الإهداء
تقديم
حاملات القرابين
يومينيديس أو الرحيمات
الإهداء
تقديم
حاملات القرابين
يومينيديس أو الرحيمات
حاملات القرابين
حاملات القرابين
عن اليونانية القديمة
تأليف
إسخيلوس
جمع وترجمة
أمين سلامة
الإهداء
نظم الأستاذ فهيم سوريال - مشكورا - هاتين القصيدتين يرثي بهما شقيقي الحبيب المرحوم الأستاذ الدكتور أنيس سلامة.
وإني إذ أهديهما إلى روحه الخالدة أسأل المولى أن يرحمه رحمة واسعة، وأن ينزله من لدنه منزلة الأبرار.
دمعة على الحبيب
فقيد الطب والخلق الكريم
تودعك القلوب من الصميم
ينوح عليك من شجن غريب
فكيف الحال بالبيت الكريم
هوى الركن الركين ومال صرح
فهل للركن بعدك من مقيم
قضيت شباب عمرك في جهاد
وباهى الطب بالفطن العليم
وكنت بعلمك الفياض بحرا
يحج إليه مغترف العلوم
وكنت الطود إن عصفت رياح
على روح أخف من النسيم
حبيت مهابة لا كبرياء
وما أبهى الرزانة في وسيم
لقد شهد الخصوم لعبقري
كفى شرف الشهادة من غريم
نعاك ذوو الضمائر من رفاق
فصفحا منك عن صمت اللئيم
سينصفك الذي خلق البرايا
وموعدنا مع اليوم العظيم
أخي وحبيب عمري من قديم
سيبكيك الجديد مع القديم
بمناسبة مرور عام على وفاة فقيد الطب والإنسانية
مضى عام ودمعك لا يجف
على غال ننوح ولا نكف
قضاء الله ليس له مرد
فسله اللطف إن أغناك لطف
أخ أدى الرسالة في وفاء
قليل الناس من أدوا فأوفوا
أخا الباكين في حزن رهيب
تخف الراسيات ولا يخف
بررت بهم على مر الليالي
ورب أب مع الأيام يجفو
ترامى النعي فاحترقت قلوب
عليك تجمعت وابتل طرف
فلا صبح على خير تقضى
ولا ليل يهادنهم فيصفو •••
حبيب القلب كنت له طبيبا
إذا ما انتابه وهن وضعف
كشفت الداء في آلاف مرضى
وعز لدائك المكنون كشف
قضيت ولم تقل لذويك حرفا
وكان يهزهم من فيك حرف •••
بنصف الدين عشت به تقيا
ورحت وأنت معتصم أعف
أكاد أرى بعيني الغيب روحا
تزف مع الملائك إذ تزف
لئن فارقتنا فإلى رحاب
لدى المولى وأنت عليه ضيف
تقديم
أيسخولوس
حياته ومؤلفاته
يحتل عصر أيسخولوس مكانا بارزا في المقدمة، في عصور تاريخ العالم التي تتميز بالطموح القومي والأعمال القومية المجيدة. ويزخر، في الوقت نفسه، بالأفكار الروحية المنعكسة في ذهن ذلك الشاعر الأستاذ؛ يحتل ذلك المكان جنبا إلى جنب مع شكسبير. فقد تجسم خياله في شعر من أسمى نوع وجد؛ في هيلاس
Hellas
في الجزء الأول من القرن الخامس، وفي إنجلترا في عصر الملكة إليزابيث. ولا يزال وحي ذلك الشعر ونموذجه ظاهرين في عصرنا الحاضر.
وقعت حياة ذلك الكاتب المسرحي الإغريقي في عصور مليئة بالاضطرابات الخارجية والداخلية، عصور العواطف الجياشة والمرح والعجب والأمل، عندما اكتشف المواطن الأثيني نفسه كفرد، لأول مرة. فلاحظ مظاهر الحياة بمتعة ذهنية، وباعتماد على النفس، وبروح عالية، وبنشاط جم مشغول بتنازع البقاء الحاد، الشخصي والقومي، بأمل وثقة في حسن الجزاء العادل، وبوعي دائم بمسئوليته إزاء الصالح العام. كان ذلك العصر عصر امتداد المعارف واتساعها، عصرا شاهد أحداثا برهنت على عزيمة أثينا وشجاعتها عندما طرحت عنها الجبين الذي كان لها في ظل الاستبداد، فطردت، في عصر هذا الشاعر، طاغية بيت بيزيستراتوس
، وعدلت الدستور في عهد كلايسثينيس
Cleisthenes ، حتى ضمنت في ذلك الوقت تأييد جميع مواطنيها، وكونت نظاما حكوميا يضمن للدولة طريقا حرا لزيادة التقدم نحو الديموقراطية الحقة. كما اكتسبت تلك المدينة في حياته قوة مادية تؤهلها للقيام بدور قيادي كقوة دولية في انتصار بلاد الإغريق على البربرية الاستبدادية التي هددتها لمدة جيل بالقضاء على كيانها السياسي. أبدى مواطنو ذلك الشاعر، في هذا الانتصار، بطولة في التضحية بالنفس والجرأة القهارة، ولما زال الخطر الفارسي وانمحى تماما كل احتمال لعودة الاستبداد الجائر للطغيان، شهد الجزء الأخير من حياة شاعرنا إعادة بناء أثينا التي هدم الغزاة معابدها ومنازلها، كما شهد الجزء الأخير منها بداية تلك التيارات القوية المتضاربة للحياة السياسية القديمة والجديدة، عندما أخذت الديموقراطية تشق طريقها الظافر بقيادة بركليس
. كانت أثينا، في شباب أيسخولوس، قسما سياسيا صغيرا يحكمه طاغية جامح الإرادة. وعند موته، كان أهل أثينا يحاربون في آسيا وفي مصر وفي قبرص، في آن واحد؛ ويسيطر أسطولهم على بحر إيجة، وكانت أثينا تسير بخطى ثابتة نحو تكوين إمبراطورية، تكسبها وتحافظ عليها بقوتها البحرية.
كان أيسخولوس ممثل الأدب الوحيد في ذلك العصر الزاخر بالأحداث البالغة الأهمية لكل من حكومة تلك المدينة والعالم الأكبر؛ ذلك العصر الذي تمثله في الحرب والسياسة شخصيات عملاقة، ميلتياديس
Miltiades
وثيميستوكليس
Themistocles
وأريستيديس
Aristeides
وكيمون
Cimon ، كما يمثله في فن التصوير والنحت، وفن الخزف بولوجنوتوس
ومورون
Myron
وبروجوس
Brygus . وقد استجاب كل من هؤلاء إلى الحافز القوي الذي قدمته له بيئته. ولم يكن أيسخولوس مجرد متفرج، وإنما أسهم في حوافز عصره وحركته الجبارة، وساعد في جعل وقته يختلف تمام الاختلاف عن أوقات معاصريه سيمونيديس
Simonides
وباكخوليديس
Baccchylides . وكما يصور هوميروس النزاع في عصر سابق، بفن يتميز بالخيال الجم والمشاعر التلقائية، كذلك يصور أيسخولوس العصر العظيم الثاني للفكر الإغريقي، وهو يقدم روح الحياة الأتيكية القومية الأكثر تفكيرا، كما جعلتها الحرب التي نشبت للدفاع عن استقلالها.
أيقظت الحرب المكتسبة بالثورة الشعب الأثيني، ونبهته إلى الوعي الذاتي، وحثته على إقامة الحكم الذاتي في ظل الحرية التي يحميها قانون شرعه شعب يحكم نفسه. وقد اكتسب كل من العدالة والنظام الإلهي للعالم أهمية لم تكن معروفة لشعب يشتغل سواده بالزراعة، انمحت وقتذاك حواجز ذلك العالم الإقليمي الأكثر ضيقا. واتحدت كلمة الناس إذ رأوا الخطر الخارجي، وأحسوا بدافع يدفعهم إلى الوحدة الروحية التي لم تكن معروفة من قبل، وبشعور قوي بالوحدة سرعان ما ذاب بفعل النفوذ المركزي للعمل السياسي الإغريقي. أثر التحول إلى العالم الخارجي في كل من السياسة والمجتمع، وهزيمة الغطرسة البربرية، والاتحاد السريع للمدافعين عن حرية بلاد الإغريق؛ أثرت كل هذه العوامل على أيسخولوس، فساقته إلى فكرة نشأة البشرية وتطورها، ونشأة الآلهة أنفسهم وتحولهم من الطغيان إلى الحرية، ومن القتال إلى السلم، ومن الشقاق والخصام إلى المحبة والوئام. فقلت الاضطرابات والفوضى والبربرية، وحلت محلها المساواة التي هي أساس القانون والنظام.
لم يكن تطور أثينا القديمة هذا بأسرع من تطور الفن التراجيدي على يد مؤسسه الحقيقي ... فقد أبدى فن الأدب في هذا العصر تطورا سريعا لا يعادله أي تطور في التأريخ، شأنه في ذلك شأن المعمار والنحت.
عرض أيسخولوس أولى مسرحياته في سنة 499ق.م. ولم تمض غير ثلاثين سنة فحسب على إقامة بيزيستراتوس، الذي أخضع الطغيان بحمايته للفنون، مباريات سنوية في التراجيديا، في عيد ديونيسيا
Dionysia
المدينة. فشهد ثيسبيس
Thespis ، في هذه المباراة، شاعرنا التراجيدي الأول، الذي عرضت مسرحياته في الاحتفالات القروية ونالت الجائزة. نال أيسخولوس أول فوز له في سنة 484ق.م. أي قبل موقعة سالاميس
Salamis
بأربعة أعوام. ومنذ ذلك التاريخ حتى وفاته في سنة 456ق.م. كان هو الشاعر التراجيدي الأول لعصره.
بوسعنا أن نخمن، نظرا لغياب الأدلة المادية، على أن هذا الفن، كما تلقاه ذلك الشاعر، كان يتألف من أغاني الكوروس فحسب، يتخللها بعض السرد مع حوار قصير بين قائد الكوروس وشخص يمثله ممثل واحد أدخله نبوغ ثيسبيس. لم تكن هناك خطة بالمعنى الذي عرف فيما بعد، ولا تقدم حقيقي في الفعل الدرامي، ولا تصوير للشخصيات. وكان الفن، كما تركه، قد بلغ ذروة إمكانيات التعبير الأصلي. أخذ أيسخولوس أساطيره ومادة قصصه من هوميروس وهسيود
Hesiod
ومن الشعراء الدوريين، ومن الأشعار الشجوية والرجز والشعر الغنائي، ولا سيما شعر ستيسيخوروس
Stesichorus ، ومن كتب الحكم القديمة، ومن كتاب النثر القدامى والمعاصرين، الذين تناولوا الأساطير الموروثة في كتاباتهم؛ أخذها أيسخولوس ونفخ فيها نفسا من روحه، ووجد فيها تعبيرا لأفكاره الشخصية عن الأمور البشرية والإلهية. ويرجع الفضل في تحويل أشخاص عصر البطولة إلى شخصيات درامية زاخرة بالإرادة والعاطفة، تعمل بواعثها السهلة الفهم على حث العمل الدرامي ودفعه قدما إلى الأمام، إنها شخصيات، حتى ولو كانت فردية، فإنها لا تقل معاصرة لكل عصر؛ لأنها نموذجية في بشريتها العالمية، نقول يرجع الفضل في هذا إلى خيال ذلك الشاعر الخصب، وإحساساته الأخلاقية والدينية، وفكره البحاث المتأمل، أكثر مما يرجع إلى عقله وذكائه. وإن مقدرته على الإلمام بأفق أوسع، وتصوير أشخاص عائلات بأسرها أو شعوب بأكملها، لأعظم من قدرته على جعل أشخاصه الفرادى يتسمون بطابع الفردية. وإن متعته في الفرد لأقل من متعته في الأسرة أو في الجماعة القومية التي ينتمي الفرد إلى حظوظها. لا تجد موهبته الشعرية بصفته مواطنا أثينيا ذا صلة بالحياة في عصر من التطورات السياسية والاجتماعية المحمسة في وقت كان اتجاه إحساس الإنسان فيه إلى حريته الروحية أقل من اتجاهه إلى حريته السياسية، لا تجد تلك الموهبة تعبيرا إلا في فن - رغم حداثة خلقه - أرسل صوته مدويا أكثر من سائر الفنون الأخرى، يعبر عن غريزة عصره وقومه. كان ذلك الفن وحده هو الذي يملك القدرة على تصوير الروح الجماعية لحياة شعب حر لم يقم بدور مضاد في المجتمع الذي يصوره شاعر البطولة العظيم، الذي لا يزال قصصه عن الحرب والمغامرة يسيطر على إعجاب مجتمعات واسعة في وقت منافسة قصائد الشعراء المتجولين. وإذا كانت الأساطير القديمة غامضة غموضا فظيعا منذ أول نشأتها في وقت الشفق، فقد هذبها هذا الشاعر في ضوء الروح الصافية للعقيدة المبنية على العقل والصلاح ... اكتشف أيسخولوس وجود مادة أخلاقية ودينية في أساطير قومه، فحولها إلى مسائل خاصة بمصائر البشر، أو إلى عدالة الآلهة: فيتألم بروميثيوس
1
وتتألم إيو
Io
2
أمام عيوننا، فنجد أنفسنا في الحال وجها لوجه أمام سؤال عما إذا كان سيد أوليمبوس
Olympus
3
إلها عادلا. وظن الشاعر نفسه في تلك المستويات العالية للفكر والعاطفة حيث يستطيع ملاحظة الخير والشر، وهما من عوامل القدر الغامضة التي تجعل من خلق الإنسان أداتها، وأوجد العلاقة بين العقاب والإثم، ومعنى الآلام ومعاملات الرب مع الإنسان، والوحدة الأساسية للهدف الإلهي. تناول أيسخولوس هذه الأفكار السامية، مبدئيا، كفنان وليس كواعظ، وشرع يوضح حالات عدم المطابقة، التي تمنعنا من أن ننسب إليه أي مذهب فلسفي أو ديني متعمد. لم يسلم معلم الدين أو الفيلسوف روحه إلى أية أسرار غامضة أو عقيدة. كان الإنسان أعظم من أعماله وهو الأعظم بين معاصريه، ولو أن العمل هو خلاصة عقل ذي عظمة روحية مثقل في طريقه القديم بأسرار جميع العالم غير المفهوم.
ما عادت الفلسفة في عصر أيسخولوس مجال الباحث في أسباب الأشياء، المنعزل ... وقد شمل المفكرون الأيونيون الإنسان في تأملاتهم على أنه جزء من مكونات الطبيعة؛ إلا في حالة اتصال الدين بالعلوم الطبيعية، كما هو الحال في فيثاغورث
. وجد أيسخولوس في الإنسان «مركز ثقل» العالم. وجده في الإنسان الذي يظهر تجاربه وأفعاله في بيئته، وفي عوامل النفوذ البعيدة التي انحدرت إليه من أسلافه في أجيال متتابعة. كانت لديه فكرة أو لمحة عن الأسباب المعقدة الكامنة وراء الأحداث البشرية. فاستطاع في مسرحية «بروميثيوس» على الأقل أن يجد نواة الفعل التراجيدي للباعث الناشئ من الداخل. والحقيقة أنه لم يوفق بين عناصر الحياة المتضاربة بيد أن سر فنه الكامل النمو، هو فهمه للعلاقة العابرة بين الأخلاق والأفعال والكوارث. وإذا كانت متنوعاته أقل من متنوعات يوريبيديس
Euripides ، وكذلك أقل من متنوعات سوفوكليس
Sophocles ، فإنه يرى الحياة كوحدة أكثر مما يراها هذان. فنسب الحقائق الخالدة للحكمة القديمة لقومه، والأمثال التي يتضمنها علم الأخلاق، إلى حياة الإنسان، وهي تعمل وتتألم. وفي الوقت ذاته أظهر تعميم استعمال هذه الأشياء في أشخاص الماضي الأبطال. شرع أيسخولوس، بعد أن استغل الظروف الملائمة له في دولته بعد انتهاء الحرب الفارسية، شرع يسيطر خطوة خطوة مع تكرار التجارب، على تكنية (القواعد الفنية) فنه الذي طور صورتيه الأكثر ميكانيكية (واللتين ليستا أقل روحية) وهما الموسيقي والرقص، حتى بلغتا ذروة الإتقان الذي تمتعتا به فيما يختص بالفن الدرامي. فزود التراجيديا بمبدئها المرشد للاستغناء عن عنصر الكوروس بالعنصر الدرامي الأكثر حيوية، والقادر وحده على الوصول بالمشاعر والحكم، الموحية للعقل البشري، إلى أسمى درجة. ويبدو أنه هو الذي ابتكر وحدة المجموعات الثلاثية والرباعية، التي عندما تحول إلى مسرحيات تتخللها مادة الأساطير، وكل منها عبارة عن مسرحية تتضمن فعلا دراميا كاملا هو جزء من مجموعة أكبر تمثل أرقى فكرة عن النبوغ الإغريقي في فن الدراما. والحقيقة أنه يعزى إلى أيسخولوس تطوير فن ناشئ إلى صورة فخمة، واختصر أثر الزمن في محو أعمال أسلافه. وصار بوسع خلفه أن يعملوا على ضوء وهدي أعماله، وقد أطلق العنان لفهمهم وخيالهم أن يسرحا في مجال أوسع، بواسطة فهمه وخياله هو نفسه. ولا يدين بفنه إلى أي شخص أعظم من نفسه. وبالاختصار، كان هو مشرع التراجيديا في العالم. ولم يسع إلى مطابقة فنه لذوق عصره، بل كان يرمي إلى أن يضفي على ذلك الذوق نبلا في ضوء عالم نموذجي. وإذ تناول آفاقا أبعد مما تناول أسلافه، كرس جهده ل - «الزمن
Time » الذي أطلق عليه معاصره بندار
4
اسم «سيد الخالدين» و«خير حام للرجال العادلين».
ولد أيسخولوس في سنة 525/524ق.م. تبعا لما اتفق عليه بالإجماع في العصور القديمة، وهذا تاريخ قد يكون صحيحا تقريبا. وكان والده يوفوريون
Euphorion
مواطنا أثينيا من منطقة إليوسيس
Eleusis . وكانت إليوسيس هذه دويلة لم تمح ذكرى استقلالها في القرن السابع - هذا إذا نسبت إلى هذا العصر أنشودة هوميروس التي نظمها في الربة ديميتير
Demeter
5
والتي تسجل أنه كان يحكمها ملك وطني. وصحب إدماج المجتمع الصغير في المجتمع الأكبر طقوس دينية تتعلق بالأسرار الدينية التي رسم لمعرفتها كل رجل من أصل هيليني. وظلت صفات وأخلاق أهل إليوسيس، حتى القرن الرابع، تميزهم عن المواطنين الأثينيين. ويبدو أن يوفوريون كان أحد أعضاء طائفة النبلاء، وكان واسع الثراء. كان أيسخولوس، بحسب مولده، من طبقة اجتماعية أرقى من طبقتي سوفوكليس ويوريبيديس. ويعرف الرجل النبيل العريق الأرومة بقوله: «هو من كان نبيل المولد، يتبوأ عرش الشرف في سمو ورفعة» ويصف ذا الثروة القديمة بالعطف على عبيده. وكان ذا رقة إنسانية ورحمة بعامة الشعب أكثر من معاصره الأريستوقراطي بندار؛ وقد بني النبيل الأثيني على نمط يختلف عما بني عليه الأريستوقراطي البيوتي
Boeotian
أو الدورياني
Dorian . ورغم مركز أيسخولوس الاجتماعي فلم يأنف من التمثيل في مسرحياته. ولسنا بحاجة إلى أن ندهش لهذا. فقد كان دور الشاعر المسرحي، في عصره، مصحوبا بدور الممثل وبالمهارة في الموسيقى وفي فن الكوروس، وبمجموعة من الوظائف التي لا تمنع صاحبها من خدمة المجتمع في كل من المجلس والحقل. وقد حققت الدراما الناشئة فائدة عظمى من قيام الشاعر بالتمثيل. يجب على الممثل أن يترجم مبتكرات شخصيته الثانية إلى صوت وبصر.
لما كان أيسخولوس يوباتريديا
eupatrid
6
فقد كان عضوا في الأريستوقراطية القديمة التي أشارت الأسطورة في خلقها إلى ثيسيوس
Theseus .
7
والحقيقة أن المميزات السياسية لهذه الأسر الموجودة في مختلف المناطق التي تمتاز بالثروة وبالقوة، قد اكتسحتها إصلاحات كلايسثينيس
8
مع كثير من الطقوس المحلية التي قامت بدور بارز فيها. ومع ذلك، فإن هيبتها الاجتماعية ونفوذها المهيمن على الصفة الصورية للوظائف الدينية في الدولة، ظلا باقيين لمدة قرن بعد ذلك. وقد اتصلت هذه بظهور عبادة ديونيسوس
Dionysus ،
9
ومن المحتمل أن الراغبين في التطهر من التلوث بجريمة الدم كانوا يلجئون إليها. أما في إليوسيس، فقد نظمت أسرة اليومولبيداي
Eumolpidae
اليوباتريدية ملاحظة طقوس الأسرار الدينية، وقدمت رئيس الكهنة الخاص بالعيد، وكونت هيئة تفسير القانون المقدس، كما كونت، في حالات معينة، محكمة للنطق بالحكم في قضايا المخالفات الدينية. كذلك كانت هناك طائفة يوباتريدية أخرى هي طائفة الكيروكيس
Ceryces ، قدمت الكهنة الأقل أهمية، واشتركت مع عائلة اليومولبيداي في الاضطلاع بطقوس الرسامة الدينية. ولا نعرف إلى أية أسرة من أسر إليوسيس اليوباتريدية العديدة ينتمي هذا الشاعر. بيد أن مولده في ظل القداسة الشهيرة للأهداف الدينية الأكثر نقاء، قد ضمن لشبابه فترة أعده لمهمته فيها نفوذ الأسرار المقدسة الثابت فيما يختص بالأم وبالفتاة. ليس كمدرس للدين، وإنما كمعلم متدين لشعبه عن طريق الفن الدرامي.
بينما لا يمكن تفنيد احتمال تأثير هذا النفوذ على ذلك الشاعر النامي فإن هناك مسألة لا تزال بغير جواب: هل كان أيسخولوس من المرسومين فعلا لتلك الأسرار؟ فإذا كان كذلك، فلا بد أنه كان خبيرا بتلك الطقوس كاملة حتى لا يكون جاهلا بأية مظاهر يسبب إفشاؤها الكفر أو التجديف. فهل كان استقلاله عن الأخلاقيات السائدة وقتذاك، وميله إلى الهرطقة الميثولوجية التي نجد الدليل المناسب عليها في التراجيديات، وهل كان اتصاله القريب بالمعبد، قد جعله كل ذلك يحس بعدم الحاجة إلى التقديس الإليوسياني؟ ومع ذلك، يقول أريسطو، ويؤيده كلمنت
Clement
السكندري، إن ذلك الشاعر، عندما اتهم بالكفر لإفشائه نقطا معينة من تلك الأسرار، لجأ إلى تبرئة نفسه معتذرا بأن خطأه يرجع إلى التهاون؛ إذ لم يلاحظ أن المسائل موضوع التهمة كانت ضمن أسرار طقوسها. ويمدنا هيراقليديس بونتيكوس
Heracleides Ponticus
تلميذ أريسطو بتفاصيل (وربما كانت غير حقيقية) مؤداها أن أيسخولوس كاد يعدم في المسرح، ولكنه أفلت بالتجائه إلى مذبح ديونيسوس، وأنه عندما قدم للمحاكمة أمام الأريوباجوس
Areopagus
10 (محكمة جنايات أثينا)، كان أهم ما استندت إليه المحكمة في تبرئته هو بلاءه الحسن وشجاعته في موقعة ماراثون
Marathon . غير أنه ما من أحد، سواء أكان هيراقليديس أو أيليان
Aelian
الذي يعرف ظروف هذه الواقعة بالضبط، يعرف ما فيه الكفاية ليذكر لنا اسم القطعة أو الموضوع الذي يؤاخذ عليه هذا الشاعر. والحقيقة أن الأقدمين لم يعرفوا المادة الموضوعية أو الذنب الموضوعي (كما هو عنوان المسرحية أو المسرحيات التي تتضمن هذا الذنب) بينما لا يزال حدسهم، وكذلك تخمين المحدثين ولا سيما ما يقول بأن مسرحية «يومينيديس
Eumenides » هي موضوع تلك التهمة؛ ولا يزال ذلك الحدس مفتقرا إلى الدليل المقبول. ومن المحتمل جدا في غياب الأدلة الكهنوتية التي تحمي المعتقد اللاهوتي ولا توجده، أن الكفر المنسوب إلى هذا الشاعر لا يختص بأي مذهب سري أو عقيدة سرية (لم تكن الأسرار الإليوسيانية
Eleusian Mysteries
عقيدية في أساسها، ولم يتورع أريستوفانيس
Aristophanes
عن إفشاء قوانينها مع تغيير طفيف)، بل بمظهر شكلي محض من الرموز الدرامية المعتبرة مقدسة في تلك الطقوس. أما الجمهور فيعزو هذا الأمر إلى إهمال الطقوس أكثر مما يعزوه إلى الهرطقة اللاهوتية. والحقيقة أن أيسخولوس اعتاد ذكر مصطلحات آراء التأملات اللاهوتية، ولكن يبدو أن هرطقته، على خلاف هرطقة دانتي
Dante ، لم تكن مقصودة بالذات. بيد أن الاتهام لا يزال موجودا، ولو أنه ما من شاعر في بلاد الإغريق كان متشبعا بروح دينية متحمسة عميقة مثل أيسخولوس.
11
ومهما كان أصل استعمال الأشعار التي وضعها أريستوفانيس على لسان أيسخولوس عند بداية احتكاكه بيوريبيديس (الضفادع 886-887)، فإننا نعرف أن السطر الأول، على الأقل، من تأليف الشاعر الأكبر سنا: «أيا ديميتير، يا من تغذين روحي الغضة،
اجعليني أهلا لأسرارك.»
إذن، فمن الواضح جدا أن أريستوفانيس كان يعتبر أيسخولوس من المطلعين على تلك الأسرار، إلا إذا كان أريستوفانيس نفسه مذنبا في الشيء ذاته الذي اتهم به تاريخ حياته الأدبي كما وضعه الفلاسفة المتجولون. وسواء تعلم طقوس ديميتير المقدسة في وطنه، أو لم يتعلمها هناك، فإنه لم يرسم في إليوسيس، وإنما نال تلك الرسامة في ماراثون وسالاميس، فجعلته واضع «قوانين الرب».
لما كان هذا الشاعر إليوسيانيا، فقد كان عرضة لنفوذ أثينا المجاورة حيث كان يعقد جزء من الاحتفال الرئيسي بتلك الأسرار. ولا يمكننا الحط من قيمة الحافز الجديد الذي أضيف إلى خياله الشاب بوجود رجال في أثينا، في عهد هيبارخوس
Hipparchus
ابن بيزيستراتوس، ملمين بالشعر الكهنوتي والوحي وطقوس التكفير والتطهير، في وقت الحماس الروحي، إذ كان الناس يتسابقون، بدافع المشاعر الدينية والأخلاقية إلى الحصول على التطهير من الذنوب وراحة البال من الآثام. فالشاعر الذي تضم مؤلفاته شيئا من الآثار المباشرة للأسرار الإليوسيانية لا بد أن كان ذا معرفة بتعاليم فيثاغورث. وإن بعض إشاراته إلى محاكمة المجرمين ومعاقبتهم بعد الموت على الجرائم التي اقترفوها في هذا العالم المستقاة من المصادر الأورفية ما في ذلك أدنى ريب.
ولما كان أيسخولوس شاعرا مدربا على القتال، فقد أدى الخدمة العسكرية في ماراثون عند أول التحام عظيم مع الفرس الغزاة، وفي سالاميس. وربما كان أحد الجنود الثقيلي التسليح، الذين أبادوا، بقيادة أريستيديس،
12
تلك القوة المرابطة في جزيرة بسوتاليا
. وللرغبة في السمو بشهرة هذا الشاعر الجندي، جعلته الروايات يشترك أيضا في الحرب في أرتيميسيوم
Artemisium
وفي بلاتيا
. وقد اهتم جماعة معينة من العلماء المحدثين، اهتماما بالغا، بإشارة هذا الشاعر إلى مواقع الشمال ومعارف طقوسه، فجعلوه يسهم في حملة كيمون التراقية (الذي أباد حصن إيون
Eion
المسيطر على مصب نهر سترومون
Strymon
في سنة 476-475ق.م.)، وربما في بعض الحملات الأخرى لاستعادة مواضع الاستيطان الواقعة على السواحل التراقية، تلك الحملات التي استمرت عدة سنوات.
يحتمل أن تكون زيارة أيسخولوس الأولى للملك هييرو
Hiero ، فيما بين سنتي 476، 473ق.م. (وهذه هي السنة السابقة لإبادة الفرس). ولما كان هذا الملك القبرصي صديقا للأدباء وحكما بالغ الذوق، فقد سما ببلاطه إلى درجة رفيعة حتى إن الشعراء ذوي أرفع العبقريات في الوطن ، أمثال بندار وسيمونيديس وباكخوليديس، قد وجدوا من المريح لهم قبول كرم ولطافة حام لا يوجد خير منه في فن تقدير من اعتبروا ملوك فناني عصرهم في بلاد الإغريق. وربما كانت زيارة أيسخولوس الأولى للغرب ذات صلة باحتفال هييرو بإعادة بناء مدينة إتنا
Etna
سنة 476/475ق.م. ونرى في مسرحية «نساء إتنا
Women of Etna » أن الشاعر ترك المصادر العليا للميثولوجيا البانهيلينية
، ووجد ضمانا في طقوس الصقليين المحلية للتكهن بالرخاء الذي استقاه من مؤسسي تلك المدينة عند سفح الجبل الذي ثار في سنة 478/479ق.م. (أو تبعا لثوكوديديس
Thucydides
13
في سنة 476/475ق.م.) فأوحي إليه بالفقرة الشهيرة في بروميثيوس (سطر 347)، والوصف الأكثر روعة في قصيدة بندار لهييرو. وربما شاهد أيسخولوس بنفسه ثوران ذلك البركان، ولكن تصويره لهذا المشهد أقل حيوية من تصوير الشاعر الغنائي له. وإذا كان قد كتب تلك الفقرة بعد مضي مدة طويلة، فمن المعقول أنه دخل المسابقة عمدا مع بندار الذي ألف قصيدته في سنة 470ق.م. ومهما كان هذا الأمر، فما من أحد من زملائه يمكن أن يكون قد دخل المسابقة مع أيسخولوس عندما أجاد عرض مسرحية «الفرس» هناك، وهي مسرحية عن الحرب، توجت من قبل بالجائزة الأولى في أثينا. وقد ذهب أيسخولوس وقتذاك إلى قبرص، لا ليكسب الشهرة، بل ليتسلم جائزة الشهرة.
لا ينظر صغار الذكاء إلى العظماء إلا في ضوء صغرهم، فقد عزيت مغادرة أيسخولوس لبلاد الإغريق وذهابه إلى صقلية، نقول عزيت في العصور القديمة إلى أنه ذاق جذور المرارة بسبب تفضيل الشاعرين سيمونيديس وسوفوكليس عليه، أو لأنه لم يستطع احتمال روح ذلك العصر. وما قصة انسحاب أيسخولوس إلى صقلية بسبب غيظه من اندحاره على يدي سوفوكليس، إلا قصة تافهة وسخيفة. لا بد أن كان أيسخولوس، في نفس السنة التي انتصر فيها سوفوكليس (سنة 468ق.م.)، في أثينا يكتب مسرحيته «الأوديبوديا
Oedipodea »، استعدادا للعيد الدرامي في العام التالي. أما سبب سفره إلى صقلية في سنة 458ق.م. بعد عرض «الأوريستيا
Orestea » فلا يزال غامضا. وقد قيل الشيء الكثير عن عدم رضا هذا الشاعر (المحافظ في ميوله السياسية كغيره من ذوي العقول الفنية الكبيرة) عن نمو نفوذ الحزب المناوئ لكيمون ... يبدو أن الزمن لم يكن ملائما لرجل أثيني من عصر أريستيديس، يتخذ في ذلك الوقت نظرة شفق الحياة. بعد ذلك أخذ جيل جديد طائش، يفتقر إلى روح الوقار التي كانت للجيل القديم، يشق طريقه إلى المقدمة. فهاجم إفيالتيس
Ephialtes
بالاشتراك مع بركليس حصن الأريستوقراطيين، وهم مجلس «الأريوباجوس». بدأت المعارضة بحركة ترمي إلى إبعاد بعض أعضاء تلك الهيئة بتهمة ابتزاز الأموال، انتهت بهجوم على صيانتها للقانون، والاحترام الشكلي الواجب للآلهة تاركة للمجلس، كوظيفته الهامة الوحيدة، اختصاصه في الفصل في قضايا القتل (سنة 462). فقدم بركليس وثيقة تنص على دفع أجور لهيئة المحلفين، وأعطى الأراخنة مبلغا معينا للنفقات اليومية. فارتفعت النزعة السياسية. فقتل إفيالتيس في سنة 461 أو سنة 460ق.م. أما التصويت بأغلبية الأصوات الذي أباد كلا من ميجاكليس
Megacles
وكسانثيبوس
Xanthippus
وأريستيديس وثيميستوكليس، فقد أبعد كيمون، في سنة 461، من مشهد النضال الحربي ... يتخذ هذا الشاعر في مسرحية «يومينيديس» موقفا بعيدا عن صخب الأطماع الحزبية، فيقوى مذهبه الخاص بالصلح. وإذ وافق بولاء على ذلك القانون الذي غير طبيعة الأريوباجوس، فإنه يوصي بإلحاح في تلك المسرحية بوقف الحزازات والأحقاد والأخذ بالثأر، ويذكر احتجاجه الجدي ضد أية تجديدات أخرى، مع الإشارة إلى الاقتراح (المقدم في نفس سنة «الأوريستيا») الخاص بقبول أعضاء من طبقة ذوي الأملاك في الفئة الثالثة في مناصب الأراخنة وفي الأريوباجوس. غير أنه إذا كان أيسخولوس أقل ابتعادا عن أحداث ذلك الوقت، من سوفوكليس أو جوتيه
Goethe ، فليس من العدل اتهامه بالافتقار إلى الغيرة الحزبية في وطنه ... سبق أن أوحت إليه سالاميس بالميول البانهيلينية. وكانت الوطنية القومية التي لا تقل عن الوطنية القروية مع الغيرة الدينية إيحاء عبقريته.
رغم عدم إمكاننا تفنيد احتمال عدم رضا هذا الشاعر عن مجرى الأحداث في وطنه، فإنه لم يكن بالرجل الذي يهجر وطنه غاضبا، كما هو الحال في المحدثين. ربما لم يكن لديه أي باعث أعمق من استعداده لإعادة عرض مجموعته الثلاثية الأخيرة.
مات أيسخولوس في جيلا
Gela
بصقلية سنة 456/455ق.م. وأما عبارة التأبين الجميلة التي كتبت على قبره وصيغت بروح القرن الخامس التي تنظر فقط إلى كونه مواطنا جنديا، وليس بصفته شاعرا، فيحتمل جدا أنها صيغت في أثينا بعد موته بفترة قصيرة. «يخفي هذا القبر رماد أيسخولوس
ابن يوفوريون، وفخر جيلا المثمرة،
وبوسع ماراثون أن تخبر بشجاعته المجربة،
كما يخبر بها ميديس
Medes
ذو الشعر الطويل الذي يعرفها حق المعرفة.»
ظل الاعتراف بذلك الشاعر مدة طويلة بعد موته! فصدرت القرارات العامة بعرض مسرحياته. أما نبوغه التراجيدي فانحدر إلى ابنه وإلى بعض أولاد شقيقته.
يوجد في الكابيتولين
Capitoline
14
تمثال نصفي يقال إنه تمثال أيسخولوس، بيد أن التعرف عليه لا يستند إلى أي دليل قاطع سوى المقارنة التي قام بها أولا ميلكيوري
Melchiorri ، إذ قارنه بصورة على لوحة زجاجية
15
اعتبرت إما مصورة على نمط «تأليه» هوميروس. وإما إشارة إلى الأسطورة القائلة بأن ذلك الشاعر لقي حتفه عندما ألقى نسر بدرقة سلحفاة فوق رأسه الأصلع، إذ خاله صخرة، وهذه أسطورة وجدت مكانا، على الأقل، في مؤلفي السير توماس براون
Sir Thomas Browne
بعنواني «المبتذل
Vulgar » و«الأخطاء الشائعة
Common Errors ». وقد يكون تمثال برلين هذا من صنع حديث. غير أن القصة القائلة بأن درقة سلحفاة كسرت جمجمة رجل أصلع تؤيدها إشارة ديموقريطوس
Democritus
في القرن الخامس عند مناقشته علاقة المقصود بالصدفة. وقد شاعت نسبة هذا التمثال لأيسخولوس بطريقة عرضية، ولو أن بعض الشخصيات الشهيرة، أمثال: فيدياس
وهيبوقراطيس
Hippocrates
وديوجينيس
Diogenes ، تملك الأدلة المادية الخاصة بهذه المسألة.
كان أيسخولوس، كما قال ميلتون
Milton
عن سبنسر
Spenser ، «شاعرا حكيما وجادا». وإذا طرحنا جانبا أية محاولة لجعل تمثال الكابيتولين محاكاة للدلالة على مزاج أيسخولوس إن لم تكن على أخلاقه، فإن أعماله لتلقي بعض الضوء على شخصيته. ففيها السمات الحقيقية للشخصية. فالشاعر الذي تخيل «بروميثيوس» و«الأوريستيا» لا بد أن كان رجلا بعيد الغور، ركزت روحه على عظائم الأمور في الحياة،
Sempre il magnanimo si magnifica in suo cuore . وإذ كان متصوفا مثل ميلتون، فإننا نتخيله ذا طبيعة استكملت صفات الرجولة في قوة، كما نتخيله عنيفا ، إن لم يكن صارما، سما بنفسه فوق طرق التفكير العامة، ويعرف لنفسه حق قدرها الرفيع، عديم الاكتئاب إذ كان كثير الدعابة، ويشبه النبي العبري حزقيال
Ezekiel ؛ غير أن هذا الأخير لم يكن صلب الرأي مثل أيسخولوس.
عرضت أولى مسرحيات أيسخولوس في سنة 499ق.م. وعرضت آخر مسرحية له في سنة 458ق.م. ولا يقل مجموع ما ألفه عن تسعين تراجيدية ومسرحية ساتورية، متحدة، كقاعدة، في مجموعات تتكون كل منها من أربع مسرحيات. أما مسرحيات المجموعات الثلاثية (ذات المسرحيات الثلاث) فترتبط معا بصلة مادة الموضوع، أو بأية صلة مثالية من الصلات الأخلاقية أو الروحية للأفكار الميثولوجية. ولم يعجز هذا الشاعر عن الاحتفاظ بحرية علاجه للموضوعات، حتى بعد أن ابتكر الدورة الدرامية. ومع ذلك، تختلف درجة العلاقة بين مسرحية وأخرى. ففي حالة مسرحية «الفرس» المبنية على دراميات ذات صفة أسطورية، يبدو من المحتمل أنه فضل فيها، متعمدا، حرية الأسلوب. وقد نال الجائزة الأولى ثلاث عشرة مرة، ولو أنه لم يحظ بأول فوز له إلا في سنة 484ق.م. وبذا يخالف صدق المثل الذي قاله جوزيف دي ميستر:
Joseph de Maistre «من لم يهزم ثلاثين مرة فلن يهزم إطلاقا.» ولم يبق من مسرحيات أيسخولوس إلا سبع فحسب سلمت من اعتداء الزمن، وتتألف منها مجموعة جمعت بعد السيد المسيح بوقت ما، ولكن ليس قبل القرن الثاني للميلاد. وأشهر مؤلفاته الباقية هي الأوريستيا، وأجزاؤها الفردية متصلة، حتى إن بقاء أية مسرحية من مجموعتها ليجر بقاء الأخريات. أما مسرحية «برميثيوس المقيد
» ففريدة في موضوعها ولقيت قبولا لدى الذوق الرفيع؛ وسجلت «الفرس» انتصارا في الوطنية القومية. ويشتم من «السبعة ضد طيبة
Seven against Thebes » روح الحروب. وربما كان جمال أناشيد الكوروس في مسرحية «المتضرعات»، ونغمتها الدينية السامية، هما اللذان حفظاها من الضياع. وقد اختفت مؤلفات أكثر شهرة من المؤلفات الباقية -
habent sua fata libelli - وإذا كان ما بقي لدينا لأبي التراجيديا قليلا، فإن هذا القليل ليتميز بنبوغ، هو في حد ذاته خاصية من خواص القوى الابتكارية التي من أسمى نوع.
في أولى أيام أيسخولوس، كان منافسوه خويريلوس
Choerilus
وبراتيناس
وفرونيخوس
يحظون بقبول أعظم مما يلقاه هو من الرأي العام، ولم يحظ بأول فوز له إلا بعد جهد دام خمسة عشر عاما، وبعد أن اضطر هذا الشاعر التراجيدي الأول لمدينة أثينا، إلى أن يتبارى مع منافسيه في نفس المجالات التي تخصصوا فيها. وإن فرونيخوس هو الذي أدرك الإمكانيات التراجيدية للموضوعات المستقاة من التاريخ المعاصر، الذي قد تكون أشجانه دورا يقابل سقوط طروادة، وهو الذي صور الاستيلاء على ميليتوس
Miletus
كأمر متوقع يساعده على وضع مسرحية من كارثة الفرس التي حدثت قبل بداية تلك المسرحية، وقبل المنظر المخصص للشرق. وقد تناول أيسخولوس هذا الموضوع بنظرة سيكولوجية عميقة، وبأثر إخباري أكثر، وقوة أعظم لتصوير روح أمة بأسرها. ومن المحتمل جدا أن يكون فرونيخوس قد سبقه في تناول أسطورة الدانائيات
Danaïds . «شاعر وارث لشاعر، كما في حالتك الآن.»
تتكون أهم تجديدات أيسخولوس الشكلية في دور الكوروس، وقبل كل شيء آخر، في إضافة الممثل الثاني. فإن زيادة ممثل آخر على الممثل الواحد لدى ثيسبيس، قد جعلت أيسخولوس المؤسس الحقيقي للدراما؛ إذ جعل بالإمكان تنازع الإرادات المتعارضة، وحول الفعل إلى شخصيات أكثر كمالا، وأضاف تقدما جوهريا في الفعل الدرامي. فأصبح في المشهد الواحد ثلاثة أشخاص (من بينهم متعهد الكوروس) متكلمين. أما في المسرحيات الأبسط فترجح كفة عنصر الكوروس على كفة العنصر الدرامي. والكوروس هو العنصر الرئيسي في مسرحية «المتضرعات»، كما هو أيضا، إلى حد ما، في «الفرس» فغدا الكوروس عاملا حيويا في الاقتصاد الدرامي، في «الأوريستيا». ولا تزال مسرحية «المتضرعات»، تراجيدية عتيقة «مقمطة بثياب عهد الرضاع»، بينما نرى «الأوريستيا» تراجيدية كاملة النضج ... لم يتردد ذلك الشاعر، في شيخوخته، في الاعتراف بأهمية إضافة الممثل الثالث التي ابتكرها سوفوكليس الجريء في أول قفزة له نحو الشهرة. فقال، وهو في السبعين من عمره وكان لا يزال لين الطباع: «إنه لمن الممتع للعجوز أن يتعلم.» وقد حسنت أعماله الأخيرة أعماله المبكرة. وإن حياته لسجل للتقدم المطرد للموهبة الشعرية التي توحي بها عبقرية من أعلى طراز، وذلك، على الأقل، في محيط الصنعة المسرحية. ويمكن مقارنة ذلك التقدم بتقدم أعظم كتاب المسرحيات الإنجليز الذين كانت أعمالهم الأولى إعادة صقل أعمال غيرهم من كتاب المسرحيات.
كان المصدر الرئيسي لقصص أيسخولوس، الخزانة العظمي لشعر البطولة، وتضم كمية ضخمة من شعر الأبطال. وكان في حياته على صلة بمؤلف الإلياذة
Iliad
والأوديسة
Odyssey - وهاتان منظومتان، مادتهما أساطير العصور القديمة بعد أن هذبها ذوق الشعراء المنشدين المتجولين، وزاد فنهم في طولها، متقربين إلى الميول الشعبية، وملتمسين قدسية الأشعار من وجود آلهة المعتقدات القومية والنماذج البشرية المعتبرة مثلا عليا لأمتهم ... عاش أيسخولوس في دنيا البطولة تلك كما يعيش الكاتب المسرحي الحديث في دنيا عصره وجيله. جاء هوميروس إلى أثينا بعزيمة جديدة منذ أن تقرر تلاوة أشعاره في العيد البان أثيني، الذي كان يقيمه أو يحييه بيزيستراتوس ... اجتاح طرق التفكير في العصور القديمة تيار من شعر الأبطال، معظمه أساطير أيونية
lonic ، محاذيا اتساع أفق الخيال إذ ذاك، فكان أيسخولوس، هو وبندار، أول من لاحظ إمكانيات جديدة للفن الشعري، يمكن أن تشع روحا جديدة على ذلك العصر. فواجهت قيود الحياة الناشئة عن العادات والقانون والدين، في قوم معظمهم من الزراع؛ بخيال أقاربهم غير المحدود، في الجانب الآخر من بحر إيجة. فأثار هوميروس، قبل غيره من الشعراء المسنين، نشاط عقل أيسخولوس ... قيض لأساطير شاعر البطولة القومي المليء بالروح الأتيكية الحديثة المولد، ولم تعكر صفوه، بعد، روح النقد ولا روح السخرية الناشئتان عن تطور الفكر الموضوعي في عصر يوريبيديس، قيض لها أن تصير وسيلة لخلق عالم يشرف فيه الرب على شئون البشر ويديرها. كانت الأساطير المقتبسة من هوميروس لحمة وسداة نسيج مؤلفات أيسخولوس؛ ولم تكن، كما هي الحال في بندار، عنصرا مساعدا استخدم لأغراض التوضيح والزخرف استعمل أيسخولوس الأسطورة للتعليم والتهذيب والرقي، فلقيت ترحيبا واسعا في قالبها التراجيدي لدى الرأي العام كالذي لقيه شعر البطولة، وأوسع مما لقي الشعر الشجوي أو أشعار الكوروس الغنائية. وتتخلل روح البطولة طريقة أيسخولوس في تناول موضوعاته. فلديه اتساع بطولي ونشاط بطولي وتصوير بطولي. ولكن ذلك كله لا يشير إلى أي عنصر آخر غير مادة البطولة التي يقرر أيسخولوس، وهو مدرك أنه مدين لملك الشعراء المنشدين، بأن مسرحياته ليست سوى لقيمات من مائدة هوميروس العظيمة، كما لو كان أحد الأبطال الذين خصصت لهم بعض فتات الطعام، تبعا للخيال السائد وقتذاك. والحقيقة أن أيسخولوس قد منح الدراما طابعها التراجيدي، بأن فتح أمامها مجال شعر الأبطال.
مما يميز أيسخولوس عن غيره من شعراء عصره، أنه رأى في قصص البطولة موضوعات بطولية تصلح للفن التراجيدي. فرسم أساطير مختارة من الدوائر الطروادية والأرجوسية والطيبية، ومصادرها في الإلياذة والأوديسة، ومن دائرة شعر البطولة في هسيود.
16
وتأثر، في بعض الأحيان بتعديلاتها على يد ناظمي شعر الكوروس الغنائي، وخصوصا ستيسيخوروس
Stesichorus . ويبدو أن سابقي أيسخولوس لم يميلوا إلى الأساطير المأخوذة من قصة أخيل
Achilles
17
وأوديسيوس
Odysseus ،
18
بينما كان سوفوكليس أكثر منه اعتمادا على الإلياذة والأوديسة.
تتصل مسرحية «الكاريون
Carians » أو «أوروبا
Europe » بالحرب الطروادية التي تناولت قصة ساربيدون
Sarpedon
ابن زوس الذي قتله باتروكلوس
في المعركة، وتكون «المورميدون
Myrmidons » و«النيريديات
Nereids » و«افتداء هكتور
Hector » مجموعة ثلاثية مواضيعها موت باتروكلوس
،
19
وصنع عدة حربية جديدة لأخيل، ومقتل هكتور،
20
ومجيء بريام
21
للحصول على جثة ابنه. والشخص الرئيسي في كل هذه المسرحيات هو بطل الإلياذة، الذي تسابق أيسخولوس مع هوميروس، فرأى فيه شخصية تراجيدية حقيقية. وفي مسرحية «وزن الأرواح
»، ظهر زوس
Zeus
22
نفسه على خشبة المسرح ممسكا بميزان، من فوق، في إحدى كفتيه روح أخيل وفي الكفة الأخرى روح ميمنون
Memnon
23 (ولم يحدث قط في هوميروس أن وقعت عين إنسان على زوس)، بينما ترجو كل من ثيتيس
Thetis
24
وأورورا
Aurora
25
عطف زوس من أجل ابنها. أما «صعود الأرواح
» و«بنيلوبي
» و«جامعو العظام
Ostologoi » و«كيركي
Circe » فتتناول استدعاء الأرواح من هاديس
Hades
26
بواسطة تايريسياس
Teiresias ،
27
ومغامرات أوديسيوس، وموته. ووجدت موضوعات طروادية أخرى مكانا في مسرحية «الموسيانيون والتليفوس
Mysians and the Telephus » وفي «بالاميديس
» وفي «فيلوقراطيس
».
تحتل أساطير أرجوس
Argos
مكانا بالغ الأهمية في المؤلفات الباقية. فأولا؛ توجد مجموعتان رباعيتان، تتكون إحداهما من «المتضرعات» و«المصريون» و«الدانائيات» لما قبل التاريخ، مع المسرحية الساتورية «أموموني
Amymone »؛ وتتكون الأخرى من «أجاممنون» و«حاملات القرابين » و«يومينيديس»، مع المسرحية الساتورية «بروتيوس
». كذلك لمسرحيتي «بروميثيوس» و«السبعة ضد طيبة» علاقة بأرجوس. كما توجد مجموعة تتناول قصة بيرسيوس
، وتتكون من «نيميا
Nemea » و«الأرجوسيون
Argives » و«الإليوسينيون
Eleusinians » و«ساحبو الشبكة
Net-Draggers » و«السيريفيون
Seriphians » و«فوركيديس
».
توجد أساطير طيبة في الأوديبية («لايوس
Laius » و«أوديبوس
Oedipus » و«السبعة ضد طيبة» و«سفنكس
Sphinx »)، وفي ثلاث تراجيديات تتناول موضوعات تتعلق بطقوس عبادة ديونيسوس العربيدية. وكانت أهم هذه المسرحيات، هي: اللوكورجية
Lycurgea ، وتتكون من «إدنوي
Ednoi » و«باساراي
Bassarae » و«نيانيسكوي
Neaniskoi » و«لوكورجوس
Lucurgus »؛ وتتناول القتال (وربما الصلح) من أجل ديانة أبولو - ديونيسوس، وديانة أبولو - هيليوس، وبطلها أورفيوس
Orpheus . وهذه تشبه في موضوعها مسرحيات: «مربيات ديونيسوس
Nurses of Diongsus » و«الباكخانتيس
Bacchants » و«كسانترياي
Xantriae » و«بنثيوس
» و«سيميلي
Semele » و«ألكميني
Alcmene ». وكذلك «الهرقليداي
Heracleidae » من الدائرة الطيبية.
تتناول موضوعات أسطورية أخرى قصة بحارة سفينة الأرجو
Argonauts ،
28
وأجاكس
Ajax ،
29
والمباراة من أجل أسلحة أخيل، وصيد الخنزير الكالودوني
Calydonian Boar Hunt
وأوريثويا
Oreithyia
ونيوبي
Niobe ، وغير هذه ... جمع أيسخولوس الأساطير الموجودة في عصره من مناطق خارج أتيكا، من أفواه الناس، وحاكها في «نساء إتنا» و«جلاوكوس البحري
Glaucus of the Sea ». وأكثر ما يميز هذا الشاعر عن لاحقيه، تفضيله الأساطير قبل الهيلينية ولا سيما للموضوعات فوق البشرية، فانجذب بدرجة عجيبة إلى قصة ولادة ديونيسوس ومجيء عبادته إلى تراقية وطيبة. وما كان لخياله أن يسرح إلا في مملكة الضخم والعجيب والمدهش - في «بروميثيوس» وبطلها أحد التيتان، وفي «صعود الأرواح»، وفي «وزن الأرواح» وفي «العذراوات النبالات
Toxotides ». وصور الإثم والعقاب في «أكتايون
Actaeon »، وصور الهاربيات
Harpies
30
يلوثن طعام البطل في «فينيوس
»، وصور فايثون
31
في «الهلياديس
Heliades » يسوق جياد رب الشمس إلى هلاكها. ولم يتورع هذا الشاعر في «كسانترياي
Xantriae » عن أن يقدم ملكة السماء في زي كاهنة. ويبدو أنه كان مولعا بمخلوقات البحر، مثل: جلاوكوس، وبنات أوقيان
Ocean ، وبنات فوركوس
. لم يقنع أيسخولوس بالأرض مكانا للفعل التراجيدي، فجعل مشهد «وزن الأرواح» في أوليمبوس، ومشهد «سيسوفوس
Sisyphus » في هاديس. كثيرا ما قيد لاحقوه ظهور الآلهة وقصروه على عالم البشر.
يبدو أن أشهر المسرحيات التي عثر عليها كسرا ولا تتصل بالمسرحيات الباقية هي: «أوروبا»، والمجموعة الثلاثية المكونة من «المورميدون» و«النيريديات » و«افتداء هكتور» و«اللوكورجيا» و«فيلوقراطيس»، و«وزن الأرواح» و«نيوبي».
عرضت مسرحية «الفرس» في سنة 472ق.م. والسبعة ضد طيبة في سنة 467ق.م. و«الأوريستيا» في سنة 458ق.م. ولأسباب داخلية يمكن وضع مسرحية «العذراوات المتضرعات
Suppliant Maidens » قبل أول انتصار لهذا الشاعر (في سنة 484ق.م.) و«بروميثيوس» إما بين «الفرس» و«السبعة ضد طيبة» أو بين «السبعة ضد طيبة» و«الأوريستيا».
حاملات القرابين
(عن اليونانية القديمة)
ملخص المسرحية
بعد أن قتلت الملكة كلوتايمسترا زوجها أجاممنون، اعتلت هي ومعشوقها أيجيسثوس عرش أرجوس
Argos . بيد أن روح سيدها المقتول كانت غاضبة، فأرسلت إليها حلما مفزعا ليزعج روحها في نومها. رأت الملكة، فيما يرى النائم، أنها ولدت أفعى وأرضعتها كما لو كانت طفلا. غير أن تلك المخلوقة المهلكة كانت ترضع مع لبن الأم دما متخثرا من ثديها. فاستيقظت من نومها وهي تصرخ ملتاعة. ولما فسر عرافو البيت هذه الرؤيا بأنها علامة على غضب القوى السفلى، أمرت الملكة ابنتها إلكترا وخادماتها بأن يحملن القرابين إلى قبر أجاممنون، عسى أن تصالح روحه الغاضبة.
كانت الأميرة إلكترا تعيش في القصر، ولكنها ما كانت تعامل أكثر من معاملة الإماء. وقبل مقتل أجاممنون، أرسل شقيقها الأمير أوريستيس ليقيم مع عمه ستروفيوس
Strophius
في مملكة فوكيس
البعيدة، حيث كبر وترعرع وبلغ مبالغ الرجولة. وفي نفس ذلك اليوم الذي أرادت فيه والدته أن تدرأ عنها شر طالع ذلك الحلم، صحب أوريستيس ابن عمه بولاديس وذهب إلى أرجوس ليثأر لقتل والده.
وضع أوريستيس خصلة من شعره فوق قبر أجاممنون. فلما أبصرتها إلكترا تأكدت بأنها تقدمة للموتى لم يقدمها أحد سوى أخيها، أما أوريستيس فتعرف على أخته بثياب الحداد التي كانت ترتديها. بيد أنها لم تتأكد منه إلا بعد أن ترى أدلة أخرى معززة بالعلامات أو بالتذكارات.
أعلن أوريستيس أن الآلهة أوفدته لغرض الانتقام. فقد أمره الرب أبولو
Apollo
1
نفسه، بعد أن هدده بأنه إذا لم يطع أمره فسيبعث إليه بإرينويس
Erinyes
2
والده (ربات الانتقام) لتهاجمه، ويطرد ملعونا من مساكن البشر ومن مذابح الآلهة، إلى أن يهلك سقيم العقل والجسم.
اجتمع الأخ وأخته عند قبر أبيهما. يساعدهما كوروس صديق يعرض عليهما معونته في قضيتهما العادلة. فتنكر أوريستيس وبولاديس في زي السياح الفوكيين، وذهبا إلى كلوتايمسترا، فرحبت بهما وأكرمتهما بعد أن أخبراها بأن ابنها قد مات. فأرسلت الملكة مربية أوريستيس العجوز لتستدعي أيجيسثوس من الخارج بأن يأتي إليها مع حرسه الخاص. فأوعز إليها الكوروس بتحريف رسالتها بأن تطلب منه الحضور في غير ما حراسة. فلما جاء قتل وقتلت كلوتايمسترا بعده مباشرة، وقد أصم ابنها أذنيه عن توسلاتها لكي يرحمها.
قدم أوريستيس الثوب الملوث بالدماء، الذي «تعثر» فيه والده عند مصرعه، كدليل على عدالة فعلته. بيد أن عقله بدأ يشرد، إذ ظهرت أمام بصره إرينويس أمه، دون أن يراها أحد غيره؛ ولذا اندفع خارجا مبتعدا عن مسرح القتل.
شخصيات المسرحية
أوريستيس
Orestes .
كوروس من الإماء.
إلكترا
Electra .
خادم.
كلوتايمسترا
Clytaemestra .
بولاديس
.
مربية.
أيجيسثوس
Aegisthus .
المنظر:
أرجوس.
الزمن:
عصر الأبطال.
التاريخ:
سنة 458ق.م. بمدينة ديونيسيا. *** (المنظر: قبر أجاممنون، يدخل أوريستيس وبولاديس.)
أوريستيس :
أي هيرميس العالم السفلي. أنت يا من تحرس القوى التي لوالدك.
3
كن مخلصي وحليفي؛ أتوسل إليك الآن إذ أتيت إلى هذه الأرض وأنا عائد من منفاي إلى الوطن. إنني أبكي على هذا القبر المكوم لكي يسمعني والدي، ويعيرني أذنا صاغية ...
ها أنا ذا أحضر خصلة شعر لإناخوس
Inachus ،
4
في مقابل تغذيتي، وها هي خصلة أخرى علامة على حزني.
هذا لأنني لم أكن موجودا، يا أبي، لأبكي على موتك، كما أنني لم أمد يدي إلى جثتك لتحمل وتدفن.
ما هذا الذي أرى؟ هل لي أن أعزو هذا إلى ما حدث؟ أهو حزن جديد حل ببيتنا؟ أو هل أنا مصيب في حدسي بأنهن يحملن هذه القرابين تكريما لوالدي، لمصالحة القوى السفلى؟ لا يمكن أن يكون إلا لهذا الغرض؛ إذ أعتقد أن هذه حقا شقيقتي إلكترا، التي تتقدم هناك ظاهرة من بين سائر الباقيات، في ثياب الحداد المريرة. أي زوس، امنحني أن أنتقم لموت والدي، وأعرف مساعدتك بنعمتك!
فلنقف مفترقين، يا بولاديس، حتى أستطيع أن أعلم يقينا خبر جماعة النساء المتضرعات هذه. (يخرج أوريستيس وبولاديس.) (تدخل إلكترا مع نسوة يحملن القرابين.)
الكوروس :
لما أرسلت من القصر، جئت أحمل القرابين بمصاحبة الضربات النازلة على يدي في جدية وسرعة. وها هو ذا خدي يحمل طابع الجروح الدامية حيث حفرت أظفاري شقوقا جديدة - ومع ذلك، فطوال حياتي قلبي مفعم بالأحزان. رن صوت التمزيق عاليا على نغم اللطمات المحزنة وهي تمزق صديريتي المصنوعة من التيل المنسوج حيث يغطي صدري ثوب مضروب بسبب الحظ، الغريب على كل ضحك.
بينا أنا كذلك إذ بصوت مجلجل أوقف كل شعرة على طرفها. فقد أطلقت القوة الموحية التي تتنبأ لهذا البيت عن طريق الأحلام بصوت الغضب أثناء النوم، أطلقت صرخة فزع وسط سكون الليل البهيم، ارتفعت من أبعد حجرة في الداخل، فوقعت ثقيلة على مقصورة النساء،
5
وقام مفسرو الأحلام الشبيهة بهذا الحلم، ففسروا مشيئة السماء المرتبطة بعهد؛ فقرروا أن من تحت الأرض يشكون في غضب مرير، وأنهم غاضبون ضد القتلة.
ولكي تدرأ شر هذه البركة غير المباركة (وا أماه الأرض!) أرسلتني تلك التي لا آلهة لها. غير أنني أخاف أن أنطق بالألفاظ التي أمرتني بأن أقولها؛ إذ أي تكفير هنا للدم إذا ما أريق على الأرض؟ أواه، يا وطيس الحزن الشديد! أواه، أيها البيت الواقع في الدمار! تلف البيت الآن ظلمة لا تنيرها الشمس، ويمقتها البشر، إذ قتل سيد هذا البيت.
ليس بمكنة أي فرد أن يتخيل رهبة عظمتك، ولا أحد يستطيع مقاومتها، ولا بمقدور أي مخلوق أن يلطف من حدتها، تلك التي اخترقت آذان الجميع وقلوبهم، قد أطلقت الآن، بيد أن البشر يحسون بالخوف. لأن النجاح يبدو في عيون الناس إلها بل وأكثر من إله. ولكن ميزان العدالة المتزن ساهر على المراقبة؛ فيسقط بسرعة على بعض الذين لا يزالون واقفين في الضوء؛ وأحيانا تنتظر الأحزان المتلكئة في شفق جوار الحياة، ويلف البعض ليل واهن.
وإذ شربت الأرض المغذية، كفايتها من الدم، بقيت الدماء المنتقمة متخثرة ولن تذوب. تجتاح الكارثة روح الرجل المذنب وتشرد ذهنه حتى ليغرق في البؤس التام والكامل.
لا علاج لمن يعتدي على مخدع العروس. فرغم سريان جميع المجاري في تيار واحد لتطهير الدم من يد ملوثة، فإنها تسرع في طريقها بغير فائدة.
أما أنا، فبما أن الآلهة أحاطت مدينتي بمصير محتوم (إذ ساقوني بعد بيت أبي إلى مصير الرق) يهدف، ضد إرادتي، إلى قهر عداوتي المريرة ويستسلم إلى نصح سادتي - سواء أكان ذلك النصح عادلا أو غير عادل. ومع ذلك، فمن وراء خماري، وقد تجمد قلبي من الحزن الدفين، أبكي أفعال سيدي الخبيثة.
إلكترا :
أيتها العذراوات اللواتي تأمرن، بعدل، بهموم هذه الأسرة، بما أنكن حاضرات هنا للإشراف علي في طقوس التضرع هذه، فأسدين إلي نصيحتكن فيما يختص بهذا الأمر: ماذا أقول وأنا أسكب تقدمات الحزن هذه؟ كيف لي أن أجد ألفاظا مباركة، وكيف أنطق بالصلاة إلى أبي؟ هل أقول إنني أحضرت هذه القرابين إلى زوج محبوب، من زوجة محبة - من تلك التي هي والدتي؟ - لست أملك الدليل الأكيد على هذا، ولا أعرف الألفاظ التي يجب أن أقولها وأنا أصب هذه السكيبة على قبر والدي. أو هل أقول الكلام، الذي اعتاد الرجال أن يقولوه. حتى يعود بالخير على من أرسل هذه القرابين الجنائزية - وهي، في الحقيقة، هدية تعادل شرهم؟
6
أو هل أتقدم، في سكون وعدم احترام، بنفس الطريقة التي هلك بها والدي، لأسكبها على الأرض لتشربها، ثم أعود أدراجي، كمن تحمل فضلات الطقوس، فأطوح بالآنية بعينين مبتعدتين؟
هيا، يا صديقاتي، وكن الزميلات الناصحات لي؛ إذ نشترك جميعا في العداوة التي نكنها في داخل البيت. لا تكتمن النصح في قلوبكن خوفا من أي فرد، فإن ساعة المصير تنتظر كلا من الحر ومن صار عبدا بقوة غيره، على حد سواء. فإذا كانت لديكن وسيلة أفضل فتكلمن!
الكوروس :
احتراما لقبر والدك، كما لو كان مذبحا، سأنطق بما يساور أفكاري الداخلية، طالما قد أمرتني بذلك.
إلكترا :
تكلمي كما لو كان عندك احترام لقبر والدي.
الكوروس :
تكلمي بألفاظ مليئة بالخير للقلوب المخلصة ، وأنت تسكبين.
إلكترا :
وأذكر اسم من من بين هؤلاء القريبين مني؟
الكوروس :
اسمك أولا، ثم اسم كل من يمقت أيجيسثوس.
إلكترا :
إذن فهل أقول هذه الصلاة لنفسي ثم لك أيضا؟
الكوروس :
الأمر موكول إليك، فاستخدمي حكمك. هيا قرري بنفسك.
إلكترا :
من غيرنا، إذن، لأضيفه إلى جماعتنا؟
الكوروس :
لا تنسي أوريستيس، رغم كونه لا يزال بعيدا عن وطنه.
إلكترا :
حسنا قلت! لقد نصحتني خير نصح.
الكوروس :
والآن من أجل القتلة المذنبين، بفكر منتبه ...
إلكترا :
بم أصلي؟ علميني، اذكري لي الصيغة.
الكوروس :
أن ينزل عليهما شخص ما، إله أو إنسان ...
إلكترا :
أتقصدين أن ينزل حكما أو منتقما؟
الكوروس :
قولي في عبارات بسيطة: «من يأخذ روحا نظير روح».
إلكترا :
وهل هذا شيء عادل يحق لي أن أطلبه من السماء؟
الكوروس :
عادل؟ وكيف لا يكون عادلا؟ أن تجازي العدو شرا بشر!
إلكترا :
أيها الرسول الأعظم بين العالم العلوي والعالم السفلي، يا هيرميس العالم السفلي، هيا إلى معونتي، واستدع لي الأرواح التي تحت الأرض كي تصغي إلى صلاتي، الأرواح التي تسهر على مراقبة منزل والدي. نعم، والأرض نفسها، التي ولدت جميع الأشياء، وإذ قامت بتغذيتهم وتربيتهم، فهي تنال الزيادة في مقابل ذلك. وهل، وأنا أصب هذه القرابين المطهرة للموتى، أتوسل إلى والدي، فأقول صلاتي هكذا: «رحماك بي، أنا وعزيزي أوريستيس! كيف نكون سادة في أملاكنا؟ إذ نحن مشردون الآن كما لو كانت قد باعتنا بالمقايضة، تلك التي ولدتنا، تلك التي اشترت بنا أيجيسثوس رفيقها، ذلك الذي كان زميلها في قتلك. أما عن نفسي فلست خيرا من عبدة، وأما عن أوريستيس، فهو منبوذ مطرود من أملاكه، بينما ينعمان في شجاعة ووقاحة زهوهما، بما ربحته بكدك. وهل لأوريستيس أن يعود إلى الوطن - وبحظ سعيد! هذه صلاتي لك، فاستمع إليها، يا والدي. وأما لنفسي فامنحني أن أبرهن في قلبي على عفة أكثر، أكثر بكثير من والدتي، وعلى يد أكثر براءة.
أرجو بهذه التوسلات عن أنفسنا. أما من أجل أعدائنا، أن يظهر من يثأر لك، يا والدي، وأن يقتل قاتليك جزاء وفاقا. (هكذا أتوقف في صلاتي للخير، من أجل الذين ينطقون بها للشر)، ولكن كن لنا جالب النعم إلى العالم العلوي بمعونة الآلهة والأرض والعدالة المتوجة بالنصر.» (تصب السكائب.)
هذه هي صلاتي، وأصب فوقها هذه السكائب. ومن واجبكن أن تتوجنها بزهور النحيب، رافعات أصواتكن بأنشودة للموتى.
الكوروس :
اذرفي دموعك منتحبة من أجل سيدنا الصريع. ولتصحب هذه الوقاية من الشر - وهذا يعني أن تبعد عن الأخيار التلوث المقيت للقرابين المسكوبة.
7
أصغ إلي، أصغ إلي، يا سيدي العظيم! بروحك التي يلفها الظلام.
8
الويل، الويل، الويل! يا لرجل قوي برمح ينقذ هذا البيت، رجل ماهر في فنون الحرب، يشهر القوس في معمعان المعركة السكوثية
Scythian ، ويستخدم سيفه ذا المقبض في اشتباك قريب! (بعد آخر عبارات الكوروس، تكتشف إلكترا خصلة الشعر.)
إلكترا :
ها قد تسلم والدي السكائب التي شربتها الأرض، ولكن ها هي أخبار محيرة! اشتركن معي فيها.
الكوروس :
تكلمي - ومع ذلك، فإن قلبي يرقص خوفا.
إلكترا :
أرى خصلة شعر هنا، تقدمة قصت لأجل القبر.
الكوروس :
خصلة من يمكن أن تكون هذه - أهي لرجل ما، أو لفتاة مشدودة الزنار؟
إلكترا :
هذا سهل التخمين؛ فبوسع أي فرد أن يخمن.
الكوروس :
وكيف إذن؟ فلتتعلم شيخوختي من شبابك.
إلكترا :
ما من أحد يمكن أن يقصها غير ... نفسي.
الكوروس :
نعم، إذ الأعداء هم الأولى بأن يقدموا مثل هذه التقدمة المحزنة من شعرهم.
إلكترا :
وزيادة على ذلك، فلو نظرنا إليها، فهي تشبه تماما ...
الكوروس :
خصلات شعر من؟ هذا ما أرجو معرفته.
إلكترا :
شعرنا - نعم، تشبهه جدا، إذا ما نظرنا إليها.
الكوروس :
أيمكن أن يكون أوريستيس هو الذي قدمها هنا سرا؟
إلكترا :
تشبه هذه الخصلة خصلات شعره المتموجة، أكثر من أي شعر آخر.
الكوروس :
ولكن كيف تجاسر على المجيء إلى هنا؟
إلكترا :
لا بد أنه أرسل خصلته بعد أن قصها ليكرم بها والده.
الكوروس :
إن في ألفاظك لسببا أعظم للدموع، إذا لم يطأ بقدمه هذه الأرض بعد ذلك.
إلكترا :
إن موجة من المرارة لتجتاح قلبي أيضا، وقد ضربت كما لو طعنت بسيف فاخترق جسمي مرة ومرة. تنحدر من عيني قطرات ظمأى، من فيضان عاصف. تنحدر من تلقاء نفسها لا يمنعها مانع عند مرأى هذه الخصلات. إذ، كيف لي أن أتوقع العثور على شخص آخر، رجل من المدينة تكون له هذه الخصلة؟ والحقيقة أنها لم تقصها من رأسها - تلك القاتلة، والدتي، التي اتخذت لنفسها إزاء أولادها روحا لا آلهة لها، تلك التي منحت بغير حق اسم الأم. أما من جهتي، فكيف لي أن أرضى بهذا الحق على الفور - فهل كانت تزين رأس ذلك الأعز على نفسي، في العالم كله، أوريستيس؟ كلا، فالأمل إنما يتملقني.
ويحي! آه لو كانت ذات صوت رقيق كأنها رسول يخبرني، حتى لا تتقاذفني الهواجس - بل تأمرني في وضوح بأن أطرح هذه الخصلة بعيدا لو كانت مقطوعة من رأس ممقوت؛ أو إذا كانت لقريب لي، فلتشاركني حزني، فإن تزيين هذا القبر جزية لوالدي.
يبدو أن السماء التي نتوسل إليها تعرف أية تيارات تدفعنا كالرجال في البحر. ومع ذلك، فلو قدر لنا النجاة، فمن بذرة صغيرة قد تنمو مادة عاتية.
انظرن! ما هذا؟ هنا أثر - دليل ثان - أثر أقدام، كل منها مطابق للآخر - وتشبه آثار أقدامي! لأن هنا نوعين من آثار الأقدام. آثار أقدامه، وآثار أقدام رفيق له. تتفق الأعقاب والأمشاط في نسبها مع آثار أقدامي. إنني أقاسي عذابا وذهني في دوامة! (يدخل أوريستيس.)
أوريستيس :
أعلني إلى السماء استجابة طلباتك وصلواتك، وصلي لكي يحالفك النجاح في المستقبل.
إلكترا :
كيف هذا؟ من أين نلت النجاح بنعمة السماء!
أوريستيس :
لقد أبصرت من ظللت مدة طويلة تطلبين رؤيته.
إلكترا :
ومن من الرجال تعرف أنني كنت أطلب؟
أوريستيس :
أعرف أنك تحبين أوريستيس حبا جما.
إلكترا :
وأين، إذن، وجدت استجابة صلاتي؟
أوريستيس :
ها أنا ذا. لا تبحثي عن صديق أقرب مني.
إلكترا :
كلا، ومن المؤكد، يا سيدي، أنك تنصب لي شركا ما.
أوريستيس :
إذا كان الأمر كذلك، فأنا أحيك المكائد لنفسي.
إلكترا :
كلا، بل إنك تتوق إلى السخرية من مصائبي.
أوريستيس :
لو سخرت من مصائبك حقا، فإنما أنا أسخر من مصائبي أيضا.
إلكترا :
إذن فهل أنا أخاطبك كما لو كنت أوريستيس حقا؟
أوريستيس :
كلا، فحتى إن رأيت في نفس شخصه، فأنت بطيئة المعرفة، ومع ذلك، فمنذ أن رأيت خصلة الحداد المقصوصة هذه، وفحصت آثار الأقدام، اتخذت أفكارك أجنحة السرعة لتدرك أنني هو من ترين. أعيدي خصلة الشعر إلى الموضع الذي قصت منه - خصلة شعر شقيقك. ولاحظي كيف تتفق وشعر رأسي. ثم انظري قطعة المنسوج هذه التي نسجتها يداك، ذات الخطوط المستعرضة والمزخرفة بصور الحيوانات. تمالكي نفسك! لا يذهلنك الفرح! لأني أعلم أن أقرب أقربائنا أعداء لكلينا.
إلكترا :
أواه، يا أعظم محبوب من بيت والدك، وأمل ذلك البيت في البذرة المنقذة، والمشتاق إليه بالدموع. ثق بجرأتك تحظ ثانية ببيت والدك. إن وجودك المحبوب لينال أربعة أجزاء من حبي؛ إذ يجب علي أن أدعوك أبا، ولك الحب الذي كان يجب أن أكنه لأمي - تلك التي أمقتها بحق أكثر من كل من سواها - والمحبة التي كنت أحملها لأختي، التي راحت ضحية ذبيحة معدومة الرحمة، وكأخ كنت الحائز على ثقتي، والفائز باحترامي دائما، أنت وحدك. هل ل «القوة» و«العدالة» و«زوس» الثالث
9
السامي فوق الجميع، أن يعيروك مساعدتهم!
أوريستيس :
أي زوس، أي زوس، انظر إلى قضيتنا! انظر إلى ذرية يتمت لأب نسر هلك وسط فتحات شبكة - نعم في حبائل - أفعى جبارة عاتية. إنهم يتموا تمام اليتم، وقبض عليهم قحط الجوع؛ لأنهم لم يبلغوا بعد في نموهم مبلغ القوة الكاملة التي تمكنهم من إحضار بغية أبيهم إلى العش. فهكذا تراني، أنا وإلكترا المسكينة، هنا - طفلين فقدا أباهما، طريدين من بيتنا، على حد سواء. فإذا أهلكت هذه الذرية التي لأب قدم لك الذبائح، وقام بأسمى فروض العبادة، فمن يد من مثل يده تتسلم طاعة الولائم الفاخرة؟ إذا أهلكت نسل ذلك النسر، فلا ترسل منذ الآن علامات تصدقها البشرية؛ وإذا ذبلت هذه الذرية الملكية، فلن تفيد مذابحك في أيام ذبائح الثيران. تبن هذه الذرية، ترفع بيتا من دركات الحضيض إلى أسمى درجات الرفعة والسؤدد، رغم كونه يبدو الآن مندثرا تمام الاندثار.
الكوروس :
أيها الطفلان، يا منقذا وطيس أبيكما؛ لا تتكلما بصوت عال هكذا، يا هذان الطفلان العزيزان، لئلا يسمعكما شخص ما، ولمجرد الرغبة في الكلام، ينقل كل حديثكما لسيدينا، عساني أراهما يوما ما ميتين وسط دخان اللهب القاتم!
أوريستيس :
من المؤكد أن الوحي العظيم القوة، وحي لوكسياس
Loxias ، لن يتخلى عني؛ إذ كلفني بالمضي في هذا الخطر إلى النهاية، وقد أعلن في صوت جهوري، عقابا تتجمد لهوله دماء قلبي الدافئة؛ إن لم أنتقم لوالدي من الآثمين، وأمرني، أنا الثائر لفقد أملاكي،
10
بأن أقتلهما كما قتلا. وقرر أني إن لم أفعل ذلك سددت الدين بحياتي وبكثير من الآلات المحزنة. لأنه تكلم مبينا للبشر غضب القوى الخبيثة بعالم ما تحت الأرض، وذاكرا أوبئة طاعونية وقروحا جذامية تعلو فوق لحم الناس بمخالب وحشية فتأكل مادته الأولية، وكيف يتدفق من هذا المرض زغب أبيض.
11
كما ذكر هجمات أخرى للأرواح المنتقمة، على أن تنحدر من دم الأب إلى ذريته؛ لأن صاعقة قوى الجحيم الداجية، الذين أثارتهم الضحايا المقتولة من جنس الأقارب تطلب الثأر، وتخرج المخاوف التي لا أساس لها والجنون، من الليل فتعذب وتربك الإنسان الذي يرى بوضوح، ولو أنه يحرك حاجبيه في الظلام،
12
حتى يغدو جسمه مشوها بفعل السياط النحاسية، ويطارد حتى ولو كان منفيا عن وطنه. قرر الإله ألا يسمح لمذنب كهذا بأن يشترك في طاس الوليمة ولا في الشراب المبهج، ويحول غضب والده بينه وبين المذبح، رغم كونه
13
غير مرئي؛ كما لا يستقبله أي إنسان أو يعيش معه. وأخيرا بعد أن يحتقره الجميع ولا يجد صديقا، يهلك بميتة شنيعة تذيب جسمه تماما.
أيجب ألا أثق في أي وحي من هذا النوع؟ كلا، فحتى إذا كنت لا أثق فيه فإن الفعلة لا بد أن تتم؛ إذ تتآمر عدة بواعث لغرض واحد. فعلاوة على تكليف الرب هذا، وحزني الشديد على والدي، وألم الفقر - حتى إن مواطني الذين هم أشهر البشر جميعا، الذين استولوا على طروادة بروح جريئة لا يجب أن يكونوا رهن إشارة جماعة من النساء؛ لأنه في قرارة نفسه ليس سوى امرأة، وإن لم يكن كذلك فسرعان ما يضع نفسه موضع الاختبار.
الكوروس :
أيتها الأقدار الجبارة، امنحن، عن طريق قوة زوس، إتمام السداد، حتى إذا ما دارت العدالة، فإنها تصيح بصوت جهوري وهي تحصل الدين، وتنطق كلمة بغضاء ردا على كلمة بغضاء، وتدفع ضربة قاتلة في مقابل ضربة قاتلة أخرى. ويقول الأمر العجوز، ثلاث مرات: «من يفعل فسيفعل معه بنفس ما فعل.»
أوريستيس :
أي أبتاه، يا والدي التعيس، بأية كلمة، أو بأي فعل يمكنني الطيران إليك من بعيد حيث يحمل لك مكان راحتك نورا يتعارض مع ظلامك؟ ومع ذلك، فإن بكاء جنائزيا يخلد ذكرى الأتريداي
Atreidae
14
الذين كانوا يملكون هذا البيت من قبل، لأحد الطقوس المبهجة.
الكوروس :
يا بني، لا يرتاح ضمير الموتى بفك النار الجائعة، ولكنه، فيما بعد، يتهم من أقلقه. للرجل الميت مرثاته لإظهار الرجل المذنب؛ فالبكاء ذو السبب العادل من أجل الآباء ومن أجل الوالدين، إذا ما ارتفع عاليا وقويا، أدار البحث في كل جهة.
إلكترا :
إذن، فاسمع يا والدي، إذ نبكي بدورنا بدموع غزيرة. إنهما طفلاك كلاهما، اللذان يبكيانك بمرثاة فوق قبرك. لقد لجآ إلى مدفنك كمتوسلين وكمنفيين. ماذا يوجد هنا من الخير، وماذا يخلو من السوء؟ أليس من العبث أن نناضل ضد القدر؟
الكوروس :
ومع ذلك، فإذا شاءت السماء حولت بكاءنا إلى أصوات ذات نغمة أكثر بهجة. وبدلا من المرثاة فوق القبر، سترحب أنشودة نصر في داخل الأبهاء بجمع شمل الصديق.
15
أوريستيس :
آه يا والدي، لو كنت قتلت تحت أسوار إيليوم
Ilium
مجروحا برمح لوكياني
Lycian ! إذن، لتركت شهرة عظيمة لأولادك في أبهائهم، ولأثرت إعجاب الناس بحياتهم في مسيرهم، ولوجدت قبرا في أرض وراء البحر، مرتفعا عاليا بالتراب المكوم، ولما تركت عبئا ثقيلا ينوء بحمله بيتك.
الكوروس :
ولرحب بك زملاؤك الذين نالوا شرف القتل، بصفتك حاكما بالغ العظمة، ومبرزا تحت الأرض، ووزيرا للأقوى؛ للآلهة التي تحكم هناك في العالم السفلي،
16
إذ كنت في حياتك ملكا عليهم، على أولئك الذين يحكمون بالموت
17
ويمسكون العصا التي يطيعها الجميع.
إلكترا :
كلا، ما كنت أريدك أن تسقط، يا أبي، تحت أسوار طروادة ويكون قبرك بجانب نهر سكاماندر
Scamander ،
18
وسط الأقوام الآخرين الذين ماتوا بالرمح. بل أفضل أن يقتل قاتلاك بيد أقاربهما مثلما قتلاك، حتى يعلم أي شخص في بلاد بعيدة، لا يعرف شيئا عن همومنا الحالية، بمصير الموت الذي أصابهما.
الكوروس :
إن أمنيتك، يا بنيتي لأفضل من الذهب، من هذه الوجهة؛ لأن هذا يفوق الثروة العظيمة الطيبة، نعم، بل والنعمة العليا
19
أيضا، إذ من السهل التمني. ولكن الآن، بما أن صوت هذه الضربة المزدوجة
20
قد وصل إلى الوطن - فإن لقضيتنا أنصارها تحت الأرض، بينما أيدي الطرف الآخر، رغم كون السلطة له - أولئك الأوغاد - فإنها أيد دنسة. إن الأولاد هم الذين لهم النصر في هذا اليوم!
أوريستيس :
اخترق هذا الأرض، ووصل إلى أذنك
21
كما لو كان سهما. أي زوس، أي زوس، يا من ترسل من العالم السفلي، للأفعال التهورية الشريرة التي تقترفها أيدي البشر، ترسل لها عقابها الذي طال تأخره، ورغم هذا فإنه سيتم من أجل خاطر أب.
22
الكوروس :
عسى أن يكون من نصيبي أن أرفع عقيرتي بصرخة انتصار على ذلك الرجل عندما يطعن، وعلى تلك المرأة عندما تهلك! لماذا أجهد نفسي لكتمان ما يجول أمام روحي؟ يضرب الغضب ضربات حادة فوق قمة قلبي في حقد وكراهية.
إلكترا :
ومتى سينزل زوس الجبار يده عليهما - ويلي! - ويشق رأسيهما إربا؟ ليكن للأرض نصيب منهما! وبعد الظلم، أطلب العدل بحق. اسمعي، أيتها الأرض، وأنتم أيها القوى السفلى المبجلة!
الكوروس :
كلا، فإنها القاعدة الأبدية التي تجعل الدم المراق على الأرض يطلب دما آخر. يصرخ القتل بصوت عال على روح الانتقام التي تجلب، من أجل من سبق قتلهم، دمارا على آخرين.
أوريستيس :
يا للحسرة، يا قوى العالم السفلي الملكية، إنكم ترون لعنات المقتولين العاتية، ترون بقايا أسرة أتريوس
Atreus
23
في حالتهم العاجزة، ترونهم يطردون من بيت لبيت في عار وخزي. فإلى أي طريق نتجه ، يا زوس؟
الكوروس :
إن قلبي ليخفق ثانية وأنا أسمع هذه الشكوى المحزنة. سرعان ما أخلو من الأمل وتقتتم كليتاي لسماع هذه الألفاظ ، حتى إذا ما حداني الأمل فشجعني وقواني، ذهب بمحنتي، آتيا علي في نور ساطع.
إلكترا :
عن أي شيء نتوسل بحق أكثر مما نتوسل من أجل المحنات التي قاسيناها، حتى من تلك التي ولدتنا؟ قد تتملقنا، ولكن تملقها لا ينفع في تهدئتنا، إذ لا يمكن تلطيف كراهيتنا لوالدتنا، لأنها أشبه بذئب وحشي القلب.
الكوروس :
ألطم صدري
24
بمرثاة آرية
25
Arian
تبعا لعادة المرأة الكيسيانية
Cissian
26
المنتحبة بضربات من قبضة اليد تنزل متلاحقة ثقيلة وسريعة وكان بوسع المرء أن يرى يدي ممتدتين، تارة على هذا الجانب وتارة على الجانب الآخر، وهما نازلتان من فوق - من أقصى مداهما - حتى رن رأسي المهشم التعيس تحت وقع الضربات.
إلكترا :
ويحك، أيتها الأم القاسية البالغة الجرأة. لقد أتتك القوة على أن تدفني زوجك دفنا قاسيا. فرغم كونه ملكا، دفن بغير أن يبكيه أحد أو يسير وراءه شعبه أو يصحبه البكاء.
أوريستيس :
ويلي، إن كلامك ليوحي بالاحتقار التام. وعلى ذلك، أفلا يمكن بمساعدة الرب، ومساعدة يدي، أن تجازى على الاحتقار الذي فعلته بأبي؟ فلآخذ حياتها، ثم لا يهمني أن أموت بعد ذلك!
الكوروس :
نعم، ومزق
27
بطريقة خبيثة، أود أن تعرف ذلك. وحتى عندما دفنته هكذا، وضعت خطتها بحيث تكون عبئا على حياتك فوق ما تحتمل جميع القوى. ها أنت قد سمعت قصة الإهانة الفاضحة التي لحقت أباك.
إلكترا :
إنها قتلت أبي، كما تذكرين، أما أنا فاحتقرت منذ ذلك الوقت، واعتبرت من سقط المتاع، محبوسة في حجرتي كما لو كنت كلبا شريرا، فأطلقت العنان لدموعي - التي جاءت بسرعة أكثر من الضحك - وانخرطت في النحيب داخل محبسي ببكاء غزير. اسمعي قصتي وادفنيها في قلبك.
الكوروس :
نعم، ولتغص عميقا في أذنيك. ولكن يجب أن تحافظي على هدوئك ورباطة جأشك. أما ما سيتبع ففكري فيه بنفسك، يجب أن تدخلي المعركة بغضب صلب لا ينثني.
أوريستيس :
ها أنا ذا أناديك، يا أبتاه، قف إلى جانب ابنك!
إلكترا :
وأنا التي أبكي بدموع سواجم، أضم صوتي إلى صوته.
الكوروس :
وكل جماعتنا تدمج صوتها في تلاوة الصلاة مدوية . استمع! هيا إلى الضوء! قف معنا ضد العدو!
أوريستيس :
إله الحرب سيواجه إله حرب، والحق سيواجه الحق.
إلكترا :
وأنتم، أيها الآلهة، قرروا بحق حجة الحق!
الكوروس :
إن هذه لتسري في جسمي وأنا أسمع هذه الصلوات. ظل القدر منتظرا مدة طويلة، ولكنه سيأتي استجابة لنداء من يدعو.
آه، أيتها المتاعب المتأصلة في هذه الأسرة، ويا ضربة الدمار باعثة الشقاق الفظ! آه! أيتها الأحزان المبكية والمفجعة! آه، أيها الألم الممض!
لدى هذا البيت علاج لتلك الويلات - علاج ليس من الخارج، من يد شخص آخر - بل من يده هو نفسه، بالتنازع العنيف للدم، ننشد هذه الأغنية للآلهة المقيمة تحت الأرض.
أيها القوى السفلى المباركة، أعيروا توسلنا هذا أذنا صاغية، وبإرادة مستعدة أرسلوا نجدتكم للأولاد حتى ينالوا النصر!
أوريستيس :
أيا أبتاه، يا من هلكت بميتة غير ملكية، أجب طلبتي وامنحني السيادة على أبهائك!
إلكترا :
وأنا أيضا، يا والدي، أطلب منك طلبا مماثلا؛ أن أهرب بعد أن ألحق بأيجيسثوس دمارا عظيما.
أوريستيس :
نعم، إذ عندئذ تمد ولائم الرجال الجنائزية المعتادة، تكريما لك، وبغير ذلك لا يكون لك نصيب مشرف في الوليمة الفاخرة ذات النكهة الشهية، والتي تضم القرابين المحترقة المقدمة للأرض.
إلكترا :
وأنا كذلك، من كامل وصية ميراثي من بيت والدي أقدم لك سكيبة في ليلة زفافي، وقبل كل شيء آخر أبجل وأكرم قبرك هذا أعظم تكريم.
الكوروس :
أيتها الأرض، أرسلي والدي ليراقب معركتي!
إلكترا :
أيا بيرسيفاسا
، امنحينا نصرا مجيدا.
أوريستيس :
تذكر الحمام الذي سرقت فيه روحك، يا أبتاه.
إلكترا :
وتذكر كيف نصبوا لك شبكة صيد غريبة.
أوريستيس :
قبض عليك، يا والدي، بأغلال لم تصنعها يد حداد.
إلكترا :
وبأغطية صممت بطريقة مخجلة.
أوريستيس :
أبتاه، ألا تقلقك مثل هذه الإهانات؟
إلكترا :
ألا ترفع رأسك العزيز عاليا؟
أوريستيس :
إما أن ترسل العدالة لتحارب من أجل الأعزاء على نفسك، أو تمنحنا أن نقبض عليهما
28
بطريقة مماثلة ، إذا كنت ستنال النصر حقا بعد الهزيمة.
إلكترا :
أصغ يا أبتاه إلى آخر توسل لي. كما أنك ترى هذه الأفراخ قابعة عند قبرك، فلتكن عندك رحمة على ذريتك، على المرأة، وفي الوقت نفسه على الذكر، ولا تعمل على انقراض ذرية بيلوبس
29
هذه، إذ عندئذ تكون غير ميت، رغم الموت. فإن الأولاد أصوات خلاص الإنسان مهما كان ميتا. إنهم كقطع الفلين التي تطفو فوق الشبكة لتحافظ على الخيوط الكتانية من الأعماق. أصغ! إننا نتقدم بهذه الشكوى من أجلك أنت، استجب لتوسلنا هذا، تنقذ نفسك.
الكوروس :
الحقيقة أنكما تقدمتما بشكواكما هذه بنفس راضية، مظهرين التكريم لهذا القبر غير المبكى عليه. أما ما بقي، فبما أن قلبك متحفز للعمل فهيا إلى العمل إذن.
أوريستيس :
وهو كذلك. ولكن ليس من الخطأ أن نسأل لأي غرض أرسلت هذه القرابين بعد أن فات الأوان للتكفير عن فعلة تستعصي على العلاج. فهذه التقدمات منحة محزنة للميت غير الواعي، ولا يمكنني التخمين بمعنى ذلك. وفضلا عن هذا فإن تلك الهدايا حقيرة لا تتفق وهذه الجريمة. فلو سكب المرء كل ما لديه تكفيرا عن جريمة دم واحدة فإن جهده يضيع سدى، هكذا يقول المثل، فإن كنت تعرفين حقا، فأخبريني لأني أتوق إلى معرفة ذلك.
الكوروس :
أعرف، يا بني، لأنني كنت هناك. فعلت ذلك لأنها رأت حلما اضطرب له قلبها وحامت حولها أرواح الليل المفزعة، فأرسلت هذه القرابين، أرسلتها تلك المرأة التي لا آلهة لها.
أوريستيس :
وهل علمت بمضمون الحلم فتخبريني به صحيحا؟
الكوروس :
رأت في حلمها أنها ولدت أفعي، هذه هي روايتها هي نفسها.
أوريستيس :
وأين تنتهي القصة، وما ملخصها؟
الكوروس :
أرقدتها لتستريح كما لو كانت طفلا ملفوفا بالأقمطة.
أوريستيس :
وأي طعام طلبت هذه المخلوقة الشريرة الحديثة الولادة؟
الكوروس :
قدمت لها ثديها بنفسها، في حلمها.
أوريستيس :
لا شك في أن حلمة ثديها لم تجرح بأسنان ذلك الحيوان المقيت؟
الكوروس :
كلا، وقد امتصت مع اللبن دما متخثرا.
أوريستيس :
حقيقة، إن هذا الحلم ليس بغير معنى؛ فهذه الرؤيا معناها رجل!
الكوروس :
عندئذ أطلقت صرخة في نومها، وصحت مذعورة، وكم من مصباح أضيء في الظلام فأرسل الضوء ساطعا داخل البيت لإبهاج سيدتنا؛ لذلك أرسلت القرابين للميت عسى أن تصير علاجا شافيا لمحنتها.
أوريستيس :
كلا، إذن فأنا أتوسل إلى هذه الأرض، وإلى قبر والدي، أن يتمم الغرض من هذا الحلم بواسطتي، وهو كما أفسره، مطابق في كل نقطة. إذ لو غادرت الأفعى نفس المكان كما غادرته أنا، ولو كانت مزودة بأقمطتي، ولو حاولت أن تفتح فمها لتأخذ الثدي الذي غذاني، وخلطت اللبن الحلو بالدم المتخثر، بينما صرخت هي فزعا من هذا، إذن بكل تأكيد، بما أنها غذت مخلوقا ذا طالع شؤم، إذن فهي ستموت حتما، بالعنف لأنني إذ انقلبت أفعى، فسأكون قاتلها، كما يقرر هذا الحلم.
الكوروس :
إني لأختار قراءتك لنذير الشؤم ذاك. وليكن كذلك! أما ما بقي بعد هذا، فوزع على صديقاتك أدوارهن. مر البعض بماذا يفعلن، والبعض الآخر بما يتركنه دون إنجاز.
أوريستيس :
إخبارهن بهذا سهل. يجب أن تدخل شقيقتي القصر، وإني لأكلفها بكتمان اتفاقنا هذا، وأقصد بذلك، أنه بما أنهما قتلا رجلا عالي القدر، بالخدعة، كذلك يقبض عليهما بالخداع أيضا، ويهلكان بنفس الشرك. هذا هو ما قرره لوكسياس؛ السيد أبولو، ذلك العراف الذي لم يثبت خطؤه من قبل.
سأذهب إلى الباب الخارجي، كامل التسليح، في زي رجل غريب - ومعي بولاديس الذي ترينه هذا كضيف وحليف للبيت. سنتكلم كلانا بلهجة بارناسوس
30
محاكيين النطق باللغة الفوكية. فإذا لم يرحب بنا أحد من البوابين الترحيب اللائق، بحجة أن السماء أرسلت المتاعب على هذا البيت، فسننتظر إلى أن يمر بالبيت شخص فيخطر بباله شيء فيقول: «لماذا يقفل أيجيسثوس بابه في وجه المتوسل إليه، إذا كان في البيت حقا ويعرف به؟»
أما إذا اجتزت العتبة الخارجية للباب ووجدت ذلك الرجل جالسا على عرش والدي، أو إذا جاء أمامي بعد ذلك وجها لوجه، فإنه سوف - لاحظي جيدا! - يرفع عينيه ويتطلع قبل أن يقول: «من أي أرض هذا الغريب؟» إذ سأعاجله بسيفي وأطعنه به وألقيه صريعا. فإن الروح المنتقمة التي لم تقترب من الدم ستشرب جرعتها الثالثة والعظمى من الدم الصريف!
والآن، يا إلكترا، لاحظي جيدا ما يدور في البيت، كي تلتئم خطتانا معا تمام الالتئام. أما أنتن (يخاطب الكوروس)
فمن الخير أن تلزمن جانب الصمت. لا تتكلمن عندما لا تكون هناك حاجة للكلام. وتكلمن بالضروري فقط، حسب ما تتطلب الظروف. أما ما بقي بعد ذلك، فإني أدعوه
31
لأن يلقي نظرة هنا ويقود النزاع بالسيف في الطريق الصحيح. (يخرج أوريستيس وبولاديس وإلكترا.)
الكوروس :
كثيرة جدا هي المخاوف المفزعة والمهددة بالخطر، التي ربتها الأرض وأذرع جماعات البحر العميق بواسطة الوحوش الضخمة المقيتة. كذلك توجد بين السماء والأرض أضواء
32
معلقة عاليا في الهواء، وكائنات مجنحة، وكائنات تمشي، وتستطيع الأرض أن تقص أخبار الغضب العاصف لدوامات الريح.
ولكن من ذا يستطيع التكهن بروح الرجل البالغة الجرأة، وبالعواصف المتهورة للنساء المتصلبات الروح، رفيقات ويلات البشر؟ تسيطر على المرأة عاطفة جامحة قوية وتنال انتصارا قاتلا على زيجات الوحوش والبشر على حد سواء.
لو كان هناك أي فرد خفيف العقل في فهمه فليعرف هذا، عندما يعلم بقصة الجذوة المتقدة التي صممتها ابنة ثيستيوس
33
Thestlus
العديمة القلب، التي دبرت هلاك ابنها عندما استهلكت الجذوة المتفحمة التي كان عمرها من عمر ابنها منذ الساعة التي خرج فيها من رحم أمه وصرخ عاليا، والتي ظلت معه طوال حياته إلى اليوم المقدر لمصيره.
تقول إحدى الأساطير إن امرأة أخرى، هي موضوع يصلح للدعارة. إنها عذراء
34
دبرت هلاك شخص عزيز عليها بإيعاز من أعدائه، إذ أغرتها هدية مينوس؛ وهي عبارة عن العقد الكريتي المصنوع من الذهب، فقطعت شعرته الخالدة وهو نائم يتنفس غير مرتاب، فيا لها من فتاة ذات قلب كلب. فأخذه هيرميس.
35
ولكن، بما أنني استحضرت إلى الأذهان قصص الآثام المنطوية على عدم الرحمة، فهذا هو الوقت الملائم لذكر قصة زواج تجرد من الحب، فكان عامرا للبيت من جراء المكائد التي دبرتها زوجة لعوب ضد سيدها المحارب. ضد سيدها لسبب يحترمه أعداؤه. ولكن أبجل وطيسا ومنزلا غريبا على نيران العاطفة، كما أبجل في المرأة روحا تنفر من الأفعال الجريئة.
الحقيقة أن قصة نساء ليمنوس
36
تحتل المكان الأول بين قصص الجرائم . وقد ظلت مدة طويلة تروى بالأنين، بصفتها فاجعة منكرة حتى صارت مثلا يضربه الناس لكل فزع جديد فيقولون إنه أشبه بالمحنة الليمنية. وبسبب هذه الفعلة الشنعاء التي يمقتها الآلهة. انقرض ذلك الجنس وأبيد، في خزي وعار، من بين البشرية. فما من رجل يوقر ما يستحق كراهية السماء. هل هناك قصة من تلك القصص لم أذكرها بإنصاف؟
غير أن الحسام المرير الحاد، اقترب من الثدي، وضرب ضربته في موضعها تماما انصياعا لأمر العدالة. إذ الحقيقة أن عدم استقامة ذلك الذي يذنب بحق في ذات عظمة زوس الملكية، إنما يلقى على الأرض ويوطأ تحت الأقدام.
37
لقد ثبت سندان العدالة بإحكام. تشكل ربة المصير أسلحتها، وتصنع سيفها في الوقت المناسب، وتأتي روح الانتقام المشهورة والعميقة التفكير، بالابن إلى البيت ليوقع الجزاء عن تلويث البيت بالدم المسفوك قديما. (يدخل أوريستيس وبولاديس مع خادم أمام القصر.)
أوريستيس :
يا بواب! يا بواب! اسمع طرقاتي على الباب الخارجي! من بالداخل، يا بواب، يا بواب، أقول مرة أخرى، من بالبيت؟ وللمرة الثالثة، أنادي شخصا ما من هذا البيت ليأتيني، إذا كنتم ترحبون بالغرباء بإرادة أيجيسثوس.
الخادم :
نعم، نعم، أسمع. من أي أرض هذا الغريب، وإلى أين؟
أوريستيس :
أعلن قدومي لسادة هذا البيت، لأنني أحمل لهم أنباء. وأسرع لأن عربة الليل تسرع بالظلام، وهذا هو الوقت الذي ينزل فيه أثناء السبيل مرساتهم في بيت ما ذي ترحيب عام. اطلب من شخص ما، تكون له سيطرة على هذا البيت أن يأتي إلي؛ السيدة الموكول إليها أمره، أو السيد، وهذا أليق، إذ عندئذ لا يسبب التأنق في العبارات غموض الألفاظ؛ إذ يتحدث رجل إلى رجل في جرأة، ويعبر عن قصده بغير تحفظ. (ينسحب الخادم. تظهر كلوتايمسترا عند الباب مع خادمة.)
كلوتايمسترا :
أيها الغرباء، ما عليكم إلا أن تعلنوا عن حاجتكم، فلدينا كل ما يناسب هذا البيت؛ من حمامات دافئة ، وفرش تذهب التعب، ووجود العيون المرحبة. أما إذا كان هناك أمر، غير ذلك، يتطلب مشورة أعظم، من شئون الرجال، فإننا سنتصل بهم .
أوريستيس :
إنني غريب داولياني
Daulian
من الفوكيين. بينما كنت سائرا في طريقي أحمل أمتعتي لشأن من شئوني الخاصة إلى أرجوس، وكنت قد أنهيت رحلتي إلى هنا
38 ، إذ قابلني رجل غريب علي، كما كنت غريبا عليه، وسألني عن وجهتي، وأخبرني بوجهته. إنه ستروفيوس
Strophius ، أحد الفوكيين (عرفت اسمه من خلال حديثنا)، وقال لي: «بما أنك، أيها الغريب، ذاهب إلى أرجوس، على أية حال، فتذكر أن تخبر والدي أوريستيس، بأنه مات - ولا تنس هذا بحال ما. وسواء قرر أصدقاؤه أن ينقلوه إلى وطنه أو يدفنوه في الأرض التي أقام فيها غريبا إلى الأبد، فعد إلي بقرارهم. وفي الوقت نفسه، فإن آنية من البرنز لتضم رماد رجل مبكى عليه بكاء حارا.» لذا أخبرك بهذا كما سمعته. وسواء كنت بالصدفة أتكلم مع من يعنيهم الأمر، أو مع من يهتمون به، فهذا ما لا أعرفه، ولكن يجب أن يعرف أبوه هذا الخبر.
كلوتايمسترا :
الويل لي! إن روايتك هذه لتوحي بتحطيم آمالنا تماما. يا للعنة التي تغشى هذا البيت - العسيرة المقاومة - وما أبعد المدى الذي يصل إليه بصرك! فحتى من كان المفروض أنه بمنأى عن طريق الأذى، فها أنت ذا قد صرعته بسهامك المسددة جيدا من بعيد. وجردتني من أولئك الذين أحبهم، أنا الكلية التعاسة، والآن، يا أوريستيس - إذ خيرا فعل بالاحتفاظ بقدمه بعيدة عن حمأة الدمار - والآن، هذا الأمل الذي كان في داخل البيت، لعلاج مرحه العادل، ها أنت ذا تسجل هجرانه لنا.
39
أوريستيس :
أما عن نفسي، فإني متأكد، بوجودي مع مضيفين بهذا الثراء، إنني أفضل لو عرفوني ورحبوا بي بسبب أخبار مفرحة. إذ أين توجد ثقة أعظم مما يبدي الضيف للضيف؟ ولكن بحسب فكري، إنه خرق للفروض المقدسة ألا أنجز للأصدقاء ما عهدوا به إلي، مثل هذا، عندما أكون قد ارتبطت بوعد وبالإكرام الموعود.
كلوتايمسترا :
كلا، وإنما يجب أن تطمئن وتتأكد من أنك لن تنال جائزة أقل مما يليق، ولن تلقى في هذا البيت ترحيبا أقل مما يجب؛ فقد كان بوسع رجل غيرك أن ينقل هذه الرسالة، ولكن هذا الوقت هو ما ينال فيه الغرباء الذين كانوا مسافرين في رحلة طويلة، إكرامهم الملائم (إلى خادم)، اصحبه إلى حجرات استقبال الضيوف من الرجال، هو وخدمه وزميله في السفر، وليكرموا هناك بما يتفق وبيتنا. إني أكلفك بهذا، وستكون ملزما بتنفيذه بدقة وفي الوقت ذاته سنخبر سيد البيت بهذا الأمر، وبما أننا لا نفتقر إلى الأصدقاء، فسنتلقى المشورة في هذا الحادث. (ينسحب الجميع ما عدا الكوروس.)
الكوروس :
أيا خادمات هذا البيت المخلصات، كم من الوقت سيمر قبل أن نستخدم أية قوة في شفاهنا لنقدم خدمة إلى أوريستيس؟
أيتها الأرض المقدسة، والتل العالي المقدس المطل الآن على الحوض الملكي لقائد الأسطول، استمعا إلي الآن، وأعيراني المعونة! هذا هو وقت الإغراء بخداعها لكي تشترك معه في العمل، ولهيرميس العالم السفلي - ذلك الذي يعمل في الخفاء - أن يقود الالتحام بالسيف القاتل. (تدخل مربية أوريستيس.)
يبدو أن ضيفنا الغريب يفعل الشر الآن؛ لأني أرى مربية أوريستيس تبكي بدموع غزيرة. أيا كاليسا
Calissa !
40
إلى أين تذهبين؟ كيف حدث أنك وطئت بقدمك باب القصر، حزينة على رفيقتك غير المأجورة؟
المربية :
أمرتني سيدتي أن أنادي أيجيسثوس بغاية السرعة لأجل الغرباء، حتى يحضر ويعلم بوضوح أكثر، بصفته رجلا أمام رجل. هذه الأنباء التي وصلت منذ لحظة. الحقيقة أنها أخفت ضحكها لما حدث وأسعدها، أمام الخدم، وخلف عينين تتظاهران بالبكاء، ولكن هذه الأخبار التي جاء بها الغرباء في وضوح، توحي بالدمار التام لهذا البيت. أؤكد أنه سيغتبط في قلبه عند سماع هذه القصة. ما أتعسني من امرأة! كيف آلمت المصائب القديمة، التي من كل نوع، والتي يصعب احتمالها، وقد أصابت بيت أتريوس هذا، آلمت قلبي داخل صدري! ومع ذلك فإنني ما قاسيت ضربة كهذه على الإطلاق، إذ احتملت جميع الويلات السابقة بصبر وجلد، بيد أن سيدي أوريستيس المحبوب، الذي من أجله أضعت كل روحي، ذلك الذي أخذته من والدته عند مولده وربيته. وتلك الأعمال الكثيرة الشاقة - التي ذهبت جميعها بغير فائدة - عندما كانت صرخاته الطويلة الحادة تنغص علي راحتي . إذ يجب على المرء أن يربي هذا الشيء العديم الإحساس كما لو كان حيوانا أعجم - وبالطبع يجب ذلك - بمسايرة مزاجه. فبينما كان لا يزال طفلا ملفوفا بالأقمطة، ولا يستطيع النطق بالكلام إطلاقا - سواء للتعبير عن الجوع أو العطش أو قضاء الضرورة - فجوف الأطفال الصغار يعمل ما يحلو له. كان يجب أن أتنبأ بهذا، ومع ذلك، فكم من مرة، وأظن أنني كنت مخطئة، غسلت ملابس ذلك الطفل - فوظيفة الغسالة والمربية واحدة. كنت أنا التي تسلمت أوريستيس من يدي والده لأقوم له بهاتين الوظيفتين. والآن ما أتعسني إذ أسمع أنه مات، ولكني في طريقي لإحضار الرجل الذي جلب الخراب على هذا البيت، وسيسره كثيرا أن يسمع هذه الأخبار.
الكوروس :
وبأية صورة أمرته أن يحضر؟
المربية :
بأية صورة؟ كرري هذه العبارة مرة ثانية كي أفهم المعنى بطريقة أفضل.
الكوروس :
هل يحضر مع حرسه الخاص، أو بدون حرس؟
المربية : [سأدعوه للحضور وسط حرسه.]
41
الكوروس :
كلا، لا تبلغي هذه الرسالة لسيدنا البغيض، ولكن اطلبي منه أن يحضر وحده بغاية السرعة وبقلب مبتهج، حتى يخبر بغير خوف. إذ تستقيم الرسالة الملتوية في فم الرسول.
42
المربية :
ماذا، وهل أنت مسرورة القلب من هذه الأخبار الحالية؟
الكوروس :
ولم لا، إذا كان زوس قد يغير اتجاه ريحنا الخبيثة؟
المربية :
كلا، وكيف يمكن أن يكون هذا؟ فقد ذهب أوريستيس، أمل هذا البيت.
الكوروس :
لم يذهب بعد. إنه لعراف غبي، ذلك الذي يفسر الأمر على هذا النحو.
المربية :
ماذا تقولين؟ هل تعرفين شيئا أكثر مما قيل!
الكوروس :
اذهبي وبلغي رسالتك! افعلي ما أمرت بفعله. تعنى الآلهة بمن تريد أن تعنى به.
المربية :
حسنا، سأذهب طوعا لأمرك، عسى أن يتحول كل شيء، بنعمة الله، إلى خير ما يكون!
الكوروس :
والآن، استمع إلى توسلي، يا زوس، يا أبا الآلهة الأوليمبية: اسمح بتوطيد حظوظ هذا البيت، حتى إن الذين يرغبون بحق في الحكم بنظام، أن يروه. لقد توخيت العدالة في كل كلمة نطقت بها. فحافظ على سلامتها، يا زوس!
أيا زوس، انصر ذلك الذي بداخل القصر أمام أعدائه؛ لأنك إن أبهجته فسيسره أن يدفع لك الجزاء ضعفين أو ثلاثة أضعاف.
تذكر أن الأفراخ الميتمة لرجل عزيز عليك، مربوطة في عربة البلاء. وهل لك أن تضع حدا للأحداث الجارية، فتسمح بأن نراه يسير بخطى ثابتة في هذا الطريق بخطوة الركض الشاقة لبلوغ الهدف!
43
وأنت يا من تقيم في البيت، في الحجرة الداخلية المؤثثة في بذخ وأبهة، اسمعوني أيها الآلهة، يا من تشاركوننا مشاعرنا! أنزلوا عقابا جديدا عن الأفعال الدموية المقترفة قديما. عسى أن يكف القتل العجوز عن ولادة ذرية في هذا البيت!
وأنت يا من تسكن في المغارة
44
العظمى الجميلة البناء، اسمح بأن يرفع بيت هذا الرجل عينيه ثانية بالفرح، وينظر بعينين مبتهجتين، من وراء حجاب الظلام، ضوء الحرية الساطع الأشعة!
عسى أن يمنح ابن مايا
Maia ،
45
كما يجب عليه أن يفعل، مساعدته؛ إذ لا أحد يمكنه أن يقود فعلة في طريق ملائم، خيرا مما يفعل هو إذا شاء.
46
بيد أنه، بكلامه الخفي، يجلب الظلام على عيون الناس بالليل، وليس بالنهار أوضح منه ليلا.
وأخيرا سننشد بصوت مرتفع أغنية خلاص هذا البيت، تلك الأغنية التي تغنيها النساء عندما تهدأ الريح ولا ترسل صوتها المزمجر جالب الأحزان «تجري السفينة بسلام. ولي، لي، يزيد هذا إلى ربح، وتنأى الكارثة بعيدا عن أولئك الذين أحبهم.»
ولكن عندما يأتي دور العمل، فاصرخ عاليا بشجاعة جيدة، قائلا اسم «أبتاه»، وعندما تصيح هي «ولدي»، أنجز الفعلة المؤذية، الخالية من الإثم.
ارفع روح بيرسيوس
47
في داخل صدرك، ومن أجل الأعزاء عليك تحت الأرض، ومن أجل من فوق، أقم العدل الشافي لغليل غضبهم الشديد؛ محدثا الدمار الدموي في داخل البيت ومحطما المجرم الذي تسبب في الموت.
48 (يدخل أيجيسثوس.)
أيجيسثوس :
لم آت من تلقاء نفسي، بل استدعاني رسول بناء على أخبار مذهلة، كما سمعت، يرويها الغرباء الذين جاءوا. إنها أخبار بعيدة عن الترحيب ، تقول إن أوريستيس مات. فإذا وضع هذا على البيت صار عبئا مخيفا، بينما هو لا يزال يئن من الجرح الذي أصابه به قتل سابق. كيف يتسنى لي معرفة ما إذا كانت هذه الرواية صادقة وهي الواقع؟ أو هل هي مجرد إشاعة روجتها النساء المذعورات، فترتفع عاليا ثم تهبط لتدل على لا شيء؟ ماذا يمكنك أن تخبريني به لكي يوضح المعنى فيسهل فهمه؟
الكوروس :
سمعنا الحكاية؛ هذا صحيح، ولكن ادخل واستفهم من الغرباء. فليس تأكيد الرسول شيئا يذكر إذا قيس باستعلام المرء بنفسه من الرجل ذاته.
أيجيسثوس :
أريد مقابلة الرسول، وأتحقق منه من جديد، هل حضر الموت بنفسه، أو أنه يروي ما سمعه من تقرير غامض. كلا، فلأتأكدن من أنه لا يخدع عقلا مفتوح العينين. (يخرج.)
الكوروس :
أي زوس، أي زوس، ماذا بوسعي أن أقول؟ هل أبدأ بهذا صلاتي وتوسلي إلى الآلهة؟ كيف لي، في إخلاصي هذا، أن أجد ألفاظا تلائم الموقف؟ هذه هي اللحظة التي فيها، إما أن يدمر حد النصال المضرجة بالدماء والتي تصرع الرجال، بيت أجاممنون إلى الأبد، أو يوقد لهب نور ساطع في قضية الحرية، فيفوز أوريستيس بكل من السيطرة على مملكته وممتلكات آبائه العظيمة. بمثل هذه التجربة سيواجه أوريستيس خصمه دون أن يكون معه من يشد أزره. وعسى أن يجر هذا إلى النصر! (تسمع صرخة من الداخل.)
أيجيسثوس (في الداخل) :
أواه! أواه! الويل لي!
الكوروس :
ها! ها! هكذا أقول. كيف الحال؟ كيف دبر الأمر لهذا البيت؟ هيا بنا نقف بعيدا، إذ لم تنته المسألة بعد، حتى نكون بمنجاة من اللوم في هذا العمل الشرير. فقد تقررت نتيجة القتال الآن. (ينسحب الكوروس إلى أحد الجوانب، وعندئذ يندفع أحد خدم أيجيسثوس داخلا.)
الخادم :
الويل لي، الويل والوبال لي! قتل سيدي! الويل لي! ومع ذلك، فأنا أصرخ للمرة الثالثة لم يعد هناك أيجيسثوس! هيا، افتحوا بكل سرعة! أزيحوا مزاليج باب النساء! هذا الخطب في حاجة إلى ذراع يمنى قوية - ولكنها لن تساعد من قتل - ما فائدة ذلك؟ أواه! أواه ! هل أنا أصرخ إلى الصم وأضيع صوتي عبثا إلى قوم نائمين؟ إن رقبتها قريبة من حد الموسى، وتكاد تسقط تحت الضربة. (تدخل كلوتايمسترا مسرعة وحدها دون خدم.)
كلوتايمسترا :
ما هذا؟ أية صرخة لطلب الغوث تطلقها في البيت؟
الخادم :
أقول إن الميت يقتل الحي.
49
كلوتايمسترا :
ويلي! ها أنا ذا أدركت معنى اللغز. سنهلك بالخداع كما قتلنا. فليعطني أحد ما فأس قتال، وبسرعة! ولنعرف ما إذا كنا منتصرين أو مهزومين؛ لأنني وصلت إلى هذا في هذه الفعلة الشريرة. (يخرج الخادم. يفتح الباب فتظهر جثة أيجيسثوس، وأوريستيس واقف إلى جانبه وعلى مسافة منه بولاديس.)
أوريستيس :
إنك نفس الشخص الذي أبحث عنه. أما ذلك، فقد نال كفايته.
كلوتايمسترا :
ويلي! أأنت ميت أيها الشجاع أيجيسثوس، يا محبوبي!
أوريستيس :
أتحبين ذلك الرجل؟ إذن فسترقدين معه في نفس القبر، ولن تفارقيه قط في الموت.
كلوتايمسترا :
كف يدك، يا بني! أشفق، يا ولدي، على هذا الثدي الذي رضعت لبنه وغذاك حتى وأنت نائم لم تنبت الأسنان في لثتك بعد.
أوريستيس :
ماذا أفعل، يا بولاديس؟ هل أبقي على حياة أمي شفقة بها؟
بولاديس :
وماذا يكون إذن عن وحي لوكسياس الذي صدر في بوثو
، وعن عهدنا الذي أقسمنا عليه؟ لأن تعتبر جميع البشر أعداءك، أفضل لك من عداوة الآلهة.
أوريستيس :
أحكم بأنك المنتصر؛ فقد نصحتني بالصواب. (إلى كلوتايمسترا)
هيا إلى هذا الجانب! أعني إلى جانبه لأقتلك. وبما أنك اعتبرته خيرا من والدي بينما كان حيا، فارقدي معه في الموت؛ لأنه الرجل الذي تحبينه، وكانت كراهيتك لمن فرض عليك أن تحبيه.
كلوتايمسترا :
أنا التي غذيتك، وسأصير عجوزا لديك.
أوريستيس :
ماذا! أتقتلين والدي وتتخذين مسكنك معي؟
كلوتايمسترا :
القدر هو المسئول عن هذا، يا ولدي.
أوريستيس :
إذن فالقدر هو الذي دبر موتك بنفس تلك الطريقة.
كلوتايمسترا :
ألا تخشى لعنة الوالدين، يا ولدي؟
أوريستيس :
لقد ولدتني، ثم طردتني وألقيتني إلى البؤس.
كلوتايمسترا :
من المؤكد أنني لم أطردك بإرسالي إياك إلى بيت حليف.
أوريستيس :
بعتني عبدا، رغم كوني ابن رجل حر المولد.
كلوتايمسترا :
إذن فأين الثمن الذي تقاضيته عنك؟
أوريستيس :
يمنعني العار من أن أقرعك بما تستحقين.
كلوتايمسترا :
كلا، إذن فلا تحجمن عن إعلان حماقات والدك.
أوريستيس :
لا تتهمي ذلك الذي كان يكد وأنت جالسة في البيت بدون عمل.
كلوتايمسترا :
كان عملا قاسيا، يا بني، أن تتجرد النساء من زوج.
أوريستيس :
نعم، ولكن كد الزوج هو الذي يعولهن وهن جالسات في البيت.
كلوتايمسترا :
يبدو أنك مصمم، يا بني، على أن تقتل أمك.
أوريستيس :
إنك أنت التي ستقتلين نفسك، ولست أنا الذي أقتلك.
كلوتايمسترا :
احترس، احذر كلاب اقتفاء الأثر برائحة الدم المنتقمة للأم.
أوريستيس :
ولكن الكلاب المنتقمة للأب، كيف أفلت منها لو تركت هذه المهمة بغير إنجاز؟
كلوتايمسترا :
بما أنني لا أزال على قيد الحياة، فأعتقد أنني أنوح عبثا أمام قبر.
50
أوريستيس :
نعم، فإن مصير أبي هو الذي يحدد حتفك هذا.
كلوتايمسترا :
ويلي! هذه هي الأفعى التي ولدتها وأرضعتها!
أوريستيس :
نعم، وقد تنبأ حلمك المفزع، بالصواب. إنك قتلت من كان يجب ألا تقتليه، إذن فقاسي ما كان يجب ألا يكون. (يجبر أوريستيس أمه على الدخول، ويتبعهما بولاديس.)
الكوروس :
إني لأحزن، حتى من أجل هذين في مصرعهما المزدوج. ومع ذلك، فبما أن أوريستيس المعذب قد تسنم قمة كثير من الأعمال الدموية، فإننا لنفضل أن يكون الأمر هكذا؛ ألا تهلك عين هذا البيت تماما.
وكما جاءت العدالة لبريام وابنه أخيرا في عقاب ساحق، كذلك جاء إلى بيت أجاممنون أسد مزدوج، هو القتل المزدوج.
51
بذل المنفي والمتضرع إلى إله بوثو، قصارى جهده في إنجاز مهمته، تحثه بعدل نصائح من فوق.
أطلقوا صيحة النصر لإفلات بيت سيدنا من محنته، ومن تبذير ثروته بأيدي الشخصين الفاسدين، ثروته المحزنة!
وقد جاء ذلك الذي دوره الانتقام بالخداع، بواسطة الهجوم خلسة. وفي أثناء المعركة أرشدت يده بواسطة تلك التي هي بكل حق ابنة زوس، التي تنفث الغضب بموت أعدائها. نطلق عليها نحن البشر اسم «العدالة»، وبذا نصيب الهدف.
أطلقوا صيحة النصر لإفلات بيت سيدنا من محنته، ومن تبذير ثروته بأيدي الشخصين الفاسدين، ثروته المحزنة !
إن الأوامر التي أعلنها جهرا لوكسياس ساكن محراب مغارة برناسوس القوية، قد توطدت الآن بالدهاء العديم الخداع المهاجم للشر. عسى أن تسود كلمة الرب كي لا أخدم الشرير!
52
ومن الصواب احترام سنة السماء.
انظروا، ها هو النور قد أقبل وتحررت من الحكم القاسي الذي شل حركة أفراد الأسرة. انهضي أيتها الأبهاء! فقد مضى عليك مدة طويلة وأنت راقدة على الأرض عاجزة عن الحركة.
سرعان ما سيمر «الوقت» المنجز لكل شيء، من أبواب البيت عندما يطرد كل تلوث من الوطيس بطقوس التطهير التي تطرد المصائب. وستتغير عجلات الحظ وهي تسقط وتستقر بوجوه جميلة المنظر حسنة الاستعداد لكل من يقيم في هذا البيت.
انظروا، ها هو النور قد أقبل وتحررت من الحكم القاسي الذي شل حركة أفراد الأسرة. انهضي أيتها الأبهاء! فقد مضى عليك مدة طويلة وأنت راقدة على الأرض عاجزة عن الحركة. (يرى أوريستيس ممسكا بغصن المتضرع وبإكليله وواقفا بجانب الجثتين ومعه بولاديس، والخدم يعرضون ثوب أجاممنون.)
أوريستيس :
انظروا إلى هذين الشخصين الظالمين في هذا البلد، اللذين قتلا والدي، وبددا أموال بيتي! كانا في عظمة وهما جالسان على عرشيهما ومتحابان حتى الآن، كما يستطيع المرء أن يحكم مما نزل بهما، وقد برا باليمين التي أقسماها على عهودهما ومواثيقهما. أقسما معا على أن يكونا عصابة ضد أب تعيس، وأقسما معا على أن يموتا معا، وها هما قد برا بقسميهما.
وانظروا الآن ثانية، يا من تنصتون إلى هذه القضية المليئة بالكوارث، والحيلة التي دبرت لشد وثاق والدي التعيس، التي بها غلت يداه وقيدت بها قدماه. ابسطوه! قفوا حوله في دائرة، واعرضوه - إنه غطاء لرجل! - حتى يرى «الأب» (ليس أبي وإنما الأب الذي يخدم جميع الكائنات، أي «الشمس») العمل غير الصالح الذي عملته أمي، وهكذا سيحضر في يوم الدينونة، شاهدا علي بأنني فعلت هذا القتل لباعث عادل، حتى قتل أمي، أما مقتل أيجيسثوس فلا أتكلم عنه لأنه نال عقاب الزاني بحسب نص القانون.
أما تلك التي دبرت هذه الفعلة الشنعاء ضد زوجها، وجعلت أولادها الذين ولدتهم عبئا تحت منطقتها، عبئا كان عزيزا في بعض الأحيان، أما الآن فكما يتضح من الأحداث مكروهين كراهية الموت من الإنسان ، فماذا تظنون بها؟ أولدت أفعى بحرية أو حية رقطاء؟ أعتقد أن مجرد لمستها دون لدغتها، قد شلت حركة البعض إذا أمكنها أن تلمس بشرور وبغير خجل. (يعود فيمسك الثوب المضرج بالدم.)
أي اسم أطلقه على هذا الثوب، وأنا أتحدث بلغة غير حلوة؟ هل أسميه شركا للوحوش المفترسة؟ أو غطاء نعش
53
لف حول قدميه؟ كلا، بل الأحرى أن تسموه «شبكة» لصيد الحيوانات، أو أثوابا لتقييد أقدام رجل. هذا هو الشيء الذي يأتي به قاطع الطريق الذي يخدع الغرباء ويمتهن مهنة اللصوص؛ وبمثل هذه الوسيلة الخداعة يستطيع قتل كثير من الرجال فيفرح بهم قلبه.
عسى ألا تقيم مثل هذه المرأة معي في بيتي! وإلا فليسمح الله، قبل ذلك، بأن أهلك بغير ولد!
الكوروس :
أواه، أواه، يا للعمل الوبيل! تعيسة هي الميتة التي أنهت حياتك. يا للحسرة! يا للحسرة! والازدهار أيضا لمن خدم الآلام.
أوريستيس :
أفعلت تلك الفعلة أم لم تفعلها؟ كلا، إن شاهدي هو هذا الثوب الذي صبغه سيف أيجيسثوس. كانت دما، هذه البقعة التي تساعد الزمن على أن يتلف الأصباغ الكثيرة التي صبغت بها الأقمشة الموشاة.
وأخيرا أتكلم الآن بالثناء عليه، وقد حضرت الآن أخيرا لأبكيه وأنا أخاطب هذا النسيج الذي سبب موت أبي، ومع ذلك، أحزن للفعلة وللعقاب، ولكل العشيرة، إن انتصاري تلوث لا يحسد عليه الإنسان.
الكوروس :
لن يقضي مخلوق بشري حياته بغير خسارة وخالية من الآلام حتى نهايتها. يا للأسف! يا للأسف! تأتي اليوم شدة، ثم تتلوها أخرى غدا.
أوريستيس :
ولكن - بما أنه قد يواجهني، وأنتن تعرفن - لأنني لا أعرف كيف ستنتهي - فأنا سائق يسوق خيوله بعيدا خارج الطريق؛ إذ يطوح بي ذهني الصعب القياد بعيدا، مغلوبا على أمري، وأما الخوف في قلبي فيميل إلى أن يغني ويرقص على نغمة الغضب. ولكن بينما أنا لا أزال محتفظا بحواسي، أعلن لمن أنا عزيز عليهم، وأقرر أنني لم أقتل بغير عدل والدتي، قاتلة أبي، الملوثة، والتي تمقتها السماء.
أما عن البواعث التي شجعتني على هذا العمل، فأهم من أقدمه هو لوكسياس، عراف بوثو، الذي قرر أنني إن فعلت هذا برئت من التهمة الشريرة، أما إذا تخاذلت، فلن أذكر اسم العقاب، إذ ما من قذيفة قوس يمكن أن تصل بنكبتها إلى ذلك الارتفاع.
والآن، انظروا، كيف أتسلح بهذا الغصن وهذا الإكليل، وأذهب كمتضرع إلى مركز الأرض الرئيسي، أملاك لوكسياس، وإلى النار الساطعة المشهورة بأنها لا تخمد إطلاقا،
54
منفيا لفعلة قتل الأقارب هذه، كما أمرني لوكسياس بألا أتوجه إلى أي وطيس آخر. أما عن الطريقة التي تمت بها هذه الفعلة الشنيعة، فإنني أكلف جميع رجال أرجوس، في الوقت المناسب، بأن يأتوا ويشهدوا لي. سأذهب شريدا من هذه الأرض تاركا ورائي تقريرا في الحياة أو في الموت.
الكوروس :
كلا، بل فعلت خيرا؛ لذا لا تسخر لسانك للنطق بكلام الشؤم، ولا تجعل شفتيك تتكلمان بتكهنات النحس لأنك حررت مملكة أرجوس بأسرها بأن قطعت رأسي أفعوانين بضربة سعيدة.
أوريستيس :
أواه، أواه! انظرن إليهما هناك، أيتها الوصفيات - كأنهما جورجونتان
55
ترتديان أثوابا من الشعر الأحمر المنسوج بالثعابين المكتظة! لا أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك.
الكوروس :
أية أوهام تلك التي تزعجك، يا أعز الأبناء على والدك؟ لا يسيطرن الخوف عليك بهذه الدرجة المفزعة.
أوريستيس :
ما من مخاوف متوهمة تساورني، بل الحقيقة أن هناك تقف الكلاب المقتفية الأثر برائحة الدم، تريد الانتقام لوالدتي.
الكوروس :
إن الدم لا يزال يبلل يديك، وهذا هو السبب في الوساوس التي تبلبل أفكارك.
أوريستيس :
استمع إلي، أيها السيد أبولو! إنهن يأتين الآن جماعات، ويقطر من عيونهن دم مقيت!
الكوروس :
هناك طريقة واحدة لتطهيرك، إنها لمسة لوكسياس التي تخلصك من هذه الكآبة.
أوريستيس :
إنكن لا ترينهن، بل أنا الذي أراهن. إنني أطارد. لن أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك. (يندفع خارجا.)
الكوروس :
إذن، فلتصحبك النعم، وليرعك الله برحمته ويحرسك بحظ سعيد!
انظروا! للمرة الثالثة تهب عاصفة الأسرة على البيت الملكي وتستمر في طريقها. فأولا، في البداية، جاءت الكارثة القاسية من ذبح الأطفال طعاما، ثم حتف رجل ملك، عندما قتل في حمام. فهلك سيد حرب الآخيين
Achaeans . والآن، يأتي، مرة ثالثة، مخلص - أو هل أقول حتف؟ أواه، متى سيتم عملها؛ متى تهدأ ثورة المصائب وتنتهي وتكف؟
يومينيديس أو الرحيمات
(عن اليونانية القديمة)
1
ملخص المسرحية
اكتشفت كاهنة أبولو وجود أوريستيس المتضرع في المحراب الداخلي لإله دلفي، وأمامه إيرينويس والدته وتتكون من جماعة من المخلوقات المخيفة، تعبن من مطاردة هذا الهارب، فغلبهن النعاس، وعد أبولو أوريستيس بأن يساعده وأمره بالهروب إلى أثينا حيث يعرض قضيته للحكم ويتخلص من آلامه. يظهر شبح كلوتايمسترا ليوبخ الإيرينويس النائمات على إهمالهن، لأنهن حططن من قدرها بين الموتى الآخرين.
فاستيقظن من سباتهن بسبب تعييراتها، وانتحين باللوم على أبولو إذ آوى رجلا ملوثا طاردنه بالحق الذي تخوله لهن وظيفتهن، وهي الانتقام من جميع الذين يسفكون دم الأقارب.
ينتقل المنظر إلى أثينا حيث تتبعت المطاردات فريستهن. فأمسك أوريستيس بتمثال بالاس العتيق، وتوسل إليها طالبا حمايتها بحجة أن الدم الذي على يديه قد غسل منذ مدة طويلة بطقوس مقدسة، وأن وجوده لم يضر أحدا ممن آووه بسوء. تنشد الإيرينويس ترتيلة ليربطن روح فريستهن بنوبتها الجنونية. فتظهر الربة استجابة لنداء أوريستيس وتتعهد، بعد أن تحصل على موافقة الإيرينويس، على أن تتولى الحكم في القضية وحدها بمساعدة عدد مختار من مواطنيها، تتألف منهم طائفة المحلفين.
تفتح المحاكمة بحضور أبولو كمحام عن المتضرع إليه، وكممثل لزوس الذي ينقل أوامره في كل وحي له. فيقرر أن أوريستيس إنما قتل أمه تبعا لوصيته المشددة المتعجلة. يعترف المتهم بفعلته، ولكنه يقول في الدفاع عن نفسه، إن كلوتايمسترا، إذ قتلت زوجها فإنما قتلت أباه، وكان يجدر بالمدعيات بحق الاتهام أن ينتقمن منها، وعندما رفض هذا الدفاع، بحجة أن القاتلة لم تكن قريبة المقتول، أنكر أوريستيس قرابة الدم بينه وبين والدته، وأيده في ذلك أبولو الذي أكد أن الأب وحده هو الوالد الصحيح للطفل، وليست الأم سوى مربية للبذرة المزروعة.
أعلنت أثينا أن المحكمة، وهي أول محكمة تنظر في قضايا قتل الإنسان، قد تأسست منها لجميع الأزمنة المستقبلة. وألقى المحلفون أزلامهم، فقررت الربة أن واجبها النطق بالحكم النهائي في القضية، وتبدي رغبتها في أن يحسب صوتها في جانب أوريستيس ليكسب القضية، في حالة تعادل الأصوات. وإذ أعلن انتصار أوريستيس بذلك القرار، فإنه غادر المكان في هدوء وهدد خصومه بأن يجلبن الخراب على البلاد التي أنكرت عدالة قضيتهن. وكان دور أثينا تهدئة غضبهن بأن وعدتهن بإغداق الأمجاد عليهن، ولم يعدن منذ ذلك الوقت أرواح الغضب، وإنما أرواح الخير والبركات. وهكذا انصرفن في حراسة موكب موقر إلى معبدهن تحت تل آريس
Ares .
شخصيات المسرحية
الكاهنة البوثية
The Pythian Prophetess .
أبولو
Apollo .
أوريستيس
Orestes .
شبح كلوتايمسترا
Shade of Clytaemestra .
كوروس من الفوريات (ربات الانتقام)
Chorus of Furies .
الربة أثينا
Athena .
حرس.
المنظر (1):
معبد أبولو في دلفي.
المنظر (2):
معبد الربة أثينا بمدينة أثينا.
الزمن:
عصر الأبطال.
التاريخ:
سنة 458ق.م. في عيد ديونيسيا المدينة. ***
الكاهنة :
أعطي أعظم مجد، بين الآلهة، في صلاتي هذه للعرافة الأولى «الأرض»، وبعدها لثيميس
Themis
لأنها، كما يقال، أخذت مقعد الوحي الثاني هذا من والدتها. وثالثا، بموافقة ثيميس وبغير اعتراض من أحد، تأتي تيتانة أخرى هي فويبي
، ابنة الأرض، ثم منحت هذا المقعد، كهدية ميلاد، إلى فويبوس
،
2
الذي أخذ اسمه من فويبي. فغادر بحيرة ديلوس
3
وتل ديلوس، ونزل على شواطئ بالاس، التي تؤمها السفن. ثم جاء إلى هذه المنطقة ومواضع السكنى على بارناسوس. فرافقه، في احترام وتوقير، أولاد هيفايستوس،
4
الذين شقوا الطرق العظيمة وروضوا برية الأرض غير المروضة. فلما ذهب إلى أولئك القوم عبدوه عبادة سامية، كما عبده رعاة ديلفوس
Delphus
وملك تلك البلاد. وأوحى زوس روحه مع فن ذلك العراف، وثبته على عرشه كعراف رابع في الوقت الحاضر، يتكلم بلسان والده زوس.
هؤلاء هم الآلهة الذين أتوسل إليهم في مقدمة صلاتي. وكذلك تجد بالاس ذات المعبد
5
تبجيلا في كلامي، كما أبجل الحوريات اللواتي يتخذن مساكنهن حيث توجد الصخرة الكوروكية
6
ذات الكهوف، التي هي بهجة الطيور ومنتدى القوى الإلهية. احتل بروميوس
Bromius
تلك المنطقة (ولا أنساه) منذ ذلك الوقت. وإذ كان إلها حقيقيا رأس الجماعة الباكخية، ودبر موت بنثيوس
كما لو كان أرنبا يصطاد. كذلك أتوسل إلى مياه بلايستوس
وإلى قوة بوسايدون وزوس المدبر البالغ السمو؛ بعد ذلك أتخذ مجلسي فوق العرش ككاهنة. وعسى أن يسمحوا بأن يكون أسعد حظ لي بعيدا جدا خارج مداخلي السابقة. وإذا كان هنا أي فرد من بين الهيلينيين، فليدخلوا بالترتيب بالقرعة كالمعتاد، فكما يرشدني الإله سأتنبأ. (تدخل المعبد، وبعد فترة قصيرة تعود مذعورة.)
يا للفظاعة! إنها فظائع عند روايتها، فظائع لعيني إذ تنظران إليها، أرجعتني من بيت لوكسياس، حتى لم يبق في قوة، ولا أستطيع الانتصاب في مشيتي. أجري بمساعدة يدي، وليس على أطرافي العديمة الإحساس؛ لأن المرأة العجوز إذا ما تملكها الذعر صارت لا شيء، كلا بل بالحرى، صارت طفلة.
كنت في طريقي إلى المحراب الداخلي المتوج بالكثير من الأكاليل، فإذا بي أرى على «حجر المركز»
7
رجلا دنسا أمام السماء يحتل مكان المتضرعين. يداه تقطران دما ويمسك بسيف شهر منذ فترة وجيزة وبغصن زيتون مرتفع متوج بوقار بخصلة من الصوف كبيرة أكثر من المعتاد، من جزة بيضاء، إذ يمكنني الكلام عن هذا في وضوح.
جلست أمام ذلك الرجل جماعة عجيبة من النساء نائمات على عروش. كلا! لسن نساء، هذا أكيد، بل الأصح أن أسميهن جورجونات. في إحدى المرات، قبل ذلك، رأيت بعض المخلوقات المصورة
8
تخطف الأطعمة من فوق مائدة وليمة فينيوس
غير أن هذه عديمة الأجنحة وحمراوات الشعور، وبغيضات الصورة تماما. أما خياشيمهن ذوات الشخير فتنفث تيارات مخيفة من هواء الزفير، ويسيل من عيونهن سائل قذر. كذلك كان لباسهن غير لائق للظهور أمام تماثيل الآلهة أو في مساكن البشر. لم يسبق أن رأيت قط العشيرة التي تضم مثل هذه الجماعة، كما لا أعرف المنطقة التي تفخر بأنها تربي مثل هؤلاء النسوة دون أن يصيبها أذى، ولا تندم على مجهودها.
أما عن النتيجة فليهتم بها سيد هذا البيت، لوكسياس نفسه القوي، لأنه مظهر العلاجات الشافية وقارئ الفئول ويطهر مساكن غيره. (تخرج.) (يظهر داخل المعبد، يدخل أبولو من المعبد الداخلي ويقف بجانب أوريستيس عند حجر المركز. وبقرب المتضرع تنام الفوريات بينما يقف هيرميس في الخلفية.)
أبولو :
كلا! لن أهجرك، فأنا حارسك إلى النهاية، أقف إلى جانبك، وحتى إذا وقفت بعيدا، فلن أكون رقيقا نحو أعدائي. فأنت الآن ترى هؤلاء النسوة المخبولات مغلوبات على أمرهن. غلب النعاس على هؤلاء العذراوات المغنيات - إنهن طفلات مسنات مجنونات، لا يرافقهن قط أي إله أو أي رجل أو أي حيوان. ما ولدن إلا للشر؛ إذ إنهن يقمن في ظلام تارتاروس المقيت تحت الأرض - إنهن مخلوقات بغيضات إلى البشر وإلى آلهة أوليمبوس. ومع ذلك، اهرب ولا تكن ضعيف القلب. إذ بينما رحلت في الأرض طاردنك حتى ولو كان ذلك في القارة الفسيحة، وفيما وراء العواصم والمدن التي يحوطها البحر، ولا يتطرقن التعب إليك قبل أن تكمل طريقك جريا بالجهد، حتى إذا ما وصلت إلى مدينة بالاس، فاجلس وأمسك تمثالها القديم بين ذراعيك. سنجد هناك وسيلة لتخليصك تماما من محنتك بالقضاة في قضيتك والكلام ذي السحر المغري، إذ بناء على وصيتي قتلت أمك.
أوريستيس :
أيها السيد أبولو، لم تعرف أن تكون غير عادل، وبما أنك تعرف، فتعلم أيضا ألا تكون عديم الاكتراث. فإن قوتك على فعل الخير ضمان ملائم.
أبولو :
تذكر ألا تدع الخوف يسيطر على روحك. واسهر على مراقبته، يا هيرميس، يا أخي ودم أبي. كن جديرا باسمك وصر «مرشده»
9
أرشد المتضرع إلى هذا، وأنت في صورة راع - الحقيقة أن زوس يمجد حق المنبوذين المقدس - على أن يساق إلى أناس بإرشاد مزدهر. (يخرج أوريستيس برفقة هيرميس، فيظهر شبح كلوتايمسترا.)
شبح كلوتايمسترا :
أأنتن نائمات؟ ما شاء الله! وهل هناك حاجة إلى النائمات؟ بسببكن لحقتني الإهانة بين غيري من الموتى. ولا يكف الموتى عن تأنيبي بسبب أعمالي الدموية، فأهيم على وجهي مجللة بالعار. أقرر لكن أنهم يتهمونني اتهامات محزنة للغاية. ومع ذلك، فقد قاسيت هذا من أقرب أقربائي، ولم تغضب أية قوة إلهية من أجلي، إذ قتلت بيد ابني نفسه. انظرن إلى هذه الجروح التي في قلبي، من أين أتت! يستطيع العقل النائم أن يرى بوضوح، أما في وقت النهار فلا يمكن التنبؤ بمصير البشر.
الحقيقة أنكن شربتن كثيرا من تقدماتي؛ سكائب خالية من الخمر، وترضية عظيمة. وكم من ولائم في الليل الهادئ زاخرة بالذبائح على وطيس نار في ساعة لا يشترك فيها أي إله. أرى أن كل ذلك قد وطئ تحت الأقدام. إذ هرب منكن وانطلق كأنه غزال. نعم، أفلت من وسط شرككن ساخرا منكن وهو يغمز بعينه مزدريا. أصغين إلي! بما أنني أترافع من أجل حياتي، فاستيقظن وعدن إلى وعيكن يا ربات العالم السفلي! إنني أحثكن الآن في حلم! أنا كلوتايمسترا. (يبدأ الكوروس يتحرك في قلق بينما يغمغم.)
غمغمن ما شئتن! ولكن الرجل انصرف. هرب بعيدا لأن له أصدقاء ليسوا كأصدقائي! (يستمر الكورس في الغمغمة.)
إنكن مثقلات جدا بالنوم، ولا تأخذكن أية شفقة على محنتي. لقد انصرف من هنا أوريستيس، قاتل أمه! (يبدأ الكوروس يئن.)
ما هذا الأنين، وما هذا النوم، ألا تنهضن في الحال؟ أي عمل نسب إليكن غير فعل الشر! (يستمر الكوروس في الأنين.)
لقد أفسد النعاس والتعب، هذان المتآمران المناسبان، قوة التنينات المرهوبات.
الكوروس (في همهمة مضاعفة وشديدة) :
اقبضوا عليه! اقبضوا عليه! اقبضوا عليه! اقبضوا عليه! اعرفوه!
شبح كلوتايمسترا :
إنكن تصدن فريستكن في حلم، وتزمجرن ككلب صيد لا يترك الأثر إطلاقا. أي عمل لديكن الآن؟ انهضن! لا تسمحن للتعب بالسيطرة عليكن، ولا للنوم بأن يوهن عزائمكن لئلا تنسين ما أصابني من ظلم. أوخزن قلوبكن بالتعنيف اللازم، فالتعنيف مهماز العقل السليم. أطلقن عليه أنفاسكن الدموية، أوقفن حركته ببخار ناري من أعضائكن الحيوية، هيا وراءه، أضعفنه بالمطاردة بنشاط متجدد! (يختفي شبح كلوتايمسترا. توقظ رئيسة الكوروس الفوريات فيستيقظن واحدة بعد أخرى.)
الكوروس :
استيقظي يا هذه! أيقظيها كما أيقظتك. ألا تزال نائمة؟ استيقظي. انفضي النوم عن عينيك، وهيا ننظر ما إذا كان هناك شيء وقد ضاع عبثا في هذه المقدمة.
10
أواه، أواه! يا للأسف لقد أصابنا الضرر، أيتها الصديقات.
حقا ، أصابني الضرر في كل شيء ضاع بغير جدوى.
لقد أصابنا ظلم فادح، بكل أسف! إنه ضرر لا يطاق، إذ أفلت صيدنا من بين أيدينا وانطلق.
يا للعار! أنت، يا ابن زوس؛ إنك قد تعودت السرقة.
وأنت لا تزال شابا، قد تخطيت الآلهة المسنة بإظهارك الاحترام للمتضرع إليك، وهو شخص لا آلهة له، شخص قسا على والدته. فرغم كونك إلها فقد سرقت ذلك الذي قتل أمه.
ماذا هنا يستطيع أي فرد أن يسميه عدلا؟
جاءني إله اللوم في حلم، وضربني، كما لو كان سائق عربة، بمنخس كان يقبض عليه بشدة، فوخزني تحت قلبي، تحت أعضائي الحيوية.
إن من حقي القبض على ذلك القاسي، ذلك البالغ القسوة، الذي تحدى العقاب المخيف لعوامل القدر.
هكذا أعمال الآلهة الأصغر سنا، الذين يحكمون بعيدا عن جانب الصواب. عرش يقطر دما على قدميه وعلى رأسه.
إن من حقي أن أرى حجر مركز الأرض وقد لوثه دم نجس فظيع.
فرغم كونه نبيا، فإن بأمره وبطلبه العاجل قد لوث معبده بالدنس عند وطيسه، وخالف أوامر الآلهة بتمجيده الكائنات البشرية، وضرب باختصاصات الآلهة الأكبر سنا، عرض الحائط.
كما أنه جلب المحنة علي، ولكنه لن يستطيع تخليصه. فمهما طار إلى ما وراء الأرض فلن يطلق سراحه. فإذ تلوث بحريمة القتل، فسيكون على رأسه منتقم آخر من أقاربه.
11 (يدخل أبولو قادما من المعبد الداخلي.)
أبولو :
انصرفن من هنا، إني لآمركن! اخرجن الآن من هذا البيت، اتركن معبدي التنبئي لئلا يضربكن ثعبان لامع مجنح
12
يطلق من وتر قوس مصنوع من الذهب، فتتقيان الزبد الأسود الذي امتصصتنه من البشر، والدم المتخثر الذي شربتنه. والحقيقة أن هذا بيت غير ملائم لمجيئكن. فمكانكن هو الموضع الذي به أحكام قطع الرءوس؛ وفقء العيون وضرب الأعناق. حيث تحطم رجولة الشباب بإتلاف البذرة، حيث يعذب الرجال ويرجمون حتى يموتوا وحيث يعدمون بالخازوق تحت العمود الفقري، فيئنون أنينا طويلا مؤلما. أسمعتن أي نوع من الولائم محبب إليكن حتى يجعلكن مقيتات لدى الآلهة؟ ها أنا ذا وضعت أمامكن جميع الصور الملائمة لكن. يجب على المخلوقات المشابهة لكن أن تقيم في عرين أسد لاعق دم، كي لا تنشرن التلوث في كل ما حواليكن في محراب الوحي هذا. اغربن من هنا، أيها القطيع الذي لا راعي له! لا يحب أي إله مثل هذا القطيع.
الكوروس :
أيها السيد أبولو، استمع بدورك إلى ردنا، إنك المحرض على هذه الفعلة، أنت نفسك. إنها من فعلك أنت وحدك، وتقع الجريمة كلها عليك.
أبولو :
ماذا تعنين؟ أوضحن كلامكن أكثر من هذا.
الكوروس :
إنك حرضت الغريب بنصيحتك على أن يقتل والدته.
أبولو :
بل حرضته بوصيتي على أن يأخذ بثأر أبيه. وماذا إذن؟
الكوروس :
بعد ذلك شغلت نفسك بإيواء قاتل متلبس بجريمة الدم.
أبولو :
وأمرته بأن يأتي إلى هذا البيت ليتطهر.
الكوروس :
ثم تؤنبنا حقيقة على أننا أسرعنا به ليأتي إلى هنا؟
أبولو :
نعم، لأنه ما كان يليق أن تأتين إلى بيتي هذا.
الكوروس :
ولكن عهد إلينا بهذه المهمة.
أبولو :
وما مهمتكن هذه؟ الزهو بامتيازكن الأمجد!
الكوروس :
إننا نطارد من يقتلون أمهاتهم ونخرجهم من بيوتهم.
أبولو :
ولكن، ماذا عن الزوجة التي تقتل زوجها؟
الكوروس :
ليس هذا قتل شخص قريب من نفس الدم.
أبولو :
الحقيقة أنكن تعملن على تراكم الإهانة والاحتقار على عهود هيرا المتممة، وعهود زوس.
13
كذلك نبذت كوبريس
Cypris
14
مجللة بالعار بحجتكن هذه، ومنها أخذ قومها أقرب أفراحهم وأعزها. فإن الزواج الذي حدده «القضاء» بين الرجل والمرأة أقوى من اليمين، وتحرسه العدالة. فإذا قتل أحد الزوجين الآخر كنتن متراخيات في عدم عقابهما أو زيارتهما بغضبكن، إذن فأنا أحكم على مطاردتكن لأوريستيس بأنها لا تنطوي على أية عدالة؛ إذ أرى أن السبب في إحدى هاتين الجريمتين، أنكن تمقتنه في قلوبكن بينما أنتن أكثر تهاونا في التنفيذ في حالة الأخرى. وستنظر الربة بالاس في المرافعات الخاصة بهذه القضية.
الكوروس :
لن نترك هذا الرجل إطلاقا!
أبولو :
إذن، فطاردنه واجررن على نفوسكن متاعب جمة.
الكوروس :
لا تحاول اقتطاع بعض امتيازاتنا بكلامك هذا.
أبولو :
لن آخذ امتيازاتكن هذه هدية.
الكوروس :
كلا، هذا لأنك، على أية حال، معتبر عظيما بواسطة عرش زوس. أما أنا، فبما أن دم الأم يقودني، فسأستمر في قضيتي ضد هذا الرجل، وحتى الآن، سأقتفي أثره. (يخرجن.)
أبولو :
وسأنقذ المتوسل إلي وأنجيه! لأن غضب من يسعى إلى التطهير، مفزع في السماء وعلى الأرض،
(يدخل المعبد) . (يتغير المنظر إلى أثينا، أمام معبد الربة أثينا. يدخل هيرميس مع أوريستيس، الذي يعانق تمثال الربة القديم.)
أوريستيس :
أيتها الملكة أثينا، ها أنا ذا أتيت طاعة لأمر لوكسياس، فتكرمي بفضلك وإحسانك بقبول بائس نزلت به اللعنة، غير متضرع للتطهير، ولا طاهر اليد، بيد أن حافة جريمتي مثلمة وبالية في المساكن الأخرى وفي ممرات الرجال المطروقة. اتخذت طريقي في البر وفي البحر على حد سواء، طاعة لنصائح وحي لوكسياس، وها أنا ذا أتقدم الآن من بيتك وتمثالك، أيتها الربة. سأتخذ موضعي هنا، وأنتظر نتيجة المحاكمة. (تدخل الفوريات متفرقات، مقتفيات أثر أوريستيس بالرائحة.)
الكوروس :
مرحى! ها هنا أثر ذلك الرجل، وإنه لواضح! اقتفين أثر المرشد الصامت. فكما يقتفي كلب الصيد أثر غزال جريح، كذلك نقتفي نحن أثره بقطرات الدم. يلهث قلبي من عملي الشاق المتعب، إذ جبت كل مناطق الأرض، وجئت طائرة بغير أجنحة، أطارده فوق البحر مسرعة كسفينة سريعة؛ لذا فهو مختبئ الآن في مكان ما. إن رائحة الدم البشري لتضحكني طربا.
انظرن! انظرن ثانية! ابحثن في كل بقعة لئلا يهرب قاتل أمه، ويتسلل خلسة في طيران سري دون أن يدفع دينه!
نعم، إنه هنا ثانية! في مخبأ، وذراعاه تطوقان تمثال الربة الخالدة، يتلهف إلى أن يقدم للمحاكمة من أجل دينه!
15
ولكن قد لا يحدث هذا. فإن دم الأم المسفوك على الأرض، أكثر من أن يجدي فيه علاج. أواه، ما إن يراق التيار المتدفق على الأرض حتى يضيع ويذهب!
كلا، لا بد أن تقاسي في نظير ذلك، أن أمتص كتل الدم الحمراء من أعضائك الحية. هل لي أن أغذي نفسي بك - جرعة بشعة!
سأضعف قوتك وأنقلك حيا إلى العالم السفلي؛ لتنال العقاب جزاء ألم والدتك المقتولة.
وسترى كل شخص غيرك من البشر يكون قد أثم إثم عدم احترام الإله أو الغريب أو والديه العزيزين، فينال كل فرد منهم جزاءه من العدالة.
لأن إله الموت قوي في محاسبة البشر تحت الأرض، ويشرف على كل شيء بعقله المسجل.
أوريستيس :
وإذ علمتني المحنة، فلدي معلومات عن كثير من قوانين التطهر، وأعرف متى ينبغي الكلام، ومتى يجب الصمت، وفي حالتي الحاضرة هذه قد أمرني بعلم حكيم، بأن أتكلم؛ لأن الدم الذي على رأسي نائم الآن ومتلاش - لقد غسل التلوث الناتج عن قتل أمي؛ إذ بينما كان لا يزال طريا أزاله وطيس إله، أزاله فويبوس بتطهير الخنازير المذبوحة. كانت قصة طويلة أرويها منذ بداية كل ما زرته، ولم يصبني أذى بإقامتي معهم (يبلي الزمن العجوز كل الأشياء التي تغدو مسنة أثناء ذلك) .
لذا، أتوسل الآن بتقوى، بشفتين نقيتين، إلى الربة أثينا، ملكة هذه البلاد، لكي تهرع إلى مساعدتي. فبدون مجهود من رمحها ستربحني وتربح بلادي وشعب أرجوس كحلفاء أوفياء أمناء، إلى الأبد. ولكن سواء أكانت في منطقة ما من الأرض الليبية، أو في مياه تريتون
Triton ، ذلك المجرى الذي ولدت فيه، تعمل أو ترتاح،
16
تساعد أولئك الذين تحبهم؛ أو تكون كقائد جريء يذرع السهل الفليجراياني
17 ، ليتها تحضر - فإذ كانت ربة، كما هي، فإنها تسمع من مسافة بعيدة - لتكون مخلصتي من محنتي!
الكوروس :
كلا، كن على يقين من أنه لن ينقذك من الهلاك أي إله، لا أبولو ولا أثينا، بل تظل محتقرا ومهملا، ولا تعرف أين يكون الفرح في روحك - وإنما ستكون ذبيحة عديمة الدم، للقوى السفلى، شبحا لنفسك.
ماذا! ألا تكلف نفسك حتى مئونة الرد؛ بل تحتقر كلامي أيتها الضحية المسمنة والمكرسة لي؟ لن تذبح على مذبح، وإنما ستكون وليمتي وأنت حي، وستسمع الآن أنشودتي التي تربطك بتعويذتها.
هيا، الآن إلى الرقص أيضا إذ عزمنا على عرض أنشودتنا المحزنة، ونبين وظيفتنا، فكيف تدير جماعتنا شئون البشر. نعلن أننا عادلات ومستقيمات. من يمد الأيادي غير مدنسة فلن يعتدي عليه أي غضب لنا، ويقضي حياته كلها سليما بغير أذى. أما من يقترف الجريمة التي اقترفها هذا الرجل ويخف يديه الملوثتين بالدماء، فإننا نقدم أنفسنا كشاهدات عادلات لأجل القتيل، ونظهر ضده إلى النهاية كمنتقمات للدم المسفوك.
يا ربة الليل الأم، أيتها الأم التي ولدتني لأكون عقابا للموتى وللأحياء، اسمعيني! لأن ابن ليتو
Leto
يريد أن يجلب العار علي بالإفلات من قبضتي؛ أنت أيها النذل القابع، والذبيحة الملائمة للتكفير عن دم الأم.
هذه أنشودتنا تنزل على فريستنا المكرسة لنا، زاخرة بالجنون، مفعمة بالخبل، تبلبل المخ، أنشودة الفوريات تعويذة تربط الروح دون أن تصاحبها أية نغمة على القيثارة، توهن حياة ذلك الرجل البشري.
لأن هذه هي الوظيفة التي عهد بها إلينا المصير الدائم المعرفة وهو يغزل خيط حياتنا، وظيفة نحتفظ بها دون تغيير؛ أن ننزل على أولئك البشر الذين يقترفون جريمة قتل الأقارب، ننزل عليهم إلى أن يأتي الوقت الذي يمرون فيه إلى ما تحت الأرض، ولا يتمتعون بحرية كبيرة بعد الموت.
هذه أنشودتنا تنزل على فريستنا المكرسة لنا، زاخرة بالجنون، مفعمة بالخبل، تبلبل المخ، أنشودة الفوريات تعويذة تربط الروح دون أن تصاحبها أية نغمة على القيثارة، توهن حياة ذلك الرجل البشري.
عهد إلينا بهذه الوظيفة عند مولدنا، ولكن الخالدين لا يستطيعون وضع أيديهم علينا، ولا يشاركنا في ولائمنا أي واحد منهم، أما أثواب الأعياد الناصعة البياض فلا حظ لي فيها ولا نصيب.
لأنني جعلت همي كوارث البيوت، كلما دب النزاع في البيت، وصرع أحد الأفراد القريب العزيز. عند ذلك أسرع وراء ذلك الرجل، وعلى الرغم من كل قوته نجعله يذوي بسبب فعلة دموية جديدة.
انظروا، إننا نتلهف إلى أن ننتزع هذه المهمة من إله آخر، ونصدر قرارا بأن لا سلطة للآلهة على ما يتعلق بي، حتى لا يأتي أمامهم للمحاكمة؛ لأن زوس اعتبر جماعتنا المقيتة مصاصة الدماء هذه غير جديرة بحديثه.
لأنني جعلت همي كوارث البيوت، كلما دب النزاع في البيت وصرع أحد الأفراد القريب والعزيز، عندئذ أسرع وراء ذلك الرجل، ورغم كل قوته ، نجعله يذوي بسبب فعلة دموية جديدة.
أما البشر ذوو الأفكار المتغطرسة، الذين يعتبرون أنفسهم قد بلغوا السمو تحت السماء، فهؤلاء يذبلون ويسقطون في خزي تحت الأرض بهجومنا الدموي وإيقاع أقدامنا المنتقمة.
لأنني موقنة أنني بوثبة قوية من أعلى سأوقع به قوة السقوط الثقيلة لقدمي، تلك الأطراف التي تلحق حتى بالعدائين السريعي الجري، فتكون سقطة لا يمكن احتمالها.
ولكنه بينما يسقط، لا يعرف ذلك بسبب غباوته التي لا يحس بها. فيحلق التلوث في غمامة دكناء فوق ذلك الرجل! وتعلن الإشاعة الزاخرة بالكثير من الويلات، أن ظلاما أشبه بالضباب يخيم فوق بيته.
لأنني موقنة أنني بوثبة قوية من أعلى سأوقع به قوة السقوط الثقيلة لقدمي، تلك الأطراف التي تلحق حتى بالعدائين السريعي الجري، فتكون سقطة لا يمكن احتمالها.
لأنه سيظل مقررا أننا نظل ماهرات في التدبير، مهتمات بفعل الشرور، مخيفات وقاسيات على الجنس البشري، نمارس وظيفتنا مجللات بالعار ومحتقرات ومعزولات عن الآلهة بضوء ليس للشمس؛ وظيفة تجعل طريق الأحياء وعرا وكذلك طريق الموتى أيضا.
من من البشر، إذن، لا يرهب ذلك ولا يفزع منه، عندما يسمع من شفتي الحق المخول لي بواسطة القدر، بقرار من الآلهة لإنجازه على أكمل وجه؟ لا يزال حقي الشرعي القديم قائما، ولن يلحقني العار رغم أن مكاني المحدد هو تحت الأرض، وفي ظلام لا تنفذ إليه الشمس. (تدخل أثينا ممسكة بالترس «الأيجوس».)
أثينا :
سمعت من بعيد صوتا يطلبني، من سكاماندر. منذ مدة وأنا أمتلك الأرض التي أعطانيها قادة الأخائيين ورؤساؤهم، كنصيبي من الأسلاب التي ربحها رماحهم على أن تكون لي إلى الأبد. هدية مختارة إلى أبناء ثيسيوس.
18
لذا أتيت مسرعة وقدمي غير المتعبة تحف في الهواء وأنا أستخدم ثنيات ترسي
19
بدل الأجنحة. عندما أتطلع إلى ذلك الجمع غير المألوف من زوار أرضي، أخشى في الحقيقة ألا أشعر إلا بما يدهش عيني. من أنتم في هذا العالم؟ إنني أخاطبكم جميعا، الغريب الراكع عند تمثالي، وأنتن يا من لا تشبهن أي جنس من المخلوقات المولودة التي لم ترها الآلهة بين الربات، وما من شبه بينكن وبين الجنس البشري، ولكن التحدث بالسوء عن جار بريء من الإثم، بعيد عن العدل، غير أن العدل يعلو.
الكوروس :
يا ابنة زوس، ستسمعين كل شيء باختصار. إننا بنات الليل المرهوبات، ويطلق علينا زملاؤنا سكان ما تحت الأرض اسم «اللعنات».
أثينا :
عرفت الآن سلسلة نسبكن والأسماء التي أطلقت عليكن.
الكوروس :
وسرعان ما ستعلمين وظيفتنا أيضا.
أثينا :
سأفهمها إذا أخبرت بها في وضوح.
الكوروس :
نطرد قاتلي البشر من بيوتهم.
أثينا :
وأين هي منطقة نفوذ القاتل الهارب؟
الكوروس :
حيث يغيب الفرح ولا يعرف.
20
أثينا :
أحقا أنك تريدين مطاردته بكلامك، إلى مثل هذا الهروب؟
الكوروس :
نعم، لأنه اعتبر أن واجبه قتل أمه.
أثينا :
وهل ذلك بناء على ضغط آخر، أو لخوفه من غضب شخص ما؟
الكوروس :
أين يكون هناك حافز قوي يضطر الشخص إلى قتل أمه؟
أثينا :
هنا طرفان حاضران، ولم أسمع سوى نصف القضية.
الكوروس :
ولكنه لم يحلف اليمين، وليس على استعداد لأن يقسمها.
أثينا :
إنك على استعداد لأن تكوني عادلة بالاسم أكثر منك بالفعل.
الكوروس :
وكيف يكون ذلك؟ علميني لأنك لست ضعيفة في فنون الدهاء.
أثينا :
أقول إن الأيمان لا يجب أن تكسب الانتصار للظلم.
الكوروس :
حسنا، إذن فاسأليه، ثم انطقي بحكمك العادل.
أثينا :
أتعهدن لي حقا بإصدار القرار في التهمة؟
الكوروس :
وكيف لا، تبجيلا لمولدك النبيل العظيم.
أثينا :
ماذا تقول أيها الغريب ردا على هذا؟ أخبرني، أولا بدولتك، ونسبك، وثروتك، ثم دافع عن نفسك فيما يختص بهذه التهمة، وإذا كان الأمر كذلك، فاعتمادا على عدالة قضيتك تجلس أنت هنا متشبثا بتمثالي بشدة إلى جانب وطيسي، متضرعا مقدسا على طريقة إكسيون
Ixion .
21
أجبني بوضوح على كل ما سألتك عنه.
أوريستيس :
أيتها الملكة أثينا، سأزيل أولا تشاؤما عظيما يختفي في ثنايا حديثك الأخير. الحقيقة أنني لست متضرعا في حاجة إلى التطهير، ولم أسقط عند قدمي تمثالك ملوث اليدين. وسأقدم لك برهانا قويا عن هذا. ينص القانون على أن الملوث بسفك الدماء لا بد أن يمنع من كل حديث ، إلى أن يرشه بدم ذبيحة رضيع من له حق التطهير من القتل. لقد تطهرت هكذا في بيوت أخرى منذ مدة بواسطة كل من الذبائح والأنهار الجارية.
إنني أزيل هذا السبب الذي يقلقك. أما عن نسبي فستسمعين عنه. إنني أرجوسي، وكان والدي - وحسنا استفسرت عنه - أجاممنون الذي قاد الجيش البحري الذي ساعدته في أن يجعل إيليوم، مدينة أرض طروادة، خرابا ولم تعد مدينة، وفي أثناء عودته إلى وطنه هلك بطريقة غير مشرفة؛ إذ قتلته والدتي ذات القلب الأسود؛ أوقعته في شرك ماكر، لا يزال باقيا ليشهد على موته. وعندما رجعت إلى وطني - وكنت منفيا قبل ذلك - قتلت تلك التي ولدتني - ولا أنكر هذا - انتقاما لمقتل والدي الذي كنت أحبه أكثر من أي شيء. ثم إن لوكسياس مسئول معي في هذه الفعلة؛ إذ حرضني على فعلها وهددني بويلات قاسية إذا أخفقت في إنزال هذه الفعلة بالجانية. وإن لك مطلق الحكم فيما إذا كانت فعلتي تلك عادلة أو غير عادلة؛ لأنني سأرضى بحكمك وسيرتاح له ضميري.
أثينا :
هذا الأمر جد جسيم. فإذا اعتقد أي إنسان أن بالإمكان إصدار حكم في هذا؛ كلا، فليس من الشرعي، حتى لي، أن أصدر حكما في قضايا القتل التي تتطلب غضبا عاجلا. ولكن، قبل كل شيء، بما أنك جئت مطهرا بالطقوس الكاملة الأداء، ومتضرعا طاهرا عديم الأذى إلى بيتي، فسأحترمك اجتنابا للإساءة إلى مدينتي. غير أن لهؤلاء النسوة وظيفة لا تسمح بصرفهن بسرعة وبسهولة، وإذا أخفقن في إحراز الانتصار في هدفهن، سقط السم من استيائهن، على الأرض، وصار بعد ذلك وباء مستمرا يصيب البلاد ولا يطيقه الأهلون.
إذن، فهذا وضع هذه القضية: كلا الأمرين - أن نحتمل بقاءهن أو نطردهن - مليء بالمكاره ويحيرني، ولكن طالما قد أسندت هذه القضية إلي، فسأعين قضاة مختصين في قضايا قتل الإنسان، مرتبطين بقسم، وأكون محكمة، محكمة تظل باقية على الزمن. فهل لك أن تستدعي شهودك، وتقدم أدلتك، برهانا مدعما باليمين لتبرير قضيتك. وسأعود بعد أن أنتقي خيرة مواطني كي يصدروا الحكم بما يتفق والحقيقة، بعد ارتباطهم بقسم ألا ينطقوا بحكم بجانب العدالة. (تخرج.)
الكوروس :
الآن نهاية كل الأشياء التي تنمو بالقوانين الجديدة. إذا كان لقضية قاتل أمه الظالمة أن تنجح، فستجر جميع الناس مباشرة إلى الإباحية. والحقيقة أن الآباء والأمهات سينتظرون كثيرا من الجروح، في المستقبل، على أيدي أولادهم.
بما أنه لن يقترب منا، نحن الفوريات الثائرات الدائمات السهر على البشر، أي غضب من مثل هذه الجرائم، فسأطلق الموت من عقاله بكل صورة. وبينما يتوقع إنسان ما حالة جاره السيئة، فإنه سيطلب أخرى عندما ينتهي العقاب أو يخفض. ويقدم البائس المسكين تعزية العلاجات غير الناجعة، التي لا تأتي بأي شفاء محقق.
لا يصرخن أي فرد منذ الآن، عندما يصيبه ضرر، ولا يتضرعن بصوت عال، قائلا: «يا للعدالة!» «يا لأرواح الانتقام المتوجة!» قد يتصادف أن يبكي أب ما أو أم ما، أصابهما ضر، إذ سقط بيت العدالة الآن.
هناك أوقات يسود فيها الخوف ويظل متوجا كحارس للقلب. وإنه لمن المفيد أن نتعلم الحكمة بالأنين. ولكن، من ذلك الذي يدرب قلبه على عدم الخوف، سواء أكان رجلا أو دولة، ويحترم العدالة في المستقبل، كما يحدث هنا؟
لا تعجبنك حياة محكومة، ولا حياة تخضع لسلطان طاغية. يعطي الرب النصر للاعتدال في كل شيء، أما نواميسه الأخرى فيديرها بطرق شتى. إنني أقول الحق في أوانه؛ لأن الغطرسة وليدة عدم التقوى، ما في ذلك ريب؛ أما سلامة الروح فتولد السعادة العزيزة على الجميع، والتي كثيرا ما يطلبها الناس في صلاتهم.
قصارى القول في الموضوع كله، أقول لك: احترم مذبح العدالة ولا تحتقره بأن تدنسه بقدم كافرة، لأن عينيك تتطلعان إلى الربح الدنيوي؛ وإلا نزل بك العقاب. يسود الحكم المحدد؛ لذا فليضع الإنسان في المكان الأول من التقدير، البر الذي يدين به لوالديه، ويحترم الغريب الذي يرحب به داخل أبوابه.
من كان عادلا من تلقاء نفسه بغير رادع فلن يخفق في سعادته ولن ينقطع تماما. أما من يذنب في تحد جريء، ويتمرغ في ثراء جمعه بطرق غير مشروعة، أقول إنه سيمزق شراعه إذا ما هبت عاصفة، وينكسر فوقه إذا ما تداعت السارية.
إنه ينادي من لا يسمعونه، ويناضل عبثا وسط المياه ذات الدوامات ... تضحك السماء من الشخص المستهتر وهي تنظر إليه، ذلك الذي يفخر بأن هذا لن يحدث إطلاقا؛ فيصبح عندئذ عاجزا أمام محنته غير القابلة للعلاج، ولا يقدر على تخطي الموجة العالية. فتتحطم سفينته فوق حاجز العدالة، ويزول الرخاء الذي تمرغ فيه طول حياته، ويهلك دون أن يبكيه أو يراه أحد. (تدخل أثينا في موكب وحاجب، وطائفة المحلفين المكونة من رجال الأريوباجوس، وحشد من المواطنين. ينتقل أوريستيس إلى المكان المخصص للمتهمين. يظهر أبولو بعد أول خطبة لأثينا.)
أثينا :
أيها الحاجب، أعط الإشارة، وأبعد الجمهور، وليرسل البوق التورهيني
Tyrhene
22
المليء بنفس الإنسان، صوته المجلجل إلى القوم! فبينما تمتلئ قاعة المجلس هذه، فحرى أن يسود الصمت، وتعلم أوامري لكل من المدينة بأسرها، إلى الأبد، ولهؤلاء المتقاضين، كي يحكم في قضيتهم بالعدل. (يدخل أبولو)
الكوروس :
أيها السيد أبولو، احكم في اختصاصك، قرر الدور الذي قمت به في هذه المسألة.
أبولو :
جئت لأكون شاهدا - لأن المتهم الواقف هناك متضرع بالطريقة الشرعية ومن المقيمين بمعبدي، وأنا الذي حرضته على فعلة الدم الذي أراقه، ولأكون محاميه أنا نفسي. إنني المسئول عن قتله أمه. (إلى أثينا)
أعدي القضية بنفسك وباشريها بحكمتك إلى أن يصدر القرار النهائي.
أثينا (إلى الفوريات) :
الكلام لكن، إنني أعد القضية، فيتكلم المدعي أولا، ويخبرنا بالوقائع.
الكوروس :
نحن كثيرات، بيد أن كلامنا سيكون موجزا (إلى أوريستيس)
أجب على أسئلتنا سؤالا سؤالا. فأولا: هل قتلت أمك؟
أوريستيس :
قتلتها. لا أنكر هذا.
الكوروس :
هذه لنا، من السقطات الثلاث.
23
أوريستيس :
تفخرين بهذا، مع أن عدوك لم يسقط بعد.
الكوروس :
ومع ذلك، فيجب أن توضح لنا الطريقة التي قتلتها بها.
أوريستيس :
أرد على هذا بأنني طعنتها في رقبتها بسيف كان في يدي.
الكوروس :
من الذي حرضك، وبنصيحة من؟
أوريستيس :
بإيعاز هذا الإله المقدس، وهو شاهدي.
الكوروس :
هل لقنك العراف أن تقتل أمك؟
أوريستيس :
نعم، ولهذه الساعة لا ألوم حظي.
الكوروس :
ولكنك إذا وقعت في قبضة الحكم قلت حكاية أخرى بأسرع ما يمكن.
أوريستيس :
لي ثقة طيبة. سيرسل أبي نجدة من قبره.
الكوروس :
إذن فأنت تثق بالموتى، يا قاتل أمك!
أوريستيس :
نعم، أثق بهم لأنها ملطخة بتلوث مزدوج.
الكوروس :
وكيف ذلك، بالله عليك؟ فسر هذه للقضاة.
أوريستيس :
لأنها قتلت زوجها، وبذلك قتلت أبي.
الكوروس :
ولذا، رغم أنك حي، فهي مطلقة السراج بموتها.
24
أوريستيس :
ولكن لماذا لم تطارديها وهي حية إلى المنفى؟
الكوروس :
لأنها لم تكن ذات قرابة دموية بالرجل الذي قتلته.
أوريستيس :
وهل قرابتي بوالدتي دموية؟
الكوروس :
من غيرها، أيها الرجل الملوث بالدم، قد غذتك تحت منطقتها؟ ألا تعتبر أقرب رباط هذا هو دم الأم؟
أوريستيس :
هل لك، يا أبولو، أن تدلي بشهادتك الآن؟ وأرجوك أن تفسر القانون فيما إذا كنت محقا في قتلها؛ إذ إني لا أنكر أنني فعلت الفعلة كما فعلتها. ولكن هل تبدو هذه الفعلة لفهمك أنها قد نفذت بحق وبعدالة، أو بغير ذلك؟ أخبرني بهذا حتى أقوله للمحكمة.
أبولو :
سأوجه الكلام إليك، أيتها المحكمة العليا التي خلقتها أثينا، بحسب ما تأمرني به العدالة، فإذا كنت عرافا فلا يمكنني أن أنطق بالكذب. لم أتكلم حتى الآن على عرش وحيي بشيء يمس رجلا أو امرأة أو الصالح العام، إلا بما يأمرني به زوس والد الأوليمبيين.
لاحظوا قوة حجة العدالة هذه، وإني لأكلفكم بأن تطيعوا مشيئة «الأب»؛ إذ ليس لليمين سلطة أعظم من سلطة زوس.
25
الكوروس :
هل أصدر زوس - حسب قولك - هذا الأمر بواسطة الوحي: أن يأمر أوريستيس الواقف هنا بأن ينتقم لمقتل والده، ولا يهتم إطلاقا بالاحترام المفروض عليه نحو والدته؟
أبولو :
نعم، لأنهما لم يكونا متشابهين بحال ما؛ مقتل رجل سامي المولد تقلد صولجان سلطة موهوبة من الآلهة، وهو القتل الذي قامت به يد امرأة ليس بأسلحة الشهامة، كالسهام المنطلقة من بعيد بواسطة إحدى الأمازونات، بل بالطريقة التي ستسمعونها، بالاس وأنتم، يا من تجلسون هنا لتقرروا بالتصويت عن هذه القضية الحاضرة.
فعند عودته من الحرب التي شنها تبعا لمشيئة شعبه الذي يحبه، وأحرز له نصرا أكثر مما كان متوقعا،
26
رحبت به، ثم بينما كان يخطو من الحمام عند حافته بالضبط، وضعت ستارا على الحمام بعباءة مقببة كالخيمة، ولفت زوجها في شرك من الأثواب الموشاة لا يمكنه الفكاك منه، ثم ذبحته.
هكذا كانت طريقة قتله كما رويتها لكم؛ إنه بطل بالغ العظمة، وقائد الأسطول. أما عن تلك المرأة فقد وصفتها لكم هكذا لإثارة سخط الشعب الذي عين للحكم في هذه القضية.
الكوروس :
إذن، تبعا لحجتك، يعتبر زوس موت الأب أكبر إجراما. ومع ذلك، فهو نفسه قد قيد والده
Cronus ،
27
فكيف تناقض هذه الفعلة حجتك؟ أرجوكم (تستدير نحو القضاة) أن تهتموا بهذه النقطة.
أبولو :
أيتها الوحوش الممقوتة والمحتقرة لدى الآلهة! بوسع زوس أن يفك القيود، فلها علاج وعنده طرق كثيرة لحلها. ولكن إذا ما شرب الثرى دم إنسان مقتول، فلن ترجع إليه الحياة بعد ذلك. لم يجعل والدي أية تعاويذ لعلاج هذا الأمر، ولو أنه يقلب ويقيم كل ما عداه، متى أراد، ولا يكلفه استخدام قوته زفرة واحدة.
الكوروس :
لاحظ الآن مغزى مرافعتك لإطلاق سراحه! هل يسكن من أراق دم أمه على الأرض بيت أبيه في أرجوس بعد ذلك؟ أية مذابح للعبادة العامة يمكنه دخولها؟ وأية أخوة
28
تقبله في طقوسها المطهرة؟
أبولو :
سأهتم بهذا أنا أيضا، وألاحظ شرعية ردي. ليست الأم والدة من يسمى طفلها، وما هي إلا مربية البذرة
29
المغروسة حديثا. ومن وضع هذه البذرة فهو الوالد، بينما هي كالغريب للغريب لا تقوم إلا بحفظ ما يخرج من البذرة، إلا إذا أوقف الرب ولادتها. وسأقدم لك برهانا أكيدا على ما أقول: قد تكون هناك أبوة بغير أمومة. لدينا هنا شاهد، ولد زوس الأوليمبي، ولم يترب في ظلام الرحم، ولكنه كان طفلا بالغ المجد بحيث لا يمكن أية ربة أن تلده.
أما من جهتي، يا بالاس، فكما هي الحال في كل شيء آخر أعرفه حق المعرفة، سأبهج مدينتك وشعبك بهذا الرجل؛ ولذا أرسلته متضرعا إلى معبدك ، كي يبرهن على وفائه في الزمن المستقبل كله، وكي تكسبيه، أيتها الربة كحليف جديد، هو وذريته، ويتقرر إلى الأبد أن يتمسك نسل هذا الشعب بعهودهم إلى الأبد.
أثينا :
هل لي أن أعتبر أن ما قيل يكفي، وهل لي أن أكلف هؤلاء القضاة الآن بأن يلقوا بأزلامهم الأمينة تبعا لحكمهم الحقيقي؟
الكوروس :
أما من جهتنا، فقد أطلقنا كل صاعقة، ومع ذلك، فسأبقى هنا لأسمع نتيجة المحاكمة.
أثينا :
ولماذا لا تبقين؟ أما أنتما (لأبولو وأوريستيس)
فكيف أتصرف لمنع الرقابة على أيديكما؟
أبولو :
لقد سمعتم ما سمعتم. فبينما تلقون بأزلامكم، يا أصدقائي، اجعلوا قلوبكم تتمسك بقداسة اليمين التي حلفتموها.
أثينا :
اسمعوا أوامري الآن، يا رجال أتيكا، يا من ستنطقون بالحكم في أول محاكمة عقدت للنظر في سفك الدماء. ستظل هذه المحكمة لشعب أيجيوس
Aegeus
منذ الآن وإلى الأبد. وأما تل آريس هذا، الذي استخدمته الأمازونات مقرا لهن، وضربن فوقه فساطيطهن كلما أتين للقتال ضد ثيسيوس، وشيدن في تلك الأيام قلعتهن الجديدة ذات الأبراج الشاهقة لتتفوق على أبراجه، وقدمن الذبائح لآريس؛ ومن هنا أخذت الصخرة اسمها منه، تل آريس،
30
أقول فوق تل آريس هذا، ستقيم ربة «التبجيل» في مدائني هي وقريبها «الخوف»، فيمنعان الناس من فعل الشرور، سواء أكان هذا بالنهار أو بالليل، كي لا يدنسوا القوانين بسوء استخدام النفوذ، ولا يلوثوا المياه الرائقة بالطين فلا تجد جرعة ماء حلو.
لا فوضى ولا طغيان - أنصح سكان مدائني بهذا، وأوصيهم باحترامه وبألا يطردوا الخوف من المدينة فمن هو ذلك الشخص، بين البشر، الذي يلتزم العدالة فلا يخاف شيئا؟ اخش مثل هذه العظمة يكن لديك حصن منيع للمحافظة على دولتك وحكومتك التي لم يسبق أن امتلك أحد مثلها بين السكوثيين أو في مملكة بيلوبس. أثبت هذه المملكة الآن، التي لن يغريها حب الربح، والعظيمة، والسريعة في الانتقام، حارسة للبلاد، وساهرة على الدفاع عمن ينامون.
هكذا أقمت أخيرا، ناصحة لشعبي في الزمن المقبل، ولكن يجب أن تنهضوا الآن، فيأخذ كل واحد منكم زلمة، وتقرروا ما يتراءى لكم في هذه القضية بالتزامات قسمكم المقدس. وهكذا أكون قد أديت واجبي. (ينهض القضاة من فوق مقاعدهم ويضعون أزلامهم واحدا واحدا في أثناء الفترة التالية .)
الكوروس :
واسمعوا أيضا! أنصحكم بألا تجلبوا العار علينا، نحن اللواتي بمقدور زيارتنا أن تستبد بأرضكم.
أبولو :
أما أنا، فآمركم بأن تخافوا كل وحي، ليس وحيي فحسب - لأن كل وحي صادر من زوس - وألا تعتبروه عديم الجدوى.
الكوروس :
كلا، فإنك تحترم جرائم الدم بما يتعدى اختصاصك. إذن، فكل وحي ستصدره لن يكون وحيا غير مدنس.
أبولو :
وهل كان الأب مخطئا في شيء عندما تقدم إليه إكسيون، أول سافك دم، كمتضرع للتطهير؟
الكوروس :
يا لك من قوي الحجة! ولكني إذا عجزت عن كسب هذه القضية، زرت هذه البلاد، فيما بعد، كضيف ثقيل الوطأة.
أبولو :
كلا، فليس له شرف بين الآلهة، صغيرها وكبيرها على حد سواء. سأحظى بالانتصار.
الكوروس :
هكذا أيضا كانت طريقة عملك في بيت فيريس
عندما أثرت الأقدار لجعل البشر خالين من الموت.
31
أبولو :
أليس من الصواب، إذن، أن نصادق مقدم النذور، قبل كل ما عداه، في وقت الحاجة؟
الكوروس :
الحقيقة أنك أنت الذي خدعت بالخمر أولئك الربات العتيقات، وبذا أبطلت ناموس من يكبرونك سنا.
أبولو :
ولكنك، بمجرد أن تخسري قضيتك ستنفثين سمك، أذى لأعدائك. (في تلك الأثناء ينتهي جمع الأصوات.)
الكوروس :
بما أنك، أيها الشاب، سوف لا تعمل حسابا لسني، فسأنتظر هنا حتى أسمع الحكم في هذه القضية إذ إنني ما زلت في شك مما إذا كان قد آن لي أن أصب جام غضبي على المدينة.
أثينا :
ما مهمتي الآن سوى إصدار الحكم النهائي؛ وسأضيف صوتي هذا إلى صالح أوريستيس. بما أنني لم أولد من أم، وأراني دائما في جانب الذكور بروحي في كل شيء ما خلا رباط الزواج، وفي جانب الأب تماما، فلن أهتم إطلاقا بموت الزوجة التي قتلت سيدها، ذلك السيد الشرعي للبيت. وحتى لو تساوت الأصوات، فسيفوز أوريستيس.
أسرعوا، أخرجوا الأزلام من الأوعية، أيها المحلفون الذين عهد إليكم بهذه المهمة. (تفرغ الأزلام من الأواني وتفرز.)
أوريستيس :
أي فويبوس أبولو! أواه، ما عسى أن يكون الحكم؟
الكوروس :
أيا ربة الليل، يا أمنا الداجية، أترين هذا؟
أوريستيس :
جاءت النهاية ، فإما أن أحيا أو أهلك شنقا.
الكوروس :
نعم، والخراب لنا، أو الاحتفاظ بكرامتنا منذ الآن.
أبولو :
احصروا الأصوات بحق، يا أصدقائي، لقد جمعت الأزلام، وبينما تقومون بتقسيمها، اهتموا بألا تفعلوا أي ظلم، فالخطأ في الحكم مصدر كثير من النكبات، وكم من زلم واحد أعاد الرفاهية لبيت! (تقدم الأزلام لأثينا.)
أثينا :
هذا الرجل بريء الساحة من تهمة القتل؛ إذ تساوت الأصوات. (أبولو يختفي.)
أوريستيس :
أي بالاس، يا منقذة بيتي! حرمت وطن آبائي فأعطيتني وطنا هناك ثانية، وسيقال في هيلاس: صار هذا الرجل أرجوسيا من جديد، وسيعيش في ميراثه عن أبيه بفضل بالاس ولوكسياس، وذلك الإله الثالث الكلي الترتيب، والمخلص؛ ذلك الذي اهتم بموت أبي وحفظني، إذ رأى لقضية أمي محاميات كهؤلاء.
والآن سأنصرف إلى بيتي، أولا إلى أرضك هذه وقومك، إذ تعهدت بقسمي للمستقبل في جميع الزمن الآتي، ألا يأتي رئيس من مملكتي إلى هنا لمحاربة
32
أهلها. فإنني، أنا نفسي، عندما أكون في قبري، وشن قوم الحرب، نفذت وعيدي بجر المصائب عليهم، حتى ولو استلزم الأمر أن أزورهم وأيئس جيوشهم، وأملأ طرقاتهم بطوالع النحس فيندم من كسر يميني هذه بأعماله. أما إذا ظل الطريق مستقيما، واحترموا مدينة بالاس هذه إلى الأبد برماحهم المتحالفة، فسأقف إلى جانبهم.
وهكذا أودعكم؛ أنتم وشعبكم الذي يحرس مدينتكم. عسى ألا يسمح نضالكم مع أعدائكم بإفلات أي فرد، ويجلب لكم الأمن والظفر في الحرب. (يخرج.)
الكوروس :
يا للعار! أيها الآلهة الأصغر سنا، تخرقون القوانين القديمة، وتنتزعونهم من قبضتي!
33
وإذ حرمت الشرف، أنا التعيسة في غضبي الشديد على هذه البلاد (ولتصبها النكبات)، فسأنفث سما من قلبي جزاء حزني. نعم، سما يتساقط قطرات لن تتحملها تربتها. وتصيبها آفة تنسف أوراق النبات، وتنسف الأطفال (أواه! إنه مجرد انتقام!)، وأنشر العدوى المبيدة للجنس البشري. إنني أتأوه بصوت مرتفع. ماذا أفعل، والناس يسخرون مني؟ ليس بالإمكان احتمال المظالم التي قاسيتها. نعم، قاسية حقا هي المظالم التي أصابت بنات الليل، اللواتي جردن من الشرف وحلت بهن الضائقات.
أثينا :
اسمحن لي بألا أجعلكن تسمعن هذا الحكم في حزن لأنه ليس هزيمة لكن، إذ كانت نتيجة المحاكمة بأزلام متساوية دون أن يلحقكن أي عار. بيد أن قرار زوس كان واضحا. وذلك الذي نطق بنفسه بالوحي لن يناله ضر من جراء فعله. ولن تصرن بعد الآن مقيتات، ولا تصببن غضبكن الفظيع على هذه الأرض، ولا تزرنها بالجدب، بإنزال القطرات التي يلتهم مفعولها الحبوب. فإني أقطع على نفسي وعدا بالغ القداسة، بأن تتبوأن مقعدا مرموقا في أرض عادلة حيث تجلسن على عروش براقة، ويعبدكن أهل هذه البلاد بتوقير إذ يكون بمعابدكن مواقد خاصة.
الكوروس :
يا للعار! أيها الآلهة الأصغر سنا، تخرقون القوانين القديمة، وتنتزعونهم من قبضتي! وإذ حرمت الشرف، أنا التعيسة في غضبي الشديد على هذه البلاد (ولتصبها النكبات) فسأنفث سما من قلبي جزاء حزني. نعم، سما يتساقط قطرات لن تتحملها تربتها. وتصيبها آفات تنسف أوراق النبات، وتنسف الأطفال (أواه! إنه مجرد انتقام!)، وأنشر العدوى المبيدة للجنس البشري. إنني أتأوه بصوت مرتفع. ماذا أفعل، والناس يسخرون مني؟ ليس بالإمكان احتمال المظالم التي قاسيتها. نعم، قاسية حقا هي المظالم التي أصابت بنات الليل، اللواتي جردن من الشرف وحلت بهن الضائقات.
أثينا :
لم تتجردن من الشرف؛ فرغم كونكن ربات، فلا تنزلن بأرض البشر هذه آفة زراعية لا يجدي
وإنني، أنا وحدي، دون سائر الآلهة، أعرف مفاتيح مخزن الأسلحة الذي يضع فيه صاعقته. إذن، فلا حاجة إلى ذلك. اخضعن إلى نصحي ولا تنطقن ألسنتكن بأي تهديد ضد هذه الأرض حتى يزدهر فيها كل ما يثمر. هدئن من سورة غضبكن الفظيع طالما ستتسلمن أمجادا تفخرن بها وستقمن معي وتحصلن على باكورة ثمرات هذه الأرض الواسعة - تقدمات من الأولاد وطقوس الزواج - وعندئذ تمتدحن مشورتي.
الكوروس :
من العار أن أعامل هكذا! أنا المشهورة بالحكمة القديمة، أسكن تحت الأرض، وهذا يحط من قيمتي (يا للعار!) وأكون بغيضة! تضطرب روحي من أثر الهياج والثورة الجامحة، أواه، أواه، يا لشين هذا الأمر! أي ألم يتسلل إلى صدري! أواه، يا أماه، يا ربة الليل، أعيري أذنك لصيحة عاطفتي! يعتبرني الآلهة من سقط المتاع، فجردوني من أمجادي الخالدة بمكرهم الذي لا يقاوم.
أثينا :
سأتحمل حالة غضبك هذه؛ إذ إنك أكبر مني سنا. ولا شك في أنك تفوقينني حكمة في هذا الشأن. ومع ذلك فقد وهبني زوس فهما غير قليل. أما أنتن، فإذا ما رحلتن إلى أرض تسكنها قبائل أخرى من البشر، أحببتن هذه الأرض - أحذركن من هذا قبل أن يحدث. فسيغدق الزمن على شعبي أمجادا أعظم أثناء سيره المستمر. وأنت أيتها المتوجة بهيبة ووقار في بيت إريخثيوس، ستنالين من حشود الرجال والنساء تمجيدا أعظم مما أمكنك الفوز به من سائر العالم الآخر على هذه المملكة، مملكتي. أرجو ألا ترسلي أي باعث قوي لسفك الدماء يضر القلوب الغضة ويجنها بثورة ليست وليدة الخمر. ومع ذلك فسيمزق قلوب الديكة المتقاتلة، ويغرس في شعبي روح الحرب الداخلية في تهور متبادل. ليكن قتالهم مع أعداء أجانب لا حصر لهم من أجل ذلك الذي سيتحرق شوقا إلى الشهرة، ولكني لن أهتم إطلاقا بقتال الطيور.
ستكون مثل هذه النعم لك من أرضي تختارين منها ما تريدين، تمنحين الخير وتنالين الخير بشرف عظيم، فيكون لك نصيب في هذه الأرض التي يحبها الآلهة.
الكوروس :
يا للعار، أن أعامل هكذا! أنا المشهورة بالحكمة القديمة، أسكن تحت الأرض، وهذا يحط من قدري (يا للعار!) وأكون بغيضة! تضطرب روحي من أثر الهياج والثورة الجامحة، أواه! أواه، يا لشين هذا الأمر! أي ألم يتسلل إلى صدري! أواه، يا أماه، يا ربة الليل، أعيري أذنك لصيحة عاطفتي! يعتبرني الآلهة من سقط المتاع، فجردوني من أمجادي الخالدة بمكرهم الذي لا يقاوم.
أثينا :
كلا، لن أمل ذكر منحي لك، حتى لا تقولي إطلاقا إنك الربة الكبرى سنا، قد أهنت أو أهملت بواسطتي أنا الربة الأصغر منك، وبواسطة حرس مدينتي من البشر. كلا! ولكنك لو احترمت عظمة سواسيون
Suasion
واعتبرتها مقدسة، تلك التي هي الترضية المهدئة وتعويذة لساني ؛ لأمكن أن تقيمي هنا. أما إذا صممت على ألا تقيمي هنا، فمن الظلم الأكيد أن تجلبي على هذه المدينة أي نوع من الغضب أو الهياج لإيذاء سكانها.
الكوروس :
أيتها الملكة أثينا، أي نوع من المسكن تقولين إنه سيكون لي؟
أثينا :
مسكن خال من أي ألم أو مضايقة، وقد قبلته.
الكوروس :
تقولين إنني قبلته، وماذا ينتظرني من المجد؟
أثينا :
ألا يزدهر أي بيت بغيرك.
الكوروس :
وهل تضمنين لي مثل هذه السلطة؟
أثينا :
نعم، لأننا سنهب الازدهار لحظوظ مقدمي النذور لنا.
الكوروس :
وهل تتعهدين بذلك طيلة الزمن المستقبل؟
أثينا :
نعم، إذ لا حاجة بي إلى أن أقول شيئا لا أستطيع إنجازه.
الكوروس :
أعتقد أنك ستكسبينني بتعاويذك، فإن غضبي قد أخذ يفارقني.
أثينا :
إذن فأقيمي في هذه الأرض، تربحي أصدقاء آخرين.
الكوروس :
أية نعم تأمرينني بأن أهبها لهذه الأرض؟
أثينا :
نعم لا تأتي بنصر شرير. كما أطلب النعم من الأرض ومن مياه البحر ومن السماء، وأن تمر العواصف ذات الأنفاس، فوق الأرض، في نور شمس ساطعة، حتى لا يفوت مواطني ازدهار الأرض والحيوانات الراعية المجتمعة في كثرة متزايدة، في زمن مستقبل. وهل لشعبي أن يكون تقيا، ذلك الشعب الذي تزيدين في ازدهاره وكثرته. فمثل هذا الشعب المهتم بالنباتات النامية، جدير بأن يكون نسل هؤلاء الرجال العادلين (تشير إلى المتفرجين) الذين لا يسببون أية أضرار محزنة.
لك مثل هذه المنح لتهبيها، أما أنا فلن أخزي هذه المدينة بين البشر، هذه المدينة المنتصرة في المسابقات الماجدة للحرب القاتلة.
الكوروس :
سأقبل وطنا أسكن فيه مع بالاس، ولن أزور بسوء مدينة تعتبرها هي وزوس القادر على كل شيء وآريس حصنا للآلهة وحلية لامعة تحرس مذابح آلهة هيلاس، كما أصلي طالبة لها فئولا مناسبة حتى تنمي عظمة الشمس الساطعة النباتات في الأرض وتدر خيرات تملأ الحياة سعادة.
أثينا :
أفعل هكذا بقدر عظيم من المحبة لساكني مدينتي هؤلاء، فأضع بينهم هنا آلهة قوية الشكيمة تسيطر على جميع الكائنات الفانية. ومع ذلك فمن لا يجد هؤلاء الآلهة صارمين، فلن يعرف من أين تأتي ضربات الحياة، فسترتد ذنوب الآباء إلى صدره، وتصيب سهام الهلاك كل من يفخر عاليا. تنصب هذه عليه في سكون وغضب رهيب يجعله بمستوى التراب.
الكوروس :
عسى ألا تهب ريح ضارة تحطم الأشجار - هكذا أقرر نعمتي - وعسى ألا تمر بحدود جو هذه المدينة حرارة لافحة تدمر النباتات ذات البراعم، وعسى ألا تقترب منها أية أمراض مميتة وآفات زراعية تقتل الثمار، وعسى أن تعمل الأرض على تربية القطعان المجتمعة فتزيد الضعف في الزمن المحدد، ويعطي إنتاج الأرض هدايا الآلهة من الربح السعيد.
34
أثينا :
أتسمعون يا حارسي مدينتي ماذا سيجلبن لكم من البركات؟ عظيمة هي قوة الإيرينويس المبجلات نحو كل من الآلهة العليا الخالدة، ونحو قوى العالم السفلي، وفي معاملاتهن مع البشر، فيقمن بما يرغبن في عمله علنا وكاملا، فيمنحن البعض الأغاني والبعض الآخر حياة تغشاها الدموع.
الكوروس :
كما أنني ألعن مصير البسر المميت والسابق لأوانه. فيا من بيدكم القوة الشرعية، امنحوا العذارى الجميلات أن تعيش كل منهن حتى تجد لها زوجا. امنحنهن هذا، أيتها الأقدار المقدسات، يا أخواتنا من أم واحدة، أيتها الربات العادلات في مجازاتهن واللواتي لهن نصيب في كل بيت، وزيارتهن الشرعية محزنة في كل موسم، أيتها المبجلات في كل مكان بين الآلهة!
أثينا :
يسرني وعدهن بتأكيد هذه الخيرات لأرضي بروح الود، كما أشكر سواسيون إذ تسهر لحظاتها على مراقبة لساني وشفتي عندما وجدت منها رفضا عنيدا. بيد أن زوس المتسلط على ألسنة البشر
35
قد انتصر، وستنتصر منافستنا هذه في صنع الخير إلى الأبد.
الكوروس :
عسى الشغب الذي لا يكف عن فعل الشرور، ألا يرفع قط صوته عاليا داخل المدينة، أرجو هذا؛ وعسى ألا يشرب الثرى دم أهلها الأسود، ويقوم عن طريق العاطفة بالقتل المخرب انتقاما؛ لتدمير الدولة.
36
وبدلا من هذا، عساهم يردون على الفرح بالفرح بروح الود المتبادل، ويمقتون برأي واحد؛ إذ في هذا شفاء لكثير من شرور العالم.
أثينا :
ألا يزمعون، إذن، أن يوجدوا طريقا للسان الرحيم؟ يمكنني أن أتكهن، من هذه الوجوه المفزعة، بأن ربحا عظيما ينتظر مواطني هؤلاء. وإذا قدمتم لهن عبادة بالغة السمو، برقة كما هن رقيقات، فلا شك في أنكم تتفوقون، فتقودون أرضكم ومدينتكم في طريق العدالة المستقيم.
الكوروس :
ازدهروا وسط الثروة التي يضمنها لكم القدر. ازدهروا تماما، يا أهل المدينة، يا من تتبوءون مقاعد عالية أمام زوس، يا من تحبكم العذراء المحبوبة، وتتعلمون طريق الحكمة أخيرا، وتكمنون تحت جناحي بالاس، فإن الأب يضعكم موضع التبجيل.
أثينا :
وداعا أيضا. ولكن يجب أن أقود الطريق لشهر مساكنكن بضوء هؤلاء، رفقائكن.
37
انصرفن الآن بسرعة إلى تحت الأرض بهذه الذبائح المقدسة وأوقفن كل ما هو ضار بمملكتنا، وأرسلن كل ما يفيدها ليحرز لها النصر! أيا أولاد كراناوس
Cranaus
38
يا من تقبضون على زمام هذه المدينة، افتحوا الطريق أمام هؤلاء الساكنات الجديدات. وعسى أن يتمتع المواطنون بالشهرة الطيبة لقاء الخير المقدم لهم!
الكوروس :
وداعا، وداعا للمرة الثانية أكرر هذا لجميعكم يا من في هذه المدينة، الآلهة والبشر على حد سواء، يا ساكني مدينة بالاس. أظهروا الاحترام اللازم لإقامتي بينكم. وسوف لا تجدون سببا تلومون عليه حظكم في الحياة.
أثينا :
تروقني ألفاظ توسلكن، وسأرافقكن الآن في ضوء المشاعل المتألقة إلى وطنكن تحت الأرض، وستقوم حارسات تمثالي على خدمتكن، لأن بلاد ثيسيوس كلها ستأتي في موكب عظيم، العذارى والسيدات وجمع من النساء العجائز.
يرتدي هؤلاء ثياب الأعياد القرمزية، وليتحرك ضوء المشاعل إلى الأمام، وليتحرك وطيسي قدما، وليتحرك إلى الأمام وهج المشاعل؛ حتى يتخذ التصرف الرقيق لجماعة الزائرات حضوره منذ الآن بالخيرات جالبة الرخاء لأبنائها. (كوروس موكب الحرس.)
اذهبن في طريقكن إلى مساكنكن، يا بنات الليل، يا بنات رغم شيخوختكن، يا عاشقات الشرف بالحراسة الطيبة ...
الزموا الصمت! ولتكن ألفاظكم رقيقة، أيها الساكنون في الأرض!
تحت كهوف الأرض الطبيعية المقسمة بالمجد السامي للعبادة والقرابين ...
الزموا الصمت! ولتكن ألفاظكم رقيقة، يا جميع القوم!
هيا إلى هنا، أيتها الربات الموقرات، أيتها المباركات والرحيمات بهذه البلاد، اذهبن بضوء المشاعل المغذاة باللهب، مبتهجات في أثناء مسيركن.
أطلقن صيحة فرح صدى لأغنيتنا!
نرجو أن يسود السلام، في الزمن المستقبل، بين مواطني مدينة بالاس وبين اللواتي أتين للإقامة فيها. لا بد أن زوس الذي يرى كل شيء، هو والقدر قد مدا يد المساعدة للوصول إلى هذه النتيجة.
أطلقن صيحة فرح صدى لأغنيتنا! (يخرج الجميع.)
Unknown page