ثمن الكتابة
تقديم
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
ثمن الكتابة
تقديم
الشخصيات
الفصل الأول
الفصل الثاني
الحاكم بأمر الله
الحاكم بأمر الله
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمد الله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وأنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، امال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
تقديم
قد يصدم معنى من معاني هذه المسرحية بعض القراء أو المشاهدين ... وخاصة ذلك الذي يتعلق منها بالنواحي الحساسة في العلاقات الإنسانية، وبالذات علاقة الرجل والمرأة، ولكني أعترف بأن الأفكار والحوادث التي وردت في المسرحية ليست بالجديدة وليست من خيالي؛ فقد أخذتها من التاريخ. وأنا لست من حفظة التاريخ، لكن الذي يرجع إلى قراءة التاريخ يجد أن الإنسانية مرت بأزمنة غريبة؛ كان هناك زمن الرقيق والعبيد، وكان هناك زمن يخصى فيه العبد ليخدم حريم السلطان بغير خشية على الحريم، وكان هناك زمن الحاكم بأمر الله الذي ادعى الألوهية وقدسه بعض الناس، وكان هو يقدس الحمار.
وقد استهواني التاريخ بحوادثه الغريبة التي تكشف عن بعض الخبايا والتناقضات التي تنطوي عليها النفس المعقدة لذلك المخلوق - الإنسان. ورغم دراستي للطب والجراحة وإدراكي العلمي لجسم الإنسان، إلا أن فكرة إخصاء العبد التي حدثت في التاريخ ظلت بالنسبة لي غامضة وشاذة، توحي إلي بأن إخصاء الرجل ليس هو الجراحة أو ما ينتج عنها من عقم مادي بقدر ما هو الإخصاء الفكري أو النفسي، وما ينتج عنه من عقم في الفكر أو النفس.
نوال السعداوي
الشخصيات
الحاكم بأمر الله:
رجل في الأربعين، ضخم الجسم، غليظ الملامح، صوته رفيع نوعا.
الملكة جنات:
امرأة شابة في الخامسة والثلاثين، فارعة القوام، ممشوقة الجسم، لها وجه معبر وعينان قويتان. فيها حيوية ولها شخصية قوية جذابة. صوتها قوي عذب.
الرجل الغريب (ربيع):
شاب في الخامسة والثلاثين، طويل فارع القوام، قوي البنيان، ملامحه قوية، فيه وسامة ونبل وطيبة، صوته قوي ممتلئ.
الأم العجوز:
امرأة عجوز في الخمسين أو الستين.
الجندي عبيد:
شاب فيه قوة وطيبة.
الجندي عثمان:
شاب قوي الجسم، شرس العينين.
رئيس الجند مروان:
رجل عادي.
الحمار (مولود):
تمثال لحمار يبدو كأنه حقيقي.
رجل الكوخ العجوز:
رجل في الستين أو الخمسين.
عدد من الجنود والعبيد والجواري من النساء.
طفل صغير.
الفصل الأول
المشهد الأول
يفتح الستار عن صاحب الجلالة «الحاكم بأمر الله» وهو جالس على كرسي العرش المرتفع، وتستند قدماه على قاعدة خشبية، وتكونان في مستوى رءوس العبيد الذين يجلسون على الأرض.
عن يمين صاحب الجلالة الحاكم يجلس واحد من العبيد يحمل في حجره ورقة وقلما، وعن يساره جندي من العبيد يحمل سيفا؛ هو رئيس الجند.
الصمت يخيم على الجميع. صاحب الجلالة ينظر إلى العبيد نظرة متعالية شرسة وهم جلوس على الأرض مطأطئين الرءوس.
صاحب الجلالة يقف على قاعدة الكرسي الخشبية.
يهب كل العبيد وقوفا.
يظل صاحب الجلالة واقفا يتفرس فيهم.
ثم يجلس فيجلس العبيد.
صاحب الجلالة يقف مرة أخرى.
الجميع يقفون ما عدا رجلا واحدا يظل جالسا.
تدور عينا صاحب الجلالة على كل الناس لتستقر على هذا الرجل الذي لم يقف.
كل الرءوس تتجه إلى هذا الرجل الجالس.
يلكزه الرجل المجاور له ليقف، لكنه لا يقف ويظل جالسا يتطلع إلى صاحب الجلالة بعينين لا ترمشان.
تصيب صاحب الجلالة نوبة غضب شديدة. يشير إلى رئيس الجند الواقف إلى يساره. يسرع رئيس الجند للمثول بين يدي الحاكم بعد أن يؤدي بسيفه التحية التقليدية.
رئيس الجند :
مولاي. (يصيح صاحب الجلالة بصوت غاضب، ويتضح أن صوته رفيع وحاد كصوت النساء، ويبدو صوته متناقضا مع ضخامة جسمه وشراسة عينيه. يشير إلى الرجل الجالس.)
الحاكم :
من هذا الرجل يا مروان؟
رئيس الجند :
لا أعرفه يا مولاي، هذه أول مرة أراه هنا.
صاحب الجلالة :
أحضره إلى هنا.
رئيس الجند :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يسرع رئيس الجند فيقبض على الرجل الجالس ويسوقه إلى الحاكم.) (العبيد كلهم واقفون يراقبون المشهد في صمت ورءوسهم محنية في ذل وخوف.)
صاحب الجلالة (مخاطبا الرجل) :
اقترب . (الرجل يقترب من الحاكم بخطوات ثابتة رافعا رأسه.) (صاحب الجلالة يشتد غضبه، فينزل من فوق كرسيه العالي ويقترب من الرجل وينظر في عينيه بقوة وتحد.) (الرجل يقف أمامه لا يتحرك وعيناه ثابتتان في عيني الحاكم.)
صاحب الجلالة (في غضب شديد) :
اخفض عينيك! (الرجل لا يرد ولا يخفض عينيه. يشتد غضب الحاكم ويضرب الأرض بقدمه ويصيح بصوت أكثر حدة):
اخفض رأسك. (الرجل لا يرد ولا يخفض رأسه. ينتفض الحاكم من الغضب ويلتفت إلى رئيس الجند صائحا):
من هذا؟ مجنون؟ أم أصم؟ ألا يسمع ما أقول؟
الرجل (بصوت قوي شجاع) :
أنا أسمع جيدا، ولكني لا أفهم تماما ما هو المطلوب مني!
الملك (يثور) :
لا تفهم! ما معنى أنك لا تفهم؟
رئيس الجند (يخاطب الرجل في شدة) :
المطلوب منك أن تخفض رأسك في حضرة مولانا الحاكم. هيا اخفض رأسك وبسرعة.
الرجل :
لا أستطيع أن أخفض رأسي.
رئيس الجند :
ألا ترى الناس من حولك؟! افعل مثلهم بسرعة. لا تقف هكذا منصوب القامة.
الرجل (في دهشة) :
هذا أعجب كلام سمعته في حياتي! لا أقف منصوب القامة! لماذا؟
رئيس الجند :
ألا تعرف لماذا؟ ألا تعرف أن هذه هي المادة الأولى من دستورنا؟ كل الناس تعرف، فكيف لا تعرف أنت؟
الملك (في غضب) :
الجهل بالقانون لن يحميك من العقاب الذي ستناله.
الرجل (ساخرا) :
الجهل بالقانون! وكيف لي أن أعرف أن هناك قوانين في أي مكان من العالم يمكن أن تنص على الوقوف بدون نصب القامة؟
الملك :
أتجهل القانون؟! أتجهل دستورنا؟!
الرجل :
وكيف أعرفه وأنا لم يبق لي في هذه المدينة سوى ساعات؟
الملك (في دهشة وغضب) :
كأنك لست من هنا؟ لست من مدينتنا؟
الرجل :
لا يا سيدي ... (الملك يبدو عليه الذعر ويأمر بصرف العبيد ويبقى معه فقط مروان رئيس الجند والرجل.)
الملك (في شيء من الذعر) :
وما الذي أتى بك إلى هنا؟
الرجل :
الصدفة وحدها هي التي أتت بي إلى هنا. كنت سائرا في طريقي، فإذا بي أجد نفسي على حدود هذه المدينة.
الملك (في ذعر وغضب ) :
الصدفة وحدها؟ هذا شيء عجيب! ومن أين أتيت؟ ما هو بلدك؟ ما اسمك؟ من أنت؟
الرجل :
اسمي أعرفه وهو ربيع، أما بلدي فلم أعرفه بعد.
الملك :
ليس لك بلد؟
الرجل :
ليس لي بلد حتى الآن؛ أنا رجل كثير السفر والترحال.
الملك :
هذا غريب جدا! وما الذي أتى بك إلى هنا؟!
الرجل :
الصدفة وحدها ... لا بد أنني ضللت طريقي.
الملك :
ضللت طريقك! وما هو طريقك؟
الرجل :
طريق طويل وشاق، إنني متجه نحو وطني.
الملك :
ولكنك قلت إنك ليس لك بلد.
الرجل :
نعم ليس لي بلد، ولكني ولدت في مكان ما من الأرض.
الملك :
ألا تعرف أيضا أين ولدت؟
الرجل :
لا.
الملك :
ألم تسأل أمك أو أباك؟!
الرجل :
ليس لي أب أو أم. (الملك يبدو عليه شيء من الاضطراب. يطلب من الرجل أن ينتظر بالخارج. يبقى الملك ومروان على المسرح وحدهما.)
الملك (في غضب واضطراب) :
هذا غريب جدا ... وكيف ولد إذن؟! هل يمكن أن يولد أحد بغير أب أو أم؟ (يخاطب مروان رئيس الجند) : هل تصدق يا مروان؟
مروان :
قد يولد بغير أب، ولكن بغير أم هذا مستحيل يا مولاي!
الملك :
هذا رجل غريب، كيف جاء إلى هنا ولماذا؟
مروان :
ربما ضل الطريق يا مولاي.
الملك :
أتصدق كلامه؟ أنا لا أصدقه. إنه يكذب؛ في عينيه شيء غريب لا يبعث على الراحة أو الطمأنينة. وماذا نفعل به؟
مروان :
مولاي، أنت صاحب الأمر والنهي.
الملك :
فلننفذ عليه فورا القانون العام.
مروان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يتحرك مروان، لكن الملك يبدو مترددا، يناديه مرة أخرى ويتشاور معه في قلق.)
الملك :
ولكن أتظن أنه سيخضع بعد العملية؟
مروان :
كل الرجال خضعوا بعد العملية يا مولاي، فلماذا لا يخضع هو؟!
الملك :
نعم، لماذا لا يخضع هو؟! لماذا لا يخضع هو؟! إنه كالآخرين تماما. خذه يا مروان ونفذ فيه القانون العام. (يتحرك مروان، لكن الملك يظل مترددا ويستبقي مروان.)
الملك :
ولكني لا أظن أن هذا كاف، لا أظن أن إخصاء الرجل يكفي لإخضاعه. في عينيه شيء غريب لا أرتاح إليه. إنه ليس كالآخرين. لا، لا، إنه ليس كالآخرين.
مروان :
نعم يا مولاي، إنه ليس كالآخرين.
الملك :
وما العمل يا مروان؟
مروان :
اؤمر تطع يا مولاي.
الملك :
نتخلص منه وبسرعة.
مروان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يتحرك مروان. الملك يستبقيه.)
الملك :
إلى أين أنت ذاهب؟ كيف سنتخلص منه؟
مروان :
نقتله في الحال يا مولاي.
الملك (في سرور) :
نعم، نعم، اقتله في الحال. (مترددا مرة أخرى)
ولكن كيف ستقتله؟
مروان :
أرفع السيف في وجهه وأضرب رأسه.
الملك (في سرور) :
هذا جميل! هذا جميل! (مترددا مرة أخرى)
ولكن لماذا وجهه يا مروان؟ لماذا لا يكون في ظهره؟ إنه رجل غريب، رجل خطير ... ليس من السهل أن نضربه في وجهه، ربما تكون له حيل لا نعرفها، ربما يكون قويا جدا، ربما يقاوم ... ربما ... ربما يستطيع أن ... لا أعرف تماما ما الذي يمكن أن يفعله مثل هذا الرجل الشاذ. إنه نوع غريب من البشر، ربما يتقمص روحا شريرة. الأفضل أن نخلص منه في هدوء ودون أن يعلم. لا بد من مؤامرة، لا بد أن نخدعه بشيء ثم نطعنه في ظهره.
مروان :
نعم يا مولاي، لا بد أن نخدعه بشيء ثم نطعنه في ظهره.
الملك (في سرور شديد) :
هذه فكرة جميلة، رائعة! والآن دعه يأت هنا مرة أخرى. (مروان يخرج ثم يعود ومعه الرجل.)
الملك (بصوت هادئ وتودد) :
إنني أعتذر عما بدر مني من غضب، كنت أظنك واحدا من الناس، ولكن حيث إنك غريب عن هذا البلد، وإنك ضللت الطريق، فسوف آمر جنودي بأن يرشدوك إلى طريق الحدود ولا يتركوك حتى تكون خارج هذا البلد، وفي أمان وسلام.
الرجل :
شكرا يا سيدي، هذا فضل كريم منك. (الملك يخاطب مروان بلهجة آمرة.)
الملك :
مروان، أحضر هنا أحد الجنود.
مروان :
حاضر يا مولاي. (يخرج مروان ويعود ومعه جندي مسلح.)
الملك (يخاطب الجندي بلهجة آمرة) :
سترافق هذا الضيف الكريم حتى يخرج سالما آمنا من هذا البلد. هل فهمت؟
الجندي :
سمعا وطاعة يا مولاي.
الرجل :
أشكركم كثيرا. أشكركم.
الملك :
مع السلامة. (يخرج الرجل ومن خلفه الجندي المسلح.)
الملك (يخاطب مروان وحدهما على المسرح) :
من هو أشجع جنودك؟
مروان :
عثمان يا مولاي.
الملك :
أحضره إلي.
مروان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يمثل الجندي عثمان بين يدي الحاكم، وبعد أن يؤدي التحية.)
الملك :
أرأيت الرجل الغريب؟
عثمان :
نعم يا مولاي، وقد أخذه عبيد إلى طريق الحدود كما أمرت يا مولاي.
الملك :
جميل. الآن أريد منك أن تسير وراءهما من على بعد، فإذا ما خلا الطريق وأظلمت السماء، فاقترب منه دون أن يراك واطعنه في ظهره بسرعة. إياك أن يلتفت وراءه قبل أن تصيبه الطعنة القاتلة.
عثمان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يتحرك عثمان. الملك يناديه مرة أخرى.)
الملك :
اسمع. لا تأخذ الأمر ببساطة ككل مرة؛ إنه ليس كهؤلاء الذين تقتلهم، إنه مختلف، إنه شاذ ... هل رأيته؟
عثمان :
نعم يا مولاي.
الملك :
هل رأيته وجها لوجه؟ أعني هل نظرت في عينيه؟
عثمان :
لا يا مولاي.
الملك :
هذا أفضل لك، هذا يسهل عليك مهمتك. أعني أنك لو نظرت في عينيه، ربما ... ربما كنت تشعر بشيء من الخوف. لا، لا، لا أقصد الخوف ولكن شيئا آخر ... ارتياب مثلا، قلق، ذعر ... لا، لا، ليس ذعرا على الإطلاق. على أي حال أنا مطمئن لشجاعتك وقوتك، هيا انطلق ولا تعد إلا برأسه.
عثمان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يخرج عثمان.) (الملك يجلس مفكرا.)
مروان :
هل يريدني مولاي؟
الملك :
لا، اذهب أنت يا مروان. (الملك وحده على المسرح يبدو عليه القلق والتفكير.) (يتمشى على المسرح ذهابا وإيابا يكلم نفسه: لا يستطيع أن يخفض رأسه! ليس له بلد ... ليس له أب ولا أم ... أيمكن لمثله أن يضل الطريق؟!) (تدخل الملكة جنات. يبدو عليها الاضطراب، تتلفت حولها في ذهول.) (الملك تبدو عليه الدهشة.)
الملك :
ما الذي أتى بك إلى هنا في هذه الساعة؟
الملكة (في اضطراب) :
لا أدري تماما، ولكني كنت أجلس في الحجرة المجاورة ...
الملك (في اضطراب) :
كنت في الحجرة المجاورة! وماذا كنت تفعلين في الحجرة المجاورة؟ لماذا خرجت من الحرملك؟
الملكة :
كان الجو حارا، وأردت أن أطل من النافذة. (الملكة تتجه نحو النافذة. يبدو عليها الاضطراب، كأنما تبحث عن شيء.)
الملك (في دهشة) :
ماذا دهاك؟ عم تبحثين؟
الملكة :
لا شيء. لا أدري تماما، ولكني سمعت صوتا ...
الملك (في اضطراب) :
صوتا! أي صوت؟
الملكة :
لا أدري تماما، ولكني سمعت صوتا غريبا.
الملك :
صوتا غريبا! لم يكن هنا أي صوت غريب.
الملكة :
لم يكن هنا صوت؟ شيء غريب! شيء غريب جدا! ولكني سمعت صوتا، سمعت صوتا لم تسمعه أذناي من قبل.
الملك :
صوتا لم تسمعه أذناك من قبل! وماذا يمكن أن يكون هذا الصوت؟
الملكة :
لا أدري.
الملك :
لا تدرين! لا بد أنك تخرفين.
الملكة (في شيء من الغضب) :
أخرف!
الملك (يتراجع) :
لا أقصد تخرفين، ولكن ربما كنت جالسة إلى جوار النافذة، ثم غفوت لحظة وحلمت.
الملكة (في ذهول) :
حلمت؟!
الملك :
نعم، ربما حلمت بأنك سمعت صوتا. ألا يحدث أحيانا أن تنامي وأنت جالسة وتحلمي؟!
الملكة :
أكان حلما؟!
الملك :
هل نسيت ذلك الحلم الغريب الذي حكيته لي منذ أيام؟
الملكة :
ولكن هذا شيء غريب، هذا صوت لم أسمعه من قبل. لم أكن نائمة! أبدا لم أكن نائمة! (الملكة يبدو عليها الاضطراب. تتلفت حولها كأنما تبحث عن هذا الصوت.)
الملك (في تودد) :
أنت لست في حالتك الطبيعية يا حبيبتي؛ ربما لم تنامي نوما كافيا، أو لعل أعصابك مرهقة؛ لأنني ... (يقترب منها في تودد شديد وهي تبتعد عنه)
لأنني لم ... أقصد لأننا لم نجلس معا ليلة أمس جلستنا الغرامية المعتادة. ولكن ماذا أفعل يا حبيبتي؟! كنت مشغولا جدا ليلة أمس، ولم يكن في استطاعتي أن أترك مجلس البلاط مجتمعا ثم آتي إليك! (الملكة لا ترد، ويبدو عليها أنها منشغلة بالبحث عن الصوت الغريب.)
الملك (في رقة) :
ولكن هذه هي الليلة الوحيدة التي لم نجلس فيها معا، الليلة الوحيدة التي مرت من حياتك دون أن تسمعي ... (يقترب منها وهي تبتعد عنه)
الليلة الوحيدة التي لم تسمعي فيها كلام الحب ... ولكن ... ولكنك ستغفرين لي حين أسمعك الآن ... لماذا تبتعدين عني هكذا يا جنات؟! (جنات تجلس بعيدا عنه. الملك يذهب إليها ويجلس إلى جوارها، يفتش في جيوبه لحظة ثم يخرج يده من جيبه بقطعة من الورق مطوية.)
الملك (يفتح الورقة) :
ستهدئين تماما حيث تسمعين هذا الكلام الجميل. استمعي يا حبيبتي إلى رسالة الليلة. (يتأهب للقراءة)
حبيبتي جنات، حياتي ونور عيني ... (الملكة تقاطعه بشيء من الضيق.)
الملكة :
هل ستقرؤها ككل ليلة؟!
الملك :
نعم يا حبيبتي، نعم.
الملكة :
لا أرجوك، أعفني الليلة، لا أستطيع أن أسمع ...
الملك (مندهشا) :
لا تستطيعين أن تسمعي!
الملكة :
أنا متعبة، أريد أن أبقى وحدي. لا أريد أن أسمع أي شيء.
الملك :
وهل رسائلي أي شيء يا جنات؟
الملكة :
قلت لك إنني متعبة، أشعر بآلام في أذني. لا أستطيع أن أسمع ...
الملك :
أؤكد لك أن ألم أذنيك سوف يضيع تماما بعد أن تسمعي كلماتي.
الملكة (تغضب) :
لا، لن يضيع الألم، بل لعله سيزيد. قلت لك لا أستطيع أن أسمع، لا أحب أن أسمع!
الملك (في رقة) :
لا تحبين أن تسمعي رسائلي؟ أما كنت تحبين هذه الرسائل؟
الملكة :
كنت ... نعم كنت ... ولكني ... ولكني سمعتها مئات المرات وحفظتها عن ظهر قلب.
الملك :
هذه الرسالة مختلفة عن الرسائل الأخرى، وعباراتها أكثر جمالا. اسمعي ... (يتأهب للقراءة مرة أخرى) .
الملكة (في ضيق) :
لا أريد أن أسمع ... تعبت من السماع يا هوه! (تضع يديها على أذنيها.)
الملك (متصنعا الدهشة) :
هل هناك امرأة في العالم تعبت من سماع عبارات الحب والغرام؟
الملكة :
نعم، إنها أنا!
الملك :
ولكنك كنت تحبين هذه العبارات؟
الملكة :
كنت أحبها ولكني سئمتها ... سئمت السماع. أريد شيئا آخر غير الكلام.
الملك :
وهل رسائلي كلام يا حبيبتي؟ رسائلي التي أكتبها بكل أحاسيسي وجوارحي! رسائلي التي أنفقت في كتاباتها نصف عمري! رسائلي التي تملأ هذا الصندوق الكبير! (يشير إلى الصندوق الكبير في الركن)
هل هناك امرأة في العالم تلقت من زوجها كل هذه الرسائل؟
الملكة :
ولكن الرسائل لا تفعل شيئا.
الملك (في دهشة شديدة جدا) :
لا تفعل شيئا؟! هذه أول مرة أسمع منك هذه العبارة! لا يمكن أن تكوني في حالتك الطبيعية! لا يمكن! لست جنات التي كنت أعرفها. ماذا حدث لك يا عزيزتي؟!
الملكة :
لا أدري، ولكني أحس أنني لست ... (تسكت لحظة في اضطراب)
نعم أحس أنني لست كما كنت ... (تسير وحدها بعض خطوات كالحالمة)
لا يمكن أن يختلط علي الأمر إلى هذه الدرجة! إني متأكدة أني سمعت ... نعم، سمعت ذلك الصوت، وأحسست أنني أرتجف. كنت أرتجف فعلا. واختفى الصوت فجأة، وظننت أنه سيعود، لكن وقتا طويلا مر دون أن يأتي!
الملك :
أتعودين إلى هذه الهلوسة يا جنات؟ ألن تنسي هذا الحلم؟
الملكة :
لن أستطيع أن أنسى. لقد أحسست أنني ... كأنني مدفونة تحت الأرض وفجأة رأيت شعاعا من النور ... كأنني كنت ميتة وفجأة بدأ شيء حي يتحرك في كياني الميت.
الملك (يبدأ يغضب قليلا) :
ما هذا الهذيان الشديد؟! لقد بدأت أسأم هذا الحديث الخرافي. لم أعد أفهمك، لم أعد أفهم ماذا تريدين، وما الذي يمكن أن تريديه؟ كل شيء عندك؛ أجمل ملابس، أثمن جواهر، أشهى طعام، وفوق كل ذلك ... عندك (يشير إلى الصندوق الكبير)
كل هذه الرسائل!
الملكة (في غضب) :
وماذا يفعل لي كل هذا؟ ماذا يفعل لي كل هذا؟
الملك (في عتاب) :
حتى رسائلي يا جنات لا تفعل لك شيئا! حتى رسائلي!
الملكة :
نعم، إنها لا تفعل شيئا، لم تعد تفعل شيئا. إن الدم ينبض في عروقي، والحياة تسري ساخنة في جسمي. ماذا تفعل رسائل؟ ماذا يفعل لي كلام، كلام، كلام؟! (تبكي في حرقة وتخفي وجهها بيديها.)
الملك (متصنعا الرقة) :
وماذا تريدين إذن؟
الملكة (تجفف دموعها) :
لا أدري.
الملك :
إذا كنت أنت لا تدرين، فكيف أدري أنا؟!
الملكة (في إرهاق) :
إني مرهقة، أريد أن أستريح.
الملك :
نعم، أنت في حاجة إلى الراحة، أنت في أشد الحاجة إلى الراحة. لا بد أن تذهبي وتنامي في سريرك. (يساعدها على النهوض)
اذهبي ونامي يا حبيبتي. (يخرجها من المسرح.) (يبقى الملك وحده على المسرح. يبدو عليه القلق والاضطراب فجأة. يكلم نفسه: لا بد أنها سمعته! لا بد أنها سمعت صوته! ولكن أيمكن أن تتغير إلى هذا الحد؟ أيمكن أن تحس به إلى هذا الحد؟ وماذا يحدث لو أنها فتحت الباب ودخلت ورأته؟! آه! ما الذي أتى به إلينا؟! أيمكن أن تكون الصدفة وحدها؟ أمجرد صدفة؟! أيمكن أن يضل هو الطريق؟! لست مطمئنا، لست مطمئنا. هناك إصبع يلعب في الخفاء. نعم، أحسست بمجرد أن نظرت في عينيه أنه ليس كالآخرين. إنه مختلف، مختلف، وهي استطاعت من وراء الباب المغلق أن تحس أنه مختلف! كيف استطاعت أن تحس؟! كيف استطاعت هذه المرأة الغبية؟!) (يسكت لحظة في وجوم ثم يقول: ولماذا لم يعد عثمان برأسه حتى الآن؟! لماذا لم يعد عثمان؟! يصرخ بأعلى صوته في انفعال وذعر: ماذا حدث يا عثمان؟! ماذا حدث؟) (يسدل الستار)
المشهد الثاني (الملك جالس وسط حاشيته وأعضاء البلاط. مروان وعدد آخر من العبيد. بعض الجواري من النساء. الملك يشرب الشيشة، وجارية من الجواري تشرب شيشة أيضا. الجو معبأ بدخان البخور مختلطا بالمخدرات والنساء. في ركن المسرح البعيد حمار من الخشب له عجل.)
الملك (يتحدث مع مروان) :
إني قلق يا مروان. قلق.
مروان :
لا داعي للقلق يا مولاي؛ عثمان لم يتأخر.
الملك :
الدنيا أظلمت والليل كاد أن ينتصف وهو لم يعد!
مروان :
لا بد أنه عائد في الطريق يا مولاي.
الملك :
أتظن أنه قتله؟
مروان :
إنني متأكد من عثمان يا مولاي. عثمان أشجع جندي عندنا، لا يهزمه أحد. (الملك يسكت ويفكر في وجوم.)
مروان :
لا تشغل بالك يا مولاي، سيدخل علينا عثمان بعد قليل ومعه الرأس.
الملك (ينشرح قليلا) :
ومعه الرأس! كلامك مطمئن يا مروان.
مروان :
سيكون كل شيء كما يبغيه مولاي.
الملك (باسما) :
أعرف هذا.
مروان :
والآن أيرغب مولاي في بعض الأغاني ... والرقص؟ (ينتهز فرصة انشراح الملك)
لا بد أن نحتفل مقدما بقدوم الرأس.
الملك (يضحك في سرور) :
أجل، يجب أن نحتفل. هيا ابدأ. (جارية ترقص على وقع الطبول. جارية أخرى تغني. الملك يدخن الشيشة ويبدو عليه بعد قليل الانشراح والاندماج الكامل في الجو. يبدو عليه السكر وهو يتحدث مع مروان.)
الملك (بصوت مخمور) :
وماذا نفعل يا مروان في تلك المرأة؟
مروان :
أي امرأة يا مولاي؟
الملك :
زوجتي، الملكة جنات.
مروان :
ماذا حدث لها يا مولاي؟
الملك :
لا أدري! ولكني أشك في أنها سمعت صوت الرجل من وراء الباب، أو ربما رأته من النافذة ولكنها لا تعترف بشيء. كل ما تقوله أنها سمعت صوتا غريبا، صوتا جعل ... (الملك يحاول أن يتذكر)
لا أذكر كيف نطقت بهذه الجمل، ولكنها قالت إن الصوت جعل شيئا في جسمها ينبض بالحياة.
الملك (يضحك مخمورا) :
تصور يا مروان جنون النساء! النساء ليس لهن أمان، مهما فعلت فهم كالقطط يشمون الرائحة من بعيد. الخيانة في دمهم.
مروان :
سوف تنسى الملكة كل شيء بعد أيام.
الملك :
لا أظن ... لا أظن أنها ستنسى. إني أعرفها، لقد تغيرت يا مروان، تغيرت تماما، لم تعد هي جنات القطة المغمضة. بدأت تتذمر.
مروان :
تتذمر! إن كل نساء البلد يحسدونها! إنها أسعد امرأة في العالم.
الملك :
ولكنه بطر النساء يا مروان! بطر ... وعين فارغة!
مروان :
كل شيء له علاج يا مولاي.
الملك :
وما هو العلاج؟
مروان :
العلاج عند ... (يشير إلى جارية عجوز تجلس وسط الجواري.)
الملك :
أحضرها إلى هنا.
مروان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (مروان يذهب إلى الجارية ويهمس في أذنها ببضع كلمات، فتنهض الجارية معه ويسيران نحو الملك.)
الجارية :
أنا تحت أمر مولاي.
الملك :
هل شرحت لها يا مروان؟
مروان :
نعم يا مولاي.
الملك :
هل أنت قادرة على إخراج تلك الخزعبلات من رأسها؟
الجارية :
كن مطمئنا يا مولاي، أنا خبيرة بهذه الأمور.
الملك :
خبيرة! أين تدربت على هذه الأشياء؟
الجارية :
في الحياة يا مولاي.
الملك :
وإذا لم تخرج الخزعبلات من رأسها؟
الجارية :
افعل بي ما تشاء يا مولاي.
مروان :
إنها متمرنة يا مولاي.
الملك :
وماذا ستفعلين؟
الجارية :
بعد أن تنام مولاتي سأدخل عليها ومعي البخور؛ أبخرها سبع دقائق، ثم أضع قطعة الشبة في النار وأقص من شعرها سبع شعرات ألفها مع فص لبان دكر، وأعمل لها الحجاب وأضعه تحت المخدة. بعد هذا تفتح مولاتي عينيها في الصباح، فتجد كل شيء قد ذهب من رأسها.
الملك :
أريدها أن تنسى ... تنسى تماما ذلك الصوت الذي هوسها، تنساه كأن لم يكن.
الجارية :
لن يبقى منه في رأسها شيء يا مولاي.
مروان :
اطمئن يا مولاي.
الملك :
لست مطمئنا، لست مطمئنا إلى أي شيء. عثمان لم يعد حتى الآن!
مروان :
سيعود حالا يا مولاي.
الملك (بغضب) :
قلت لي هذا مئات المرات ولم يعد! (ينهض، يبدو عليه القلق والغضب، يطرد المغنيات والراقصات في غضب)
لا أريد أن أسمع غناء، لا أريد أن أسمع أصواتكم المنفرة، ولا أريد أن أرى وجوهكم العكرة. هيا انصرفوا بسرعة، بسرعة. (الجاريات يجمعن أشياءهن ويخرجن من المسرح مسرعات مذعورات. يبقى الملك ومروان وحدهما على المسرح.)
الملك :
ما معنى هذا؟ ما معنى هذا يا مروان؟
مروان :
لعله قد صنع له كمينا ليطعنه في ظهره الطعنة القاتلة.
الملك :
ولكنه تأخر ... أكثر من اللازم.
مروان :
لم يتأخر كثيرا يا مولاي. لا بد أنه في طريق العودة.
الملك :
كفى! لا أريد أن أسمع هذا الكلام المعسول. اتركني وحدي.
مروان :
سمعا وطاعة يا مولاي. (يخرج مروان. يبقى الملك وحده على المسرح، يتمشى قلقا مفكرا. يقترب من الحمار الواقف في ركن المسرح، يربت على الحمار في رقة وحنان.)
الملك (يخاطب الحمار) :
عثمان تأخر يا مولود! ماذا حدث؟ خبرني يا مولود، خبرني. لم أعد أطيق الانتظار. (يضع أذنه إلى جوار فم الحمار كأنه يسمعه)
ماذا تقول؟ تريد أن تتمشى في الصحراء ثم تخبرني بكل شيء! لماذا تحب الصحراء بهذا الشكل؟! (يبتسم للحمار ويداعبه)
أنا أيضا أحب أن أتمشى في الصحراء برفقتك. هيا يا مولود، هيا بنا إلى نزهتنا الخلوية معا. هيا نتحدث معا في هدوء بعيدا عن الآذان والعيون، تحكي لي وأحكي لك (يسوق الحمار ويأخذه خارج المسرح). (ستار)
المشهد الثالث (تظهر الملكة جنات وحدها على المسرح، ترتدي رداء طويلا أنيقا لا يخفي جسمها الممشوق. تنظر الملكة جنات من النافذة في قلق ، ثم تجلس على إحدى الشلت وكأنما تنتظر أحدا.) (تدخل من الباب الخارجي أم الملكة. وهي امرأة عجوز تستند إلى عكاز.) (الملكة جنات تقف وتستقبل أمها معانقة.)
الملكة :
تأخرت يا أمي.
الأم (تلهث) :
ماذا أفعل يا ابنتي؟! خطواتي أصبحت بطيئة، لم تعد بي قوة.
الملكة :
استريحي يا أمي، استريحي. (تجلس الأم على إحدى الشلت، وتجلس إلى جوارها الملكة.)
الأم :
طمني قلبي يا ابنتي، ماذا حدث؟ كنت أتأهب للصلاة حين جاءني خادمك برسالتك، فتركت الصلاة وجئت مسرعة. (تنظر إلى ابنتها. الملكة تطرق إلى الأرض.)
الأم :
ماذا حدث يا جنات؟ (الملكة يبدو عليها الاضطراب والحرج.)
الأم :
تكلمي يا ابنتي. هل حدث شيء؟
الملكة :
لم يحدث شيء يا أمي، ولكن ...
الأم :
ولكن ماذا؟
الملكة (في ارتباك) :
ولكن ... لا أعرف كيف أعبر لك! إنني تعيسة يا أمي، تعيسة! (تبدأ الملكة في البكاء.)
الأم (في دهشة) :
تعيسة! ... لماذا يا ابنتي؟ ماذا حدث؟ (الملكة تبكي ولا ترد.)
كنت أظن أنك سعيدة يا جنات. صحيح أنه رجل مستبد وغليظ القلب، ولكنه يحبك يا جنات، وأنت نفسك قلت لي إنه يحبك. (الملكة تجفف دموعها.)
الملكة :
إنه يحبني، أو هذا ما أظنه على الأقل؛ فهو يناديني دائما يا حبيبتي، وكل ليلة يسمعني الكثير من عبارات الحب، ولكن ... (تسكت وتطرق إلى الأرض. الأم تنظر إليها منصتة في اهتمام.)
الأم :
ولكن ماذا يا جنات؟
الملكة :
ولكن هذا كل شيء.
الأم (في دهشة) :
كل شيء؟!
الملكة :
نعم يا أمي. كل شيء.
الأم (مرددة) :
أتقصدين أنه يسمعك فقط عبارات الحب؟
الملكة (في غضب) :
كل ليلة يجلس إلى جواري على هذه الشلتة ويقرأ لي رسالة غرامية.
الأم (في دهشة) :
يقرأ لك رسالة غرامية!
الملكة :
نعم يا أمي يقرؤها لي.
الأم :
وماذا بعد الرسالة؟
الملكة :
لا شيء.
الأم (في دهشة) :
لا شيء! (الأم تنهض واقفة. تنظر إلى ابنتها متفحصة.)
هذا شيء عجيب! قفي يا جنات. (الملكة تقف أمام أمها.)
دوري يا جنات. (الملكة تدور والأم تتفحصها بعينين مدققتين.)
ليس بك عيب يا ابنتي. شابة في عز الشباب، وجسمك فارع خصب كالأرض الطيبة.
الملكة (تنفعل) :
تصوري يا أمي هذا! تصوري ما أنا فيه من تعاسة! (تبكي الملكة مرة أخرى في عصبية)
هذا شيء عجيب!
الأم (تهز رأسها متعجبة، ولكن تقترب من ابنتها وتهمس في أذنها) :
ربما تكون له علاقة بامرأة أخرى.
الملكة :
ليست هناك امرأة أخرى.
الأم :
وكيف تعرفين يا ابنتي؟ الرجال لهم أسرارهم، الرجال بير يا ابنتي ... بير.
الملكة :
أنا أعرف كل خطواته يا أمي ... (تهمس في أذن أمها)
أحد الحراس يقول لي كل خطواته.
الأم :
وإذا لم تكن هناك امرأة أخرى، فماذا يكون يا ابنتي؟
الملكة :
لا أدري يا أمي! لا أدري! هذا ما يحيرني!
الأم :
هذا شيء غريب! والغريب أيضا أنك لم تفتحي فمك كل هذه السنين!
الملكة :
وماذا كنت أقول يا أمي؟
الأم (تجلس) :
ماذا كنت تقولين؟! هل هذا شيء تخفيه امرأة؟ وإذا أخفته سنة أو سنتين أو ثلاثة، فكيف يمكن أن تخفيه عشرين سنة؟!
الملكة (في ذهول) :
عشرين سنة؟!
الأم (في غضب) :
نعم، عشرين سنة! ألا تعرفين أنها عشرون سنة؟!
الملكة (في ذهول) :
لا أكاد أصدق! أهكذا يمر الزمن دون أن أحس؟! عشرون سنة فاتت من عمري منذ تزوجت! عشرون سنة فاتت من شبابي!
الأم :
أنا لا أفهم لماذا لم تقولي لي! لا أفهم كيف سكت كل هذه السنين!
الملكة :
لم أعرف ماذا أقول يا أمي، كنت أظن أنه ربما يكون شيئا طبيعيا.
الأم :
شيئا طبيعيا؟!
الملكة :
كنت أظن أنه يحدث لكل النساء، لم أكن أعرف شيئا آخر يا أمي، لم أكن أعرف! وكيف كنت أعرف؟ أنت لم تقولي لي شيئا قبل الزواج سوى أطيعي سيدك. وقد أطعته يا أمي.
الأم :
طاعة الزوج واجبة يا بنتي، هكذا قالت لي المرحومة أمي، ولكني لم أتصور أنك تطيعيه إلى هذا الحد.
الملكة :
وكيف كنت أعرف إلى أي حد أطيعه؟ أنت لم تقولي لي إلى أي حد أطيعه.
الأم :
وهل هذه أشياء تقال يا بنتي؟
الملكة :
وكيف أعرفها يا أمي؟
الأم :
كيف تعرفينها؟! هذا سؤال غريب. وكيف عرفتها الآن؟
الملكة :
لا أدري! ولكن سمعت صوته من وراء الباب، فأحسست بشيء غريب يا أمي، كأنما ... كأنما ...
الأم :
سمعت صوته؟ من هذا الذي سمعت صوته؟
الملكة :
لا أدري يا أمي! إنه صوت غريب، صوت مليء بالقوة، له نبرة خاصة؛ نبرة قوية دخلت قلبي في لحظة واحدة يا أمي، وأحسست أنني أرتجف، أحسست كأنما أنا ميتة وهناك من يناديني ويقول لي: اصحي يا جنات، اصحي كفاك موتا. ودق قلبي، أخذ يدق بشدة، وحاولت أن أقف وأسير تجاه الصوت لكني لم أستطع؛ أحسست أني عاجزة عن الحركة من شدة الفرحة، من شدة الانبهار. وقد اختفى الصوت يا أمي، لا أدري كيف اختفى ولكنه لم يفارق أذني (تتلفت حولها في ذهول)
لم يفارقني!
الأم :
من هو الذي لم يفارقك؟
الملكة (حالمة) :
الصوت.
الأم :
صوت من؟
الملكة :
لا أدري، ولكنه صوت رجل.
الأم :
ومن أين أتى هذا الرجل؟
الملكة :
لا أدري يا أمي.
الأم :
وأين ذهب؟
الملكة :
لا أدري، ما إن أفقت إلى نفسي لم أعد أسمعه، فاندفعت كالمجنونة نحو الباب، ووجدت الحاكم وحده، لم يكن معه أحد. وسألته، فاندهش وقال لي ...
الأم :
ماذا قال لك؟
الملكة :
قال إنه كان وحده وليس هناك أحد. ولكني لا أصدقه يا أمي، لا أصدقه! إنه يكذب! (الملكة جنات تبكي في ألم. الأم تنظر إليها في إشفاق وتواسيها.)
الأم :
هذا شيء محير يا ابنتي.
الملكة (تغضب) :
أهو محير فقط يا أمي؟! أهو محير فقط؟! إنه شيء قاتل ... قاتل. تصوري يا أمي حياتي تضيع هكذا ... هباء ... هباء!
الأم :
إنها تضيع يا ابنتي، أعرف أنها تضيع، ولكن ما العمل يا ابنتي؟ إنه لن يتركك يا جنات، لن يحررك. أنت تعرفينه، إنه لا يحرر أحدا، فما بالك أنت. وخروجك من هذا القصر معناه نهايتك.
الملكة :
وبقائي هنا معناه نهايتي أيضا يا أمي.
الأم :
أعرف يا ابنتي.
الملكة (في إعياء) :
إني لا أنام يا أمي. لم أعد أنام، وكلما نمت ... (تسير إلى الأمام كالحالمة)
هل تسمعين هذا الصوت يا أمي؟
الأم (تتلفت في دهشة) :
أي صوت؟ لا أسمع شيئا يا ابنتي.
الملكة (كالحالمة تتقدم بخطوات بطيئة إلى الأمام ناظرة إلى أعلى) :
اسمعي. إنه يناديني يا أمي. (يسمع صوت طفل يأتي من أعلى المسرح، صوت خافت يقول في نداء ملح «ماما».)
الملكة (تقترب من مصدر الصوت باسطة ذراعيها إلى الأمام) :
إنه يناديني. أنا آتية إليك يا حبيبي.
الأم (تنظر إلى ابنتها في دهشة وتقول لنفسها في ذهول) :
أنا لا أسمع شيئا! ماذا جرى لك يا جنات؟ (الملكة تسير نحو مصدر الصوت كالحالمة وتركع على ركبتيها وكأنما هي تلتقط طفلا حقيقيا من الأرض وتحمله بين ذراعيها وتضمه بقوة إلى صدرها. تجلس على الأرض محتضنة الطفل الوهمي وكأنها ترضعه. تهدهده في حنان شديد وتكلمه. الأم تراقبها في ذهول وتمسح دموعها من شدة الألم.)
الملكة (تكلم طفلها. تضم الطفل) :
أنت جائع يا حبيبي! إن لبني غزير، غزير، يضغط على صدري من شدة غزارته ويفيض كالنهر. يفيض كالنهر. (الأم تمسح دموعها وهي تنظر إلى ابنتها ... تقترب منها في وجل ورهبة. تضع يدها على كتفها في حنان.)
الأم :
جنات ... ابنتي ... حبيبتي. (الأم تجفف دموعها.)
الأم :
أنت متعبة يا ابنتي، أنت متعبة. (تهزها في كتفها برقة لتفيق. الملكة تفيق إلى نفسها، تنظر بين ذراعيها فلا تجد الطفل. تتلفت حولها في فزع وذهول. تنهض مذعورة وتدور على خشبة المسرح كأنما تبحث عن طفلها الضائع.)
الملكة (بصوت مذعور) :
من أخذ مني طفلي؟ من أخذ مني طفلي؟! كان هنا! كان هنا بين ذراعي. (تقبض الهواء بين ذراعيها وتلقي بنفسها على أمها باكية منتحبة.)
الملكة (تبكي في حزن) :
كان بين ذراعي يا أمي! كان بين ذراعي! أين ذهب يا أمي؟
الأم (تواسيها) :
سيعود إليك يا ابنتي، سيعود إليك طفلك يا ابنتي.
الملكة (تفيق) :
طفلي؟!
الأم :
نعم طفلك يا جنات.
الملكة :
طفلي أنا؟ هل يمكن أن يكون لي طفل؟
الأم :
طبعا يا ابنتي يمكن أن يكون لك طفل.
الملكة :
كيف يكون لي طفل يا أمي وزوجي يريدني طاهرة؟
الأم :
لعنة الله عليه وعلى طهارته يا ابنتي. أهذه طهارة؟! إنه الدنس. إنه يخدعك بهذه الطهارة وهو يدنس حياتك، يدنسها يا ابنتي. وهل هناك دنس أكثر من فقد حياتك دون طفل؟ ... دون ثمرة؟
الملكة :
وماذا أفعل يا أمي؟ ماذا أفعل؟ ما هو الحل؟
الأم :
رجل آخر يا ابنتي. (الملكة تنهض فزعة مندهشة.)
الملكة (في دهشة) :
رجل آخر؟
الأم (بشدة) :
نعم، رجل آخر. هذا هو الحل الوحيد.
الملكة :
هل يوجد رجل آخر يا أمي؟ إنه الرجل الوحيد والباقي، كلهم عبيد.
الأم :
ربما يكون هناك رجل.
الملكة (في أمل) :
أقسم لك يا أمي أنني سمعت صوته.
الأم :
ربما يكون هناك رجل يا ابنتي.
الملكة :
لا بد أن هناك واحدا. أقسم لك يا أمي أنه موجود.
الأم :
لا يمكن أن تخلو الدنيا من رجل، من رجل واحد على الأقل.
الملكة :
ماذا ستفعلين يا أمي؟
الأم :
سأبحث عن هذا الرجل يا جنات، سأبحث عنه في كل مكان في البلد. قلبي يحدثني بأنه موجود في مكان ما، لا يمكن أن تخلو الدنيا من رجل (الأم تسير نحو الباب وهي تردد)
لا يمكن أن تخلو الدنيا من رجل واحد. (الملكة تنظر إليها في دهشة. الأم تخرج.) (الملكة تقف وحدها على خشبة المسرح، تنظر إلى أعلى لحظة، ثم تركع على ركبتيها في خشوع وانبهار.)
الملكة :
يا رب! ساعدها يا رب! (ستار)
المشهد الرابع (في طريق الحدود طريق صحراوي خال إلا من كوخ صغير بعيد. خشبة المسرح مظلمة تماما. تظهر الأم العجوز من أحد أطراف المسرح تحمل شمعة صغيرة في يدها، وتستند على عكازها وتسير في الطريق، تسير منحنية الظهر يبدو عليها التعب والإرهاق وكأنما أنهكها البحث والتجوال.)
الأم (بصوت خافت فيه نداء) :
رجل واحد يا عباد الله، رجل واحد فقط يا عباد الله، واحد فقط، واحد فقط. ألا يوجد رجل واحد فقط في كل هذا البلد؟! (تخرج من الطرف الآخر لخشبة المسرح ومعها الشمعة. يظلم المسرح تماما، ثم تظهر شمعة صغيرة أخرى في يد رجل عجوز مهلهل الثياب. الرجل العجوز يعلق الشمعة على باب كوخه الصغير ويجلس أمام الباب يمسك مزمارا وينفخ فيه، ويغني بصوت خافت.)
الرجل العجوز الفقير (يغني) :
أنا صاحي والناس نايمين.
مولع شمعتي في الضلمة وماعرفش أنا مين.
عبد مخصي ولا راجل مسكين،
مالوش حاجة في البلد وما يخافش على مليم. (يظهر من الطرف الآخر للمسرح الرجل الغريب، ومن خلفه الجنديان عبيد وعثمان، كل منهما يحمل سيفه. عثمان يشير إلى الكوخ.)
عبيد :
هل نجد عندك ماء؟ اسقنا بارك الله فيك. (رجل الكوخ يأتي بقلة ماء ويسقي عبيدا وعثمان، ويقترب من الرجل الغريب ليسقيه وينظر إليه في سرور وانبهار بوسامته وقوته.)
عثمان :
هذا رجل غريب.
رجل الكوخ :
أهلا وسهلا، تفضلوا، تفضلوا. (رجل الكوخ يتأمل الرجل الغريب في فرح وانبهار.)
عبيد (يخاطب الرجل الغريب) :
هل لك أن نستريح هنا قليلا؟
الرجل الغريب :
هذا الرجل الطيب! ما أجمل أن نجلس معه قليلا! (يجلس الرجل الغريب إلى جوار رجل الكوخ. عثمان يأخذ عبيد من يده ويسيران بعيدا عن الرجلين، ثم يقفان في الركن الآخر من المسرح يتهامسان: يجب أن نقتله.)
عبيد :
ولماذا نقتله يا عثمان؟ إنه لا ينطوي على شر، وسوف يغادر حدودنا ولا نراه بعد ذلك أبدا.
عثمان :
هذا أمر مولاي.
عبيد :
مولاي أمرني أن أخرجه من المدينة فقط.
عثمان :
ثم أمرني بأن أقتله.
عبيد :
ولماذا يريد أن يقتله؟ إنه رجل طيب، ولا ينطوي على شر.
عثمان :
مولاي أعلم به منا. إنه غريب عنا، كيف تعرف أنه طيب أو غريب طيب؟!
عبيد :
إني أعرف أنه طيب.
عثمان :
كيف تعرف؟
عبيد :
ألم تنظر في عينيه؟ انظر في عينيه وأنت تعرف أن هذا الرجل لا يمكن أن ينطوي على شر.
عثمان :
ليس في عينيه شيء يدل على شيء. أنت تخاف منه، هذا هو السبب. أنت تخاف منه لأنك تحس أنه أقوى منك. أنت تخشى أن يقتلك.
عبيد :
أنا لا أخاف منه، لقد سرت معه جزءا من الطريق وحدي قبل أن تلحق أنت بنا. وبينما أنا أسير تعثرت قدمي فوقعت ووقع مني سلاحي ، فإذا به يناولني السلاح ويساعدني على النهوض. لو كان يريد أن يقتلني لقتلني، ولكنه رجل لا ينطوي على شر.
عثمان :
أنا لا أستطيع أن أعصي أوامر مولانا؛ لقد أمرني بقتله ولا بد أن نقتله.
عبيد :
أنا لا أستطيع أن أقتله.
عثمان :
إذا دعني أقتله أنا. (عثمان يسكت لحظة مفكرا.)
عثمان :
يمكنك أن تبقى هنا مع رجل الكوخ بحجة أنك متعب ولا تستطيع مواصلة السير، وآخذه أنا إلى الطريق ثم أقتله. (عبيد مطرق إلى الأرض ... لا يرد. عثمان يشده من يده ناحية الرجلين الجالسين.)
عثمان (مخاطبا رجل الكوخ) :
زميلي متعب ولا يستطيع أن يواصل السير، هل يمكن أن يستريح عندك حتى أذهب أنا لأوصل سيدي الضيف إلى خارج الحدود؟
رجل الكوخ :
تفضل يا سيدي تفضل، أنت في بيتك (يمد يده لعبيد ويجلسه إلى جواره) .
عثمان (مخاطبا الرجل الغريب) :
هيا بنا يا سيدي.
الرجل الغريب (ينهض) :
هيا بنا. (يسير الرجل الغريب ومن خلفه عثمان. يخرجان.) (عبيد جالس إلى جوار رجل الكوخ ... يبدو عليه القلق. ينهض ويتمشى على المسرح في قلق وحيرة.)
رجل الكوخ :
ماذا بك يا سيدي؟
عبيد (في غضب) :
هذا ظلم، هذا استبداد. ماذا فعل الرجل ليقتله؟ ماذا فعل؟ ألا يكفيه ما يفعل بنا ... هذا الطاغية؟!
رجل الكوخ :
ماذا حدث يا سيدي؟
عبيد :
عثمان ذهب معه ليقتله.
رجل الكوخ :
ولماذا يقتله؟
عبيد :
أمر مولانا ...
رجل الكوخ :
هذا الرجل المجنون ألا يكف عن سفك الدماء؟!
عبيد :
لن يكف أبدا.
رجل الكوخ :
وماذا فعل له هذا الرجل؟ إنه رجل ينطوي على خير وحب كبير؛ هذه أول مرة في حياتي أرى مثل هذا الرجل، ولكن قلبي تفتح له بشكل غريب. لا يمكن أن تتصور يا ابني كم فرحت بهذا الرجل!
عبيد :
هل نظرت في عينيه؟
رجل الكوخ :
نعم يا ابني، في عينيه نظرة لم نتعودها.
عبيد :
نظرة من لا يخشى شيئا.
رجل الكوخ :
نظرة الرجل يا ابني.
عبيد :
كم كنت أود أن تكون لي هذه النظرة! كم كنت أود أن أكون رجلا، ولكني لا أستطيع! لو كنت رجلا لمنعت عثمان من قلته، لو كنت رجلا لمنعته، أو على الأقل نبهت الرجل الغريب. ولكني لم أستطع! لم أستطع! (يخفي وجهه بيديه ويتشنج في ألم شديد.)
رجل الكوخ (يمسح دمعة ظهرت في عينيه بطرف كمه) :
لا تحزن يا عبيد، أنت لا ذنب لك في هذا. هذا الرجل المجنون جعل كل الرجال عبيدا. إنه يملك السلاح والسلطة والمال، ماذا كنت تفعل أنت يا عبيد أمام كل هذا؟
عبيد :
كان يجب أن أقاوم حتى الموت.
رجل الكوخ :
ولماذا لم تقاوم؟
عبيد :
لم يكن معي أحد، كنت وحدي، وحينما كنت أهمس لأحد من زملائي بأننا يجب أن نرفض كان يتهمني بالجنون، كان ينظر إلي بعينيه الذليلتين ويقول لي: أيمكن أن تقاوم الطبيعة؟! ورضيت بأن أكون عبدا كالجميع.
رجل الكوخ :
كتب علينا أن نكون عبيدا.
عبيد :
لا، لا، لم يكتب علينا أن نكون عبيدا، هذا كذب ... كذب! لم أعد أصدق هذه الكلمات الذليلة! لم أعد أصدقها.
رجل الكوخ :
ولماذا لم تعد تصدقها؟ وما الذي حدث؟
عبيد :
هذا الرجل! ألم تر هذا الرجل؟ لماذا تفتح له قلبك؟ لماذا بهرك؟ لأنه رجل، لأنه ليس عبدا. لقد رفض أن يكون عبدا، لقد رفض أن يخفض رأسه مرة واحدة في حياته. لو أنني رفضت مثله ... لو أنني قاومت مرة واحدة فقط!
رجل الكوخ :
ولكن سيدفع حياته ثمن هذا.
عبيد :
يدفعها أو لا يدفعها، المهم أنه قاوم، أنه رفض، أنه قال لا. هذا يكفيني، ليتني أستطيع أن أقولها، ليتني أستطيع أن أقولها وأدفع حياتي، ولكنني أصبحت عاجزا، أصبحت عاجزا!
رجل الكوخ :
كلنا عاجزون يا ابني أمام هذا الجبار. هذا هو الأمر الواقع وعلينا أن نقبله. (يظهر الرجل الغريب عائدا وحده بغير عثمان. رجل الكوخ وعبيد ينظران إليه بدهشة شديدة.)
رجل الكوخ وعبيد (في نفس واحد) :
أنت الذي عدت؟!
رجل الكوخ :
يا إلهي! كنت أحس أن مثلك لا يمكن أن يموت بهذه البساطة.
عبيد :
كنت أحس أن عثمان لن يستطيع أن يقتلك.
رجل الكوخ :
اجلس يا ابني، اجلس واسترح، لا بد أنك مرهق. (الرجل يجلس معهما.)
رجل الكوخ :
ماذا حدث يا ابني؟ احك لنا.
الرجل :
حين نظرت في عيني عثمان وهو يسير إلى جواري أحسست أنه يدبر شيئا، وفي اللحظة التي رفع فيها سيفه ليطعنني في ظهري، استدرت بسرعة فطعن الهواء وسقط فوق سيفه على الأرض.
عبيد :
هل قتلته؟
الرجل :
لا، ساعدته على النهوض وسألته: لماذا تقتلني؟ فاعترف أنه ينفذ أمر الملك، فصفحت عنه، لكنه كان خائفا أن يعود إلى الملك بغير رأسي فيقتله الملك.
رجل الكوخ :
وماذا فعل المسكين؟
الرجل :
قلت له: اهرب. لكنه قال لي: أين أهرب؟ لا أعرف إلا هذا البلد، إنه بلدي. ثم طعن نفسه بسيفه قبل أن أصل إليه.
عبيد :
عثمان قتل نفسه؟
رجل الكوخ :
مسكين.
عبيد :
لقد استراح. المساكين هم الذين يعيشون الذل ولا يقتلون أنفسهم ولا هم يموتون.
الرجل :
تألمت كثيرا لعثمان، وتألمت لأنني لم أصل إليه قبل أن يطعن نفسه. ولكن هناك شيء لا أفهمه.
عبيد :
ما هو؟
الرجل :
لماذا يقتلني الحاكم؟ لم أفعل شيئا وما كنت سأبقى بالمدينة.
عبيد :
أنت لا تعرف هذا الحاكم، إنه لا يطيق أي رجل في المدينة، لا يطيق أي رجل سواه.
الرجل (في دهشة) :
وكل هؤلاء الرجال في المدينة؟!
الجندي عبيد :
أخصانا كلنا فأصبحنا عبيده.
الرجل العجوز :
هذه مدينة العبيد يا سيدي، ألم تكن تعرفها؟
الرجل :
لا.
عبيد (في ألم) :
خذني معك يا سيدي ولا تتركني هنا. إنني عبد مخصي ولكنني أريد أن أتحرر. لم أعد أطيق الذل. حررني يا سيدي، حررني وخذني معك (يبكي في ألم) .
رجل الكوخ (يواسيه) :
خذه معك يا سيدي فهو لن يستطيع أن يعيش هنا بعد الآن، لقد تحرر ... نعم تحرر ... انظر إلى عينيه ... (يرفع وجه عبيد بيده)
انظر إلى عينيه ترى أنه تحرر، لم تعد له نظرة العبيد، لم يعد عبدا يا سيدي. خذه معك إلى بلد الأحرار. وأنا ... وأنا (يمسح دموعه)
ليتني أنا أتحرر أيضا ولكني لا أستطيع، لا أستطيع (يبكي)
لو كنت شابا مثله ربما استطعت، ولكني أصبحت شيخا عجوزا. (ينشج ببكاء مكتوم. الرجل الغريب يطرق إلى الأرض في حزن وألم.) (تظهر الأم العجوز من الطرف الآخر للمسرح تحمل شمعتها الصغيرة، تسير بعكازها وظهرها منحن تنادي بصوتها الضعيف الخائر: «رجل واحد ... يا عباد الله ... رجل واحد فقط يا عباد الله ... ألا يوجد رجل واحد في هذه المدينة؟ ... رجل واحد فقط!») (الرجل الغريب يهب واقفا.)
الرجل :
يبدو أنها تحتاج إلى المساعدة. (يسرع ناحية الأم العجوز ومن خلفه عبيد ورجل الكوخ.)
الرجل :
ماذا بك يا أمنا العجوز؟
الأم :
أبحث عن رجل ينقذ ابنتي.
الرجل :
ماذا حدث لابنتك؟
الأم :
إنها تموت شيئا فشيئا، أما من رجل هنا ينقذها؟
الرجل :
أين ابنتك يا سيدتي؟
الأم :
في القصر.
الرجل :
خذيني إليها. (يمسك الرجل بيد الأم العجوز ويهم بالمسير معها.)
عبيد (يخاطب الرجل) :
أنت تخاطر بحياتك إذا ذهبت ناحية القصر.
الرجل (باسما) :
أنا أخاطر بحياتي دائما يا عبيد. انتظرني هنا، سأعود إليك (يسير الرجل ممسكا بيد العجوز. يتبعدان عن الكوخ) .
الأم :
بارك الله فيك يا ابني ... (تمسح دموعها)
بارك الله فيك ... قلبي كان يحدثني بأن هناك رجلا ... لا يمكن أن تخلو الدنيا من رجل واحد ... لا يمكن أن تخلو الدنيا من رجل واحد. (ستار)
المشهد الخامس
في قصر الحاكم (الدنيا ظلام دامس إلا من ضوء خافت يسقط على وجه الملكة جنات وهي جالسة على الأرض في وسط الصالة، تحتضن طفلها الوهمي وتهدهده وترضعه.)
الملكة (تكلم طفلها الموهوم) :
أنت جائع يا حبيبي؟! لبني غزير ... غزير ... يضغط على صدري من شدة غزارته ويفيض كالنهر (تضم الطفل بقوة)
ويفيض كالنهر يا حبيبي. (تظهر الأم العجوز بالباب ومن خلفها الرجل. الأم تشير إلى ابنتها في حذر شديد، ثم تختفي وراء ستار النافذة. الرجل يقف لحظة ينظر إلى الملكة في انبهار. يتقدم نحوها بخطوات بطيئة. الملكة ترفع رأسها وتنظر إليه في دهشة وانبهار.)
الملكة :
أهو أنت؟
الرجل :
أهي أنت؟ (تقف الملكة وتقترب منه في خطوات بطيئة وكأنها مشدودة إليه بقوة خفية، ثم يقفان وجها لوجه كل منهما يتأمل الآخر في دهشة وانبهار. يتعانقان بقوة.)
الملكة :
أخيرا أتيت!
الرجل :
كان لا بد أن أجيء.
الملكة :
لماذا تأخرت؟
الرجل :
لم أكن أعرف الطريق.
الملكة :
وهل عرفت؟
الرجل :
من بعد عناء المسير.
الملكة :
ولن تغيب؟
الرجل :
كان موعدنا في الربيع. (يسيران وهما متعانقان، ويدخلان غرفة نوم الملكة ويغلق خلفهما الباب.) (الأم تهم بالخروج من وراء الستار، ولكنها تسمع صوت الحاكم قادما من الخارج ومعه الحمار. الأم تظل مختفية وراء الستار، ويبقى الحاكم بأمر الله وحده في الصالة، يضع شلتة بجوار الحمار ويجلس إلى جواره يضع رأسه إلى جوار رأس الحمار ويغمض عينيه.)
الحاكم (يكلم الحمار) :
آه يا مولود! كم أنا متعب! (يلصق رأسه برأس الحمار ويربت على رقبته)
هؤلاء العبيد كالحيوانات؛ أجسام ضخمة بغير عقل، أنت الوحيد الذي يمكن أن يفهمني، الوحيد الذي يمكن أن يجادلني، أما هؤلاء العبيد ... كم أحتقرهم! إن واحدا منهم لا يستطيع أن يجادلني. إن واحدا منهم لا يستطيع أن يقول لي لا، كلهم يقولون نعم، أفندم، سمعا وطاعة، لا أحد يقول لا ... كم أحتقرهم! أنت الوحيد الذي أحترمك، أنت الوحيد الذي تهز رأسك أحيانا وتقول لي لا. هل تذكر حينما غضبت مني حينما نسيت أن أشتري لك العطر؟ هل تذكر حين رفستني بقدمك حين نسيت أن آخذك معي في نزهتك المعتادة في الصحراء؟ كم أحبك وأنت تهز رأسك غاضبا! وكم أحبك حين ترفسني! (يتمسح في الحمار ويربت على رأسه وعنقه.)
كم أستريح وأنا أكلمك يا مولود! كم أستريح وأنا أكشف لك عن نفسي! كم أحبك لأنني أتكلم معك بغير قيود! أحكي لك بحرية. أنت تفهمني وتعرف حقيقتي. هؤلاء العبيد ... كم أكرههم! كم أكره ضعفهم أمامي! كم أكره ذلهم! يتصورون أنني إله ... تصور يا مولود! (يضحك ضحكة قصيرة)
تصور يعاملونني معاملة الإله! (يبدو عليه الألم والتعاسة فجأة)
آه، كم أحب عينيك وأنت تنظر إلي بكل هذه الشفقة! أنت الوحيد الذي تشفق علي؛ فأنا إنسان وحيد تعيس. كم أخاف حين يرفع واحد منهم عينيه وينظر في عيني! كم أخاف ... كم أخاف أن يكتشف واحد منهم ... كم أخاف أن يعرف واحد منهم أنني ... (يلصق رأسه برجل الحمار وكأنه يحتمي به)
آه، كم أصبحت أخاف من عيني جنات! لقد بدأت ترفع عينيها في عيني ... بدأت ترفع عينيها في عيني! (يتشبث بالحمار في ضعف ومسكنة وخوف)
آه إني خائف، إني أتعذب. أنت الوحيد الذي تحس بعذابي، أنت الوحيد. (يبكي في نشيج مكتوم.) (ينظر إلى الحمار في استجداء وتساؤل)
وهذا الرجل الغريب، ماذا تعرف عنه يا مولود؟ لماذا جاء إلى هنا؟ لماذا؟ فكر ... فكر يا مولود، فأنت الوحيد الذي يمكن أن يفكر، الوحيد الذي له عقل يمكن أن يفكر، هؤلاء العبيد كالحيوانات أجسام بغير عقول. (يضع أذنه على فم الحمار)
خبرني عن هذا الرجل، خبرني. أنا خائف ... خائف. له عينان غريبتان تقدحان شرا. آه لو رأيت عينيه (يضع يده على عينيه ليخفيهما)
إني خائف، عيناه لا تفارقنني. قل لي ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ أنت الوحيد الذي يمكن أن يقول لي، أنت الوحيد الذي يقول لي الصدق. لماذا تأخر عثمان؟ ما الذي حدث؟ (يجفف دموعه بكمه ويمخط في منديله. ينهض بعد لحظات قليلة، يجفف دموعه بكمه. يستند إلى الحمار ويدفعه ناحية غرفة نومه.)
احملني إلى السرير يا مولود، احملني فأنا مرهق ... مرهق. (يسير الحاكم وهو مستند إلى الحمار ويدخلان غرفة نوم الملك ويغلق الباب خلفهما. الأم العجوز تخرج من وراء الستار، وعلى وجهها علامات الدهشة والذهول.)
الأم (تفرك عينيها بيدها) :
يا إلهي! حلم أم علم؟! لا أكاد أصدق عيني! (تسير إلى الركن حيث كان الحمار، تجد الركن خاليا.)
الأم (تبصق في عبها) :
يا إلهي! الحمار ليس هنا، يا إلهي! هذا الشيء لا يتصوره أحد، لا يتصوره أحد! (يخرج الرجل من حجرة نوم الملكة ... يبتسم ... يرى الأم العجوز ويسير إليها ويعانقها في سعادة وحب.)
الرجل :
أشكرك يا أمي العزيزة، أشكرك.
الأم :
لم أفعل شيئا يا ابني.
الرجل :
أنقذت حياتي من الضياع يا أمي، عثرت أخيرا على وطني، على الأرض الطيبة الخصبة .
الأم :
أنت الذي أنقذت حياة ابنتي، أنقذتها من هذا الرجل المريض المجنون. (تشير إلى غرفة نوم الحاكم.)
الرجل :
أهو هنا؟
الأم (في غضب) :
إنه هنا. إنه هنا يا ابني، إنه رجل مجنون (تشير إلى سيف الملك الذي تركه خارج حجرة نومه)
هذا هو سيفه يا ابني، خذ هذا السيف واقتله يا ابني؛ فهو مجنون ... مجنون (تمسك الأم رأسها في عصبية وتكاد تبكي) .
الرجل (يواسيها ويربت عليها) :
لا يا أمي، أنا لا أقتل، أنا أخلق.
الأم :
ولكنه سفاح ومجنون يا ابني، وسوف يخرج ويقتلك. سوف يقتلك.
الرجل :
لو قتلني وحدي فلن أبالي، حياتي لا تهمني بعد الآن. لم تعد لي حياة؛ فقد وهبتها لابنتك. إنها معها، إنها ملكها الآن. (يقف لحظة مواجها الأم ويمسكها من كتفيها في قوة.)
الرجل :
جنات يجب أن تعيش، يجب أن تعيش حتى ... حتى يكون الطفل.
الأم :
أخشى أن يلحظ الملك شيئا عليها.
الرجل :
لا تخشي شيئا يا أمي. تعالي ... تعالي نرتب معا كل شيء بعيدا عن هنا، يجب ألا يرانا هنا وإلا ضاع كل شيء. (تستند الأم العجوز على ذراعه، يخرجان من المسرح. يفتح باب غرفة نوم الحاكم بأمر الله. يخرج الحاكم بأمر الله حافيا بملابس النوم. يجر الحمار بحذر وهدوء حتى يضعه في مكانه المعتاد من الركن. يتلفت حوله في خوف وحذر، ثم يدخل غرفته ويغلق الباب.) (ستار)
الفصل الثاني
المشهد الأول (طريق الحدود، الدنيا ليل، كوخ الرجل العجوز وعلى بابه الشمعة الصغيرة. الأم العجوز ورجل الكوخ واقفان أمام الكوخ يتطلعان إلى الطريق في انتظار وقلق.)
الأم :
تأخروا! أخشى أن يكون أحد من الجنود قد رآهم. إني خائفة.
رجل الكوخ :
لا تخافي. الطريق طويل والدنيا ليل.
الأم (في قلق) :
أخشى أن ... (تسكت لحظة)
أخشى أن تلد في الطريق.
رجل الكوخ :
أنصتي ... إني أسمع صوت أقدام مقبلة. (تظهر الملكة جنات ملتفة بعباءة واسعة، يسندها من ناحية الرجل، ومن الناحية الأخرى الجندي عبيد. يبدو على الملكة أنها منهكة القوى، لا تكاد تقوى على المسير. الأم تجري نحوها .)
الأم :
تعالي يا ابنتي، تعالي إلى داخل الكوخ.
الرجل :
هل أعددت كل شيء؟
الأم :
نعم يا ابني. اطمئن عليها، اطمئن يا ابني. (تدخل الملكة وأمها إلى داخل الكوخ. يجلس رجل الكوخ العجوز ويجلس إلى جواره الرجل وعبيد. الرجل العجوز يمسك مزماره، ويرن في هدوء الليل لحنا راقصا طروبا. الرجل العجوز يغني.)
الكل (يغنون ويرقصون) :
سيعم الخير بلدتنا ... والعقم راح وزال الهم ... (يسمع في تلك اللحظة صوت بكاء طفل ينبعث من داخل الكوخ. ينهض الجميع في سرور ويرقص على نغمات اللحن الراقص. الرجل يسرع إلى داخل الكوخ. عبيد والرجل العجوز يرقصان ويغنيان معا):
سيعم الخير بلدتنا ... والعقم راح وزال الهم.
فالمرأة منا أنجبتنا ... ولدا حرا يصرخ هم هم. (يخرج الرجل من الكوخ حاملا الطفل بين يديه، وإلى جواره الملكة جنات تستند إلى ذراعه. الغناء والرقص يتوقف. ينظر إليهم الجميع في دهشة وانبهار، ثم ينطلقون إليهم فرحين بالطفل، يقبلونه في سعادة وحب، وينظرون إليه في انبهار.)
الرجل العجوز :
علينا ألا نضيع الوقت؛ فالصبح سيطلع ويستيقظ الحاكم بأمر الله ولا يجد الملكة في القصر.
الأم العجوز (في قلق) :
ماذا نفعل الآن؟
الرجل العجوز (يخاطب الرجل الغريب) :
نخفي الطفل في الكوخ.
الرجل :
وجنات؟
الرجل العجوز :
جنات لا بد أن تعود إلى القصر قبل طلوع الشمس. لو عادت الملكة الآن فسوف تصل القصر قبل طلوع الشمس. عبيد يعرف الطريق ويستطيع أن يوصلها حتى باب القصر، ثم يلحق بك في الطريق.
الرجل :
جنات مرهقة، وخطوتها بطيئة، وأخشى أن يدركها الصباح وهي في الطريق (يخاطب الملكة):
ألا يمكن أن تبقي معنا يا جنات؟ (الملكة تنظر إليه في حيرة ولا ترد) .
الرجل العجوز :
لو بقيت معكما الملكة، فسوف يستيقظ الحاكم بأمر الله ويكتشف الأمر.
عبيد :
وإذا وصلت سيدتي إلى القصر قبل طلوع الشمس، فلن يعرف الحاكم بأمر الله شيئا.
الأم العجوز :
وإذا سبقها النهار يا عبيد فسوف يقتلها.
الرجل العجوز :
وإذا لم تعد إلى القصر فسوف يقتل الطفل.
عبيد :
علينا أن ننقذ الطفل بأي ثمن. (الملكة تتقدم وقد دب فيها بعض النشاط والقوة.)
الملكة :
نعم، علينا أن ننقذ الطفل بأي ثمن، ولو كانت حياتي هي الثمن. حياتي لم تعد تهمني بعد الآن (تنظر إلى الطفل)
كنت أخاف قبل الليلة، لكني الآن لا أخاف، لم أعد أخاف شيئا (تقترب من الطفل وتقبله في حب وحنان. تكلم الطفل):
لم أعد أخاف الموت يا حبيبي لأنك ستعيش ... ستعيش. (تسير الملكة بضع خطوات تردد لنفسها)
سأعود (تلتفت مرة أخرى ناحية الطفل، تعانقه بقوة وتضمه، ثم تسير بخطوات سريعة ثابتة نحو عبيد وتعطيه ذراعها، ويسيران معا مبتعدين عن الآخرين) .
عبيد (يلتفت إلى الرجل قائلا) :
سأعود إليك، المهم أن تختفي أنت والطفل.
الرجل :
اطمئن. لن تستطيع قوة مهما كانت أن تمس الطفل بسوء. (الأم العجوز تبكي بصوت مكتوم. رجل الكوخ يمسح بكفه دمعة تساقطت على وجهه. الرجل يظل واقفا في مكانه يحمل الطفل بين ذراعيه وينظر إلى ظهر الملكة وهي تبتعد، حتى تخرج من الطرف الآخر للمسرح ومعها عبيد يمسك ذراعها. يستدير الرجل حاملا الطفل ويدخلان في الكوخ.) (ستار)
المشهد الثاني (في قصر الحاكم بأمر الله. الدنيا نهار. الحاكم في حالة من الهياج والغضب الشديد، يروح ويجيء في الصالة ويكلم نفسه بعصبية شديدة.)
الحاكم (يكلم نفسه) :
غير معقول! غير معقول! (يقف مفكرا)
أين ذهبت؟ أين ذهبت؟ أين يمكن أن تذهب؟! أول مرة تخرج من القصر، أول مرة تخرج ... أول مرة تخرج منذ عشرين عاما! (يسير نحو غرفتها ويطل داخل الحجرة)
لا أكاد أصدق! (يظهر الخادم.)
الخادم :
بحثت يا مولاي في كل مكان من القصر والحديقة.
الحاكم (في غضب شديد) :
إذا هي ليست في أي مكان من القصر والحديقة، إذا هي خرجت ... خرجت! (يقترب من الخادم متمايلا في غضب)
خرجت؟!
الخادم (في خوف) :
لا أدري يا مولاي.
الحاكم :
لا تدري؟! ألست هنا؟ ألست هنا في القصر؟ ألم ترها وهي خارجة؟
الخادم :
لا يا مولاي.
الحاكم :
لماذا؟ لماذا لم ترها؟ هل أنت أعمى؟!
الخادم :
ربما خرجت وأنا نائم يا مولاي.
الحاكم :
وأنت نائم؟ لماذا نمت يا أحمق؟ (يضغط بيديه على عنق الخادم كأنه سيخنقه)
لماذا نمت؟! لماذا نمت؟! (تظهر الملكة جنات تستند على الحائط من شدة الإعياء.)
الخادم (في استنجاد) :
هذه سيدتي! (الحاكم يستدير ويرى الملكة. ينظر إليها مندهشا ويقترب منها كالمذهول.)
الحاكم (في دهشة شديدة) :
أهو أنت؟ أكاد لا أصدق عيني (يمد يده ليلمسها).
الملكة (تمنعه بحركة من يدها) :
لا تلمسني!
الحاكم :
هل فقدت عقلك؟
الملكة (في كبرياء) :
لا، لم أفقد عقلي.
الحاكم :
ماذا حدث إذن؟ أين كنت؟
الملكة :
كنت هنا (تشير إلى أرض الصالة)
كنت أصلي وكانت الدنيا ظلاما دامسا، وفجأة ... رأيت نورا يأتي من هنا (تشير إلى أعلى)
نورا عجيبا؛ لا هو قمر، ولا هو شمس، ولا هو نجم. نورا عجيبا كاد يخطف بصري، وسمعت صوتا عجيبا يناديني من بعيد ويقول: «اتبعيني يا أيتها الزوجة الطاهرة.» وهتفت وأنا مبهورة: إلى أين أتبعك؟ وجاءني الصوت يقول: «اتبعيني إلى الجنة.» ولم أحس بنفسي إلا وأنا سائرة ... سائرة ... سائرة ... سائرة ...
الحاكم :
وإلى أين ذهبت؟
الملكة :
إلى الجنة (تبتسم في سعادة).
الحاكم (يبدو عليه الضيق والغضب) :
جنة؟ جنة ماذا؟ إلى أين ذهبت؟
الملكة :
إلى الجنة ... ألا تعرفها؟ ألم تحدثني عنها كثيرا؟ ألم تصفها لي شبرا شبرا؟
الحاكم :
هذه جنة السماء، أما الأرض فلا توجد عليها جنة.
الملكة (في اندهاش) :
لا توجد على الأرض جنة؟ هذا شيء غريب أسمعه لأول مرة! ألم تقل لي مئات المرات أن الأرض عليها جنة، وأن هذه الجنة هي حياتنا ... زواجنا السعيد؟! زواجنا الطاهر! (تضحك في سخرية)
طهارتنا الزوجية!
الملك (في دهشة وغضب) :
ماذا تقولين؟ لا أفهمك.
الملكة (ساخرة) :
لا تفهمني؟ لا داعي لأن تفهمني اليوم فقد عشت معك عشرين عاما لا أفهمك.
الملك :
هل فقدت عقلك؟
الملكة :
بل استرددت عقلي. لأول مرة أحس أن لي عقلا. لأول مرة أستطيع أن أفكر.
الملك :
عقلك مريض يهلوس، أنت تخرفين يا حبيبتي، تخلطين بين الحلم والحقيقة.
الملكة (تقول ساخرة تقلده) :
تعالي إلى جواري واستمعي يا حبيبتي إلى رسالتي الغرامية ... (تغضب)
عشرون سنة وأنا أصدقك، عشرون سنة وأنت تخدعني، والآن انتهت المهزلة. فتحت عيني ورأيت النور، عرفت الحقيقة. لم أكن أهذي ولم أكن أهلوس، أنت الذي كنت تهذي وتهلوس، أنت الكذب والخديعة ... (تسير بعصبية تفتح الصندوق الخشبي الكبير وتلقي بالرسائل على الأرض وتدوس عليها بغضب واحتقار)
رسائل الكذب والخديعة ... رسائل العجز والعقم!
الملك (يصفعها على وجهها بشدة) :
اخرسي. سأعرف كيف أخرسك (يرفع سيفه مهددا) .
الملكة (ساخرة) :
كنت تستطيع بالأمس، ولكن اليوم ... (تضحك بسخرية)
اليوم لن تستطيع ... (في كبرياء وثقة)
ورائي رجل!
الملك (ساخرا) :
رجل؟! لا يوجد رجال في البلد!
الملكة :
يوجد رجل واحد، ألا تذكره؟ الرجل الوحيد الذي لم تستطع أن تسلبه رجولته، الرجل الذي رفع عينيه في عينيك. أيمكن أن تنساه؟! (الملك يرجع خطوة إلى الوراء مذعورا.)
الملك (متلعثما) :
هل ... هل ... هو ... هو ...
الملكة :
نعم هو. (الملك يسترد قوته ... يظهر عليه الغضب الشديد ... يمسك سيفه مرة أخرى.)
الملك :
يا فاجرة! يا أفجر امرأة في العالم، أهدرت القيم الشريفة، انتهكت الطهارة والفضيلة، أهدرت كل شرف المدينة!
الملكة (في سخرية) :
شرف المدينة؟ وما هو شرف المدينة؟ العبودية ... الخضوع والعقم الأبدي! (الملك يقترب منها شاهرا سيفه.)
الملك :
حكمت عليك بالموت!
الملكة :
ميتة منذ عشرين سنة، ولكني بعثت اليوم من جديد، ألا تصدق؟ جنات التي ماتت عشرين سنة ليست هي التي تقف أمامك بالتأكيد، أنا جنات أخرى خصبة جديدة متجددة كالحياة.
الملك :
ستموتين يا عاهرة!
الملكة :
سأعيش وأبعث كل يوم من جديد. (تتراجع بضع خطوات. يرفع السيف ويضربها فتسقط على الأرض. يدخل مروان وبعض الجنود في حالة الاضطراب والتأهب للقتال.)
مروان :
مولاي، مولاي ... رأى بعض الجنود رجلا يجري هاربا من باب القصر.
الملك (يترك الملكة) :
لا بد أنه هو. أمسكوه! (في اضطراب يخاطب مروان والجنود)
أمسكوه ... أرسلوا وراءه الجنود ... كل الجنود ... كل الأسلحة ... وأنت يا مروان اذهب في المقدمة ... بسرعة ... بسرعة ... أنا أيضا سآتي معكم ... لن يفلت مني هذا الوغد (يخرج مهرولا شاهرا سيفه مرددا في اضطراب وحماس)
لن يفلت مني هذا الوغد! (الملكة جنات وحدها على المسرح، راكعة على ركبتيها.)
الملكة (في إعياء من الضربة ترفع يديها نحو السماء) : ... أعم عيونهم يا رب! أعم عيونهم يا رب! (ستار)
المشهد الثالث والأخير (في طريق الحدود. كوخ الرجل الفقير. الدنيا نهار. رجل الكوخ العجوز والأم العجوز جالسان.)
الأم العجوز (في قلق) :
عبيد لم يعد. تأخر عبيد. (الرجل العجوز ينهض ويتطلع إلى الطريق، ثم يبدو عليه الانشراح والأمل.)
الرجل العجوز :
ها هو قادم يجري وكأن أحدا يطارده. (الأم العجوز تنهض بسرعة، ويندفع عبيد إلى المسرح وهو يلهث من الجري. ينظر خلفه وكأن أحدا يطارده.)
الرجل العجوز (في لهفة) :
تأخرت يا عبيد. طمئنا، ماذا حدث؟ هل وصلت الملكة قبل شروق الشمس؟
عبيد (يجفف عرقه ويتلفت وراءه) :
أدركنا النهار قبل أن نصل.
الأم العجوز (في لهفة وقلق) :
وماذا حدث؟
عبيد :
لا أدري. دخلت الملكة إلى القصر وأطلقت أنا ساقي للريح.
الرجل العجوز :
هل رآك أحد؟
عبيد :
لا أدري. كنت أجري بسرعة، ربما رآني أحد الجنود من على بعد.
الأم العجوز :
والملكة؟! وجنات ماذا حدث لها؟ (عبيد يبدو عليه الإرهاق والألم. يسكت لحظة شاردا حزينا، يطأطئ رأسه في أسى.)
عبيد :
لا أدري يا أمي ... (تظهر الدموع في عينيه)
لا بد أنه قتلها ... (يخفي وجهه بيده ويبكي)
لا بد أنها ماتت! (الأم العجوز تجلس على الأرض. يبدو عليها الحزن الشديد والشرود. تكلم نفسها كالشاردة.)
الأم العجوز (في شرود) :
جنات لا يمكن أن تموت، لقد خلقت لتعيش.
الرجل العجوز :
لا تقف هكذا يا عبيد. إنهم يطاردونك، لا بد أن تختفي. (عبيد يظل واقفا لا يتحرك.)
الرجل العجوز (يهزه في كتفه) :
اختف يا بني. ماذا حدث لك؟ كيف تقف هكذا في الطريق؟ (عبيد ينظر إليه نظرة ثابتة غريبة.)
عبيد :
لن أختفي.
الرجل العجوز :
لن تختفي؟ أتريد أن يأتوا هنا ويقتلوك؟
عبيد :
إنهم يطاردونني الآن، إن لم يجدوني هنا فسوف يبحثون داخل الكوخ، وهكذا يعثرون على الطفل. إنهم حتى الآن يطاردونني وحدي ولا يعلمون شيئا عن الطفل.
الرجل العجوز :
أليس من الجائز أن الملكة ... (يسكت لحظة مفكرا)
أليس من الجائز أن تكون كلمة قد أفلتت منها دون أن تدري؟
عبيد :
إذا كان ذلك قد حدث لأي سبب وعرفوا شيئا عن الطفل، فإذن يجب أن أنتظرهم هنا وأقتلهم قبل أن يقتلوا الطفل.
الرجل العجوز (في كبرياء وثقة) :
لا تحمل هما يا سيدي، الطفل في أمان ما دام في حمى الرجل. (يصاب الرجل العجوز بذعر مفاجئ.)
الرجل العجوز :
إني أسمع أصواتا قادمة.
عبيد (بسرعة) :
اجلس أنت أمام كوخك وكن طبيعيا، وأنت يا أمي ضعي رأسك في حجرك وكأنك نائمة. لا تجعلي أحدا يرى وجهك وإلا عرفوك وقتلوك. (عبيد يختفي وراء صخرة. الرجل العجوز يجلس أمام الكوخ ويمسك مزماره ويدندن بأغانيه. الأم العجوز تضع رأسها على ركبتيها كأنها نائمة وهي جالسة كعادة النساء العجائز.)
الرجل العجوز (يغني) :
أنا صاحي والناس نايمين ... إلخ. (يظهر على المسرح الحاكم بأمر الله ممتطيا سيفه، وإلى جواره رئيس الجند مروان، ومن خلفه عدد من الجنود المسلحين. يتوقف الملك لحظة ويتطلع إلى الطريق أمامه.)
مروان :
هذا هو طريق الحدود يا مولاي.
الملك (مشيرا إلى طريق آخر) :
وما هذا الطريق؟
مروان :
هذا طريق القبور.
الملك :
لا أظن أنه سلك طريق الحدود؛ لأنه يعرف أننا سنطارده في هذا الطريق.
مروان :
رأيك سليم يا مولاي.
الملك :
ولكن ... ربما فكر بنفس الطريقة التي فكرت بها وسلك طريق الحدود ليضللنا.
مروان :
رأيك سليم يا مولاي.
الملك :
ولكن ... ربما خطرت له نفس الفكرة فسلك طريق القبور.
مروان :
رأيك سليم يا مولاي.
الملك :
ولكن طريق القبور مسدود، ولا بد أنه سلك طريق الحدود ليهرب.
مروان :
رأيك سليم يا مولاي.
الملك (مترددا) :
ولكن ... (يقف الملك بين الطريقين حائرا.)
الملك (يسأل مروان بشيء من الغضب) :
طريق الحدود أم طريق القبور؟
مروان (في اضطراب متلعثما) :
طريق الحدود أم طريق القبور؟!
الملك (غاضبا) :
طريق الحدود أم طريق القبور؟
مروان (متلعثما) :
ط ... ط ... طريق ...
الملك (في غضب) :
فكر! استعمل رأسك!
مروان (متلعثما أكثر) :
ط ... ط ... ط ...
الملك :
ألا تستطيع أن تفكر؟! أليس لك عقل؟! ألا يمكن أن تعرف طريق الحدود أم طريق القبور؟
مروان :
مولاي أنت الذي ... أنت الذي تعرف كل شيء.
الملك :
وأنت؟ أليس لك مخ؟ ألا تفكر في حياتك مرة واحدة ويكون لك رأي؟
مروان (مستغفرا) :
حاشا لله يا مولاي أن يكون هناك رأي غير رأيك! حاشا لله يا مولاي!
الملك :
كالحيوانات تماما بغير عقل!
مروان :
أنت عقلنا يا مولاي، أنت الذي تفكر لنا يا مولاي. لسنا إلا عبيدك المطيعين!
الملك :
كفى! لا تضيع الوقت. (أحد الجنود يرى الكوخ.)
أحد الجنود :
هذا كوخ يا مولاي، وهذا صاحبه جالس أمامه.
الملك :
إذا كان الرجل قد سلك هذا الطريق، فلا بد أنه رآه. اسأله بسرعة. (الجندي يسير ناحية الكوخ.)
الجندي (مخاطبا رجل الكوخ) :
هل رأيت رجلا يجري في هذا الطريق؟
رجل الكوخ (متظاهرا بالبلاهة) :
رجل يجري؟
الجندي :
نعم، رجل يجري وكأنه خائف.
رجل الكوخ :
لم أر في حياتي رجالا يجرون وكأنهم خائفون.
رئيس الجند (في عصبية) :
لا تضيع وقت مولانا الحاكم بأمر الله.
رجل الكوخ (يقاطعه في دهشة واضطراب) :
مولانا الحاكم بأمر الله؟! أهذا هو مولانا الحاكم بأمر الله؟ اعذرني يا سيدي لأنني لم أعرفه؛ فأنا لم أره أبدا. هذا شرف عظيم يا مولاي الحاكم.
الحاكم (في غضب) :
كفى ثرثرة أيها الرجل الأبله. تكلم، هل رأيت ذلك الرجل؟
رجل الكوخ :
أي رجل؟ لا يوجد عندنا رجال يا مولاي! (الحاكم ينظر إلى الأم العجوز النائمة وهي جالسة ووجهها مختف فوق ركبتيها.)
الحاكم (يشير إليها) :
وما هذا الجالس إلى جوارك؛ رجل أم امرأة؟
رجل الكوخ :
إنها امرأتي العجوز يا مولاي.
رئيس الجند (مخاطبا الحاكم) :
لعلها هي رأت شيئا يا مولاي.
رئيس الجند (بلهجة آمرة) :
ارفعي رأسك يا امرأة وجاوبي مولانا الحاكم بأمر الله. (الأم العجوز لا ترفع رأسها.)
الرجل العجوز :
إنها نائمة يا سيدي، إنها تنام دائما هكذا وهي جالسة. إنها امرأة عجوز ضعيفة البصر. (الملك يلكزها بقدمه في قسوة ليوقظها. يظهر عبيد في تلك اللحظة قبل أن ترفع الأم رأسها.)
الملك (في دهشة) :
عبيد؟! (في غضب واحتقار)
أنت ... أيها العبد ؟! (الحاكم يرفع سيفه مستعدا للهجوم عليه. عبيد يتراجع قليلا.)
عبيد :
انتظر يا مولاي، لا تقتلني قبل أن أدلك على الرجل.
الملك :
الرجل؟! أين هو؟ انطق بسرعة.
عبيد :
ليس هنا يا مولاي، أخذه عثمان ليقتله.
الملك :
عثمان؟ وأين هما؟
عبيد :
عثمان لم يستطع أن يقتله فقتل نفسه.
الملك :
عثمان قتل نفسه؟ والرجل؟
عبيد :
لقد حررني ...
الملك :
ماذا تقول؟
عبيد :
نعم تحررت يا مولاي، لم أعد عبدا، شفيت يا مولاي من العقم، أصبح لي عقل يفكر. أستطيع أن أنظر في عينيك الآن؛ أصبحت رجلا يا مولاي (عبيد يصاب بنوبة من الفرح تشبه الجنون. يردد في سعادة):
أصبحت رجلا! أصبحت رجلا! (الملك يرفع سيفه ويضربه فيقتله. عبيد يسقط على الأرض ويبتسم في سعادة قبل أن يموت وهو يردد: «أصبحت رجلا.» يخرج في هذه اللحظة الرجل الغريب من الكوخ. كل الأنظار تتجه إليه. الملك يراه فيتراجع إلى الوراء خطوة في ذعر واضطراب، لكنه يسترد قوته بعد لحظة ويظهر عليه الغضب المجنون.)
الملك :
أنت؟
الرجل :
نعم أنا. (يرفع الملك سيفه ليضربه، لكن الرجل يناوله بيده ضربة واحدة فيقع الملك على الأرض ويسقط سيفه بعيدا عنه.)
الرجل (آمرا الملك) :
انهض (الرجل يقف أمامه ينظر في عينيه. الملك ينهض)
اخفض عينيك (الملك يخفض رأسه أمام الرجل في خشوع وذل) .
الرجل (مخاطبا مروان) :
خذه يا مروان إلى طريق الحدود. رافق هذا الضيف الغريب حتى يخرج سالما آمنا من بلدنا. (الأم العجوز وقد نهضت من مكانها منذ خروج الرجل من الكوخ.)
الأم العجوز :
اقتله ... اقتل سفاك الدماء ... اقتل عابد الحمار.
الرجل :
أنا لا أضرب في جسد ميت يا أمي. هاتي الطفل من الكوخ يا أمي. (الأم العجوز تتجه نحو الكوخ.)
الرجل :
وجنات؟ أين جنات؟
رجل الكوخ العجوز :
ماتت ... جنات ماتت.
الأم (تستدير قائلة) :
لا، لا ... جنات لا تموت.
الرجل :
جنات لا تموت. امرأة مثل جنات لا يمكن أن تموت، كالشجرة القوية في الأرض الخصبة تورق كل يوم ورقة، ومن كل ورقة ثمرة ...
رجل الكوخ (في دهشة) :
يا إلهي! جنات تعيش! هيا بنا نذهب إليها ... هيا. (الأم العجوز تخرج من الكوخ حاملة الطفل الصغير، تحتضنه وتقبله. الرجل والطفل ومن حولهم الأم العجوز ورجل الكوخ والجنود وكثير من أهل البلد وقد تجمعوا. الحاكم بأمر الله ومروان اختفيا من فوق المسرح.)
الجميع (ينشدون في سعادة) :
سيعم الخير بلدتنا،
والعقم راح وزال الهم،
فامرأة منا أنجبتنا،
ولدا حرا يصرخ هم هم! (ستار)
Unknown page