همس الجنون
الزيف
الشريدة
خيانة في رسائل
من مذكرات شاب
الهذيان
يقظة المومياء
كيدهن
روض الفرج
هذا القرن
Unknown page
الجوع
بذلة الأسير
نحن رجال
الشر المعبود
الورقة المهلكة
ثمن السعادة
حلم ساعة
الثمن
نكث الأمومة
حياة للغير
Unknown page
مفترق الطرق
إصلاح القبور
المرض المتبادل
حياة مهرج
عبث أرستقراطي
مرض طبيب
فلفل
صوت من العالم الآخر
همس الجنون
الزيف
Unknown page
الشريدة
خيانة في رسائل
من مذكرات شاب
الهذيان
يقظة المومياء
كيدهن
روض الفرج
هذا القرن
الجوع
بذلة الأسير
Unknown page
نحن رجال
الشر المعبود
الورقة المهلكة
ثمن السعادة
حلم ساعة
الثمن
نكث الأمومة
حياة للغير
مفترق الطرق
إصلاح القبور
Unknown page
المرض المتبادل
حياة مهرج
عبث أرستقراطي
مرض طبيب
فلفل
صوت من العالم الآخر
همس الجنون
همس الجنون
تأليف
نجيب محفوظ
Unknown page
همس الجنون
ما الجنون؟
إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج؛ أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق. وصاحبنا يعرف الآن أنه نزل ضيفا بعض الوقت بالخانكة، ويذكر - الآن أيضا - ماضي حياته كما يذكره العقلاء جميعا، وكما يعرف حاضره، أما تلك الفترة القصيرة - قصيرة كانت والحمد لله - فيقف وعيه حيال ذكرياتها ذاهلا حائرا لا يدري من أمرها شيئا تطمئن إليه النفس. كانت رحلة إلى عالم أثيري عجيب، مليء بالضباب، تتخايل لعينيه منه وجوه لا تتضح ملامحها، كلما حاول أن يسلط عليها بصيصا من نور الذاكرة ولت هاربة فابتلعتها الظلمة. ويجيء أذنيه منه أحيانا ما يشبه الهمهمة، وما إن يرهف السمع ليميز مواقعها حتي تفر متراجعة تاركة صمتا وحيرة. ضاعت تلك الفترة السحرية بما حفلت من لذة وألم، حتى الذين عاصروا عهدها العجيب قد أسدلوا عليها ستارا كثيفا من الصمت والتجاهل لحكمة لا تخفى، فاندثرت دون أن يتاح لها مؤرخ أمين يحدث بأعاجيبها. ترى كيف حدثت؟! متي وقعت؟ كيف أدرك الناس أن هذا العقل غدا شيئا غير العقل، وأن صاحبه أمسى فردا شاذا يجب عزله بعيدا عن الناس كأنه الحيوان المفترس؟!
كان إنسانا هادئا أخص ما يوصف به الهدوء المطلق. ولعله ذاك ما حبب إليه الجمود والكسل، وزهده في الناس والنشاط؛ ولذلك عدل عن مرحلة التعليم في وقت باكر، وأبى أن يعمل مكتفيا بدخل لا بأس به. وكانت لذته الكبرى أن يطمئن إلى مجلس منعزل على طوار القهوة فيشبك راحتيه على ركبته، ويلبث ساعات متتابعات جامدا صامتا، يشاهد الرائحين والغادين بطرف ناعس وجفنين ثقيلين، لا يمل ولا يتعب ولا يجزع؛ فعلى كرسيه من الطوار كانت حياته ولذته. ولكن وراء ذلك المظهر البليد الساكن حرارة أو حركة في قرارة النفس أو الخيال، كان هدوءه شامل الظاهر والباطن، الجسم والعقل، الحواس والخيال، كان تمثالا من لحم ودم يلوح كأنما يشاهد الناس وهو بمعزل عن الحياة جميعا.
ثم ماذا؟!
حدث في الماء الآسن حركة غريبة فجائية كأنما ألقي فيه بحجر.
كيف؟!
رأى يوما - إذ هو مطمئن إلى كرسيه على الطوار - عمالا يملئون الطريق، يرشون رملا أصفر فاقعا يسر الناظرين، بين يدي موكب خطير. ولأول مرة في حياته يستثير دهشته شيء فيتساءل: لماذا يرشون الرمل؟ ثم قال لنفسه إنه يثور فيملأ الخياشيم ويؤذي الناس، وهم أنفسهم يرجعون سراعا فيكنسونه ويلمونه، فلماذا يرشونه إذن؟! وربما كان الأمر أتفه من أن يوجب التساؤل أو الحيرة، ولكن تساؤله بدا له كأخطر حقيقة في حياته وقتذاك، فخال أنه بصدد مسألة من مسائل الكون الكبرى. ووجد في عملية الرش أولا، والكنس أخيرا، والأذى فيما بين هذا وذاك؛ حيرة أي حيرة، بل أحس ميلا إلى الضحك، ونادرا ما كان يفعل، فضحك ضحكا متواصلا حتى دمعت عيناه. ولم يكن ضحكه هذا محض انفعال طارئ، فالواقع أنه كان نذير تغيير شامل، خرج به من صمته الرهيب إلى حال جديدة، ومضى يومه حائرا أو ضاحكا، يحدث نفسه فيقول كالذاهل: يرشون فيؤذون ثم يكنسون .. ها ها ها!
وفي صباح اليوم الثاني لم يكن أفاق من حيرته بعد. ووقف أمام المرآة يهيئ من شأنه، فوقعت عيناه على ربطة رقبته، وسرعان ما أدركته حيرة جديدة، فتساءل: لماذا يربط رقبته على هذا النحو؟ ما فائدة هذه الربطة؟ لماذا نشق على أنفسنا في اختيار لونها وانتقاء مادتها؟ وما يدري إلا وهو يضحك كما ضحك بالأمس، وجعل يرنو إلى ربطة الرقبة بحيرة ودهشة، ومضى يقلب عينيه في أجزاء من ملابسة جميعا بإنكار وغرابة. ما حكمة تكفين أنفسنا على هذا الحال المضحك؟ لماذا لا نخلع هذه الثياب ونطرحها أرضا؟ لماذا لا نبدو كما سوانا الله؟ بيد أنه لم يتوقف عن ارتداء ملابسه حتى انتهى منها، وغادر البيت كعادته.
ولم يعد يذوق هدوءه الكثيف الذي عاش في إهابه دهرا طويلا قانعا مطمئنا. كيف له بالهدوء وهذه الثياب الثقيلة تأخذ بخناقه على رغمه؟! أجل على رغمه. وقد اجتاحته موجة غضب وهو يحث خطاه، وكبر عليه أن يرضى بقيد على رغمه. أليس الإنسان حرا؟ وتفكر مليا ثم أجاب بحماس: بلى أنا حر. وملأه بغتة الشعور بالحرية، وأضاء نور الحرية جوانب روحه حتى استخفه الطرب. أجل هو حر. نزلت عليه الحرية كالوحي فملأه يقينا لا سبيل إلى الشك فيه، إنه حر يفعل ما يشاء كيف شاء حين يشاء، غير مذعن لقوة أو خاضع لعلة لسبب خارجي أو باعث باطني. حل مسألة الإرادة في ثانية واحدة، وأنقذها بحماس فائق من وطأة العلل. وداخله شعور بالسعادة والتفوق عجيب، فألقى نظرة ازدراء على الخلق الذين يضربون في جوانب السبل مسيرين مصفدين لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا؛ إذا ساروا لم يملكوا أن يقفوا، وإذا وقفوا لم يملكوا أن يسيروا، أما هو فيسير إذا أراد ويقف حين يريد، مزدريا كل قوة أو قانون أو غريزة. وأهاب به شعوره الباهر أن يجرب قوته الخارقة فلم يستطع أن يعرض عن نداء الحرية. توقف عن مسيره بغتة وهو يقول لنفسه: «ها أنا ذا أقف لغير ما سبب.» ونظر فيما حوله في ثوان ثم تساءل؛ أيستطيع أن يرفع يديه إلى رأسه؟ أجل يستطيع، وها هو ذا يرفع يديه غير مكترث لأحد من الناس. ثم تساءل مرة أخرى؛ هل تؤاتيه الشجاعة على أن يقف على قدم واحدة؟ وقال لنفسه: فلم لا أستطيع؟ وما عسى أن يعتاق حريتي؟! وراح يرفع يسراه كأنه يقوم بحركة رياضية في أناة وعدم مبالاة كأنه وحده في الطريق بلا رقيب. وغمرت فؤاده طمأنينة سعيدة، وملأته ثقة بالنفس لا حد لها؛ فمضى يتأسف على ما فاته - طوال عمره - من فرص كانت حرية بأن تمتعه بحريته وتسعده، واستأنف مسيره وكأنه يستقبل الحياة من جديد.
Unknown page
ومر في طريقه إلى القهوة بمطعم كان يتناول به عشاءه في بعض الأحايين، فرأى على طواره مائدة ملأى بما لذ وطاب، يجلس إليها رجل وامرأة متقابلان يأكلان مريئا ويشربان هنيئا، وعلى بعد يسير جلس جماعة من غلمان السبل عرايا إلا من أسمال بالية، تغشى وجوههم وبشرتهم طبقة غليظة من غبار وقذارة؛ فلم يرتح لما بين المنظرين من تنافر، وشاركته حريته عدم ارتياحه فأبت عليه أن يمر بالمطعم مر الكرام، ولكن ما عسى أن يصنع؟ قال له فؤاده بعزم ويقين: «ينبغي أن يأكل الغلمان مع الآخرين.» ولكن الآكلين لا يتنازلان عن شيء من هذه الدجاجة أمامهما بسلام، هذا حق لا ريب فيه، أما إذا رمى بها إلى الأرض فتلوثت بالتراب فما من قوة تستطيع أن تحرمها الغلمان؛ فهل ثمة مانع يمنعه من تحقيق رغبته؟ .. هيهات، وربما كان التردد ممكنا في زمن مضى، أما الآن ... واقترب من المائدة بهدوء، ومد يده إلى الطبق وتناول الدجاجة، ثم رمي بها عند أقدام العرايا، وتحول عن المائدة وسار إلى حال سبيله كأنما لم يأت أمرا نكرا، غير عابئ بالزئير الذي يلاحقه مفعما بأقذع السباب والشتائم، بل غلبه الضحك على أمره، فاسترسل ضاحكا حتى دمعت عيناه، وتنهد بارتياح من الأعماق، وعاوده شعوره العميق بالطمأنينة والثقة والسعادة.
وبلغ القهوة فمضى إلى كرسيه واطمأن إليه كعادته، بيد أنه لم يستطع هذه المرة أن يشبك راحتيه حول ركبته ويستسلم لسكوته المعهود. لم تطاوعه نفسه؛ فقد فقدت قدرتها على الجمود، أو برئت من عجزها عن الحركة فنبا به مجلسه، حتي هم بالنهوض، إلا أنه رأى - في تلك اللحظة - شخصا غير غريب عن ناظريه، وإن لم تصله به أسباب التعارف. كان من رواد المقهى مثله، وكان جسما ضخما وأوداجا منتفخة، يسير مرفوع الرأس في خيلاء، ملقيا على ما حوله نظرة ترفع وازدراء، تنطق كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته بالزهو، كأنما يثير الخلق في نفسه ما تثيره الديدان في نفس رقيقة مرهفة الحس، وكأنه يراه لأول مرة. بدا له قبحه وشذوذه عاريا، فغالبته هذه الضحكة الغريبة التي ما انفكت هذين اليومين تعابثه، ولم تفارقه عيناه، وثبتت خاصة على قفاه يبرز من البنيقة عريضا ممتلئا مغريا. وتساءل؛ أيتركه يمر بسلام؟ معاذ الله، لقد ألف داعي الحرية، وعاهده ألا يخالف له أمرا. وهز منكبيه استهانة، واقترب من الرجل فكاد يلاصقه، ورفع يده وهوي بكفه على القفا بكل ما أوتي من قوة، فرنت الصفعة رنينا عاليا، ولم يتمالك نفسه فأغرب ضاحكا، ولكن لم تنته هذه التجربة بسلام كأختها السابقة، فالتفت الرجل نحوه في غضب جنوني، وأمسك بتلابيبه وانهال عليه ضربا وركلا حتى خلص بينهما بعض الجلوس. وفارق القهوة لاهثا، ومن عجب أنه لم يستشعر الغضب ولا الندم؛ وعلى العكس من ذلك ألمت بحواسه لذة عجيبة لا عهد له بها من قبل، وافتر ثغره عن ابتسامة لا تزايله، وفاضت نفسه بحيوية وسرور يغشيان أي ألم، ولم يعد يكترث لشيء غير حريته التي فاز بها في لحظة من الزمان، وأبى أن يغيب عنها ثانية واحدة من حياته؛ ومن ثم ألقى بنفسه في تيار زاخر من التجارب الخطيرة بإرادة لا تنثني وقوة لا تقهر. صفع أقفية، وبصق على وجوه، وركل بطونا وظهورا، ولم ينج في كل حال من اللكمات والسباب؛ فحطمت نظارته، ومزق زر طربوشه، وتهتك قميصه، ونغضت ثنيتاه، ولكنه لا ارتدع ولا ازدجر، ولا انثنى عن سبيله المحفوف بالمخاطر، ولا فارق الابتسام شفتيه، ولا خمدت نشوة فؤاده الثمل؛ ولو اعترض الموت طريقه لاقتحمه غير هياب.
ولما آذنت الشمس بالمغيب عثرت عيناه المتجولتان بحسناء مقبلة متأبطة ذراع رجل أنيق المنظر، ترفل في ثوب رقيق شفاف، تكاد حلمة ثديها تثقب أعلى فستانها الحريري، وجذب صدرها الناهد عينيه فزادتا اتساعا ودهشة، وهاله المنظر، وكانت تقترب خطوة فخطوة حتى باتت على قيد ذراع.
وكان عقله - أو جنونه - يفكر بسرعة خيالية، فخطر له أن يغمز هذه الحلمة الشاردة! إن رجلا ما فعل ذلك على أية حال، فليكن هذا الرجل. واعترض سبيلهما، ومد يده بسرعة البرق وقرص! آه لقد انهالت عليه اللطمات واللكمات، وأحاط به كثيرون، ولكنهم في النهاية تركوه! لعل ضحكته الجنونية أخافتهم، ولعل نظرة عينيه المحملقتين أفزعتهم. تركوه على أية حال. ونجا ولم تكد تزداد حالته سوءا! وكان لا يزال به طموح إلى مزيد من المغامرات، ولكن لاحت منه نظرة إلى ملابسه، فهاله ما يرى من تمزقها وتهتكها. وبدلا من أن يأسى على نفسه راح يذكر ما دار بخلده صباح اليوم أمام المرآة، فلاحت في عينيه نظرة غائبة، وعاد يتساءل؛ لماذا يدع نفسه سجينا في هذه اللفائف تشد على صدره وبطنه وساقيه؟! وناء بثقلها، وشعر لوطأتها باختناق، فغليت مراجله، ولم يستطع معها صبرا، وأخذت يداه تنزعانها قطعة قطعة، بلا تمهل ولا إبطاء، حتى تخلص منها جميعا؛ فبدا عاريا كما خلقه الله، وعابثته ضحكته الغريبة، فقهقه ضاحكا، واندفع في سبيله.
الزيف
كان التياترو مكتظا بالنظارة، حيث كانت تمثل رواية البخيل لموليير، وكان جمهوره كالمعتاد خليطا من طلاب التسلية ومحبي الظهور ومدعي الفن وعشاق الخيال. وكان علي أفندي جبر، المترجم بوزارة الزراعة، بين الجالسين في الصفوف الأمامية، وكان يتتبع التمثيل بين اليقظة والنوم، واضعا خده على يده، ومسندا مرفقه إلى مسند المقعد. وكان قد طالع في بعض المجلات عن الرواية ما جعله يظنها آية من آيات الكوميدي، فجاء التياترو بنفس تواقة إلى الضحك والسرور، وسرعان ما خاب رجاؤه وفترت حماسته، وكاد يستسلم للنعاس، ولكن الأقدار أرادت أن تتبرع بتعويضه عن خيبته؛ ففي أثناء الاستراحة دنا منه النادل وانحني على أذنه، وقال باحترام وتأدب: هل للبك أن يتفضل بالذهاب إلى البنوار رقم واحد؟
ثم ذهب إلى حال سبيله، ونظر علي أفندي إلى البنوار رقم واحد فرأى الستار الأبيض مسدلا عليه، فأدرك أن به «حريما»، وقام من توه وغادر الصالة، وقصد إلى البنوار وهو يضرب أخماسا في أسداس، وطرق الباب مستأذنا، فسمع صوتا رخيما لا يعرفه يقول: تفضل.
فتردد لحظة سريعة لأنه أدرك - لدى سماعه الصوت الغريب - أن في الأمر خطأ، ولكنه كان من الرجال الذين تغلبهم على نفوسهم في محضر النساء جسارة غير محدودة، وحب للمجازفات، وثقة بالنفس وطيدة، فاقتحم الباب غير هياب، وصار وجها لوجه أمام السيدة الجالسة. وكانت في الأربعين ممتلئة الجسم ناضجة الأنوثة، يزين وجهها العاجي حسن تركي ممصر، ويدل على طبقتها العالية ثوبها الأنيق ونظرتها الرفيعة وحليها الثمينة، وقد بهر الرجل أمام روعة الحسن، وانحنى باحترام وهو يقول في إشفاق: «وا أسفاه، ستعلم السيدة بالخطأ وسرعان ما تنتهي المقابلة!» ولكن خاب ظنه لأن السيدة ابتسمت إليه تحييه كأنه هو المعني، وقالت برقة تعرفه بنفسها: أرجوك ألا يسوءك إقلاقي لراحتك .. أنا أرملة المغفور له علي باشا عاصم!
يسوءه! ينبغي أن يعد نفسه من المحظوظين في هذه الدنيا؛ لأن سيدة كتلك السيدة تقول له مثل ذلك الكلام بتلك اللهجة الرقيقة! ترى لماذا دعته لبنوارها؟ فهو لا يذكر أنه رآها من قبل، وإن كان يعلم علم اليقين أنه قرأ اسمها في بعض الأخبار الخاصة بالجمعيات النسائية، وخيل إليه غروره أنها ربما رأته من حيث لم يرها، وأنها ربما وقع في نفسها منه - كما حدث لغيرها، وإن كن لسن من نوعها - ما علقها به؛ فإذا صدق حدسه - والدلائل تجمع على صدقه - فهي تدعوه كما دعت قديما امرأة العزيز فتاها!
وأحس بنشوة فرح وزهو، وقال للمرأة بكل رقة وهو ينظر إليها كما ينظر الإنسان إلى شيء ثمين يملكه: العفو يا صاحبة السعادة .. خادمك.
Unknown page
وهم أن يقدم لها شخصه العزيز، واستدلت السيدة من لهجته على ذلك، فأشارت إليه بيدها البضة، وقالت بسرعة وهي تبسم عن در نضيد: وهل أنت في حاجة إلى تعريف يا أستاذ ...؟ تفضل.
وجلس كما أرادت، ولكن عبارتها الأخيرة قلبت ما بنفسه رأسا على عقب؛ فعلاه الوجوم، وأطفأ الكدر نور السرور في عينيه؛ لأنه من المحتمل أن يكون فاتنا محبوبا من النساء، وأن تقع في غرامه حرم عاصم باشا، ولكن مما لا ريب فيه أنه في حاجة إلى تعريف ككل إنسان، وأنه لم يكن أبدا في غنى عن التعريف، فماذا تعني السيدة الجميلة بقولها هذا؟ إنه يكاد يهتدي إلى وجه الحق، وقد ساعده على ذلك قولها له «يا أستاذ»؛ فهل تظن السيدة أنه شاعر مصر الأكبر، بل شاعر الشرق العربي جميعا الأستاذ محمد نور الدين؟
والحق أن المشابهة التي بينه وبين سيد الشعراء معروفة مشهورة، يعلم بها جميع أصحابه، وطالما جعلوا منها موضوعا للتنكيت والقفش؛ فكلاهما له هذا الوجه المستطيل الذي يحد من أعلى بجبهة عالية، ومن أسفل بذقن عريضة، وكلاهما له هذا الأنف الروماني العظيم، والشارب الشركسي الغزير، ولا اختلاف بينهما إلا أنه أطول من الشاعر وأعظم امتلاء؛ وهذا يدل على أن السيدة - فيما لو صدق ظنه - لم تر الشاعر إلا في إحدى صوره التي تظهر أحيانا في المجلات والصحف.
وا أسفاه! ذاق حلاوة الفوز ومرارة الهزيمة في لحظة واحدة، فهل يتراجع ويرضى بالغنيمة بالإياب؟ ولكن مثل هذا التردد لم يكن ليخالجه إلا لحظات قصيرة العمر؛ لأنه - كما قلنا - يفقد رشاده في حضرة النساء، ولا يفكر إلا في انتهاب اللذة واقتناص الفرصة، فجلس مبتسما على ما به من خيبة مريرة، مطمئنا كما ينبغي لشاعر مصر العظيم.
وقالت السيدة: سيدي الأستاذ، إن معرفتي بك قديمة جدا لا كما تظن، وإن أفضالك على روحي لا تقدر بثمن، ولا يحصيها عد، وطالما منيت نفسي بالتحدث إليك، وكم كان فرحي عظيما حين عثر بصري بك فلم أتردد عن دعوتك، وإني أرجو يا سيدي أن تغفر لي تطفلي.
فقال علي أفندي وقلبه يلعن الشاعر: ما أسعدني بعطفك يا سيدتي! إننا معشر الشعراء لنحرق أرواحنا في سبيل الخلود والشهرة، ومثل إعجابك يا سيدتي أثمن لدي من الخلود والشهرة!
فتوردت وجنتا المرأة، ورنت إليه بعينين ناعستين، وقرأت في عينيه ما حملها على تجنب حديث العواطف وإن كانت تضمر الرجوع إليه في المستقبل! فقالت: هل أعجبتك الرواية؟
الرواية التي صدعت رأسه وفر منها إلى النعاس!
إنه كان حكيما فلم يسارع إلى مصارحتها برأيه، ولم تنتظر السيدة جوابه، فقالت بثقة: لا شك أنك تعجب بها أيما إعجاب؛ لأنها من تلك الفكاهة العالية التي كتبت عنها فصلا رائعا في كتابك الخالد «فلسفة الجمال»، وقد كان هذا الفصل سبيلي إلى تذوق موليير وتوين وشو.
فحمد الله أن لم يذكر رأيه الحقيقي، وهز رأسه باسما، وقال باطمئنان عجيب: البخيل آية فنية رائعة، وهي من الآيات التي لا تمنح كنوزها مرة واحدة. ولقد قرأتها مرة وأخرى، وها أنا ذا أشاهدها للمرة الثالثة، وفي كل مرة أفوز بحسن جديد!
Unknown page
فابتسمت السيدة وقالت: إذن أصاب ظني!
فقال علي أفندي: إنك يا سيدتي آية في الذكاء.
ولم يأذن الوقت بالاسترسال في الأحاديث؛ إذ دق الجرس معلنا انتهاء الاستراحة، فاضطر علي أفندي أن يستأذن في طلب الانصراف، وقالت السيدة وهي تودعه: أرجو أن تشرف قصري بزيارتك.
فقال وهو ينحني على يدها: لي عظيم الشرف يا سيدتي. - يوم الأربعاء الساعة السابعة مساء .. شارع خمارويه رقم 10 بالزمالك.
وتنهدت المرأة ارتياحا، وظنت أنها نالت أمنية من أعز أمانيها. وكانت مخلوقة سعيدة الحظ كأن الأقدار تتوخى راحتها؛ تزوجت من رجل من رجال مصر القانونيين المعدودين، فتمتعت برجولته، وكفاها الموت شر شيخوخته، وترك لها مالا وجاها واسما عظيما، ولكن ضايقها ظهور منافسة خطيرة لها هي أرملة الدكتور إبراهيم باشا رشدي، يجري ذكر جمالها - مثلها - على الألسن، وتتحدث بثرائها المجتمعات، وقد وضعتهما المصادفات في حي واحد، وأغرت بينهما العداوة والبغضاء؛ فكلتاهما تتمتع بأنوثة ناضجة وجمال فتان وثروة طائلة، وتملك قصرا فخما يتيه على قصور الأمراء. وكانت كل منهما تعتز بنفسها، وتود لو يغلب نورها نور الأخرى، فتنافستا في اقتناء السيارات الثمينة والتحف النادرة والثياب الأنيقة، وتسابقتا في ميدان الظهور تعرضان حسنهما وتنثران حديثهما، واتخذت كل منهما بطانة من كرائم الأسر والآنسات المثقفات. وقد علمت حرم عاصم باشا يوما أن منافستها دعت إلى تأليف جمعية المرأة الحديثة، فلم يرتح لها جانب حتى كونت جمعية تعليم الأميات. وسمعت يوما بأن الأخرى تبرعت بمبلغ كبير من المال مساهمة في إنشاء مدرسة كبيرة، وأن الصحف أثنت عليها جميل الثناء، فأمرت بتشييد جامع كبير في عزبتها، ودعت لالتقاط صوره مصور أكبر مجلة في مصر، وطلبت إليه أن يثني على ورعها وتقواها!
وكان آخر ما نمى إلى مسامعها من أخبار منافستها ما لاكته الألسن من أن الموسيقار المعروف الأستاذ الشربيني قد شغف بها حبا، وأنه لا يفتأ يتردد على قصرها، وأن الدور الذائع الصيت «حبيت يا قلبي»، الذي يتغنى به المصريون جميعا وتهفو إليه نفوسهم؛ لحن بوحي جمالها! وما علمت بهذه الأخبار حتي التهبت نفسها التهابا واحترق قلبها احتراقا، وتلفتت يمنة ويسرة تبحث عن عاشق «شهير» تصير بحبه حديثا ممتعا، وتغدو له وحيا ملهما، فذكرت شاعر مصر محمد نور الدين؛ فهو المصري الوحيد الذي له ما للشربيني من الشهرة والمكانة، وهو أجدر الناس بتخليدها في قصيدة كما خلد الشربيني منافستها في أسطوانة. وفي تلك الأثناء رأت الشاعر مصادفة في التياترو، وكانت تفكر في وسيلة تصل بها إليه، فهل كنا مغالين إذ قلنا إنها نالت أمنية من أعز أمانيها؟ •••
أما علي أفندي جبر، فقد رجع إلى مقعده وهو يلقي على الحاضرين نظرة فاحصة خشية أن يكون الشاعر الأصلي بين النظارة! وقد ساءل نفسه: «ألا يجدر بي أن أفر؟» ولكنه لم يكن جادا في سؤاله؛ لأنه لم يعتد الفرار من ميدان النساء.
ولم يأل جهدا في التأهب والاستعداد ليتقن تمثيل شخصيته الجديدة، فطبع بطاقات باسم محمد نور الدين، ورأى عن حكمة أن يلقي نظرة سطحية على مؤلفات الشاعر؛ فذهب إلى مكتبه وطلب مؤلفاته، فسأله الكتبي: كلها؟
فقال: نعم.
فقال الرجل: الطلب غير ممكن الآن يا أستاذ؛ لأن بعضها نفد، والبعض غير موجود في المكتبة؛ فإذا انتظرت إلى الغد ...
Unknown page
ولكنه قاطعه متسائلا: ما الحاضر بين يديك؟
فقال الرجل: دواوينه الأربعة؛ النور والظلام، والجحيم، والرحلة الروحية ، والسماء السابعة؛ وكتاب فلسفة الجمال، والرحلة الشرقية، والجزء الثاني من كتاب الغد.
وهاله الأمر وأسقط في يده، ولم ير بدا من ابتياعها جميعا، وكانت المرة الأولى في حياته التي يشتري فيها ديوان شعر؛ لأنه بطبعه لا يحب الشعر ولا يهضمه، ولا يجد مسوغا مطلقا للقوافي التي يضمنها معانيه؛ فلماذا لا يرسل الكلام على سجيته؟ وإنه لينفث في آذان النساء غزلا يعتقد أنه أرق الكلام وأمتعه، ومع هذا لم يشعر بالحاجة إلى تنسيقه في بيت من الشعر، ولم يقرأ من الشعر طوال حياته سوى المحفوظات المدرسية وهو كاره؛ فما كان يخطر له على بال أن يشتري ديوانا من الشعر فضلا عن أربعة دواوين كاملة، ولكن قدر فكان!
وقال لنفسه متبرما وهو يحملها إلى بيته: «أعقل أن يكلفني الحب مالا أو مطاردة خطرة أو صبرا طويلا أو شجارا عنيفا، أما الذي لا أعقله أن يتقاضاني قراءة هذه الكتب؛ فهل أنا عاشق أم تلميذ؟»
وأخذ يقلب صفحات الكتب، فغص بالشعر كما توقع ولم يفقه له معنى، ولو كان يسيرا مثل «إذا نام غر في دجى الليل فاسهر» لهان الأمر، ولكنه كان من نوع عجيب؛ سهل الألفاظ مغلق المعاني! وهذا غزل نور الدين، فما بالك لو تطاول إلى الأغراض الأخرى التي يجفل قلبه من مجرد تلاوة عنواناتها؟! والأدهى من ذلك وذاك أن نثره ليس بخير من شعره؛ فقد قرأ صفحات من كتاب فلسفة الجمال ما كان يظن أن إنسانا عاقلا ينشرها على الملأ، وضاق صدره بنور الدين وشعره ونثره فرمي بالكتب جميعا، ولكنه قال بإصرار وعناد: «سأذهب يوم الأربعاء.»
وفي الموعد المسمى ذهب إلى قصر السيدة الجليلة بشارع خمارويه، وكان بادي الوجاهة والأناقة، وأرسل بطاقة إلى ربة القصر، فقاده الخادم إلى صالون رائع لم ير أجمل منه على كثرة ما غشي من الصالونات الفخمة، ولكنه لم يدهش لأن منظر الحديقة والقصر الخارجي سلبه كل دهشة. وكان يكره الانتظار؛ لأن أمثاله من المغامرين تؤاتيهم النجدة بداهة وارتجالا، وتشحذ أسلحتهم في أثناء المعمعة، مثله في ذلك مثل الخطيب المطبوع الذي يلهمه الجمهور المعاني فيتدفق؛ ولذلك أحس بارتياح عجيب حين رآها تشرق عليه من باب الصالون في فستان أبيض غير كتوم، يعلن عن جمال كل ثنية من ثنيات جسمها اللدن، ويبين خاصة عن الخصر الدقيق الذي يتعلق به كفلاها الثقيلان، فطرد بقوة إرادته بقية قلق كانت عالقة بنفسه، وانحني باحترام، فأعطته يدها فضغط عليها بحنو، ثم قال وهما يجلسان: لقد حسبت الأيام ساعة فساعة!
فابتسمت السيدة وقالت بلهجة لم تخل من عتاب: هذا معني مبتذل لا قرابة بينه وبين معانيك الشعرية الخالدة.
فاحتدم الغيظ في قلبه، ولعن الشعر والشاعر، وتذكر قراءته لبعض المعاني «الخالدة» التي لم يفقه لها معني، وعجب كيف تؤثرها هذه السيدة العجيبة على عبارته البسيطة التي طالما نصبت الشراك وغزت الحصون! وأراد أن يلتمس لعجزه عن خلق المعاني «الخالدة» عذرا فلسفيا، فقال: معذرة يا سيدتي، إني إذا غشيني لألاء الحسن السامي تركت نفسي على فطرتها، وهجرت إلى حين المعاني التي يبدعها التفكير والتكلف.
فاتسعت عينا السيدة الجميلتان، وقالت بإنكار: يا عجبا! ألست القائل يا أستاذ في مقدمة ديوانك إن شعرك شعر الفطرة والطبع؟ أولست الآخذ على شعراء المدرسة القديمة تكلفهم؟!
فأسقط في يده، ووجد أن الحذر لم ينفعه، وخشي أن يفقد ثقته بنفسه، فقال بلهجة العالم الذي يعني ما يقول: إن الشعر يا سيدتي مزيج من الفطرة والتفكير، والتفكير غير التكلف، وما أردت قوله هو أن الشاعر في حضرة الحسن يستبد به الشعور الخالص.
Unknown page
وأشفق من أن تسأله مثلا عن الفرق بين التفكير والتكلف أو معنى الشعور الخالص، ولكن السيدة قالت بإعجاب: صدقت يا أستاذ، ولعل هذا يفسر قولك إن الشعر لا يعبر عن عاطفة إلا بعد أن تسكت ثورتها ويهدأ انفعالها.
فهز رأسه مبتسما وهو يتنهد ارتياحا: وهو الحق المبين يا سيدتي. أرى أن رأسك متوج بتاجي الحسن والأدب!
فتورد خداها وقالت بحماس: إني واحدة من قرائك المعجبين .. وقد قرأت مؤلفاتك بإمعان وشغف.
فقال: أين لي قراء مثلك يا سيدتي العزيزة؟ .. إن البلد لا يقدر الكاتبين. - هذا حق وا أسفاه على وجه العموم! ولكن يقال إن لك جمهورا تحسد عليه يا سيدي الأستاذ.
فأشار بيده إشارة تدل على الأسف وقال: لو أتيح لي أن أكتب باللغة الإنجليزية مثلا!
فسألته السيدة بقلق: أوليس لك الجمهور الذي تحسد عليه؟
فقال باطمئنان: جمهور قرائي يربو على ضعفي جمهور أي كاتب آخر في الشرق الإسلامي. - يا لها من مكانة سامية!
فهز رأسه أسفا وقال: لقد دفعت شبابي وقوتي ثمنا لها. - أآسف أنت على هذا؟ - لا أدري. - لقد خلدت شبابك في آثارك الباقية. - أيهما أفضل؟ أن يخلد شبابي كي يتمتع به غيري أم يفنى وأتمتع به وحدي؟ - لا تناقض بين الاثنين؛ فإنك تستطيع أن تستهلكه في متعتك ثم تخلده في شعرك، أتسألني وأنت أستاذي؟! - هذه سعادة لا تتاح لغير المجدودين. - وإنك لمن المجدودين.
فنظر إليها نظرة لو تحولت إلى كلمة لوقع قائلها تحت طائلة قانون العقوبات، وكان يجيد هذه اللغة، ثم قال بخبث: إنك يا سيدتي تتحدثين عن حظي كما لو كان مصيره بين يديك.
فتخضب خداها باحمرار طبيعي غلب أحمرها الصناعي الخفيف، وما كانت تكره أن يكون مصير سعادته بين يديها، ولكنها ادخرت هذا الحديث إلى وقت آخر، فغيرت مجراه وقالت فجأة: ينبغي أن أنتهز فرصة وجودك معي لأسألك عن معنى بعض الأبيات الشعرية التي استغلقت علي.
Unknown page
فخفق قلبه خفقة شديدة أيقظته من غيبوبة الغرام، وذعر ذعرا شديدا؛ إذ كيف له بشرح معاني شعر نور الدين المغلقة وهو الذي لا يفهم أيسر الشعر وأسلسه؟ وخشي إن تردد أن يخسر كل شيء بعد أن أوفى على الفوز، فقال بقوة: اعفيني يا سيدتي.
فسألته دهشة: ولم؟ هل يبرم الشاعر بشعره أحيانا؟ - ليس الأمر كذلك، ولكن قد يسمو الشاعر حينا على شعره فيخاله بعض مظاهر العالم المادي! وإني الآن في نشوة روحية من تلك النشوات التي تخلق الشعر، فكيف أنزل إلى الشرح والتفسير؟
فغمرتها موجة فرح وسعادة، وسألت نفسها: «ترى هل أكون غدا بطلة قصيدة رائعة خالدة؟» سألته في لهفة : أحقا ما تقول يا سيدي؟ - كيف يداخلك شك في هذا؟ تالله إذا لم تخلق هذه الساعة شعرا فلا خلق الشعر أبدا!
فامتلأ قلب المرأة فرحا ومنت نفسها بأسعد الأماني.
وفي تلك اللحظة دخلت خادم تعلن قدوم زائرات، ولم تفاجأ السيدة - كما فوجئ الأستاذ - بقدومهن، كأنها كانت على موعد معهن، وأمرت الخادمة بإدخالهن، وبعد لحظة قصيرة دخل ثلاث آنسات حسان يحتار ماء الشباب في وجوههن، وتلقتهن بترحاب، وقدمت إليهن الشاعر بلهجة فخار قائلة: الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.
وقدمتهن إليه واحدة واحدة قائلة إنهن من عضوات جمعية تعليم الأميات التي تتشرف برئاستها، ثم قالت: إنهن أديبات مثقفات، ولكن وا أسفاه فإن ثقافتهن قاصرة على الأدب الفرنسي الذي يتعشقنه إلى درجة أن جعلن الفرنسية لغة حوارهن، وإني أرجو أن يكون تعرفك بهن يا سيدي سببا لتوجيههن إلى الثقافة العصرية.
فعجب علي أفندي وتساءل دهشا: ترى هل يعلمن الفلاحات الأميات مبادئ اللغة الفرنسية؟!
استطردت السيدة تقول للآنسات: ستجدن في صديقي الشاعر محدثا جليلا، ولكني ما لهذا دعوتكن الليلة، فقد حجزت البنوار الأول في تياترو رمسيس لنشاهد معا رواية البخيل، ولا بأس أن يشاهدها الأستاذ للمرة الرابعة إكراما لي.
والحقيقة أن السيدة ما قصدت بدعوتهن إلا أن تذيع بينهن نبأ صداقتها للشاعر لكي يذعنها بدورهن في الصالونات الراقية فيتصل خبرها حتما بعلم منافستها الخطيرة، وما ذهابها بهن إلى تياترو رمسيس إلا لهذا الغرض نفسه.
وقد تضايق علي أفندي من حضور الزائرات، وتضايق أكثر من دعوته إلى التياترو، وكان يرجو أن تطول خلوته بها، ولكنه كان يبالغ في التشاؤم ولا يدري بالسعادة التي تخبئها له الأقدار؛ ففي الاستراحة انتهزت السيدة فرصة خروج الآنسات من البنوار وقالت له في خفر: ستعود معي إلى القصر.
Unknown page
ولم يكن للدعوة إلا معنى واحد، فتساءل علي أفندي؛ ترى كيف يتخلص من الآنسات؟ ولكن السيدة لم تعمل لذلك حسابا؛ فعند انتهاء التمثيل عادت السيارة بهم جميعا، وودعهما الفتيات عند مبتدأ شارع خمارويه، ثم سارت بهما السيارة وحدهما إلى القصر السعيد، فأيقن أنه رغم طول تجاربه جاهل بالنساء، وأنه لم يعرف قبل الآن امرأة مغرمة بالفضائح!
وكانت ليلة ... •••
وبعد يومين ذهب علي أفندي جبر إلى زيارة المعرض الرابع عشر للفنون الجميلة. لم يكن من الهواة، ولكنه كان من محبي الظهور والادعاء، وكان حبه للنساء يدفعه إلى ارتياد الأماكن التي يحتمل وجودهن بها، فمضى يسير في الحجرات الأنيقة وينظر بعينين فاترتين إلى اللوحات، حتى استرعت انتباهه من بينها صورة فلاحة عارية تستحم في النيل، وقد أجادت الريشة تصوير قدها النحيف وثدييها الناهدين، وأضفت على سمرة بشرتها سحرا شهويا عجيبا، فوقف أمامها طويلا لغير وجه الفن، وذكر - لرؤيتها - ذلك الجسد البض المكتنز، والردفين المكورين كأنهما إسفنجة هائلة مشبعة بالماء، والساقين الممكورين، والبشرة العجيبة ذات الرائحة الزكية؛ ذكر ذاك الحسن الذي رمي به الحظ بين يديه قضاء وقدرا .. أي ليلة جميلة كأنها حلم لذيذ، لا يجود بمثلها عالم الحقائق. وكأنه أراد أن يتأكد أنه حقيقة لا حلم، فأخرج مذكرته وقرأ فيها الموعد المنتظر الذي كتبته بيدها الرخصة.
وكأنما المصادفة لم تقنع بما أتت من عجب عجاب، فإنه لفي تأمله وتذكره إذ أحس بيد توضع على كتفه، فالتفت إلى الوراء فرأي صاحبته الجميلة واقفة بين جماعة من السيدات الأرستقراطيات، واستولت عليه الدهشة وعلاه الارتباك. أما السيدة فقد التفتت إلى صواحبها وقالت بتيه: ائذن لي أن أقدم إليكن صديقي الأستاذ محمد نور الدين سيد شعراء الشرق.
فابتسمن إليه بترحيب إلا واحدة رددت النظر بينه وبين الأرملة، وقالت ضاحكة: يا لها من نكتة بارعة يا سيدتي!
فسألتها السيدة: أي نكتة تعنين يا سيدتي؟
فلم تحفل السيدة بإنكار الأرملة الجميلة، وقالت وهي تحدج علي أفندي بنظرة استغراب: رحماك يا ربي، الآن صدقت قول القائل: يخلق من الشبه أربعين!
فاحتدمت الأرملة غيظا وقالت: إني لا أفقه لما تقولين معنى. - بلي تفقهين كل المعنى وتريدين أن تضاحكينا، والحق أن الشبه الذي بين شاعرنا المجيد وحضرة البك شبه عجيب.
فاشتد الغيظ بالأرملة، والتفتت إلى علي أفندي وقالت: تكلم يا أستاذ لتعلم عصمتها أني لا أهزل.
وكان علي أفندي في حالة يرثى لها، وقد خانته جسارته تلقاء نظرات السيدة الجريئة التي لا شك تعرف الشاعر الأصلي تمام المعرفة، فلم يجد مناصا من الهرب، فتظاهر بالدهشة، وابتسم إلى الأرملة البائسة وقال: معذرة يا سيدتي .. يخلق من الشبه أربعين.
Unknown page
وكان يتكلم بلهجة جدية لا تترك أثرا للشك في نفس السامع؛ فجحظت عينا السيدة دهشة وانزعاجا، وعلا ضحك صاحباتها، وتأملنه بإمعان وهي تكاد تجن من الدهشة، وسألته: ألست أنت الشاعر؟
فأجاب بهدوء: كلا يا سيدتي .. أنا موظف بوزارة الزراعة. - ألم تقابلني قبل الآن؟ - لم يحصل لي هذا الشرف يا سيدتي.
قال علي أفندي ذلك وأحنى رأسه تحية وذهب تاركا السيدة لصديقاتها الضاحكات، وقالت السيدة الأخرى: إني أعجب كيف يخدعك بصرك إلى هذا الحد، ألا ترين أني فطنت إلى الحقيقة من النظرة الأولى؟!
فقالت الأرملة الذاهلة تداري خجلها: ما أعجب الشبه بينهما!
فقالت الأخرى: ولكن شتان ما بين قامتيهما.
وقالت أخرى ساخرة: سيغضب «صديقك» الشاعر حين يعلم بهذا الخطأ الغريب.
وغادر علي أفندي المعرض مضطربا. ولما تنسم الهواء الطلق انفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه، على أن الموقف لم يكن يخلو من دواعي الأسف ما دام قد خسر الموعد المنتظر، وكان يمني نفسه بأكثر من ليلة واحدة.
الشريدة
الغالب على أحاديث الشبان في هذه الأيام أن تتجه نحو غرضين؛ النساء والسياسة، وحول هذين الموضوعين دار الحديث في مجتمع من الأصدقاء كان من حظي المشاركة فيه محدثا ومنصتا. وقد بدأ الحديث فاترا مبتذلا فلم يستطع أن يجذب إلا بعض انتباهي، حتى تكلم ذلك الصديق البارع وتدفقت الذكريات على لسانه الذرب، فألقيت إليه بانتباهي كله؛ لأن حديثه كان قصة مستوفاة العناصر، ومثل هذا الحديث يستبد بمشاعري استبداد المال بقلب اليهودي الشحيح، وإليك ما قصه صاحبي، قال:
لا يكاد يخلو تاريخ شاب من امرأة، ولكنه قد يخلو من المرأة المؤثرة التي تترك وراءها شاهدا عميقا لا ينال منه طمس السنين كالوشم في اليد أو الصدر. وقد عرفت نساء كثيرات لا أذكر منهن إلا أثرا ذاهبا من اللذة أو الألم، أو أطيافا في الظلام والنسيان، إلا امرأة بدت في فترة من حياتي كالكوكب الدري ينير أبدا ويضيء ما حوله، فلا أنساها ولا يغمر النسيان حياتي التي غمرتها بروحها الرقيق .. لماذا؟ .. ألأنها كانت أجمل من عرفت .. أو أحبهن إلى قلبي؟ لا أعتقد هذا، ولكن ربما لأنها كانت أتعسهن جميعا، ولأن تعاستها هذه كانت السبب الخفي في سعادتي بها زمنا طيبا لن يعود أبدا.
Unknown page
ويرجع عهد معرفتي بها إلى يوم من أيام عام 1920، وكنت آنئذ طالبا في السنة الأولى بمدرسة الزراعة العليا، استيقظت ذلك اليوم في الصباح المبكر كعادتي، فجاءتني والدتي وقالت لي: حسونة .. أرى أن أخبرك أن ضيفة نزلت ببيتنا، وأنها ربما أقامت بيننا إلى أجل غير مسمي.
فنظرت إليها بغرابة وقلت لها: من هي؟ - زينب هانم زوج اليوزباشي محمد راضي جارنا.
فاستولت علي الدهشة وقلت: لكنها ما زالت عروسا في شهر العسل .. أليس كذلك؟ - هو ذلك يا بني، والظاهر أنها تعسة الحظ؛ لأنها اضطرت إلى هجر بيتها والالتجاء إلي في الصباح الباكر، وزوجها ولا شك رجل غليظ فظ لا تسهل معاشرته، وإلا ما تركها تهيم على وجهها وهو يعلم أن لا أقارب لها في القاهرة.
وكانت والدتي شديدة التأثر، فقلت: مسكينة.
فقالت بانفعال: كانت أم هذه الشابة صديقة صباي، وإني أرجو صادقة أن تعيش بيننا سعيدة.
ثم أردفت بلهجة ذات مغزي: وأن تكون لها يا حسونة أخا كريما.
وبادرت قائلا: طبعا .. طبعا .. يا أماه.
وذهبت إلى المدرسة وأنا أتذكر كلمة والدتي الأخيرة واللهجة التي قالتها بها، وأحسست بمزيج من الخجل والغضب. ترى هل تشفق والدتي من سلوكي علي ضيفتنا؟ ثم خطر لي أن أتساءل: «هل هي جميلة إلى حد تبرير مخاوف والدتي؟» .. حامت أفكاري حول ذلك طول الطريق من مصر الجديدة إلى الجيزة. والحق أن كلمة والدتي البريئة أوجدت في نفسي منذ البداية الاستعداد الذي كانت تشفق منه أيما إشفاق.
كان جو بيتنا غاية في الهدوء؛ فوالدي كان حينذاك قاضيا بمحكمة طنطا الأهلية، وكان يقيم نصف الأسبوع في القاهرة ونصفه الثاني في محل عمله، وكان أخي علي في المدرسة الحربية، وأخي عادل في بعثة مدرسة الطب بالنمسا. وفي ذلك الجو المغمور بالهدوء والسكينة عرفت زينب هانم العروس التعسة .. وقد خيل إلي وأنا ألقي عليها النظرة الأولى أني أرى صبية صغيرة. نعم كانت بضة ممتلئة بادية الأنوثة، ولكني قرأت في عينيها العسليتين نظرة براءة وسذاجة، بل طفولة كاملة لولا ما يلوح فيهما بين الحين والحين من الحزن العميق الذي لا تعرفه الطفولة الحقة.
وكان الشباب في ذلك العهد غيرهم الآن، كانوا أعظم استقامة، وأدنى إلى العفة والطهر، وأرعي عهدا للتقاليد، وكانت المرأة المصونة تبدو دائما وكأنها محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة، وكان الحب بعيدا نسبيا عن التهتك والابتذال اللذين صرعاه أخيرا وأورداه الإباحية والجنون؛ فكانت العواطف تزدهر في القلب وتنبت الآمال والأماني، وتنصهر في العقل وتخلق الأخيلة والأحلام، وتكتسي بحلي نادرة من صنع الأوهام والأطياف.
Unknown page
فكان يقنعني من زينب نظرة أختلسها من وجهها الحسن أو جسمها البض؛ لتكون زادي في النهار والليل وفي اليقظة والنوم، وأصبحت وأمسيت في عالم أثيري جميل بث في وجداني حياة ناضرة كالحياة التي ينشرها الربيع في الحقول والبساتين. على أن الأمر لم يقتصر على ذلك؛ فجرى الحديث بيننا مرات، ولعبنا الورق مرة والنرد أخرى، وغالبتني عواطفي فوسوست إلي نفسي أن أتشجع، وتساءلت بخبث: لماذا لا أجرب حظي؟ لماذا لا ألمس أناملها في أثناء اللعب مثلا، أو أهدي إليها مجدولين فتكون فاتحة حديث لا يعلم ختامه إلا الله؟ .. ولكني لقيت من التردد الشيء الكثير، ولم تسعفني الجرأة التي تعلمتها فيما بعد، وضاع الوقت هباء، حتى رجعت يوما إلى البيت فوجدت والدتي وحدها .. وكنت تعودت أن أراها إلى جانبها، وأحسست بوحشة وضيق، وكتمت رغبة تلح علي بالسؤال لأن تلوث نفسي أفقدني صراحة الأبرياء، وظننت السؤال فاضحي، ولم تدعني والدتي فريسة العذاب، فقالت لي: شكرا لله؛ فقد جاء جارنا الضابط واعتذر لزوجته، وعاد بها لأنه نقل إلى أسيوط، وقد كلفتني أن أهدي إليك تحياتها.
وأحسست في الحال إحساس الطالب الذي يمنى بالسقوط في الامتحان وهو يحلم باختيار الوظيفة اللائقة به. وضاق صدري ذلك اليوم بالبيت ففررت إلى الخارج لأخلو إلى نفسي بعيدا عن عيني والداتي. على أن الصبا دائما قادر على جرف الأحزان والهموم، فاستطعت أن أبرأ في مدة وجيزة، ونسيت في غمرة الحياة والآمال تلك الحسرة التي عصرت قلبي أياما، فكانت مثل «الزكام» الذي يفقد الإنسان طعم الحياة حينما يزول سريعا فكأنه لم يكن.
ودارت الأيام وانتهيت من الدراسة، وحصلت على الدبلوم، ووظفت في وزارة الزراعة سنة 1925، ثم انتقلت إلى تفتيش الإسكندرية بعد ذلك بخمس سنوات. وفي الأيام الأولى لهبوطي إلى الإسكندرية آثرت أن أنزل بفندق لأستريح من وعثاء السفر وأبحث في هدوء عن مسكن مناسب، ووقع اختياري على فندق «ريش» لحسن موقعه من البحر؛ لأننا كنا في سبتمبر، وهو من الشهور المحبوبة في الإسكندرية، يطيب فيه الجو ويهدأ البحر ويصفو؛ فحملت حقيبتي ونزلت في حجرة من حجرات الطابق الثاني، وأذكر أنه لم يكد يتركني الخادم ويغلق وراءه الباب حتى سمعت طرقا، فدلفت إلى الباب وفتحته، ورأيت لدهشتي صديقنا الدكتور أحمد شلبي، واستقبلته بشوق، وأجلسته إلى جانبي، وكان يقول لي: أحقا هو أنت؟
ثم أردف: كنت تاركا باب حجرتي مفتوحا فلمحتك وأنت تتبع الخادم، وعرفتك في الحال. - هذه فرصة سعيدة. - يا حظك! - أي حظ تعني؟ .. أنت تعلم أن موظفي الزراعة لا حظ لهم يحسدون عليه.
فقال ضاحكا: أنا لا أتكلم عن الكادر .. ولكن عن فوزك بهذه الحجرة .. فيا حظك! - وما الداعي إلى هذا الحسد؟ .. هي حجرة دون حجرات الصف المقابل التي تطل نوافذها على البحر. - هذا حق، ولكن شرفتها تمس شرفة الحجرة رقم 24 التي إلى يمينك، وحسبك هذا. - وما شأن الحجرة رقم 24؟
فقال وهو يتنهد: تقيم بها امرأة حسناء وحيدة. - وحيدة! - نعم .. وإلى هذا يعود السبب في أن حجرات هذا الطابق مأهولة كلها. - لعلها ممثلة أو راقصة. - هو ما يظنه الرقم 27.
فقلت مستفهما: الرقم 27؟ - أعني زميلي الدكتور الصواف المقيم في الحجرة رقم 27، ولكني لم أوافقه على ظنه؛ لأني خبير بالصالات والمراقص جميعا، والأعجب من هذا أنها تبدو محترمة، ولا ينقصها إلا زوج لتكون من المصونات حقا.
فابتسمت وقلت: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان. - أوه .. كل الأرقام تطاردها مطاردة عنيفة. - ألم يفز أي رقم بطائل؟ - في الظاهر لا، والله أعلم بالسرائر.
وجالسني صديقي ربع ساعة، تحدث فيها ما شاء له الحديث، ثم ودعني وانصرف إلى حجرته. وكنت تعبا منهوك القوى، فنمت ساعة نوما عميقا واستيقظت عند العصر، وفتحت شرفتي وجلست فيها أستروح هواء البحر المنعش، ولاحت مني نظرة إلى الشرفة التي إلى يميني، فتذكرت ما قال صديقي الدكتور، وأدمنت النظر إليها باهتمام وشغف، ولكني استرددت نظري بسرعة لأني سمعت صرير بابها وهو يفتح، ونظرت أمامي، ولحظت بروز شخص، وخيل إلي أنه امرأة، وتأكد ظني عندما عطست، وحافظت على جمودي وتظاهرت بعدم الاكتراث .. وغالبا ما يفيد البرود، وهو إن لم يفد يعزي عن الخيبة.
ولكني لم أثبت طويلا، ونازعني شغف إلى النظر، فألقيت ببصري إلى جارتي، ورأيت امرأة أول ما راعني منها شعور بعدم الغرابة سرعان ما تحول إلى يقين بأني رأيتها من قبل، وأنا أتمتع بذاكرة لا تخيب قط في حفظ الصور؛ فلم ألبث أن تذكرت .. تذكرت جارتنا القديمة .. التي عاشت معي في بيت واحد بضعة أيام كانت كافية لإنضاج وجداني .. وتملكتني الدهشة والاهتمام.
Unknown page
ولاحت منها نظرة إلي فالتقت عينانا، وتوقعت بقلب خافق أن أطالع في وجهها آية التذكر، وتحفزت للسلام، ولكن خاب رجائي؛ لأن نظرتها كانت جامدة لا حياة فيها، ولم تلبث أن ولتني ظهرها وعادت من حيث أتت. وا أسفاه! نسيتني بغير شك .. وما من شك في أنها هي جارتنا القديمة، وهي ما تزال تحافظ على جمالها وأنوثتها، ولكن ما لها تعيش وحدها في هذا الفندق .. وما الذي يحملها على هذه الوحدة الغريبة .. وأين زوجها يا ترى؟
وطال تفكيري في شأنها حتى قمت لارتداء ثيابي وغادرت حجرتي، وشاءت المصادفات أن يفتح باب حجرتها على أثر خروجي مباشرة، فتباطأت في خطاي حتي حاذتني وهبطنا الأدراج معا، ووجدت في نفسي رغبة شديدة في محادثتها، ولم أكن أحجم في مثل ذاك الموقف، فقلت لها بهدوء غريب: سعيدة يا هانم .. لعلك تذكرينني.
فحدجتني بنظرة إنكار، ولعلها ظنت أني أتذرع بالحيلة لاستدراجها إلى محادثتي، وأسرعت الخطى فلحقت بها عند باب الفندق وقلت لها: أهكذا تنسين جيرانك بسرعة؟ .. ألا تذكرين حرم حسن بك همام القاضي؟
فألقت علي نظرة غريبة، ولاحت في عينيها الأحلام، وسمعتها تتمتم: عدالات هانم .. شارع الزقازيق!
فقلت بفرح: نعم، هذه هي والدتي .. وهذا شارعنا.
فهشت لي وسارت إلى جانبي وهي تقول: أأنت ابنها؟ .. تذكرت .. كيف حال عدالات هانم؟
فقلت بسرور وقد أيقظ صوتها وجدي القديم بها: والدتي بخير .. كيف حالك أنت يا هانم؟ - عال، ولكن أين عدالات هانم؟ .. هل أنت وحدك؟ - نعم، الأسرة في رأس البر لأن والدي يحبها ويفضلها على الإسكندرية، وأنا هنا بحكم عملي. - نسيت اسمك. - حسونة.
وكنت نسيت اسمها كذلك، ولكني نفرت بطبعي من سؤالها عنه، فمشيت إلى جانبها صامتا، وكان وجداني في يقظة قوية، وأصارحكم القول بأني من الذين لا يملكون عواطفهم إذا خلوا إلى امرأة أيا كان جمالها، وإن رغبتي في النساء عامة لا تعرف التخصص. وقد كنت قبل نحو عشرين عاما ذا استعداد للحب، ولكني فقدت بمرور الزمن واطراد التجارب وكثرة الأهواء تلك الموهبة الجميلة، ودنوت كثيرا من الحيوانات الراقية. وكنت في ذلك الوقت خاطبا، وكنت اخترت خطيبتي من بين عشرات الفتيات، ولكن ذلك لم يمنع قلبي - ذلك اليوم - من التعلق السريع بتلك المرأة ومعاناة الرغبة والطمع، قلت لها: أأنت وحدك هنا؟
فقالت بلا اكتراث: نعم! - وزوجك؟ - في السلوم. - ولماذا تعيشين وحدك؟
فضحكت ضحكة رقيقة وقالت: لا ينقصك إلا أن تفتح محضرا للتحقيق وتطالبني بالشهود.
Unknown page
فخجلت من فضولي، وضحكت أداري خجلي، ولم تكن عواطفي تكف عن الطغيان، فقلت: ألا يحسن بنا أن نبحث عن مكان صالح للجلوس؟
فهزت رأسها وقالت بعناد ظريف: كلا، أنا أفضل المشي لأني أريد أن أنحف.
فنظرت إلى جسمها البض الممتلئ نظرة معذب، ووجدت في كلامها فرصة ذهبية لا ينبغي أن تفلت مني، فقلت بإعجاب: وما جدوي هذا التعب؟ .. إن جسمك كامل الفتنة.
فألقت علي نظرة جمعت بين الانتقاد والدلال، وقالت وهي تشير إلى جسمها: هذه موضة قديمة.
فقلت بحماس: هذا جميل وكفى .. وما عدا ذلك فلا وزن له عندي. - وعند الناس؟ - نعم وعند الناس.
كدت أنسى هذا؛ إذ خيل إلي الوهم الساحر أني صاحب الشأن الأوحد، وعلى أنها قالت ما قالت وهي تبتسم إلي بإغراء، فاستخفني الوهم مرة أخرى، واشتد بي الطمع، فقلت: أنت لم تتغيري في هذه الفترة الطويلة، وكأن التي أراها الآن هي السيدة الجميلة التي أشرقت بغتة في بيتنا بمصر الجديدة منذ عشرة أعوام، وغربت بغتة كذلك فتركتني أحلم بها أياما وشهورا.
فنظرت إلي بخبث وقالت: يا لك من ماكر!
فقلت ضاحكا: ما وجه الغرابة في ذلك؟ .. من يرى هذا الحسن ولا يتمناه؟ - الظاهر أني سأجد من الواجب أن أفارقك لأنجو من أمانيك. - حاشا أن تفعلي .. بل حاشاي أن أتركك تفعلين. إن فوزي بلقائك بعد هذا الغياب الطويل نعمة من البطر الشرير الكفر بها. - إنك تحدثني كما لو كنا عاشقين افترقا ثم تلاقيا. - هذا شعورك. - هو أدنى إلى الوهم. - أما من ناحيتي فلا. - وأما من ناحيتي فنعم.
ولكنها قالت ذلك بدلال ورقة، وهي تبتسم ابتسامة عذبة تسيل إغراء. ولم أدهش لما تبدي من استسلام؛ لأن حالتها في الواقع كانت تدعو إلى الريبة، وتذكرت ما قال صديقي الدكتور شلبي فقلت: إني أعجب لماذا تقيمين وحدك في هذا الفندق! - أراك تعود إلى التحقيق. - كلا، لا داعي للتحقيق، ولكني علمت أن المقيمين بالطابق الثاني يضايقونك. - أبدا، لعلهم يضايقونك أنت.
فتنهدت وتعمدت أن أسمعها تنهدي، ثم قلت: فليكن .. ألا ترين من الحكمة أن نترك فندق ريش؟ - نترك؟! - نعم .. أنا أعني ما أقول، وأعرف فندقا هادئا في لوران، فما رأيك؟
Unknown page
ولم تجبني، ولازمت الصمت حينا، وبدا على وجهها الاهتمام والتفكير، فخفق قلبي وساورني الخوف والقلق؛ ولكني أحسست فجأة بذراعها تلتف بذراعي، وسرنا مشتبكين كالعشاق أو الأزواج، فأثلج صدري، وغمرني الفرح والفوز، وقنعت بذلك جوابا.
وفي مساء ذلك اليوم افتتحنا معا مأدبة الحب، فعدنا إلى ريش وأخذنا حقائبنا ورحلنا إلى لوران، ونزلنا في فندق أكس لا شابل، وهو فندق هادئ منعزل يقوم على شاطئ البحر كزاهد عازف يولي ظهره ضجيج الحياة، ويستقبل أفق الأبدية والأحلام.
وعشت أياما أذكرها دائما كما يذكر السقيم عهد الصحة والعافية؛ كان الحب فيها الحاكم القاهر المستبد الطاغي الذي لا يترك لشيء مكانا من عقولنا أو نفوسنا. وكنت أعلم أنها أيام وإن طالت قصار، وإن صفت فإلى انتهاء سريع؛ فأقبلت عليها بنهم وجشع أملأ من حسنها قلبي وحواسي؛ كي لا أدع زيادة لمستزيد، غير مؤجل متعة إلى غد أو مبق على لذة إلى حين، أو تارك ثمرة بلا قطف والتهام .. وكانت شريكتي سعيدة راضية يسكرها الحب وتستخفها آيات العطف، فتستزيد منها كما يستزيد منها الثمل من الطرب.
وتبين لي بغير كبير عناء أن آمالنا متباينة، فكنت لا أفكر إلا في حاضري، وأود لو أمتص ما فيه من حلاوة في رشفة واحدة .. أما هي فكانت تنظر إلى بعيد، ولا تفتأ تذكر المستقبل، وترغب رغبة صادقة في أن تطمئن إلى دوام السعادة والحب. وقد عجبت لذلك، وعلمت أني لم أفهم بعد تلك المرأة. وقد ظننتها حينا امرأة مستهترة متقلبة الأهواء، تجوب البلاد بعيدا عن زوجها طلبا للحب الآثم وانتهابا للذات .. ولكني وجدتها هادئة الطبع، عظيمة المودة، لا تسيطر عليها النزوات العمياء التي تورد أصحابها مهالك الفتن.
وكانت أيامنا الأولى أيام حب خالص، فلم يكدر صفوي مكدر، إلا أن إفراطي الشديد ردني إلى شيء من اليقظة والانتباه، فاستطاع فكري أن يتناول أمورا غير الحب.
فكرت في أني أعتدي لأول مرة على حرمة الزوجية، ولم يكن سبق لي أن اقترفت هذا الإثم المنكر، فوخزتني شكة الألم وأحسست بخوف غامض، وزاد من ألمي أني كنت على عتبة الحياة الزوجية، وساءلت نفسي في رعب: ألا يجوز أن يقتص الله مني ويصيبني يوما في المقتل الذي طعنت فيه الآخرين.
وهنا قاطعه أحد المستمعين قائلا: وهل صدقت مخاوفك فيما بعد؟
وضحك البعض، ونظر محدثنا إلى مقاطعه شزرا، ثم استأنف حديثه قائلا: ثم فكرت في أمر آخر لا يقل عن سابقه خطورة، فكرت في أمر الزوج الغريب الذي يترك لزوجته الحبل على الغارب، ما الذي عساه يفرق بينهما؟ .. وكيف يرضى عن هذه الحياة الغريبة؟ .. وألا يمكن أن يظهر بغتة في أفقنا الهادئ فتكون الطامة التي لا تدفع.
وكانت هذه الأفكار تساورني خارج الفندق بعيدا عن ظلها الخفيف، ولكني وجدت نفسي مسوقا إلى مفاتحتها بهذا الحديث وقد فعلت، فسألتها يوما: أما من أخبار عن زوجك؟
فاكفهر وجهها وأظلمت عيناها، وقالت: دع هذا الحديث جانبا.
Unknown page