Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Genres
عاش الحلاج في مكة عاما كاملا في صمت مطلق، وتأمل متصل، وعبادة ونجوى، عاش في الحجر لا يستظل تحت سقف شتاء ولا صيفا. عن أبي يعقوب النهرجوري
14
قال: «دخل الحلاج مكة أول دخلة وجلس في صحن المسجد سنة لم يبرح من موضعه إلا للطهارة والطواف، ولم يحترز من الشمس ولا من المطر، وكان يحمل إليه في كل عشية كوز ماء، وقرص من أقراص مكة، وكان عند الصباح يرى القرص على رأس الكوز وقد عض منه ثلاث عضات أو أربعة فيحمل من عنده.»
عاش الحلاج حياته العجيبة القاسية الشاقة عاما كاملا، ما هي خواطره؟ وما هي تأملاته؟ وما هي القوة التي تزود بها في خلوته؟ لقد لزمت كتب التاريخ الصمت حيال هذه الفترة من حياته، إلا أن المستشرق ماسنيون يحاول كعادته أن يلقي الظلال والشبهات، وأن يفسر حياة الحلاج التفسير الذي يصل به إلى الفكرة التي استقرت عنده، وهي أن الحلاج كان يحاول أن ينهج نهجا مسيحيا في تنسكه ودعوته، وأنه كان يتشبه بمريم البتول حينا، وبالسيد المسيح أحيانا ... يقول ماسنيون: «إن الحلاج في مكة كان يتشبه بمريم ابنة عمران، وأنه كان يهيئ نفسه لميلاد كلمة الله فيه.»
إن تأملات الحلاج وأحلامه، وخواطره ورياضته بمكة، تصورها لنا أولى كلماته التي نطق بها بعد عام كامل من صمته، لقد خرج الحلاج من عزلته فتلقاه أتباعه يسألونه عن شأنه، فترجم عن أمره بتلك الجملة القصيرة، المعبرة المصورة لحالته حيث قال: «لو ألقى مما في قلبي ذرة على الجبال لذابت.»
إنه ثائر أو عابد من لون جديد، تلاقت في أثوابه خرقة الصوفية بكسوة الجندية، وامتزجت في قلبه أشواق الحب الإلهي بثورة الإصلاح السياسي، واجتمعت في روحه طهارة العابدين ورقتهم ببطولات المصلحين وصلابتهم، وكانت هذه الأمشاج من الصفات المتناقضة تعلوها صفة ثابتة تعطي الحلاج طابعه الدائم.
ذلك هو الوجد الصوفي - الذي كان يأخذه أخذا عنيفا ملحا، يفنى فيه عن نفسه حينا، وعن رسالته أحيانا، ويدفع به زمنا إلى الخلوة القاسية والهرب من الناس، أو يزج به قسرا إلى تيار الحياة ومعاركها ... ذلك الوجد الصوفي الذي سيبلغ قمته في سنواته الأخيرة، بل ذلك الوجد الذي سيترك بصماته على تاريخ الحلاج فيملؤه غموضا واضطرابا، ويضفي عليه فتنة وخيالا ساحرا.
تنقلات الحلاج في العالم الإسلامي
غادر الحلاج مكة إلى الأهواز، ومعركته الباطنية لا تزال مشتعلة، رغم السلام الظاهري الذي اكتسبه من رياضاته وخلوته.
لقد رسم في عزلته خطوطا، وتزود بقوى، واعتزم أن يدفع بنفسه إلى ساحة الكفاح ... خرج داعيا إلى الله، مبشرا برسالته، واتجه بدعوته إلى طبقة المثقفين من الكتاب ورجال الأعمال، وإلى الجنود والقواد، وجماهير الصوفية ... وقسم الحلاج منهجه إلى خطوط رئيسية: ناحية دينية صوفية، جوهرها عبادة الله وحبه، حبا أساسه الوجد والشوق، حتى يجد الإنسان ربه في أعماق نفسه، وبذلك يصل إلى الكمال الروحي والخلقي، وإصلاح الأداة الحكومية الغارقة في الترف والشهوات والانحراف، حتى يستقيم الميزان الموجه لحياة الناس، ووحدة الأمة الإسلامية التي مزقتها الفلسفات والعصبيات، حتى تستطيع أن تنهض برسالتها، وتتجمع لديها القوة اللازمة لحمايتها.
Unknown page