز وجسمه يتمايل، وكان جميعه في حركة وجدانية تمثيلية غريبة، وكان صوته يتهدج ويتوجع؛ يعلو تارة حتى يملأ الفضاء، ويخفت أخرى حتى ينفذ إلى أعماق القلب. وما إن انتهى من إنشاده حتى صعدت آهات الإعجاب من كل فم، وكان الشاب أول المعجبين، وغلبته النشوة والطرب فطلب لكل واحد من الجالسين «جوزة» وصاح بالمغني: لا أسكت الله لك صوتا .. أسمعنا موالا آخر.
فهز الرجل رأسه مختالا فخورا، ووضع يسراه على أذنه ويمناه على الجوزة، وأنشد:
بيني وبين الحبايب جبل عالي وتل حشيش
وبحر خمرة ونفسي في النبيذ ولا فيش
ولما انتهى المغني من إنشاده بلغ الفرح بنفس دانش مبلغا ظن أنه لن يذوق الملل بعده أبدا، وأحس بالرضا والغبطة، وأفعم قلبه بعاطفة سعادة وخير، فود لو يستطيع أن يغمر كل محزون بفيض من سعادته، ومال بقوة قاهرة إلى مكافأة الرجل الذي مس روحه بنفثة من سحر صوته، فدس يده إلى محفظته ووجد بها بضعة قروش وورقة من ذات العشرة جنيهات، فأعطى القروش إلى صاحب القهوة، ثم نظر إلى المغني مليا ووضع الورقة في يده وهو يقول: هذه لك.
لم يداخله التردد مطلقا، وما كانت ثمة قوة في الوجود تستطيع أن تمنعه من المنح والعطاء تلك الساعة، أما الرجل فسهم ووجم وأدنى الورقة من نور المصباح وتأملها بإنكار، ولمح الورقة في يده أحد الجالسين فاقترب منه ونظر إليها لحظة ثم قال بلهجة خبير: ورقة قديمة من ذات العشرة قروش، كانت متداولة أيام السلطان.
فتضاحك دانش وقال للرجل بصوت سمعه كثيرون ممن حوله: جزاك الله على ما أسعدتني خيرا .. هذه ورقة من ذات العشرة الجنيهات قد تراها بين يديك ثروة عظيمة وأراها أنا شيئا تافها إلى ما أحسست به من سعادة .. السلام عليكم يا سادة.
على أنه رأى منظرا عجيبا - زاد من مسرته - قبل أن يغادر القهوة؛ رأي أبا سنة يهب واقفا فزعا، وسمع همسا تناقلته الشفاه، ثم علا ضجيج، ثم ساد صمت ثقيل، وقد كفت كل يد عن اللعب وكل فم عن التدخين، والتقت الأبصار جميعا عند المغني السعيد.
ولبس طربوشه وسار إلى سيارته وقلبه يكاد يطير من الفرح بعد أن نفض عنه راكد السقم والملل، وعاد إلى المدينة، ثم ألهته الحياة عن الصحراء وقهوة الصحراء وأبي سنة حتى وجد نفسه فيها هذا المساء.
فما أشد ما نزل بالدنيا من تغير! اندثرت مدينة الصفائح العامرة .. وفتك الحبل بعنق أبي سنة الجميل وحنجرته الذهبية .. يا للعجب! كان أبو سنة مطربا، فكيف صار قاتلا؟ ووجد رغبة صادقة في السؤال والتحري عنه، وكان صاحب القهوة جالسا بمكانه المعهود عند مدخل المطعم، فأشار إليه وناداه قائلا: «يا معلم.» وحدق الرجل في مصدر الصوت وهو يضيق عينيه، ثم سار إليه، فلما دنا من صاحبه ورأي هيئته المميزة ابتسمت أساريره، وارتفعت يده إلى جبينه بالسلام، ولكن لم يبد عليه أنه عرفه أو تذكره، وطلب إليه دانش أن يجلس ثم قال له: أراك لا تذكرني يا معلم.
فحدجه الرجل بنظرة إمعان وارتباك، وتمتم وعلى فمه العريض ابتسامة حائرة: أهلا وسهلا.
فأردف دانش: ألا تذكر تلك الليلة القمراء .. والمغني أبا سنة .. وموال بكرة وبعده؟! كم مضى على تلك الليلة؟ .. ثمانية أشهر أو يزيد، ألا تذكر؟
ونظر الرجل إليه نظرة غريبة، كان الشاب يتوقع أن يقرأ فيها الدهشة والترحاب، ولكنه وجدها جامدة ثقيلة. - ألا تذكر يا معلم؟
فهز الرجل رأسه وقال: بل أذكر يا بك. - سمعت خبرا عجيبا مزعجا .. هل حقا شنق أبو سنة؟ - نعم شنق الرجل التعس. - كيف شنق؟ - أتحب أن تعرف يا بك؟ - طبعا يا معلم.
فقال الرجل بصوت غليظ: ألا تذكر الثروة التي رميته بها في تلك الليلة؟
فهز الشاب رأسه بالإيجاب وقد داخله قلق للهجة الرجل، أما المعلم فاستطرد قائلا: في تلك الليلة شاهدت وشاهد جميع الزبائن منظرا عجبا، فعلى أثر ذهابك انتبذ أبو سنة مكانا خاليا وجلس ويده تمسك بالورقة الثمينة. ولم تكن عادته أن يجلس صامتا؛ فهو إما أن يضاحك القوم أو يغنيهم وينشدهم، أما في تلك الساعة الرهيبة فقد انكمش مضطربا وجعل يختلس من الجالسين نظرات الريبة والقلق، ويمعن في الورقة نظرا يتنازعه الشك واليقين والذعر والأمل، ودنوت منه وطلبت إليه أن يطلعني على الورقة، فأطلعني عليها وهو قابض على طرفها فعرفتها، وأمنت على قولك له دهشا متعجبا، وقلت له: لقد أتتك ثروة واسعة. وكان محط الأنظار ومثار الاهتمام والهمس، وكنت أتوقع أن يغادر المكان سريعا، ولكنه ظل ذاهلا يتناوب على عينيه نور فرح مخيف والتماع ذعر مريب. ولعله كان في حيرة من أمره لا يدري أين يذهب؛ فهو آمن وسط الجميع، ولكن أنى له الأمان إذا انفرد في الطريق أو أوى إلى كوخه في مدينة الصفائح؟ ومدينة الصفائح لا يعرف أهلوها من العملة سوى الملاليم، ولا يغمض لها جفن إذا علمت أن بين حدودها ورقة من ذات العشرة جنيهات، فما العمل؟ بات خائفا مذعورا وأمسى الجميع أعداءه.
وسكت الرجل دقيقة ثم رمق الشاب بعينين أحرق الاحمرار أشفارهما، واستطرد: وأغلب الظن أن القلق أثار أعصابه وحرضه على الاستهتار، فما كان منه إلا أن قام بغتة وقال بصوت مبحوح: «السلام عليكم يا إخوان.» وغادر القهوة على عجل، ولكنه بدلا من أن يسير إلى مدينة الصفائح حيث زوجه وأسرته انحرف إلى اليمين وأوسع الخطى حتي ابتلعته الظلمة. وأحدث انحرافه دهشة فتبعه أحد الرفاق، وغاب زمنا يسيرا ثم كر راجعا وهو يصيح ضاحكا: «ألا تعلمون .. إن الرجل المعتوه يعدو بقوة كأنما يطارده مطارد عنيف.» وأحدثت عبارة الرجل عاصفة من الضحك والسخر واللعن، وهكذا غادرنا أبو سنة.
وذاع الخبر حتى بلغ مدينة الصفائح، فجاءت أسرة المغني على عجل، وتبعها قوم كثيرون ممن يشتغلون بجمع الأعقاب ولم الورق القذر وسألوا عن جلية الأمر؛ فلما أن صح بينهم الخبر انعقدت ألسنتهم من الدهشة، وظنوا أن المغني ذهب ليدفن كنزه في مكان أمين فقعدوا ينتظرون، وطال بهم الانتظار على غير جدوى، فجزع الأكثرون وتفرقوا ولم يبق إلا أفراد أسرته، ولبثوا طويلا يترقبون ولكن أبا سنة لم يعد.
وهنا غلب السعال على «المعلم» فمنعه عن إتمام حديثه، وانتظر دانش حتي رد إليه النفس واستحثه بنظرة عينيه القلقتين فاستطرد الرجل: كلا لم يعد أبو سنة .. وما كان ليعود .. لقد هجر أسرته ومدينته وصحبه إلى الأبد، باعهم جميعا بتلك الورقة السحرية، ولما طالت غيبته رثى بعض إخوانه لحال أسرته، فخرج في طلبه والبحث عنه. ومن ذلك اليوم ترامت إلينا أخبار عجيبة، فقيل إن المغني التائه قادته قدماه إلى الأزبكية، وإن بغيا وقعت في هواه وأوقعته في شراكها، ثم قيل إنه اشتغل بالغناء في قهوة بلدية بالأحياء الموبوءة، وأخذ الكثيرون يتحدثون عنه بلغة الأساطير والخرافات، فقالوا: إن الدنيا تبسم له، وأنها في إقبال عليه يتزايد يوما بعد يوم؛ فالأموال تتقاطر عليه من كل يد والنساء يتهافتن عليه من كل باب، وإنه بطر وطغى وفرض السطوة وجبى الإتاوة ونشر الرعب.
كانت أخبارا غريبة يعز تصديقها، ولكنها فتنت شباب مدينة الصفائح وأثارت الطمع في قلوبهم، فلحق به نفر منهم إلى مهاوي الفجور، ومدوا إليه يد الأخوة، وقاسموه الخير والشر، فكانوا سواعده إلى الإثم والفجور والإرهاب.
ولبثت تلك الحياة ما لبثت، ثم انقطعت على أسوأ حال، وقيل في ذلك إن الرجل رجع يوما إلى مخدع عشيقة له على غير موعد، فوجدها بين يدي أحد أتباعه، فكبر عليه الأمر وأعماه الغضب، فاستل خنجره وقتل به الاثنين، وقبض عليه وعلى عصابته، وامتدت يد القانون إلى مدينة الصفائح منبت ذاك الشر، وانتهى الأمر فشنق أبو سنة وسجن أتباعه، وهدمت المدينة المظلومة .. وسبحان من له الدوام يا بك!
كان دانش يصغي إلى محدثه في ذهول، وسمعه يختم حديثه بلهجة مريرة ساخطة، فسرت في جسمه هزة عنيفة، ولم تعد أعصابه تحتمل الجلوس فقام منزعجا، وغادر القهوة دون أن يلقي عليها نظرة وداع.
كان كئيبا منقبض الصدر.
وكان يتذكر تلك الليلة السعيدة حين غلبته نشوة الفرح فغمر بفيضه بعض القلوب، ويتعجب. كان ليلتها سعيدا فرحا ينشد السعادة للجميع، فكيف انقلب غرضه عليه؟ .. كيف خانه الهدف فدمر مدينة وشرد أهلها؟
وا أسفاه!
ثمن السعادة
دخل الأستاذ الحجرة التي قاده إليها الخادم فلم يلق تلميذه الصغير في انتظاره كمألوف عادته، فجلس على كرسيه يقلب عينيه في الصور المعلقة على حيطان الحجرة، وكانت المرة الأولى التي ينتظر فيها تلميذه منذ جيء به له لعشرة أيام خلت، وأوشك أن يدعو الخادم حين سمع وقع أقدام خفيفة، ورأى الغلام مقبلا عليه يتأبط كتبه وكراسته، فحدجه بنظرة تعنيف، ولكن راعه أن يرى عينيه محمرتين من البكاء وذقنه الصغير يرتعش من التأثر، فسأله باهتمام: ما لك؟
وكأن السؤال أثار مكظوم شجون الغلام فاندفعت الدموع إلى مآقيه، قال وهو ينتحب: تيزة .. ضربتني، وتشاجرت مع بابا، وما زالا يتشاجران.
فسأله باقتضاب: من تيزة هذه؟ - امرأة بابا.
فدلته هاتان الكلمتان على معان كثيرة بغير حاجة إلى مزيد من السؤال. على أن الغلام تطوع من نفسه فسرد قصته الصغيرة الحزينة على مدرسه، قال: إن والدته ماتت لعهد ولادته، وأن أباه تزوج من تيزة بعد ذلك بعام أو عامين، وإنه يعيش بمفرده تحت رعايتها بعد أن تزوج أخواته الأربع في الأعوام الثمانية التي أعقبت وفاة الأم، وإن أسباب الخلاف لا تنتهي بين تيزة وأبيه، فلن يزالا يصطدمان ويشتجران، وأقسم أن الحق دائما مع أبيه، وأنه لا يشتبك معها حتى يضطر إلى ذلك اضطرارا، ثم لا يلبث أن يكف عنها يائسا قانطا، فلا تسكت هي عن الغضب والحنق والسباب. وأصغى المدرس إلى تلميذه بغير اهتمام ظاهر، وواساه بكلمة تافهة، ثم تناول الكراسة وبدأ عمله، ولم يطرقا الحديث مرة أخرى، ولا عادا إليه فيما أعقب ذلك من الأيام، حتى كانت ساعة درس فاقتحمت عليهما الغرفة بغير استئذان شابة حسناء في ريعان الشباب، فوضع الأستاذ الكتاب على المكتب وقام واقفا في تأدب واحترام، وألقى على الزائرة نظرة حيية، فراعه ما رأى - لا من حسنها وشبابها فحسب - ولكن من انطلاقها على سجيتها وعدم تكلفها، الأمر الذي أخرجها - بغير قصد طبعا - عن الاحتشام، فكانت ترتدي «روب دي شامبر» من نسج حرير رقيق يكشف عن ذراعيها ونصفي ساقيها وأعلى الصدر. وكان الأستاذ يظن أنه لا يجوز لشابة أن تبدو هكذا لعيني رجل غريب؛ ولذلك غلبه الارتباك والاستحياء، وحدس أنها إحدى أخوات تلميذه المتزوجات، وتأكد حدسه حين رآها تمد يدها في رفق إلى ذقن توتو تداعبه، ثم جلست باطمئنان تجاه المدرس وهي تخاطبه قائلة: تفضل بالجلوس .. هل يعجبك عمل توتو؟
فجلس أنيس وهو يقول: توتو مجتهد، وقد تقدم في هذين الأسبوعين في الآجرومية والمطالعة، ولا ينقصه إلا المثابرة على حفظ الكلمات.
فابتسمت ابتسامة حلوة وطلبت إليه أن يستمر في عمله، فعلم أنها ترغب في أن تشهد درسه، فلم ير بدا من متابعة الدرس متلعثما برما، واختلس منها نظرة فوجدها تنظر إليه بإمعان، فاعتقد أنها تتابع كلامه، فوجه انتباهه إلى ما يقول ليخرج صحيحا عذبا، ومرة أخرى وقع نظره على جيب الروب وقد انفرج عن أعلى الصدر فراغ بصره وارتد في اضطراب وذعر.
ولم تمكث الشابة طويلا فحيته وانصرفت، فشيعها بنظرة غريبة وقال لتوتو مستفهما: أهي أختك؟
فهز الغلام رأسه سلبا وقال بجفاء: تيزة.
فتملكت الشاب الدهشة وتساءل متعجبا: تيزة؟!
فنظر الغلام إليه بإنكار وقال: نعم.
فتمالك أعصابه ولم ينبس بكلمة، ولكنه لبث مشغولا دائم التفكير، وفي أثناء عودته إلى مسكنه بشارع ماهر بالجيزة استدعى صورة والد توتو - كما رآه يوم قدم إليه - ببدنه المترهل وكرشه الكبير ورأسه الصغير المستدير الأصلع قد علا المشيب قذاله، وقلق المنظار على أنفه الغليظ المجدور؛ ثم تمتم قائلا: «الآن فهمت كل شيء .. فرضوان بك حكمدار في المعاش جاوز الستين، وزوجته لا تعدو الرابعة والعشرين، وتوتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية .. ولكن لماذا تلطفت بالغلام أمامي؟! ولم يعتور أفكاره سوء؛ لأن أنيس كان طالبا - وإن كان أستاذا لتوتو - طاهر النفس. على أنه تأثر بحسنها وشبابها وخلاعتها غاية التأثر.
وفي الدرس التالي لم يكد يطمئن إلى مقعده أمام تلميذه حتى كانت «تيزة» ثالثتهما، وكانت كما رآها أول مرة جميلة خليعة مبتذلة في ثوبها ولم تلازم مكانها طول الوقت، فكانت تخرج لبعض الشئون ثم تعود إلى جلستها. وفي مرة عادت فجلست إلى جانبه دون أن يبدو عليها أنها تعمدت ذلك، فخال أنيس أن ساقها - لدنوها - تلامس ساقه. وعند انصرافه سلمت عليه باليد، فراح يضوع من كفه أريج معطر، ومضى مبلبل الفكر تضطرم في وجدانه يقظة عاطفية حارة، وما زال مشغول البال يحاول أن يتفهم محاضراته عبثا حتي ضرب مكتبه بقبضة يده، وصاح جزعا مكروبا: «لا أحسبني إلا مجنونا أو مسحورا.»
وفيما أعقب ذلك من أيام كان يذهب إلى بيت رضوان بك شغفا بها قبل كل شيء، وأحس أن تفضلها بحضور درسه هو السعادة الحقيقية التي تبذلها له الدنيا جميعا، فاستلذها واستطابها وجن بها جنونا. وجعلت الشابة الفاتنة تتودد إليه، وتعرض لعينيه المشغوفتين محاسنها العارية، وتداعبه بنظرات من عينيها حلوة فاتنة، أو لفتات من لحظها قاتلة فاتكة .. والشاب يذهل عما حوله بسرعة جنونية. وذهب يوما إلى بيت الحكمدار فوجد الشابة في الحجرة دون الغلام، فسأل عنه لا يحفل به في باطنه، فقالت له المرأة: «ذهب مع والده إلى شقيقته في الزمالك لأنها مريضة.» فأحس خيبة وحنقا لأنه سيضطر إلى مغادرة البيت، وقام واقفا كئيبا فسألته: «إلى أين؟» فأشار إلى الباب وقال: «سأعود من حيث أتيت.» فصوبت إلى عينيه نظرة ملتهبة وتمتمت بجرأة وهي تهز رأسها الصغير: «كلا ...» فخفق قلبه وتدافعت أنفاسه، ووقف حيالها كالمسحور المذهول، ثم تبعها على الأثر لا يلوي على شيء.
وتخلفت بعد ذلك عن حضور دروسه، ولكنها سمت له الأيام التي يستطيع أن يلقاها فيها في أمن من الرقباء، فاندفع في سبيله كمياه الشلال الجارفة في فورة عاطفة مشبوبة تصم الآذان وتعمي البصر وتغرق هواجس النفس، مستكينا لنوازع شهوته وجنونه. وإنه ليغادر بيتها ذات أصيل من أصائل الحب إذ لاحت منه التفاتة بغير قصد إلى شرفة البيت المطلة على الطريق، فرأى مشهدا تجمد له الدم في عروقه، وتصلب شعر رأسه من الهول، فتعثر وأوشك أن يقع على وجهه، وهرع إلى الإفريز تحت الشرفة كأنما يداري نفسه، وتقدم في خطى مضطربة لاهثا حتى بلغ منعطف الطريق، وأراد أن يستوثق مما رأى فصوب بصره في خوف وإشفاق نحو الشرفة، فرأى عند مدخلها رضوان بك برأسه الأصلع المستدير يجلس مطمئنا إلى كرسيه في جلباب فضفاض يطالع جريدة ويهش الذباب عن وجهه بمذبة .. فأيس من تكذيب عينيه، ولهث قائلا بفزع لا يوصف: «رباه إنه هو هو .. نعم في جلباب البيت، فكيف كان ذلك؟» .. هل عاد إلى البيت أثناء وجوده مع زوجه؟ فكيف لم يشعرا به؟ ولماذا لم يقصد إلى حجرة نومه ليبدل ثيابه، أم إنه كان في البيت قبل ذهابه هو إليه؟ فكيف استقبلته المرأة باطمئنان؟ وكيف لا تعلم بوجود زوجها في البيت؟ بل كيف لم يشعر به رب البيت مع أنه غادر المخدع في خطي مطمئنة غير محاذر؟ رباه .. لقد نجا من شر فادح .. وداخله إحساس الذي يستيقظ بغتة فيجد أنه قد اجتاز سورا شاهق العلو في نومه .. وتخايلت لعينيه أشباح الإثم والجريمة والسجن، فعزم على أن يضرب بغرامه عرض الحائط متعظا بالهاوية التي أوشك أن يتردى فيها، ولكنه لبث يذهب لإعطاء دروسه للغلام توتو. وكان يعاني آلام قلبه وجموح عواطفه، ولكن المرأة لم تمهله حتى يتناسى ويتعزى، فعادت إلى اقتحام حجرة الدرس عليه وسألته بعينيها في عتاب وكدر .. وحين انتهاء الدرس تبعته إلى الباب الخارجي وسألته بحدة: «لماذا لا تأتي؟» فقص عليها همسا ما رأته عيناه آخر مرة، ونظر في وجهها ليمتحن أثر كلامه، فهاله ألا يرى الانزعاج الذي كان يتوقع، وسمعها تقول بلهجتها الغاضبة: «كذبتك عيناك.» .. فأكد لها أن ما رآه حق بغير ريب، فاستهانت بتأكيده وقالت له: إنها ستنتظره وترى ما هو فاعل .. فأبدى لها مخاوفه .. فقالت وقد نفد صبرها: «أنت مخطئ واهم، فتعال ولا تتعب نفسك بالنظر إلى الشرفة .. تعال ولا تخف.» فوعدها بالعودة لكي يتخلص من إلحاحها، ثم انطلق على نية ألا يعاود ذلك البيت إلى الأبد.
ولبث على ذلك أسبوعا كاملا. وفي مساء يوم الجمعة، وكان في الشقة - التي كان يشاركه فيها بعض الأقران - بمفرده، سمع طرقا على الباب، فمضى إليه وفتحه، فرأى أمامه رضوان بك بجسمه المترهل متوكئا على عصاه ذات المقبض العاجي، فسرت في جسده رعدة شديدة زلزلت قلبه زلزالا عنيفا، ووثب إلى ذهنه خاطر سريع؛ إن المرأة ربما وشت به كذبا عند زوجها لتكيد له، وإنه جاء للتأديب والانتقام .. فاستولى عليه اليأس والقنوط، وصعد في وجه الرجل نظرة ارتياع ليقرأ ما تدل عليه أمارات وجهه وما ينذر به حضوره، فرآه هادئا مبتسما كأنه جاء لسلام لا لقتال. ومد يده بالسلام، فمد الشاب يده، ولما يفق من دهشته .. ثم تنحى عن الباب وهو يقول مزدردا ريقه: تفضل بالدخول يا سيدي .. فدخل البك وهو يتحدث قائلا إنه لا داعي للجلوس لأنه على عجل، وإنه جاء ليسأل عن صحته وعما اعتاقه عن متابعة دروسه .. واعتذر أنيس بأن موعد امتحانه اقترب، وأنه في حاجة إلى كل دقيقة من وقته .. ولكن البك لم يقتنع بحجته ورفض أن يقبل عذره، وطلب إليه برقة ألا يحرم توتو من دروسه، فعاود الشاب الاعتذار، وكر الرجل إلى الإلحاح، ثم أدنى رأسه من أنيس وقال له: «لا بد من حضورك؛ فهذا ضروري جدا لتوتو .. تعال حينما تشاء وكيفما تشاء .. لا بد من حضورك؛ فهذا ضروري جدا» .. وكان لا يحول بصره عن الشاب، فوجد في نظرته ونبرات صوته ما أثار فضوله ودهشته .. أما الشيخ فصمت لحظة مترددا، ثم استدرك قائلا: «هذا ضروري لتوتو ولسعادتي ولسعادة الأسرة .. بل لسعادتنا جميعا .. فأصغ لي، لا بد من حضورك.»
واحتقن وجهه بالدم، وارتعشت شفته السفلى وذقته كالطفل إذا أوشك أن يفحم بالبكاء، ثم تحول عنه .. ومضى دون أن ينتظر موافقة الشاب، ولبث في مكانه متفكرا مذهولا تتجاذبه شتى العواطف.
وكان الأسبوع الذي أعقب هذه الزيارة معترك أزمة نفسية عنيفة أخذت بتلابيب أنيس، فتقاذفته الغرائز والشهوات، وتجاذبته نوازع اللذة ومغريات السلامة والطمأنينة. وكان ذا عزيمة وسريرة طاهرة وقلب نقي، فآثر السلامة؛ فلما استدار الأسبوع أحس قواه تتماسك وتشتد، فأطرى إرادته وجعل يتناسي بيت رضوان بك السيئ الحظ وزوجته الحسناء القلقة الغضوب، ويودع ذاك العهد زاوية من زوايا الذكريات الغريبة المنسية.
وانتصف مايو، فقصد أنيس يوما إلى الكلية ليسأل عن موعد ظهور نتيجة الامتحان. ولما بلغت قدماه باب مقهى المثلث شعر بإنسان يعترض سبيله بعصاه كالمداعب، فرفع رأسه إليه فرأى رضوان بك يغادر المقهى يسبقه أحد أصدقائه إلى سيارة تنتظر عن كثب، فارتبك ورفع يده بالتحية، وابتسم البك ثم سأله عن حاله، وتحدث معه قليلا دون أن يعرج إلى الذكريات القديمة. وحين هم بمفارقته غير لهجته وقال بصوت دل على الضراعة والمضض: أيها الشاب .. إياك والسخرية من الناس أو الهزء بالبؤساء؛ فأنت تجهل الدور الذي تعده لك الأقدار غدا. واذكر أن أغرب تصرفات الإنسان لا تعوزها أسباب تبررها؛ فصن لسانك عن الأذى، وحاول ما استطعت أن تتعظ بما يصادفك من العبر. كتب الله لك حظا سعيدا.
ورفع يده بالسلام، وسار في طريقه منتصب القامة يدل مظهره على أنه رجل عسكري بغير جدال.
حلم ساعة
من عجيب الأمور أننا قد نحيا حياة سعيدة نخالها طويلة في حلم قصير الأجل، وما تعتم أن تطرق اليقظة مغلق الأجفان فينتقل النائم من عالم الأحلام المخدرة إلى دنيا حقائق شديدة الجفاء، وما يجد يده قابضة إلا على هواء. على هذا المثال مضى ذلك اليوم من حياته، كان يوما أو بضع يوم، ولكن قلبه ذاق فيه سعادة وغبطة، وحلق في آفاق بعيدة من أحلام المنى، وخفق خفقة فرح سماوي جاوز به عالم الزمان والمكان، ثم أدركته يقظة منكرة اغتصبته من عالمه الحنون السعيد على نحو بالغ في القسوة والوحشة .. كيف كان ذلك؟
كان اليوم السعيد الخميس، وكان الأستاذ بهاء الدين علما عائدا من سماع محاضرة علمية في الجمعية الجغرافية الملكية عن الغدد الصماء، وكان يسير في ميدان الإسماعيلية متفكرا في تلك الأدوات الإنسانية العجيبة، المسيطرة على الفرد أيما تسيطر، وكيف يزعم العلماء أنهم بالتحكم في إفرازاتها يستطيعون أن يحولوا الطيب إلى شرير والشرير إلى طيب، والشاعر إلى رياضي والرياضي إلى شاعر، وكيف يفسرون أخيلة جيتة وأحلام شيلي بعصاراتها المتدفقة في الدم .. وكان رأسه لا يكاد يخلو من أمثال هذه الأفكار؛ فهي مادة عمله ومادة حياته معا. وفي الواقع يندر أن نجد بين شباب المعيدين بكلية العلوم من يناظر الأستاذ بهاء الدين في حبه العلم وحرصه على تحصيله.
وكأنما أرهقه القعود والسكون - في أثناء إلقاء المحاضرة - فأحس بارتياح إلى المشي، واعتزم السير على الأقدام إلى شارع فؤاد الأول، واتجه إلى شارع قصر النيل في خطى وئيدة يدخن لفافة من التبغ ويجتر أفكاره وتأملاته في لذة ويسر، وصادف بلوغه مدخل المكتبة الفرنسية بروز فتاة منها تندفع فيما يشبه العدو، فتوقف بحذر ووجل، وتراجع خطوة على عجل وتوقفت مثله وتراجعت، والتفت نحوها فرآها ترمقه بنظرة ارتباك واعتذار، ثم مضت في سبيلها حتى إذا ما حاذته عطفت رأسها إليه بغتة وقد بدا على وجهها التساؤل والحيرة، وكأنها تحاول تذكره ولا تدري كيف، ثم أدركت بأن نظرها إليه هكذا من الغرابة فأدارت رأسها عنه وما روت غلة، وقصدت إلى سيارة تنتظر إلى جانب الإفريز، فأدرك من وهلة أن صورته اشتبهت عليها، وعلت لذلك فمه ابتسامة، وأراد أن يستوثق من رأيه فألقى بنظرة إلى السيارة - وكان جاوزها بأمتار - فرآها تتابعه بنظرة تعلو وجهها آي الحيرة والغرابة، فغمرته موجة انفعال مضطرب لذيذ، وتعثر بأذيال الارتباك والحيرة، ثم تحركت السيارة مندفعة في الاتجاه الذي يسير فيه، وما تزال صاحبتها ترنو إليه خلال زجاج النافذة بنظرة تحير بماذا يصفها .. ودية؟ .. حنونة؟ .. حتى باعدت بينهما المسافة.
وعجب الأستاذ أيما عجب، على أن عجبه كان شيئا يسيرا إلى ما أحس به ساعتئذ من ثورة الوجدان. وكانت الفتاة شابة حسناء مدمجة الخلق، مرتوية الساقين، فاتنة القسمات، يزين وجهها عينان زرقاوان لنظرتهما وقع السحر في الحواس والقلب والأعصاب؛ فانبعث في قلبه خفقان واضطراب، وشعر بنشوة رائعة، ثم لسعته حسرة أليمة؛ حسرة محروم طال عهده بالحرمان. وكانت حياته في الواقع خالية من الحب مثل كهف رطب لا تزوره الشمس؛ لأن تفانيه في طلب العلم لم يدع له وقتا لشيء سواه ، ولعيبين طبيعيين كبرا في وهمه واشتدا على نفسه؛ إذ كان يترامى إلى أذنيه أنه «ثقيل الدم». وكان إلى هذا عييا حصورا لا يكاد يبين، فلم يكن في وسعه قط أن يحسن خطاب فتاة فضلا عن أن يغازلها. ودعاه هذا وذاك إلى النفور من الحسان وإلى ما يشبه الخوف منهن، وحز لذاك الألم في نفسه، وسكب في قلبه امتعاضا ومرارة، فتبدى عليه الجفاء والوحشة، واضطرب عهدا طويلا بائسا بين الرغبة في الحب والخوف من المرأة، والتشوق إلى النساء والحقد عليهن، فكانت تلك النظرة الحلوة أول نسمة تهب عليه من دنيا الوجدان فترتوي بها نفسه الظمآنة ويندى بها قلبه الجاف، ولكنه ارتواء كالظمأ، وندى أشد حرقة من الجفاف، فتحير وتعجب، وتساءل وهو يقلب كفيه: تري ما خطب هذه الفتاة؟ .. وما معنى هذه النظرة الفاتنة التي أذابت الوجد والهيام والحنو المتجمد في قرارة نفسه؟ .. إنه لا يعرفها على وجه اليقين ولا يذكر أنه رآها من قبل، وهي بغير ريب لا تعرفه أيضا؛ فلا هي قريبة ولا جارة ولا طالبة بكلية العلوم. لعله التبس عليها شبهه، ولكن كيف طال بها الشك تلك المدة السعيدة التي أدامت فيها النظر إليه؟! .. ومضى يتفكر تنقله الحيرة من فرض إلى فرض وقد انشغل عن الغدد والكيمياء جميعا.
وكان في عزمه أول الأمر أن يعود إلى بيته، فيستمع إلى المذياع ساعة ويطالع ساعة قبل النوم، ولكن عافت نفسه ذلك، ومضى يضرب في الأرض على غير هدى تاركا محرك خياله للخواطر السعيدة والأحلام اللذيذة والأوهام المخدرة حتى أعياه التعب وتعناه المشي، وكان سري عنه بعض الشيء، وأخذ يفيق من أثر النظر فاتجه إلى قهوة روجينا، وجالس بعض صحبة حتى شارفت الساعة التاسعة، ثم خطر له أن يقضي سهرة المساء في سينما رويال - وكان قليلا ما يجذبه مزاجه إلى ذلك - فسار بلا تردد إلى السينما وقطع التذكرة. وكان يكره الانتظار جالسا، فدلف إلى الصور المعلقة بالردهة الخارجية وقلب فيها عينيه، ثم أدارها ظهره ملالا، وأرسل بناظريه إلى مدخل السينما يشاهد جمهور الداخلين، فرأى سيارة فخمة تقف أمام مدخل السينما، وفتح بابها ونزلت منها سيدة بدينة بادية النعمة والثراء تبعتها على الأثر فتاة حسناء انخلع لرؤيتها قلبه في صدره، وأحس بفرح عجيب تمازجه دهشة فلم تتحول عنها عيناه، وفاته في ذهوله أن يرى ضابط بوليس شابا يبرز من الباب الثاني للسيارة ويدور بسرعة ويلحق بالسيدة والفتاة، وانعطف رأس الفتاة إليه، وكانت فتاته دون سواها كأنما جذبتهما قوة بصره المشوق، والتقت عيناهما، ولاح على محياها الجميل الاهتمام والدهشة، ورقت نظرتها بالحنان الذي حيره وفتنه منذ حين، فتبعهم في خطى مضطربة ملبيا نداء قوة عاتية، وصعدت الفتاة مع الصاعدين إلى الطابق الثاني، فوقف في الردهة يتابعها بعينيه، ورآها قبل أن يغيبها عن ناظريه منعطف السلم تلقي عليه نظرة أخرى .. يا لها من نظرة .. فاستخفه طرب جنوني عذب لا يتأتى لغير الموسيقى وصفه، واندفع إلى الداخل لا يلوي على شيء؛ فلما اطمأن به مقعده مضى يصعد نظره في الألواج والبناوير باحثا عن الوجه الحبيب ذي النظرة الفاتنة الحنون، حتى وجد ضالته في البنوار رقم 3، وكانت تتقدم السيدة بقامتها الهيفاء، والتقت نظرتها بوجهه هذه المرة أيضا، وكأنها تتوقع أن تجده مجدا في العثور عليها، فارتسمت على شفتيها القرمزيتين شبه ابتسامة أضاء لها وجهها بنور بهي، وجلست وهي ترنو إليه بعينيها فبدت وهي تنحني قليلا وكأنها تحنو عليه، وأنقذه من سعادته التي لا تحتمل انطفاء الأنوار وانهماك الشاشة في عرض أخبار الدنيا.
كان قلقا مجنونا إلى غير حد، فرحا سعيدا بغير حساب، يشعر برغبة عنيفة لا يدري ما كنهها إلى القتال أو الرقص أو الصياح أو البكاء، وتندت أهدابه بدمعة أحس بتفجرها من أضلعه. كان بمعنى آخر عاشقا يتلقى قلبه لأول مرة أمواج الحب الكهربائية الغامضة غموض الأثير، وأغمض عينيه في الظلام وهو يتنهد في ارتياح وغبطة مستسلما للذة الأحلام، وتساءل في استسلامه السعيد: ترى ما الذي ساقه هذا المساء إلى السينما ولم يكن أعد نفسه لذاك؟! .. إن كل شيء يبدو وكأنه يؤكد أن القدر يرسم خطة رائعة بدأها في شارع قصر النيل وما زال ينسج فصولها في سينما رويال، نعم إنه لم يرها عبثا، ولم تلتق عيناهما مصادفة، كلا ولم يأت إلى السينما اتفاقا، ولكن الحب يخلق الحوادث والظروف، وإلا فما معنى هذه الحلقة المتقنة؟ وما معنى هذه النظرة الحنونة العذبة الذي دل تكرارها على أنها مغرضة، أليس هذا الذي يسمونه الحب من أول نظرة؟! .. بلى هو هو .. ويشهد عليه قلبه ومشاعره ونظرتها الفاتنة النافذة التي لن ينمحي أثرها من نفسه. كيف حدث هذا؟ .. هل كان القدر في قسوته عليه وازوراره عنه يدخر له هذه المفاجأة السعيدة وهو لا يدري؟! .. وهل وجدت أخيرا من لا يستثقل دمه كما يستثقله كثير من الناس؟! .. ومن تتعرف نفسه بالنظرة الملهمة لا بتغرير الألفاظ وسحر البيان؟ .. كم سخط على الدنيا ظلما، وكم أدان القدر جهلا .. والساعة الساعة ينتهي الجفاء وتتبدد الوحشة، ويندى قلبه المحروم ويرطب حلقه اليابس. وفكر الأستاذ بهاء الدين إلى هذا في أمور غاية في الأهمية والجد، تناولت حاضره ومستقبله، ولم يفته أن يحسب حساب الوسيلة إلى التعرف والخطبة، ولا فاته - في تلك الساعة - أن يقدر المهر ويحدد تاريخا للزواج السعيد.
ولم يحس بالوقت كالسعداء، وجعل يتأمل بعين مخيلته الوجه النضير والنظرة المضلة للقلوب، مستسلما للأحلام استسلام الحران إلى برد النسيم، حتى ظن أن أشهى الأماني دانيا لا يكلفه جنيها إلا أن يمد يده فيقطفها في يسر واطمئنان.
وانتهت الشاشة من عرض فصولها الأولى وأضيئت الأنوار، ففتح عينيه وكأنه يصحو من نوم سعيد، وصعد رأسه إلى البنوار رقم 3 فرأى فتاته في أجمل صورة ترشقه بنظراتها الفاتنة كأنما كانت تنتظر انقشاع الظلمة مثله، ورآها تميل برأسها نحو السيدة البدينة - التي تدل الظواهر على أنها أمها - وتهمس في أذنها، ثم شاهد السيدة تنظر إلى أسفل باحثة بعينيها عن ضالة حتى استقرتا عليه .. فارتبك وتعجب وتساءل: ترى لماذا تدل أمها عليه؟! .. على أن عجبه ازداد إلى غير حد لأنه رآها تعطف رأسها إلى الوراء وتحادث شخصا لا يرى سوى أعلى طربوشه . ومال هذا الشخص إلى الأمام ونظر صوبه، وكان ضابط البوليس.
فلم يستطع أن يديم النظر إلى أعلى، وأدار رأسه إلى الأمام، ولكنه تذكر هذا الضابط، وذكر أنه كان من زملاء فرقته في الخديوية، وأنه يدعى علي سالم، وأنه كان مبرزا في الألعاب الرياضية، وظن أنه أخو الفتاة ولكنه تحير في فهم الدواعي التي بعثتها إلى توجيه الانتباه إليه بكل جسارة وفيما عسى أن حدثتهما به عنه .. وغلبه الشوق وحب الاستطلاع فرفع بصره إلى البنوار مرة أخرى فرأى الوجوه الثلاثة محدقة فيه، وخيل إليه أن زميله القديم يحييه فلم يصدق بصره، وظل جامدا ولا يتحرك، فأعاد الضابط تحيته برفع يده إلى رأسه، ورد عليه الأستاذ التحية مرتبكا، وشاهده يدعوه أن يصعد إليه فخفق قلبه خفقة عنيفة، وقام واقفا وقد لفته الدهشة والارتباك وغادر المكان في ذهول شديد. وصعد السلم والتقي بصاحبه عند مدخل البنوار، واستقبله هذا استقبالا وديا وشد على يده بحرارة - ولعله فعل ذلك ليطرد عنه الدهشة والارتباك - ثم أوسع له وهو يقول هامسا: تعال أقدمك إلى أهلي.
ووجد نفسه في البنوار أمام السيدة والفتاة الجميلة، وقال وهو يقدمهما له وهو يشير بيده: حرم الأميرالاي محمد بك جبر، الآنسة زينب كريمتها وخطيبتي.
ثم التفت إليه وقدمه لهما مكتفيا بذكر اسمه وزمالته القديمة لأنه كان يجهل حاضره، ودوت كلمة «خطيبتي» في أذنيه دويا مزعجا أطفأ نشوة الفرح في حواسه جميعا وسكب مكانها خيبة مرة، فجلس كما طلب إليه ذاهلا مرتبكا قانطا عاجزا العجز كله عن حصر انتباهه فيما حوله. وكانت السيدة ترحب به وتشارك الضابط في التودد إليه ومجاملته، ولكنه لم يدر مما قالا شيئا، واكتفى قهرا بانتزاع ابتسامة مغتصبة من شفتيه يرد بها عليهما ردا صامتا كئيبا. وكان يتخبط في حيرة عمياء لا يدري لماذا دلت الفتاة عليه، ولا كيف دعاه زميله، ولا لأي سبب عرفه بهما وعرفهما به .. ولاحت منه نظرة إلى الفتاة فوجدها تبتسم إليه ابتسامة حزينة فشعر بامتعاض، ووجه عينيه إلى أمها كأنما يفر منها فرارا، فرأى المرأة ترنو إليه بعينين مغرورقتين بالدموع، فازدادت دهشته، وبدا عليه الانزعاج، والتفت إلى صاحبه متسائلا متحيرا، ودق الجرس في تلك اللحظة منذرا بإطفاء الأنوار، فقام الشاب واقفا وأحنى رأسه تحية، ودعته السيدة إلى زيارة البيت فوعدها قائلا: إن شاء الله.
وهو لا يعني ما يقول. وغادر البنوار، ولحق به صاحبه، وكان يدرك ما يقوم بنفسه من الدهشة والانزعاج، فقال له وهو يشد على يده مودعا: أنا آسف جدا على ما أحدثته دعوتي لك من الارتباك والإزعاج، وحقيقة المسألة أنك تشبه شبها عجيبا ابنا شابا كان فقدته الأسرة منذ عامين، ولعل هذا يفسر لك كل شيء أيها الصديق.
وهبط السلم في خطى بطيئة جدا، وكان يتوقف كل درجتين ويتأمل فيما أمامه بعينين لا تريان شيئا، وعلت شفتيه الشاحبتين ابتسامة هازئة مريرة، وقد بدا له كل شيء كريها كئيبا تعافه النفس.
الثمن
أخذت زينتها وسارت على غير هدى، كيفما ساقتها قدماها وغيرها من النساء لا يتصدين للمرأة حتى يفرغن من المهام والواجبات، وغيرها من البشر لا يسير على غير هدى عادة إلا إذا ركن إلى اللهو والعبث واستقبل الراحة والفراغ.
هي بخلاف هؤلاء وأولئك، إذا توثبت للعمل وانبرت للواجب أخذت زينتها وسارت على غير هدى .. وقريبا من الطوار الذي تسير عليه رأت بمؤخر عينها سيارة تدنو ثم تقف على بعد أذرع إلى الأمام؛ سيارة كبيرة بحجم الحجرة التي تنام فيها إذا رقدت بمفردها، وقد غادرها سائق زنجي مارد وفتح الباب ووقف جانبا كالتمثال، فبرزت حسناء هي الجمال وهي الجلال، فما يمنع من الاندفاع نحوها إلا أن نورها يغشى العيون، كلسان من لهب بهي المفاتن ساحر الألوان، ولكن هيهات أن يجرؤ إنسان على لمسه، فخطفت بصرها، وسرعان ما دبت اليقظة في عينيها الساهمتين ولاحت فيهما نظرة تفحص واهتمام، وفي لمح البصر أقرت لها قهرا بالتفوق المطلق وغلبها الإعجاب على أمرها، ثم تحفزت للنقد بغل فما عتمت أن باءت بمرارة الخيبة والسخط. وتهادت الحسناء إلى المحل الذي وقفت تجاهه السيارة فخطر لها أن تتبعها ، ولم تر في ذلك من بأس؛ فسيان أن تمضي إلى الأمام أو أن تعرج إلى اليسار، فوجدت نفسها في محل رائع أنيق تطالعها من جوانبه وأركانه زجاجات الروائح العطرية مختلفة ألوانها وأشكالها، فسارت على مهل في جراءة وثبات، فمنذ أمد بعيد تناست أن في الدنيا شيئا يخاف غير الشرطي، وتظاهرت بأنها تتفحص المعروضات النفيسة في أقسام المحل، وتبعت في الحقيقة الفاتنة الحسناء. سارت رأسا إلى صدارة المتجر الأنيق، وأقبل نحوها البائع بترحيب، فطلبت إليه حاجتها، وساعدها البضة تشير إلى الرف البلوري رصت عليه الزجاجات الفاخرة، فأدركتها ووقفت إلى جانبها ومضت تقلب عينيها في الرفوف اللألاءة، وأتى البائع بزجاجة زرقاء بديعة الصورة فتناولتها الحسناء ورنت إليه بعينين متسائلتين، فقال الرجل بأدب وإجلال: «عشرون جنيها يا هانم.» فأومأت برأسها دلالة على الارتياح والموافقة، فاسترد الرجل الزجاجة، وكتب لها قائمة بثمنها وقدمها لها، فأخذتها ومضت بها إلى صندوق الدفع، وخفق قلب الأخرى بعنف لسماع الرقم، فكانت كمن يسمع اسما قديما رهيبا يثير في النفس كوامن الشجن ويستدعي ذكرى قائمة موجعة الصدى .. رباه .. أي دور لعبه في حياتها هذا الرقم المشئوم الذي لا تعرف الحسناء عنه إلا أنه ثمن زجاجة رائحة عطرية فريدة .. لو وجد يوما في يدها لكان الحال غير الحال والحياة غير الحياة، ولكفاها شرا فظيعا، وهو ليس بالطلب العزيز يشترى بالمهج، ألم تر كيف يبذل عن طيب خاطر ثمنا لرائحة زكية يتبخر معها من ثنايا المناديل ومفارق الشعور؟! .. ومع ذلك فآه لو وجدته قبل عشرة أعوام .. ولكنه لم يوجد وخاب مسعاها وردت راحتها الممدودة، سدت في وجهها السبل وضيق عليها الخناق، فتجرعت غصص القنوط ثم هوت وقذف بها إلى دنيا أخرى منكرة. وهكذا الدنيا قاسية لا قلب لها، والناس لا يرحمون، والحياة أشد وحشية من البحر الهائج والنار المضرمة؛ فقد لا يعدم الإنسان إذا أشرف على الغرق أن يسبح وراءه السابحون، أو إذا اشتعلت النار في أطرافه أن يهرع إليه ذوو النجدة، أما في معترك الحياة فالضحايا لا عداد لهم، تعركهم الرحى وإخوانهم سكارى بأطماعهم ومشاغلهم؛ فلكم استصرخت بغير طائل، بل كانت ملهاة للنظارة، ثم بعد ذلك متعة للمتمتعين، والدنيا تضيق بمن ينشدون صيدهم بين الضحايا البائسة شردها الجوع والحرمان والأمراض، فوجدت نفسها في دنيا الشذوذ والعناد حيث تقتتل الضحايا من كل نوع، ضحايا الطموح الكاذب والشهوات البهيمية والفقر المذل للأعناق، عالم البؤس حيث لا عودة لمن مضى إليه ولا إفاقة لمن نهل من سمه، قذارته لا تمحى فليس على القذر إلا المزيد من القذارة والتمرغ في التراب. وكيف صارت بعد ذلك؟! .. وا رحمتا .. فؤادا قاسيا وقلبا كافرا ولسانا دنسا ونفسا تنضح بالخبث واللؤم والكراهية، على وجهها الطلاء، وفي جسمها المرض، وملء روحها الشر، ومن مراتعها السجون.
مرت صور الذكريات بمخيلتها مرا سريعا مضطربا، لم يستغرق زمنا يذكر، فاختلط في وعيها أشتاتا من ذكريات متناثرة ومشاعر مهوشة أسبغت على خيالها لونا أسود، فشعرت بامتعاض وانكسار. وكانت عيناها لا تزالان عالقتين بالحسناء فاتجهت نحوها في خطي متثاقلة غير ملقية بالا إلى البائع، وقد وقف قبالتها ينتظر أوامرها .. اندفعت نحوها برغبة قوية وجعلت تحدث نفسها كالهاذية: «عشرون جنيها!» .. كم كان مقدارا جسيما، وكم علمت فيما بعد أنه شيء زهيد في متناول يدي، وها أنا ذا أراه ولا قيمة له. أما هي فامرأة حسناء .. ولكن لا يجوز أن توردها نفسها المهالك .. كما أوردتني نفسي أنا وقطيع البائسات .. هذا جائز .. ولكن ما هو سم لأناس قد يكون غذاء لآخرين، وما يوجب علينا الشقاء قد يتيح ألوانا من اللذات والسعادة .. وأوشكت أن تلاصقها، وتحولت الحسناء إلى شباك التسليم فتأثرتها، وأعطاها الرجل الزجاجة ملفوفة، ورأت الأخرى اللفة فثارت ثائرتها وخطر لها أن ترمي بها إلى الأرض مهشمة.
جاءها الخاطر مباغتا بغير إصرار سابق ولا نية مبيتة؛ فسرعان ما تملكها بقوة شيطانية واستولى على عقلها وإرادتها، فكأنها ما تبعت المرأة إلا لتحققه مهما كلفها ذلك من ثمن، ولم تدر لذلك سببا واضحا ولا هدفت إلى غاية ظاهرة، ولكنها كانت كثيرا ما تأتي بأفعال صبيانية وأحيانا جنونية بغير مقاومة ولا فطنة لبواعثها. وكان الاستهتار من سجاياها الراسخة التي اكتسبتها في أعوامها العشرة الأخيرة؛ فلم يكن شيء يوقفها عند حد أو يعطف بها عن شهوة، فاندفعت إلى جانب السيدة المتجهة نحو الباب كأنما تريد أن تسبقها إليه، واحتكت بها وهي تلوح بذراعها فصدمت يد الأخرى، فأفلتت اللفة الثمينة وسقطت على الأرض. ولم تلتفت الحسناء إليها، ولكنها انحنت على عجل نحو الزجاجة، والأخرى تنظر إليها متسائلة: هل نالت المرام؟! .. وجاءها الجواب سريعا، أو جاء أنفها على الأصح، قبل أن تلمس أنامل الحسناء حملها النفيس، فتصاعد شذا طيب، جماله لا يوصف، عطر الجو، ونفذ إلى الحواس والروح، فانتشت ثملة كأنه بث فيها غراما ووفاء وسحر هوى. واعتدلت السيدة وقد تضرج وجهها بالاحمرار، وصوبت نحو الأخرى نظرة ثاقبة، ولبثت هذه في مكانها جامدة الملامح ولكنها راضية النفس مستسلمة كأنها تقول بأفصح لسان: «افعلوا بي ما شئتم.» وانتظرت السيدة أن ترتبك الأخرى أو تعتذر، ولكنها ثابرت على جمودها وصمتها، ورنت إليها بعينين هادئتين مستسلمتين، ومرت لحظة دقيقة فتساءلت: ترى هل تساق إلى القسم؟ .. هل تشتبك في شجار مع السيدة أو سائق سيارتها أو باعة المتجر؟! .. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث؛ فقد تغير وجه الحسناء، فانبسطت أساريرها، ثم أغرقت في الضحك .. إن أفدح المواقف أدعاها للضحك، فقد أضحكها أن تخسر الزجاجة النفيسة في غمضة عين، وأن ترى تلك المرأة البلهاء وقد أذهلتها جريمتها ورباطة جأشها، وكان صاحب المتجر يهرول نحوها يلوح في وجهه الاهتمام، فهزت منكبيها استهانة وتحولت عن البلهاء وعادت القهقرى إلى صدارة المحل دون أن تنبس بكلمة، واندفعت المرأة نحو الباب كأنما تفر من المكان، ولما بلغت الطريق نظرت وراءها فرأت الأخرى بمكانها الذي أدركتها فيه حين تبعتها أول مرة، فتساءلت ذاهلة: «رباه هل تبتاع زجاجة أخرى؟!» ولكنها لم تقف، بل أسلمت قيادها لقدميها، وكانت فريسة انفعال طاغ تولاها بغتة، فمضت مقطبة الجبين زائغة البصر، إلا أنها لم تدم على ذلك طويلا؛ فما لبثت أن عادت إلى رشدها، خافت أن تبدو في هيئة قبيحة تنفر الأعين، فطاردت همومها الطارئة، وألقت نظرة على ما حولها، ثم أخذت تسير الهوينى متثنية الأعطاف وقد ابتسمت أساريرها.
نكث الأمومة
عندما دخل قطار الصعيد يهدئ من سرعته كان نور الفجر الأزرق الحالم قد اكتسى بحلة فضية من ضوء الصباح المنير، وقد فتحت السيدة روحية هانم عينيها مع بزوغ أول شعاع من أشعة الشمس، ولبثت لحظة مستسلمة لتراخي النوم، ثم اعتدلت في جلستها في الصالون وأدارت عينيها الزرقاوين الفاتنتين في أنحاء الصالون حتى استقرتا على وجه الأستاذ عاصم الذي كان يغط في نوم عميق، فلاحت فيهما نظرة حب وحنان، وكان من الضروري إيقاظه لدنو القطار من محطة مصر إلا أنها لم توقظه قبل أن تقوم إلى المرآة الصغيرة الموضوعة بين صورة الكرنك وأجا ممنون، فتسوي شعر رأسها وتمسح خديها وجيدها بالبودرة المعطرة. وتنبه النائم على لمس أناملها ذات الأظافر الأهرامية الحمراء .. وكان أول ما مس إحساسه في عالم اليقظة رائحة أنفاسها الذكية وهي تطبع على شفتيه قبلة شهية .. وفتحت النافذة وأطلت منها برأسها الذهبي كأنها شمس تشرق من الأرض، فرأت بناء المحطة يدنو من بعد فالتفتت إلى الأستاذ وقالت وهي تتنهد: وا أسفاه انتهت سفرتنا.
فقال لها وهو يتمطي: هذه نهاية كل رحلة، أما الحب فلا نهاية له.
فقالت بصوت جعله الشوق والوجد كلحن من الموسيقى الخافتة: أين أسوان أين؟ .. أين خلوة الصحراء تحتوينا معا؟ أين جدران المعابد تستر علينا؟ أين زورق النيل يجري بنا على سطح الماء؟ أين أنا وأنت لا نفترق ونشهد معا وجوه اليوم من الفجر والصباح فالضحي والأصيل ثم المساء .. واها.
فتنهد الشاب تنهدة هادئة لا كتنهدتها الحارة وقال: سنعود إلى أسوان في الشتاء القادم، أما الغد فإلى عش غرامنا المعهود في شارع سليمان باشا. - هيهات أن تعوضنا هذه الساعات التي ننتهبها انتهابا من ذلك الشهر السعيد الذي كنا فيه جسما واحدا وروحا واحدة.
وحاول أن يجيبها بمثل حماسها، ولكن خذلته نفسه الهادئة الملولة فقنع بقوله: صدقت يا عزيزتي.
ثم قام إلى النافذة الأخرى ففتحها، وكان القطار قد بلغ المحطة وأخذ يرسل صفيره المدوي في جوفها العظيم، فأرسلا بناظريهما إلى إفريز الاستقبال، وكان مزدحما بالجمهور. وسمعت الأستاذ يقول: ها هم أولاء .. زوجك وحياة ومدحت.
فقلقت عيناها بين الرءوس المشرئبة حتى اطمأنتا إلى رأس حياة الذهبي، فرق قلبها حنانا وتحولت عن النافذة وانطلقت تعدو خارجة والأستاذ في أثرها، وعلى الإفريز هرع إليها مدحت وحياة وهما يصيحان: «ماما.» فتعانقوا عناقا حارا. ولما تخلصت منهما رأت زوجها الشيخ وهو في عباءته الفاخرة، وطربوشه مائل إلى الخلف يبدي عن شعره الخفيف، فجمدت عيناها وتقدمت إليه ومدت يدها، فسلم عليها واجما ووضع يده أيضا في يد الأستاذ عاصم .. وساروا جميعا إلى الخارج؛ الزوج في المقدمة وخلفه الزوجة بين مدحت وحياة ومن وراء الجميع الأستاذ .. واستقلوا السيارة التي انطلقت بهم في طريق الزمالك.
وجلس الزوج وزوجه وحياة في ناحية، وجلس في الناحية الأخرى المقابلة الأستاذ ومدحت، واستطاع عاصم أن يرى حياة عن كثب لأول مرة؛ إذ إنها تقابله في زياراته المتكررة لوالديها، يا للعجب للشبه العظيم الذي بين الأم وابنتها، فلم يكن يفارق بينهما إلا ما يفارق بين نضارة الشباب الأولى ونضوج الأنوثة الكاملة؛ فكانت الفتاة كالياسمينة العبقة في الغصن، وأما الأم فكالوردة الناضرة في الزهرية.
وظلوا جميعا حتى قال الزوج: كيف كانت الرحلة؟ لعل صحتك تحسنت يا هانم.
فأحنت المرأة رأسها وتمتمت: «الحمد لله.» وقال الأستاذ: قل أن تغيب الشمس في أسوان، وهي أنجع دواء للهانم.
فابتسم الرجل عن أسنان ذهبية صناعية وقال: يسرني أن أسمع هذا، وعسى أن تسرا بدوركما لأنبائنا، فتهنئا حياة بخطوبتها القريبة.
واحمر وجه الفتاة وخفضت عينيها حياء، والتمعت عينا الأم وبدا عليها الاهتمام، ورددت نظرها بين حياة وزوجها وسألت بلهفة ودهشة: وهل تمت الخطوبة؟
فقال الرجل: لا يجوز أن تتم خطوبة فتاة في غياب أمها .. ولكنها ستتم قريبا بإذن الله.
ونظر الأستاذ إلى الفتاة وقال مبتسما: «مبروك.» أما الأم فسألت: من هو؟
وأجابها الرجل: طلعت، ابن شريكي.
وسأل المحامي: هل هو موظف؟
فقال الرجل بزهو: نعم وكيل نيابة.
وأطبقت روحية هانم شفتيها فلم تفه بكلمة أخرى، واستسلمت لأفكار غامضة فغابت عن الحاضرين، وانتهت السيارة إلى الفيلا ودخلوا جميعا ومعهم الأستاذ عاصم.
ولكنه استأذن بعد قليل وانصرف إلى بيته القريب. •••
كان السيد محمد بك طلبة من كبار تجار الشاي المعروفين بمصر، وقد ربح من تجارته ثروة عظيمة تقدر بمئات الألوف من الجنيهات، وكان في أخلاقه صورة من رجال طائفته الناجحين في حسن التدبير وعلو الهمة والحرص. وبالرغم مما تحفل به حياته من التجارب والمخاطرات، وبالرغم مما صادفه فيها من ويلات المحن وفرص النجاح، فإنه ما يزال يعد زواجه أخطر حادث في حياته، وهذا هو اعتقاده الدفين وإن لم يصرح به. وقد وقع هذا الحادث الخطير منذ عشرين عاما - وهو في الخامسة والأربعين - إذ كان بإحدى رحلاته التجارية بسوريا، وقد التقى هناك بأسرة زوجه وتعرف إلى والديها، وكان الأب سوريا والأم أمريكية، ورأى ابنتهما الشابة الفاتنة ساعة فوقع في حبها وجن جنونا، وتحركت في أعماق غريزته التجارية، غريزة الامتلاك، فخطبها إلى والديها، ولم يستدر ذلك الشهر حتى تم زواجه منها، وعاد إلى مصر «بأعظم ربح وأجمل امرأة في الوجود» كما قال لنفسه حينذاك.
وبدأت الحياة الزوجية بنجاح لا بأس به، وأثمرت على مر الأيام طفلين جميلين مدحت وحياة، فبشر مقدمهما الأسرة بدوام السعادة والعشرة .. ودارت السنون دورة سريعة، فوجد البك أنه أخذ يجتاز الحلقة السابعة، ويقنع من الدنيا بمشاهدة مدحت وحياة، ويكتفي من الحب بتذكر أحلامه المنطوية .. وأما المرأة فألفت نفسها في مكتمل الأنوثة ونضوج الشباب، فلم تجمل نفسها القناعة من الدنيا بالأبناء والأحلام؛ إذ كان شبابها عنيدا جبارا دائب الثورة على الزمن .. فتصدع ائتلاف الزوجين، وعجزت شيخوخة الرجل عن كبح هذه الحيوية الثائرة فانكمشت أمام سيلها العارم، وخلت لها المنحدر وانزوت مطعونة باليأس مذعنة بالتسليم.
واتفق أن كان الأستاذ عاصم المحامي - صديق الزوج وجاره - السبب المباشر في انفجار هذه الثورة الحيوية العنيفة، وقد تحيرت «صالونات» الزمالك في تحديد علاقته بروحية هانم؛ فمن قائلة إن هذا المحامي الجميل ليس إلا صديقا للأسرة، ومن هامسة بأنه عشيق الزوجة ومتغفل الزوج، ومن مؤكدة أنه عشيق الزوجة على علم وتسليم أو - على الأقل - تغاض من الزوج؛ وظل كل فريق على رأيه حتى ذاع خبر تلك الرحلة الشتوية إلى أسوان التي قيل في تعليلها إن الأطباء نصحوا للهانم بانتجاع الصحة في مصر العليا، وإن الزوج - الذي تمنعه أعماله في مثل هذا الوقت من السفر - عهد بالزوجة إلى صديقه المخلص المحامي الذي يسافر عادة في يناير كل عام إلى أسوان .. هنالك قطع الشك باليقين وارتفعت الآراء.
وكانت روحية هانم لا تهتم بشيء اهتمامها بشبابها، فكانت لا تني عن العناية به والتفكر فيه حتي غدا ذلك وسواسا ومرضا ينغصان حياتها بالمخاوف والأوهام، وكانت كلما تقدم بها العمر يوما تزايدت مخاوفها؛ ذلك أنها كانت تحس في أعماقها ببلوغ قمة الشباب التي لا يعقبها إلا الانحدار، وكانت تعلم أن شبابها هو سعادتها؛ لأنها بدونه لا تستطيع أن تجذب إليها الرجل الذي تحبه والذي تعلم - مع الألم الشديد - أنها تكبره بما لا يقل عن عشرة أعوام.
ولطالما تذكر ما قالت مرة امرأة - تعلن لها الود وتكتم العداوة - في مجلس لأخرى وهي تعنيها بالذات من أن النساء اللاتي يحافظن على شبابهن بعد فوات عهده يهرمن مرة واحدة بلا تدرج .. واها .. كم سخرت من رأي هذه المرأة وكم أرجعته إلى الحسد الذي تحمله لها، ولكن لا سخريتها ولا تظاهرها بالاستهانة أفاد شيئا في مغالبة الذعر الذي استولى عليها، والرجفة التي استحوذت على أعصابها .. فغدت كالمجنونة يخفق قلبها جزعا وإشفاقا كلما طرقت أذنيها دقات الساعة.
وجعلها ذلك في حيرة بين حبها لمدحت وحياة وبين الخوف منهما؛ فهما بلا شك لذة الأمومة التي تخفق في صدرها ولكنهما آيتان على كذب شبابها؛ أما حياة فقد بلغت السادسة عشرة من عمرها وهي تخطو إلى النضوج بخطى سريعة تدل عليها معاني العينين ونهوض الثديين، وأما مدحت فتعذيبه لها أشد؛ إذ إن هذا الشاب - الذي لم يجاوز الثامنة عشرة - ينمو نموا خطيرا؛ فهو فارع الطول جاهر الفتوة عريض المنكبين، والأدهى من هذا كله غرامه بشاربه ومطاوعة الشارب له؛ فالشاب يحب الرجولة ويستزيد منها حب أمه للشباب واستزادتها منه .. وقد كانت حريصة على استصحابه كلما خرجت حتى قالت لها مرة امرأة من صاحباتها: «ما أحرى الذي يراكما بأن يقول ما أسعدهما زوجين!» ولم تدر ما إذا كانت المرأة تثني على شبابها أو تغمزه، وعلى كل حال لم تستصحب فتاها بعد ذلك أبدا.
على أنه لاح في أفقها الآن ما يستخف بجميع همومها السابقة؛ إذ ما مدحت وما شاربه إلى زواج حياة المنتظر؟!
لقد بغتها الخبر، وكانت البغتة من الشدة بحيث لم تدع لها فرصة للتدبير ولا التفكير ولا حتى للتظاهر بالفرح أمام ابنتها إذ هم بالسيارة .. فلما ذهبوا إلى الفيلا خلت إلى نفسها بحجرتها معتذرة بتعب السفر، وفي عزلتها عاودت التفكير في هدوء وإمعان فتوالت عليها الفروض والتصورات؛ فهي لا تشك في أنه لولا الحياء لغنت حياة فرحا وسرورا، وأي فتاة لا تفرح للزواج؟ وخاصة إذا كان الشاب في عنفوان شبابه وجيها في بحبوحة من الغنى والجاه، سيدا في وظيفة تتيه على جميع الوظائف؛ فلعلها باتت تغرد في قلبها أطيار الحب وتحلق في جوها الطاهر أحلامه العذبة؛ فهي جد سعيدة بحاضرها، جد آملة في مستقبلها، ولا شك أنها تنتظر الآن أن تستعيد أمها راحتها من وعثاء السفر وأن تذهب إليها لتطبع على خدها الوردي قبلة التهنئة، فتعلن رضاها وموافقتها، فتتم الخطوبة وتكمل السعادة.
ولكنها إذا فعلت فستغدو الابنة زوجة وتمسي أما، فتسمع عن قريب من يناديها بقوله: «جدتي، جدتي.» لقد نطقت بهذه الكلمة الشنعاء فدوت في أذنيها دوي التصويت والنواح، فارتج لها جسمها البض وخفق لهولها قلبها العاشق .. وأحست ببرودة الخوف تسري في أعصابها سريان الجفاف في الغصن الرطيب .. وخيل إليها الوهم أنها تجلس إلى مقعد وثير وإلى جانبها ابنتها وعلى حجرها غلام كأنها تسمعه بأذنيها يهتف بها: «يا جدتي.» ورأت نفسها وقد ذوى جمالها وتغضن جبينها وغارت عيناها ورق خدها وابيض شعرها، فانتفضت واقفة وكتمت صرخة رعب كادت تفلت من شفتيها، وهزت رأسها بعنف لتطرد عن خيالها الأطياف المرعبة، حتى إذا عاودها اطمئنانها صاحت: «أبدا .. أبدا .. لن يكون هذا.» ولبثت ملازمة لحجرتها غير عابئة بما عسى أن يحدثه غيابها في نفس ابنتها العزيزة، حتي ثقل الأمر على البك فاستأذن عليها ودخل، وجلس قبالتها وجعل يرمقها بعينيه الحادتين وهو يرجو أن تفاتحه بالحديث، ولما لم يدع له إصرارها أملا قال: أرجو أن تكون أسوان قد شفت أعصابك.
وأغضبها قوله، وظنت أنه يتهكم عليها فنظرت إليه نظرة حمراء. ولما شاهدت عينيه الحادتين وقر في نفسها أنه هو الذي سعى إلى هذه الخطوبة، وأنه سعى إليها تأديبا لها وانتقاما منها، فهو أعرف الناس بها وأعرفهم على وجه الخصوص - بما يسرها وما يسوءها - واشتد بها - عند ذاك - الغضب، فعضت على شفتها السفلى، وأهملت الرد عليه، فقال كالداهش: ما لك؟ لست كعادتك .. والأعجب من هذا أنك لم تفرحي لما بشرتك به.
فاهتاجها الغيظ وقالت محنقة غاضبة: لن تتم هذه الخطوبة.
فبدا على وجه البك الانزعاج وقال: ما تقولين يا هانم؟
وأجابته بصوت صارم: أقول إنه لن تتم هذه الخطوبة. - كيف .. ولمه؟ - إن «حياة» ما زالت صغيرة السن. - ولكنها بلغت سن الزواج القانونية. - ماذا يفيد القانون إذا كان الزواج المبكر يؤذي صحتها؟ - لقد تزوجت يا هانم في مثل سنها، ومع هذا فإن كل من يراك يشهد لك بالصحة والنضارة.
فضربت الأرض بقدميها وقالت محنقة مغيظة: أنا دائما أشكو من أعصابي.
فضيق عينيه ورفع حاجبيه وقال في تهكم: ربما كان ذلك لعلة غير الزواج.
فغلبها الغضب واشتد بها الانفعال وقالت بصوت متهدج: باختصار لن تتم هذه الخطوبة.
ولكن الزوج صر على أسنانه الصناعية وقال: لقد أطلقت لك الحبل على غاربه، وملكتك حريتك الكاملة، وقلت لك منذ عامين «أنت وشأنك» .. ولكني لم أتنازل عن حقوقي كوالد، ولا أفكر في التنازل عنها، وإني لأشفق من أن تضيع على ابنتي مثل هذه الفرصة الذهبية؛ ولذا فإني أعلمك - وإني أعني ما أقول - بأني سأعقد هذه الخطوبة.
فقامت غاضبة وأشارت إليه بيد مرتجفة وصاحت: وأنا أؤكد لك بأنها لن تتم.
فهز الرجل كتفيه استهانة وغادر المكان وهو يقول: سنرى.
وصبرت الهانم حتى عاودها شيء من هدوئها، ثم دعت إليها ابنتها وحدثتها حديثا طويلا عن حبها لها وحدبها عليها وتوخيها ما ينفعها وإشفاقها مما يضرها، ثم خلصت إلى ما دعتها - في الحقيقة - من أجله، فأعلنتها بأنها لا توافق على زواجها، وأنها ترغب في تأجيله بضع سنين خوفا على صحتها، ورجتها رجاء حارا أن ترفض يد ذلك الشاب ولا تذعن لإرادة والدها.
وصمتت الفتاة صمتا بليغا، ولاذت به من الرفض أو القبول، وعبثا حاولت المرأة أن تخرجها من صمتها، ولكنها فهمت منه ومما طالعت في وجهها من الحزن والاستياء ما أشفى بها على اليأس والقنوط.
ولبثت الفتاة في حضرتها ما لبثت ثم غادرت الغرفة ولم تنفرج شفتاها عن غير التحيتين .. تحية اللقاء التي نطقت بها في مسرة وفرح، وتحية الوداع التي قالتها في صوت خافت بارد .. وجن جنون الأم وازدادت تشبثا وعنادا، ووقفت من الزواج موقف المقاطعة والتحدي .. فلما جاء الشاب الخطيب لزيارتها أبت أن تقابله كما رفضت مقابلة أهله من بعد، واضطر البك إلى انتحال الأعذار الكاذبة لها، وبذل الرجل ما في وسعه لإقناعها بالتحول عن عنادها وتوسل إليها باسم ابنتها، ولكنها ركبت رأسها وأبت أن تصغي إليه حتى انفجر مرجل الرجل وأقدم على الإفضاء بالحقيقة إلى شريكه - والد الخطيب - وشكا إليه قسوة امرأته التي تضحي بسعادة ابنتها في سبيل شبابها الكاذب .. وطلب إليه أن يعاونه على إتمام الزواج - رغم إرادة الأم - إنقاذا للفتاة من أنانية أمها المتوحشة.
وذاعت هذه الكلمة التي قيلت سرا في جميع الأوساط الراقية، وتحدثت بها «الصالونات» حتى بلغت أذني الأستاذ عاصم المحامي الذي بلغها بدوره إلى روحية هانم نفسها، ولكن لم يكن هذا - ولا ما أصبح يبديه مدحت وحياة من الاستياء والنفور - إلا ليزيدها عنادا وإصرارا .. ووجدت المرأة أن كل ما قيل وذاع لم يغن فتيلا في عرقلة الساعين إلى إتمام الزواج، وكانت ترى في نجاح مسعاهم القضاء الأخير على سعادتها وشبابها وغرامها، فانبرت للدفاع عن نفسها دفاع البائس المستميت، واهتدت - في قنوطها - إلى فكرة جهنمية شريرة لا تخطر على قلب أم أبدا، وسارعت إلى تنفيذها بقلب أعماه الخوف والجنون عن البصر بالعواقب؛ فقصدت يوما إلى عشيقها وطلبت إليه أن يقنع ابنتها بالعدول عن الزواج، وقد دهش الرجل وحق له أن يدهش، وقال لها: وما أنا ولهذا؟ .. ثم إنه لم تسبق له معرفة وثيقة بالآنسة حياة؛ فلا أدري والحالة هذه كيف يجوز لي أن أحادثها فيما هو من صميم حياتها الخاصة؟
ولكن المرأة استهانت باعتراضاته وكذبت عليه فقالت: حقيقة إنك لم تسبق لك بها معرفة وثيقة كما تقول، ولكنها تعلم أنك صديق والديها، وقد سمعت في بعض المجالس ثناء كثيرا على نبوغك في المحاماة؛ فهي لا شك تقدر رأيك حق قدره وتنزله من نفسها منزلة سامية.
فتورد وجه الشاب وذكر وجه الفتاة الجميل الذي سعد برؤيته ساعة في السيارة صباح العودة من أسوان، فلم يستطع أن يرفض، ولكنه قال متسائلا: فكيف لي بمقابلتها على انفراد لأحادثها في هذا الشأن الخطير؟ وإذا قابلتها فكيف أفاتحها به؟
فتنهدت المرأة ارتياحا وقالت: لقد دبرت كل شيء، سأصحبها يوم الأحد القادم لشراء بعض الحاجات، وعليك أن تقابلنا - مصادفة طبعا - في شارع سليمان باشا الساعة الخامسة مساء، وتقترح علينا التنزه قليلا على جسر قصر النيل فأتركها معك، وأعدك بأن ألحق بكما بعد دقائق، وتنتظراني ساعة على الأكثر؛ فإن لم أعد تأت بها إلى شيكوريل حيث تجدانني، وفي أثناء ذلك تستطيع أن تطرق الموضوع بلباقة المحامي وتفضي إليها برأيك في الزواج المبكر .. ما رأيك الآن؟
وقبل الشاب بسرور خفي، فتركته المرأة وذهبت إلى الفيلا على عجل، وأغلقت على نفسها حجرتها وأحضرت ورقة وقلما وكتبت ما يلي بيد مضطربة وبخط جهدت أن تخرج به عن مألوف خطها:
سيدي الأستاذ ..
أنت شارع في الزواج من كريمة محمد بك طلبة، ولكن ينبغي قبل ذلك أن تذهب بنفسك كل يوم إلى جسر قصر النيل الساعة الخامسة مساء وخصوصا أيام الآحاد.
ثم كتبت على الغلاف عنوان الخطيب ووضعت الخطاب فيه، وترددت لحظة رهيبة ثم نادت خادما وأمرته بوضع الخطاب في صندوق البريد.
وجاء يوم الأحد وخرجت الأم وابنتها وحدثت المقابلة مع الأستاذ، وتم لها ما أرادت من تركها معه، وذهبت بمفردها إلى شيكوريل وابتاعت حاجاتها، ولبثت تنتظر حتى حضر الأستاذ وحياة وقد اعتذرت إليهما قائلة: أوه .. لقد تأخرت عليكما لأن المحل مزدحم كما تريان. لا بأس، أظن أنه ينبغي أن نذهب الآن، نستودعك الله يا أستاذ.
وفي الطريق لازمت المرأة الصمت، وقد انتظرت طويلا أن تفاتحها الفتاة بالكلام، ولكنها ظلت واجمة كأنها تجهل اللغة التي تتكلمها أمها، واختلست المرأة منها نظرة فألفتها جامدة باردة لا تعير وجودها أدنى اهتمام، فانقبض صدرها وتذكرت - آسفة حزينة - كيف كانت في حضرتها لا تمل الحديث والضحك والمداعبة، وضاق صدرها بصمت الفتاة فقالت تحملها على الكلام: كيف كان التنزه .. وماذا قال لك الأستاذ؟
فأجابتها بإيجاز قائلة: تحدثنا أحاديث عامة تافهة لا تستحق الإعادة. - وما رأيك فيه؟ - هو جنتلمان.
وكانت ترجو أن تعرف من إجابة الفتاة الأثر الذي تركه حديث الأستاذ في نفسها، ولكنها لم تستطع أن تدرك شيئا.
ولما خلت إلى نفسها ذلك المساء تنهدت وقالت: «إن «حياة» لا تحاول إخفاء نفورها مني.»
نفورها! وما النفور إلى جانب ما صنعت هي؟ أي فعلة شنعاء! أي منكر! إنها تعرف نفسها أكثر مما يعرف الناس، وهي تعلم أنها سيئة التصرف، كثيرة الأخطاء متسرعة هوجاء، ولكن لم يسبق لها أن أخطأت خطأ منكرا كهذا الخطأ، وما لها تسميه خطأ؟ ولماذا لا تسميه باسمه الحقيقي فتقول إثم وجريمة؟ فهو جريمة شنعاء لأنه ليس أقل من محاولة تلويث شرف ابنتها والقضاء على مستقبلها في سبيل شهواتها هي، يا للفظاعة! لو أمكن فقط أن يبقى هذا سرا مكتوما، ولكنه لن يبقى كذلك لأنها في الحقيقة وإن كانت فكرت تفكير شيطان إلا أنها دبرت تدبير أطفال؛ فالرسالة التي كتبت قد تكفل لها فسخ الخطوبة ، ولكن من يضمن لها ألا يتصل خبرها بزوجها؟ ومن يضمن لها ألا يسأل الرجل ابنته عما جاء فيها؟ وإذا صارحت الفتاة أباها بأنها هي - أي أمها - التي تركتها مع المحامي ذلك اليوم، فما عسى أن يحدس الرجل؟
أواه! قد لا تكترث لغضب زوجها، ولكنها على وشك أن تفقد محبة ابنتها إلى الأبد، بل ابنها وابنتها معا؛ لأنه لا مدحت ولا أي ابن في الوجود يستطيع أن يبر بمثل هذه الأمومة المتوحشة. وأحست عند ذاك بقشعريرة تسري في جسدها، واستولى عليها ذعر لم تشعر بمثله من قبل، وباتت فريسة الآلام والمخاوف.
ولأول مرة منذ أن سمعت بنبأ خطوبة حياة اتجه تفكيرها نحو الخير فودت لو تستطيع أن تكفر عن خطيئتها ببذل التضحية الغالية، وظلت تفكر صادقة مخلصة حتى قطعت عليها تفكيرها الحوادث؛ فعند أصيل يوم من الأيام رأت المرأة ابنتها ترتدي معطفها وتتأهب للخروج، فسألتها برقة: إلى أين؟
وأجابت الفتاة قائلة: إلى السينما.
فسألتها بتعجب: بمفردك؟
فأجابتها ببرود قائلة: مع الأستاذ عاصم.
وأصاب الجواب منها مقتلا فاستولى عليها ذهول شديد، وقالت دهشة: ولكنك لم تستأذني أحدا؟
فقالت الفتاة بشيء من الجفاء: استأذنت بابا وأذن لي. - وهل طلب الأستاذ إليك أن تذهبي معه إلى السينما؟ - نعم. - متي .. وأين؟ - على جسر قصر النيل ذلك اليوم.
وغشيت عينيها سحابة ظلماء فجمدت في مكانها لا ترى شيئا. ولما أفاقت كانت حياة قد غادرت البيت.
وتيقظت غريزتها مرة أخرى، فطغت على عواطف الخير التي تحركت في قلبها منذ حين قليل، وخنقتها كما يخنق الماء الأجاج الورد اليانع، فذهبت توا إلى زوجها وقالت له غاضبة: لم أذنت لحياة بالذهاب مع الأستاذ؟
فقال الرجل بلهجة تهكمية: ولم لا؟ أليس هو الصديق الصدوق لأمها وأبيها؟
فاهتاجها الغضب لتهكمه، وقالت وهي تنظر إلى وجهه نظرة غيظ وكراهية: إني أعجب من تصرفك هذا، أيجوز أن تأذن لها باصطحاب الأستاذ وأنت تسعى إلى تزويجها من رجل آخر؟
فهز الرجل كتفيه وقال: فسخ الرجل الآخر خطوبته.
فخفق قلبها واصفر وجهها وتساءلت: ترى هل علم شيئا عن الرسالة؟
واستطرد الرجل قائلا: عليك تقع تبعة ذلك يا هانم، فرفضك - وما ذاع عنه - زهد الشاب في الفتاة.
ترى هل اكتفى الشاب بالانسحاب دون أن يطلع زوجها على الخطاب؟ ليت ذلك يكون!
وعاد زوجها يقول بقسوة لم يستطع إخفاءها: وقد أخبرتني حياة بأنك تركتها مع الأستاذ عاصم ساعة في قصر النيل فظننت أنك تفضلينه على الشاب الآخر، فلما استأذنتني في الذهاب معه أذنت لها، وقلت لنفسي لا علي من هذا؛ فعاصم شاب جميل ونابغ في فنه.
عند ذلك لم تستطع صبرا، فولت مدبرة تترنح في مشيتها كالمصاب في مقتل.
وتذكرت المثل القائل: «على الباغي تدور الدوائر.» فقد فعلت ما فعلت وارتكبت ما ارتكبت وفقدت ما فقدت لتحافظ على حب الرجل، وها هي ذي توشك أن تفقد - بمسعاها هي دون غيرها - الرجل وحبه.
يا له من ألم ساخر! ليتها أبقت على الخطيب الأول، أو ليتها تستطيع أن تسترده بأي ثمن.
ولم تنم من ليلتها ساعة واحدة. وعند الصباح حدثت المحامي بالتليفون وقالت ما تعودت أن تقول دائما: مساء اليوم في عشنا .. هه.
فأجابها بغير ما تعودت أن يجيبها به، قال: آسف جدا يا عزيزتي .. أنا مشغول جدا هذه الأيام.
وقد صدمها اعتذاره صدمة شديدة وخيب آمالها، ولم يفتها مغزي قوله «هذه الأيام»، ولكنها لم ترض بالهزيمة فقالت بسخرية مريرة: ومع هذا فأعمالك الكثيرة لا تمنعك من الذهاب إلى السينما؟
ماذا يستطيع أن يقول؟ قال إنه بالأمس فقط كان لديه متسع من الوقت أما الآن فلا.
ورأت أنه لا يكلف نفسه حتى الاعتذار المقبول. ولم يكلف نفسه؟ إنما يهتم بانتحال الأعذار من يهمه شخص المعتذر .. وقد غدت عنده شيئا رخيصا أو لا شيء مطلقا. أواه! أهكذا تتقلب القلوب؟ أهكذا ينسى الإنسان؟ أمن الممكن أن يضحى حب كحبهما ذكرى وحلما في لحظة سريعة؟ ألا من تدرج؟ ألا من رحمة؟
ولم تنقطع منذ ذلك اليوم المقابلات بين حياة والأستاذ عاصم، وشاهدتهما معا متنزهات القاهرة وخلواتها وملاهيها حتى توقعت الأيام يوما بعد يوم أن يتقدم الشاب لطلب يد الفتاة، ولكنه كان أحزم من أن يرتكب مثل هذه الهفوة؛ لأنه كان خبيرا بأخلاق روحية هانم عليما بطباعها وعنادها وغرامها به، فرسم في عقله خطة محكمة وعزم على تنفيذها بإرادة لا يثنيه عنها شيء، ولبثت روحية هانم في حيرة من أمرها تعاني أشد الآلام النفسية والقلبية، وتأسى بكراهية ابنتها لها وتحديها لعواطفها وبتمزق إرادتها نهب الأمومة المحتضرة والأهواء العنيفة، حتى كان مساء لا ينسى، إذ دخل عليها زوجها يهز خطابا في يده ثم يرميه في حجرها وهو يقول في لهجة الغاضب: اقرئي وانظري .. أي جراءة!
فتناولت الكتاب بقلب مذعور متطير، وقلقت عيناها بين الأسطر الآتية:
سيدي المبجل،
يصلك هذا الكتاب ونحن نستقل القطار الذاهب إلى بورسعيد حيث نبحر إلى أوروبا أنا وعروسي - كريمتكم - لقضاء شهر العسل، وإني أقر آسفا بأنه لم تجر العادة بأن تعقد الزيجات على هذا المثال الغريب، ولكن الظروف الدقيقة التي لا تجهلونها لم تدع لي فرصة للاختيار، وإني كبير الأمل أن تقدروا سلوكي تقديرا عادلا، ولست أقل أملا في نيل عفوكم القريب.
ودمتم للمخلص
عاصم عادل
زاغت عيناها وحجبت غاشية الغضب الكلمات عن بصرها، فظلت منكسة الرأس لا ترى شيئا ولا تعي شيئا، والقنوط يتسرب إلى قلبها كالغاز السام، ولم تحاول قط أن تقاوم نفسها المنهارة أمام زوجها كأنها نسيت وجوده نسيا تاما، وكان الشيخ يحدجها بنظرة قاسية متشفية؛ فلما وجدها تتهدم وتضمحل ولاها ظهره وذهب.
ولبثت في غيبوبة حينا طويلا، ثم رفعت رأسها المثقل فوقع بصرها على صورتها في المرآة فارتاعت وجفلت؛ لأنه خيل إليها أنها ترى جمالها يذوي وينضب وتغشاها سيما الهرم.
حياة للغير
ساعة الأصيل هي الساعة المختارة التي يهبط فيها عبد الرحمن أفندي إلى حديقة البيت الصغير، وهي عادته التي يلازمها أو التي تلازمه أغلب شهور السنة؛ لأنه من القلة النادرة التي لا ترتاح إلى ترك البيت إلا لعمل أو ضرورة. وقد نزل إلى الحديقة ذلك اليوم من أيام سبتمبر المعتدلة، وألقى عليها النظرة المعهودة، وتمشى بين طرقاتها الملتوية يسرح بصره بين شجرات الورد وأصص الزهور، ثم جلس على أريكة على كثب من السور المقام من الأسلاك الشائكة الذي يفصل بين حديقة بيته وحديقة البيت المجاور، وبسط جريدة من جرائد المساء كانت مطوية تحت إبطه ومضى يطالع.
وكان في مشيته كما كان في جلسته آية للرزانة؛ فمن كان يراه لا يشك لحظة في أنه رب بيت وعاهل أسرة، فحركاته وإيماءاته تقرن دائما بالهدوء والاتزان، ونظرة عينيه تلوح فيها الرزانة والرجولة والمسئولية، ورأسه الكبير وشاربه الغزير يدلان على أنه ابن أربعين وإن كان في الحقيقة لم يجاوز الخامسة والثلاثين إلا بشهور قلائل. وكان مستغرقا في مطالعته حين استيقظ فجأة على صوت رقيق يهتف به قائلا: سعيدة يا عمي.
فأزاح الجريدة عن وجهه ونظر إلى حديقة البيت المجاور نظرة التمع فيها الابتهاج، فرأى وجها مشرقا يرنو بعينين سوداوين صافيتين يطالعانه بالبراءة، فأحس إحساس الحران هب عليه نسيم بارد معطر بالياسمين، ورد تحيتها قائلا: أهلا بالآنسة سمارا.
فابتسمت إليه ووقفت تلاعب كلبها الأبيض الصغير. كانت في السادسة عشرة، يتجاذب وجهها الصبوح وقدها الممشوق براءة الصبا وأنوثة الشباب.
وأشار إلى كلبها وسألها: كيف هو اليوم؟ - تم شفاؤه .. الحمد لله.
فضحك قائلا: لعل هواء الإسكندرية لم يوافق مزاجه؟! - على العكس كان يعدو على الشاطئ والدنيا لا تسعه من الفرح.
فنظر إلى وجهها الذي كسا الشاطئ بياضه حمرة كأنه غمسه في الشفق وقال برقة: لقد اكتسبت بشرة جديدة يا سمارا.
فاستضحكت، وعدا الكلب في تلك اللحظة فولته ظهرها وعدت وراءه.
وبدا عليه تغير ظاهر، ففاضت من عينيه نظرة الجد والرزانة وخلفتها نظرة حنان وأحلام. وطاب له أن يختلس منها نظرات طويلة سعيدة، فشاهدها وهي تجلس على الكرسي وتنحني لتلاعب كلبها الصغير، وجعلت أناملها تتخلل شعره الأبيض الطويل، ومضى الكلب يلعق يدها مسرورا ويثب على ركبتيها وذنبه يرقص طربا، وفي أثناء ذلك تدلت خصلات شعرها الحريري وحامت حول عنقها وخديها. وكان في مشاهدته سعيدا مبتهجا، ولكن انقبض صدره فجأة فلوي رأسه ونظر إلى الأمام بعينين لا تريان شيئا؛ لأنه تذكر أن سلوكها نحوه لم يتغير منذ كانت تدرج في الطفولة والصبا، وأنها ما تزال تناديه بقولها «عمي» كما كانت تفعل وهي صغيرة تلعب بالعرائس. وكان فيما مضى يفرح بهذا النداء ويعده آية على ما له في نفسها ونفس أبيها من المودة والصداقة، أما الآن فهو يضيق به ويتأذى منه ولا يكاد يسمعه حتى ينقبض صدره وتتولى عنه المسرة.
واتجه بصره إليها مرة أخرى وتساءل - ولم يكن يفعل ذلك للمرة الأولى - أمن المستحيل أن تصير سمارا زوجي يوما من الأيام؟
وهز رأسه في إنكار واستغراب كأن الفرض من المستحيلات حقا، ولكنه لم يسلم بلا جدال فتساءل مرة أخرى: ما وجه الاستحالة؟ .. العمر؟ .. فهو ابن ستة وثلاثين وهي بنت ستة عشر؛ فعشرون عاما تفصل بينهما وهو عمر طويل يبرر «عمومته» لها، فكيف يتأتى للعم أن يصير زوجا وحبيبا؟! حقا إن الكثيرين لا يعترفون بعقبة العمر ولا ينزلون عند حكمها ويذللونها بغير مبالاة، ولكن كل تضحية من هذا القبيل بثمن، فما عسى أن يكون الثمن الذي يبذله لمثل كل هذه التضحية الغالية؟ هو في الواقع ليس إلا موظفا منسيا في وزارة الداخلية لا يتجاوز مرتبه الخمسة عشر جنيها فلا مكانة له يعتد بها، ولا مال له يسدل به على نقائصه سترا من الرواء والجلال، ومع ذلك فهو يحبها، ويبدو له أن لم يكن من حبها بد. وكيف كانت تتاح له النجاة منه وقد كانت تنمو تحت بصره يوما بعد يوم ستة عشر عاما؟ .. وكانت إلى ذلك الإنسانة الوحيدة من الجنس الثاني التي رمته بها الأقدار في عزلته القاسية .. فتسرب الحب إلى قلبه خفية في أناة وهدوء، وبلا قصد أو حذر، تسرب الكرى إلى أجفان حالم مستسلم إلى هبات النسيم اللطيفة في جلسة طويلة هادئة على شاطئ النيل.
وكان في أول عهده بها يتمتع بطفولتها السعيدة ويجد فيها منفذا لحنان صدره المكتوم؛ فلما أن انقلب عاشقا أنشبت فيه الحيرة أظافرها، وحرم القناعة السعيدة، وصار يعذبه كل شيء حتى عطفها عليه وحديثها؛ لأنها كانت تقبل عليه ببراءة، ولم تشعر حياله شعور امرأة بإزاء رجل، وقد حدجها مرات بنظرات نفذ منها لهيب الهوى قهرا فلم تستجب له ولم تحس به، وأصرت على أنه «عمها العزيز» لا أقل ولا أكثر. ما عسى أن يكون ردها لو طلب يدها .. كيف يكون شعورها .. وكيف تكون دهشتها .. وماذا تقول لأبيها .. وماذا تقول لنفسها .. وهل يمكن أن يراها بعد ذلك كما يراها الآن في حديقتها، وأن يتمتع برؤيتها مقبلة مدبرة محدثة مداعبة أم ينقطع عهده بها إلى الأبد؟
وهب أنه وجد من نفسه الشجاعة الكافية لأن يفاتح أباها - صديقه العزيز - في هذا الشأن الخطير، فما عسى أن يقول له؟ يا له من قول عسير .. وفكر طويلا، ثم أغمض عينيه وحدث نفسه وكأنه يحدث صديقه: «صديقي العزيز لقد جئت أحدثك في أمر خطير لم تكن تتوقع أن أحدثك فيه أبدا، وربما لم أكن أتوقع ذلك أنا أيضا، ولست واثقا من موافقتك ولا من أهليتي للطلب الذي أتقدم به، ولكني لم أرد أن أضيع فرصة ذهبية لمجرد توهمي الإخفاق .. سيدي .. وصديقي.»
ولم يتم حديثه لأن صوتا عذبا أيقظه من حلمه قائلا: أنائم أنت؟
فانتبه خافق القلب وقد تولاه ما يشبه الرعب، وقال: كلا. - معذرة .. رأيتك مغمض العينين. - كنت أفكر. - وفيم تفكر؟
حدق في وجهها بعينين حائرتين وتساءل بماذا يجيب .. أيقول لها فيك أنت .. ولكنها مجازفة سابقة لأوانها، فلازم الصمت، وأحس رغم ارتباكه بلذعة سخرية لاضطرابه أمام هذه الطفلة. وكان ينعم النظر في عينيها السوداوين، ومرت دقيقة على جموده، فشعر بسريان تخدير لذيذ، ولم يعد يرى إلا سوادا جميلا، ثم لاحظ تغيرا فجائيا يطرأ عليها، فرأى وجنتيها تتوردان وشفتيها تقلقان، وعينيها تتحولان إلى هدف وراءه .. وشاهدها تفر نافرة إلى داخل البيت، ونظر خلفه دهشا فرأى أخاه نور يقف مبتسما ويمد له يده للسلام، وأحس بكآبة لم يدر ما سببها، وخفق قلبه خفقان الخوف والخيبة، ولكنه سلم عليه مبتسما وقال له: أهلا، كيف حالك يا دكتور؟
فضحك الشاب وقال بصراحة: كم أنت سعيد يا أخي!
وأدرك ما يعني من اتجاه بصره ولهجته، وآلمه ذلك غاية الألم، ولكنه تجاهل الأمر وقال بإنكار: سعيد؟! - طبعا، من يحدث سمارا ينبغي أن يكون سعيدا.
فابتسم ابتسامة صفراء وقال لنفسه: إما أن هذا الشاب خبيث ماكر وإما أنه غبي لا يفقه لما يقول معني. ليس السعيد حقا من تحدثه سمارا، ولكنه من تخجل من محادثته ومن يتورد وجهها حين رؤيته فلا تملك إلا أن تفر هاربة .. هذا هو السعيد حقا .. أفلا يفهم ذلك هذا الشاب أم إنه يتغابى ويمكر؟!
على أنه كان يحرص على ألا يبدو عليه شيء مما في نفسه، فقال يغير مجري الحديث: كيف كانت ليلتك بالأمس؟
فجلس الشاب إلى جانبه وقال: كان قصر العيني أمس حافلا بالحوادث المزعجة، ومضيت أغلب الليل أستقبل صرعى القضاء والقدر.
وكان عبد الرحمن يرمق شقيقه وهو يتكلم بعينين ساهمتين وعقله دائب على التفكير .. كان ذا قلب كبير يفيض حنانه؛ فهو يحب شقيقه، وقد أمده هذا الحب الأخوي بالعون والصبر، فرباه ورعاه كما ربى أخوين له من قبل، ولكن يداخله أحيانا من ناحيته خوف وجفول وربما أكثر من ذلك. نعم هي الحقيقة؛ فهو يكرهه أحيانا، وهو أشد ما يكون كراهية له إذا جرى ذكر سمارا على لسانه؛ فبمجرد نطقه لذاك الاسم الحبيب يؤذيه ويعذبه؛ وتستحيل هذه الكراهية المؤقتة مقتا إذا وقعت عينا الفتى عليها أو عيناها عليه كما حدث منذ حين قليل .. على أن هذا لا يعني أن هذه الكراهية عاطفة ثابتة؛ فهي مجرد انفعال عنيف، وغير ذلك فهو يحبه وينظر إلى مستقبله كشيء جميل من صنع قلبه وكده، فأي حيرة وأي عذاب .. ترى هل يفطن الشاب إلى ما يحدثه في نفس شقيقه الأكبر من الشقاء؟ .. كلا .. هو بلا شك لا يتصور أن مثله يمكن أن يحب هذه الصبية الجميلة.
وكان الدكتور الشاب يفكر في تلك اللحظة من حياته السعيدة في أمور هامة، فقال لأخيه: لدي أمور هامة أريد أن أفضي إليك بها.
ولم يدعه قلبه القلق يرتاح إلى هذه الرغبة، فقال: اخلع ملابسك أولا وارتح قليلا.
ولكن الشاب قال بإصرار: استمع لي أولا يا أخي؛ فإن حياتي في مفترق الطرق.
فسكت الرجل وأردف الشاب: ستنتهي بعد أشهر مدة تمريني كطبيب امتياز في القصر، وقد أخبرني أستاذي الدكتور براون بأن النية متجهة إلى اختياري عضوا في بعثة كلية الطب.
فأحس الرجل بارتياح غير منتظر وقال بفرح: مبارك، مبارك. أنت أهل لذاك بغير شك.
والظاهر أنه كان لدى الشاب ما يقوله غير ذلك؛ لأنه قال بارتباك بصوت خافت: ولكني ... أعني ... أريد أن أقول ... إني إذا سافرت فلن أسافر منفردا. - لا أفهم شيئا.
في الواقع إنه يفهم كثيرا، أو يفهم على الأقل ما جعل قلبه يرتد إلى الجفول، وكان الشاب قد تغلب على ارتباكه فقال: سأسافر زوجا إن شاء الله.
يا لها من مفاجأة .. إنه لم يسبق لك التحدث إلى أحد في هذا الموضوع .. أليس كذلك؟ - كلا. - هل نبت في رأسك على حين غرة؟ - كلا، ولكني كنت أوثر الصمت حتى أخرجني عنه السفر المنتظر.
وسكت الأخ لحظة يغالب عواطفه ثم قال: هل أفهم من ذلك أنك وفقت إلى الاختيار؟
فأحنى الشاب رأسه، وأشار بذقنه إلى بيت الجار وقال: سمارا.
وساد الصمت، وقلق الشاب لسكوت أخيه، فسأله بلهفة: ما رأيك يا أخي .. ألا تعجبك؟
فقال الآخر بسرعة: نعم الاختيار .. نعم الاختيار.
فابتهج الشاب وقال: أشكرك يا أخي .. وأرجو ألا تتوانى، فعدني أن نذهب غدا إلى مقابلة والدها، ولعلي لا أصدم هناك بما يخيب أملي. - حسن .. ولكن ما الداعي إلى هذه السرعة؟ - لا بد من السرعة؛ فليس أمامي سوى شهور قلائل ينبغي أن يتم في أثنائها الاتفاق والاستعداد للسفر إلى إنجلترا.
ثم ضحك الشاب وقال وهو يهم بالوقوف: ألا ترى أني سأمضي شهر العسل خارج القطر كالوجهاء؟
فابتسم الرجل وحياه الشاب وذهب إلى داخل البيت.
وتبعته عيناه حتى غيبه الباب، ثم عادتا تنظران إلى الدنيا المحيطة نظرة ذاهلة لا تعي التفاصيل، فأحس إحساسا غامضا بالسمرة التي أخذت تشوب الكون والسكون الساري في مفاصله، وضاق بجلسته فقام يتمشى في الحديقة الصغيرة بائسا محزونا مختنقا، ودار دورتين ثم رجع إلى الأريكة وارتمى عليها بشيء من العنف كأنه يسلم إليها حظه التعس لا جسمه المنهوك.
ووجد في تلك اللحظة رغبة خفية قاهرة في الفرار إلى الماضي .. فطار خياله في الزمان عشرين عاما في غمضة عين إلى تلك الفترة من العمر التي تبدو فيها الحياة كقطعة من العجين في يد الخيال يعبث بها كما يشاء، ويصنع منها ما يملي عليه هواه بعيدا عن قساوة الواقع. في ذلك الوقت البعيد كان هذا الرجل الممتلئ رزانة وهما وحزنا؛ صبيا مرحا مدللا يفيض قلبه بالأفراح والآمال؛ وقد ميزته الطبيعة منذ رأى النور، فكان أول من خفق له قلب والديه بالأبوة والأمومة من الأبناء، ثم كان من بعد ذلك غلاما مجتهدا تضيء حياته المدرسية استعدادات عالية ومواهب نامية تبشر بالنبوغ والتفوق والمستقبل البسام، ولكن الحقيقة أن ما خفي من فضائله كان أعظم، وأنه كان ينتظر الفرصة فقط للظهور في أبهي الحلل، وقد جاءت هذه الفرصة ولكنها لم تكن وا أسفاه سوى وفاة والده.
ترك الوالد المتوفى أسرة بائسة مكونة من أرملة وأربعة أبناء أكبرهم - عبد الرحمن - في مستهل الشباب، وأربعة جنيهات معاشا. وهكذا تصدت الحياة للشاب السعيد الواسع الآمال بوجه عبوس، استأدته الواجبات، وحتمت عليه أن يخلع رداء الطفولة ليحمل على عاتقه اللدن أثقل التبعات .. وكان عليه قبل كل شيء أن يتناسى أطماعه، ويدرج في الأكفان آماله، ويقبر مواهبه لكي يهيئ للأسرة حياة سعيدة، ويوليها بعض العناية التي كان يوليها إياها الأب الراحل، ورضي كارها بوظيفة بائسة لم يتصور قط أن تنتهي إليها آماله.
كانت تلك الأيام في بدئها مؤلمة شديدة المرارة تبعث في النفس الأسى والحسرة واليأس، ولكنها لم تبلغ به قط حد الثورة أو الغضب الهائل. لماذا؟ كان قلبه كبيرا ينضح بالحنان والأخوة، فوهبه أمه وإخوته، وهانت لذلك تعاسته، وخففت الأيام من وقع الخيبة في نفسه، وتحددت في قلبه آمال أخرى لا تتعلق بمستقبله هو، ولكن بسعادة إخوته ومستقبلهم، وذاق سعادة جديدة هي السعادة التي يحدثها بذل النفس والعمل من أجل سعادة الغير؛ وبذلك شغل الشاب مكان أبيه، ودخل في طور الرجولة الحق قبل الأوان.
وذكر هنا كيف أنه كان يشعر بالفراغ الأليم رغم امتلاء حياته بالآمال والأعمال، ولكنه كان ينجح دائما في إبعاد فكرة الزواج من قلبه حبا في أسرته وإيثارا لإخوته، واستوصى بالصبر، ولكن أثبتت له الأيام أن إخوته أقل صبرا وأعنى بنفوسهم منه، وربما كان للزمن في ذلك شأن وأي شأن، فما كاد أكبرهم يتخرج ضابطا في مدرسة البوليس حتى تزوج وترك العبء له وحده، وتبعه بعد قليل أخوه الثاني المهندس؛ فاضطر إلى البقاء أعزب حتى هذه السن.
ثم ذكر كيف أنه كاد يختار أخيرا ما يكمل به حياته، وكيف جاء الاختيار بعيدا عن التوفيق، وكيف أتته الطعنة النجلاء من يد طالما آثرها بالحب والعطف، وقد طعنه وهو يضحك ضحكة مشرقة بالأمل والسعادة كأنه ذاك الحكيم الذي يترنم بأنشودة السلام وقدمه تقتل عشرات الأحياء التي لا تراها العين.
وفيما هو في أحلامه إذ سمع صوتا ينادي قائلا: عبده، لماذا تبقى في الظلام؟
هذا صوت أمه الحبيب .. رباه .. لقد لفه الليل وهو لا يدري.
وقام من جلسته متثاقلا، وسار ببطء إلى الداخل، وبادرته أمه قائلة: هل حدثك أنور؟
فقال: نعم. - ما رأيك؟ - اختيار جميل يا أماه، سأذهب غدا لمقابلة جارنا وطلب يد ابنته الجميلة لابننا النابه.
فقالت بحنان: لم يبق إلا أنت.
ولازم الصمت هذه المرة.
من يعلم؟ .. ليس الذي يلقى الآن بأشد قساوة مما لقي في ماضيه، وما هذه بأول كارثة يمتحن بها قلبه الكبير، وقد علمته الحياة فضيلة الصبر كما علمته حقيقة أجل؛ هي أنه يستطيع أن يسعد وهو يحقق السعادة للآخرين.
مفترق الطرق
زماننا عاثر الحظ أو نحن به عاثرو الحظ؛ فأينما تول وجهك تسمع تنهد شكوى أو تر تجهم كدر. ولن تعدم قائلا إن هذا الزمان أضيق رزقا وأنضب حياء وأفسد خلقا وأقل سعادة وأنسا من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختص به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرما بقساوة الحياة وفرارا من جفاف الواقع ولياذا بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل؛ بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يرددها بغير انقطاع. كان مراجع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، وقد وسع الله في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى؛ فرزق ستة أبناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مرتبه فسبعة عشر جنيها، فناء بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية. وكان كثيرا ما يقول متبرما حانقا كلما آن موعد قسط أو اقتراب موسم من المواسم: «رجل مثلي؛ أب لستة ذكور؛ اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقا بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف، فمتى إذن تجوز المجانية .. ولمن تجوز؟» وكان كغالبية أهل هذا البلد يائسا من العدالة قانطا من الخير، يعتقد اعتقادا كالإيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عاما بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة.
ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل، فطرق أذنيه اسم الوزير الجديد، وجذبت عينيه صورته المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المظلم بارق أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه: «ينبغي أن أقابله .. وأن أشكو إليه .. هل يرفض رجائي؟ .. لا أظن.» وقصد يوما إلى سكرتير الوزير وكتب حاجته على ورقة ليوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق والإشفاق لا توصف، وعاد مسرعا يقول لجلال أفندي: معالي الباشا مشغول جدا اليوم، فلتتفضل بالمجيء ضحى الغد.
فعاد إلى حجرته مسرعا واجدا متألما، وكان ألف طول مدة خدمته خيلاء الرؤساء وانتهاز المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: ترى هل يذكرني؟ .. ولم يكن شيء ليصده عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير، وانتظر طويلا حتى قال له الشاب: تفضل.
فقام مسرعا خافق الفؤاد، وفتح له الباب المحروس فاجتازه إلى الحجرة ذات السجاجيد والزخارف، ونظر إلى صدر المكان فرأي معالي الباشا كما يدعونه يطالع في شيء بين يديه؛ فلما أن شعر بوجوده رفع إليه عينيه ومد له يده وعلى فمه شبه ابتسامة وقال: أهو أنت .. لقد اشتبه علي الاسم .. أوما تزال حيا؟
فسر جلال للمداعبة الأخيرة، واطمأنت نفسه، وقال بخضوع وإجلال: نعم يا صاحب المعالي ما أزال أكابد حظي في الدنيا.
فنظر إليه نظرة استفهام، ومال إلى الوراء قليلا وهو يتمتم: أفندم؟
فقال جلال: يا معالي الباشا قصدت إلى معاليك لأشكو إليك ما أشكوه من عنت الدهر وشقاء الأيام. لي أسرة كبيرة وأبناء كثيرون ومرتبي صغير، ولست طامعا في علاوة أو درجة، ولكني أضرع إلى معاليكم أن تعفي ابنين لي في مدرسة شبرا الثانوية من المصروفات. - الاثنين معا؟! - نعم يا معالي الوزير، إن آمالي مشرقة بمعاليكم، لقد جاورت معاليكم عهدا طويلا من سني الدراسة، وينبغي لمن حظي بذاك الجوار أن يربو حظه على حظوظ الناس جميعا، خاصة إذا علمتم أن لي غيرهما أربعة آخرين.
فقال الوزير باقتضاب: قدم لي مذكرة.
وكان الرجل محتاطا لذلك، فأخرج من جيبه التماسا أعده لهذه الساعة وقدمه إلى الوزير، فجرت عليه عيناه بسرعة، ثم أمسك قلمه ووقع عليه بكلمة وقال للرجل: اطمئن.
فانحني جلال أفندي تحية، فتكرم الآخر بمد يده له، ثم غادر الحجرة مغتبطا مثلج الصدر، ولكنه ما كاد يعود إلى مكتبه بالوزارة حتى قال لنفسه متعجبا: لم يتغير «حامد شامل» البتة، ولا تقدم به العمر، وكأنه في ريعان الشباب .. هل يصدق إنسان أن كلينا ابن خمس وأربعين؟ .. تالله إني لأبدو لعين الناظر في سن والده .. وقضى وقته يفكر في الوزير، في حاضره وماضيه، وفي صلته القديمة به .. ثم اضطجع بعد غدائه في بيته، وأشعل سيجارة، واستسلم إلى أحلام الذكريات .. فألوت به إلى عهود الماضي المنطوي .. إلى الوقت الذي كان يجلس فيه إلى يسار التلميذ «حامد شامل» على مقعد واحد لا يكاد يفرق بينهما فارق جوهري .. وكان التلميذ «حامد شامل» يلفت الأنظار إليه ببياض بشرته واحمرار وجهه. ويلازمه عبد متهدم طويل يرتدي بذلة سوداء في الطريق إلى المدرسة وفي طريق العودة، يتبعه كالظل إذا مشى، ويطمئن إلى مكانه إلى جانب حوذي العربة إذا ركب؛ ولذلك كان يحلو لرفاقه أن يداعبوه فدعوه «حامد أغا». على أنه عجب غاية العجب كيف كانت المنافسة تحتدم بينه وبين وزير اليوم وتلميذ الأمس كأنهما أخوا حظ واحد .. والأعجب من هذا أنهما جريا معا وراء تلك العاطفة - التي تهيج الجد والنشاط ولا تتسامي عن المرارة والألم - منذ أول عهد تجاورهما! وكانا في كفاحهما كأنهما يعيشان منفردين في فصل واحد، فكانت الغاية التي يهدف إليها كل منهما أن يتفوق على قرينه بغير مبالاة الآخرين. وعلى الرغم من استعانة حامد بالدروس الخصوصية يتلقاها على أنبه مدرسي المدرسة، فقد كانت الغلبة بينهما سجالا، وكانت كفة جلال الراجحة .. وكانا في ملعب كرة القدم مثلهما في الفصل لا يريحان ولا يستريحان، وكان كلاهما يزعم أنه أحق من صاحبه بقلب الدفاع، فكان مدرس الألعاب يعاقب بينهما فيه حتى بدا تفوق جلال للجميع فاستأثر به، فكان آخر عهد الآخر بلعب الكرة .. يا لله! .. كانا يستبقان كأنما الدنيا تضيق عنهما معا، وكأنما كان مستقبلهما ينذر بحرب مستمرة تشمل ميادينها الجد واللعب والإدارة والوزارة. فكيف شالت كفته بعد ذلك؟ كيف سقط من عيون الغربال وضاع في الحثالة؟ .. كيف صار رفيقا المقعد الواحد أحدهما وزيرا والآخر مراجعا للحسابات ينوء صدره بآلام الحاضر ووساوس المستقبل.
ثم تمتم قائلا وهو يطفئ سيجارته ويرمي بالعقب إلى المنفضة: تالله ما يستحق أن يكون وزيرا ولا وكيل وزارة ولا شيئا من هذا، وخشي أن يكون متجنيا عليه أو مائلا مع عواطفه القديمة فتساءل باهتمام وجد كأنما يزمع كتابة ترجمة له: كيف اعتلى كرسي الوزارة؟ .. لقد انفصلا في نهاية الدراسة الثانوية، فاضطر هو لأسباب إذا ذكرها جرت المرارة في فمه إلى الانقطاع عن الدراسة، والتحق صاحبه بمدرسة الحقوق، ثم حصل على الليسانس، وكان أبوه محمد باشا شامل وزيرا للحقانية فعينه سكرتيرا له في الدرجة الخامسة فكانت القفزة الموفقة الأولى، وقرأ بعد ذلك في الصحف أنه اختير لبعثة في فرنسا لا يعلم كم أمضى بها وما حصل عليه فيها من الإجازات، ولكن كثيرين يعلمون بزواجه بعد ذلك بسنوات من كريمة المرحوم حامد باشا حامد الذي تولى الوزارة مرات، فارتقى فجأة إلى الدرجة الثالثة مديرا لإدارة التشريع، وانقطعت عنه أخباره فترة وجيزة حتى علم بتوليته مديرية أسوان، ثم بترقيته محافظا للقنال بعد ذلك بقليل، ثم باختياره وزيرا للمعارف. ومضى على توليته الوزارة أسابيع والمجلات لا تكف عن الإشادة بمواهبه القانونية ومقدرته الإدارية ومشروعاته عن إصلاح التعليم، وكاد جلال أفندي أن يصدق ما يقال لولا أنه قرأ مقالا عن تفوق الوزير في عهد الدراسة - في العلم والرياضة البدنية معا - وكيف أن مفتشا من مفتشي الوزارة تنبأ على أثر مناقشته بأنه سيكون يوما وزيرا، فأغرق الرجل في الضحك وقال ساخرا: «الآن فهمت سر المواهب القانونية والإدارية.»
وتنهد جلال أفندي رغيب وتمتم قائلا: «دنيا!» وأراد أن يريح نفسه من أفكاره فتناول مجلة يقلب صفحاتها المصورة. والظاهر أن ذكريات الوزير كانت تأبى أن تفارقه، فرأى صفحة من المجلة مخصصة للوزير تتوسطها صورة كبيرة، ما إن بصر بها حتى صاح في دهشة وغرابة: «رباه هذه صورة فصلنا القديم.»
وألقى عليها نظرة سريعة فثبت بصره على صورته، وكان يقف في الصف الأول وراء المدرسين مباشرة إلى يمين الوزير ينظر إلى عدسة المصور في ابتسام وثقة، وكان الوزير كالعابس وعلى حاجبه الأيمن ذبابة، فضحك جلال طويلا وذكر قصة الذبابة. وكانت في الأصل من نصيبه هو وتنبه لها والمصور يهم بالتقاط الصورة فهشها بسرعة فطارت عنه إلى حاجب قرينه وحطت عليه، وقد أحس أسفا لذبه الذبابة؛ فلعلها كانت ذبابة الحظ السعيد سكنت إلى وجه الوزير المدخر، ورنا إلى الصورة بعينين حالمتين فهامت روحه في آفاق الماضي حتى شعر بأن روح الطفولة تحل فيه مرة أخرى، وأن شعيرات قذاله البيضاء تسود، وتجاعيد جبينه وما حول فمه تلين، ونظرة عينيه تصفو وترق، ويمسح على ما فيها من هم وبلبال .. أحس قلبه يخفق مرة أخرى بالأمل والطمأنينة، وجرى بصره على الوجوه الصغيرة وهو يتساءل: تري كيف صار هؤلاء جميعا؟ .. وعاين أول صورة في الصف الأخير فعرف صاحبها بوضوح غريب، وذكر اسمه (عبد الملك حنا)، وذكر كيف كانت تنتابه نوبات الصرع في الفصل حتى انقطع عن المدرسة .. أما بقية الصف فتذكر وجوههم وغابت عنه أسماؤهم ومصائرهم، وعرف في الصف الثاني وجها كأنما تركه بالأمس؛ كان ابنا لأحد كبار المستشارين، فكان يتمتع لذلك بنفوذ وصولة فيحييه الناظر إذا بصر به، ويلاطفه المدرسون، وقد علم فيما بعد أنه عين وكيلا للنيابة وترقى قاضيا، ولعله يتأثر الآن خطى أبيه الكبير. أما من يليه من الصغار فجلهم من المغمورين، وبعضهم معه في المعارف، وهو يعرفهم حق المعرفة. وأما آخر هذا الصف - الذي ينظر إلى المصور بتحد غريب ويشبك ذراعيه على صدره - فكان من أشقياء التلاميذ المولعين بالشجار والتصادم، وقد طرد من المدرسة لاعتدائه على أحد المدرسين. ومن العجيب أنه احترف فيما بعد «البلطجة» وطاف بالسجن مرات.
وألقى نظرة أخيرة على الوجوه الأخرى فلم يعرف عنها شيئا إلا الدكتور المعروف «حنا عبد السيد»، وإلا هذا الذي يتوسط الصف الأول، كان من أنبغ التلاميذ جميعا، وكان أول الابتدائية ثم أول البكالوريا، والتحق بمدرسة الحقوق كبير الهمة سخي المواهب، ولكنه أصيب أول عهده بداء الصدر فاضطر إلى ترك المدرسة والكف عن التحصيل، واشتغل بعد ذلك بعامين كاتبا في الصحة .. فلا يقل حظه شذوذا عن حظ الوزير نفسه.
نال كل منهم نصيبه وخضع لحكم حظه وسعيه. كانت تجمع بينهم جدران واحدة، لا يكاد يتميز وراءها إنسان إلا بجده وخلقه، ففرقت بينهم الحياة، فرفعت وخفضت، وأحيت وأماتت، وأذاقت الفقر، ومتعت بكرسي الوزارة، وكل بما قسم له غير راض ولا قانع.
ونظر جلال أفندي عند ذاك في الساعة فوجدها تدور في الرابعة، فعلم أن موعد الصغار آن واقترب، وأنهم عما قليل يملئون البيت حياة وقلبه نورا، فرمي المجلة بعيدا وطرد من عقله الوسواس ليستقبلهم أجمل استقبال، وقال لنفسه متعزيا: من الخطأ أن يفكر الإنسان في شئون الناس ما دام هذا لا يورث إلا الضيق، وحسبي أن معاليه قال لي «اطمئن».
إصلاح القبور
قضى من بيده القضاء أن يكون ليل 16 أغسطس تاريخا فاصلا تهتز له جوانحها ويتصدع به فؤادها، فلم يعد مجرد وحدة من الزمان الذي لا ينتهي، ولكن شيئا من ذكريات سود يجمع بينها غشاء من الحزن واللوعة، وشاهد ذاك الليل صدرا ضعيفا يعلو وينخفض ورأس صاحبه مسندا إلى صدرها، وسمع حشرجة ما يزال صداها يمزق مسمعيها، وفي لحظة رهيبة كأنما جفت فيها ينابيع الرحمة في السموات والأرض صارت أرملة في نضارة الصبا وشرخ الشباب، فأغمضت عينان ألفت أن تطالع في نظرتهما الحنان والمودة، وسكت لسان جعل يناغيها عاما وبضع عام المناغاة الحلوة السعيدة، ويدللها فيناديها نعومة مرة ونعمات أخرى، وجمد الساعدان اللذان كانا يضمانها إلى مرتع الوداد والهوى. انتهي تاريخ وبدأ تاريخ على عجز منها ورغم؛ لأنه كان قد قدر لها أن تلقي نصيبها الكثيف من الحزن والبكاء والحسرة، وأن تجلل شبابها النضير بسواد الحداد أو سواد اليأس، ثم هجرت البيت الذي كانت سيدته وربته فأخليت لها حجرة وعاشت عيشة لا تجد فيها أسباب الترحيب إلا ما تقضي به تقاليد المجاملة الظاهرية.
استوحشت دنيا الأحياء، ولاحت لها معالمها غارقة في ظلال الكآبة والقنوط، فأغلقت دونها نفسها، وولت عنها بقلب يأبى حبه أن يستسلم للموت، ورمت بناظريها بعيدا إلى حيث ترقد القبور في سكون الأبدية ووحشة الفناء؛ فعند ذاك القبر سحت عيناها دمعا غزيرا ساخنا فروت جفاف قلبها ورطبت حرارته، ولكن أي قبر كان ذلك القبر؟
قبرا قديما انتبذ ركنا من فناء واسع موحش خال، وعلاه البلى فتهدم «شاهده» وتشقق بنيانه .. وا أسفاه كان المرحوم في نضرة الشباب فلم يعن يوما بهذا القبر الذي لم تمد له يد بإصلاح ما يقرب من نصف قرن من الزمان، حتي تواري بين ركامه شبيبة ناضرة في حفرة شائخة .. فكانت إذا رأت الفناء المعفر والشاهد المهدم راحت زائغة البصر مكلومة الفؤاد، وأفحمت في البكاء. ووجدها التربي يوما تندب القبر المهدم وتبكي بكاء مرا فانتظر حتى رآها تهم بالانصراف، فدنا منها وقال لها برقة ولباقة: ألا ترين يا سيدتي أن هذا الفناء مترامي الأطراف، فهلا بعت نصفه أو بعته كله وجددت بماله القبر وأصلحت حجرته؟
واستهواها قوله فأصغت إليه برغبة ولهفة، وقد تفتحت لها سبل الأمل، ولكنها ذكرت أن مكافأة زوجها لم تصرف بعد، فما الداعي إلى التفريط في الفناء؟ .. كلا، لتبق المقبرة على ما هي عليه، وحين تأخذ المكافأة - ولو بعد ستة أشهر كما قيل لها - تجدد القبر وتصلح الفناء وتغرس في أرضه شجيرات يانعة تستدر الرحمة وتطرد الوحشة. وعادت يومئذ وقد تخايل لعينيها في الأفق حلم من أحلام العزاء؛ فغدا عندما يجدد القبر وتطلى الجدران ويفرح المكان بشذا الريحان يتنسم قلبها المحزون نسائم العزاء البارد، وتجد في الأنس بالوفاء سلوى عن وحشة الوجود.
ومضى يوم ويوم وأسبوع فأسبوع وشهر ثم شهر والقبر غايتها وسلوتها وأجمل موعد يتيحه لها الزمان، إلا أنها كانت تتغير - بطبيعة الحال - ككل شيء في الحياة في بادئ الأمر، كانت تبكي ليلا ونهارا، ثم مضت تبكي سحابة النهار وتهدأ بالليل، ثم صارت تبكي كلما خطرت ذكراه على فؤادها الحزين، ثم انشغلت بالحياة طوال الأسبوع، واستأثر بها الحزن كل صباح جمعة. وكانت أول عهدها تمضي إلى المقبرة لا تلوي على شيء فلا ترى من الدنيا شيئا، أما بعد الأشهر الأولى فلم يمنعها الحزن من أن تسير كبقية الخلق بعينين مفتوحتين، وفي ذاك الهدوء النسبي استطاعت أن تري - في ذهابها إلى المقبرة وعودتها منها - رجلا يجلس عادة كل صباح جمعة أمام الفيلا التي تشرف على مبدأ الطريق الصاعد إلى المقابر يرتدي جلبابا ومعطفا، ويقطع الوقت بقراءة الجريدة وتدخين غليونه. كانت تراه دائما بمجلسه هذا؛ فإذا مرت به صعد إليها عينين ثاقبتين وحدجها بنظرة يلوح فيها الاهتمام الشديد. هكذا يستقبلها وهكذا يودعها، ولعله كان يطاردها بنظراته منذ أول عهدها بهذا الطريق الموحش. وعلى أية حال لم يغير من عادته ولا وهنت مثابرته، وبرمت بعينيه، وكرهت تفحصه لها .. لماذا ينظر إليها هكذا .. وهل هو يتابع كل زائرة لهذا الطريق بهذا النظر العنيد .. أيتسلى الرجل بهذا النظر الوقح إلى الثاكلات والأرامل؟ .. إلا أنها وجدت نفسها - بمضي الأيام - كلما شارفت مبدأ الطريق مضطرة إلى تذكره وتمثل نظراته العابرة التي سيلقاها بها .. بل جعلت تتذكره بعد ذلك صباح كل جمعة وهي تتلفع بسوادها وتأخذ أهبتها لمغادرة البيت؛ فقد صار هذا الرجل العنيد وكأنه جزء لا يتجزأ من طريق القبر، ولم ينفعها الغضب ولا أغنى عنها السخط ولا وجدت عن سبيله حولا. ويوما رأته مرتديا فحسبت أنه مزمع المسير إلى بعض شأنه، وأملت ألا تجده عند إيابها، ولكنه كان بمجلسه حين عودتها كأنه ينتظر في صبر وأناة، وما كادت تجاوزه بخطوات حتى نهض قائما وتبعها متمهلا .. وحسبت أنها أخطأت الظن ولكنه انعطف وراءها إلى شارع البراد .. ثم إلى شارع الجميل .. ودخلت البيت مضطربة لاهثة، فمر به في خطاه الوئيدة وألقى عليه نظرة جامعة .. تبا له .. ماذا يبغي من وقاحته هذه .. أما يحترم السواد الحزين الذي يجلل وجهها؟! وفي الزيارة التالية لم تجده بمكانه المعهود! وكانت توعدت وجوده بما شاءت من السخط المكتوم .. فلما لم تجده لم تر بدا من الارتياح والسرور .. لكنها تساءلت: ترى هل اختفى لأن شاغلا قطعه عن رؤيتها أم إنه عدل عن سيرته الأولى؟!
وجاءها شقيقها وزوجه يوما، وكان مضى على تاريخ الوفاة - 16 أغسطس - خمسة أشهر، وقال لها الرجل برقة: أرى أنه ينبغي أن ينتهي هذا الحزن بمشيئة الله.
فنظرت إليه بعينيها الصافيتين متسائلة حيرى، فقال لها الرجل باقتضاب مفيد: جاءك رجل يطلب يدك.
وذكرت لتوها رجل الفيلا، ودق قلبها بعنف، ولاحت في عينيها نظرة ارتياع، فهتفت به منكرة : يا خبر .. كيف تفاتحني بهذا يا أخي؟!
فقال الرجل بهدوء ووقار وحزم: ولم لا؟! .. أصغي إلي .. أين أبونا وأين أمنا؟ الحزن إذا زاد عن حده صار معصية لإرادة الله، فلينظر الأحياء إلى حياتهم، أما الأموات فلهم رحمة الله عوض عن الدنيا وما فيها؛ فليس هو في حاجة إلى حزنك. كلا ولن يغني عنه وفاؤك، فتدبري أمرك بعين الحكمة.
وضمت زوج شقيقها صوتها إلى صوته، وتكلمت بمثل حماسته وأكثر، فقالت نعيمة لنفسها: لقد تحالفا معا، ولعلهما يرحبان بالرجل كي يريحهما منها؛ فما من شك في أنها عالة ثقيلة عليهما وأنها ضيقت عليهما البيت، فاستمسكت بهذا الخاطر وأدارته في نفسها حتى ملأها، وكانت في الحقيقة اقتنعت بكل ما قاله أخوها من أنها لن تقيم على الحزن إلى الأبد، وأن حياتها أولى بالرعاية من موت الآخرين، ولكنها أبت أن تفكر في غير هذا الخاطر الذي توهمته توهما أو فرضته فرضا وآمنت به بعناد، بل جعلت - فيما بينها وبين نفسها - تلوم أخاها على برمه بها؛ الأمر الذي ربما أجبرها على اختيار ما لا تود، أما شقيقها فاستدرك يقول: ولا تخشي لومة لائم؛ فالرجل على استعداد تام لتأجيل الزواج حتى ينتهي العام.
وتركها بلباقة إلى أفكارها ثم كر عليها مرة أخرى صباح اليوم الثاني وسألها عما ترى .. ورأت نعيمة أن تلوذ بالصمت، فطاب أخوها نفسا وأدرك أنها وافقت، وسارت الأمور في مجراها الطبيعي. ولما جاء يوم جمعة بعد الخطوبة ذكرت القبر والزيارة المعتادة وتساءلت حيري: هل يجوز أن يراها في الطريق الذي تعود أن يراها فيه .. أليس الوفاء للقبر خيانة له؟ .. لشد ما يشق على الإنسان قطع عادة عزيزة، ولكن ما جدوى الزيارة الآن؟ .. لقد رضيت باستقبال حياة جديدة؛ فأولى لها أن تأخذ نفسها بالرضاء والقبول. نعم حسبت يوما أن ذاك القبر سيكون قبلتها إلى الأبد، ولكنها لم تعمل حسابا للزمن؛ الزمن الذي يذيب الصخور ويفتت الصروح ويغير وجه البسيطة، أليس بقادر أن يمسح عن قلبها شجونه؟ وقرأت هذه المرة الفاتحة على البعد، وقالت لنفسها إن البعد لن يمنع رحمة الله من أن تؤنس الثاوي في قبره، ومضت الحياة في يسر فانتصف العام وتوجه قلبها وجهة جديدة، فاطرح الحزن وأشرق بنور أمل جديد، وتطلع للغد بعين ملؤها الرجاء والحب. وجاءتها المكافأة وهي على تلك الحال فلم تفكر في تجديد القبر المهدم ولا في غرس الفناء المعفر، ولا عاتبتها نفسها على إهمالها. والحق أنها كانت عن ذلك في شغل من أمر جهازها الجديد وإعداد ثياب الحياة الزوجية الجديدة، وزاد من انشغالها عجز أخيها عن مساعدتها المساعدة الجدية التي تريدها، فناءت بحمل ثقيل رفعت المكافأة عن كاهلها بعضه لا كله، حتى ذكرت يوما فناء المقبرة الذي اقترح الدافن عليها مرة أن تبيعه أو تبيع نصفه.
وغلبها الوجوم للذكرى العابسة إلا أن الوجوم ذهب لحال سبيله، ولبثت تفكر في ذاك الاقتراح القديم، وتمنت لو تستطيع أن تسرق خطاها إلى الدافن وتحدثه بأمره .. ولكنه كان تفكيرا عقيما لأن المدفن لم يعد ملكا لها فلا تستطيع التصرف في قرش من ثمنه .. ولعل هذا ما ملأ نفسها أسفا، إلا إنها التمست أسبابا أخرى لهذا الأسف فجعلت تلوم نفسها على قسوة أفكارها وتلعن الحياة التي تقضي سنتها بأن يكون موت الوفاء عين الحكمة أحيانا.
وقبل أن ينتهي العام بأربعة أشهر قال لها الرجل الصبور وقد اطمأن إلى ظفره بقلبها: ما جدوى الانتظار هذه الأشهر الأربعة؟! ألا ترين أننا في أواسط الصيف وأنه يحسن بنا أن نمضي شهر العسل في رأس البر؟
فخفضت عينيها كي لا يقرأ فيهما ما أرادت كتمانه، وصمتت لحظات كأنها مغرقة في تفكير عميق، ثم تمتمت بصوت خافت: ليكن ما تشاء.
المرض المتبادل
فرغ الطبيب من الكشف على الزائر الخامس في صباح ذلك اليوم، ولبث ينتظر المريض السادس، فدخلت سيدة مقنعة رشيقة القامة وسفرت عن وجه غاب جماله البهي خلف تجعدات الألم كوردة بيضاء سفا عليها عجاج الخمسين، وقد بادرته هاتفة: الغوث أيها الطبيب!
فدنا منها وعلى وجهه ابتسامة تبعث الطمأنينة وسألها: ما بك يا سيدتي؟
فارتمت على مقعد بين يديه وراحت تروي له قصة ذلك المرض الوبيل الذي فاجأها لدى الصباح فاضطرها إلى أن تقصد إليه دون أن تتريث لحين أوبة زوجها من الوزارة، واستمع الطبيب إليها في دهشة وحيرة وهو يحاول عبثا أن يوفق بين ما يروى له، وبين هيئة السيدة المتزوجة التي تنطق بالحشمة والصون.
ثم أدى واجبه الدقيق بعناية فثبت لديه ما كان منه في ريب، واكفهر وجهه وهو يقول: سيدتي .. إنه لأمر مؤثر .. لقد أصبت بمرض خبيث .. بمرض سري.
فانقبضت المرأة قائمة وجحظت عيناها من الهلع والذعر، وقد ضاع ألمها المبرح في تيار الخوف الجديد وصاحت به: مرض؟ - نعم يا سيدتي .. إني أعني ما أقول، ولكن هدئي من روعك واملكي زمام نفسك حتى لا تجر هذه الكارثة وراءها كوارث أخرى أشد إيلاما. أقلت إنك متزوجة؟
فأحنت رأسها أن نعم وهي لا تدري، فاستطرد الطبيب قائلا: وا أسفاه، إن الشهوات تعمي الرجال حتى المتزوجين منهم. ومهما يكن من شيء فالواجب يحتم عليك أن تجابهي زوجك بالحقيقة، وقد كان الواجب عليه أن يصونك من عواقب مغامراته. أما وقد وقع المحظور فلا محيد من تنبيهه واصطحابه إلي وإلا ذهبت محاولة علاجك سدي.
ولكن خرجت من المرأة صرخة مبحوحة، وقالت بسرعة وهي تلهث: كلا .. كلا .. لا يمكن أن يكون ذلك .. بادر إلى علاجي ودع أمر زوجي. - ولكن ... - بالله لا تجادلني .. لا ينبغي أن يعلم زوجي من الأمر شيئا .. أد واجبك وسينتهي الأمر إلى خير إن شاء الله.
فاستولت الدهشة على الطبيب، وأنعم النظر في الوجه القلق الذي طغت آلام نفسه على آلام جوارحه فطالع فيه الألم والرعب والإثم .. يا للهول! أيمكن أن يكون ما لم يقع له في حسبان أبدا .. أيمكن أن تكون هي الجانية على نفسها، وربما على زوجها أيضا؟!
وما من شك في أن الزوج مهدد بخطر عظيم، إن لم يكن أدركه بالفعل فهو على وشك أن يدركه، وربما وقع في متناول الأذى أطفال أبرياء يحبون .. فما العمل؟ وكيف يتأتى له أن ينقذ هذه النفوس مما يوشك أن يحيق بها من غير أن يهتك ستر هذه المرأة الآثمة الهلعة المتألمة؟
وأحاط به هم التبلبل والحيرة حتى ضاق صدره، فحدث نفسه: لماذا أزج بنفسي في شئون الناس وآلامهم؟ .. إني طبيب، وما ينبغي لي أن أجاوز حدود مهنتي .. وبين يدي امرأة ملوثة، فلأشرع في معالجتها والأمر من بعد ذلك لله.
واطمأنت نفسه إلى هذا الرأي وهم بمباشرة عمله، ولكن سرعان ما عاودته أفكاره وقسرته نفسه على مراجعة التفكير في أمر هذه الأسرة المهددة، فرأى أن يتخذ طريقا وسطا فقال: سيدتي، ينبغي أن تعلمي أن زوجك في خطر عظيم .. وأن إخفاءك الأمر حينا لن يمنع الحقيقة من الظهور.
فاختلجت عيناها كالزئبق المترجرج وقالت: كم يقتضي العلاج من الزمن؟ - أسبوعين على أقل تقدير ومع أكبر عناية. - أواه .. إنه الدمار. - فإصابة زوجك محتومة. - من الميسور أن أدعي توعك المزاج هذه الفترة وأن أباعد ما بيني وبينه حتي أبرأ. - فإن كان قد سبق السيف العذل؟ - أواه يا سيدي .. لا يمكن أن أنتحر مختارة، ثم إن زوجي رجل مستقيم يصعب علي صكه بالحقيقة المروعة .. فدع الأمور تجري على مشيئة الله؛ فلعل الله حفظه من الأذى، وعسى أن يجعل من بعد عسر يسرا.
وساد سكون عميق مؤلم .. وكأن المرأة تذكرت شيئا فجأة فنظرت إلى الطبيب جزعة وسألته: سيدي، هل يبقي هذا سرا مكتوما؟ - طبعا .. طبعا .. اطمئني إلي كل الاطمئنان؛ فصدر الطبيب مقبرة للأسرار لا تنبش أبدا.
فتنهدت من قلب مقروح وقالت: إذن فلنبدأ من الساعة .. وسأوالي الحضور إلى هنا كل صباح إلا يوم الجمعة .. ولأنتظر ما قدر لي.
ولما انتهى من عمله وهمت بالخروج استمهلها لحظة وجلس إلى مكتبه وسألها: ما اسم السيدة؟
فبدا على وجهها الرعب وسألت: ولم هذا؟
فقال يطمئنها: لا تخافي ولا تحزني .. إنها تقاليد متبعة .. انظري إلى هذا الدفتر تجديه مزدحما بأسماء المرضى وعناوينهم .. لا تخشي شيئا واذكري أني طبيب لا أكثر ولا أقل.
فقالت وهي تتنهد: حرم محمد عباس أفندي موظف بوزارة الأشغال. •••
وفي صباح اليوم الثاني جاءت السيدة وقد قالت للطبيب إن ما يبدو على وجه زوجها من الهدوء والصحة ينعش الأمل المحتضر في صدرها.
فلما أن كان المساء دخل على الطبيب زائر جديد في الثلاثين، مليح القسمات طويل القامة، تسم وجهه آيات الذكاء والجسارة، فحيا الطبيب قائلا: مساء الخير. - مساء الخير.
فضحك ضحكة جهد نفسه أن تكون مرحة طبيعية، ولكنها لم تستطع أن تخفي القلق المساور لنفسه وقال: أصبت يا دكتور. - بمه؟ - بالذي يصاب به من يقصدونك. - وا أسفاه! - أتأسف حقا يا دكتور .. أيرضيك أن يزدجر الناس عن الهوى وأن تخسر جمهور المترددين عليك؟ - لا أظنك قد جئت إلى هنا لتتفلسف .. اتبعني إلى هذه الحجرة .. ولكن انتظر لحظة، أرجو أن تملي علي الاسم الكريم. - محمد عباس .. أنا جارك يا دكتور، وإن شئت أن تعرف صناعتي فأنا مهندس بوزارة الأشغال.
يا للمفاجأة! كادت تفلت من بين شفتيه آهة دهشة وانزعاج، وهم أن يرفع رأسه عن الدفتر بحالة عصبية تنم عما يضطرب في صدره، ولكنه ذكر تحرج الموقف واشتماله على ما يهدد بالويل، فصر بأسنانه وأحنى رأسه حتى كاد يلمس الصفحة المبسوطة أمامه ليخفي معالم وجهه عن القاعد تجاهه.
إذن هذا هو الزوج المنكوب، وقد أصيب بما كانت تشفق زوجه عليه وعليها منه .. ترى كيف كان وقع البلاء على نفسيهما .. كيف اكتشف المرض وكيف تحسس مصدره .. وماذا جر ذلك على حياتهما الزوجية، وأين يا ترى المرأة الآن .. وكيف قرعتها الفضيحة وكيف تتجرع عواقبها؟ ليته يعرف كل شيء.
أما الآن فما عليه إلا أن يؤدي واجبه. وخطا بالفعل نحو الحجرة الداخلية، ولكنه سمع المهندس يقول له بلهجة حزينة: إني أخشى يا دكتور أن تعقب هذا المرض مأساة أليمة.
فسأله وهو ما يزال شارد اللب: ولمه؟ - لأني زوج .. ورب أسرة.
فقطب الطبيب جبينه وبدت عليه آيات الدهشة، وفهم الرجل دهشته على غير حقيقتها فقال: هكذا ترى أنه ليس العزاب فقط هم الذين يأثمون. - أتعني أن زوجك مهددة؟ - طبيعي يا دكتور .. إن موقفي غاية في الحرج .. والذي يضاعف لي الآلام أنها سيدة طيبة لا تستحق أن تجزى هذا الجزاء السيئ .. فما العمل؟
يا عجبا .. لقد وضح وبرح الخفاء، كلا الزوجين آثم، وكل منهما ينحي باللائمة على نفسه. وكاد يستسلم لتيار أفكاره لولا أن سمع الرجل يلح عليه في السؤال ويكرر قائلا: ما العمل يا سيدي الطبيب؟
فقال له: بالحكمة تستطيع أن تصرف الأمور المعقدة إلى خير العواقب؛ فحاول أن تصحبها إلي من غير أن تثير شكوكها.
فبدت على وجه الرجل الحيرة، وقال وهو ذاهل عن نفسه: أحاول.
وحدث الطبيب نفسه بعد أن غاب المهندس عن ناظريه: إن الله يريد الخير بهذه المرأة .. وكأن الأمور تسير وفق مشيئتها، فسيأتي بها إلي، وأكشف عليها وأعلنه بإصابتها، فيوقن في نفسه أنها ضحيته دون سواه، ويبرآن على يدي ويعود الرجل بزوجه رافعا يديه حمدا لله وطلبا لغفرانه، وهو يجهل أن زوجه فرطت في حقه أضعاف ما فرط في حقها .. فيا لرحمة الله!
ولكن أليس من الظلم أن يغشى الله بستره خبيئة هذه المرأة الآثمة؟
فيا لحكمة الله! •••
وحان موعد مجيء المرأة ولم تحضر، فترجح لدى الطبيب مجيئها مع زوجها عند المساء، ولكن المهندس أتى وحده وكان بادي التغير، منكفئ الوجه، مصفر اللون، منطفئ البصر كأنه تقدم في الكبر أعواما، فتوقع الطبيب مفاجأة وبلاء وسأله: ما بك؟
فهز رأسه بحزن وقال: ماذا تحدس؟ - لعلك راودتها على المجيء فأبت وعصت. - كان يهون. - آه .. إذن قد انفضح أمرك ولم تتقن تمثيل دورك .. ونلت جزاءك على يديها.
فسها الرجل لحظة ثم قال بصوت تقطعه حشرجة اليأس: يا بؤس هذه الدنيا!
فهز الطبيب كتفيه استهانة وقال: كثيرا ما أسمع هجاء مريرا يصب على رأس الدنيا، ولكني أعتقد أن الإنسان هو الخالق الأول لهذه الآلام التي يتملص من تبعتها ويلقيها على عاتق الدنيا. - كما تشاء .. اعلم يا سيدي الطبيب أني في الفترة القصيرة التي تغيبتها عنك أحدثت في حياتي حدثا هائلا؛ فقد فصل الطلاق بيني وبين زوجي، وحرمني نور أطفالي حينا سإخاله دهرا مديدا.
يا للهول .. ترى ما الذي حدث .. وكيف حدث ؟ فإن قلبه يهمس له بفحواه، ولكنه لا يدري تفاصيله ولا يستطيع أن يرجم بما قلب منطق الحوادث وجعل عاليها سافلها.
واستولت عليه الدهشة وباتت عيناه تلحان بالسؤال بأفصح مما يبين اللسان .. فقال المهندس: إليك قصتي بكل إيجاز؛ غادرتك ليلة الأمس وقد صدقت نيتي على دعوة زوجي إلى زيارتك كي يطمئن قلبي، ولكني كنت مضطربا لا أدري كيف أبدأ باقتراح الأمر عليها ولا علم لي إن أنا اقترحته بما أبرره به، فاتخذت مكاني على مقربة منها بادي الهم والفكر. وللحال لاحظت طوارئ الهم والاضطراب تزحف عليها زحفا، فظننته صدى لاضطرابي وهمي واستجابة لهما. وتلبثت أنتظر أن تبدأ بسؤالي عما يساورني فلم تفعل، فضقت بالأمر ضيقا استفزني إلى طرح هذا السؤال: «ألا تشكين من شيء .. ألا تحسين بألم ما؟» فحملقت في وجهي بعينين هالعتين وقالت باضطراب: «كلا .. كلا .. والحمد لله.» فتمالكت نفسي وقلت كاذبا: «ألاحظ عليك هذه الأيام بعض الاصفرار والتغيير، وقد رأيت أن أقترح عليك زيارة طبيب .. فما رأيك؟» فردت بحدة وبلهجة من يتحمس لدفع خطر مروع: «كلا .. كلا .. أنت واهم ولا لزوم لذلك البتة .. إني أكره الأطباء ويهيج وساوسي الاستماع لنصائحهم.»
فطال طلابي وطال رفضها، فألححت عليها فأصرت، فرجوت وتوسلت فعندت وازدادت تشبثا، وعبثا حاولت أن أثنيها على رأيها حتى دهشت لإصرارها وضقت صدرا بها، وبنفسي، فاهتاجني المرض والغضب، وصحت بها بجنون جعلني أستهتر بكل شيء: «يجب أن تصغي إلي .. تعالي معي إلى الطبيب لأني مصاب وأريد أن أعرف ...» ولم أتم كلامي لأنها انتفضت قائمة متصلبة كالأفعى المتوثبة للافتراس، وجحظت عيناها ولم تتمالك نفسها، فسرت في جسدها رعشة شديدة، فأدهشني ذلك وسألت نفسي: ما لها؟ .. وهممت أن أعاود الكلام في ملاطفة مصطنعة، ولكنها قطعت علي الطريق بهزة عصبية ما زالت تكررها بعنف جنوني حتى تلبست صورتها هيئة غريبة تنذر بالويل، فازدادت بي الحيرة وسألتها: «ما الذي يرعبك؟ لم تخشين الطبيب؟» فصاحت بصوت ملتو لا تكاد تميز نبراته: «الرحمة .. الرحمة.» ولكن عاودني الغضب بحالة لم تأذن للرحمة أن تأوي إلى مستقرها في قلبي؛ فخطوت نحوها أهدر غاضبا ساخطا فصرخت: «محمد .. الرحمة .. الرحمة .. لقد كشف الله خبيئتي .. أنا الجانية على نفسي وعليك .. أنا أعرف أنك تعلم ذلك ولكني أستحلفك الله بألا تمسني .. طلقني ولا تمسني.» ثم ارتمت بين قدمي مغمى عليها.
ما معنى هذا؟ .. لقد تسابقت الظنون إلى قلبي، وانصبت الشكوك في عقلي، واكتظ بها رأسي فانصهر من الحرارة والالتهاب، وخلت أن شعر رأسي يقف ويتصلب كشعر القنفذ.
إن المرأة لتبهظ الرجل وتثقل كاهله وهي تؤمن بأنها لم تجاوز بعض حقوقها، أما إذا اعترفت بأنها جانية وسألت الرحمة ووقعت مغشيا عليها فلن يكون ذلك إلا لأمر واحد.
يا عجبا .. فقد ذهبت جانيا آثما فإذا بي مجني عليه. رحت أكفر عن ذنبي فإذا بي ضحية تعسة. ماذا يمكن أن يفعل رجل في مكاني؟
نعم لقد قارفت من الذنب ما قارفت، وسقطت في الهاوية التي ابتلعتها، فهل من المستطاع أن أسدل ستارا كثيفا على تاريخ الإثم كله، وأن أتحمل عقاب الله الصارم في صبر، وأروض نفسي على العفو والصفاء؟
إنه حل روائي قد يستحسنه غيري ويعطف عليه نفر قليل من الناس، أما أنا فقد انسقت مع طبيعتي وأصخت إلى صوت الغضب في قلبي، فهويت بالطلاق على رابطة الزوجية، فخرب بيتي وانتزعت الحضانة مني أطفالا أعزة، كانوا نور حياتي المشرق، فسبحان الله أحكم الحاكمين.
حياة مهرج
توفي بالأمس السيد حسن شلضم بمنزله الكائن في حارة جعيصة بالخرنقش، وانتقل من مقره الدنيوي إلى مثواه الأبدي في جناز متواضع اقتصر على أبنائه الثلاثة وشرذمة من الأصحاب عدا عربة كارو حملت بناته الثلاث وأمهن وامرأتين أو ثلاث أخريات.
لم يكن السيد المتوفى إلا مهرجا، أو كان أشهر المهرجين الذين جمعت حياتهم بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين .. ومن حسن الحظ أن الفن لا يأخذ بمقاييس المجتمع في تاريخ الرجال، وإلا ما كان للمتوفى حظ من الذكر. وما أجمل الفن في شموله هذا؛ فقد كانت حياة السيد حسن ينبوعا دافقا من ينابيع اللذات والشهوات، كان قطب حياة كاملة من الأفراح والمسرات، ومعينا فياضا للضحك والبهجة والحبور، وعزاء لنفوس لا عداد لها.
ولد في عام 1879، واستقبل الشعاع الأول في الحياة في حارة جعيصة ثم في فناء بيت آل شلضم وأخيرا في كتاب الشيخ هريدي.
كان منذ صغره ميالا إلى المزاح نزاعا إلى العبث، ولكن توجد حادثة في تاريخه يصح أن نعتبرها مبدأ لحياته التي عرف بها فيما بعد؛ إذ كان يمر في طريقه إلى الكتاب بقهوة خضراء الباب والنوافذ، فراقه لونها وجذبه إليه، وما يدري إلا وهو يمسك بحاشية جلبابه ويبلها بقليل من الماء ويمسح بها رقعة من باب القهوة حتى امتصت لونها، ثم لطخ به وجهه ورقبته وقفاه، ويداه الصغيرتان ترتجفان من الفرح، ثم هرع إلى رفاقه الصغار لا يلوي على شيء وصاح بهم: «إلي .. إلي .. انظروا.» والتفوا حوله دهشين وأغرقوا في الضحك حتى دمعت أعينهم. ولم يقنع بهذا الفوز فتقدمهم في الحارة وتبعوه وهم يصفقون تصفيقا توقيعيا وهو يرقص ويقفز ثملا بخمر الفوز والفرح.
كان يستلهم ألاعيبه غريزة حية توحي إليه، وكان قلبه الصغير لا يذوق السعادة إلا حين يضحك ويهيج ضحك الآخرين ولو من نفسه، بل إن نفسه ليجود بها في سبيل الضحك.
هكذا تفتقت موهبته الخارقة في حارة جعيصة، ثم لم تقف من بعد ذلك عند حد؛ فمن آياته في ذلك العهد البعيد أيضا أنه كان يحاكي بمهارة فائقة أصوات الكلاب والقطط والبقر والحمير والبوم والغربان، وأنه حفظ على حداثة سنه أغلب القفشات والنكات البلدية التي تلقى جزافا في القهاوي و«الغرز»، بل كان إذا أعوزه سبب لإثارة الضحك يمد قفاه للرفاق فيصفعونه ويضحكون.
وكان يندفع في سبيله بقوة غريزة مستحكمة قهارة كأنه فنان صادق أمين. ولم يقصد قط أن يتقاضى عن فنه أجرا، ولكن المجد أتاه طوعا يجر أذياله، وإذا به يشغل مكانا عاليا بين الرفاق الصغار، وإذا به قطب يهدفون إليه ويطوفون به ويبذلون في سبيل مرضاته الدوم وأبو النوم وغزل البنات.
ولكن للطفولة نهاية ككل شيء في هذه الدنيا، وقد ودع عهدها الجميل واستقبل عهد الشباب واشتغل في حانوت والده في أول شارع الخرنفش يبيع الخردوات.
وأراد أبوه أن يزوجه فتزوج، وكانت زيجة سعيدة وصلت ما بين آل شلضم الكرام وآل الأعمش معلم العربات الكارو الشهير وسيد موقف النحاسين. وعمرت بيت شلضم الفتاة المهذبة حميدة ربيبة الحجرات المغلقة، التي لم تقع على وجهها عين غريب أو لم تر نور الدنيا إلا خلال خمار كثيف ألقي على وجهها ساعة انتقالها في الزفة من العطوف إلى حارة جعيصة. وقد وجد فيها حسن أول شخص يحترمه ويهابه على ظهر البسيطة. كانت تدعوه «سيدي»، ولا تقعد فيه حضرته إلا إذا أذن لها؛ فإذا أذن جلست عند قدميه على شلتة واستلقى هو على الكنبة في كبرياء، ولكن مع الأيام بعد أن صارت أما لحسونة ومتولي وأبو سريع وزينب وخديجة ونبوية طمعت في مجالسته في طمأنينة وثقة.
صار السيد حسن شابا عاملا وزوجا، ولكنه لم يقلع عن لهوه وعبثه؛ كان يقضي نهاره في الحانوت، أما ليله فكان يلاحق أصحابه في قهاوي الخرنفش ومرجوش والغورية، ويساهرهم الليل يشربون الزنجبيل والقرفة ويدخنون الجوزة ويتسامرون ويتضاحكون. كان يجلس على أريكة متربعا ويضع إلى جانبه مركوبه، وعلي المركوب عمته، ويقذف بنكاته وقفشاته ذات اليمين وذات الشمال غير مبق على إنسان، والجمع من حوله يضحك ويقهقه ويسعل. وشهدت تلك الفترة من شبابه أبدع وأكبر مجموعة من النكات البلدية التي سارت مع الزمن سير الأمثال، وصارت من محفوظات أهل البلد وآدابهم التقليدية يلوذون بها في مناظراتهم اللطيفة ويستعيرون منها في معاركهم الهزلية، ويستشهدون بها كلما لج بهم الشوق إلى الفكاهة والمرح؛ فكان فنانا إلى درجة ما، وكان من الفنانين المغمورين، ولكن من حسن الحظ أنه لم يكن يفهم من معاني الخمول ما يمكن أن تذهب نفسه معه حسرات على خموله النسبي. والحق أن آيات السيد حسن شلضم التي ألفها في تلك الفترة البعيدة لا تزال جارية على الألسن، وستظل محتفظة بفكاهتها إلى أن تتغير العقلية البلدية أو أن يضعها مكتب الآداب في قائمة المحرمات.
ولبث الشاب يحيي السهرات الساذجة في ذاك الحي بضع سنين، ثم ولى وجهه وجهة أخرى. كان كثير من رفاقه لا يفتأ يذكره بأن المرجوش والخرنفش ليسا بالميدانين الصالحين لعبقريته الفذة، وأنه ينبغي أن يهاجر إلى شارع الأنس والطرب ومجمع العشاق وأهل الهوى. وأصاخ الشاب إلى إغراء الهمس، وأسلم قياده لمن دله على الطريق، وهنالك اطلع لأول مرة على ذلك العالم الفائر الذي تتجاوب فيه الأنوار ما بين المصابيح والكئوس وتمتزج به آهات الدلال وآهات المواويل، وتتصل حركات البطون بقفزات السكارى وتلويح العصي. ولم يعدم في تلك الدنيا العامرة صديقا؛ لأنها كانت مبيت عدد عديد من أثرياء الجمالية، فتلقوه بترحاب وأوسعوا له حول موائدهم. وإلى هنا اختتم الشاب حياة واستقبل حياة؛ اختتم حياة ساذجة طاهرة قوامها الفن، واستقبل حياة ترف وعربدة أساسها الاحتراف. وقد أكرمه أهل الهوى فنزعوا عنه الجلباب والعمامة والمركوب وخلعوا عليه جبة وقفطانا وحذاء أصفر لامعا وطربوشا أنيقا، وأكل مما يأكلون لحما مشويا وعصافير محمرة ونقلا لذيذا، وشرب مما يشربون خمرا معتقة ونبيذا أحمر وأبيض. وفي مقابل ذلك كان يقطع لياليهم الهانئة بالنكات الممتعة والملح النادرة والقفشات البارعة، وتنقل من حانة إلى حانة ومن ملهى إلى ملهى وهو يكتسب في كل مكان أصدقاء ومعجبين ومريدين. وامتدت شهرته من ذاك الشارع المنير إلى جميع حلقات الغناء والسمر والطرب في القاهرة الخالدة الحالمة، وعلا نجمه وشع نورا بهيجا، وطغت عبقريته واستحكم ظرفه حتى أصبح حبيبا إلى كل نفس عزيزا على كل قلب، تشتهيه الأنفس وتتلهف عليه المهج، كان لكل داء دواء طاردا للهم، كاشفا للكرب، أو كان روح كل مجلس أنيس، ينقلب إذا غاب عنه كئيبا واجما.
كانت غاية حياته أن يضحك ويضحك الآخرين ولو من نفسه. ولم تكن هذه الغاية فلسفة حياة ولكنها طبع وغريزة يندفع في سبيلها كالأعمى وكأنها صادرة من أعماقه لا يمكن أن يوقفها شيء. وكان ظاهر حياته يدل على أنه يربح من وراء هذه الموهبة جاها عريضا وسعادة متصلة وطعاما وشرابا، ولكنه كان في الحق يدفع الثمن غاليا ويبذله من كرامته وكبريائه؛ لأن همه الأول كان في التحبب إلى الناس وإدخال السرور على قلوبهم، وقد علم بغريزته أنه ينبغي لذلك أن يكون خفيفا لطيفا؛ فلا يجوز أن يعارض رأيا ولو خالفه بقلبه، ولا أن يغضب ولو مست كرامته، ولا أن يقاوم وإن هوجم وضيق الخناق عليه، فنال ما يشتهي من الحب وفق ما يشتهي ولكنه خسر الاحترام إلى الأبد.
ومهما يكن من أمر فقد تسنم السيد حسن شلضم ذروة المجد للحب، ويسلط سوط الإرهاب على رءوس آله جميعا، ولا يتكلم إلا آمرا أو منتهرا أو سابا، وكانت حميدة ترتجف رعبا في محضره، وكان أبناؤه إذا سمعوا صوته فروا إلى ركن قصي وانكمشوا فيه.
ومهما يكن من أمر فقد تسنم السيد حسن شلضم ذروة المجد ونال من الشهرة قسطا لم ينله أحد ممن سبقوه، ولن يتأتى لمحدث أو مهرج بعده أن يناله، ومضت لياليه سعيدة هانئة راضية، يحياها آكلا شاربا ضاحكا.
واصطدم وجه الأرض بأحداث مروعة، فوقعت الحرب وتوالت النكبات على الدنيا ثم قامت الثورة في مصر، وطفت بين من طفت بهم إلى السطح بالزنفلي أفندي الذي ظهر في أفق السيد حسن وإخوانه بعد عهد الانقلاب، فأضافه السيد حسن إلى أعاجيب الثورة كيدا وحقدا، وقد أتى به ذات مساء أحمد بك فائق وقدمه إلى جماعة السيد حسن قائلا: إنه شاب مثقف ومن أظرف الظرفاء. وما كان يسوء السيد حسن أن تزيد جماعته واحدا، فما كاد يطمئن به المجلس حتى جرت النكت على لسانه كالسيل، ومضى يعلق على آراء القوم وأحاديثهم بما تخترعه نفسه الذكية من الصور الساخرة والنوادر الأخاذة، فتبعث تعليقاته وراءها عواصف من الضحك والقهقهة. ولبث السيد حسن صامتا لا يتكلم يرمق صاحبه بعين فاحصة ويقول لنفسه: ترى هل هو زائر عابر أم قضي علي أن ينافسني طفل على آخر الزمن؟
والظاهر أنه قضي عليه حقا أن ينافسه الأطفال في النهاية؛ لأن الزنفلي لم يكن زائرا عابرا، لكنه أصبح بسرعة عجيبة عضوا لا يبتر من الجماعة، وكان يمتهن المزاح كالسيد حسن ولكن على طريقته الخاصة الجديدة، فما كان يفحش في القول ولا يقذف بالسباب والهجر ولا يحاكي الأصوات والأشكال، ولكنه كان يفتن ويتفوق في إرسال النكتة الخاصة الأدبية والملاحظة الساخرة والتهكم اللاذع.
وكان يصف نكاته فيقول إنها ملح أدبية وفكاهة عالية، ويغمز السيد حسن فيقول عن الفكاهة القديمة إنها سباب وفحش، ويحمل على «قافية أهل البلد» فيقول إنها أقوال مكررة مبتذلة ونوادر محفوظة وجناس سخيف لا روح فيه .. وكان السيد حسن يصغي إلى هذه الأقوال في عدم اكتراث وهزء، وربما نال من قائلها على طريقته باستهانة، ثم لم يلبث أن حقد عليه وكرهه؛ لأنه كان إذا قال نكتة ظريفة بادر الشاب إلى تعكير الصفو بسعال أو حمحمة أو بطرحه فجأة سؤالا جديا عسى أن يهيج اهتمام القوم ويلهيهم عن أثر النكتة. ورأى فيه عدوا حقيقيا، فشمر للكفاح والمنافسة في ميدان المزاح واللهو، وانقض على الزنفلي وانقض الزنفلي عليه واشتبكا في معارك حامية، واستعمل كل ما وهبه الله من الذكاء والبداهة والفكاهة، وصنع المستحيل ليربح الأنصار والمعجبين والمصفقين.
فإذا صاحت الديكة مذكرة اللاهين بأن الفجر انبثق انفض القوم فرحين، وعاد العدوان مهمومين مفكرين يحصي كل منهما ما أثاره من ضحك وما أهاج من مسرة وما ابتدع من فكاهة، ويذكر أسيفا حزينا ما ظفر به عدوه من آي النصر والتفوق ومن ضحك له من الرفاق. وظل كبار التجار وأهل البلد على ولائهم القديم للسيد حسن شلضم، أما الزنفلي فقد اكتسب الكثيرين من الأفندية والبكوات، وكان لذلك وقع شديد في نفس السيد حسن؛ فقد كانت الدنيا جميعا له يمرح فيها كيف شاء فقنع مضطرا مقهورا بنصفها.
ولكن علام الأسف والحزن؟ إن هذا العالم الجديد لا يستحق أسفا ولا حزنا. أين السادة الكرام الأجلاء؟ مات أكثرهم وانزوي من بقي منهم على قيد الحياة، إما لمرض أو فقر .. أين السيد جلال الشابوري رحمه الله الذي كان ينقده جنيها ذهبيا للنكتة الحلوة؟ أين الشيخ طلعت الإسلامبولي الذي كان يهديه كل ثلاثة شهور جبة وقفطانا لا يقدران بثمن؟ هذا إلى الفواكه المختلفة في إبان نضوجها؟ ذهب الجميع، ذهبت دنياهم الحلوة وبقيت هذه الدنيا العجيبة التي يخطب فيها النساء في المحافل العامة ويهدد التلاميذ معلميهم بالإهانة والضرب، ويغنيها عبد الوهاب بعد عبده الحامولي ومحمد عثمان، ويباع فيها قنطار القطن بريالين، فهل هذه دنيا يأسف السيد حسن شلضم على أنه ليس فارس ميدانها؟
وكان يداعبه بعض معارفه أحيانا فيقولون له: «راحت عليك يا سيد شلضم.» فكانت تقع من نفسه موقع السم الزعاف، وكان يصر على أسنانه المثرمة ويتصنع الاستهانة ويقول: سامحك الله يا غلام، أتحسب أن شلضم من الهوان بحيث يرضى أن يهرج في هذا الزمان البائس المأزوم، أو أن يمازح هذا الجيل الذي لا يتذوق النكتة؟! فشر وألف فشر! إن مثلي ومثل الزنفلي فكالحامولي في الزمن القديم، وهؤلاء المغنين النائحين الذين يتسترون على عيوب حناجرهم بالإكثار من الآلات والموسيقيين.
والحقيقة أن ظله أخذ يتقلص بسرعة، ومضى الموت يقتنص رفاقه أو المعجبين به واحدا بعد واحد، وتزايد على الأيام شعوره بالوحشة والغربة.
تغير كل شيء، حتي موطن اللهو القديم الذي كان ملهى الكبراء والأثرياء أصبح مباءة السوء وسوق الأوباش واللصوص والبلطجية، ولم يعد للمهرج مكانة خاصة في جماعات الهوى؛ فقد ابتذلت صناعته وبات كل يهرج لحسابه الخاص.
وفي ذات مساء، وكان السيد حسن يحتسي كأسا من الكونياك في حانة بسوق الخضار، سقط بغتة فاقد النطق.
ورقد أخيرا على الفراش، مسلما جسمه الهائل إلى قبضة المرض الجبار، وقد تمردت أعضاؤه جميعا على إرادته، وبات عاجزا عن تحريكها إلا عينيه يقلبهما ذاهلا في سقف الحجرة ذي العمد الخشبية العتيقة يبرز من شقوقها ذيل البرص أو رأسه، ويغشى ما بينها نسيج العنكبوت.
إن تلك الحياة العامرة بألوان اللذات والسرور والأفراح قد اختتمت بهذا الرقاد الأليم، وإن النور والغبطة والرفقاء قد تفانوا في هذه الظلمة الموحشة، وانتهى كل شيء كما ينتهي الحلم الحلو، وانتهى في لحظة قصيرة كأنه لم يدم سنين وسنين، وجاءت الساعة الرهيبة التي يتساءل فيها الإنسان في حسرة مريرة .. أحقا كان هذا الجسم سليما .. أحقا كان هذا القلب حيا .. أحقا كانت الدنيا حلوة سعيدة لذيذة الطعم .. أحقا ذهب كل هذا إلى غير رجعة؟
وقاوم جسمه المرض بضعة أشهر قضاها في وحدة ووحشة وقنوط، لم يزره فيها سوى أبنائه وبناته، ذلك الرجل الذي كان يوما قلب القاهرة السعيد وثغرها الضاحك، حتى وافاه الأجل بالأمس القريب في ذلك البيت العتيق بحارة جعيصة الذي شاهد مولده وعرسه ومجده وأخيرا .. مماته.
عبث أرستقراطي
في ذلك المساء من شهر مارس ازين قصر الوجيه حامد بك عرفان بحلة لألاءة من الأنوار المتموجة ذات الألوان، مدت أسلاكها الكهربائية على سور الحديقة فتعانقت مع الياسمين والبنفسج، وتعلقت بأفرع الأشجار والنخيل، وتوجت بها شجيرات الورود المنتثرة على هيئة أهلة ونجوم. وكان أعجب ما في القصر هو ذاك البهو المتسع الأنيق الذي فرش بفاخر الأثاث وحليت جدرانه وأركانه برائع الفن من صور وتحف، وترك في وسطه مكان رحب للراقصات والراقصين، أما في صدر المكان فقد امتدت ردهة إلى منتصف مقصف حافل، وإلى يمينها فيما يلي الشرفة المطلة على الحديقة احتلت فرقة الموسيقى الإيطالية مكانا جميلا .. وانتشر فيما بين البهو والشرفة والمقصف والحديقة المدعوات والمدعوون الذين لبوا الدعوة للاحتفال بعيد ميلاد كوكو الصغيرة ابنة الوجيه عرفان بك وزوجه إنجي هانم عرفان .. وكانوا يجلسون أزواجا وجماعات يتجاذبون أطراف الأحاديث حينا بالعربية وأحيانا بالفرنسية، ويتضاحكون بأصوات عالية رقيقة وخشنة، وإذا دعت الأنغام قاموا للرقص والعناق. وقد شاع في الجو عطر وأنس وحرارة كأنها أنفاس المودة نفثتها الأعين والشفاه والصدور والأماني الهامسة.
وكانت الأحاديث متنوعة، ولكنها تدور في الغالب حول موضوع واحد يتجاذبها كما يتجاذب النور الفراشة، وهو المرأة، ولا يستثنى من ذلك الجماعة التي كان محدثها الأول الأستاذ علي الجميل الصحافي المعروف والنائب المحترم، فما خرج الحديث فيها عن الزواج واختيار المرأة الصالحة، وكان النقاش يحتدم بين المتجادلين من الجنسين بصورة عنيفة مضحكة، أما الوجيه نور الدين فكان يتوسط حلقة أخرى يروي فيها ما اتفق من قصص مغامراته الغرامية في العواصم العالمية ذوات الشهرة في الحب والجمال. وفي ركن منعزل امتاز بوفرة من حوي من الشابات والشبان أقيمت مسابقة سرية لاختيار أقبح امرأة بين المدعوات. واتجهت أبصار المحكمات والمحكمين إلى امرأة اتخذت مكانها تحت صورة الفنانة وابنتها «لفيجيه لوبرين»، وكانت عجوزا إلا أنها تتصابى وتستعير من ألوان الجمال ما تظن أنه يغني عما استرده الدهر من حياة شبابها، فبدت تحت طلاء الأصباغ في هيئة مضحكة، وكانت تتجنب الناس وتقنع بالجلوس منفردة حتى تعود إلى مجالستها ربة الدار إنجي هانم كلما تاقت نفسها إلى الراحة. أما اسمها فدولت هانم، وقد راضت نفسها على العزوبة بعد تجربة أربع زيجات غير موفقة، وكادت تيئس من الرجال والحب، وقنعت من متاع الدنيا بمضغ الأعراض والخوض فيما تعلم وما لا تعلم من أسرار الناس، فصارت معجما لتواريخ السوء. وكانت في تلك اللحظة التي اختيرت فيها سرا ملكة للقبح .. تجالس إنجي هانم، وكانت تلوذ بالصمت قسرا بعد أن لم تبق على أحد من الحاضرات والحاضرين، حتى أتيحت لها فرصة جديدة للكلام بحضور الوجيه الأستاذ محمد جلال المحامي وزوجه الحسناء صفية هانم جلال، وكانا يلفتان الأنظار حيثما سارا لثراء الزوج المالك لأربعة آلاف فدان في الصعيد، وجمال الزوجة ورشاقتها، وقد استقبلتها إنجي هانم بمودة ظاهرة وباطنة. ولما عادت إلى جوار دولت هانم مالت هذه على أذنها وقالت بصوتها الخافت المبحوح: يا لهما من زوجين سعيدين جميلين!
فقالت السيدة بحماس: الأستاذ جلال شاب يندر أن يوجد نظيره بين الشباب الناجح الثري .. ألا تعلمين أنه مرشح لكرسي النيابة؟ .. وأما صفية فهي آية للجمال والصفاء.
فابتسمت المرأة ابتسامة باهتة وقالت: نعم، نعم .. لا شيء يعيبه إلا أنه يقال إنه قد يتبارز من أجل راقصة، أما إذا استثيرت غيرته الزوجية فقد يغضي.
وضاقت إنجي هانم ذرعا بحديث صاحبتها، فلم تسألها إيضاحا، وتشاغلت عنها بمشاهدة بعض الراقصين، ثم استأذنت لاستقبال بعض صواحبها.
وسلم الأستاذ محمد جلال وزوجه على عدد عديد من الأصدقاء والصديقات، ثم اختارا أن يجلسا إلى زوجين جميلين مثلهما هما الوجيه طه بك العارف وزوجه الحسناء هدى هانم العارف. وكان الأستاذ جلال يبدي إعجابا خاصا نحو السيدة هدى؛ فلما عزفت الموسيقى دعاها إلى الرقص معه، وقبلت بسرور ورقصت زوجه مع طه بك.
وطرب الجميع طويلا وشربوا كثيرا، فدارت رءوس وثرثرت ألسنة كتومة، وفاضت الأحاديث، وامتلأ الجو برنين الضحكات ووميض الابتسامات وإيماءات الغزل، والتقت أعين وتماست أنامل وارتعشت شفاه، حتى جاءت تلك الساعة المختارة من الليل فتوسطت المدعوين السيدة إنجي هانم، وقالت بصوتها الرخيم: اسمحوا لي سيداتي سادتي أن أقدم إليكم مفاجأة العيد السعيد.
تطلعت الوجوه إليها من كل صوب، وتجمع حولها المبعثرون ما بين الشرفة والمقصف ينتظرون فرحين، وبغتة أطفئت الأنوار بغير نذير، وساد المكان ظلام دامس دام خمس دقائق ما كان يسمع خلالها سوى همس خافت أو ضحكات مكتومة، ثم أضيئت الأنوار مرة أخرى، فرأى القوم منظرا بديعا؛ مهدا على قوائم أربع طويلة، مسقفا بستار من حرير على هيئة هرمية، وفيه جلست كوكو متكئة على يديها الصغيرتين في قميص أبيض كأنها وردة بيضاء يانعة، وكانت ترمق الناظرين بعينين دهشتين صغيرتين ينعكس النور على زرقتهما الصافية! فصفق الجميع تصفيقا رقيقا وهتفوا باسمها، وقبل الآنسات يدها الصغيرة، ثم قدمت الهدايا النفيسة حول مهدها الجميل، وشمل القوم سرور عظيم فاستأنفوا لهوهم بإرادة أشد نزوعا للصبا والمسرة. على أن فترة الظلام القصيرة لم تمر بسلام كما توهم الجميع، فقبيلها بدقائق كان الأستاذ محمد جلال يجالس هدى هانم في المقصف وقد دل عبثهما المرح على أنهما ثملان؛ فلما أطفئت الأنوار لم يتردد الشاب فدنا برأسه منها حتى كادت تمس شفتاه أذنها وهمس قائلا: «هدي.» وارتجفت المرأة كالمذعورة ولم ترد عليه، فقال لها همسا وهي تحس بلمس شفتيه لأذنيها: «هذه فرصة طيبة. قومي واتبعيني.»
وكان بودها لو تتباله كما يقضي الدلال، ولكنها خشيت أن يضاء النور بسرعة، فقالت همسا: إلى أين؟ - إلى حجرة التدخين في الطابق العلوي؟ - قد يفتقدوننا. - وماذا يهم؟ .. سيظنون أننا في الشرفة أو في الحديقة أو في المقصف أو هنا أو هنالك وسنعود من طريقين متباعدين.
وأمسك بكفها وقام واقفا فقامت بدورها، واتجه نحو السلم وهي تتبعه وارتقياه بسرعة، فوجدا نفسيهما في ردهة مضاءة بنور بنفسجي هادئ تطل عليها أبواب متباعدة، فسارا إلى هدفهما ودخلا معا، ثم ردا الباب في سكون، وكان الجو مظلما شديد الظلمة، ولكنه كان يعرف المكان فانعطفا إلى اليمين وتقدما خطوات حتى عثرت يده بكنبة كبيرة وثيرة، فجلس وجلست، وتنهد من أعماق صدره وقبض على كفها فوجدها ترتعش كالمقرورة، فسرت رعشتها إلى قلبه ووجد به غمزا لم يبرأ منه حتى ضمها إلى صدره بعنف وانهال على وجهها يقبله بشغف وجنون، كم لبثا منفردين إنه لا يدري، ولكن المحقق أن تلك الخلوة السعيدة لم تخل مما ينغصها؛ فقد خيل إليهما أن أقداما خفيفة كالمحاذرة تدنو من باب الحجرة، فتباعدا واقفين وأرهفا السمع واتجهت أعينهما في الظلام ناحية الباب، وخالا أكثر من هذا بأن يدا تعالج الباب بلطف .. ترى أحق هو أم وهم؟! ولكن الباب تحرك ونفذ إلى الحجرة شعاع هادئ كروح محتضرة، فاشتد بهما الرعب وودا لو تبتلعهما الأرض. وما لبث أن تسلل شبح في حذر وتبعه آخر، ثم رد الباب إلى ما كان عليه فساد الظلام مرة أخرى، وكان الداخلان شديدي الحذر فلم يبديا حركة ولم يصدرا أصواتا وكأنهما ذابا في الظلمة الجاثمة .. فسكن ذعر الآخرين وأحسا بشيء من الارتياح بل والطمأنينة، وخطرت لهما فكرة معا هي أن الضيفين الجديدين مثلهما، وأن لا خطر عليهما منهما، وتأكد هذا الظن حين شعرا بهزة تصيب الكنبة فعلما أن صاحبيهما اختارا كنبتهما مقعدا لهما أيضا، وتريثا في قلق صار بعد حين ضيقا وكدرا؛ لأنهما لم يستطيعا أن يأتيا حركة خشية أن يتنبه الآخران فيفزعا، وربما حدث ما لا تحمد عقباه.
أما الجديدان فكانا يظنان نفسيهما في أمان وخلوة فلم يحاذرا إلا بمقدار، واستطاع العاشقان أن يسمعا همسا وهمهمة، وأن يسمعا الرجل يهانغ صاحبته وهي تهانغه، ولم يكتفيا بذلك بل قال بصوت استطاع الآخران أن يميزاه: حبيبتي .. صفية.
وارتجف محمد بك جلال كأنما قطعة من الثلج ألقيت على ظهره، وأحس بارتجاف يد صاحبته في يده .. كان الصوت صوت طه بك العارف. ومن هدي؟ أليست زوجه هو؟ .. أي كارثة تجمعت في هذه الحجرة المظلمة! ودق قلبه بعنف وغلى دمه غليانا كاد يفجر الشرايين في دماغه، ولكنه لبث ساكنا صامتا وزوجه على قيد ذراع منه في أحضان خليلها! ولم يكن يأسف على عجزه عن تحطيم رأس الرجل؛ - فمثل هذا العمل يثير فضيحة حرية بالقضاء على مستقبله السياسي ومعركة الانتخابات على الأبواب - ولكنه كان مغيظا محنقا لأن غريمه لا يدرك في تلك اللحظة أن زوجه بين يديه هو أيضا.
وانتظر دقائق كالأجيال، وشعر أخيرا بحركة استدل بها على قيام الرجل، وسمعه يقبل زوجه بحرية ويقول لها: لو تعدل الدنيا .. زوجك الغبي ليس أهلا لك وزوجتي ليست أهلا لي، ولكن، ولكن ما العمل؟ ثم تسللا خارجين كما أتيا.
وكان الغضب قد أفسد على جلال بك مزاجه فقام هائجا، وبحث عن سترته حتى عثر عليها وأخذ بيد صاحبته وخرجا في حذر ثم افترقا في الردهة.
ولبث ضيق الصدر شديد الكدر ساعة طويلة، يلعن طه بك ويلعن زوجه المستهترة. ولم تكن هذه أولى خياناتها، ولكنها وقعت على كثب منه بحال بشعة لا يمكن أن تمحى من الذاكرة .. فسحقا لهما .. وقام يتمشى في الحديقة فارا بوجهه الممتقع من الأعين جميعا. ولفحه هواء الليل البارد فرطب جبينه الساخن وأنعش فؤاده المضطرم، وصح عزمه في تلك اللحظة على أن يسلم قياده لمغامرات الغرام الجنونية غير مبق على شيء، ولو أدى الجنون إلى الظهور مع هدى في المجتمعات العامة وميادين السباق. وتملقته هذه الخواطر فأحس بارتياح ومضى يفيق من همومه ويتنبه إلى نفسه، فاستطاع عند ذلك أن يشعر بتغير غريب، فعجب لشأنه وتناسى انشغاله، وبحث عن أسباب هذا التغير فوجد يديه تجسان السترة وكأنها أوسع مما كانت .. ماذا حدث لها؟ يا للعجب .. إنها أوسع مما يتصور. وخطر له خاطر غريب اضطرب له فؤاده، ولكي يتحقق من وساوسه وضع يده في جيب السترة وأخرج حافظة، لم تكن حافظته، ووجد بها بطاقة مكتوبا عليها «طه بك العارف».
ووضح الأمر، وعاوده القلق والحنق، ولم يكن ثمة خوف من الفضيحة؛ فسترات بدل السهرة متشابهة، لكنه يشعر بحيرة شديدة ويسائل نفسه: «كيف يمكن أن تتبادل السترتان؟!»
مرض طبيب
قبل عامين تفشى وباء التيفود في مديرية الغربية تفشيا مخيفا فتك بنفوس الكثيرين، وصادف ذلك انقضاء بضعة أشهر على تعيين الدكتور زكي أنيس طبيبا بمستشفى طنطا وفتحه عيادته الخاصة، وكان في تلك الأيام يلاقي الشدائد المقضي على كل مبتدئ في فنه أن يلقاها أول عهده بالحياة العملية؛ فكان ينتظر طويلا، وعبثا توارد الزوار والمرضى مستوصيا بالصبر والتجلد حتى كاد يلحقه الجزع؛ فلما تفشى ذاك الوباء الخبيث تضاعف عمله بالمستشفى وشحذ نشاطه ومضى يراقب حركة السيارات التي تطوف بالبيوت وتعود محملة بالضحايا بعينين كئيبتين وعزيمة متوثبة، وأحس بالرغم من كل شيء بسرور خفي، وأحيا قلبه الأمل في أن يدعى يوما لعلاج مصاب من الذين تثقل بهم جيوبهم عن الانتقال إلى المستشفيات العامة، ولم ييئسه تقاطر الناس على كبير الأطباء وبعض الأطباء القدماء بالمدينة، وأصغى إلى هاتف تفاؤل ما انفك يهمس لقلبه بأن دوره لا محالة آت.
وصدق أمله، وإنه ليجلس إلى مكتبه يوما يقلب صفحات كتاب وتجري عيناه على أسطره جريان الشرود والملل إذ طرق بابه كهل يدل منظره الوجيه وزيه الريفي الثمين على أنه من الأعيان، ولعله قصده بعد أن يئس من العثور على سواه، فطلب إليه بلهجة تنم على القلق أن يصحبه إلى العامرية على مسير ربع ساعة بالسيارة. وكان الشاب يعد العدة لمثل هذا اللقاء، فلم يبد على وجهه أثر مما اضطرب في صدره من الفرح والظفر، فألقى على القادم نظرة رزينة وقام من فوره فخلع معطفه الأبيض وارتدى الجاكتة والطربوش، وأخذ حقيبته وتقدمه إلى الطريق. والتقى أمام الباب بسيارة فخمة فخفق قلبه مرة أخرى، وتريث حتى فتح الرجل الباب وقال له: تفضل.
وجلسا جنبا إلى جنب وانطلقت بهما السيارة ، وحافظ على هدوئه ورزانته وصر بأسنانه ليطرد ابتسامة خفيفة تحاول أن تعتلي شفتيه، وكأنه أراد أن يداري عواطفه، فسأل الرجل عن مريضه، وتكلم الرجل في إسهاب فقال إن المريض ابنه، وإنه لم يجاوز العشرين من عمره، وإنه أحس منذ أيام بتوعك وخور ورغبة عن تناول الطعام، ثم ارتفعت حرارته واستسلم للرقاد، فسأله: هل حقن بالمصل الواقي؟
فأجاب الرجل بالنفي، وأعلن عن رجائه الحار ألا يكون الشاب أصيب بالحمى الخبيثة، فصمت الطبيب مليا يفكر في هذه الأعراض ويزنها بميزان اختباراته وعلمه، وكانت السيارة في أثناء ذلك تخترق الطريق الزراعي بسرعة البرق حتى بلغت العامرية وانعطفت إلى حاراتها الضيقة ثم وقفت أمام دار كبيرة، فدخلا معا واستقبلتهما أوجه كثيرة بأعين يقتتل بها الخوف والأمل، فساوره القلق وتلبسه شعوره حين تعرض لأول مريض بدأ به حياته التمرينية في قصر العيني منذ ثلاثة أعوام، فاستصرخ قوة إرادته ليضبط بها وجدانه ويجتاز هذه التجربة الجديدة بالنجاح، وأغضى عمن حوله وسدد انتباهه إلى الشاب الراقد بين يديه، وكشف عليه بعناية فائقة وفحصه فحصا دقيقا فترجح لديه أنه مصاب بالتيفود، وأبدى رأيه في تحفظ، وقال إنه ينبغي أن يفحص المريض في اليوم التالي ليستوثق من رأيه، فلا آمنهم من خوف ولا أفقدهم الأمل، وظن أنه ضمن لنفسه أن يتردد على المريض حتى يبلغ به الشفاء بفنه أو يودعه القبر بأمر الله، ثم أخذ حقيبته واتجه نحو الباب بخطى وئيدة كأنه يريد شيئا، فلحق به والد المريض وهمس في أذنه قائلا: تفضل.
فخفق قلبه ثالث مرة ذاك اليوم، ومد يده وهو يقول: شكرا.
فأحس بثلاث قطع من ذات العشرة القروش توضع بها، ثم جلس في السيارة منفردا هذه المرة، وانطلقت به في طريق العودة، وكانت هذه أول مرة يدعي فيها إلى زيارة مريض في بيته، فاغتبط ورضي وأشعل غليونه وراح يدخن بحالة من السرور، ولم تخل من اضطراب عصبي، فأخذ «أنفاسا» سريعة فتوهج التبغ وسخن الغليون، ولم يستمر في التدخين طويلا فوضعه في جيب الجاكتة الأعلى، وأرسل بناظريه خلل زجاج النافذة يشاهد الحقول الممتدة على جانب الطريق الغارقة في الأفق البعيد، وكانت تنتهي عند الطريق الزراعي بجدول من الماء ينساب صافيا تستحم فيه أشعة الشمس المائلة للغروب وتغشاه بنور لألاء بهيج يخطف الأبصار؛ فاستسلم لسحر الرؤية، وشعر بتخدير لذيذ حتى انتبه إلى تغير غريب يسري في صدره وجسمه فتحولت أفكاره من الخارج إلى الداخل، فأحس بسخونة تنتشر في أعضائه جميعا كأن حرارته ارتفعت بغتة، فتململ في جلسته وحرك رقبته بعنف، ثم لم يحتمل شدتها فخلع طربوشه وفك أزرار الجاكتة وأخرج منديلا يروح به على وجهه، وهو يعجب أشد العجب لأن الجو كان معتدلا لطيفا، واشتدت وطأة السخونة والتهب جسمه بالحرارة، فجس خديه وجبينه وشعر بثقل في جفنيه ورأسه وضيق في التنفس، وتساءل في حيرة عما أصابه، وخطر له خاطر مخيف: هل يكون مريضا؟! .. وذكر لتوه الحمي الشيطانية التي تفتك بأهل المديرية فتكا جهنميا.
وكان قد حقن نفسه بالمصل الواقي، فكيف انتقلت إليه العدوي؟! .. هل سبقت الميكروبات المصل إلى دمه؟! ولفه الذعر، وكان في الحقيقة جبانا رعديدا شديد الهواجس سرعان ما يستسلم للتشاؤم ويقع فريسة سهلة للمخاوف، فعاد يجس خديه وجبينه فوجدها ساخنة، وأحس بجسمه يكاد يلتهب التهابا فاستولى عليه الفزع وارتعدت فرائصه وقال بذهول: «يا للويل .. لقد أصبت وانتهيت.»
وقطعت السيارة مرحلتها وانتهت إلى عيادة الطبيب الشاب - وكانت عيادته ومنامه في شقة واحدة - فتركها على عجل وصعد إلى حجرة نومه واستدعي التمرجي وقال له: «ناد الدكتور سامي بهجت بسرعة وقل له إني أصبت بالتيفود.» فجرى الرجل مرتعبا، وأخذ الدكتور يخلع ثيابه بيدين مضطربتين وارتدى البيجامة وارتمى على الفراش في حالة يأس ورعب وغم شديد، وقد خيل إليه أن شرايينه ستنفجر من الحرارة، وكان يستحضر في ذاكرته أعراض المرض فلم يعد لديه ثمة شك في أنه مريض، وثبت في وهمه بقوة أن هذا المرض سيختم حياته، وكان شديد الجبن متهافت الأعصاب، فلم يستطع أن يأمل قط في النجاة وبات في يأس عظيم، وظل يعد الدقائق الثقيلة المرهقة ويصيح غاضبا : «هيهات أن يجد الدكتور في عيادته، وسأجن هنا وحدي.»
وفي أثناء الانتظار فزعت أفكاره المجنونة إلى القاهرة، إلى أمه، ووجد حاجة شديدة إليها، وإلى وجودها إلى جانبه لتسهر عليه، وفكر فعلا في أن يبعث إليها ببرقية، ولكنه لم يقبل هذه الفكرة بسهولة، وأشفق من إرهاقها وإزعاج حياة والده وإخوته الصغار وربما عرضها للخطر أيضا - وكان هذا أول شعور طيب يخالط قلبه منذ قدم طنطا - فصدقت نيته على أن يطلب إلى الدكتور بهجت نقله إلى المستشفى، وربما تمكن من رؤيتها هناك ليودعها إذا اشتد عليه الحال. وقد حن إليها في تلك الساعة حنينا موجعا .. وأغمض جفنيه هنيهة يلتمس الجمام ويطرد عن قلبه الوساوس والهواجس، ولكن وجدانه الثائر أبى أن يدعه في راحة أو طمأنينة، أو أن يصرفه عن الانشغال الأليم بمرضه. ولم يكن دار له بخلد أن الطبيب بمأمن من الأمراض، ومع ذلك أحس بمرارة وسخط وحنق، وساءه أن يفتضح مرضه الغادر في أثناء عودته من زورة مريض. أما كان الأجمل أن يجزي غير هذا الجزاء؟ .. وقر في نفسه أن العدوى انتقلت إليه في أثناء قيامه بواجبه في المستشفى بالرغم من حذره ويقظته، فتضاعف سخطه وحنقه، وأسى على حياته التي لم يتح له التمتع بها، وكان يدفع إلى فكرة الموت دفعا عنيفا، ويقسر على الاستغراق فيها بقوة شيطانية .. وحدثه قلبه الرعديد بأن نهايته حمت، فعطف رأسه إلى المرآة وأدام النظر إلى وجهه، فخيل إليه أنه محتقن بالدم الفاسد، ولكن كان ما يزال محتفظا بنضارة الحياة وأثر الصحة الآخذة في الانحلال، فألقى عليه نظرة أسيفة حزينة، كأنما يودع آخر صورة للحياة والصحة عالقة به .. ثم أدار رأسه قانطا، وأسلمه القنوط إلى الاستسلام، وأسلمه الاستسلام إلى الاستهانة، ولاذ بها من مخاوفه، وقال لنفسه علام الخوف والذعر، الموت آت لا ريب فيه، إن لم يكن اليوم فغدا .. هو النهاية المحتومة على أية حال لمهزلة الحياة .. وماذا يضيره أن يقصر دوره في هذه المهزلة؟ فلعل في قصره اختزالا لآلام مروعة. على أن تعزيه لم يدم طويلا، وألحت على قلبه الآلام مرة أخرى .. فذكر آماله وأطماعه في المجد والثروة، وارتسمت على شفتيه لهذه الذكرى ابتسامة مريرة ساخرة .. وشعر بامتعاض يفوق الوصف .. وذكر الثلاثين قرشا التي طرب لها فرحا قبل حين قصير فازداد امتعاضه، ولعن رزقه الذي يناله من أيد شحيحة لا تفرط فيه حتي يهزلها المرض، فتتراخى عن الضن به، ولعل النظام الذي يجعل سعادة القوم منوطة ببؤساء آخرين .. يا لها من مهنة مخيفة، يستمد رجالها حياتهم من النفوس المريضة كالجراثيم سواء بسواء .. وسخر في ذعره وتشاؤمه من الإنسانية والتضحية والرحمة، تلك الألفاظ الصماء التي حفظها عن ظهر قلب ولم تختلج له في شعور قط .. فهو لم يشمر أبدا لغير المجد والثروة، ولم يتصور ساعة أنه يبلغهما بغير معونة المرض .. فعبده وهو لا يدري، ونصبه إلها يقدم له القرابين البشرية كبعل القديم، حتى سقط هو أخيرا قربانا له، فأي حياة هذه؟ .. وذكر أيضا في هذيانه وتشاؤمه قرويا بسيطا عرض له في العيادة الخارجية بالقصر العيني، وكان يريد أن يكشف على حلقه، فأمره أن يفتح فمه .. وكان كلما أدني منه المجهر يرتجف الرجل الساذج ويغلق فمه، وتكرر ذلك منه حتى اشتد به الضيق، وكان مرهق الأعصاب من كثرة العمل، فضرب جبين القروي بالمجهر، فشجه وأسال دمه .. وقد أسف لذلك حقا ولكن أسفه لم يخفف عن الرجل شيئا .. وذكرته هذه الحادثة بما يقع خلف جدران القصر العيني من أعمال القسوة التي تفزع من هولها النفوس البشرية، فذكر أنه تكاسل مرة عن إجراء عملية لمريض؛ لأنه كان أجرى هذه العملية مرات عديدة بنجاح، فلم يشعر بحاجة إلى تمرين جديد، واسودت الدنيا في عينيه، وعافت نفسه كل شيء في تلك الساعة الخبيثة.
ثم سمع وقع أقدام في الردهة وصوت التمرجي يحادث الدكتور، فتمشت في أعصابه موجة نشاط ونسي وساوسه، وفزع إلى القادم بأمل جديد، ودعا ربه بصوت متهدج قائلا:
وما انتهى من دعائه حتي برز الدكتور بهجت من باب الحجرة وهو يقول بصوت مرتفع: مساء الخير يا دكتور، ما لك؟
فقال الشاب بهدوء وإن كان في الحق يستغيث: أصبت.
ففحصه الدكتور بعينين نافذتين وأصابعه تفتح الحقيبة ثم قال: لعلها الإنفلونزا.
فقال بيأس: كلا .. لا أشكو زكاما ولا صداعا. - ولكنك لم تشك تعبا أو فقدان شهية في هذه الأيام، أليس كذلك؟!
وتفكر الشاب قليلا متحيرا ثم تمتم قائلا: حرارتي فظيعة .. إني أشعر بالمرض شعورا مخيفا. - هل قست الحرارة؟!
فعجب كيف فاته ذلك، وهز رأسه نفيا ولاذ بالصمت، فابتسم الدكتور بهجت ابتسامة ساخرة، ودنا منه والترمومتر في يده، ثم وضعه في فمه وانتظر هنيهة، أخذه ثانية ورفعه إلى مستوى عينيه، ونظر إلى وجه الشاب رافعا حاجبيه وقال ببساطة: حرارتك طبيعية .. انظر.
وقرأ الشاب الترمومتر وهو لا يصدق عينيه، وجس خده ثم قال: هذا عجيب! خدي ما زال ملتهبا، كيف هبطت الحرارة؟
وأتى الدكتور بسماعة وطلب إليه أن يفك أزرار الجاكتة ففعل.
ووقع بصر الرجل على الفانلا فبدت على وجهه الدهشة، وصاح بسرعة وهو يشير إليها: انظر!
فأحنى الشاب رأسه ناظرا إلى الفانلا فرأي فوق القلب دائرة مسودة من أثر احتراق خفيف، فاستولت عليه الدهشة وجلس في فراشه وهو يتساءل: ما الذي صنع بي هذا؟!
فضحك الدكتور بصوت عال وقال: ها أنت ذا تكتشف حمى جديدة يا دكتور.
وخطر للشاب فكرة فالتفت إلى المشجب وقفز من الفراش واتجه نحوها ووضع يده في جيب الجاكتة الأعلى متناولا غليونه، وفحص الجيب بعينيه فرأى آثار التبغ الذي أكل البطانة وحرق القميص وأثر هذا التأثير في الفانلا، ووقف مرتبكا ينظر إلى الدكتور بعينين تسألان الصفح، وقد أحس بحرارة جديدة هي حرارة الخجل والارتباك.
وبعد دقائق وجد الشاب نفسه وحيدا مرة أخرى، وكان ما تزال تعلو شفتيه ابتسامة الارتباك والخجل، ولكنه كان يحس بغبطة وسلام، وكان قلبه يشكر الله الذي وهبه حياته مرة أخرى.
وبر الشاب بوعده واعتزم أن يكون إنسانا قبل كل شيء، وعاد إلى عمله تنبض في قلبه أشرف العواطف وأنبلها، وكان يظن أنه سيصمد للتجارب لا ينكص على عقبيه مهما امتد به الزمن، ولكن وا أسفاه إن انقضاء الليل والنهار ينسي، ومن ينغمر في الدنيا يذهل على نفسه، وللحياة جلبة تبتلع همسات الضمير؛ فقد أخذ يتناسى محنته ودعاءه ووعده حتي نسي ولم يعد يذكر إلا عمله ومستقبله وآماله وأطماعه، ثم ارتد إلى ما كان عليه، وكانت تلك الأيام القلائل في حياته كهدوء البحر الذي يصفو ويرق حتى يشف عن باطنه ثم لا يلبث أن تهيجه الرياح والعواصف فيرغي ويزبد وتعلو أمواجه كالجبال. ولعله لا يذكر هذه الحادثة الآن إلا كدعابة يتندر بها ويقصها على صحبه إذا دعا داعي الحديث أو السمر.
فلفل
في قهوة السعادة أشياء كثيرة تستثير الاهتمام، منها فلفل، وهو غلام في الثانية عشرة أو جاوزها بقليل، اسمه الحقيقي طه سنقر، ولكنه اشتهر بفلفل، وهو يسعي بجمرات النار إلى مدخني النارجيلة والجوزة من طلوع الصباح حتى انتصاف الليل. على أن الاصطلاحات لا تخلق اعتباطا؛ فللغلام من اسمه الجديد نصيب. كان خفيف الحركة متحفز النشاط، فما إن يدعي حتي يندفع نحو داعيه كالنحلة ويقطع النهار كله ونصف الليل لا يقر له قرار أو يسكت له صوت، وقد اشتغل في القهوة منذ عام نظير قرش في اليوم غير جوزة وفنجان شاي يقدمان له في الصباح ومثلهما بعد الغداء، وكان بذلك جد سعيد، يتيه فخارا كلما ذكر أنه صار قواما على نفسه وصاحب قرش وأخا «كيف ومزاج»، وفوق ذلك لم تكن حياته منحصرة في الحاضر، كان يرمق بعين الطموح ذلك اليوم حين يأذن له «المعلم» بتقديم النارجيلة والجوزة أسوة بالنار والماء، فينتقل من درجة غلام إلى درجة صبي، ومن يعلم بعد ذلك أين يقف به الترقي؟! وهو في سبيل طموحه لا يكف عن تمرين حنجرته بالهتاف والنداء على الطلبات؛ لأن أهمية الحنجرة في القهوة البلدي تضاهي أهميتها في نادي الموسيقي.
ومن أعجب ما رأى فلفل في قهوة السعادة جماعة من طلاب العلم، تجتذبهم القهوة في أماسي العطل والإجازات، فيأوون إلى ركن منها يسمرون ويلعبون النرد ويحتسون الشاي والزنجبيل، وكانوا كبقية رواد القهوة من جمهور الشعب الفقير، ولكن المدرسة سمت بهم إلى طبقة معنوية عالية، فانتبذت الكبرياء بهم ركنا منعزلا وإن كانوا يرتدون عادة الجلابيب، بل وينتعل بعضهم القباقيب؛ فإذا اجتمع شملهم وفرغوا من احتساء الشاي والزنجبيل قرأ أحدهم جريدة من جرائد المساء وأنصت له الآخرون، ثم يندفعون إلى المناقشة والتعليق فيحتدم الجدل وتستمر المناقشة.
وجاء مساء فاستطاع أن يفهم ما يقولون لأول مرة، بل سر به سرورا لا مزيد عليه، في ذلك المساء قرأ قارئهم - فيما يقرأ - خبر قضية رشوة موظف كبير، ثم أخذ الصحاب كعادتهم في النقاش والتعليق، فقال واحد منهم متحمسا: هذا واحد أمكن يد العدالة أن تصل إليه مصادفة، ويوجد غيره كثيرون لا ينأي بهم عن غيابات السجون إلا أن العدالة ما تزال ضالة عنهم.
وقال آخر أشد تطرفا وأبعد عن وزن كلامه: ليس الداء قاصرا على الموظفين؛ فغيرهم - وأنتم تعلمون من أعني - أفظع وأضل سبيلا. هذا بلد لو أقيم به ميزان العدالة كما ينبغي لامتلأت السجون وخلت القصور.
واستبق الناقدون وتناولوا أسماء كثيرة فمزقوها إربا ولوثوها بكل منكر بأصوات مرتفعة لا تبالي شيئا، فقال بعضهم: أضرب لكم مثلا بفلان .. أتدرون كيف جمع ثروته الطائلة؟
ثم جعل يعدد وسائل الإجرام التي ابتز بها أموال الناس كأنه كان كاتم سره أو مرجع رأيه، ثم تتابع النقاد والمشرحون واختار كل شخصية من الشخصيات الكبيرة يروي تاريخها كما يشاء، ويكشف عن مثالبها مفتتحا كلامه بهذه العبارة المثيرة: «وفلان هل تدرون كيف جمع ثروته الطائلة؟» وما زالوا في حملتهم حتي صاح أحدهم غاضبا: هذا بلد السرقة فيه حلال.
فهم فلفل هذا الحديث، فلم يعقه عن فهمه لفظ غريب أو تعبير معقد، وكان بما يتقن من أنواع القذف والسباب أشبه، فطرب أيما طرب ووافق منه هوى دفينا؛ فما أجمل أن يقال إن هذا بلد لصوص! ما أجمل أن يقال إن السرقة في هذا البلد حلال! فهو لص بحكم نشأته، تربى بين أحضان السرقة فعرفها في المهد؛ فأمه - وهي بائعة دوم - تنفق أوقات الفراغ في اصطياد الدجاج الضال، أما أبوه عم سنقر بائع الفول السوداني فمولع باختلاس القمصان والسراويل من أسطح البيوت، وله في ذلك حيل يخطئها الحصر، ولكن ماذا أفادت أسرته من جهادها؟
وانتهت تلك الليلة بغير ما يحب فلفل؛ فحين عودته إلى بيته، أو إلى الحجرة التي يبيت بها أبواه وأخواته، وجد أمه لا تزال مستيقظة يعلوها الوجوم والانكسار، وأخواته من حولها باكيات، فانزعج الغلام وتولاه الخوف، ورأته أمه فقالت له قبل أن يسألها: «أخذ الشرطي أباك.» فأدرك الغلام ما هنالك، وتحول إلى أخته الكبرى فقالت له إنهم اتهموه بسرقة بعض الثياب وساقوه إلى القسم، ثم استدركت بعد لحظة سكوت قائلة إنهم لن يردوه قبل أشهر أو أعوام. وكان فلفل في العادة لا يلتقي بأبيه إلا نادرا؛ لأنه كان ينام قبل أن يرجع من تجواله، ويخرج إلى القهوة صباحا قبل أن يصحو، ولكنه على رغم ذلك تأثر بالجو الحزين فداخله الحزن وبكي، ثم ذكر ما سمعه في المساء فجعل يقول لأمه إن البلد كله لصوص وإن السرقة فيه حلال، وقص عليها نحوا مما بلغ مسمعيه، فلم ترتح المرأة إلى ثرثرته وأعرضت عنه ونهرته أن يسكت .. ثم لطمته على وجهه .. في صباح اليوم الثاني استيقظ فلفل وقد نسي أمس كله وكأنه ولد من جديد، فانطلق إلى القهوة بخطاه الواسعة لا يحمل بين جنبيه هما، والواقع أنها لم تكن أول مرة يساق فيها أبوه إلى السجن.
صوت من العالم الآخر
1
يا إلهي ماذا يعوز هذا القبر من طيبات الحياة الفانية؟! إنه قطعة من صميم الحياة حافلة بما لذ وطاب. لقد حليت جدرانه بصور الجواري والخدم، وفرش بأفخر الأثاث وأجمل الرياش، وبه ما أشاء من أدوات الزينة والعطور والحلي، وفيه مخزن مفعم بالحبوب والبقول والفاكهة، وها هي ذي مكتبتي حملت إليه بمجلداتها الحكمية، وما يحتاجه الكاتب من الأوراق والأقلام، هي الدنيا كما عهدتها، ولكن هل ثمة طعم للدنيا في حواسي الآن؟! أبي حاجة إلى متعة من متعها؟! جهد ضائع ذلك الذي بذله الذين هيئوا هذه المقبرة، بيد أني لا أستطيع أن أنكر أمرا غريبا هو أنه ما فتئت نفسي تنازعني إلى القلم. يا عجبا! ما لهذه الأوراق تناديني بسحرها المحبوب؟! ألا يزال بي موضع لم يمح منه الموت منازع الضعف والهوى؟ أقضي علينا - معشر الكتاب - أن تشقي بضاعتنا في الحياتين؟! على أية حال لا يزال أمامي فترة انتظار أبدأ بعدها رحلتي الأبدية، فلأشغل هذا الفراغ بالقلم؛ فلطالما زان القلم الفراغ الجميل.
رباه! ألا زلت أذكر ذلك اليوم الذي فصل بين الحياة والموت من عمري؟! بلى. في ذلك اليوم غادرت قصر الأمير قبل الغروب، بعد عمل شاق تعناني فيه الجهد، حتى قال لي الأمير: «توتي .. كف عن العمل ولا تشق على نفسك.» .. وكانت الشمس قد مالت نحو الأفق الغربي في سياحتها الأبدية إلى عالم الظلام، ولآلئ من أشعتها المودعة تنتفض انتفاضة الاحتضار على صفحة النيل المعبود، فأخذت في طريقي المعهود متسمتا شجرة الجميز في طرف القرية الجنوبي حيث يقوم بيتي الجميل.
يا آمون المعبود، ما هذا الألم في العظام والمفاصل؟ ليس ما بي أثر من جهد العمل، فلطالما واصلت العمل بلا انقطاع، ولطالما ثابرت وصبرت فغلبت الإعياء بالقوة والعزم. أما هذا الألم المضني، أما هذه الرعشة المزلزلة، فطارئ جديد امتلأت منه رعبا. أيكون ذاك الخبيث الذي لا ينزل بجسم حتي يورده التهلكة؟ انطو يا طريق القرية بحسنك فما في جوارحي قوة تقبس من جمالك، واغرب يا طير السماء فما في صدر توتي المسكين حنان يناديك. وأخذت في الطريق قلقا متأوها، وعند عتبة البيت طالعني وجه زوجي رفيقة شبابي وأم أبنائي، فهتفت بي: «توتي أيها المسكين، ما لك تنتفض؟ ما لعينيك مظلمتين؟!» فقلت لها محزونا مكتئبا: «يا أختاه .. وقع المحظور ... وحل الخبيث بجسم زوجك، هيئي الفراش ودثريني، ونادي الحكيم والأبناء والأحباب، قولي لهم إن توتي على فراشه يضرع إلى ربه فاضرعوا معه، واسألوا له الشفاء.» وحملتني التي تهواني على صدرها، وجاء الحكيم يجرعني الدواء، وأشار بإصبعه إلى السماء وقال لي: «توتي .. أيها الكاتب الكبير، يا خادم الأمير الجليل، أنت في حاجة لرحمة الرب، فادعه من أعماق قلبك.» ورقدت لا حول لي ولا قوة. يا آمون المعبود جلت حكمتك، ألم أصحب سيدي الأمير إلى الشمال في جيوش فرعون؟ ألم أشهد القتال في صحاري زاهي؟ ألم أحضر قادش مع الغزاة البواسل؟ بلى أيها الرب، ونجوت من الرماة والعجلات والمعارك؛ فكيف يتهددني الموت في قريتي المحبوبة الآمنة بين أحضان زوجي وأمي وأبنائي؟! وغرقت في أبخرة الحمى، واشتد الدوار برأسي، وسال بلساني الهذيان، وشعرت بيد الموت ترتاد قلبي. وما أقساك أيها الموت! أراك تتقدم إلى هدفك بقدمين ثابتتين وقلب صخري، لا تتعب ولا تسأم ولا ترحم، لا تهزك الدموع ولا تستعطفك الآمال، تدوس حبات القلوب، وتتخطى الأماني والأحلام، ثم لا تبدل سنتك ولو كان الفريسة في ربيع العمر الزاهر. توتي في السادسة والعشرين ذو بنين وبنات، ألا تسمع؟ ماذا يضيرك لو تركت أنفاسي تتردد في صدري؟ دعني ريثما أشبع من هذه الحياة الجميلة المحبوبة، إنها لم تسؤني قط ولم أزهد فيها أبدا. أحببتها من أعماق الفؤاد ولا أزال على العهد. كانت الصحة طيبة والمال موفورا والآمال كبارا، ألم تحط بكل أولئك خبرا؟ ومن حولي قلوب محبة ونفوس والهة، أفلا تنظر إلى الأعين الدامعة؟ كأني لم أعش ساعة واحدة في هذه الحياة الجميلة المحبوبة. ماذا رأيت من مشاهدها؟ ماذا سمعت من أصواتها؟ ماذا أدركت من معارفها؟ ماذا ذقت من فنونها؟ ماذا جربت من ألوانها؟ أي فرص ستضيع غدا؟ أي نشوات ستخمد؟ أي عواطف ستهمد؟ أي المسرات ستبيد؟ ذكرت ذلك جميعه، ودارت بخلدي أشياء أخرى لا حصر لها ولا حد، ما بين مفاتن الماضي وسحر الحاضر وأماني المستقبل. وجرت أمام حواسي الورود والحقول والمياه والسحاب والمآكل والمشارب والألحان والأفكار والحب والأبناء وقصر الأمير وحفلات فرعون والرتب والنياشين والألقاب والفخر والجاه. وتساءلت: أيمضي كل هذا إلى الفناء؟ وانقبض صدري أيما انقباض، وامتلأت حزنا وكمدا، وهتفت كل جارحة بي: «لا أريد أن أموت .» وتتابعت جحافل الليل، فغلب النوم الصغار، ولبثت زوجي عند رأسي وأمي عند قدمي، وانتصف الليل ونحن على حالنا، ثم استدار وأوغل في الرحيل، ثم بهتت ذوائبه بزرقة الفجر، هنالك داخلني شعور غريب بالرهبة وتولاني إحساس بالخوف، وأطبق السكون وأنذر بشيء خطير، ثم شعرت بيد أمي تدلك قدمي وتقول بصوت متهدج: «بني .. بني.» وهتفت زوجي المحبوب: «توتي .. ماذا تجد؟» ولكني لم أستطع جوابا، لا شك أن أمرا استثار جزعهما، ترى ماذا يكون؟ هل لاح في وجهي النذير؟ وتحولت عيناي على غير إرادة مني نحو مدخل الحجرة. كان الباب مغلقا بيد أن الرسول دخل، دخل دون حاجة إلى فتح الباب، فعرفته دون سابق معرفة؛ فهو رسول الفناء دون سواه. واقترب مني في خطى غير مسموعة. كان مهيبا صامتا مبتسما ذا جمال لا يقاوم سحره فلم تتحول عنه عيناي، ولم أعد أري من شيء سواه. وأردت أن أضرع إليه ولكن لم يطاوعني اللسان، وكأني به قد أدرك نيتي الخفية، فازدادت ابتسامته اتساعا، فآنست منه رفقا، ولم أعد أبالي شيئا. انجابت عني وساوس الليل وأحزانه وحسراته، وغفلت عن دموع من حولي، ووجدت نفسي في حال من الاستهانة والطمأنينة لم أعهدها من قبل. سلمت في محبة لا نهائية، وتركت جسمي في المعركة وحيدا. رأيت - دون مبالاة البتة - دمي يقاوم في عروقي، وقلبي يدق ما وسعه الجهد، وعضلاتي تنقبض وتنبسط، وأنفاسي تتردد من الأعماق، وصدري يعلو وينخفض، وشعرت بالأيدي الحنون تسند ظهري وتحيط بي. رأيت ظاهري وباطني رؤية العين بغير مبالاة ولا اكتراث، وقد تحول الرسول عني إلى جسمي، وأخذ في مباشرة مهمته في ثقة وطمأنينة والابتسامة لا تفارق شفتيه الجميلتين، وشاهدت نسمة الحياة المقدسة تذعن لمشيئته فتفارق القدمين والساقين والفخذين والبطن والصدر، والدم من ورائها يجمد، والأعضاء تهمد، والقلب يسكت، حتي غادرت الفم المفغور في زفرة عميقة. سكن جسمي وصمت إلى الأبد، وذهب الرسول كما جاء دون أن يشعر به أحد، وغمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا.
2
غمرني شعور عجيب بأني فارقت الحياة، وأني لم أعد من أهل الدنيا، ماذا حدث؟! وما الذي تغير في؟! ما زلت في الحجرة، والحجرة كما كانت؛ فأمي وزوجي تحنوان على جسمي، ولكن حدث شيء بلا ريب، بل أخطر الأشياء جميعا، لم أوخذ على غرة، ولو كان بي قدرة على الكلام لأجبت زوجي حين سألتني «توتي ماذا تجد؟» بأني أموت، ولكني فقدت قدرتي على الكلام وغيره فلم أوخذ على غرة كما قلت، وشعرت بزورة الموت كما يشعر المضطجع بدبيب الكرى وتخدير النعاس، ثم رأيته جهرة. والذي لا شك فيه أن الموت ليس مؤلما ولا مفزعا كما يتوهم البشر، ولو عرف حقيقته الحي لنشده كما ينشد الخمر المعتقة، وفضلا عن هذا وذاك فلا يخامر المحتضر أسف ولا حزن، بل الحياة تبدو شيئا تافها حقيرا إذا ما تخايل في الأفق ذاك النور الإلهي البهيج. كنت مكبلا بالأغلال فانفكت أغلالي، كنت حبيسا في قمقم فانطلق سراحي، كنت ثقيلا مشدودا إلى الأرض فخلصت من ثقلي وأرسلت وثاقي، كنت محدودا فصرت بغير حدود، كنت حواس قصيرة المدى فانقلبت حسا شاملا كله بصر وكله سمع وكله عقل، فاستطعت أن أدرك في وقت واحد ما فوقي وما تحتي وما يحيط بي، كأنما هجرت الجسم الراقد أمامي لأتخذ من الكون جميعا جسما جديدا. حدث هذا التغيير الشامل الذي يجل عن الوصف في لحظة من الزمان، بيد أني ما برحت أشعر بأني لم أغادر الحجرة التي شهدت أسعد أيام حياتي السابقة، كأن العناية وكلتني بجسمي القديم حتى ينتهي إلى مستقره الأخير، فجعلت أتأمل ما حولي في سكون وعدم اكتراث. وقد غشي جو الحجرة حزن وكآبة، وأخذت أمي وزوجي تتعاونان على إنامة جسمي - صاحبي القديم - بملامحه المعهودة راقدا لا حراك به، وقد ابيض لونه وشابته زرقة وتراخت أعضاؤه وأطبق جفناه، ونادتا أبنائي والخدم .. وراحوا جميعا يعولون وينتحبون. ومضى الحاضرون يسكبون عليه الدمع الغزير يكادون يهلكون كمدا وحزنا وغما. ومضيت أنظر إليهم بعدم اكتراث غريب كأنه لم تربطني بهم يوما آصرة قربى. ما هذا الجسم الميت؟ لماذا تصرخ هذه المخلوقات؟ ما هذا الأسى الذي جعل من سحنهم دمامة شوهاء؟ كلا لم أعد من أهل هذه الدنيا، ولم يردني إليها صراخ أو بكاء، ووددت لو تنقطع أسبابي بها لأحلق في عالمي الجديد، ولكن وا أسفاه، إن بقية من حريتي لم تزل عزيزة علي أسيرة إلى حين، فلآخذ نفسي بالصبر وإن شق علي. وجاءت أمي بملاءة وسجت الجثة ثم أخرجت العيال والخدم، وأخذت زوجي من يدها وغادرتا الحجرة وأغلقتا الباب. لم يغيبا عن ناظري؛ لأن الجدران لم تعد حائلا يحجب شيئا عن بصري، فرأيتهما وهما تغيران ملابسهما وترتديان السواد، ثم اتجهتا نحو فناء الدار وهما تحلان ضفائرهما وتحثوان التراب على رأسيهما، وخلعتا النعال وهرعتا إلى باب الدار، وانطلقتا تصوتان وتلدمان، ومضت أمي تصرخ: «وا ابناه!» فتصرخ زوجي: «وا زوجاه!» ثم تهتفان معا: «يا رحمتا لك يا توتي المسكين! خطفك الموت ولم يرحم شبابك.» وتركتا الدار على تلك الحال من العويل والنواح، وأخذتا في طريقهما، حتى إذا مرتا بأول دار تليهما برزت لهما ربة الدار في ارتياع وصاحت بهما: «ما لكما يا أختي؟» فأجابت المرأتان: «خربت الدار، تيتم الصغار، وثكلت الأم، وترملت الزوج، يا رحمة لك يا توتي.» .. فصوتت المرأة من أعماق صدرها وصاحت: «وا حر قلباه .. يا خسارة الشباب .. يا ضيعة الآمال!» .. وتبعت المرأتين وهي تحثو التراب على رأسها وتلطم خديها، وكلما مررن بدار برزت ربتها وانضمت إليهن، حتى انتظم الحشد نساء القرية جميعا، وتقدمتهن امرأة دربة بالنياحة، فجعلت تردد اسمي وتعدد فضائلي، وذهبن يقطعن طرقات القرية باعثات الحزن والأسى في كل مكان. هذا اسمي تردده النائحات، ما له لا يحركني؟!
أجل، لقد صار الاسم غريبا غرابة هذه الجثة المسجاة، وبت أتساءل: متى ينتهي هذا كله؟ متى ينتهي هذا كله؟! وعندما أتى المساء جاء الرجال وحملوا الجثة إلى بيت التحنيط والصراخ يطبق علينا، ووضعوها على السرير بالحجرة المقدسة، وكانت الحجرة مستطيلة ذات اتساع كبير، وليس بها من نافذة إلا كوة تتوسط السقف، وفي الصدر قام السرير، وعلى الجانبين رفعت رفوف رصت عليها أدوات الكيمياء، وفي الوسط - تحت الكوة - حوض كبير مليء بالسائل العجيب، وخرج الرجال فلم يبق إلا رجلان، وكان الرجلان حكيمين من المشهود لهما في فنهما فأخذا في عملهما دون إبطاء، وقد جاء أحدهما بطست ووضعه على كثب من السرير، وتعاونا معا على تجريد الجثة من ملابسها حتى بدت عارية لا يحجبها شيء. فعلا ذلك في هدوء وعدم اكتراث، ثم قال الذي جاء بالطست وهو يغمز عضلات صدري وذراعي: «كان رجلا قويا .. انظر.» فقال الآخر: «كان توتي من رجال الأمير، يؤاكله ويشاربه، وفضلا عن ذلك فقد خاض غمار الحروب.» فقال الذي جاء بالطست متحسرا: «لو أن الأجسام تعار!» فأجابه الآخر ضاحكا: «أيها العجوز، ما جدوي جسد ميت؟!» فقال وهو يهز رأسه: «وكان قويا حقا.»
فقال الآخر ضاحكا وهو يتناول خنجرا طويلا حادا من أحد الرفوف: «فلنختبر قوته.» وطعن الجانب الأيسر فيما يلي الصدر بخنجره حتى غاب نصله، وشقه حتى أعلى الفخذ، وأعمل في الداخل يده بمهارة ودربة، ثم استخرج الأمعاء والمعدة وأودعهما الطست، وقفاهما بالكبد والقلب، فسرعان ما رأيت باطني جميعا. ولم يستغرق ذلك إلا دقائق معدودة؛ فالرجال من مهرة المحنطين الذين أتقنوا عملهم أيما إتقان، ورحت أنظر إلى باطني بعناية، وبخاصة إلى معدتي التي عرفت بقوتها ونشاطها، ولم يحل غلافها دون رؤية ما بداخلها بفضل تلك القوة السحرية التي اكتسبها بصري، فرأيت فيها مضغ الإوزة والتين وبقايا النبيذ التي تناولتها على مائدة الأمير مساء الأمس، وذكرت قوله حين عزم علي بالطعام: «كل يا توتي واشرب، وتمتع بالحياة أيها الرجل الأمين.» رأيت وذكرت دون أن يعروني أي أثر أو انفعال، ودون أن يزايلني عدم الاكتراث العجيب، ثم حولت بصري إلى قلبي فرأيت عالما حافلا بالعجائب، رأيت بشغافه آثار الحب والحزن والسرور والغضب، وصور الأحبة والرفاق والأعداء، وقد ترك الهيام بالمجد به فجوة عمقها ما خضت من معارك في بلاد زاهي والنوبة، ولاحت على رقعته مشاهد مروعة لميادين القتال، وأجزاء ملتهبة دامية من أثر ذلك الطمع العنيف الذي بعثني للكفاح بلا رحمة حتي ضممت إلى أرض أسرتي قطعة أرض تجاورها نازعني عليها جار بضع سنين. رأيت فيه جل حياتي وما عانيت من الأهواء، أما الرجل فمضى في عمله يحدوه الهدوء والمران، فأتى بكلاب دقيق وأولجه في أنفي باحتراس حتى تمكن من هدفه، ثم وجهه بدراية وعنف وجذبه بسرعة، فسال مخي الكبير من منخري مادة رخوة تذرو في الهواء ما تجمع فيها من لوامع الفكر ولآلئ الآمال ودخان الأحلام. هذه أفكاري منقوشة أمام عيني، فإذا قارنتها بنور الحق الذي يتخايل لروحي بدت تافهة مشوهة، لقد قاتلها المثوى الذي أوت إليه؛ رأسي ومخي. ها أنا ذا أقرأ القصيدة التي صغتها في وصف قادش، وها هي ذي الخطب التي ألقيتها بين يدي الأمير في المناسبات المختلفة، وهذه آرائي في آداب السلوك، وهذه الحكم التي حفظتها عن حقائق النجوم كما جاءت في كتب قاقمنا؛ كل أولئك أزاحه الرجل مع فتات المخ فاستقر بين الأمعاء والمعدة في الطست الدامي، غير ما تناثر على الأرض فداسته الأقدام. قال الحكيم وهو يعيد الكلاب إلى موضعه: «الآن صارت الجثة نظيفة.» فقال صاحبه ضاحكا: «ليتك تجد بعد موتك يدا ماهرة كيدك!» وحمل الحكيمان ما تبقى من جسمي إلى الحوض الكبير وأناماه فيه، فامتلأ بالسائل الساحر وغرق فيه، ثم غسلا أيديهما وغادرا المكان، وقد أدركت أن الحجرة لن يعاد فتحها قبل كرور سبعين يوما - مدة التحنيط - فمسني الجزع. وقع في نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم لألقي عليه نظرة الوداع.
3
أسترق إلى نفسي خاطر أن أنطلق بروحي إلى العالم فانطلقت، لم تحدث حركة في الواقع، وإنما كان يكفي أن يتجه فكري إلى شيء حتى أجده ماثلا أمامي، بل الواقع أعظم من ذلك؛ فقد صار بصري شيئا عجيبا، لا يعصي أمره شيء، صار قوة خارقة تشق الحجب وتتخطى السدود وتنفذ إلى الضمائر والأعماق. بيد أني - وقد حم الوداع - نازعني الفكر إلى أهلي فوجدت نفسي في داري. أما الصغار فقد راحوا في نوم عميق لا يزعجه مكدر، وأما زوجي وأمي فقد افترشتا الأرض ولاح في وجهيهما الهم والغم. لشد ما أعياهما الحزن والبكاء! وغدا يتضاعف حزنهما عند تشييع التابوت إلى مثواه الأبدي. وقد تغلغل روحي في فؤاديهما فتحرك رأساهما وتمثلت لهما في الأحلام، ورأيت القلبين المحزونين يخفقان في كمد وألم. فيم كان كل هذا الكدر؟! بيد أن شيئا استرعي بصري؛ رأيت في سويداء القلبين نقطة بيضاء، فعرفتها - فما عاد يخفى علي علم شيء - فهي بذرة النسيان! آه .. ستكبر هذه النقطة وتنتشر حتى تشمل القلب كله. أجل أدركت هذا حق الإدراك، ولكن بغير مبالاة فلم أعد أكترث لشيء، وتساءلت مسوقا بلذة المعرفة: متي يمكن أن يحدث هذا؟! فأرتني عيناي العجيبتان صورة من المستقبل؛ رأيت أمي تمسك غلاما بيمناها وتشق طريقها وسط زحام شديد ملوحة بزهرة اللوتس، فعلمت أنها خرجت - أو أنها ستخرج - للمشاركة في أسعد أعياد قريتنا، عيد الإلهة إيزيس، كان وجهها متهللا وكان ابني يهتف ضاحكا، ورأيت زوجي تهيئ مائدة - والطعام خير ما تصنع في دنياها - وتدعو إليها رجلا أعرفه؛ فهو ابن خالها ساو، ونعم الزوج هو، ولو أن ميتا يسر لسررت لها؛ لأن ساو رجل فاضل، وهو خير من يسعد زوجي ويرعى أبنائي. وانصرفت روحي عن داري، فمرت في سبيلها بقصر أميري المحبوب، فشاهدت عقل الأمير ووجدته متأسفا لفقدي، وهو الذي قدرني أجمل التقدير وجازاني خير الجزاء. ووجدته مشغولا باختيار خلف لي، فقرأت في ذاكرته اسم المرشح الجديد «آب رع»، وكان من مرءوسي النابهين وإن لم تتصل بيننا أسباب المودة.
كل هذا جميل، ولكن إلام أبقى في قريتي واليوم يستقبل فرعون رسول الحيثيين لتوقيع معاهدة الصلح والسلام. رأيت منف - في لمح البصر - تعج بجمهورها الحاشد، والقصر في أروع منظر. وقد اجتمع في بهو العرش العظيم الملك والرسول والكهنة والنبلاء والقواد، هؤلاء هم سادة الدنيا قد جمعهم مكان واحد. وهذا فرعون المظفر يحدث رسول الحيثيين الجبابرة في جو بالمودة عامر. أما صدر الملك فقد امتلأ احتقارا، وترددت بأعماقه هذه العبارة: «لا بد مما ليس منه بد.» وأما صدر الرسول فقد بض كراهية، وتحيرت به هذه الفكرة: «صبرا حتي يموت هذا الملك القوي.» ونشطت عيناي، فرأيت الوجوه والملابس والقلوب والعقول والبطون، رأيت عالمي الظاهر والباطن بغير حجاب، وتسليت زمنا بتفحص ما في البطون من طعام فاخر وشراب معتق، حتى عثرت بمعدة كاهن على بصل وثوم! وهما محرمان على الكهنة، وتساءلت: تري كيف غافل هذا الرجل الورع أقرانه ودس هذا الطعام في جوفه؟! ولمحت في ناحية من معدة أحد النبلاء دبيب المرض الذي أودى بحياتي، وكان الرجل يحاور قائدا في سرور وانشراح، فقلت له في نفسي: «على الرحب والسعة.» ثم وقع بصري على الحاكم تيتي الذي اشتهر بالقسوة والبطش حتي ليوالي فرعون النصح له بالاعتدال مع رعايا إقليمه، فنظرت إليه بإمعان وسرعان ما تكشف لي عن جسم مهزول مريض الأعضاء، لا يفتأ يشكو مر الشكوى أسنانه ومفاصله. وكلما ألح عليه الألم تمنى لو يستطيع بتر الفاسد من جسمه؛ ولذلك تملكته فكرة البتر بقسوة فلا يتردد عن بتر المعوج من رعاياه بعنف لا يعرف الرحمة. وإلى جانب تيتي شاهدت الوزير مينا؛ ذلك الرجل العنيد الذي يحارب فكرة الصلح بكل قواه، وطالما حرض على القتال، وتساءلت: ترى ما سر عناد هذا الوزير الخطير؟ رأيت عقله نيرا، ولكن أمعاءه ضعيفة، فستبقى فضلات الطعام طويلا فتلوث دمه في دورته فيذهب إلى عقله فاسدا ويغشى نور أفكاره، حتى إذا خرجت من فمه كانت ذات شر كبير. والرجل مقتنع برأيه يراه واضحا مستقيما كما أرى مخه مسودا ملوثا؛ ثم دار بصري بالصدور يستقرئها خفاياها الكامنة وراء بسمات الثغور. هذا صدر ثقل عليه الملل فهمس صاحبه: «متي العودة إلى القصر حيث السماع والقيان؟» وهذا صدر يتوجع قائلا: «لو مات الرجل بمرضه لكنت الآن قائدا على فرقة الرماح.» وذاك صدر يقول في جزع متسائلا: «متى يقوم الأحمق برحلته التفتيشية فأهرع إلى زوجه الحسناء الحيوية؟ .. آه!» وقال صدر لصاحبه في الأعماق: «لا يدري إنسان متى يحين الأجل؛ فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخر بناء مقبرتي، أو فما فائدة المال إذن؟!» وتولت الحيرة صدرا كبيرا فجعل يقول لصاحبه: «قال إخناتون إن الرب هو آتون، وقال حار محب إنه آمون، وهناك قوم يعبدون رع، فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟» ولم أواصل الاستطلاع طويلا في هذا الحفل الفرعوني الجليل؛ إذ سرعان ما أدركني الملل فتحولت عنه، ووجدت نفسي مرة أخرى في الدنيا الواسعة.
ومرت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرة ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكون في رحم، فرأيته يكتسي لحما وعظما، وشهدت مولده، وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلا وصبيا وغلاما وشابا وكهلا وشيخا وميتا، وشاهد ما اعتوره من حادثات وحالات سرور وحزن ورضا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأيت ذلك جميعه في دقيقة من الزمان، حتى يختلط في أذني بكاء الميلاد وشهقة الموت. وغلبتني على أمري رغبة جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات، واستلذذت كثيرا وقوع الحالات المتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن؛ فهذا وجه يضحك ويقطب ثم يضحك ويقطب عشرات المرات في جزء من الثانية، وهذه امرأة تتيه حسنا وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان، ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن؛ هذا وغيره مما لا يحيط به حصر جعل الحياة مهزلة؛ فلو أن ميتا يضحك لأغرقت في الضحك، وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير. رغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري، ورنوت إليهم من بعيد جمعا غفيرا لا يحده شيء، تضاءلت الحجوم وطمست المعالم وانعدمت الفوارق، فصاروا كتلة واحدة، ساكنة صامتة، لا حياة فيها ولا حركة. رحت ألقي البصر في دهشة وحيرة حتى ألفت المنظر، فتكشف لي عن جانب جديد كان من قبل خافيا.
رأيت ذاك الظلام الساكن يشع نورا شاملا؛ فإن الأنوار الخافتة المتهافتة التي تخفق في كل مخ - على حدة - ضعيفة خابية، اتصلت في المجموع الملتحم المتماسك ولاحت نورا قويا باهرا. رأيت في لمعتها حقا باهرا وخيرا صافيا وجمالا متألقا فازددت دهشة وحيرة. رباه لشد ما تعاني الروح وتتعذب، ولكنها تبدع وتخلق على رغم كل شيء. رباه لقد رأى توتي أمورا جليلة وليرين أمورا أجل وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من السماء التي سأعرج إليها. وغضضت البصر ووليت الدنيا ظهري، فوجدت نفسي في حجرة التحنيط المقدسة، وقد ملأ روحي سرور إلهي لا يوصف.
وانتهت أيام التحنيط السبعون؛ فجاء الرجال مرة أخرى، واستخرجوا الجثة من الحوض وأدرجوها في الأكفان، وأتوا بالتابوت وقد زانوا غطاءه بصورة جميلة لتوتي الشاب ووضعوا فيه الجثة، ثم رفعوه إلى أعناقهم وساروا به إلى الخارج، فتلقاه المشيعون من الأهل والجيران بالعويل واللطم، وعاد النواح كأفظع مما كان يوم النعي، وذهبوا إلى شاطئ النيل وهبطوا إلى سفينة كبيرة أقلعت بهم صوب مدينة الأبدية على الشاطئ الغربي، والتفوا بالتابوت يصوتون وينوحون، قالت أمي: «ولا جف لي دمع، ولا اطمأن لي قلب من بعدك يا توتي!» وصاحت زوجي: «لماذا قضي علي بأن أعيش بعدك يا زوجي؟!»
وقال حاجب الأمير: «توتي أيها الكاتب المجيد، لقد تركت مكانك شاغرا.»
ولبثت أنظر بهاتين العينين اللتين تنكرتا لماضيهما، وكأن سببا لم يصلني بهذه الدنيا ولا بهؤلاء الناس، ورست السفينة إلى الشاطئ فرفعوا التابوت مرة أخرى، ومضوا به إلى المقبرة التي أنفقت في تشييدها جل ثروتي، وأحلوه موضعه من الحجرة. وفي أثناء ذلك كان جماعة من الكهنة يتلون بعض الآيات من كتاب الموتى يلقنونني التعاليم الهادية من أقوم سبيل! ثم جعلوا ينسحبون تباعا حتي خلا القبر، ولم يعد يسمع من شيء إلا العويل الآتي من بعيد. وأغلقت الأبواب وهيلت عليها الرمال، فانقطعت كل صلة بين العالم الذي ودعت والدنيا التي أستقبل. •••
ملاحظة: هنا انقطعت الكتابة في المخطوط الهيروغليفي، ولعل فترة الانتظار التي أشار إليها الكاتب في أول كتابته كانت قد انتهت، ولعل رحلته الأبدية كانت قد بدأت فشغل بها عن قلمه المحبوب، وعن كل شيء.
Unknown page