تمهيد
إهداء
كتب المؤلف
الجزء الأول
مستهل زرادشت
خطب زرادشت
الجزء الثاني
الطفل حامل المرآة
في الجزر السعيدة
الرحماء
الكهنة
الفضلاء
الوغد
العناكب
مشاهير الحكماء
نشيد الليل
نشيد الرقص
نشيد القبور
الانتصار على الذات
العظماء
في بلاد المدنية
المعرفة الطاهرة
العلماء
الشعراء
الحادثات الجسام
العراف
الفداء
حكمة البشر
أعمق الساعات صمتا
الجزء الثالث
المسافر
الرؤى والألغاز
الغبطة القاسرة
قبل بزوغ الشمس
الفضيلة المصغرة
على جبل الزيتون
على الطريق
الآبقون
العودة
الثلاثة الشرور
الروح الثقيل
الوصايا القديمة والوصايا الجديدة
النقاهة
الأمنية العظمى
نشيد آخر للرقص
الأختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية، الألف والياء
الجزء الرابع
تقدمة العسل
استنجاد
محادثة مع الملكين
العلقة
الساحر
المعتزل
أقبح العالمين
مختار التسول
الظل
في الظهيرة
السلام
العشاء السري
الإنسان الراقي
نشيد الأشجان
المعرفة
بين غادتين في الصحراء
الانتباه
عيد حمار
نشيد الثمل
النذير
ملحق
تمهيد
إهداء
كتب المؤلف
الجزء الأول
مستهل زرادشت
خطب زرادشت
الجزء الثاني
الطفل حامل المرآة
في الجزر السعيدة
الرحماء
الكهنة
الفضلاء
الوغد
العناكب
مشاهير الحكماء
نشيد الليل
نشيد الرقص
نشيد القبور
الانتصار على الذات
العظماء
في بلاد المدنية
المعرفة الطاهرة
العلماء
الشعراء
الحادثات الجسام
العراف
الفداء
حكمة البشر
أعمق الساعات صمتا
الجزء الثالث
المسافر
الرؤى والألغاز
الغبطة القاسرة
قبل بزوغ الشمس
الفضيلة المصغرة
على جبل الزيتون
على الطريق
الآبقون
العودة
الثلاثة الشرور
الروح الثقيل
الوصايا القديمة والوصايا الجديدة
النقاهة
الأمنية العظمى
نشيد آخر للرقص
الأختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية، الألف والياء
الجزء الرابع
تقدمة العسل
استنجاد
محادثة مع الملكين
العلقة
الساحر
المعتزل
أقبح العالمين
مختار التسول
الظل
في الظهيرة
السلام
العشاء السري
الإنسان الراقي
نشيد الأشجان
المعرفة
بين غادتين في الصحراء
الانتباه
عيد حمار
نشيد الثمل
النذير
ملحق
هكذا تكلم زرادشت
هكذا تكلم زرادشت
كتاب للكل ولا لأحد
تأليف
فريدريك نيتشه
ترجمة
فليكس فارس
فريدريك نيتشه.
تمهيد
ما من مفكر أشد إخلاصا من نيتشه؛ إذ لم يبلغ أحد قبله ما وصل إليه، وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب؛ لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قراراتها أو من انتهائه إلى لا شيء.
إميل فاكيه
عضو المجمع العلمي الفرنسي
هذا هو نيتشه كما صوره فاكيه بعد أن درس عديد مؤلفاته واستعرض فلسفته، وقد جاراه بهذا التقدير أنصار نيتشه وخصومه من كل شعوب أوروبا فإنك لو استعرضت المؤلفات التي كتبها عنه العباقرة العديدون، ومنهم من يعتقد بتخبطه على غير هدى، ومنهم من يرى وراء كل جملة من أقواله سورة لا تنجلي معانيها إلا للعقل النافذ والحس المرهف لرأيتهم قد أجمعوا على وصفه بالمفكر الجبار المتجه إلى الحقيقة يطلبها وراء كل شيء حتى وراء المبادئ التي يقول بها.
وما أجمع هؤلاء المفكرون إلا على الصواب في هذا الوصف الذي ارتضاه نيتشه لنفسه؛ إذ قال:
لا يكفي لطالب الحقيقة أن يكون مخلصا في قصده بل عليه أن يترصد إخلاصه ويقف موقف المشكك فيه؛ لأن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه مجاراة لأهوائه، بل يهيم بها لذاتها، ولو كان في ذلك مخالفا لعقيدته فإذا هو اعترضته فكرة ناقضت مبدأه وجب عليه أن يقف عندها فلا يتردد أن يأخذ بها.
إياك أن تقف حائلا بين فكرتك وبين ما ينافيها، فلا يبلغ أول درجة من الحكمة من لا يعمل بهذه الوصية من المفكرين.
عليك أن تصلي نفسك كل يوم حربا، وليس لك أن تبالي بما تجنيه من نصر أو تجني عليك جهودك من اندحار، فإن ذلك من شأن الحقيقة لا من شأنك.
قال نيتشه بهذا المبدأ وعمل به وبالرغم مما يتجلى في تعاليمه من غرور وصلف، فإنه كان يسير في أبحاثه ولا هم له سوى استكشاف الآفاق؛ فيورد اليوم فكرة يكذبها غدا، فكأنه بإنكاره الخير والشر لم يجد بدا من إنكار كل عقيدة ثابتة، فإذا أنت أردت أن تسير وراء هذا الفيلسوف طلبا للعقيدة فلا تتعب نفسك باللحاق به في مراحل يقطعها بخطواته الجبارة؛ لأنه هو نفسه قد أصابه الخبل وبصيرته تائهة في استلهام الحقيقة واستقرائها.
من قال لك: «إن لا مكتشف لحقيقة ذاته إلا من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شري فيخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخير خير للكل والشر شر للجميع.»
من قال لك هذا، لا تتوقع منه أن يأتيك بشرعة تقوم مقام الشرائع التي يثور عليها.
إن نيتشه المفكر الجبار الذي يفتح أمام الفرد آفاقا وسيعة في مجال القوة والثقة بالنفس وتحرير الحياة من المسكنة والذل، تائقا إلى إيجاد إنسان يتفوق على إنسانيته بالمجاهدة والتغلب على العناصر والعادات والتقاليد وما توارثته الأجيال من العقائد الموهنة للعزم؛ يقف وقفة الحائر المتردد عندما يحاول إقامة مجتمع لأفراده المتفوقين بل هو يضطر إلى نقض أولياته القائمة على احتقار الرحمة والرحماء حتى ينتهي إلى قوله: «إن العالم الذي يتفوق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأصاغر والمتضعين.»
وهكذا ترى زرادشت الداعي إلى تحطيم ألواح الوصايا جميعها، وإلى إنكار الشريعة الأدبية لإقامة شرعة جديدة ما وراء الخير والشر؛ يعود مفتشا بين أنقاض الألواح التي حطمها على كلمات قديمة يجعلها دستورا لإنسانيته المتفوقة.
إن نيتشه الذي ذهب إلى أبعد مدى في تفحص سرائر الإنسان وأهوائه يضيق به المجال عندما يتجه إلى حل المعضلات الاجتماعية؛ لأنه إذا أمكن للفرد المنعزل أن يختط لنفسه منهجا يوافق هواها باعتقاده أنه هو المبدع لذاته والحركة الأولى لها، فإنه ليمتنع عليه أن يكون عضوا حيا في المجموع إذا هو لم يعترف في علاقته مع إخوانه بأنه ليس مصدرا لذاته ولا مآبا لها.
إن من يطمح إلى مثل ما طمح إليه نيتشه من تكوين مجتمع منظم يسود فيه المتفوقون، ولكل منهم شره الخاص وخيره الخاص لا يوجد في النهاية إلا مجتمعا يتفاوت التفوق فيه بين أفراده فيقضي الأقوى منهم على الأقل قوة منه حتى يقف آخر الظافرين منتحرا بقوته وعنفه كما انتحر إله نيتشه برحمته.
غير أن المبدع لزرادشت لم تفته هذه الحقيقة، فعاد إلى الشريعة الأولى يختلس منها آيتها الكبرى ليوردها وصية لدنياه فقال:
حذار من الطفرة في مسلك الفضيلة ؛ فعلى كل فرد أن يسير في طريقه وإن جنح عن مسلك الآخرين، فلا يطمحن إلى بلوغ الذروة وحده؛ إذ على كل سائر أن يكون جسرا للمتقدمين وقدوة للمتأخرين.
أين هذه الوصية مما دعا إليه زرادشت في مفكراته نفسها؛ إذ قال:
على أهل السيادة في الإنسانية المتفوقة أن يمهدوا سبل السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذاتهم وراحتهم، وعليهم أيضا أن ينقذوا من لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال.
بل كيف يتفق القسم الأول من هذه الوصية مع قسمها الثاني؟! ومن له أن يضع مقياسا يقضي به لمن يصلحون للحياة كما يقضي به على من لا يصلحون لها إذا اتبع القاضي شرعة زرادشت القائل بأن على أتباعه أن تتجلى القوة فيهم من الرأس حتى أخمص القدم.
ولو أن مذهب نيتشه هذا طبق قبل ميلاده لكانت السلطة التي يراها مثلا أعلى قضت على أبيه وأمه دون إمهال؛ فما كان له هو أن يظهر في الوجود بدماغه الجبار وبسم الداء الذي جال من دمهما الملوث في دمه ...
ثم، أفليس هنالك غير هذه الأدواء الطارئة والتي يمكن للعالم أن يكافحها، ما يقضى على الإنسان بالرضوخ له من حالة في جسمه لا قبل له بتبديلها أو تعديلها؟ أفما تحقق الطب أن كل مولود يجيء الحياة إنما يدخلها مستصحبا معه إليها من سلالته الضعف الذي سيقضي عليه، أفليس في كل دارج على هذه الغبراء علة أو علل كامنة في تكوين أعضائه ستورثه الردى حين تدنو ساعته؟ ...
أي جسم مهما ظهر لك صحيحا ليس فيه عضو هو أضعف الحلقات في سلسلة أعضائه، وفي فراغ مناعته المحدودة انفصام العرى وبداية انحلال العناصر في هيكله الفاني؟!
أين هو الجسم المنيع الذي يتوق نيتشه إلى إيجاده مربعا من قمة الرأس إلى أخمص القدم؟!
لقد عمل العالم المتمدن على إيجاده بالرياضة؛ فأوجد الرقاب الغليظة والعضلات المتضخمة مسببا منها تضخم القلب، وجفاء الطبع، وبلادة التفكير، وانحطام أجنحة الخيال.
يريد نيتشه خلق الإنسان المتفوق جبارا كشمشون، وشاعرا كداود، وحكيما كسليمان. فهو يكلف الطبيعة ما لا قبل لها به، ويطمح إلى إيجاد جبابرة لا يصلحون لشيء في المجتمع؛ لأن الحيوية لا تنصرف من مختلف نوافذها الجسمية في آن واحد دون أن تقبض على صاحبها لتوقفه من سلم الارتقاء على مرتبة معلقة بين الاعتلاء والانحطاط؛ فيكون منه لا الإنسان المتفوق بل الإنسان «التافه» القصير الحياة والقاصر في كل عمل يباشره.
إن المجتمع لا يقوم من الوجهة العملية على أفراد يحاولون الإحاطة بكل شيء فلا ينالون منها شيئا.
وليس الحال إلا على هذا المنوال من الوجهة الروحية أيضا، فإن من تبصر في أحوال الناس وطرائقهم في الحياة، لا بد له أن يسلم أخيرا بأن لكل شخصية حياتها بما كمن في حوافزها، ولكل شخصية ميتتها بما خفي من أدواء جسمها وعلل إرادتها، وبما وراءها من مقدمات وحولها من نتائج.
إن في الحياة مسالك خطتها الإرادة الكلية وليس للإدارة الجزئية أن تتناولها بتحوير، فمصاعد الرقي للأرواح منتصبة من كل مسلك في عالم الظاهر نحو العالم الخفي، وما خصت العناية أقوياء الجسوم بالارتقاء.
ولرب صعلوك في نظر نيتشه لا يصلح للحياة، ويجب أن يقضى عليه دون إمهال تتفجر منه قوة لا تراها إلا البصائر النيرة.
من لنا بسبر الأغوار البعيدة القرار لندرك سر التكامل في الذات والحكمة في حد الأشواط لكل روح لتقوم بقسطها من المقدور.
ومن لنا بإدراك سر الضعف والقوة، وقد يكون الضعف في الجسم السليم والقوة في العليل من الأجسام.
إن لكل مخلوق أن يبلو الحياة بما أعطي من ظاهر الضعف أو ظاهر القوة؛ لأن للصحة محنتها كما للمرض محنته، والأنفس الطامحة إلى مثلها العليا سواء أكانت هذه المثل في هذه الحياة أم ما وراء الحياة؛ إنما تتغذى من الجسد ناحلا عليلا كما تتغذى منه مليئا بالنضارة والصحة والبهاء.
إن للحكمة العليا مقياسها في تقدير الجهاد الأكبر على كل نفس، ومن يدري في أية لحظة وبأي مداد من قوة الجسد أو ضعفه تخط الروح الأسيرة آخر سطر من كتابها؟ ... •••
إن محور الدائرة في فلسفة نيتشه إنما هو إيجاد إنسان يتفوق على الإنسانية؛ لذلك تراه يهزأ بكل من عده التاريخ عظيما بين الناس قائلا: إن الجيل الذي يلد العظماء لم يولد بعد، وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه أن يتفوق على ذاته، وكل ما بوسع الناس أن يفعلوه في سبيل المثل الأعلى هو أن يتشوقوا إليه ليخرج من سلاتهم في مستقبل الأزمان.
وسوف يرى القارئ في الفصول الأخيرة ما هو تقدير زرادشت للرجال الراقين في هذه الحقبة الشاملة لعصره ولعصرنا، فهو يعتبرهم نماذج فاشلة للإنسان الذي يتوقع نشوءه، غير أن زرادشت وهو يتكلم بلهجة الآمر الناهي ويرسم للحياة طرقها بخطوط متفرقة إن لم تجمعها أنت بقيت حروفا منتثرة لا معنى لها؛ لا يقول لنا بصراحة ما يجب أن نفعله لنصبح جدودا لأحفاد تصلح بهم الحياة، ولكن من يعود بصيرته على مجاراة نيتشه في الرؤى التي يهيم فيها يستوقفه قوله:
إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنا يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل.
ثم يستوقفه في موضع آخر قوله:
إنني لم أجد امرأة تصلح أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها.
فإذا ما وقف المفكر عند هذا يعرف ما هي تلك الفطرة التي يراها دافعة للإنسان إلى التفوق على ذاته وأنساله.
وما تكون تلك الفطرة إن لم تكن حافز الحب الصحيح، وفي أعماقه غريزة الانتخاب تجتذب الزوجين إلى اتصال يشدد أحدهما فيه ما وهن في بنية الآخر.
ولولا أننا درسنا مليا مسألة اعتلاء الأمم وانحطاطها نبحث صحة النسل واعتلاله في فصل «منابت الأطفال»، من كتابنا «رسالة المنبر إلى الشرق العربي» لكنا نثبت هنا أن إيجاد الإنسان الكامل في إنسانيته، لا الإنسان المتفوق على نوعه كما يريد نيتشه، إنما يقوم على مجاراة حوافز الاختيار الطبيعي في الزواج باعتبار كل شهوة جامحة وكل طمع يسكت هاتف الاختيار سواء في الرجل أو المرأة جناية على الإنسانية.
هذا، وإننا لا نجد بدا من نقل بعض فقرات من فصل منابت الأطفال تأييدا لهذه الحقيقة:
إن الإنسان لا يريد الانقياد للانتخاب الطبيعي فهو يطمح إلى تحكيم اختياره في حوافز لا يعلم منشأها، فيعمد الرجل إلى استيلاد المرأة أطفالا تتجلى فيهم كوامن علله وعلل المرأة التي يرغمها إرغاما بدلا من أن ينقاد إلى الانتخاب الطبيعي الذي تتذرع به الطبيعة للغلبة على العاهات والأمراض وللقضاء على حوافز الخبل والإجرام. •••
إن الولد المختل العليل إنما هو الضحية البريئة تصفع الطبيعة به أوجه الرجال الفاحشين والنساء الطامعات المضللات. •••
ومما لا ريب فيه أيضا أن الطبيعة في حرصها على طابع الأبوين في الأبناء تطمح دائما إلى الجمع بين رجل وامرأة يصلح أحدهما ما أفسدت الحياة في الآخر، ولا يقف طموح الطبيعة عند حد إصلاح الأعضاء، بل هو يتجه خاصة في الإنسان إلى إصلاح ما تطرق من عيوب إلى صفاته الأدبية العليا، ولعل في هذا بعض التفسير لسيادة الإيقاع بين رجل وامرأة تخالفت أشكالهما وأوضاع أعضائهما ومظاهر قواهما الأدبية والعقلية، فقد لا تجد مصارعا قوي العضلات يعشق مصارعة مثله ولا فيلسوفا يتوله بفيلسوفه، ولكم وقف المفكرون مندهشين أمام امرأة فاضلة تحس بانجذاب نحو رجل متلاعب محتال أو بارعة في الجمال تندفع إلى الالتصاق برجل قبيح. إن بعض العشق ينشأ من حنان خفي في الطبيعة يشبه عطف الطبيب المداوي على العليل المستجدي الشفاء ... •••
إن المفكرين يثورون على الشبان الذين يقدمون على الزواج وفي دمائهم سموم وفي مجاري نطفة الحياة منهم صديد، ومن الأمم من سنت القوانين الصارمة لمنع زواج المبتلى بالعلل الزهرية وبالجنون محافظة على صحة النسل، ولكنني لم أقر لمفكر رأيا في الحيلولة دون الزواج الآلي المجرد عن كل عاطفة، ويتراءى لي أن طفلا يجني أبواه عليه بإيراثه دما أفسدته الأمراض لهو أقل شقاء بنفسه وأقل إضرارا بالمجتمع من طفل يرث من أبويه عهر العاطفة وضلال الفطرة.
لقد تشفي العقاقير أبناء العلل ولكن أي دواء يشفي الطفل الذي زرعه توحش الرجل المفترس في أحشاء المرأة المنكسرة الذليلة؟ إن مثل هذا الطفل لن يكون إلا وحشا كأبيه أو عبدا ذليلا كأمه. •••
إن من الحب ما ينشأ عن الحياة الجسدية حاجة ملحة متقلبة كالحياة نفسها، وفي النساء كما في الرجال أناس حبهم أشبه بالجوع والظمأ يتهافتون على أية مائدة ويرتوون من أي ينبوع، وماذا عساه يفهم من الحب من يرى المحبوب مائدة وينبوعا؟ قل من الناس من يدرك أن من أنكر على المحبوب شخصيته التي لا تستبدل فقد أنكر هو ذاته شخصيته التي يحس بها. •••
لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان من يريد أن يرى.
أفما كانت كل الأمم التي اندثرت واستعبدت تمر أولا في مرحلة تدني الأخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان. •••
سوف يأتي يوم، وهو غير بعيد، تتنبه المدنية فيه إلى أن الرجل المتفوق الذي ينشده العلماء في الغرب لن يخلق لهم من التمرين لقوى العقل وقوى الجسد، ولا من فحص خلايا المتزوجين بالمجهر حتى ولا من تلقيحهم بالمواد الكيماوية أو تطعيمهم بغدد القرود.
إن الرجل الكامل أو الأقرب إلى الكمال إنما هو ابن الحب الكامل، فالمحبة وحدها هي السبيل المؤدي إلى إدراك الحق والقوة والجمال.
لندع العالم المتمدن يفتش في علومه ونهضة مفكريه على هذا الحب الذي تخيله ماركس متجليا في الحرية التامة للناس في أهوائهم فجاءت البلشفة تثبت انخداع هذا الفيلسوف في نظرياته، ليفتشوا أنهم لن يتصلوا في تجاربهم إلا إلى العبر الزاجرة المؤلمة.
أما نحن، أبناء هذا الشرق الذي انبثق الحق فيه انصبابا من الداخل بالإلهام لا تلمسا من الخارج، فلنا المسلك المفتوح منفرجا أمامنا للاعتلاء والخروج إلى النور بعد هذا الليل الطويل، إذا نحن أخذنا بروح ما أوحاه الحق إلينا.
لا بترقية الزراعة والصناعة، ولا بنشر التعليم والتهذيب ولا بجعل البلاد جنة ثراء وتنظيما، تنشأ الأمة ويخلق الشعب الحر السعيد.
إن الجنين الذي يحمل أسباب شقائه، وهو في بطن أمه لا يمكنه أن يصير رجلا حرا قويا يفهم حقيقة الحياة ويتمتع بالعظمة الكامنة فيها.
إن الاهتمام بإيجاد الطفل الصالح أولى من العمل لإعداد العلم والتهذيب لطفل نصقل مظاهره صقلا وتنحطم كل محاولة للنفوذ إلى علته المستقرة فيه منذ تكوينه. •••
ليس الفقير المتسول، ولا العليل المتألم، ولا الشيخ الهرم يتمشى بلا سند إلى قبره، ليست المرأة المستعبدة بلقمة، ولا الفتاة المخدوعة المنطرحة على أقذار المواخير، ليس كل هؤلاء الناس الأشقياء في الحياة بأشقى من الأطفال يجور عليهم آباؤهم وأمهاتهم قبل أن يقذفوا بهم إلى الوجود، ويرهقونهم بالقطيعة والإهمال بعد أن يدرجوا عليها بأقدامهم الناحلة المتعثرة ...
الرجل الذي يمسخ حبه الواحد شهوات متعددة، والمرأة التي تتقصف متهتكة ماسخة هيكل نسمات الله مركعا لنفايات البشر من عباد الخيانة والطيش، إنما هما آدم وحواء مطرودين من الجنان إلى أرض الجهود المضيعة والآلام المحتمة، ومن يدري أن حديث معصية الأبوين ليس رمزا لخيانة الحب، تلك الخيانة التي تنزل اللعنة بمرتكبيها وبأبنائهم من بعدهم ...
ويل للرجل الذي يهدم بيديه سعادته وسعادة أبنائه، وويل للمرأة التي تدنس منبت أطفالها.
ليس في تمهيد موجز كهذا مجال لبحث فلسفة نيتشه التي أشغلت كبار كتاب القرن التاسع عشر، ولم يزل الفلاسفة يكتبون عنها إلى اليوم، غير أن ما تناولناه إلماما من نظريات نيتشه يكفينا لتحديد ما يجب أن نغفله منها دون أن ننتقص من قدر هذا العبقري لأنه اقتحم أسرار الكون معتمدا ذاته فعاد عن هذه الأسرار مدحورا، وهل من كاتب قبله أو بعده تمكن من حل ألغاز الوجود والوقوف منها عند عقيدة صريحة تستغني عن الإيمان بالقوة الخفية المتعالية عن التعليل والتحليل؟
حسب نيتشه في موقف حيرته، وما هي بالدرجة الوضيعة على سلم التفكير، أن يهتك سريرته أمامك دون أن يلجأ إلى إعمال السفسطة لإيجاد وحدة ظاهرية وتناسب مزيف في صرح تفكيره، حسبه أنه اندفع وراء المثل الأعلى الكامن في «إرادة القوة» تبعا لتعبيره وفي نفس الإنسان الخالدة تبعا لعقيدة المؤمنين، فبسط أمام المفكرين من مشاهد المجتمع ومن مسالك الأرواح على معابر الأرض ما لم يلمحه سواه من المنشئين. •••
إن ما نرانا بحاجة إلى الوقوف عنده من فلسفة نيتشه في كتاب زرادشت، الذي لم تفته قضية اجتماعية لم يقل فيها كلمة كان لها دويها في العالم الغربي، إنما هو هذه المبادئ التي تجتث ما غرست قرون العبودية في أوطاننا من استكانة حولت إيمانها إلى استسلام في حين أن روح شرعتها يهيب بالنفس إلى الجهادين في سبيل الوطن والإنسانية جمعاء.
إن الدين الذي يهاجمه نيتشه إنما هو صورة لأصل شوهها الغرب، وما علم هذا الدين أن الحياة معبر على المؤمن اجتيازه، وهو معرض عن كل ما حوله معلق أبصاره على باب قبره، بل علم أن الحياة مرحلة من أشواط الآزال والآباد وما تطهر أنفس لم تحترق بنار الحياة أجسادها، ولم تعد صلاحا لباقياتها بإصلاح زائلاتها.
ليس نيتشه إذن مبدع فكرة التكامل للإنسان على الأرض؛ فإن التكامل مبدأ جعلته الأديان السماوية أساسا لكل وصية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، غير أن الدين قد أراد للإنسان تكاملا روحيا يهيئه إلى إدراك بارئه وراء المحسوس في حين أن نيتشه، وقد أنكر ما لا تقع الحواس عليه، أراد أن يفلت الإنسان من حدود إنسانيته على هذه الأرض فيجعلها جنة خلد يستوي عليها بجبروته إلها ...
وقد غرب عن هذا الفيلسوف أن المخلوقات كلها في سلسلة الوجود لا تملك الانعتاق من حدود أنواعها، ومهما كرت القرون وتعاقبت الأجيال لا يمكن للجماد أن يفلت من مملكته إلى مملكة النبات، ولا للنبات أن يجتاز حدود مملكة الحيوان، ولا للحيوان أن يجتاح مملكة الإنسانية.
لذلك كان الذاهب في طلب إنسان يتفوق على الإنسانية كالمحاول استنبات الشجرة حيوانا أو استبدال الحيوان إنسانا.
لقد كرت القرون على مبدأ التاريخ الذي نعلم وعلى ما لا نعلم من حقب كرت ما وراءه، والإنسان لم يزل هذا المخلوق الدائر أبدا ضمن حلقة إنسانيته.
لقد كان نيتشه من المعتقدين باستحالة الأنواع حين صرخ بلسان زرادشت وهو يخاطب الحشد في الساحة العمومية: «لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.»
ولكنه بالرغم من هذا يصرح بأن هذا النوع القردي، وهو الإنسان لم ينسلخ عن أصله فكيف زين له خياله أن في هذا النوع إنسانا فائقا لا يزال كامنا منذ البدء ينتظر قدوم فيلسوف في أواخر القرن التاسع عشر يستجلي هذا الجبار ويبعثه بإرادة جديدة تتسلط لا على الحاضر والمستقبل فحسب بل على ما مر وتوارى أيضا في عاصفات الأحقاب؟ ... •••
إن بدعة الإنسان المتفوق إنما هي في تقديرنا تشوق نفس شعرت بأنها كانت وستكون، وقد ضرب الإلحاد حولها نطاقا فتوهمت أنها ستبلغ في هذه الحياة ما ليس من هذه الحياة.
إن نيتشه يعلن إلحاده بكل صراحة، ويباهي بكفره غير أننا لا نكتم القارئ الكريم أن ما قرأناه بين سطوره، وقد مررنا بها كمن عليه أن يتفهم كل معنى ويستجلي كل رمز، يحفز بنا إلى القول بأننا لم نر كفرا أقرب إلى الإيمان من كفر هذا المفكر الجبار الثائر الذي ينادي بموت الله، ثم يراه متجليا أمامه في كل نفس تخفق بين جوانح الناس من نسمته الخالدة، فإن هذا الملحد بالرغم من اعتقاده بأن الجسد هو أصل الذات وأن الروح عرض لها وبأن كلا الروح والجسد فانيتان، لا يملك نفسه من الهتاف وهو يؤكد عودة كل شيء واستمرار كل شيء فيقول: أواه كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداء. إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
أين هذه الهتفة الرائعة تصدو في أعماق روح تتطير من الزوال من ابتسامة الملحد الصفراء، وهو لا يرى وراءه وأمامه إلا العدم والزوال بل يكاد يرى وجوده خدعة وخيالا كاذبا.
إن فلسفة لا تستنيم لفكرة الفناء ولا ترى في النهاية إلا عودة إلى بداية ليست بالفلسفة الجاحدة، فالمفكر المؤمن بإنسانية عليا تتدرج إلى الكمال حتى ولو قال بألوهية الإنسان على الأرض لا يمكنه إلا أن يؤمن في قرارة نفسه بكمال مطلق تتشوق روحه إليه ما وراء هذا العالم. •••
ولا بد هنا من إيراد تاريخ موجز لحياة هذا الفيلسوف، وليس في حياته القصيرة وهي مليئة بالآلام من الحوادث ما يستحق التدوين غير المراحل التي مر عليها تفكيره فتأثر بها، وهل نيتشه إلا فكرة وهل حياته إلا وقائع ميادينها السطور والصفحات.
ولد هذا العبقري الثائر سنة 1844 في بلدة روكن من أعمال ألمانيا، وكان أبوه واعظا بروتستانيا من أسرة بولونية هجرت بلادها في القرن الثامن عشر على أثر اضطهاد شرد منها أشياع كنيسة الإصلاح.
وما بلغ فريدريك الخامسة من عمره حتى مات أبوه، فكفلت أمه تربيته وتربية أخته فأرسلته إلى مدرسة نومبورغ، ثم انتقل منها سنة 1864 إلى كليتي بون وليبسيك حتى إذا بلغ الخامسة والعشرين من عمره سنة 1869 تجلى نبوغه فعين أستاذا للفلسفة في كلية بال.
بعد سبع سنوات؛ أي سنة 1876 ظهرت عليه أعراض «الزهري الوراثي» فحكمه صداع شديد أضعف بصره فبقي يلقي الدروس حتى سنة 1879؛ إذ اضطر إلى الاستعفاء ليذهب متنقلا بين روما وجنوا ونيس وسيل ماريا وهو يعمل الفكر ويكتب مصارعا علته عشر سنوات، فلا هو يبرأ منها فيحيا، ولا هي تجتاح دماغه الجبار فيموت إلى أن جاءته سنة 1889 بالفالج مقدمة للجنون فتوارى سنة 1900 بعد أن سبقته إلى الموت عبقريته العليلة وإرادته الوثابة الجبارة. •••
ذلك كان فريدريك نيتشه، مجسم القوة المفكرة التي دارت بها النائبات، وحاصرتها الأوجاع، وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهب في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوروبا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهز المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته.
فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوروبا مزيجا من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإرادة الحرة، فقال شوبنهور: إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائرا وفي نفسه ظماء في صحراء لا ماء فيها غير وهج السراب. ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها، والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها.
وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهط من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيارلرو وجان باينو وشارل سكريتان وأضرابهم فزجوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء، وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر، بل هل خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأب الخليقة كلها بروح القدس؟ •••
وأخذ نيتشه بهذه التيارات تهب من كل جانب على فكره الوقاد تلهبه الآلام، وتثير تشوقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده.
إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحا إلى ضميره، وإذا أخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل جهد.
ولا يسطو القلق الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمنا باهظا من أوجاعه لكل لذة يختلسها كالسارق من قوته الأسيرة في ضعفه الجائر.
إن مثل هذا الإنسان، إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهف، يطالب الدنيا ببدل لما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها.
وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صورها شوبنهور موجدة لإنسان لم يعط له إلا التصور لإقامة أشباح تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه.
ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي 1883 و1885 في فترات كانت تسكن فيه حدة دائه أو هو يسكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر، وهو نفسه يقول إنه كتب كلا من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذا بإلهامه خاضعا لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقا.
إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فإن نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتا من رقابة القوى الواعية، فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلام تبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية، ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعا في عالم القوى الساهية المجهولة. •••
لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعا له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلا: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية وإن ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدرة لقيم الأعمال؛ لأن كل شعب اشترع لنفسه ما لا يتوافق واشتراع جاره.
ولكن نيتشه المتلبس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضا بينا في دعوته؛ إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلبا لحالة جديدة يراها هو خيرا يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده.
ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة، وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركتها؟ •••
إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعة تكفل حق الفرد ونظام المجموع.
لقد تتناقض الأحكام التي تستنها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالة مؤقتة تدفع إليها حاجة ملحة، فتكتب ألواح تستبدل بتبدل الوضع والملابسات، ولكن السنن التي تستلهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية، وكل شرعة أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتما وكل شريعة تحدرت مثلها من ذلك الأصل.
إن زرادشت الجديد لم يجل في مسارح حلمه فاتحا لسريرته مجالات التفكير إلا وهو يحتفظ بانطباعات من تواريخ الأمم القديمة الوثنية، وبصور متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثلت هذه السنن أشباح ألواح تتراقص عليها ألوان البدع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو أتباعه إلى تحطيمها.
أما اللوحان الأولان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه به والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكليات تستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فإن زرادشت لم يبحثها مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراء أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته، وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدع بما حشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر فيضطر من ألم بها إلى نبذها جميعا؛ لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها. •••
وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادما كل ناموس ونظام؛ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجود شبهه بالساعة الرملية ينقلب أبدا قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ.
ولا يطمعن القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاما؛ لأنه لن يظفر منه بغير صور يلمحها لمحا في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثر لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه، وهو لا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء، أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسية ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلوها جثة على مدى الأحقاب.
لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا، وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات، كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصبا وجهلا، فوقف مفكرا جبارا لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين، وهكذا هب يطلب للإنسانية إلها منها يسودها وللأرض معنى أبديا يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود ...
ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيمانا بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستورا يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محبا للحياة والقوة والجمال والحرية، دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها، وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها.
ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد؛ رأى أن التكامل لنوال عطف الألوهية الراسخة في الأذهان، والتخلص من عقابها الصارم؛ يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العاطفة الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة الأصلية فثار على هذه الألوهية المزيفة التي عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته ...
هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت، وهو في تقديرنا إذا نحن استنرنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحود يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين.
بل إننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديث للنبي الكريم على قول أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.»
إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدى في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية وهي وصية راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذن في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساسا لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة.
وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة الدنيا؛ لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقي الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دار قرار؛ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلا هذا التراب وطن الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصور إنسانية تتمتع بكل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية. •••
تلك حقائق لم تفت ثلاثة من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت، ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم: المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دوي في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع علم الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملا مستقلا. •••
إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي تتجه إلى إحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوروبي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكبر على تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف المستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص، ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن، ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية؛ فلم يسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطراح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.
ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلو المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية؛ فاتخذ أنموذجا بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة؛ يعد نقصا في هذه المكتبة، ويسجل قصورا علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كتب في اللغة الألمانية على الإطلاق. •••
ولا بد في ختام تمهيدنا من إلفات المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه: «بين غادتين في الصحراء» وفيه نشيد لخيال زارا فإننا وقفنا عنده مليا؛ لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلا واضحا جليا.
ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلا يرى أم شجرة أم إنسانا.
لذلك اضطررنا إلى إملاء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه.
وحاذرنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها، وهو حضرة الدكتور روبرت ريننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوردنا جوابه مؤرخا في 19 أبريل من هذه السنة وفيه يقول:
إنني أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الأولى المكررة في آخره وهي: «إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.» فإن نيتشه قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له، وقد أتيت على بحث هذا الرمز في كتابي «جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها».
أما سائر ما في النشيد فأراه يرمي إلى وصف أجواء الصحراء المتمتعة بالحرية، وهي بابتعادها عن المعمور تولي أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة على نقيض ما تورثه ثقافة أوروبا الشمالية من الخشونة والكثافة.
أما كلمة «صلاة» فقد أصبتم في ترجمتكم إياها: «حيا على الصلاة.»
هذا، وقد يكون النبي محمد هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها حسب تأويلكم.
لقد سرنا وايم الله أن يوافقنا هذا العالم على تأويلنا، وإن يكن ذهب في تفسير اتساع الصحراء وامتدادها إلى غير ما ذهبنا إليه فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه من اتساع الصحراء وامتدادها وتهديد من يطمح للاستيلاء عليها إنما هو انبعاث الإيمان الحق بالفضائل العليا وتمردها على الجحود والتضعضع في الحياة.
وقد كان دليلنا على صحة مذهبنا ما ورد في النشيد من صراحة تؤيدنا خاصة في الفقرة الأخيرة وهي:
ارتفع يا مظهر الجلال ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضا أمام غادات الصحراء فإنه أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إلى النهوض.
وها أنذا ابن أوروبا لا يسعني إلا الخشوع لدوي هذه الآيات البينات.
للعالم الأوروبي تأويله ولنا تأويلنا، وللصحراء في بلاد العرب رموزها فلندع للأزمان تأويلها ولنكرر ما جاء في نشيد الجاحد الطامح إلى الخلود:
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.
إن عبير الشرق لا يضوع من نشيد الصحراء فحسب، بل هو يفوح من كل حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع الأوروبي، ولسوف يقف رجال العلم من أبناء الضاد عند كثير من أقواله، فيعرفون فيها آية من الآيات التي أوحيت لأنبيائهم أو ألهمت لحكمائهم أو حديثا لذلك الأمي الأعظم الذي تناول أدق القضايا الاجتماعية فردها إلى مكارم الأخلاق؛ ليحلها جميعا.
إننا ونحن نخط هذه الأسطر نتذكر صديقنا فقيد الشرق المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي، الذي قل من جاراه في تفهم دين الله والشعور بالقومية العربية ووحدة الإنسانية. إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من آيات وأحاديث وحكم يتجلى فيها ما أجمع مفكرو الغرب على الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات في اتجاهات العالم المتمدن وفي طلب رقي الإنسان والإهابة به إلى العمل في الأرض كأنه خالد عليها لا يموت.
غير أننا إذا كنا حرمنا الآن من هذه النجدة في كتابة تمهيدنا هذا فلن تحرم البلاد أعلاما يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من السلف والمعاصرين.
فليكس فارس
الإسكندرية في 20 / 9 / 1938
لقد اخترنا إيراد اسم زارا بدلا من زرادشت تخفيفا، وأتينا في سياق الترجمة بردود علقناها على الهامش حيث رأينا لزوما لذلك.
فليكس فارس.
إهداء
إلى حضرة صاحب السعادة أسعد باسيلي باشا
سيدي الأستاذ
إن حياتك الأدبية التي ولجت منها إلى حياة الأعمال لما تزل تسيطر على حوافزك وتراود تفكيرك وعواطفك، فإنك وإن أصبحت من رجال المشروعات التجارية الكبرى تحكم إعدادها وتنفيذها ما برحت تحتفظ بطابع الفيلسوف في وضع نظريات عملك وبطابع الشاعر في تقدير الحياة والتمتع بها، في حين أن عقم التفكير وجفاف الطبع يسيطران على معظم رجال الثروة بخاصة في هذه الأقطار التي لم تزل في بدء نهضتها، ولم يجمع الارتقاء بعد في طبقتها الموسرة بين حكمة إنماء الثروة وحكمة التمتع بما في الحياة من مباهج التفكير والشعور والتضامن الإنساني.
لقد أردت أن أنشر في بلاد العرب كتاب «زرادشت» الذي صدم به نيتشه الفيلسوف الألماني الأشهر تيارات الفلسفات المتناقضة منذ نصف قرن في أوروبا موجها الإنسان إلى تلمس مواطن القوة في نفسه لإنشاء الجبابرة في المجتمع، فإذا باسمك يفرض على قلمي فرضا لأتوج به هذا الكتاب، وقد حق علي أن أورد الأسباب التي حفزت بي إلى تقديمه إليك، لا لأبرر عملي تجاه تواضعك، بل لأبرئ نفسي من اختيار تعسفي قد يحمل على محمل التزلف وما أنا من يتدنى إليه ولا أنت من يؤخذ به.
لقد بدأت حياتك في شبابك بتعهد تعليم الناشئة وتهذيبها في مسقط رأسك، ثم بارحت مطارح ظلال الأرز حيث كان الحكم المطلق الجائر يصد العبقريات عن مصاعدها، ولجأت إلى وادي الملوك أنت ورفيقك المرحوم فرح أنطون فقيد الوثبة الأولى نحو النور في تطور التفكير الحديث، وما تحولت عن هذا الرفيق إلى مراكض جهودك حتى تركت في جامعته طابع نفسك الحرة وتفكيرك العميق، وإنك لتذكر، ولا ريب، تقريركما ترجمة «زرادشت» إلى العربية والصفحات المعدودة التي أعار فيها فرح بيانه الجزل للفيلسوف الألماني فسايره في أجوائه وأغواره. فأنت وفرح رأيتما قبل كل أحد في فلسفة نيتشه ما تحتاج النفوس المتواكلة إليه من حزم وانطلاق، كما أدركتما أن إلحاد هذا الفيلسوف لن يؤثر في إيمان الشرق؛ لأنه لا يستند إلا إلى شكوك نشأت من حالة خاصة بالغرب وأن القوة وحدها التي نحتاج إليها في نهضتنا ستنسرب من كتابه الخالد إلى بياننا في كتاب تفتقر المكتبة العربية إليه بعد أن ترجم إلى لغات الدنيا وطالعه المفكرون من كل الشعوب.
لقد أردت بهذا البيان أن أبرر تقديم ترجمتي لزرادشت إليك في نظر القراء لا في نظرك؛ لأنك تعلم أن هذا الكتاب إنما هو تحقيق حلم رأيته أنت ورفيقك القديم وتنفيذ لرغبة لم تزل مكبوتة في خفايا سريرتك، وإنني لأرى في المرحلة التي قطعتها منذ ذلك العهد ما يزيدك رغبة في نشر زرادشت في بلادك بعد أن تيقنت باختبارك وأثبت بحياتك نفسها وهي مجلى الثقة بالنفس والإيمان بالخير أن الجبار الذي حلم به نيتشه عاملا لدنياه كأنه لا يموت أبدا إنما يستكمله الجبار الآخر الذي يعمل لآخرته كأنه يموت غدا.
الإسكندرية في 20 / 9 / 1938
فليكس فارس
حضرة صاحب السعادة أسعد باسيلي باشا.
كتب المؤلف
(1)
رسالة المنبر إلى الشرق العربي. (2)
هكذا تكلم زرادشت، تأليف الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، مترجمة. (3)
اعترافات فتى العصر، تأليف ألفريد دي موسيه، مترجمة. (4)
رواية الحب الصادق، نفدت. (5)
شرف وهيام، نفدت. (6)
النجوى إلى نساء سوريا، نفدت.
الكتب المعدة للطبع: (7)
المراحل؛ سياسة وأدب واجتماع. (8)
القيثارة: ديوان شعر. (9)
قلعة حلب وقصص أخرى. (10)
الأحرار في الشرق، بالعربية.
الأحرار في الشرق، بالفرنسية. (11)
رؤى متصوف عربي، بالفرنسية. (12)
من إلهام الشرق، بالفرنسية. (13)
من حدائق الغرب: مختارات مترجمة. (14)
بين عهدين: قبل الاحتلال وبعده. (15)
أمام المحاكم: الإجرام والقانون. (16)
الأغلال: مسرحية مترجمة. (17)
ثورة أثينا: مسرحية شعرية نثرية. (18)
حديث الأزهار، مترجمة.
الجزء الأول
كتاب للمجتمع لا للفرد.
فريدريك نيتشه
مستهل زرادشت
1
لما بلغ زارا الثلاثين من عمره هجر وطنه وبحيرته وسار إلى الجبل حيث أقام عشر سنوات يتمتع بعزلته وتفكيره إلى أن تبدلت سريرته، فنهض يوما من رقاده مع انبثاق الفجر وانتصب أمام الشمس يناجيها قائلا: لو لم يكن لشعاعك من ينير أكان لك غبطة أيها الكوكب العظيم؟ منذ عشر سنوات ما برحت تشرق على كهفي، فلولاي ولولا نسري وأفعواني، لكنت مللت أنوارك وسئمت ذرع هذا السبيل، ولكننا كنا نترقب بزوغك كل صباح لنتمتع بفيضك ونرسل بركتنا إليك، أصغ إلي، لقد كرهت نفسي حكمتي كالنحلة أتخمها ما جمعت، فمن لي بالأكف تنبسط أمامي لأهب وأغدق إلى أن يغتبط الحكماء من الناس بجنونهم ويسعد الفقراء منهم بثروتهم.
تلك هي الأمنية التي تهيب بي للجنوح إلى الأعماق، كما تجنح أنت كل مساء منحدرا وراء البحار حاملا إشعاعك إلى الشقة السفلى من العالم، أيها الكوكب الطافح بالكنوز.
لقد وجب علي أن أتوارى أسوة بك، وجب علي أن أرقد على حد تعبير الأناسي الذين أهفو إليهم.
باركني - إذن - أيها الكوكب، فأنت المقلة المطمئنة التي يسعها أن تشهد ما لا يحد من السعادة دون أن تختلج كمقلة الحاسدين.
بارك الكأس الدهاق تسكب سلسبيلا مذهبا ينثر على الآفاق وهجا من مسراتك.
انظر! إن هذه الكأس تريد أن تندفق ثانية، وزارا يريد أن يعود إنسانا.
وهكذا بدأ جنوح زارا إلى المغيب.
2
وانحدر زارا من الجبال فما لقي أحدا حتى بلغ الغاب حيث انتصب أمامه شيخ خرج من كوخه بغتة ليفتش عن بعض الجذور والأعشاب، فقال الشيخ: ليس هذا الرحالة غريبا عن ذاكرتي، لقد اجتاز هذا المكان منذ عشر سنوات، ولكنه اليوم غيره بالأمس.
لقد كنت تحمل رمادك في ذلك الحين إلى الجبل، يا زارا، فهل أنت تحمل الآن نارك إلى الوادي؟ أفما تحاذر يا هذا أن ينزل بك عقاب من يضرم النار؟
لقد عرفت زارا، هذه عينه الصافية، وليس على شفتيه للاشمئزاز أثر، أفما تراه يتقدم بخطوات الراقصين؟
لقد تبدلت هيئة زارا؛ إذ رجع بنفسه إلى طفولته، لقد استيقظت يا زارا فماذا أنت فاعل قرب النائمين؟
كنت تعيش في العزلة كمن يعوم في بحر والبحر يحمل أثقاله، وأراك الآن تتجه إلى اليابسة، أفتريد الاستغناء عمن حملك لتسحب هامتك على الأرض بنفسك؟
فأجاب زارا: إنني أحب الناس.
فقال الشيخ الحكيم: إنني ما طلبت العزلة واتجهت إلى الغاب إلا لاستغراقي في حبهم، أما الآن فقد حولت حبي إلى الله، وما الإنسان في نظري إلا كائن ناقص، فإذا ما أحببته قتلني حبه.
فأجاب زارا: ومن يصف لك الحب الآن! إنني لا أقصد الناس إلا لأنفحهم بالهدايا.
فقال الحكيم القديس: إياك أن تعطيهم شيئا، والأجدر بك أن تأخذ منهم ما تساعدهم على حمله، ذلك أجدى لهم على أن تغنم سهمك من هذا الخير، وإذا كان لا بد لك من العطاء فلا تمنح الناس إلا صدقة على أن يتقدموا إليك مستجدين أولا.
فأجاب زارا: أنا لا أتصدق؛ إذ لم أبلغ من الفقر ما يجيز لي أن أكون من المتصدقين.
فضحك القديس مستهزئا وقال: حاول جهدك إذن إقناعهم بقبول كنوزك، إنهم يحاذرون المنعزلين عن العالم، ولا يصدقون بأننا نأتيهم بالهبات، إن لخطوات الناسك في الشارع وقعا مستغربا في آذان الناس، إنهم ليجفلون على مراقدهم؛ إذ يسمعونها فيتساءلون: إلى أين يزحف هذا اللص؟
لا تقترب من هؤلاء الناس. لا تبارح مقامك في الغاب، فالأجدر بك أن تعود إلى مراتع الحيوان، أفلا يرضيك أن تكون مثلي دبا بين الدببة وطيرا بين الأطيار؟
فسأل زارا: وما هو عمل القديس في هذا الغاب؟
فأجاب القديس: إنني أنظم الأناشيد لأترنم بها، فأراني حمدت الله؛ إذ أسر نجواي فيها بين الضحك والبكاء؛ لأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة أسبح الله ربي، ومع هذا، فما هي الهدية التي تحملها إلينا؟
فانحنى زارا مسلما وقال للقديس: أي شيء أعطيك؟ دعني أذهب عنك مسرعا كيلا آخذ منك شيئا.
وهكذا افترقا وهما يضحكان كأنهما طفلان.
وعندما انفرد زارا قال في نفسه: إنه لأمر جد مستغرب، ألما يسمع هذا الشيخ في غابه أن الإله قد مات.
1
3
وإذ وصل زارا إلى المدينة المجاورة، وهي أقرب المدن إلى الغاب، رأى الساحة مكتظة بخلق كثير أعلنوا من قبل أن بهلوانا سيقوم هناك بالألعاب، فوقف زارا في الحشد يخطبه قائلا: إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟
إن كلا من الكائنات أوجد من نفسه شيئا يفوقه، وأنتم تريدون أن تكونوا جزرا يصد الموجة الكبرى في مدها، بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم للتفوق على الإنسان، وهل القرد من الإنسان إلا سخريته وعاره؟ لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة ومنتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جل ما إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطتتصف به ديدان الأرض، لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته.
ليس أوفركم حكمة إلا كائن مشوش لا يمت بنسبه إلى أصل صريح ، فهو مزيج من النبات والأشباح، وما أدعو الإنسان ليتحول إلى شبح أو إلى نبات.
لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق.
إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه الأرض وروحا لها.
أتوسل إليكم، أيها الإخوة بأن تحتفظوا للأرض بإخلاصكم فلا تصدقوا من يمنونكم بآمال تتعالى فوقها، إنهم يعللونكم بالمحال فيدسون لكم السم، سواء أجهلوا أم عرفوا ما يعملون أولئك هم المزدرون للحياة، لقد رعى السم أحشاءهم فهم يحتضرون، لقد تعبت الأرض منهم فليقلعوا عنها.
لقد كانت الروح تنظر فيما مضى إلى الجسد نظرة الاحتقار فلم يكن حينذاك من مجد يطاول عظمة هذا الاحتقار. لقد كانت الروح تتمنى الجسد ناحلا قبيحا جائعا متوهمة أنها تتمكن بذلك من الانعتاق منه ومن الأرض التي يدب عليها، وما كانت تلك الروح إلا على مثال ما تشتهي لجسدها ناحلة قبيحة جائعة، تتوهم أن أقصى لذاتها إنما يكمن في قسوتها وإرغامها.
أفليست روحكم، أيها الإخوة، مثل هذه الروح؟ أفما تعلن لكم أجسادكم عنها أنها مسكنة وقذارة وأنها غرور يسترعي الإشفاق؟
والحق ما الإنسان إلا غدير دنس، وليس إلا لمن أصبح محيطا أن يقتبل انصباب مثل هذا الغدير في عبابه دون أن يتدنس.
تعلموا من هو الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذلك المحيط تغرقون احتقاركم في أغواره.
وهل تتوقعون بلوغ معجزة أعظم من هذه المعجزة؟
لقد آن للاحتقار أن يبلغ أشده فيكم، بعد أن استحال شرفكم ذاته كما استحالت عقولكم وفضائلكم إلى كره واشمئزاز.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني شرفي، وما هو إلا مسكنة وقذارة وغرور، في حين أن على الشرف أن يبرر الحياة نفسها.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني القوى العاقلة في، إذا لم تطلب الحكمة بجوع الأسد، وما هي الآن إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني فضيلتي فإنها لما تصل بي إلى الاستغراق، وقد أتعبني خيري وشري، وما هما إلا مسكنة وقذارة وغرور.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما يهمني عدلي ، إن العادل يقدح شررا ولما اشتعل.
لقد آن لكم أن تقولوا: ما تهمني رحمتي، أفليست الرحمة صليبا يسمر عليه من يحب البشر، ورحمتي لما ترفعني على الصليب.
أقلتم مثل هذا وناديتم به؟ ليتني سمعتكم تهتفون بمثله!
إن ما يرفع عقيرته على السماء إن هو إلا غروركم لا خطاياكم، إن هو إلا حرصكم حتى في خطاياكم.
أين هو اللهب الذي يمتد إليكم ليطهركم؟ أين هو الجنون الذي يجب أن يستولي عليكم؟
هأنذا أنبئكم عن الإنسان المتفوق.
إن هو إلا ذلك اللهب وذلك الجنون.
وما فرغ زارا من كلامه حتى ارتفع صوت من الحشد قائلا: «لقد كفانا ما سمعنا عن البهلوان، فليبرز لنا الآن لنراه.»
فضحك الجميع مستهزئين بزارا، وتقدم البهلوان ليقوم بألعابه وهو يعتقد أنه كان موضوع الحديث.
4
وبهت زارا مجيلا أنظاره في القوم، ثم قال: ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق فهو الحبل المشدود فوق الهاوية.
إن في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء وسط الطريق خطرا، وفي الالتفات إلى الوراء وفي كل تردد وفي كل توقف خطر في خطر.
إن عظمة الإنسان قائمة على أنه معبر وليس هدفا، وما يستحب فيه هو أنه سبيل وأفق غروب.
إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون إلى ما وراء الحياة.
أحب من عظم احتقارهم لأنهم عظماء، أحب المتعبدين يدفعهم الشوق إلى المروق كالسهم إلى الضفة الثانية.
أحب من لا يتطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إلى زوالهم أو ما يهيب بهم إلى التضحية؛ لأنهم يقدمون ذاتهم قربانا للأرض، لتصبح هذه الأرض يوما ميراثا للإنسان المتفوق.
أحب من يعيش ليتعلم، ومن يتوق إلى المعرفة ليحيا الرجل المتفوق بعده، فإن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله.
أحب من يعمل ويخترع ليبني مسكنا للإنسان المتفوق فيهيئ ما في الأرض من حيوان ونبات لاستقباله، فإن هذا ما يقصد طالب المعرفة من زواله.
أحب من يحب فضيلته، فما الفضيلة إلا الطموح إلى الزوال وإن هي إلا السهم تنشبه أشواقه .
أحب من لا يحتفظ لنفسه بشرارة واحدة من روحه، فيتجه إلى أن يكون بكليته روحا لفضيلته؛ لأنه بهذا يجعل روحه تجتاز الصراط.
أحب من يكون من فضيلته ميوله ومطمحه؛ لأنه بمثل هذه الفضيلة يتوق إلى إطالة حياته كما يتوق إلى قصرها.
أحب من لا يريد الاتصاف بعديد الفضائل؛ إذ في الفضيلة الواحدة من الفضائل أكثر مما في فضيلتين، والفضيلة الواحدة حلقة ترتبط فيها الحياة.
أحب من يجود بروحه فلا يطلب جزاء ولا شكورا، ولا يسترد، فهو يهب دائما ولا يفكر في الاستبقاء على ذاته.
أحب من يخجل من سقوط زهر النرد لحظه فيرتاب بغش يده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال.
أحب من يبذل الوعود وهاجة ثم يتجاوز عمله وعده، إن أمثاله هم التائقون إلى الزوال.
أحب من يبرر أعمال الخلف ويدافع عن السلف لأنه بذلك يسلم نفسه إلى نقمة معاصريه، فهو ممن يتوقون إلى الزوال.
أحب من يعلن حبه لربه بتوجيه اللوم إليه؛ إذ يجب أن يهلك بغضب ربه.
أحب من يبلغ التأثر أعماق روحه في جراحها فيعرضه أتفه حدث للفناء، إن أمثاله يعبرون الصراط دون أن يترددوا.
أحب من تفيض نفسه حتى يسهى عن ذاته؛ إذ تحتله جميع الأشياء فيضمحل فيها ويفنى بها.
أحب من تحرر قلبه وتحرر عقله حتى يصبح دماغه بمثابة أحشاء لقلبه، غير أن قلبه يدفع به إلى الزوال.
أحب جميع من يشبهون القطرات الثقيلة التي تتساقط متتالية من الغيوم السوداء المنتشرة فوق الناس، فهي التي تنبئ بالبرق وتتوارى.
ما أنا إلا منبئ بالصاعقة، أنا القطرة الساقطة من الفضاء، وما الصاعقة التي أبشر بها إلا الإنسان المتفوق.
5
وبعد أن ألقى زارا هذه الكلمات أجال أنظاره في الحشد وسكت ثم قال في قلبه: لقد تملكهم الضحك، فهم لا يفهمون ما أقول، وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الأسماع.
أعلي أن أسد آذانهم ليتمرنوا على الإصغاء بعيونهم؟ أم يجب أن أضرب الصنج أسوة بوعاظ الصيام؟ لعل هؤلاء القوم لا يتقون إلا بالألكن من المتكلمين.
إن لهؤلاء الناس ما يباهون به فما عساه أن يكون؟
إنهم يسمونه مدنية ليميزوا بها أنفسهم على الرعاة، فهم لذلك ينفرون من لفظة الاحتقار إذا ما ذكرت في معرض الكلام عنهم، فلسوف أخاطبهم إذن عن غرورهم.
سأخاطبهم عن أحقر الكائنات، عن الإنسان الأخير. وتوجه إلى الحشد قائلا: لقد آن للإنسان أن يضع هدفا نصب عينيه، لقد آن له أن يزرع ما ينبت أسمى رغباته ما دام للأرض بقية من ذخرها؛ إذ سيأتي يوم ينفذ هذا الذخر منها فتجدب ويمتنع على أية دوحة أن تنمو فوقها.
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يفوق الإنسان فيها سهام شوقه محلقة فوق البشرية؛ إذ تخونه قوسه وتتراخى أوتارها.
الحق ما أقوله لن يخرج من الإنسان كوكب وهاج للعالم حين تزول بقية السديم من نفسه، وهذا السديم لم يزل فيكم.
ويل لنا! لقد اقتربت الأزمنة التي لن يدفع الإنسان فيها بالكواكب للعالم، ويل لنا؟ لقد اقترب زمان الإنسان الحقير الذي يمتنع عليه أن يحتقر نفسه.
اسمعوا! هأنذا منبئكم عن الرجل الأخير.
إنه من يقف متسائلا عن نفسه فلا يعلم أمحبة هي أم إبداع أم تشوق، أم توهج كوكب.
وستصغر الأرض في ذلك الزمان فيطفر على سطحها الرجل الأخير الذي يحول إلى حضارة كل ما يدور به، إن سلالة هذا الرجل لا تباد، فهي أشبه بالبراغيث، والإنسان الأخير أطول البشر عمرا.
ويقول أناسي الزمن الأخير متغامزين: لقد اخترعنا السعادة اختراعا.
لقد هجر هؤلاء البقاع التي تقسو عليها الحياة؛ لأنهم شعروا بحاجتهم إلى الحرارة فأصبح كل واحد يحتك بجاره وقد احتاجوا إلى الدفء جميعا.
إنهم يقتحمون الحياة باحتراس؛ لأن الوجل والمرض في عينهم خطأ، وما سلم من الجنون من يتعثر منهم بالحجارة وبالناس.
إنهم يأخذون قليلا من السموم حيث يجدونها طلبا لملاذ الأحلام ويكرعون منها ما يكفي دفعة واحدة طلبا للذة الموت.
وإذا هم عملوا فإنما يعملون للتسلية محاذرين أن تذهب هذه التسلية بهم إلى حدود الإنهاك.
ليس بينهم من يصبح غنيا أو يمسي فقيرا، وكلا الفقر والغنى يجلب الضنى، وما منهم من يطمح إلى الحكم أو يرضى بالخضوع وكلاهما محرج مرهق.
ليس هنالك راع وليس هنالك إلا قطيع واحد. إن كلا من الناس يتجه إلى رغبة واحدة، فالمساواة سائدة بين الجميع، ومن اختلف شعوره عن شعور المجموع يسير بنفسه مختارا إلى مأوى المجانين.
ويغمز أمكر هؤلاء الناس بعينهم ويقولون: لقد كان الجميع مجانين فيما مضى.
لقد ساد الاحتراس بين هؤلاء القوم؛ لأنهم أخذوا بالعبر، فهم يتلقون الحادثات متهكمين، وإذا نشأ بينهم خلاف بادروا إلى حسمه صلحا؛ لأنهم يحاذرون أن تصاب معدهم بالعلل والأدواء.
لهؤلاء الناس لذات للنهار ولذات أخرى لليل، غير أنهم يراعون صحتهم أولا. «لقد اخترعنا السعادة اختراعا» ذلك ما يقوله أناسي الزمن الأخير وهم يغمزون.
عند هذا أنهى زارا خطابه أو بالحري تمهيد خطابه فتعالت أصوات التهليل من الحشد وهو يقول: إلينا بهذا الرجل الأخير يا زارا، اجعلنا على مثال أناسي الزمن الأخير فقد تخلينا لك عن الإنسان المتفوق.
ولكن زارا وجم أمام هذا الحشد يسوده مثل هذا الروح فاستولى الحزن عليه وقال في نفسه: إنهم لا يفهمون كلامي، فلست بالصوت الذي تتطلبه هذه الأسماع.
لقد عشت طويلا في هذه الجبال وأنصت طويلا إلى هدير الغدران وحفيف الأشجار، فأنا أكلم هؤلاء الناس الآن كأنني أخاطب رعاة الماعز.
إن روحي صافية تغمرها الأنوار كما تغمر القمم تباشير الصباح، ولكنهم يحسون بالصقيع في قلبي ويحسبونني مهرجا يأتيهم بالمفجع من النكات.
إنهم يحدجونني بأنظارهم ويتضاحكون، ففي قلبهم ثورة البغضاء وعلى شفاههم بسمة الثلوج.
6
وطرأ حادث كم الأفواه واسترعى الأبصار، وكان البهلوان بدأ بألعابه فاندفع من النافذة وأخذ يتمشى على الحبل الممدود بين برجين فوق الساحة وما عليها من المتفرجين، وما وصل إلى وسط الحبل حتى فتحت النافذة مرة ثانية، واندفع منها فتى مخطط بالألوان كالمهرجين وسار متبعا خطوات البهلوان صارخا: «إلى الأمام أيها الأعرج! إلى الأمام أيها الكسلان، أيها المرائي ذو الوجه الشاحب! اذهب لئلا تداعبك نعلي، ما هو عملك بين هذين البرجين؟ أفليس في البرج مكان سجنك ؟ أنك تسد الطريق في وجه من هو أفضل منك.»
وكان الفتى يتقدم خطوة كلما قال كلمة حتى أصبح على قاب قوسين من البهلوان، وعندئذ وقع الحادث الذي كم الأفواه واسترعى الأبصار؛ فإن الفتى لم يلبث أن صرخ صرخة الجن وقفز فوق العقبة القائمة في سبيله، ولما رأى البهلوان انتصار خصمه عليه أخذه الدوار، وخلت رجله عن الحبل فرمى عارضة التوازن من يديه وسقط في الفضاء حيث لاحت رجلاه ويداه كعجلة تدور في الهواء.
وماج الحشد على الساحة كالبحر اجتاحته العاصفة الهوجاء، وانفرط الناس مولين الإدبار، وانفرج المكان حيث كان يتجه الجسم بانحداره.
ولكن زارا لم يتحرك فوقع الجسم على مقربة منه حيث تقطعت أوصاله وتهشم، غير أنه كان لم يزل حيا، وما عتم أن عاد روع الجريح إليه فرأى زارا جاثيا قربه فرفع رأسه وقال له: ماذا تفعل هنا؟ ما كنت أجهل أن الشيطان سيضل خطواتي يوما وها هو ذا الآن يجرني إلى جحيمه، أفتريد أن تمنعه؟
فقال زارا: وشرفي يا صديقي إن ما تذكره لا وجود له، فليس من شيطان وليس من جحيم، إن روحك ستموت بأسرع من جسدك فلا تخش بعد الآن شيئا.
فرفع الرجل بصره مشككا وقال: إذا كان ما تقوله صحيحا فإنني لا أفقد شيئا بفقد الحياة، فلست أنا إذن إلا حيوانا وقد رقصت بالضرب وغذيت بأفخر غذاء.
فقال زارا: لا، ليس الأمر كما تقول فإنك اتخذت المخاطرة مهنة لك ولم يكن فيها ما يشين، أما الآن فمهنتك هي أن تفنى، من أجل هذا سأدفنك بيدي.
ولم يحر المدنف جوابا بل حرك يده باحثا عن يد زارا ليصافحها دلالة على شكره.
7
وأمسى المساء مرخيا سدوله على الساحة، فتفرق عنها المتفرجون وقد أرهقهم الفضول والرعب، وبقي زارا جالسا على الأرض قرب الميت فاستغرق في تفكيره ناسيا مرور الزمان حتى هبت نفحات الليل عليه منفردا، فناجى نفسه قائلا: لقد كان صيدك موفقا اليوم يا زارا! لقد أفلت الناس منك فاصطدت جثة هامدة.
إن حياة الإنسان محفوفة بالأخطار، وهي فوق ذلك لا معنى لها ... فإن مهرجا يمكنه أن يقضي عليها.
أريد أن أعلم الناس معنى وجودهم؛ ليدركوا أن الإنسان المتفوق إنما هو البرق الساطع من الغيوم السوداء: من الإنسان.
ولكنني لم أزل بعيدا عن هؤلاء الناس وفكرتي بعيدة عن مداركهم، فأنا لم أزل متوسطا المدى بين مجنون وجثة هامدة.
إن الليل مظلم ومسالك زارا مظلمة أيضا، تعال أيها الرفيق المتيبس في صقيعه! إنني ذاهب بك إلى حيث أواريك التراب بيدي.
8
ورفع زارا الجثة على كاهله ومشي، ولكنه ما قطع مائة خطوة حتى زحمه رجل، وما كان هذا الرجل إلا مهرج البرج، فأسر إليه: اذهب من هذه المدينة يا زارا، فإن مبغضيك فيها كثيرون، هنا يكرهك أهل الصلاح والعدل، فيصفونك بالعدو والمزدرى، ويكرهك المؤمنون بالدين الحق فيرون بك خطرا على عامة الناس، وقد كان من حظك أن هزأ الحشد بك؛ لأنك كنت تتكلم كالمهرجين، وكان من حظك أيضا أن اشتركت والكلب الميت، فقد كان خلاصك هذه المرة في إسفافك إلى هذه المهاوي، ولكنك لن تسلم في الثانية فاذهب من هذه المدينة وإلا فإنني قافز غدا فوق جثة أخرى.
قال الرجل هذا وتوارى وتابع زارا سيره في الشوارع المظلمة، ولما بلغ باب المدينة التقى حفار القبور فوجهوا إلى رأسه أشعة مصابيحهم وإذ عرفوا فيه زارا أشبعوه سخرية وهزءا وقالوا: مرحى يا زارا! لقد صرت الآن حفارا للقبور، إنك تحمل الكلب الميت. لقد أحسنت، فإن أيدينا أطهر من أن تدنس بجثته، أتريد يا زارا أن تختلس من الشيطان طعامه؟ كل هنيئا ولكن الشيطان أمهر منك، ولعله يسرقكما كليكما فيلتهمكما التهاما.
ودار حفار القبور بزارا يتفرسون فيه، أما هو فلزم الصمت وسار في طريقه، وبعد أن مشى ساعتين يقطع الأحراج والمستنقعات، شعر بالجوع لكثرة ما عوت حوله الذئاب الجائعة، فوقف أمام بيت منفرد لاحت له الأنوار من نوافذه، وقال: لقد عضني الجوع وداهمني كاللص بين الأحراج في الليل البهيم.
إن لجوعي نزوات مستغربة وقد يداهمني حتى بعد الطعام، ولكنه اليوم ند عني منذ الصباح حتى المساء فأين كان هذا الجوع؟
وطرق زارا باب البيت فظهر له منه شيخ يحمل مشعلا، وقال له: من الآتي إلي وإلى رقادي المضطرب؟
فأجاب زارا: أتيناك اثنين حي وميت، أعطني مأكلا ومشربا فقد نسيت الغذاء النهار بطوله، إن من يشبع الجياع يولي نفسه قوة، هكذا قالت الحكمة.
فغاب الشيخ وعاد بخبز وخمر وقال: إنها لأماكن موحشة للجياع، وذلك ما دعاني إلى السكن هنا حيث يهرع إلي البشر والحيوان في وحدتي، أفلا تدعو رفيقك ليأكل ويشرب معك فهو أشد تعبا منك.
فقال زارا: إن رفيقي ميت ولا يسهل علي إقناعه بتناول الطعام.
فتمتم الشيخ: ذلك لا يهمني، إن من يطرق بابي عليه أن يأخذ ما أقدمه له، كلا هنيئا.
وعاد زارا إلى السير فمشي ساعتين أيضا وهو يهتدي إلى رسوم الطريق بنور النجوم، وقد كان معتادا السرى ويحب أن يتفرس في كل ما يروق له، وعند ما لاح الصباح كان زارا وصل إلى غابة كثيفة حيث انقطع كل طريق أمامه، فتوقف ووضع الجثة في فراغ شجرة حواها حتى رأسها ليقيها هجمات الذئاب، ورقد بعد ذلك متوسدا نبات الأرض وما عتم حتى استغرق في نومه منهوك الجسم مرتاح الضمير.
9
وطال نوم زارا حتى غمرت وجهه أنوار الضحى بعد أن داعبته تباشير الفجر، ففتح عينيه مبهوتا وسرح أبصاره على الغاب ثم حولها يستكشف نفسه ساكنا مستغربا.
وهب من مجلسه فجأة كما يهب الملاح تبدو لعينه الأرض فهتف وقد هزه المرح؛ لأنه اكتشف حقيقة جديدة فخاطب قلبه قائلا لقد انفتحت عيناي. إنني بحاجة إلى رفاق أحياء لا إلى رفاق أموات وجثث أحملهم إلى حيث أريد.
إنني أطلب رفاقا أحياء يتبعونني؛ لأنهم يريدون أن يتبعوا أنفسهم أيان توجهت.
لقد انفتحت عيناي؛ ليس على زارا أن يخاطب جماعات بل عليه أن يخاطب رفاقا، يجب ألا يكون زارا راعيا للقطيع وكلبا له.
إنني ما جئت إلا لأخلص خرافا عديدة من القطيع، وسوف يتمرد الشعب والقطيع علي، إن زارا يريد أن يعامله الرعاة معاملتهم للصوص.
قلت رعاة غير أنهم يدعون بالصالحين والعادلين، قلت رعاة غير أنهم يدعون بالمؤمنين بالدين الحق.
انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألد أعدائهم، إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم، غير أنه هو المبدع.
انظروا إلى المؤمنين بجميع المعتقدات تعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم الألواح التي حفروا عليها سننهم، ذلك هو الهدام ذلك هو المجرم، غير أنه هو المبدع.
إلي بالرفاق، إنني أطلبهم مبدعين ولا أطلبهم جثثا وقطعانا ومؤمنين.
إن المبدع لا يتخذ له رفاقا إلا من كانوا مثله مبدعين، إنه يتخذهم ممن يحفرون سننا جديدة على ألواح جديدة.
إن من يطلب المبدع إنما هم الحصاد يعاونونه في الحصاد؛ لأن كل شيء قد أصبح في عينه ناضجا للحصاد، ولكن المائة منجل ليست بين يديه فهو يتميز غضبا ويقتلع السنابل من أصولها.
إن المبدع يطلب رفاقا له بين من يعرفون أن يشحذوا مناجلهم، وسوف يدعوهم الناس هدامين ومستهزئين بالخير والشر، غير أنهم يكونون هم الحاصدين والمحتفلين بالعيد.
إن زارا يطلب من هم مثله مبدعون يشاركونه في الحصاد وفي الراحة فلا حاجة له بالقطعان والرعاة وأشلاء الأموات.
وأنت يا رفيقي الأول، ارقد بسلام لقد أحسنت دفنك في فراغ الشجرة ووقيتك افتراس الذئاب.
غير أنني سأفترق عنك لأن الزمان قد مر سريعا، وقد انبثقت حقيقة جديدة في أفق نفسي ما بين فجرين.
لن أكون راعيا، ولن أكون حفار قبور، ولسوف لا أقف بعد الآن في الجماعات خطيبا فقد وجهت آخر خطبي إلى ميت.
أريد أن أنضم إلى المبدعين، إلى أولئك الذين يحصدون ويرتاحون فأريهم قوس قزح والمراتب التي يرقاها الواصلون إلى الإنسانية المتفوقة.
سأهتف بنشيدي للمعتزلين ولمن يشعرون بمثنويتهم في انفرادهم. إنني سأملأ بغبطتي قلب كل من له أذنان تصغيان إلى ما لم تسمعه أذن بعد.
إنني أسير إلى هدفي وأتبع طريقي فأقفز فوق المترددين والمتأخرين، وهكذا سيكون سيري جنوحا إلى الغروب.
10
وكان زارا يناجي نفسه بهذا القول والشمس في الهاجرة، وإذا به يسمع صوتا جارحا في الفضاء ولاح له نسر يعقد حلقات في طيرانه، وقد تعلق به أفعوان وما كان النسر يقبض عليه بمخلبيه كفريسة، بل كان الأفعوان ملتفا حول عنقه التفاف المحب.
فهتف زارا والحبور يملأ فؤاده: هذان نسري وأفعواني؛ فالنسر أشد الحيوانات افتخارا، والأفعوان أشدها مكرا تحت الشمس، وكلاهما ذاهبان مستكشفين في الفضاء؛ ليعلما ما إذا كان زارا لم يزل في الحياة، فهل أنا لم أزل حيا بعد؟
لقد اعترضني من المخاطر بين الناس ما لم أجد مثله بين الحيوانات، إنني أتبع السبل المخطرة فلأقتدين بنسري وأفعواني.
وتذكر زارا القديس المنعزل في الغاب فتنهد وقال: لأكونن أوفر حكمة لأكونن ماكرا كأفعواني، غير أنني أطلب المستحيل لذلك أتوسل إلى افتخاري أن يلازم حكمتي ولا ينفصل عنها.
وإذا ما تخلت حكمتي عني يوما وهي تتوق إلى الطيران وا أسفاه؛ فإنني لأرجو أن يطير افتخاري مستصحبا جنوني.
وهكذا بدا جنوح زارا إلى المغيب.
خطب زرادشت
التحول في ثلاث مراحل
سأشرح لكم تحول العقل في مراحله الثلاث فأنبئكم كيف استحال العقل جملا، وكيف استحال الجمل أسدا، وكيف استحال الأسد أخيرا فصار ولدا.
ما أوفر الأحمال التي تثقل العقل الجلد الصليب وهو مجلى الوقار، فإن صلابته تتوق إلى الحمل الثقيل بل إلى أثقل الأحمال.
يفتش العقل السليم عن أثقل الأحمال؛ فينيخ كالجمل ظهره متوقعا رفع خير حمل إليه. إن العقل السليم ينادي الأبطال قائلا: أي حمل هو الأثقل لأرفعه فتغتبط به قوتي؟ أفليس أثقل الأحمال هو في الاتضاع لإنزال العذاب بالغرور؟ أفليس أثقلها أن يبدي الإنسان اختلالا لتظهر حكمته جنونا؟
أم أثقلها في تخلي الإنسان من مطلب حين يقترن هذا المطلب بالنصر، أم في ارتقاء قمم الجبال لتحدي من يتحدى؟
أم أثقلها في أن يتغذى الإنسان بأقماع السنديان والأعشاب ويتحمل مجاعة نفسه من أجل الحقيقة.
أم أثقلها في احتمال المرض وطرد العواد المعزين، أم في مخادنة الصم الذين لا يسمعون ولا يعون ما تريد؟
أم أثقلها في الانحدار إلى المياه القذرة إذا كانت الحقيقية فيها والرضى بملامسة الضفادع اللزجة والعقارب التي تقطر صديدا.
أم أثقلها في محبة من يحتقرنا وفي مد يدنا لمصافحة شبح يقصد إدخال الرعب إلى قلوبنا. إن العقل السليم يحمل ذاته جميع هذه الأثقال المرهقة، وكالجمل الذي يسارع إلى طريق الصحراء عندما يرفع الوقر عن ظهره هكذا يندفع هو أيضا نحو صحرائه.
وهنالك في الصحراء القاحلة يتم التحول الثاني؛ إذ ينقلب العقل أسدا؛ لأنه يطمح إلى نيل حريته وبسط سيادته على صحرائه.
وفي هذه الصحراء يفتش عن سيده ليناصبه العداء كما ناصب سيده السابق، فهو يستعد لمكافحة التنين والتغلب عليه.
ومن هو هذا التنين الذي يتمرد العقل عليه فلا يريد بعد الآن أن يرى فيه ربه وسيده؟
إن التنين هو كلمة «يجب عليك» وعقل الأسد يريد أن ينطق بكلمة «أريد» إن كلمة «الواجب» تترصد الأسد على الطريق تنينا يدرع بآلاف الأصداف وعلى كل قطعة منها تتوهج بأحرف مذهبة كلمة «يجب عليك».
وعلى هذه الأصداف تشع شرائع ألف عام والتنين الأعظم يعج قائلا إن جميع الشرائع تتوهج علي.
كل ما هو سنة قد أوجد من قبل، وبي تتمثل جميع السنن الكائنة، والحق إن كلمة «أريد» يجب ألا ينطق بها أحد بعد! هكذا قال التنين.
فأية حاجة لكم أيها الإخوة بأسد العقل؟ أفما يكفيكم الحيوان القوي الجليل الممنع بامتناعه؟
من العبث أن تطمحوا إلى خلق سنن جديدة، إن الأسد نفسه ليعجز عن هذا الخلق؛ إذ لا يسعه إلا أن يستعد بتحرير نفسه لخلق جديد، لأن قوته لن تتجاوز هذا الحد.
أيها الإخوة، إن العمل الذي تحتاجون فيه إلى الأسد إنما هو تحرير أنفسكم والوقوف ببطولة الامتناع في وجه كل شيء حتى في وجه الواجب، ذلك أيها الإخوة هو العمل الذي تحتاجون إلى الأسد للقيام به.
إن الاستيلاء على حق إيجاد سنن جديدة يقضي بالجهاد العنيف على العقل الخشوع الصبور، ولا ريب أن في هذا الجهاد قسوة لا يتصف بها إلا الحيوانات المفترسة.
لقد كان العقل فيما مضى يتعشق كلمة «الواجب» كأنها أقدس حق له ، وقد أصبح عليه الآن أن يجد حتى في هذا الحق المفدى ما يحدو به إلى التعسف والتوهم، ليتمكن بإرهاق عشقه أن يستولي على حريته وليس غير الأسد من يقوم بهذا الجهاد.
ولكن ما هو العمل الذي يقدر عليه الطفل بعد أن عجز الأسد عنه؟ ولماذا يجب أن يتحول الأسد المكتسح إلى طفل؟
ذلك لأن الطفل طهر ونيسان؛ لأنه تجديد ولعب وعجلة تدور على ذاتها فهو حركة البداية وعقيدة مقدسة.
أجل أيها الإخوة إن العمل الإلهي للإبداع يستلزم عقيدة مقدسة، فإن العقل يطلب الآن إرادته، ومن فقد الدنيا يريد الآن أن يجد دنياه.
لقد ذكرت لكم تحولات العقل الثلاثة فأوضحت كيف استحال العقل جملا وكيف استحال أسدا وكيف استحال أخيرا إلى طفل.
هكذا قال زارا، وكان في ذلك الحين مقيما في مدينة اسمها البقرة العديدة الألوان.
منابر الفضيلة
وبلغ زارا خبر حكيم أطنب الناس في علمه ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبوه بالتكريم والتبجيل، واتبعه عدد من الشبان أصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب زارا وجلس معهم أمام المنبر مصغيا إلى الحكيم فكان يقول:
مجدوا الكرى وعظموه؛ لأن له المقام الأول وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق.
إن اللص ليقف خاشعا أمام الكرى فيدلج في الليل مخرسا وقع أقدامه، ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه.
ليس بالسهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى، وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه.
يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيئ المخدر لروحك.
عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار؛ لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فإن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك.
عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلا تضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة.
عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحا كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء.
قليل من يعرف هذا من الناس ، ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل، فإذا ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا هو اشتهى خادمة قريبه فقد حرم وسائل الهناء في نومه.
غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يندفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب.
إن من الفضائل من هي كالغانيات المتجنيات، فأقم بينهن حائلا كيلا ينتهين إلى عراك تكون أنت ضحيته.
ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنيء بدون هذا السلام، وسالم شيطان جارك أيضا لئلا يراودك في رقادك.
أكرم السلطة واخضع لها حتى ولو كانت هذا السلطة عرجاء. إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء.
وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة.
إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء.
لا أطلب كثيرا من المجد ولا وفيرا من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكن المرء لا ينام هنيئا ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال.
أفضل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عشراء السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه ألا يطيل السمر عندي لئلا يعكر صفو رقادي.
تسرني مجالسة البلهاء؛ لأنهم يجلبون النعاس، ولشد ما يغتبطون عندما نحبذ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.
على هذه الوتيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم، أما أنا فإنني إذا أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس؛ لأنه سيد الفضائل ولا يرتاح إلى تحرش الساهرين.
وتحت جنح الظلام أستعرض ما فكرت فيه وما فعلته في يومي، فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأسائلها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرات العشر التي أفعمت بها.
وبينما أكون مستغرقا تهزني الأربعون خاطرة، يستولي النعاس علي فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه.
يشغل النعاس جفني فتغمضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحا.
إنه يدلف إلي كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصبا كعمود من خشب ، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممددا على فراشي.
وبعد أن أصغى زارا إلى هذه الأقوال يقرع الحكيم بها الأسماع تملك ضحكه، وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاها قائلا: يتراءى لي أن هذا الحكيم قد جن كخواطره الأربعين.
ولكنه جد خبير بحالات الكرى، فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى ما وراء الجدران.
إن شيئا من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثا حول خطيب الفضائل.
إن قاعدة هذا الحكيم إنما هي: اسهروا لتناموا. وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها ووجب أن أختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت أجد أفضل من هذه القاعدة.
لقد أدركت الآن ما كان يطلب الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون على أوليات الفضائل، إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلى على مفرقها تاج المخدرات، وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، وقد نالوا الإعجاب والثناء، إلا قاعدة نوم لا تقلقه الأحلام. إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة.
وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقل إخلاصا منه، ولكن هذا الزمان لم يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عن قريب سيمددون.
طوبى لمن دب إلى عيونهم النعاس! إنهم عما قريب سيرقدون.
هكذا تكلم زارا ...
المأخوذون بالعالم الثاني
وترامى زارا يوما بخياله إلى ما وراء الإنسانية، فتراءى هذا العالم لديه كما يراه جميع المأخوذين بالعالم الثاني خليقة رب متألم مضطرب، فقال: رأيت الدنيا كأنها أحلام نائم أبدعت أبخرة حوالة متلونة ترتد عنها ألوهية النفس على غير رضى، وقد لاح لي الخير والشر والأفراح والأحزان، وذاتي وذات الآخرين كما تلوح الأبخرة الملونة لعين المبدع، ولعل المبدع أراد أن يتحول ببصيرته عن ذاته فأوجد العالم.
لا ينتشي المتألم بمسرة أشد من مسرته حينما يعرض عن آلامه وينسى نفسه، هكذا تكشف لي العالم يوما فرأيت مسرته ثملا ونسيانا ، وهو يتقلب أبدا في نقائصه معكسا للتناقض الأبدي.
نظرت إلى العالم يوما فلاح لي مسرة مسكرة يتمتع بها مبدع غير كامل خلقته أنا، فجاء ككل أعمال البشر جنة بشرية.
ما كان هذا الإله إلا إنسانا، بل جزءا من شخصية إنسان؛ لأنه نشأ من ترابي ومن لهبي، إنه لشبح من هذا العالم لا من وراء هذا العالم.
شهدت ذلك، أيها الإخوة، فتفوقت على ذاتي بآلامي، وحملت ترابي إلى الجبل حيث أوقدت نارا تشع نورا فإذا بالشبح يتوارى مبتعدا عني.
فإذا ما آمنت الآن بمثل هذا الشبح، فلا يكون إيماني إلا توجعا وصغارا، ذلك ما أقوله للمأخوذين بالعالم الثاني.
ما أوجدت العوالم الأخرى في هذا العالم سوى الآلام والشعور بالعجز، ذلك ما أوجدته تلك العوالم، فأوجدت معه هذا الجنون السريع الزوال بسعادة ما ذاقها من الناس إلا أشدهم آلاما.
إن المتعب الذي يطمح إلى اجتياز أبعد مدى بطفرة واحدة بطفرة قاتلة، وقد بلغت به مسكنته وجهالته حدا لا يستطيع عنده أن يريد، إنما هو نفسه مبدع جميع الآلهة وجميع العوالم الأخرى.
صدقوني، أيها الإخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجس بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.
صدقوني، أيها الإخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتا يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس؛ لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماء من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.
والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الإخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلا؟
أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعين قيم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه، وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة.
إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها بإخلاص، وكلما ازدادت تدربا ألهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.
لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأسا عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.
إنني أعلم الناس إرادة جديدة يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم، أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الأعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا من ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر، على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.
لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لم لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.
في ذلك الحين اخترعوا أوهامهم وكئوسهم الصغيرة المترعة بالدماء ... وحسب هؤلاء الناس في عقوقهم أنهم فازوا بالنعيم بعيدا عن جسدهم وعن الأرض، وتناسوا أن تنعمهم ورعشة ملذتهم إنما نشأت من جسدهم ومن هذه الأرض.
1
إن زارا ليشفق على الأعلاء فلا يغضب لما أوجدوه من وسائل السلوان ولا يتمرمر؛ لأنهم عقوا جسدهم وأرضهم، بل هو يرجو لهم الشفاء والتغلب على أنفسهم ليوجدوا لهم أجسادا أرقى من أجسادهم.
إن زارا لا يغضب أيضا على الناقه الذي يحن إلى وهمه فيذهب في منتصف الليل ليطوف بقبر إلهه، ولكنه لا يرى في دموع هذا الناقه إلا أثر المرض والجسم المريض.
لقد وجد في كل زمان كثير من المرضى المستغرقين المتشوهين فهم يكرهون إلى حد الهوس كل من يطلب المعرفة، ويكرهون أبسط الفضائل وهي فضيلة الإخلاص.
أنهم يلتفتون دائما إلى الوراء، إلى الأزمنة المظلمة؛ إذ كان للجنون وللإيمان حلتهما الخاصة، فكان الإله يتجلى في هوس العقل، وكانت كل ريبة خطيئة.
لقد عرفتهم جد المعرفة، أولئك المتجلين على صورة الله ومثاله فتيقنت أن جميع رغباتهم تتجه إلى أن يؤمن الناس بهم وأن يصبح كل شك فيهم خطيئة، وما فات مداركي ذلك الإيمان الذي يدعون رسوخه فيهم، فإنهم لا يؤمنون لا بالعوالم الأخرى ولا بقطرات الدماء تفتدي العالم، بل هم كسائر الناس يعتقدون بالجسد، ويرون أن أجسادهم نفسها هي الكائن الواجب الوجود.
غير أن هؤلاء الناس يرون الجسد كائنا معتلا، فيودون أن يبارحوا جلودهم وذلك ما يدفعهم إلى الإصغاء للمبشرين بالموت وما يهيب بهم إلى التبشير بالعوالم الأخرى.
أما أنتم، يا إخوتي، فأصغوا إلى صوت الجسد الذي أبل من دائه؛ لأن هذا الجسد يخاطبكم بصوت أنقى وأخلص من تلك الأصوات.
إن الجسد السليم يتكلم بكل إخلاص وبكل صفاء، فهو كالدعامة المربعة من الرأس حتى القدم وليس بيانه إلا إفصاحا عن معنى الأرض.
هكذا تكلم زارا ...
المستهزئون بالجسد
لأقولن للمستهزئين بالجسد كلمتي فيهم: إن واجبهم ألا يغيروا طرائق تعاليمهم، ولكن عليهم أيضا أن يودعوا أجسادهم فيستولي على ألسنتهم الخرس.
يقول الطفل: أنا جسد وروح، فلماذا لا يتكلم هؤلاء الناس كالأطفال؟ أما الإنسان الذي انتبه وأدرك ذاته فيقول: إنني بأسري جسد لا غير، وما الروح إلا كلمة أطلقت لتعيين جزء من هذا الجسد.
ما الجسد إلا مجموعة آلات مؤتلفة للعقل، ومظاهر متعددة لمعنى واحد. إن هو إلا ميدان حرب وسلام، فهو القطيع وهو الراعي.
إن آلة جسدك إنما هي أداة عقلك الذي تدعوه روحا، أيها الأخ، إن هو إلا أداة صغيرة وألعوبة صغيرة لعقلك العظيم.
إنك تقول: «أنا»، وتنتفخ غرورا بهذه الكلمة، غير أن هنالك ما هو أعظم منها، أشئت أن تصدق أم لم تشأ، وهو جسدك وأداة تفكيره العظمى، وهذا الجسد لا يتبجح بكلمة أنا لأنه هو «أنا»، هو مضمر الشخصية الظاهرة.
إن ما تتأثر الحواس به وما يدركه العقل لا نهاية له في ذاته، غير أن الحس والعقل يحاولان إقناعك بأن فيهما نهاية الأشياء جميعها، فما أشد غرورهما!
ما الحس والعقل إلا أدوات وألعوبة، والذات الحقيقية كامنة وراءهما مفتشة بعيون الحس ومصغية بآذان العقل.
إن الذات ما تبرح مفتشة مصغية، فهي تقابل وتستنتج، ثم تهدم متحكمة في الشخصية سائدة عليها، فإن وراء إحساسك وتفكيرك، يا أخي، يكمن سيد أعظم منهما سلطانا؛ لأنه الحكيم المجهول، وهذا الحكيم إنما هو الذات بعينها المستقرة في جسدك وهي جسدك بعينه أيضا.
2
إن في جسدك من العقل ما يفوق خير حكمة فيك، ومن له أن يعلم السبب الذي يجعل جسدك بحاجة إلى خير ما فيك من حكمة.
إن ذاتك تهزأ بشخصيتك وبألعابها قائلة: ما هي خطرات الفكر وتساميه إن لم تكن جنوحا إلى هدفي، أفلست أنا رائدة الشخصية وملهمة أفكارها؟
تقول الذات للشخصية: اشعري بألم، فتتألم وتفتكر بالتخلص من هذا الألم وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.
وتقول الذات للشخصية: اشعري بالسرور، فتسر وتفتكر بإطالة أمد هذا السرور، وقد تحتم عليها أن تتجه إلى هذه الغاية.
لي كلمة أقولها للمستهزئين بالجسد، وهي أن احتقارهم إنما هو في الحقيقة حرمة واعتبار؛ إذ من هو يا ترى موجد الاحترام والاحتقار والتقدير والإرادة؟
إن الذات المبدعة أوجدت لنفسها الاحترام والاحتقار كما أوجدت اللذة والألم، إن الجسم المبدع أوجد العقل لخدمته كساعد يتحرك بإرادته.
إنكم لتخدمون الذات الكامنة فيكم حتى في جنونكم وفي احتقاركم، وأنا أقول لكم أيها المستهزئون بالجسد إن ذاتكم نفسها تريد أن تموت، وقد تحولت عن الحياة؛ لأنها عجزت عن القيام بما كانت تطمح إليه، وما أقصى رغباتها إلا إبداع من يتفوق عليها ولقد مضى زمن تحقيق هذه الرغبة، لذلك تطمح ذاتكم إلى الزوال أيها المستهزئون بالأجساد.
إن ذاتكم أصبحت تتوق إلى الزوال، وهذا ما يدفع بكم إلى الاستهزاء بالأجساد؛ إذ قد امتنع عليكم أن تخلقوا من هو أفضل منكم.
إن هذا العجز قد ولد فيكم النقمة على الحياة والأرض، وها هي ذي تتجلى شهوة في لحظاتكم المنحرفة دون أن تعلموا.
إنني لا أسير على طريقكم أيها المستهزئون بالأجساد؛ لأنني لا أرى فيكم المعبر الذي يؤدي إلى مطلع الإنسان المتفوق.
هكذا تكلم زارا ...
الملذات والشهوات
إذا كان لك فضيلة يا أخي، وكانت هذه الفضيلة خاصة بك فإنك لا تشارك فيها أحدا سواك، ولا ريب في أنك تريد أن تدعوها باسمها وتداعبها لتتسلى بها، ولكنك بهذا أشركت بها الناس بما أطلقت عليها من تعريف، فأصبحت أنت وفضيلتك مندغمين في القطيع.
خير لك يا أخي أن تقول: إن ما تلذ به روحي وتتعذب به يتعالى عن الإيضاح، ويجل عن أن يسمى، وهذا العجز عن إدراكي له يخلق المجاعة في أحشائي.
لتكن فضيلتك أسمى من أن تستخف بالأشياء عند تحديدها، وإذا ما اقتحمت هذا التحديد، فلا تستحي من أن تتلفظ به تمتمة، فقل وأنت تتمتم: إن هذا هو خيري الذي أحب، إن هذا ما يثير إعجابي، فأنا لا أريد الخير إلا على هذه الصورة، لا أريد هذه الأشياء تبعا لإرادة رب من الأرباب ولا عملا بوصية أو ضرورة بشرية، فأنا لا أريد أن يكون لي دليل يهديني إلى عوالم عليا وجنات خلود ...
قل: ما أحب سوى فضيلة هذه الأرض، لأن ما فيها من الحكمة قليل، وأقل منه ما فيه من صواب متفق عليه، إن هذا الطير قد بنى عشه على مقربة مني، لذلك أحببته وعطفت عليه، وها هو ذا الآن يحتضن عندي بيضه الذهبي على هذه الوتيرة تكلم وأنت تتمتم ممتدحا فضيلتك.
لقد كان لك فيما مضى شهوات كنت تحسبها شرورا، أما الآن فليس فيك إلا الفضائل، وقد نشأت هذه الفضائل من شهواتك نفسها؛ لأنكم وضعت في هذه الشهوات أسمى مقاصدك فتحولت فيك إلى فضائل وملذات هي منك ولك، ولسوف ترى جميع شهواتك تستحيل إلى فضائل، ولسوف ترى كل شيطان فيك يستحيل ملاكا حتى ولو كنت ممن يستسلمون للغيظ والشهوات وكنت من فئة الحاقدين المتعصبين.
لقد كانت الكلاب المفترسة تسكن دهاليزك من قبل، فها هي ذي الآن أطيار مغردة، لقد استقطرت بلسما من سمومك وحلبت ناقة الأوصاب، وأنت الآن تكرع لذيذ درها.
لن يخلق منك شر بعد الآن، غير أن هناك شرا قد ينشأ من تخاصم فضائلك فاصغ إلي، يا أخي! إنك إذا شعرت بسعادة فما يكون ذلك إلا لفضيلة مستقرة فيك وهي تسهل اجتياز الصراط عليك.
إنها لمزية أن تكون للإنسان فضائل عديدة، غير أن تعدد الفضائل يرمي بالإنسان إلى أشقى الحظوظ، وكم من مجاهد أرهقه النزال في ساحات الفضائل فتوارى لينتحر في الصحراء.
إذا كنت ترى المعارك والحروب شرورا فاعلم يا أخي أنها شروط لا بد منها؛ لأن للحسد والريبة والشتيمة مقامها المحترم بين فضائلك نفسها، تبصر تر أن كلا من فضائلك تطمح إلى المقام الأسمى، وتطمع في الاستيلاء على جميع أفكارك لتستعبدها وتحصر بها وحدها كل ما في غضبك وبغضائك وحبك من قوة.
إن كلا من فضائلك تحسد الأخرى، والحسد هائل مريع يتناول الفضائل أيضا فيبيدها.
إن من يحيط به لهيب الحسد تنتهي به الحال إلى ما تنتهي العقرب إليه فيوجه حمته المسمومة إلى نحره.
أفما رأيت، يا أخي، من الفضائل من تشتم نفسها وتنتحر؟
ليس الإنسان إلا كائنا وجب عليه أن يتفوق على نفسه، لذلك حق عليك، يا أخي، أن تحب فضائلك لأنك بها ستفنى.
هكذا تكلم زارا ...
المجرم الشاحب
أفما تريدون أن تنزلوا القصاص، أيها القضاة والمضحون، ما لم يهز الحيوان رأسه؟ إليكم رأس المجرم الشاحب، إنها لترتعش، وها إن أفظع احتقار يتكلم في نظراته.
إن عيني المجرم تقولان لكم: ما الشخصية إلا شيء وجب علينا أن نتسامى فوقه، وما شخصيتي إلا عظيم احتقاري للبشر.
لقد انتهى أجل هذا المجرم عندما أصدر حكمه على نفسه، فلا تتركوا لتساميه سبيلا يندفع منه إلى الانحطاط. عاجلوه بالموت فهو المنفذ الوحيد لمن بلغ عذابه بنفسه هذا الحد البعيد.
ليكن قصاصكم، أيها القضاة، رحمة لا انتقاما، وإذا ما حكمتم بالموت فلتكن غايتكم تبرير الحياة. لا يكفيكم أن تقيموا السلم بينكم وبين من تقتلون، بل يجب أن يكون حزنكم تعبيرا عن ولهكم بالإنسان المتفوق، وهكذا تبررون الاستبقاء على أنفسكم.
قولوا إن هذا الرجل عدو، ولا تقولوا إنه سافل. صفوه بالمرض لا بالدناءة اعتبروه مختلا لا مجرما، وأنت أيها القاضي، لو أنك تعلن للملأ، وأنت في برودك الحمراء، ما ارتكبت من مآت في تفكيرك، لكنت تسمع الناس يهتفون قائلين: اخلعوا هذا الرجل عن كرسيه فهو ممتلئ أقذارا وسموما.
ولكن الفكرة شيء والعمل شيء آخر، كما أن شبح العمل شيء مستقل بنفسه أيضا، فليس بين هذه الأشياء الثلاثة أية علاقة يصح أن تعتبر علاقة العلة بالمعلول.
إن شبح الجريمة كان صورة لاحت لهذا الرجل فعلا وجه الاصفرار؛ لأنه عندما ارتكب جرمه كانت قوته على مستواها، ولكنه ما أتم الجرم حتى وهنت تلك القوة، فلم يستطع أن يتفرس في شبح جرمه.
لقد لاح لهذا الرجل أنه ارتكب فعلة واحدة لا غير، وبذلك يقوم جنونه لأن الشواذ تحول إلى قاعدة في كيانه. إن الدائرة التي يرسمها المجرم تصبح قيدا لتفكيره كالفرخة يرسم المنوم حولها دائرة فلا تستطيع اجتياز خطها، وهكذا لا يكاد المجرم يخرج من جرمه حتى يدخل في دائرة جنونه.
أصغوا إلي، أيها القضاة، إن الجنون الذي يتلو العمل إنما تقدمه جنون آخر قبله، وأنتم لم تسبروا روح المجرم إلى أقصاها.
إن القاضي الأحمر يتساءل عن سبب إقدام المجرم على القتل، فيقول في نفسه: إن القاتل أراد السرقة أولا، أما أنا فأقول: إن نفس المجرم لم تقصد السرقة بل طلبت إراقة الدماء؛ لأنها كانت ظامئة إلى إغماد النصل. إن عقلية المجرم لم تفهم هذا الجنون فاندفع إلى ارتكاب جرمه، وعقليته تناجيه قائلة: ما يهمك أن تريق الدماء ما دام جرمك يوصلك إلى السرقة أو الانتقام، لقد أصغى المجرم إلى صوت عقليته المسكينة؛ لأن ما أسرت به إليه كان ثقيلا كالرصاص، فسرق بعد أن قتل لأنه أراد أن يبرر جنونه ولا يخجل منه.
وعاد جرمه فثقل عليه كالرصاص أيضا، فثقل عقله المسكين فاستولى عليه التخدر والشلل، ولو أن هذا المجرم تمكن من أن ينتفض بهامته لكان تهاوى حمله الثقيل عنه، ولكن من كان سيهز له رأسه يا ترى؟
لو أنك أنعمت النظر في هذا الإنسان، لما تجلى لك إلا مجموعة علل تتطلع بالعقل إلى العالم الخارجي مفتشة عن غنيمة تظفر بها.
ليس هذا الإنسان إلا كتلة أفاع اشتبكت، وهي في تدافع مستمر لا تسكن إلا لتتفكك منسابة في شعاب الدنيا تسعى وراء غنائمها.
انظروا إلى هذا الجسم المسكين! إن روحه الضعيفة طمحت إلى استكناه ما في الجسم من ألم ورغبات، فخيل لها أنها متشوقة إلى القتل.
إن من يتسلط عليه هذا المرض في هذه الأيام لتباغته شرورها فيريد أن يعذب الآخرين بما يتعذب هو به، غير أنه قد مر زمان من قبل كان له خير وشر هما غير خير هذه الأيام وشرها. ذلك زمان كانت تحتسب فيه شكوك الإنسان ومطامعه جرائم عليه، فكان المبتلى بالشكوك والمطامع يعد ساخرا ومنشقا عن المجتمع فيعمد هو إلى تعذيب الآخرين بعذابه.
إنكم لا تريدون الإصغاء إلى أقوالي؛ إذ ترونها تلحق الضرر بالصالحين بينكم، ولكنني لا أقيم وزنا لرجالكم الصالحين.
إن في هؤلاء الرجال من تشمئز منه نفسي، وليس ما أكره فيهم ما يعد من الشرور، فإنني أتمنى لهم جنونا يوردهم الردى كجنون المجرم الشاحب.
والحق إنني أريد أن يدعى هذا الجنون حقيقة أو إخلاصا أو عدلا؛ لأن فضيلة هؤلاء الناس لا تقوم إلا على إطالة عمرهم لقضائه بالملذات السافلة ولا ملذة لهم إلا بالارتياح إلى نفوسهم والرضى عنها.
ما أنا إلا حاجز قائم على ضفة النهر، فمن له قدرة على التمسك بي فليفعل، ومن لا طاقة له على ذلك فلا يظن أني سأكون طوع يده يقبض علي كما يقبض الكسيح على عصاه.
هكذا تكلم زارا ...
القراءة والكتابة
إنني أستعرض جميع ما كتب، فلا تميل نفسي إلا إلى ما كتبه الإنسان بقطرات دمه. اكتب بدمك فتعلم حينئذ أن الدم روح، وليس بالسهل أن يفهم الإنسان دما غريبا، إنني أبغض كل قارئ كسول؛ لأن من يقرأ لا يخدم القراءة بشيء، وإذا مر قرن آخر على طغمة القارئين فلا بد من أن تتصاعد روائح النتن من التفكير.
إذا أعطي لكل إنسان الحق في أن يتعلم القراءة، فلن تفسد الكتابة مع مرور الزمان فحسب، بل إن الفكر نفسه سيفسد أيضا .
لقد كان الفكر فيما مضى إلها فتحول إلى رجل، وها هو ذا الآن كتلة من الغوغاء. إن من يكتب سورا بدمه لا يريد أن تتلى تلك السور تلاوة، بل يريد أن تستظهرها القلوب.
إن أقرب الطرق بين الجبال إنما هو الخط الممتد من ذروة إلى ذروة، ولا يمكنك أن تتبع هذا السبيل؛ إذ لم تكن لك رجلا مارد. يجب أن تكون التعاليم شامخة كهذه الذرى، وأن يكون لمن تلقن لهم قوة الجبابرة وعظمتهم.
لقد رق النسيم وصفا، وهذه المخاطر تحدق بي عن كثب، وفكرتي تتخطر مرحة في قسوتها، أمامي الصراط الممهد فلأتخذن من الجن أتباعا، أنا رب الجسارة والعزم، ومن توصل بأقدامه إلى طرد الأشباح لا يصعب عليه أن يخلق من الجن له أتباعا.
لقد تاقت شجاعتي إلى الضحك، وقد انقطع كل حبل بيني وبينكم. إن السحب المتمخضة بالعواصف لهي سحبكم السوداء الثقيلة وأنا أهزأ الآن بها.
إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما تحت أقدامي، فهل فيكم من يمكنه أن يضحك وهو واقف على الذرى؟
من يحوم فوق أعالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة، ويستهزئ بمسارحها، بل بالحياة نفسها.
تريدنا الحكمة شجعانا لا نبالي بشيء، تريدنا أشداء مستهزئين؛ لأن الحكمة أنثى، ولا تحب الأنثى إلا الرجل المكافح الصلب.
تقولون لي إن الحياة وقر ثقيل، فقولوا لي أيضا لماذا تقابلون الصباح بغروركم، ثم يجيء المساء فلا يجد فيكم إلا المذلة والخضوع؟
إن الحياة جد ثقيلة، ولكن ما هذا الخور الذي يبدو عليكم؟ أفلسنا كلنا دوابا ولكل دابة منا وقرها؟ وهل من شبه بيننا وبين برعم الورد يرتجف متضايقا لسقوط قطرة الندى عليه!
لا ريب أننا نحب الحياة، وليس سبب ذلك لأننا تعودنا الحياة، بل السبب أننا تعودنا حب الحياة.
إن في الحب شيئا من الجنون، ولكن في الجنون شيئا من الحكمة، وأنا نفسي التائق إلى الحياة يتراءى لي أن خير من يدرك السعادة إنما هي الفراشات وكرات الصابون الفارغة ، ومن يشبهها من الناس، ولا شيء يبكي زارا ويدفعه إلى الإنشاد كنظره إلى هذه الأزواج الصغيرة الخفيفة الرائعة الدائمة الخفقان في جنونها.
إن الإله الذي يمكنني أن أومن به إنما هو الإله الذي يمكنه أن يرقص.
عندما تراءى لي الشيطان رأيته جامدا مستغرقا ملؤه الجد والجلال، فقلت هذا هو الروح الثقيل الذي تتساوى جميع الحالات لديه.
إذا أردت القتل فلا تستعن بالغضب، بل استعن بالضحك. فهيا بنا نقتل الروح الثقيل.
إنني ما زلت راكضا منذ تعلمت المشي، وهأنذا أطير الآن ولست بحاجة إلى من يدفعني لأتحرك.
لقد أصبحت خفيفا، فأنا أطير مشعرا بأنني أحلق فوق ذاتي، وأن إلها يرقص في داخلي.
هكذا تكلم زارا ...
دوحة الجبل
وارتقى زارا ذات مساء الربوة المشرفة على مدينة «البقرة الملونة» فالتقى هنالك فتى كان يلحظ فيما مضى صدوده عنه، وكان هذا الفتى جالسا إلى جذع دوحة يرسل إلى الوادي نظرات ملؤها الأسى، فتقدم زارا وطوق الدوحة بذراعيه وقال: لو أنني أردت هز هذه الدوحة بيدي لما تمكنت، غير أن الريح الخفية عن أعيننا تهزها وتلويها كما تشاء. هكذا نحن تلوينا وتهزنا أياد لا ترى.
فنهض الفتى مذعورا وقال: هذا زارا يتكلم! وقد كنت موجها أفكاري إليه، فقال زارا: ما يخيفك يا هذا؟ أليس للإنسان وللدوحة حالة واحدة؟ فكلما سما الإنسان إلى الأعالي، إلى مطالع النور تذهب أصوله غائرة في أعماق الأرض، في الظلمات والمهاوي.
فصاح الفتى: أجل! إننا نغور في الشرور، ولكن كيف تسنى لك أن تكشف خفايا نفسي؟
فابتسم زارا وقال: إن من النفوس من لا نتوصل إلى اكتشافها إلا باختراعها اختراعا.
وعاد الفتى يكرر قوله: أجل إننا نغور في الشرور. قلت حقا يا زارا، لقد تلاشت ثقتي بنفسي منذ بدأت بالطموح إلى الارتقاء فحرمت أيضا ثقة الناس، فما هو السبب يا ترى؟ إنني أتحول بسرعة فيدحض حاضري ما مضى من أيامي، ولكم حلقت فوق المدارج أتخطاها وهي الآن لا تغتفر لي إهمالي، إنني عندما أبلغ الذروة أراني دائما منفردا وليس قربي من يكلمني ، ويلفحني القر في وحدتي فترتجف عظامي، وما أدري ماذا أتيت أطلب فوق الذرى!
إن احتقاري يساير رغباتي في نموها، فكلما ازددت ارتفاعا زاد احتقاري للمرتفعين فلا أدري ما هم في الذرى يقصدون، ولكم أخجلني سلوكي متعثرا على المرتقى، ولكم هزأت بتهدج أنفاسي. إنني أكره المنتفضين للطيران، فما أتعب الوقوف على الذرى العالية!
ونظر زارا إلى الدوحة يتكئ الفتى عليها ساكتا فقال: إن هذه الدوحة ترتفع منفردة على القمة وقد نمت وتعالت فوق الناس وفوق الحيوانات، فإذا هي أرادت أن تتكلم الآن بعد بلوغها هذا العلو فلن يفهم أقوالها أحد. إنها انتظرت ولم تزل تتعلل بالصبر، ولعلها وقد بلغت مسارح السحاب تتوقع انقضاض أول صاعقة عليها.
فهتف الفتى متحمسا: نطقت بالحق يا زارا، إنني اتجهت إلى الأعماق وأنا أطلب الاعتلاء، وما أنت إلا الصاعقة التي توقعتها. تفرس في، وانظر إلى ما آلت إليه حالتي منذ تجليت لنا، فما أنا إلا ضحية الحسد الذي استولى علي.
وكانت الدموع تنهمر من مآقي الفتى وهو يتكلم، فتأبط زارا ذراعه وسار به على الطريق، وبعد أن قطعا مسافة منها قال زارا: لقد تفطر قلبي، إن في عينيك ما يفصح بأكثر من بيانك عما تقتحم من الأخطار. إنك لما تتحرر يا أخي، بل ما زلت تسعى إلى الحرية، وقد أصبحت في بحثك عنها مرهف الحس كالسائر في منامه.
إنك تريد الصعود مطلقا من كل قيد نحو الذرى، فقد اشتاقت روحك إلى مسارح النجوم، ولكن غرائزك السيئة نفسها تشتاق الحرية أيضا.
إن كلابك العقورة تطلب حريتها، فهي تنبح مرحة في سراديبها، على حين أن عقلك يطمح إلى تحطيم أبواب سجونك كلها، وما أراك بالطليق الحر فأنت لم تزل سجينا يتوق إلى حريته، وأمثال هذا السجين تتصف أرواحهم بالحزم غير أنها تصبح وا أسفاه مراوغة شريرة.
على من حرر عقله أن يتطهر مما تبقى فيه من عادة كبت العواطف والتلطخ بالأقذار؛ لتصبح نظراته براقة صافية. إنني لا أجهل الخطر المحدق بك؛ لذلك أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألا تطرح عنك ما فيك من حب ومن أمل.
إنك لم تزل تشعر بالكرامة ولم يزل الناس يرونك كريما بالرغم من كرههم لك وتوجيههم نظرات السوء إليك. فاعلم أن الناس لا يبالون بالكرماء يمرون بهم على الطريق، غير أن أهل الصلاح يهتمون بهم، فإذا ما صادفوا في سبيلهم من يتشح الكرامة دعوه رجلا صالحا؛ ليتمكنوا من القبض عليه لاستعباده.
إن الرجل الكريم يريد أن يبدع شيئا جديدا وفضيلة جديدة، على حين أن الرجل الصالح لا يحن إلا إلى الأشياء القديمة، وجل رغبته تتجه إلى الإبقاء عليها.
لا خطر على الرجل الكريم من أن ينقلب رجل صلاح، بل كل الخطر عليه في أن يصبح وقحا هداما.
لقد عرفت من الناس كراما دلت طلائعهم على أنهم سيبلغون أسمى الأماني، فما لبثوا حتى هزءوا بكل أمنية سامية، فعاشوا تسير الوقاحة أمامهم، وتموت رغباتهم قبل أن تظهر فما أعلنوا في صبيحتهم خطة إلا شهدوا فشلها في المساء.
قال هؤلاء الناس: ما الفكرة إلا شهوة كغيرها من الشهوات.
وهكذا طوت الفكرة فيهم جناحيها فتحطما، وبقيت هي تزحف زحفا وتدنس جميع ما تتصل به.
لقد فكر هؤلاء الناس من قبل أن يصيروا أبطالا، فما تسنى لهم إلا أن يصبحوا متنعمين، يحزنهم شبح البطولة ويلقي الخوف في روعهم.
أستحلفك بحبي لك وأملي فيك ألا تدفع عنك البطل الكامن في نفسك؛ إذ عليك أن تحقق أسمى أمانيك.
هكذا تكلم زارا ...
المنذرون بالموت
ما أكثر المنذرين بالموت! والعالم مليء بمن تجب دعوتهم إلى الإعراض عن الحياة.
إن الأرض مكتظة بالدخلاء وقد أفسدوا الحياة، فما أجدرهم بأن تستهويهم الحياة الأبدية ليخرجوا من هذه الدنيا.
لقد وصف المنذرون بالموت بالرجال الصفر والسود، ولسوف أصفهم أنا فينكشفون عن ألوان أخرى أيضا.
إنهم لأشد الناس خطرا؛ إذ كمن الحيوان المفترس فيهم، فغدوا ولا خيار لهم إلا بين حالتين؛ حالة التحرق بالشهوة وحالة كبتها بالتعذيب، وما شهوتهم إلا التعذيب بعينه. إن هؤلاء المسوخ لم يبلغوا مرتبة الإنسانية بعد، فليبشروا بكره الحياة، وليقلعوا عن مرابعها .
هؤلاء هم المصابون بسل الروح، فإنهم لا يكادون يولدون للحياة حتى يبدأ موتهم، وقد شاقتهم مبادئ الزهد والملال.
يود هؤلاء الناس أن يدرجوا في عداد الأموات، فعلينا أن نحبذ إرادتهم، ولنحترس من أن نعمل على بعث هؤلاء الأموات وعلى تشويه هذه النعوش المتحركة.
إذا هم صادفوا مريضا أو شيخا أو جثة ميت، فإنهم يقولون: لقد انتفت الحياة. ولو أنصفوا لقالوا إنهم هم نفي للحياة، وإن عيونهم دحض لها لأنها لا تتجه إلا إلى مظهر واحد من مظاهر الوجود.
هم يتلفعون برداء وسيع من الأسى ويتشوقون إلى الحوادث التي تجر وراءها الموت، ولكنهم يتوقعون الموت وأسنانهم تصطك فرقا، غير أنهم في الوقت نفسه يمدون أيديهم إلى ما لذ وطاب هازئين، فكأن الحياة قشة يهزءون بها ولكنهم يحرصون عليها. إن حكمة هؤلاء الناس تهتف قائلة: «الحياة جنون، أفظع منه التمسك بالحياة، وقد بلغ الجنون بنا هذا الحد الفظيع.»
يقولون إن الحياة آلام، إنهم يقولون حقا، فلماذا لا يضعون حدا لهذه الحياة إن لم يكن فيها سوى العذاب؟ تلك تعاليم ترمي إلى وجوب الانتحار، فيقول البعض وهو يدعو إلى الموت: إن الملاذ الجنسية خطيئة فيجب الامتناع عنها والإضراب عن التوليد. ويقول البعض الآخر: إن الولادة مؤلمة، فعلام تلد النساء وهن لا يقذفن إلى الوجود إلا بالأشقياء؟ وهذه الفئة هي أيضا من المنذرين بالفناء.
وتقول لك فئة أخرى: إن الرحمة لازمة فخذ ما نملك، بل خذ ما تتكون شخصيتنا منه، فإن فعلت فإنك تقطع من الأسلاك التي تشد بنا إلى الحياة. ولو أن رحمة هذه الفئة من الناس تتغلغل في صميم ذاتهم لكانوا يبذلون الجهد في سبيل دفع سواهم إلى كره الحياة. ليستمر هؤلاء الناس على ما هم عليه؛ لأن رحمتهم الحقيقية كامنة في إيقاع الأذى.
إن ما يقصد هؤلاء الناس إنما هو التملص من تكاليف البقاء فلا يهمهم إن هم ألقوا بأغلالهم على الآخرين.
وأنتم أيضا، أيها المتحملون من الدنيا همومها وجهودها المرهقة، أفما تعبتم من الحياة؟ أفما أنضجت المحن نفوسكم لتقوم هي أيضا منذرة بالموت؟
أنتم يا من تحبون الأعمال الوحشية، وكل حادث يمتعكم بكل جديد وغريب سريع الزوال! لقد ضقتم ذرعا بأنفسكم، فما تتهالكون في العمل إلا تهربا من الحياة وطلبا للاستغراق؛ لتصلوا بذاتكم إلى نسيان ذاتها، ولو كنتم أشد إيمانا بالحياة لما كنتم تستسلمون هذا الاستسلام الكامل لحاضركم، لقد خلت سرائركم من القوة اللازمة للانتظار، بل خلت مما يستلزم كسلكم نفسه من جلد.
إن صوت المنذرين بالموت يدوي في كل مكان، والعالم مكتظ بمن وجبت دعوتهم إلى الموت أو بالحري إلى الحياة الأبدية، ولا فرق عندي بين ذاك وهذه إذا كان هؤلاء الناس يسارعون إلى إخلاء الأرض.
هكذا تكلم زارا ...
الحرب والمحاربون
لا نريد أن يراعينا خيرة أعدائنا، كما لا نريد أيضا أن يراعينا من نحبهم من صميم الفؤاد.
دعوني أعلن لكم الحقيقة.
إنني أحبكم من صميم الفؤاد، أيها الرفاق في المعارك، فما أنا الآن إلا، كما كنت في الأمس، جندي مثلكم، فأنا إذن من خيار أعدائكم. دعوني أعلن الحقيقة لكم.
إنني عارف ما في قلوبكم من حقد وحسد، فأنتم من العظمة بحيث لا يمكنكم أن تتجاهلوا الحقد والحسد، فلتكن عظمتكم رادعة لكم عن الخجل بما في قلوبكم، وإذا امتنع عليكم أن تكونوا أولياء في معرفة الحق فكونوا على الأقل جنودا يكافحون من أجل هذه المعرفة، وما المكافحون إلا طليعة الأولياء.
لقد كثر عدد الجنود فليتني أرى مثل هذا العدد من المحاربين، وعسى ألا تكون سرائرهم على طراز واحد كالألبسة التي يرتدونها.
لتكن أنظاركم منطلقة تفتش على عدو لكم، وقد لاحت في لمعاتها بوادر البغضاء. عليكم أن تجدوا العدو لتصلوا معه حربا تناضلون فيها من أجل أفكاركم، حتى إذا سقطت هذه الأفكار في المعترك، ينتصب إخلاصكم هاتفا بالظفر.
أحبوا السلام كوسيلة لتجديد الحروب، وخير السلام ما قصرت مدته. إنني لا أشير عليكم بالسلم، بل بالظفر، فليكن عملكم كفاحا وليكن سلمكم ظفرا.
لا اطمئنان في الراحة إذا لم تكن السهام مسددة على أقواسها، وما راحة الأعزل إلا مدعاة للثرثرة والجدال، فليكن سلمكم ظفرا ...
تقولون إن الغاية المثلى تبرر الحرب، أما أنا فأقول لكم إن الحرب المثلى تبرر كل غاية، فقد أتت الحروب والإقدام بعظائم لم تأت بمثلها محبة الناس، وما أنقذ الضحايا حتى الآن إلا إقدامكم لا إشفاقكم.
إنكم تتساءلون عن الخير، وما الخير إلا الاتصاف بالشجاعة، فدعوا صغيرات الأطفال يقلن: «إن الخير في اللطف والجمال.»
يقولون أن لا قلوب لكم، ذلك لأن قلوبكم تنبض بالإخلاص، وأنا أحب تواضعكم وإخلاصكم. إنكم تستحون لأن أمواجكم تندفع في مدها، وسواكم يخجل من تراجعها في جزرها.
إن قبحكم مريع، فتدثروا به أيها الإخوة؛ لأن في دثار القبح ما ليس في سواه من الروعة والبهاء.
إن النفس لتقف صاخبة عندما تعتلي، والقسوة كامنة في اعتلائكم، فما خفيت حالكم عني، ففي ميدان القسوة يلتقي الشديد العزم بمنهوك القوى فلا يمكنهما أن يتفاهما. إنني أعرف من أنتم.
إذا ظفرتم بعدو فصبوا عليه بغضكم، وحاذروا أن تصبوا عليه احتقاركم، فما عدوكم إلا مدعاة مباهاتكم، فإذا عملتم بوصيتي يصبح انتصاره انتصارا لكم أيضا.
إن الثورة مفخرة للعبيد، فليكن افتخاركم أنتم قائما على طاعتكم، وليكن أمر الآمر فيكم جزءا من هذه الطاعة نفسها. إن المحارب الصادق يفضل ما يجب عليه على ما يريده. فعليكم أن توجهوا ما تؤمرون به إلى هدف رغباتكم، وليكن حبكم للحياة تعبيرا عن أسمى أمانيكم، ولتكن هذه الأماني عبارة عن أرفع فكرة في الحياة. وما أرفع فكرة لكم، وأنا أستميحكم إبداءها لكم كأمر، إلا هذه القاعدة: «ما الإنسان إلا كائن يجب أن نتفوق عليه.»
على هذا الوجه تمر حياتكم بالطاعة والجهاد، فما يهمكم أطالت الحياة أم قصرت فليس من محارب يطلب أن يعامل بالمراعاة.
لقد قلت لكم الحق بلا محاباة؛ لأنني أحبكم من صميم الفؤاد، أيها الإخوة في السلاح.
هكذا تكلم زارا ...
الصنم الجديد
لم يزل في بعض الأماكن من الأرض شعوب وجامعات، أما نحن فليس عندنا سوى حكومات وما أدراكم ما هي الحكومات؟
أعيروني أسماعكم لأخاطبكم عن موت الشعوب: ليست الحكومة إلا أبرد مسخ بين المسوخ الباردة، فهي تكذب بكل رصانة؛ إذ تقول: «أنا الحكومة أنا الشعب.»
إياكم وتصديق ما تقول، فما كون الشعوب إلا المبدعون الذين نشروا الإيمان والمحبة، فأتوا بأجل خدمة للحياة، وما الناصبون الأشراك للجموع الغفيرة إلا من يهدمون كيانها؛ ليشيدوا الحكومات على أنقاضها، ويعلقوا نصلا قاطعا فوق رأس الشعب، وينصبوا مئات الشهوات أمام عينه.
إن الشعب، حيث بقي له مرتع على الأرض، لا يفهم ما هي الحكومة، بل هو ينفر منها كما ينفر من العين الساحرة، ويراها شذوذا هادما للشرائع والتقاليد، وإليكم الدليل: إن لكل شعب بيانه عن الخير والشر، وجيرة هذا الشعب لا تفهم هذا البيان الذي أوجده لنفسه محددا به شرائعه وتقاليده، على حين أن الحكومة تكذب في جميع تعابيرها عن الخير والشر، فليس ما تقوله إلا كذبا، وليس ما تملكه إلا نتاج سرقتها واختلاسها.
إن كل ما للحكومة مزيف، فهي تنهش بأسنان مستعارة، وأحشاؤها مختلقة اختلاقا، وما شعارها إلا: «البيان المبهم المشوش عن الخير والشر» فهي تتجه به نحو الفناء، وتقوم بنشره بدعوة صريحة للمنذرين بالموت.
إن عدد من يدخلون الدنيا قد تجاوز الحد، وما أوجدت الحكومة إلا لخدمة الفضوليين الدخلاء على الحياة. انظروا إلى هذه الحكومة كيف تجتذب إليها الدخلاء فتضمهم إلى صدرها وتشبعهم عناقا وتقبيلا. اسمعوها تهدر قائلة: ليس أعظم مني على وجه الغبراء، فأنا يد الألوهية المنظمة.
وعندما تهتف هذا الهتاف، تتهاوى الركاب جاثية، وبين الراكعين كثير من غير طوال الآذان وقصار النظر.
إن هذه الأكاذيب تجد مصدقين لها، وا أسفاه، حتى بينكم أنتم، يا من تجول فيكم النفوس الأبية؛ لأن الحكومة تعرف أن تدغدغ قلوبكم الطافحة بالمكارم الطامحة إلى الجود، إنها لتخترق سرائركم، أنتم أيضا، يا من تغلبتم على الألوهية القديمة، فهي تعرف أنكم تعبتم من الكفاح فتستخدم ملالكم لعبادة الصنم الجديد.
إنه لصنم يتمنى أن يحيط به الأبطال وفضلاء الرجال، إنه لمسخ بارد يريد أن يدفأ بشمس الضمائر المشعة المشرقة.
إنه ليمنحكم كل شيء إذا أنتم سجدتم له. فهذا الصنم الجديد يشتري لمعان فضائلكم وما في لفتاتكم من عزة وكرامة. إنه في حاجة إليكم؛ ليجتذب إليه العدد الفائض من الدخلاء على الحياة، فهنالك البرج الجهنمي، وهنالك جياد الموت تفرقع بعددها حاملة شارات المراتب والأمجاد، أجل ذلك هو اختراع الموت أتى به للجموع ليحصدها حصدا وهو يباهي بأنه هو الحياة، والمنذرون بالموت يرون بفعلته خير خدمة لمبادئهم.
حيث يكرع الجميع السموم ويضيع كل إنسان نفسه صالحا كان أو طالحا، هنالك تقوم الحكومة؛ لأنها تسود كل مكان يوصف فيه الانتحار البطيء بالحياة.
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. إنهم يختلسون ثمرة جهود المخترعين وكنوز الحكماء ويدعون هذا الاختلاس تمدنا، غير أن كل شيء يصبح أدواء ومصاعب تحت سلطانهم. انظروا إلى هؤلاء الدخلاء وليس فيهم إلا الأعلاء ينفثون غسلين مرائرهم، وينتحلون صفة الصحافيين ... إنهم يتناهشون ويلتهم بعضهم البعض الآخر، وليس لهم قوة على هضم ما يلتهمون.
انظروا إلى هؤلاء الدخلاء. إنهم يحشدون الأموال، وكلما ازدادت ذخائرهم زاد فقرهم، فإنهم يطمحون إلى الاستيلاء على القوة فيبدءون بالقبض على محركها الأول: على الأموال الطائلة، وما هم إلا الدخلاء العاجزون.
انظروا إليهم! انظروا إلى هؤلاء القرود يتسلق بعضهم البعض الآخر فيتدافعون متمرغين في الأوحال على الشفير. إن كلا منهم يطمح إلى التقرب من العرش، وقد عراهم جنون التوصل إليه، فكأن لا سعادة إلا على مقربة منه، وقد يرتفع رشاش الأوحال إلى العرش كما ينزلق العرش نفسه إلى الأوحال.
3
إنني أراهم وقد جن جنونهم؛ قرودا لا تسكن لهم حركة وهم يتسلقون قاعدة صنمهم البارد وقد انبعثت منه ومنهم أكره الروائح وأخبثها.
أفيحلو لكم، أيها الإخوة، أن يخنقكم ما يتبخر من أشواق هؤلاء المسوخ؟ حطموا النوافذ واقفزوا منها لتنجوا بأنفسكم.
حاذروا هذه الأبخرة الخانقة، وابتعدوا عن عبادة الأصنام فإنها دين الدخلاء على الحياة. حاذروا هذه الأبخرة وأعرضوا عن هذه الضحايا البشرية.
لم يزل حتى الآن مجال تسعى في رحبه النفوس الكبيرة نحو الحرية في الحياة، ولم تخل الأرض من أماكن يلجأ إليها المنعزل منفردا أو مزدوجا حيث تهب نسمات البحر الهادئة. فإن الحياة الحرة لم تزل تفتح أبوابها لكبار النفوس، والحق أن من يملك القليل من حطام الدنيا لا يناله إلا اليسير من تحكم المتسلطين. فطوبى لصغار الفقراء!
لا يظهر الإنسان الأصيل في الحياة إلا حيث تنتهي حدود الحكومات، فهنالك يتعالى نشيد الضرورة بنغماته المحررة من كل مطاوعة وتقييد.
هنالك عند آخر حدود الحكومات، قفوا وتطلعوا، يا إخوتي، أفما ترون تحت قوس قزح المعبر الذي يجتازه الإنسان المتفوق؟
هكذا تكلم زارا ...
حشرات المجتمع
سارع إلى عزلتك، يا صديقي، فقد أورثك الصداع صخب عظماء الرجال، وآلمتك وخزات صغارهم، إن جلال الصمت يسود الغاب والصخور أمامك، فعد كما كنت شبيها بالدوحة التي تحب، الدوحة الوارفة الظل المشرفة على البحر مصغية في صمتها إلى هديره.
على أطراف حقول العزلة تبدأ حدود الميادين حيث يصخب كبار الممثلين ويطن الذباب المسموم. لا قيمة لخير الأشياء في العالم إن لم يكن لها من يمثلها، والشعب يدعو ممثليه رجالا عظاما، إنه يسيء فهم العظمة المبدعة، فيبتدع من نفسه المعاني التي يجمل بها ممثليه والقائمين بالأدوار الكبرى على مسرح الحياة.
إن العالم يدور دورته الخفية حول موجدي السنن الجديدة. وحول لاعبي الأدوار على مسرح الحياة يدور الشعب وتدور الأمجاد، وعلى هذه الوتيرة يسير العالم.
إن للاعب الأدوار ذكاءه، ولكنه لا يدرك حقيقة هذا الذكاء؛ لانصباب عقيدته إلى كل طريقة توصله لخير النتائج وإلى كل أمر يدفع بالناس إلى وضع ثقتهم به.
غدا سيعتنق هذا الرجل عقيدة جديدة، وبعد غد سيستبدل بها أجد منها، ففكرته تشبه الشعب تذبذبا وتوقدا وتقلبا.
إن ممثل الشعب يرى بالتحطيم برهانه، وبإيقاد النار حجته، وبإراقة الدماء أفضل حجة وأقوى دليل. إنه ليعتبر هباء كل حقيقة لا تسمعها إلا الآذان المرهفة، فهو عبد الآلهة الصاخبة في الحياة.
إن ميدان الجماهير يغص بالغوغاء المهرجين، والشعب يفاخر بعظماء رجاله فهم أسياد الساعة في نظره، ولكن الساعة تتطلب السرعة من هؤلاء الأسياد، فهم يزاحمونك، يا أخي، طالبين منك إعلان رفضك أو قبولك، والويل لك إذا وقفت حائرا بين «نعم» وبين «لا ».
وإذا كنت عاشقا للحقيقة فلا يغرنك أصحاب العقول الرعناء المتصلبة، وما كانت الحقيقة لتستند يوما إلى ذراع أحد هؤلاء المتصلبين.
دع المشاغبين وارجع إلى مقرك، فما ميدان الجماهير إلا معترك يهدد سلامتك بين خنوع «نعم» وتمرد «لا». إن تجمع المياه في الينابيع لا يتم إلا ببطء، وقد تمر أزمان قبل أن تدرك المجاري ما استقر في أغوارها.
لا تقوم عظمة إلا بعيدا عن ميدان الجماهير وبعيدا عن الأمجاد، وقد انتحى الأماكن القصية عنها من أبدعوا السنن الجديدة في كل زمان.
اهرب، يا صديقي، إلى عزلتك. لقد طالت إقامتك قرب الصعاليك والأدنياء، لا تقف حيث يصيبك انتقامهم الدساس وقد أصبح كل همهم أن ينتقموا منك.
لا ترفع يدك عليهم فإن عددهم لا يحصى، وما قدر عليك أن تكون صيادا للحشرات. إنهم لصغار أدنياء ولكنهم كثرة، ولكم أسقطت قطرات المطر وطفيليات الأعشاب من صروح شامخات. ما أنت بالصخرة الصلدة، ولشد ما فعلت بك القطرات، ولسوف يتوالى ارتشاقها عليك فتصدعك وتحطمك تحطيما.
لقد أرهقتك الحشرات السامة فخدشت جلدك وأسالت منه الدماء، وأنت تتحصن بكبرك لتكظم غيظك، وهي تود لو أنها تمتص كل دمك معتبرة أن من حقها أن تفعل؛ لأن دمها الضعيف يطلب دما ليتقوى، فهي لا ترى جناحا عليها؛ إذ تنشب حمتها في جلدك. إن هذه الجروح الصغيرة لتذهب بالألم إلى مدى بعيد في حسك المرهف، فتتدفق صديدا يرتعيه الدود. أراك تتعالى عن أن تمد يدك لقتل هذه الحشرات الجائعة، فحاذر أن يجول سم استبدادها في دمك.
إن هؤلاء المشاغبين يدورون حولك بطنين الذباب، فهم يرفعون أناشيدهم تزلفا إليك ليتحكموا في جلدك ودمك. إنهم يتوسلون إليك ويداهنونك كما يداهنون الآلهة والشياطين، فيحتالون عليك بالملاطفة والثناء، وما يحتال غير الجبناء.
إنهم يفكرون بك كثيرا في سرهم فيلقون الشكوك عليك، وكل من يفكر الناس به كثيرا تحوم حوله الشبهات.
إنهم يعاقبونك على كل فضيلة فيك، ولا يغتفرون لك من صميم فؤادهم إلا ما ترتكب من أخطاء. إنك لكريم وعادل؛ لذلك تقول في قلبك: «إن هؤلاء الناس أبرياء وقد ضاقت عليهم الحياة.» ولكن نفوسهم الضيقة تقول في نجواها: «إن كل حياة عظيمة إنما هي حياة مجرمة.» ويشعر هؤلاء الناس بأنك تحتقرهم عندما تشملهم بعطفك، فيبادلونك عطفك بالسيئات. إنك لتصدعهم بفضيلتك الصامتة فلا يفرحون إلا عندما يتناهى تواضعك فيستحيل غرورا. إن الناس يطمحون بالطبع إلى إلهاب كل عاطفة تبدو لهم، فاحذر الصعاليك؛ لأنهم يحسون بصغارهم أمامك فيتحمسون حتى ينقلب إحساسهم كرها وانتقاما.
أفما شعرت أنهم يخرسون عندما تطلع عليهم، فتبارحهم قواهم كما يبرح الدخان النار إذا همدت.
أجل يا صديقي، ما أنت إلا تبكيت في ضمائر أبناء جلدتك؛ لأنهم ليسوا أهلا لك، فهم لذلك يكرهونك ويودون امتصاص دمك.
إن أبناء جلدتك لن يبرحوا كالحشرات المسمومة؛ لأن العظمة فيك ستزيد أبدا في كرههم لك.
إلى عزلتك، يا صديقي، إلى الأعالي حيث تهب رصينات الرياح، فإنك لم تخلق لتكون صيادا للحشرات.
هكذا تكلم زارا ...
العفة
أحب الغاب، فما تسهل حياة المدن علي وقد كثر فيها عبيد الشهوات الثائرات.
لخير أن يقع الرجل بين براثن سفاح من أن تحدق به أشواق امرأة جامحة ملتهبة.
إنك إذا ما تفرست في رجال المدن، لتشهد لك نظراتهم بأنهم لا يرون في الأرض شيئا يفضل مضاجعة امرأة ...
في أغوار أرواحهم ترسب الأقذار، وأشقاهم من تمرغ عقله بأقذاره.
ليتك حيوان اكتملت حيوانيته على الأقل، ولكن أين منك طهارة الحيوان؟ ما أنا بالمشير عليك بقتل حواسك، إن ما أوجبه إنما هو طهارة هذه الحواس.
ما أنا بالمشير عليك بالعفة؛ لأنها إذا كانت فضيلة في البعض فإنها لتكاد تكون رذيلة في الآخرين، ولعل هؤلاء يمسكون عن التمتع، غير أن شبقهم يتجلى في كل حركة من حركاتهم.
إن كلاب الشهوة تتبع هؤلاء الممسكين حتى إلى ذرى فضيلتهم فتنفذ إلى أعماق تفكيرهم الصارم لتشوش عليه سكينته، ولكلاب الشهوة من مرونة الزلفى ما تتوسل به إلى نيل قطعة من الدماغ المفكر إذا منعت قطعة اللحم عنها ...
إنكم تحبون المآسي وكل ما يفطر القلوب، أما أنا فلا أثق بكلاب شهواتكم ؛ لأن نظراتكم الرصينة تمتلئ شهوة عندما تقع على المتألمين، وقد تنكر الشبق فيكم فدعوتموه إشفاقا، وإني لأضرب لكم مثلا على هذا حالة العدد الوفير ممن أرادوا طرد الشياطين فدخلوا هم في الخنازير بدلا منها.
إذا ما ثقلت العفة على أحد منكم فعليه أن يعرض عنها كيلا تنبسط أمامه سبيلا إلى الجحيم، جحيم أقذار النفس ونيرانها.
لعلكم ترون بذاءة في كلامي، أما أنا فأرى البذاءة حيث لا ترونها أنتم.
ليست البذاءة في قذارة الحقيقة، بل هي في تدنيها وإسفافها، وطالب المعرفة يأنف من الانحدار إلى مهاويها.
إن من الناس من دخلت العفة قلوبهم فلانت هذه القلوب لها. أولئك هم الضاحكون وفي ابتسامهم ما ليس في ابتسامكم من إخلاص. إنهم يهزءون بالعفة ويتساءلون عما يمكن أن تكون.
أفليست العفة غرورا؟ أفليست هي التي جاءت إلينا ولم نذهب نحن إليها؟
لقد فتحنا قلبنا لها فاستقرت ضيفا ثقيلا فيه، فليبق هذا الضيف نازلا فينا ما طاب له المقيل.
هكذا تكلم زارا ...
الصديق
يقول المنفرد في نفسه: «لا أطيق وجود أحد بقربي.» ولكثرة ما يقف محدقا في ذاته تظهر التثنية فيه، ويقوم الجدال بين شخصيته وبين ذاته فيشعر بالحاجة إلى صديق، وما الصديق للمنفرد إلا شخص ثالث يحول دون سقوط المتجادلين إلى الأغوار كما تمنع المنطقة المفرغة غرق العائمين.
إن أغوار المنفرد بعيدة القرار، فهو بحاجة إلى صديق له أنجاده العالية، فثقة الإنسان في غيره تقوده إلى ثقته بنفسه، وتشوقه إلى الصديق ينهض أفكاره من كبواتها.
كثيرا ما يقود الحب إلى التغلب على الحسد، وكثيرا ما يطلب الإنسان الأعداء ليستر ضعفه ويتأكد إمكانه مهاجمة الآخرين.
من يطمح إلى اكتساب الصديق وجب عليه أن يستعد للكفاح من أجله، ولا يصلح للكفاح إلا من يمكنه أن يكون عدوا. يجب على المرء أن يحترم عداءه في صديقه؛ إذ لا يمكن لك أن تقترب من قلب صديقك إلا حين تهاجمه وتحارب شخصيته.
أنت تريد الظهور أمام صديقك على ما أنت عليه هاتكا كل ستر عن خفايا نفسك، فلا تعجب إذا رأيت صديقك يعرض عنك ويقذف بك إلى بعيد.
من لا يعرف المصافعة يدفع بالناس إلى الثورة عليه، فاحذر العري، يا هذا، لأنك لست إلها، والآلهة دون سواهم يخجلون من الاستتار.
عليك بارتداء خير لباس أمام صديقك، لتهيب به إلى طلب المثل الأعلى: الإنسان المتفوق.
أفما تفرست يوما في وجه صديقك وهو نائم لترى حقيقته؟ أفما رأيت ملامحه إذ ذاك كأنها ملامحك أنت منعكسة على مرآة مبرقعة معيبة؟ أفما ذعرت لمنظر صديقك وهو مستسلم للكرى؟
ما الإنسان، أيها الرفيق، إلا كائن وجب عليه أن يتفوق على ذاته، وعلى الصديق أن يكون كشافا صامتا، فأمسك عن النظر علنا إلى كل شيء ما دمت قادرا في غفلتك على كشف كل ما يفعله صديقك في انتباهه. عليك أن تحل الرموز قبل أن تعلن إشفاقك، فقد ينفر صديقك من الإشفاق ويفضل أن يراك مقنعا بالحديد وفي عينيك لمعان الخلود.
ليكن عطفك على صديقك متشحا بالقسوة وفيه شيء من الحقد، فيبدو هذا العطف مليئا بالرقة والظرف.
كن لصديقك كالهواء الطلق والعزلة والغذاء والدواء، فإن من الناس من يعجز عن التحرر من قيوده ولكنه قادر على تحرير أصدقائه.
دع الصداقة إذا كنت عبدا، وإذا كنت عاتيا فلا تطمح إلى اكتساب الأصدقاء.
لقد مرت أحقاب طويلة على المرأة كانت فيها مستبدة أو مستعبدة فهي لم تزل غير أهل للصداقة، فالمرأة لا تعرف غير الحب.
إن حب المرأة ينطوي على تعسف وعماية تجاه من لا تحب، وإذا ما اشتعل بالحب قلبها فإن أنواره معرضة أبدا لخطف البروق في الظلام ...
لم تبلغ المرأة بعد ما يؤهلها للوفاء كصديقة، فما هي إلا هرة، وقد تكون عصفورا، وإذا هي ارتقت أصبحت بقرة ...
ليست المرأة أهلا للصداقة، ولكن ليقل لي الرجال من هو أهل للصداقة بينهم؟ إن فقر روحكم وخساستها يستحقان اللعنة أيها الرجال؛ لأن ما تبذلونه لأصدقائكم يمكنني أن أبذله لأعدائي دون أن أزداد فقرا.
إنكم لا تتخذون إلا الأصحاب، فأي متى تسود الصداقة بينكم؟
ألف هدف وهدف
لقد شاهد زارا كثيرا من البلدان وكثيرا من الشعوب، فنفذ إلى حقيقة الخير والشر، وعرف أن لا قوة في العالم تفوق قوتهما.
تحقق أن ليس على الأرض من شعب تحلو له الحياة دون أن يخضع النظم والسنن لتقديره، وأن كل شعب يرى من واجبه، إذا أراد الحياة، أن يجيء بتقدير يختلف عن تقدير من يجاوره من الشعوب، وهكذا كان ما يراه أحدها خيرا يراه الآخر دناءة وعارا.
ذلك ما عرفته، فكم من عمل اتشح العيب في بلد، رأيته مجللا بالشرف والفخر في بلد آخر.
لم أر جارا تمكن من إدراك حقيقة جاره، بل رأيت كلا منهما يعجب لجنون الآخر وقسوته.
لقد علق كل شعب فوق رأسه لوح شريعته، وسطر عليه ما اجتاز من عقبات وما تضمر إرادته من عزم، فما تراءى له صعب المنال فهو موضوع تمجيده، وما خيره إلا حاجة ملحة عز مطلبها، فهو يقدس كل وسيلة تمكنه من الظفر بهذه الحاجة.
إن كل ما يوطد الحكم لهذا الشعب، وكل ما ينيله النصر والمجد ويلقي الرعب في روع جاره مثيرا حسده إنما هو في نظره ذو المكانة الأولى، وما احتل المقام الأول في اعتباره يصبح مقياسا لجميع أموره ومعنى لجميع ما يحيط به، فإذا ما تمكنت من الاطلاع على حاجات أي شعب، وخبرت أرضه وجوه وحالة جاره، فإنك لتدرك النواميس التي تتحكم فيه وتحفزه إلى المجالدة للغلبة على أهوائه، ولتعرف السبب في اختياره مراقيه الخاصة يتدرج عليها لبلوغ أمانيه. «عليك أن تكون سباقا مجليا في كل مضمار، فلتتلفع نفسك بغيرتها كيلا تبذل الولاء إلا للصديق.»
إنها لكلمات إذا وقعت في أذن يوناني ترتعش نفسه لها؛ فيندفع إلى اقتحام الصعاب طلبا للمجد. «قل الحق، وكن ماهرا في تفويق سهامك من قوسك.»
إنها لوصية صعبت وعزت على الشعب الذي اقتبست اسمي منه، وفي هذا الاسم من المصاعب قدر ما فيه من أمجاد. «أكرم أباك وأمك، ولتكن بارا بهما من صميم قلبك.»
وهذه الوصية القائمة على إرغام النفس قد عمل بها شعب آخر؛ فبلغ القوة وأصبح خالدا. «كن أمينا وابذل للأمانة دمك وشرفك حتى ولو كان جهادك في سبيل ما يضير وما يورد المهالك.»
وهذه أيضا وصية عمل بها شعب آخر، فتغلب على ذاته وأصبح عظيما تثقله الأماني الجسام.
لقد أقام الناس الخير والشر، فابتدعوهما لأنفسهم، وما اكتشفوهما ولا أنزلا عليهم بهاتف من السماء.
لقد وضع الإنسان للأمور أقدارها ليحافظ على نفسه، فهو الذي أوجد للأشياء معانيها الإنسانية.
ما التقدير إلا الإيجاد بعينه، فأصغوا إلي أيها الموجدون.
ما الكنوز والجواهر إلا أشياء أرادها تقديركم جواهر وكنوزا، فما القيمة إلا اعتبار، ولولا التقدير لما كان الوجود إلا قشورا لا نواة فيها. اسمعوا أيها الموجدون: إن قيمة الأشياء تتغير تبعا لتحول اعتبار الموجد، ولا بد لهذا الموجد من أن يهدم في كل حين.
لقد كانت الشعوب تتولى الإيجاد في البدء حتى ظهر الأفراد الموجدون، فما الفرد في الواقع إلا أحدث هيئات الوجود.
لقد أقامت الشعوب لنفسها قدما شريعة خيرها، وما نشأت هذه الشريعة إلا باتفاق المحبة التي طمحت إلى السيادة، والمحبة التي رضيت بالامتثال.
إن هوى المجموع أقدم من أهواء الفرد، وإذا كان خير الضمائر ما يكمن في المجموع، فإن شرها ما يتجلى في الفرد المعلن شخصيته.
والحق أن الشخصية المراوغة التي لا محبة فيها، الشخصية التي ترمي إلى الاستفادة من خير الأكثرية، إنما هي عنوان انحطاط المجموع لا مبدأ كيانه.
ما خلق الخير والشر في كل عصر إلا المتهوسون المبدعون، وما أضرم نارهما إلا عاطفة الحب وعاطفة الغضب باسم الفضائل جمعاء!
لقد شاهد زارا كثيرا من الشعوب والبلدان فما رأى قوة على الأرض تفوق قوة المتهوسين، والقوة معنى لكلمتي الخير والشر.
ما أشبه ما يستدعي التمجيد ويستوجب العقاب بالمسخ الهائل، فمن له بسحق هذا المسخ، أيها الإخوة؟ من سيشد بالأغلال على ما يتلع هذا الحيوان من آلاف الأعناق؟
لقد بلغت الأهداف الألف عدا؛ إذ بلغ عدد الشعوب ألفا، فنحن بحاجة إلى قيد واحد لألف عنق؛ لأننا بحاجة إلى هدف واحد، فالبشرية لم تعرف حتى اليوم لها هدفا ، ولكن إذا كانت الإنسانية تسير ولا غاية لها، أفليس ذلك لقصورها وضلالها؟
هكذا تكلم زارا ...
محبة القريب
إنكم لتعطفون على القريب، وتعبرون عن عطفكم بتزويق الكلام، أما أنا فأقول لكم إن محبتكم للقريب إن هي إلا أنانية مضللة.
إنكم تلجأون للقريب هربا من أنفسكم، وتريدون أن تعدوا هذا العمل فضيلة، وهل يخفى علي كنه تجردكم هذا؟
إن المخاطب أقدم من المتكلم؛ فالأول مقدس أما الثاني فلم يقدس بعد. ذلك هو السبب في عطف الإنسان على قريبه.
إن ما أشير به عليكم هو أن تنفروا من القريب لا أن تحبوه، وذلك لتتمكنوا من محبة الإنسان البعيد، فإن ما فوق محبة القريب محبة الإنسان البعيد المنتظر، وإني أضع فوق محبة الإنسان محبة الأشياء والأشباح.
إن الشبح الذي يعدو أمامك، يا صديقي، لهو أجمل منك، فلم لا تعيره لحمك وعظمك؟
لقد استولى الخوف عليكم فلذلك تفزعون إلى القريب، لا قبل لكم باحتمال أنفسكم وما حبكم بالحب الكامل؛ لذلك أراكم تطمحون إلى إغواء قريبكم لتتمتعوا بضلاله.
أتمنى أن تنفروا من جميع فئات الأقربين، ومن جيرتهم أيضا لتضطروا إلى إيجاد الصديق الذي يطفح قلبه بالإخلاص. إنكم لتدعون شهودا عندما تريدون أن تغدقوا الثناء على أنفسكم، وإذا ما توصلتم إلى تضليلهم ليحسنوا الظن بكم تبدءون حينئذ بإحسان الظن بأنفسكم.
ما من أحد يرتكب الكذب إلا إذا تكلم ضد ضميره، فأصدق الناس من لا ضمير له يحول دون قوله الصدق. على هذه القاعدة تتكلمون عن أنفسكم بين الناس لتضللوهم في حقيقتكم.
يقول المجنون في نفسه: «إن مخالطة الناس تفسد الأخلاق، بل هي تفسد بخاصة من لا خلاق لهم.»
إن منكم من يهرع إلى جاره ليفتش عن نفسه، ومنكم من يذهب إليه لينساها. إنكم تسيئون محبة أنفسكم؛ لذلك يصبح انفرادكم بمثابة سجن لكم.
إن الغائبين يؤدون ثمن حبكم للقريب؛ لأن خمسة يجتمعون منكم يقضون دائما على السادس الغائب.
إنني لا أحب أعيادكم؛ إذ رأيتها مليئة بالممثلين، ورأيت النظارة أبرع منهم تمثيلا.
لا أدعوكم إلى محبة القريب، بل أدعوكم إلى محبة الصديق، فليكن الصديق لكم مظهر حبور الأرض، فتحسون بما ينبئكم بالإنسان المتفوق.
أوصيكم بالصديق يطفح قلبه إخلاصا، غير أن من يطمح إلى الظفر بمثل هذا القلب يجب عليه أن يكون كالإسفنجة قادرا على تشرب السائل المتدفق. أوصيكم بالصديق الذي يحمل عالما في نفسه، فهو الصديق المبدع الذي يسعه أن يقدم لكم هذا العالم في كل حين، فيعرض عليكم ما مر به من عبر الحياة، فتشهدون كيف يتحول الشر إلى خير، وكيف تنتهي الصدف بكم إلى غاياتكم.
ليكن المستقبل والمقاصد البعيدة ما تصبو إليه في يومك، فتحب في صديقك الإنسان المتفوق، وتضعه نصب عينيك كغاية لوجودك.
لا أشير عليكم بمحبة القريب، أيها الإخوة، بل بمحبة الآتي البعيد.
هكذا تكلم زارا ...
طرق المبدع
أتقصد العزلة يا أخي لتجد الطريق التي توصلك إلى مكمن ذاتك؟ إذن، فقف قليلا في تردد واصغ إلي: لقد قال القطيع: «من فتش فقد تاه، ومن انعزل فما أمن العثار.»
وأنت قد عشت طويلا بين هذا القطيع، ولسوف يدوي صوته مليا في داخلك، فإذا قلت له: لقد تغير ضميري جانحا عن ضميرك، فلن تكن إلا شاكيا متألما.
إن اشتراكك بالشعور مع القطيع قد أورثك هذا الألم، وآخر وهج من هذا الضمير المشترك لا يزال يلهب فجيعتك فيجددها، ولكنك ترغب في اتباع هاتف آلامك؛ لأنه يقودك إلى التوغل في ذاتك، فأين برهانك على حقك في المضي إليها وعلى أنك قادر على هذا السفر، أفأنت قوة جديدة وحق جديد؟ أأنت حركة ابتداء؟ أأنت عجلة تدور على ذاتها؟ أبوسعك أن تجعل النجوم تدور حولك؟
لكم من طموح يتحفز نحو الأعالي، ولكم من طمع يرتعش في أمانيه، فأثبت لي أنك لست من الطامحين الطامعين.
إن كثيرا من ساميات الأفكار لا تعمل إلا عمل الأكر المنتفخة، فلا تكاد تتضخم حتى يحكمها الضمور.
إنك تدعو نفسك حرا، فقل لي ما هي الفكرة التي تقيمها مبدأ لك، ولا تكتف بقولك إنك خلعت نيرك، فهل كنت يا ترى ذا حق بخلعه؟ إن من الناس من يفقدون آخر مزية لهم إذا هم انعتقوا من عبوديتهم.
لا يهم زارا أن تقول له من أية عبودية تحررت، فلتعلن له نظراتك الصافية الغاية التي تحررت من أجلها.
هل بوسعك أن تسن لنفسك خيرها وشرها فترفع إرادتك شريعة تسود أعمالك، أبوسعك أن تكون قاضيا على نفسك وأن تكون منتقما منها لشريعتك؟ إنه لأمر مريع أن يبقى الإنسان منفردا مع من أقامة قاضيا على نفسه ومنتقما منها بالشريعة التي أوجدها. إن مثل هذا الإنسان ليذهب في الفضاء ذهاب الكوكب مقذوفا إلى فراغ الوحدة وصقيعها.
إنك وقد أصبحت منفردا لا تزال تتألم من المجتمع؛ لأنك لم تطرح شجاعتك ولم يزل للأمل مرتع فيك، غير أنك ستتعب من انفرادك يوما؛ إذ تلين قناتك وينحطم غرورك فلا تتمالك من الهتاف قائلا إنني أصبحت وحيدا فريدا.
سيأتي يوم تحتجب فيه عظمتك عنك فيلتصق صغارك فيك حتى لترتجف فرقا من تساميك نفسه؛ إذ يبدو أمامك كشبح مرعب فتصرخ قائلا: «كل شيء باطل.»
إن في المنفرد عواطف تطمح إلى القضاء عليه، فإن لم تنل منه نالت من نفسها وانتحرت، فهل أنت مستعد لارتكاب جريمة القتل؟
أتعرف، يا أخي، معنى كلمة الاحتقار، وما ستكون آلامك إذا أنت أردت العدل واضطررت إلى الاقتصاص ممن يحتقرونك؟
إنك تكره الكثيرين على تغيير اعتقادهم فيك، فتثير حفيظتهم عليك، لقد اقتربت منهم ثم تجاوزتهم، فهم لذلك لن يغتفروا لك.
لقد تفوقت عليهم، فكلما اعتليت فوقهم ازددت صغارا في أعين الحاسدين، وما كره الناس أحدا كرههم للمحلق فوق السحاب.
لقد وجب عليك أن تقول للناس: إنني اخترت ظلمكم نصيبا حق لي منكم لذلك عز إنصافي عليكم. إن الناس يرشقون المنفرد بالمظالم والمثالب، ولكنك إذا كنت تريد أن تصبح كوكبا فعليك أن ترسل أنوارك حتى إلى الراشقين.
واحترس بخاصة من أهل الصلاح والعدل؛ لأنهم يتوقون إلى صلب من يوجد فضيلة لنفسه. إنهم يكرهون المنفرد.
واحترس أيضا من السذاجة المتقية؛ لأنها ترى الكفر في كل إنسان لا يلتصق بها، وقد كان الساذجون في كل مكان يتوقون إلى إيقاد النار واللعب بها.
كن على حذر من التطرف في حبك، فإن المنفرد يمد يده متسرعا لمصافحة من يلتقي في طريقه. إن من الناس من يجب عليك ألا تمد إليهم يدا، بل مخلبا ناشبا.
غير أن أشد من تصادف من الأعداء خطرا إنما هو أنت، وما يترصدك في المغاور والغابات إلا نفسك.
لقد تبينت الطريق الذي يقودك إلى ذاتك، أيها المنفرد، وطريقك منبسط أمامك وأمام شياطينك السبعة، فستصبح منذ الآن جاحدا لنفسك، ساحرا مجنونا مشككا كافرا شديدا. فيجب عليك أن ترضى بالاحتراق بلهبك؛ إذ لا يمكنك أن تتجدد ما لم تشتعل حتى تصبح رمادا.
إنك تتبع طريق الخالق، أيها المنفرد، فأنت تفتش على إله لك تقيمه من شياطينك السبعة. إنك تتبع طريق العاشق، أيها المنفرد، وقد عشقت نفسك، فأنت لذلك تحتقرها احتقار العاشقين.
يريد العاشق أن يبتدع لأنه يحتقر، وما له أن يدعي الحب إذا كان لم يبدأ باحتقار المحبوب.
توغل في عزلتك يا أخي. سر فلا رفيق لك إلا حبك وإبداعك. إنك ستسير طويلا قبل أن تقفو العدالة أثرك متثاقلة متعارجة.
اذهب إلى عزلتك فإنني أشيعك بدموعي يا أخي؛ لأنني أحب من يتفانى ليوجد في فنائه من يتفوق عليه.
هكذا تكلم زارا ...
الشيخة والفتاة
لماذا تدلج مختفيا في الغسق يا زارا؟ وما هو الذي تخفيه بكل احتراس تحت ردائك؟ أكنز وهبته أم طفل رزقته؟ وإلى أين تتجه على طريق اللصوص يا صديق الأشرار؟
فأجاب زارا: والحق يا أخي، إن ما أحمل هو كنز وهبته، فهو حقيقة صغيرة طائشة كالطفل، ولولا أنني كممت فمها لصاحت بملء شدقيها.
بينما كنت أسير اليوم منفردا في طريقي عند الغروب، التقيت بشيخة ناجتني قائلة: لقد كلمنا زارا مرارا نحن النساء، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة.
قلت لها: يجب ألا يتكلم الرجل عن النساء إلا للرجال.
فقالت: لك أن تتكلم أمامي عن النساء؛ لأنني بلغت من العمر أرذله، فلن تستقر أقوالك في ذهني.
وقبلت رجاء المرأة العجوز فقلت لها: كل ما في المرأة لغز، وليس لهذا اللغز إلا مفتاح واحد وهو كلمة «الحبل».
ليس الرجل للمرأة إلا وسيلة، أما غايتها فهي الولد، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى؟ إن الرجل الحقيقي يطلب أمرين: المخاطرة واللعب، وذلك ما يدعوه إلى طلب المرأة، فهي أخطر الألعاب.
خلق الرجل للحرب، وخلقت المرأة ليسكن الرجل إليها، وما عدا ذلك فجنون، ولا يحب المحارب الثمرة إذا تناهت حلاوتها، فهو لذلك يتوق إلى المرأة لأنه يستطعم المرارة في أشد النساء حلاوة.
تفهم المرأة الطفل بأكثر مما يفهمه الرجل، غير أن الرجل أقرب إلى خلق الطفل من المرأة، ففي كل رجل حقيقي يحتجب طفل يتوق إلى اللعب، فلتعمل النساء على اكتشاف الطفل في الرجل.
لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع فيها فضائل العالم المنتظر.
ليتوهج الكوكب السني في حبك أيتها المرأة، وليهتف شوقك قائلا: لأضعن للعالم الإنسان المتفوق. ليكن في حبك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل في قلبك. ضعي شرفك في حبك، وما تعرف المرأة من الشرف إلا يسيرا، غير أن الشرف في حبك هو الخلق الذي يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها فلا تنحدرين إلى المقام الثاني.
ليحذر الرجل المرأة عندما يستولي الحب عليها، فهي تضحي بكل شيء في سبيل حبها؛ إذ تضمحل في نظرها قيم الأشياء كلها تجاه قيمته، ليحذر الرجل المرأة عندما تساورها البغضاء؛ لأنه إذا كان قلب الرجل مكمنا للقسوة، فقلب المرأة مكمن للشر.
إلى من توجه المرأة أشد بغضائها؟
والجواب في قول الحديد للقوة الجاذبة: إن أشد كرهي موجه إليك لأنك تجتذبين وليس فيك من طاقة تربط على ما تجتذبين.
إن سعادة الرجل تابعة لإرادته، أما سعادة المرأة فمتوقفة على إرادة الرجل.
تقول المرأة وقد استسلمت لحبها العميم: لقد اكتمل العالم.
ولا بد لها أن تخضع وأن ترى أعماقا على سطحها؛ لأن روح المرأة سطحية فهي صفحة ماء متماوجة تداعبها الرياح، في حين أن روح الرجل أعماق تزمجر أمواجها في المغاور السحيقة القرار، وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها .
عندئذ قالت العجوز: لقد تكلم زارا عن أشياء طريفة أجدر بسماعها من النساء من لم يزلن في مقتبل العمر، ومن الغريب أن ينطق زارا بالحق عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلا، أفتكون إصابته ناشئة عن أن ليس في حالة المرأة شيء ممتنع.
والآن أصغ إلي يا زارا، فإنني سأعلن لك حقيقة صغيرة مكافأة على ما قلت، وكبر سني يجيز لي أن أعلنها لك، فاسترعها وأطبق شفتيك عليها لئلا يتعالى صراخها من فمك.
فقلت هاتها، هذه الحقيقة الصغيرة أيتها المرأة. وهذا ما قالت العجوز: إذا ما ذهبت إلى النساء فلا تنس السوط.
هكذا تكلم زارا ...
لسعة الأفعى
واستسلم زارا للكرى يوما تحت شجرة التين، وكان الحر شديدا فستر وجهه بساعده فأتت أفعى ولسعته في عنقه؛ فصرخ متألما وانتفض محدقا بها فعرفت عينيه وتململت لتنصرف، فقال لها زارا: «لا تذهبي قبل أن أقدم لك شكري؛ لأنك نبهتني في الزمن المناسب لأقوم بسفر بعيد.»
فأجابت الأفعى وفي صوتها غنة الأسى: بل سفرك قريب فزعافي قاتل.
وابتسم زارا وقال: وهل لزعاف الأفعى أن يقتل تنينا؟ خذي سمك، إنني أعيده إليك فلست من الغنى على ما يسمح لك بتقديمه هدية لي.
وسارعت الأفعى إلى الالتفاف حول عنق زارا تلحس جرحه.
وقص زارا هذه الحادثة يوما على أتباعه فقالوا له: وما هو المغزى الأدبي لهذه القصة، فأجاب: إن أهل الصلاح والعدل يدعونني هداما للمبادئ الأدبية فقصتي لا تتفق وهذه المبادئ.
إذا كان لكم عدو فلا تقابلوا شره بالخير؛ لأنه يستصغر بذلك نفسه، بل أكدوا له أنه أحسن بعمله إليكم، والأجدر بكم ألا تحتقروا أحدا، تظاهروا بالغضب، وإذا وجهت اللعنة إليكم، فلا يسرني أن تمنحوا البركة، إن ما يسرني هو ألا تأبوا اللعن أنتم أيضا، وإذا ما أنزلت بكم مظلمة كبيرة فبادلوا المعتدي مثلها، وأرفقوها بخمس مظالم صغرى؛ لأنه ما من مشهد أشد قبحا من مشهد من لا يخضع إلا للظلم.
إن اقتسام المظالم بالتساوي إنما هو مساواة بالحق، فهل كنتم تعرفون هذا من قبل؟ من يقدر على إرهاق الناس بظلمه فعليه أن يحتمل هو الظلم أيضا.
لئن ينتقم الإنسان قليلا فذلك أدنى إلى المعروف، وليس من الإنسانية أن يترفع المظلوم عن الانتقام. إنني لأنفر من اقتصاصكم إذا لم يكن عبارة عن حق تؤدونه للمعتدي، فإن من يسند الخطأ إلى نفسه لأنبل ممن يعلنون في كل آن أن الحق في جانبهم، وأخص من هؤلاء من كانوا حقيقة على صواب. إن أغنياء الروح لا يفعلون هذا.
إنني أكره عدالتكم الباردة، فإن في عيون قضاتكم ازورار الجلاد ولمعان سيفه، فأين العدالة تلمح في عينيها الصفاء. أوجدوا لي الحب الذي لا يكتفي بحمل كل أنواع العقاب، بل يحمل أيضا جميع الخطايا.
أوجدوا لي العدل الذي يبرئ الجميع ليحكم على الإنسان الذي يدين.
أتريدون أن أذهب إلى أبعد مما قلت فأعلن لكم أن الكذب نفسه يصبح محبة للإنسانية في نفس من يتوق إلى إقامة العدل؟
ولكن هل بوسعي أن أقيم العدل بكل إخلاص؟ وكيف يمكني أن أتوصل إلى إعطاء كل ذي حق حقه؟ إذن، لأكتفين بأن أعطي أصحاب الحق حقي الخاص.
وأخيرا، حاذروا ظلم المنفرد؛ إذ ليس بوسعه أن ينسى وأن يبادل الظالمين ظلما، وما المنفرد إلا بئر عميقة يسهل على من يشاء أن يلقي فيها حجرا، ولكن من يقدر أن يستخرج هذا الحجر إذا بلغ قعر البئر السحيق؟
احترسوا من إهانة المنفرد، وإذا أنتم حقرتموه فأجهزوا عليه بقتله.
هكذا تكلم زارا ...
الطفل والزواج
لي سؤال أخصك به لأسبر أعماق روحك يا أخي: أنت في مقتبل العمر وتتمنى أن يكون لك زوجة وولد، ولكن قل لي هل أنت الرجل الذي يحق له هذا التمني؟ أأنت الظافر المنتصر على نفسه، الحاكم على حواسه، السائد على فضائله؟ أم أن تمنيك هذا ليس إلا شهوة حيوان أو خشية منفرد أو اضطراب من قام النزاع بينه وبين نفسه؟
إن ما أريده منك هو أن تتوق بانتصارك وحريتك إلى التجدد بالولد؛ إذ عليك أن تقيم الأنصاب إلى ما فوق مستواك، وهل بوسعك أن تفعل إذا لم تكن متين البنية من رأسك إلى أخمص قدميك؟
ليس عليك أن ترسل سلالتك إلى الأمام فحسب، بل عليك بخاصة أن ترفعها إلى ما فوق. فليكن عملك في حقل الزواج منصبا إلى هذه الغاية.
عليك أن توجد جسدا جوهره أنقى من جوهر جسدك؛ ليكون حركة أولى وعجلة تدور لنفسها على محورها، فواجبك إذن إنما هو إبداع من يبدع.
ما الزواج في عرفي إلا اتحاد إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علة وجوده، فالزواج حرمة متبادلة ترسو على احترام هذه الإرادة.
ليكن هذا معنى زواجك وحقيقته، أما ما يدعوه الدخلاء الأغبياء زواجا فأمر أحار في تعريفه، فما هو إلا مسكنة روحية يتقاسمها اثنان، ودنس يتمرغ به اثنان، ولذة بائسة تتحكم في اثنين، ولكن الدخلاء يرون في مثل هذا الزواج رباطا عقدته السماء.
وما أنا بالمرتضي بمثل هذه السماء، سماء الدخلاء أطبقت شباكها عليهم، تبا لها، وسحقا لمثل هذا الإله الذي يتقدم متراجعا ليبارك اثنين لم يجمع هو بينهما.
لا يضحكنكم هذا الزواج، فكم من طفل من حقه أن يبكي على أبويه!
رأيت رجلا وقورا فحسبته بالغا من النضوج ما يدرك به معنى الأرض، ولكنني رأيت امرأته بعد ذلك فلاحت لي الأرض كأنها مأوى المجانين، أود لو تميد الأرض بي عندما أرى رجلا فاضلا يتخذ له زوجة حمقاء.
من الناس من يتجرد كالأبطال سعيا وراء الحقائق، فلا يلبث حتى يصطاد رباطا مزيفا يدعوه زواجا. ومنهم من اشتهر بحذره في علاقاته وبصرامته في اختياره، فإذا هو بين ليلة وضحاها قد أفسد حياته ووقف يدعو هذا الإفساد زواجا. ومنهم أيضا من كان يفتش عن خادمة لها فضائل الملائكة، فإذا هو ينقلب فجأة خادما لامرأة وقد حق عليه أن يتصف هو بالفضائل الملائكية.
فتشت في كل مكان فما رأيت إلا مشترين يقلبون السلع وعيونهم تتدفق مكرا، ولكن أمكر هؤلاء الناس لا يتوصل في آخر الأمر إلا إلى ابتياع هرة يدسها في جلبابه.
إن ما تدعونه عشقا إنما هو جنون يتتالى نوبة بعد نوبة حتى يجيء زواجكم خاتما هذه الحماقات بالحماقة المستقرة الكبرى. ويا ليت حب الرجل للمرأة وحب المرأة للرجل كانا إشفاقا يتبادله إلهان يتألمان، ولكن هذا الحب لا يتجلى في الغالب إلا تفاهما بين إحساس حيوانين. وما خير الحب لو تعلمون إلا تحول واضطرام في ألم وخشوع، إن هو إلا المشعل ينير أمامكم مسالك الاعتلاء، وسيأتي يوم يتجه فيه حبكم إلى مقر أبعد وأرفع من مستقر ذاتكم، لقد بدأتم بتعلم الحب؛ لذلك ترتشفون الآن المرارة الطافية كالحبب على كأسه.
إن في كأس كل حب إطلاقا، وحتى في كأس أرقى حب مرارة لا بد لكم من تجرعها، وهذه المرارة هي التي تنبه فيكم الشوق إلى الإنسان المتفوق وتلهب فيكم الظمأ إليه، أيها المبدعون، إذا كان هذا الظمأ هو الذي يدفع بك إلى طلب الزواج يا أخي، وإذا كنت تشعر بشوقك يندفع كالسهم نحو الإنسان المتفوق، فإنني أقدس إرادتك وأقدس زواجك.
هكذا تكلم زارا ...
تخير الموت
كثير من يتأخرون في موتهم، وكثير من يبكرون، فإذا قال قائل للناس بالموت في الزمن المناسب؛ رفعوا عقيرتهم مستغربين، وزارا يعلم الناس أن يموتوا في الزمن المناسب، ولكن أنى لمن يعرف الحياة أن يتخير الموت في أوانه؟
أفما كان خيرا للدخلاء على الحياة لو أنهم لم يولدوا، ولكن هؤلاء الدخلاء يريدون أن يولي الناس أهمية كبرى لموتهم، وكم من نواة تباهي بأنها كسرت وهي جوفاء.
إنهم يعلقون أهمية على الموت؛ لأنهم ما عرفوا بهجة الموت، فالناس لم يعرفوا حتى اليوم كيف يقدسون أبهج الأعياد، ولسوف أنبئكم بالموت الذي يقدس، الموت الذي يدفع الأحياء ويجتذبهم بحوافزه وآماله، إن من أكمل عمله يموت ظافرا وحوله من يحفزهم الأمل وتنطوي فيهم الأماني. تعلموا أن تموتوا هكذا، ولكن اعلموا أن لا ظفر لمن يموت إذا هو لم يبارك ما أقسم الأحياء بإتمامه.
تلك هي الميتة الفضلى، تليها في المراتب ميتة من يسقط في المعركة وهو ينشر عليها عظمة روحه، غير أن ما يحتقره المجاهدون والظافرون على السواء إنما هو ميتتكم الشوهاء التي تزحف لصا وتتقدم آمرا مطاعا.
ما أجمل ميتتي إذا أنا تخيرتها فجاءتني لأنني أطلبها.
ولكن متى يجدر بالإنسان أن يطلب الموت؟
إن من يتجه إلى مقصد في الحياة وله وريث وجب عليه أن يتمنى الموت في الزمن المناسب لغايته ولوريثه؛ لأنه يأنف حرمة لهما من أن يلقي بالأكاليل الذابلة على هيكل الحياة.
إنني لا أريد أن أحبك الخيوط، وأنسحب إلى الوراء كمن يفتلون الحبال.
من الناس من لا يتجاوزون بأعمارهم الحد اللائق بالحقائق والظفر، وخليق بالفم المجرد عن أسنانه ألا يتناول ببيانه جميع الحقائق. على الطامحين إلى الظفر أن يودعوا الأمجاد في الزمن المناسب ليتمرنوا على فن الرحيل عن الدنيا في الزمن المناسب أيضا، ومن واجب المرء أن يتوقف عن عرض نفسه للآكلين عندما يكفون عن تذوقها، ولا يعرف هذه الحقيقة إلا من يود الاحتفاظ بمحبة من حوله.
ولكن من الأثمار كالتفاح من تقضي طبيعته الحامضة عليه أن ينتظر النضوج إلى آخر أيام الخريف، فإذا هو ماثل للنظر باصفرار الشيخوخة وتجاعيد أساريرها.
ومن الناس من يدب الهرم إلى قلوبهم أولا، ومنهم من يدب الهرم إلى عقولهم، ومنهم من يشيخون في ربيع الحياة، غير أن من يبلغ الشباب متأخرا يحتفظ بشبابه أمدا طويلا.
ومن الناس من ضلوا السبيل في حياتهم، فأضاعوا عمرهم، فعلى هؤلاء أن يعملوا على بلوغ التوفيق في موتهم على الأقل.
وهنالك أثمار لا تنضج لأنها تتهرأ في الصيف ولكنها تبقى معلقة بأغصانها؛ لأن جبنها يصدها عن السقوط، وهكذا نرى في العالم أناسا يلتصقون التصاقا بأغصانهم، فهل من عاصفة تهب على الشجرة لتسقط ما عليها من أثمار تهرأت ورعى الدود قلبها؟ ليتقدم دعاة الموت العاجل وليهبوا كالعاصفة على دوحة الحياة، غير أنني لا أرى غير دعاة للموت البطيء يعظون بالصبر واحتمال كل مصائب الأرض.
إنكم تدعون إلى مكابرة الأرض ومجالدتها، أيها المجدفون والأرض صابرة عليكم صبرها الجميل.
والحق أن ذلك العبراني الذي يمجده المبشرون بالموت البطيء قد مات قبل أوانه، ولم يزل جم غفير يعتقد بأن ميتته المبكرة كانت مقدورة عليه .
وما كان هذا المسيح العبراني قد عرف غير دموع قومه وأحزانهم وكيد أهل الصلاح والعدل؛ لذلك راودته فجأة شهوة الفناء.
ولو أنه بقي في الصحراء بعيدا عن أهل الصلاح والعدل لكان تعلم حب الحياة وحب الأرض، ولكان تعلم الضحك أيضا.
صدقوني، أيها الإخوة، إن المسيح قد مات قبل أوانه، ولو أنه بلغ العمر الذي بلغت، لكان جحد تعاليمه، وقد كان له من النبل ما يكفيه لاقتحام العدول عنها، ولكنه لم يبلغ النضوج، ولم تبلغه المحبة في الشباب؛ فكره الناس وكره الأرض، وهكذا بقيت روحه مثقلة ولم ينشر جناحه المهيض.
4
إن في الرجل من الطفولة ما ليس في الشاب، فالرجل الناضج أقل حزنا وأقدر على فهم الحياة والموت؛ لأنه يشعر بحريته للموت وبحريته في الموت، وإذا امتنع عليه أن يثبت شيئا أنكره.
حاذروا أن يكون موتكم تجديفا على الأرض والإنسان أيها الصحاب. تلك هي النعمة التي أستجديها من وداعة روحكم.
ليرسل فكركم وفضيلتكم آخر أشعتهما في احتضاركم كما ترسل الشمس الغاربة آخر أنوارها على الأرض، وإلا فإن ميتتكم ستكون فاشلة. إنني هكذا أريد أن أموت ليزداد حبكم للأرض من أجلي، أيها الأصحاب، أريد أن أعود إلى الأرض التي خلقت منها لأجد الراحة في أحضانها.
لقد كان زارا يرمي إلى هدف وقد أطلق سهمه الآن فارموا إلى هذا الهدف بعدي؛ لأنني من أجلكم أطلقت سهمي الذهبي، فما أشتهي شيئا اشتهائي أن أراكم تطلقون سهامكم الذهبية أيضا، ولسوف أبقى على الأرض قليلا لأمتع عيني بهذا المشهد، فاغتفروا لي هذا التخلف إلى حين.
هكذا تكلم زارا ...
الفضيلة الواهبة
1
وبعد أن ودع زارا مدينة «البقرة الملونة» التي شغف قلبه بها؛ شيعه عدد غفير مما كانوا يدعون أنفسهم أتباعه حتى بلغوا إلى منعطف الطريق فقال زارا إنه يريد متابعة سيره وحده، فودعه أتباعه وقدموا إليه عصا قبضتها من ذهب بشكل أفعى ملتفة حول الشمس، فسر زارا من هذه الهدية واتكأ على العصا قائلا لأتباعه: قولوا لي، لماذا أصبح الذهب ذا قيمة؟ أليس لأنه نادر ولا فائدة منه ، ولأنه وديع في لمعانه، ويبذل نفسه في كل حين؟ لم يبلغ الذهب أسمى مراتب الأشياء القيمة إلا لأنه رمز لأسمى الفضائل، فعين الواهب براقة كالذهب، ووهج الذهب رسول سلام بين النيرين.
إن أسمى الفضائل نادرة ولا نفع منها، فهي تتوهج بنورها الهادئ، وليس بين الفضائل من يطاول فضيلة السخاء.
والحق أنني شاعر برغبتكم، أيها الصحاب، فإنكم تطمحون مثل طموحي إلى الفضيلة الواهبة، فأنتم تريدون أن تحولوا نفوسكم إلى هبات وعطايا، وإلا لكنتم أشبه بالهررة والذئاب، ولهذا تتعطشون إلى حشد جميع الكنوز لأنها ظامئة أبدا إلى العطاء. إنكم تجتذبون كل ما حولكم ليتسرب إلى داخلكم فينفجر ينبوعكم بها كأنها هبة من محبتكم.
إن المحبة السخية الواهبة تستحيل إلى لص يمد يده إلى جمع الأشياء القيمة، وما أرى هذه الأنانية إلا عملا صالحا مقدسا.
غير أن هنالك أنانية أخرى تدهورت إلى أدنى دركات المسكنة في مجاعتها المتحكمة أبدا فيها، تلك هي الأنانية التي تطمح إلى السرقة في كل آن، فهي أنانية المرض بل هي الأنانية المريضة، تحدج كل شيء بنظرات اللص وبنهم الجائع، فتزن لقمات الآكلين من أبناء النعمة وتدب أبدا حول موائد الواهبين، وما مثل هذه الشهوة إلا عرض الداء الدفين ودليل الانحطاط الخفي، وما الطموح إلى السرقة بمثل هذه الأنانية إلا نزعة من نزعات الجسوم العليلة.
أي شيء نراه أقبح الأشياء، أيها الإخوة، أفليس الانحطاط أقبحها؟ وهل يسعكم إلا أن تحكموا بانحطاط مجتمع لا أثر لروح السخاء والعطاء فيه.
إن سبيلنا يتجه إلى الأعالي، وما نقصده إنما هو الارتقاء من نوع إلى نوع؛ لذلك نرتعش عندما نسمع الانحطاط يهتف قائلا: «لي كل شيء.»
وهل روحنا إلا رمز لجسدنا وهي تطمح إلى الاعتلاء، وهل الصفات التي ندعوها فضيلة إلا عبارة عن هذه الرموز عينها؟
إن الجسد يقطع مسافات التاريخ بكفاحه، ولكن ما تكون الروح من الجسد يا ترى إن لم تكن المذيع لكفاح الجسد وانتصاراته؟ ما الجسد إلا الصوت، وما الروح إلا الصدى الناجم عنه والتابع له. ليست الكلمات الموضوعة للدلالة على الخير والشر سوى رموز فهي تشير إلى الأمور ولا تعبر عنها، ولا يطلب المعرفة فيها ومنها إلا المجانين.
انتبهوا، أيها الإخوة، إلى الزمن الذي يطمح فكركم فيه إلى البيان بالرموز؛ لأن في هذا الحين تتكون الفضيلة فيكم، وعندئذ يبعث جسدكم ويتجه إلى الأعالي مجتذبا عقلكم من سكونه؛ ليدفع به إلى مراحل الإبداع حتى إذا ما سار عليها عرف قيمة الأشياء وأحب فأجاد في كل أعماله.
في الزمن الذي يختلج فيه قلبكم تتكون فضيلتكم؛ لأن هذا القلب يفيض باختلاجه كالنهر العظيم فيغمر القائمين على ضفافه بالبركة كما يهددهم بأشد الأخطار.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما يعجز المدح والذم عن بلوغ شعوركم، فتطمح إرادة الرجولة فيكم إلى السيادة على كل شيء.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تحتقرون النعم والفراش الوثير، وعندما لا تجدون راحة إلا بعيدا عن مواطن الراحة.
إنما تنشأ فضيلتكم عندما تنصب إرادتكم على مقصد واحد، وعندما يصبح هذا التحول في آلامكم ضرورة لا يسعكم التحول عنها.
أفليس هذا شكلا جديدا للخير والشر؟ أفما تسمعون بهذا القول خرير الينبوع العميق الذي غربت مسالكه من قبل عنكم؟
إنها لفضيلة جديدة تمنح الإنسان قوة وتبعث فيه عزما، هذه الفكرة المتحكمة في روح بلغت الحكمة؛ لأنها شمس مذهبة التفت عليها أفعى الحكمة.
2
وصمت زارا مرسلا نظرات الحب إلى أتباعه، ثم ارتفع صوته بنبرات جديدة قائلا: أخلصوا للأرض، يا إخوتي، بكل قوى فضائلكم. لتكن محبتكم الواهبة ولتكن معرفتكم خادمتين لروح الأرض، إنني أطلب هذا متوسلا.
لا تدعوا فضيلتكم تنسلخ عن حقائق الأرض لتطير بأجنحتها ضاربة أسوار الأبدية، ولكم ضلت من فضيلة من قبل على هذا السبيل.
أرجعوا الفضيلة الضالة كما رجعت بها أنا إلى مرتعها في الأرض. عودوا بها إلى الجسد وإلى الحياة لتنفخ في الأرض روحها روحا بشرية.
لقد تاه العقل وتاهت الفضيلة فخدعتها آلاف الأمور، ولما يزل هذا الجنون يتسلط على جسدنا حتى أصبح جزءا منه فتحول فيه إلى إرادة.
لقد قام العقل وقامت الفضيلة معه بتجارب عديدة فضلا على ألف سبيل ، وهكذا أصبح الإنسان عبارة عن تجارب ومحاولات ألصقت بنا الجهل والضلال. وليس ما استقر فينا من التجارب حكمة الأجيال فحسب، بل جنونها أيضا، ولكم يتعرض الوارثون إلى أخطار.
إننا لم نزل نصارع جبار الصدف، ولم يزل العته سائدا على الإنسانية حتى اليوم.
ليكن عقلكم وفضيلتكم بمثابة روح للأرض وعقل لها، أيها الإخوة، فتتجدد بكم قيم الأشياء جميعها، من أجل هذا وجب عليكم أن تبدعوا.
إن الجسد يطهر بالمعرفة، فيرتفع بمرانه على العلم؛ لأن من يطلب الحكمة يطهر جميع غرائزه، ومن ارتقى فقد أدخل المسرة في نفسه.
أعن نفسك، أيها الطبيب، لتتمكن من إعانة مريضك، إن خير ما تبذله من معونة لهذا المريض هو أن يرى بعينه أنك قادر على شفاء نفسك.
إن في الأرض من السبل ما لم تطأها قدم بعد، فما أكثر مجاهلها وما أكثر خفاياها!
اسهروا وانتبهوا أيها المنفردون؛ لأن من المستقبل تهب نسمات سرية حاملة بشائر لا تقرع إلا الآذان المرهفة.
إنكم في عزلة عن العالم، أيها المنفردون، ولكنكم ستصبحون شعبا في آتي الزمان، ومنكم سيقوم الشعب المختار؛ لأنكم اخترتم نفسكم اليوم، ومن هذا الشعب سيولد الإنسان المتفوق.
والحق أن الأرض ستصبح يوما مستشفى للأعلاء، فإن في نشرها عبيرا جديدا هو عبير الإخلاص والأمل الجديد.
3
وسكت زارا كمن يقف عند كلمة تتلجلج في فمه، وبعد أن قلب عصاه طويلا بين يديه، أطلق صوته وقد تغيرت نبراته فقال: سأذهب وحدي الآن، أيها الصحاب، وأنتم أيضا ستذهبون بعدي وحدكم لأنني هكذا أريد.
هذه نصيحتي إليكم؛ ابتعدوا عني وقفوا موقف الدفاع عن أنفسكم تجاهي، بل اذهبوا إلى أبعد من هذا؛ اخجلوا من انتسابكم إلي فلقد أكون لكم خادعا.
على من يطلب الحكمة ألا يتعلم محبة أعدائه فحسب، بل عليه أيضا أن يتعلم بغض أصدقائه، وما يعترف التلميذ اعترافا تاما بفضل أستاذه إذا هو بقي أبدا له تلميذا. لماذا لا تريدون أن تحطموا تاجي؟
إنكم تحوطونني بالإجلال، ولكن ما هي الكارثة التي تتوقعونها من إعراضكم عني، إن في رفع الأنصاب لخطرا فاحترسوا من أن يسقط عليكم التمثال المنصوب فيقضي عليكم.
تقولون إنكم تؤمنون بزارا، ولكن أية أهمية له؟ تقولون إنكم مؤمنون، ولكن ما أهمية جميع المؤمنين؟ ما كان أحد منهم فتش عن نفسه قبل أن وجدتموني، وهكذا جميع المؤمنين، فليس الإيمان شيئا عظيما؛ لذلك آمركم الآن أن تضيعوني لتجدوا أنفسكم، ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون جحدتموني جميعكم.
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين، سأفتش عن خرافي الضالة بعين أخرى فأبذل لكم حبا غير هذا الحب.
سيأتي يوم تصيرون فيه أصحابا لي إذا ما وحد بينكم الأمل الواحد، عندئذ سأرغب في الإقامة بينكم للمرة الثالثة للاحتفاء بأنوار الهاجرة العظمى.
وستبلغ الشمس الهاجرة عندما يصل الناس إلى منتصف طريقهم بين الحيوان والإنسان المتفوق، وعندما يرون أملهم الأسمى على منتهى السبيل الذي يقودهم إلى الفجر الجديد.
في ذلك الحين يتوارى من يسير إلى الجهة الثانية وهو يبارك نفسه؛ إذ ترتفع شمس معرفته لتتكبد الهاجرة.
لقد مات جميع الآلهة، فلم يعد لنا من أمل إلا ظهور الإنسان المتفوق، فلتكن هذه إرادتنا الأخيرة عندما تبلغ الشمس الهاجرة.
هكذا تكلم زارا ...
الجزء الثاني
ولن أعود إليكم إلا عندما تكونون
جحدتموني جميعكم
والحق، يا إخوتي، إنني في ذلك الحين
سأفتش عن خرافي الضالة بعين
أخرى فأبذل لكم حبا غير هذا الحب.
زرادشت
الفضيلة الواهبة، الجزء
الأول
الطفل حامل المرآة
ورجع زارا إلى الجبال، إلى عزلة كهفه ليحتجب عن الناس كالزارع ألقى بذوره في أثلام أرضه وبات يتوقع نبتها، ولكنه ما لبث أن حنت جوارحه إلى أحبابه؛ إذ كان عليه أن يمنحهم بعد كثيرا من الهبات، وأصعب ما يلقى المحب اضطراره إلى قبض يده إجابة لداعي محبته وتفاديا للمنة في عطائه.
ومرت على المنفرد الشهور والأعوام وحكمته تزداد نموا فتزيده ألما باتساع آفاقها.
وأفاق يوما من نومه قبل انفلاق الفجر، واستغرق في تفكيره وهو ممدد على فراشه وتساءل قائلا: لماذا أرعبني هذا الحلم حتى استفقت منه مذعورا؟ رأيت كأن ولدا «يحمل مرآة» اقترب مني وهو يقول: انظر في هذه المرآة يا زارا.
وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقا شديدا؛ لأن ما انعكس لي في المرآة لم يكن وجهي، بل وجها تقطبت أساريره بضحكة شيطان ساخر.
والحق ما يفوتني تعبير هذا الحلم وإدراك ما نبهت إليه، فإن تعاليمي مشرفة على خطر، والزوان يريد أن ينتحل صفات الحنطة. لقد استأسد أعدائي فشوهوا تعاليمي حتى أصبح أتباعي يخجلون مما وهبتهم.
لقد فقدت صحبي وآن لي أن أفتش عمن فقدت.
وانتفض زارا لا كمن استولى الذعر عليه بل كمأخوذ برؤى وكشاعر هزه شيطانه؛ فوجم نسره وأفعوانه وحدقا بوجهه وقد لاحت بوادر السعادة عليه كتباشير الفجر، فقال لهما: ماذا حدث لي؟ أفما تريان أنني تغيرت؟ أفما تحسان أن الغبطة قد نزلت علي كأنها عصفات الرياح؟
لقد جن شعوري بهذه السعادة فلن يسلم بياني من اختلال هذا الشعور. إن سعادتي لم تزل في حداثتها فتذرعا بالصبر معي عليها.
لقد أوجعتني سعادتي فليكن أساتي كل من أرهقتهم الأوجاع.
إن في وسعي الآن أن أنحدر إلى مقر صحبي وإلى مقر أعدائي، فقد أصبح زارا قادرا على استطراد القول والإحسان إلى من يحب.
لقد آن لحبي أن يتدفق كالنهر يندفع من الأعالي إلى الأعماق، ويتجه من المشرق إلى المغرب.
إن نفسي تندفع مرغية مزيدة في الوديان متملصة من الجبال الصامتة نصخب فوقها عواصف الآلام، ولطالما تعللت بالصبر وعلقت أبصاري على بعيد الآفاق، لقد أرهقتني العزلة فما أطيق السكوت بعد.
أصبحت وكأنني بأجمعي فم أو هدير جدول يتحدر من شامخات الصخور، أريد أن أقذف بكلماتي إلى الأغوار، فيجري نهر حبي في المفاوز البعيدة، ولن يضل هذا النهر سبيله إلى مصبه في البحار.
إن في داخلي بحيرة وحيدة قانعة بنفسها، غير أن نهر محبتي يجتذبها في مسيره؛ ليقطع معها السيول ويترامى وإياها في لجة البحر.
إنني أتبع مسالك لم أعرفها من قبل فألهمت بيانا «جديدا» بعد أن أتعبتني اللهجات القديمة التي ترهق كل المبدعين، وقد امتنع على فكري أن يقتفي رواشم النعال المقطعة.
ما من لغة إلا وأراها بطيئة تقصر عن مجاراة بياني.
سأقفز إلى صهوتك أيتها العاصفة فألهبك أنت أيضا بسوط سخريتي.
أريد أن أقطع أجواء البحار كهتفة مسرة وحبور إلى أن أستقر على الجزائر السعيدة حيث يقيم أحبابي، وبينهم أعدائي أيضا، لشد ما أحب الآن جميع من يتسنى لي أن أوجه إليهم الكلام، وسيكون لهؤلاء الأعداء أيضا قسطهم في إيجاد غبطتي.
عندما أتحفز لاعتلاء أشد جيادي جموحا لا أجد لي معينا أصدق من رمحي متكأ أرتفع عليه.
هو رمحي أهدد به أعدائي، ولكم يستحقون ثنائي إذا ما تمكنت من طرح هذا الرمح من يدي.
لقد طال اصطبار غيومي بين قهقهة الرعود، وقد آن لي أن أرشق الأعماق بقذائف بردي.
إن صدري سيتعاظم بانتفاخه حتى يزفر بالعاصفة الهائلة على الشامخات، وهكذا سأفرج عنه.
إن سعادتي وحريتي سيندفعان اندفاع العواصف، ولكنني أتمنى لو يحسب أعدائي أن ما يزمجر فوق رءوسهم إنما هو روح الشر لا روح سعادة وحرية.
وأنتم أيضا أيها الصحاب سيتولاكم الرعب عندما تنزل عليكم حكمتي الكاسرة، ولعلكم تولون هاربين منها كما يهرب الأعداء.
ليت لي أن أستدعيكم إلي بحنين شبابة الرعاة، وليت تتعلم لبؤة حكمتي أن تزأر بنبرات العطف والحنان، فلطالما وردنا سويا من مناهل العرفان. ولكن حكمتي الوحشية تمخضت بآخر صغارها في الجبال السحيقة بين الجلامد الجرداء، وهي الآن تطوف بجنونها الصحاري القاحلة مفتشة على المروج الناضرة.
إنها لشيخة وحشية هذه الكلمة التي تقصد إنزال أعز ما لديها في مروج قلوبكم الناضرة.
هكذا تكلم زارا ...
في الجزر السعيدة
ها إن التين يتساقط عن أشجاره عطر النكهة حلو المذاق، وقشوره الحمراء تتشقق بسقوطها، وأنا هو ريح الشمال يهب على هذه الأثمار الناضجة. إن تعاليمي تتساقط إليكم أيها الصحاب كمثل هذه الأثمار فتذوقوها الآن عند ظهيرة من أيام الخريف وقد صفت فوقكم السماء.
سرحوا أبصاركم فيما حولكم من خيرات الأرض، ثم مدوا بها إلى آفاق البحر البعيد فليس أجمل لمن فاض رزقه من أن يتطلع إلى الأبعاد.
لقد كان الناس يتلفظون باسم الله عندما كانوا يسرحون أبصارهم على شاسعات البحار، أما الآن فقد تعلمتم الهتاف باسم الإنسان المتفوق.
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يذهب بكم الافتراض إلى أبعد مما تفترض إرادتكم المبدعة.
أفتستطيعون أن تخلقوا إلها؟ إذن أقلعوا عن ذكر الآلهة جميعا، فليس لكم إلا إيجاد الإنسان المتفوق.
ولعلكم لن تكونوا بنفسكم هذا الإنسان، ولكن في وسعكم أن تصبحوا آباء وأجدادا له، فليكن هذا التحول خير ما تعملون.
إن الله افتراض وأنا أريد ألا يتجاوز بكم الافتراض حدود التصور، فهل تستطيعون أن تتصوروا إلها؟ فاعرفوا من هذا أن واجبكم هو طلب الحقيقة فلا تطمحوا إلى ما لا يبلغه تصور الإنسان وبصره وحسه، أمسكوا بتصوركم كيلا يتجاوز حدود حواسكم.
يتحتم عليكم أن تبدءوا بخلق ما كنتم تسمونه عالما من قبل؛ فيتكون عالمكم من تفكيركم وتصوركم وإرادتكم ومحبتكم وعندئذ تبلغون السعادة يا من تطلبون المعرفة، وكيف تطيقون الحياة إذا لم يكن لكم هذا الرجاء؟
على من يطلب المعرفة ألا يتورط في ما يريده العقل من المعميات.
لسوف أفتح لكم قلبي فلا تخفى عنكم خافية فيه، فأقول لكم: لو كان هنالك أرباب أكنت أتحمل ألا أكون ربا؟ إذن ليس في الكون أرباب.
لقد استخرجت لذاتي هذه النتيجة، وها هي تستخرجني الآن.
إن الله افتراض ولكن من له بتحمل كل ما يضمر هذا الافتراض من اضطراب دون أن يلاقي الفناء؟ أتريدون أن تأخذوا من الخالق إيمانه ومن النسر تحليقه في أجواز الفضاء؟
إن الله عبارة عن إيمان ينكسر به كل خط مستقيم ويميد عنده كل قائم، فالزمان لدى المؤمن وهم، وكل فان في عينيه بطل وخداع، فهل مثل هذه الأفكار إلا أعاصير تتطاير فيها عظام البشر وتورث الدوار لشاهدها؟ تلك افتراضات يدور المبتلى بها على نفسه كالرحي حتى يموت.
أفليست من الشر والافتيات على الإنسانية كل هذه التعاليم تقيم الواحد المطلق الذي لا يناله تحول ولا تغيير؟
إن الرموز وحدها لا تتغير، وطالما كذب الشعراء، غير أن خير ما يضرب من الأمثال ما يصور الحاضر وآتي الزمان فيأتي حجة لكل زائل لا نقضا له.
ليس في غير الإبداع ما ينقذ من الأوجاع ويخفف أثقال الحياة، غير أن ولادة المبدع تستدعي تحولات كثيرة وتستلزم كثيرا من الآلام.
أيها المبدعون ستكون حياتكم مليئة بمرير الميتات؛ لتصبحوا مدافعين عن جميع ما يزول.
على المبدع إذا شاء أن يكون هو بنفسه طفل الولادة الجديدة أن يتذرع بعزم المرأة التي تلد فيتحمل أوجاع مخاضها.
لقد اخترقت لي طريقا في مئات النفوس والأسرة وأوجاع المخاض، غير أنني كثيرا ما نكصت على أعقابي؛ لأنني أعرف ما تقطع الساعات الأخيرة من نياط القلوب.
ولكن ذلك ما تطمح إرادتي المبدعة إليه، وبتعبير أشد صراحة: ذلك هو المقصد الذي تريده إرادتي.
إن جميع ما في من شعور يتألم مقيدا سجينا، وليس غير إرادتي من بشير يؤذن بالمسرة، ويأتي بالإفراج عن الشعور.
إن الإرادة وحدها تحرر، وما بغير هذه الآية من شرعة صحيحة للإرادة وللحرية، على هذا تقوم تعاليم زارا.
بعدا وسحقا لكل وهن وملال يشلان الإرادة، ويوقفان كل تقدير وإبداع.
إن طالب المعرفة يشعر بلذة الإرادة والإيجاد، وبلذة استحالة الذات إلى ما تحس به في أعماقها، فإذا انطوى ضميري على الصفاء فما ذلك إلا لاستقرار إرادة الإيجاد فيه، وهذه الإرادة هي ما أهاب بي للابتعاد عن الله وعن الآلهة؛ إذ لو كان هنالك آلهة لما بقي شيء يمكن خلقه.
إن طموح إرادتي إلى الإيجاد يدفعني أبدا نحو الناس اندفاع المطرقة فوق الحجر.
أيها الناس إنني ألمح في الحجر تمثالا كامنا هو مثال الأمثلة، أفيجدر أن يبقى ثاويا في أشد الصخور صلابة وقبحا.
إن مطرقتي تهوي بضرباتها القاسية على هذا السجن فأرى حجره يتناثر.
أريد أن أكمل هذا التمثال. إن طيفا زارني، وألطف الكائنات وأعمقها سكوتا قد اقترب مني.
لقد تجلى بهاء الإنسان المتفوق لعيني في هذا الخيال الطارق فما لي وللآلهة بعد.
1
هكذا تكلم زارا ...
الرحماء
لقد بلغني، أيها الصحاب، قول الناس: «أفما ترون زارا يمر بنا كأنه يمر بين قطيع من الحيوانات.»
وكان أولى بهم أن يقولوا: إن من يطلب المعرفة يمر بالناس مروره بالحيوانات.
إن طالب المعرفة يرى الإنسان حيوانا له وجنتان حمراوان.
ولم يراه هكذا؟ أفليس لأنه كثيرا ما علته حمرة الخجل؟
هذا ما يقوله طالب المعرفة أيها الصحاب: إن تاريخ الإنسان عار في عار.
ولذلك يفرض الرجل النبيل على نفسه ألا يلحق إهانة بأحد لأنه يستحيي جميع المتألمين.
إنني والحق أكره الرحماء الذين يطلبون الغبطة في رحمتهم، فإذا ما قضي علي بأن أرحم تمنيت أن تجهل رحمتي وألا أبذلها إلا عن كثب. أحب أن أستر وجهي عند إشفاقي وأن أسارع إلى الهرب دون أن أعرف، فتمثلوا بي أيها الصحاب.
ليت حظي يسوقني أبدا حيث ألتقي أمثالكم رجالا لا يتألمون، وفي طاقتهم أن يشاركوني آمالي وولائمي وملذاتي.
لقد قمت بأعمال كثيرة في سبيل المتألمين، ولكن كنت أرى أن الأفضل من هذا زيادة معرفتي في تمتعي بسروري. فإن الإنسان لم يسر إلا قليلا منذ وجوده، وما من خطيئة حقيقية إلا هذه الخطيئة.
إذا نحن تعلمنا كيف نزيد في مسرتنا فإننا نفقد معرفتنا بالإساءة إلى سوانا وباختراع ما يسبب الآلام.
ذلك ما يدعوني إلى غسل يدي إذا أنا مددتها لمتألم، بل وإلى تطهير روحي أيضا؛ لأنني أخجل لخجله وتؤلمني مشاهدتي لآلامه، ولأنني جرحت معزة نفسه بلا رحمة عندما مددت له يدي.
إن عظيم الإحسان لا يولد الامتنان بل يدعو إلى إيقاد الحقد، وإذا تغلب تافه الإحسان على النسيان فإنه يصبح دودا ناهشا.
لا تقبلوا شيئا دون احتراس، وحكموا تمييزكم عندما تأخذون، ذلك ما أشير به على من ليس لهم ما يبذلونه للناس.
أما أنا فممن يبذلون العطاء، وأحب أن أعطي الأصدقاء كصديق، أما الأبعدون فليتقدموا من أنفسهم لاقتطاف الأثمار من دوحتي فليس في إقدامهم على الأخذ ما في قبولهم العطاء من مهانة لكرامتهم.
غير أنه من اللازب أن يقطع دابر المتسولين؛ لأن في الجود عليهم من الكدر ما يوازي كدر انتهارهم وحرمانهم.
وكذلك هو حال الخطاة وأهل الضمائر المضللة؛ فإن تبكيت الضمير يحفز الإنسان إلى النهش وإيقاع الأذى.
وشر من كل هذا الأفكار الحقيرة، وخير للإنسان أن يسيء عملا من أن تستولي المسكنة على تفكيره.
إنكم تقولون: «إن في التفكير الملتوي كثيرا من الاقتصاد في شر الأعمال.» وما يستحسن الاقتصاد في مثل هذا.
إن لشر العمل أكلانا والتهابا وطفحا كالقروح، فهو حر وصريح؛ لأنه يعلن نفسه داء كما تعلن القروح، في حين أن الفكرة الدنيئة تختفي كنوامي الفطر، وتظل منتشرة حتى تودي بالجسم كله، ومع هذا فإني أسر في أذن من تملكه الوسواس الخناس: «إن من الخير أن تدع الوسواس يتعاظم فيك؛ لأن أمامك أنت أيضا سبيلا يوصلك إلى الاعتلاء.»
مما يؤسف له أن يكون جهل بعض الشيء خيرا من إدراك كله، غير أن من الناس من يشف حتى تبدو بواطنه، ولكن ذلك لا يبرر طموحنا إلى استكناه مقاصده، ومن الصعب أن نعيش مع الناس ما دمنا نستصعب السكوت.
إن ظلمنا لا ينزل بمن تنفر منه أذواقنا، بل يسقط على من لا يعنينا أمره.
وبالرغم من هذا، إذا كان لك صديق يتألم فكن ملجأ لآلامه، ولكن لا تبسط له فراشا وثيرا بل فراشا خشنا كالذي يتوسده المحاربون، وإلا فما أنت مجديه نفعا.
وإذا أساء إليك صديق فقل له: إنني أغتفر لك جنايتك علي، ولكن هل يسعني أن أغفر لك ما جنيته على نفسك بما فعلت؟
هكذا يتكلم عظيم الحب؛ لأنه يتعالى حتى عن المغفرة والإشفاق.
علينا أن نكبح جماح قلوبنا؛ كيلا تجر عقولنا معها إلى الضلال.
أين تجلى الجنون في الأرض بأشد مما تجلى بين المشفقين؟ بل أي ضرر لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ عن جنون الرحماء؟
ويل لكل محب ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاق الرحماء.
قال لي الشيطان يوما: إن للرب جحيما هو جحيم محبته للناس.
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيرا: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته.
احترسوا من الرحمة؛ لأنها لا تلبث حتى تعقد فوق الإنسان غماما متلبدا، وما أنا بجاهل ما تنذر به الأيام.
احفظوا هذه الكلمة أيضا : إن المحبة العظمى تتعامى عن رحمتها؛ لأن لها هدفها الأسمى وهو خلق من تحب.
إنني أقف نفسي على حبي، وكذلك يفعل أمثالي: هذا ما يقوله كل مبدع، والمبدعون قساة القلوب.
هكذا تكلم زارا ...
الكهنة
وتمثل زارا مرور رهط من الكهنة أمامه، فقال لأتباعه: هؤلاء هم الكهنة، فعليكم - وإن كانوا أعدائي - أن تمروا أمامهم صامتين، وسيوفكم ساكنة في أغمادها فإن بينهم أبطالا ومن تحملوا شديد العذاب فهم لذلك يريدون أن يعذبوا الآخرين.
إنهم لأعداء خطرون، وما من حقد يوازي ما في اتضاعهم من ضغينة، وقد يتعرض من يهاجم إلى تلطيخ نفسه، ولكن بيني وبينهم صلة الدم وأنا أريد أن يبقى دمي مشرفا حتى في دمائهم.
وعاد زارا يتمثل أنهم مروا وانصرفوا، فشعر بألم شديد قاومه لحظة حتى سكن روعه، فقال: إنني أشفق على هؤلاء الكهنة، وأنا لا أزال أنفر منهم، ولكنني تعودت الإشفاق مرغما نفوري منذ صحبت بني الإنسان، ومع ذلك فأنا أتألم مع الكهنة؛ لأنهم في نظري سجناء يحملون وسم المنبوذين في العالم، وما كبلهم بالأصفاد إلا من دعوه مخلصا لهم، وما أصفادهم إلا الوصايا الكاذبة والكلمات الوهمية، فليت لهؤلاء من يخلصهم من مخلصهم.
لقد لاحت لهؤلاء الناس جزيرة في البحر على حين ثارت عليهم زوبعة؛ فنزلوا إليها فإذا هم على ظهر تنين نائم على العباب.
وهل من تنين أشد خطرا على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية، وقد كمن فيها المقدور طويلا حتى حان وقت انتباه التنين؟ وها هو يهب مفترسا جميع من بنوا مساكنهم على ظهره.
انظروا إلى المساكن التي بناها هؤلاء الكهنة، وقد أسموها كنائس وما هي إلا كهوف تنبعث روائح التعفن منها، وهل للروح أن ترتفع إلى مستواها تحت لألاء هذه الأنوار الكاذبة وفي هذا الجو الكثيف، حيث لا يسود إلا عقيدة تصم الناس بالخطيئة وتأمرهم بصعود درجات الهيكل زحفا على الركب.
إنني لأفضل أن أنظر إلى اللحظات الفاحشة من أن أرى هذه العيون أطبقت أجفانها معلنة خشوعها واستغراقها.
من ذا الذي اخترع هذه الكهوف وهذه الدرجات يرقاها النادمون زاحفين، أهي من إيجاد من استحيوا من صفاء السماء فلجئوا إلى الاستتار؟
لن أعود بقلبي لألج مساكن هذا الإله إلا إذا انثملت قبابها، واخترقها نور السماء الصافية لتتكشف عن الشقائق الحمراء النابتة على جدرانها المتهدمة.
لقد أراد هؤلاء الكهنة أن يعيشوا كأشلاء أموات؛ فسربلوا جثثهم بالسواد فإذا هم ألقوا مواعظهم انتشرت منها رائحة اللحود.
إن من يجاور هؤلاء الناس فكأنما هو ساكن على ضفة الأنهار السوداء حيث لا يسمع إلا نقيق الضفادع الحزين.
ليسمعني هؤلاء الناس نشيدا غير هذا النشيد لأمرن نفسي على الاعتقاد بمخلصهم؛ إذ لا يلوح لي أن أتباع هذا المخلص قد ظفروا بالخلاص.
لكم أتمنى أن أراهم عراة، وهل لغير الجمال أن يدعو الناس إلى التوبة، ولكنهم عبارة عن فجائع مستترة لا يسعها أن تجتذب إلى الإيمان أحدا.
والحق أن مخلصي هؤلاء الكهنة نفسهم لم ينحدروا من سماء الحرية، وما وطئوا مسالك المعرفة قط، فما كانت حكمتهم إلا نسيجا ملأته الخروق رقعوه بما أوجد جنونهم من آلهة، لقد أغرقتهم حكمتهم في بحيرة الإشفاق، فهم كلما زفروا فيها أرسلوا بجثة عظمى تطفو على سطحها.
لقد زعق هؤلاء الرعاة بقطعانهم فمضت متدافعة في فجوة واحدة، وقد علا صراخها كأن التوصل إلى مخارج المستقبل ممتنع من غير هذه الفجوة الضيقة. أما والحق ما هؤلاء الرعاة إلا فريق من هذه السائمة، وقد ضاقت عقولهم ورحبت نفوسهم وسرعان ما تصغر العقول إذا كبرت النفوس.
لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلهم آثار الدماء؛ إذ كانوا يستلهمون جنونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق، وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم؛ لأن الدم يقطر سما على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد.
أفتقيمون للحق دليلا من اقتحام أحد الناس للهب في سبيل تعاليمه، وهل لمثل هذا التعليم ما للعقيدة التي تتولد متقدة من لهبها نفسه؟ إذا ما تلاقى رأس بارد بقلب مضطرم نشأت من التقائهما تلك العاصفة التي يدعوها الناس مخلصا، ولكم وجد على الأرض من رجل أعرق منشأ وأرفع مقاما ممن يدعوهم الشعب مخلصين، وما كان هؤلاء المخلصون إلا عاصفات كاسحات تهب متوالية على الأرض.
إذا ما كنتم تنشدون سبل الحرية، أيها الإخوة، فعليكم أن تنقذوا أنفسكم حتى ممن يفوقون هؤلاء المخلصين عظمة ومجدا، فإن الإنسان المتفوق لم يظهر على الأرض بعد. لقد حدقت بأعظم رجل وبأحقر رجل عن كثب وهما عاريان فظهرا لعياني متشابهين، بل رأيت أعظمهما أشد توغلا في المعائب البشرية من الآخرين.
هكذا تكلم زارا ...
الفضلاء
لا ينبه الشعور الغافل إلا الإرعاء والإبراق، وما تكلم الجمال إلا بنبرات هامسة لا تنفذ إلا إلى أشد الأرواح انتباها.
أسمعتني عصمتي اليوم ضحكة تعالت فيها قهقهة الجمال السامية، فجمالي يسخر بكم أيها الفضلاء؛ إذ سمعته يقول: إنهم يطلبون لفضائلهم ثمنا.
إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم وتطالبون بالجزاء، أيها الفضلاء، طامحين إلى امتلاك أماكن في السماء، بدلا من أماكن في الأرض، وإلى الظفر بالأبدية بدلا من الدهر الزائل.
إنكم لتحقدون علي؛ لأنني أعلم الناس أن ليس هنالك لا حسيب ولا مثيب، والحق أنني أمتنع عن القول بالثواب، بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول أن ليس للفضيلة ما تجزي به نفسها جميل الجزاء.
إن ما يؤلمني هو أن العقاب والثواب قد دسا دسا في غاية كل أمر، بل حشرا حشرا في أعماق نفوسكم، أيها الفضلاء، ولكن لكلمتي أن تلج هذه النفوس ذاهبة فيها كقرن الوعل وكالسكة تشق الأرض لتحرثها. فلتتكشف نفوسكم عن خفاياها أمام النور؛ لأن الحقيقة لن تنفصل عن الضلال فيكم حتى تنطرحوا عراة تحت شعاع الشمس. ذلك لأن حقيقة ذاتكم إنما هي أطهر من أن تسمح بتدنسكم بكلمات الانتقام والعقاب والمكافأة والمقابلة بالمثل.
إنكم تحبون فضيلتكم كما تحب الأم طفلها، وهل سمعتم أن أما طلبت مكافأة على عطف الأمومة فيها؟
هل فضيلتكم إلا ذاتكم نفسها وهي أعز ما لكم، وما أمنيتكم إلا أمنية الحلقة التي لا تلتوي وتستدير إلا ليصبح آخرها أولا لها.
إن كل عمل ينشأ عن فضيلتكم إنما هو بمثابة نور كوكب يعروه الانطفاء، فما يزال نوره يخترق مجراه في الأفلاك، وليس من حد ينتهي سيره إليه، وهكذا لن تزال أشعة فضيلتكم سائرة في سبيلها حتى بعد انتهاء عملها وتواريه في عالم النسيان؛ لأن إشعاع الفضيلة مستمر لا يعروه زوال.
لتكن فضيلتكم تعبيرا عن ذاتكم وما تلك غريبة عن هذه فلا تحسبوا أنها جلد ورداء.
هذه هي حقيقة روحكم الكامنة أيها العقلاء، ولكن من الناس من يخيل له أن الفضيلة عبارة عن تشنج تحت السياط الجالدة، ولطالما سمعتم صياح هؤلاء الواهمين.
ومن الناس من يرى الفضيلة في الكسل والرذيلة، وما ينتبه عدلهم إلا عند ما يتثاءب حقدهم وحسدهم، عندئذ يفركون أجفانهم وقد أثقلها النعاس.
من الناس من تشدهم شياطينهم إلى أسفل فكلما تدهوروا على الدركات زادت أحداقهم توهجا وتزايد شوقهم إلى ربهم. إن صوت هؤلاء المتدهورين يبلغ آذانكم، أيها الفضلاء، وهم يصيحون: إن كل ما هو خارج عن كياني إنما هو الله وإنما هو الفضيلة.
وهنالك آخرون يتقدمون مثقلين مقرقعين كأنهم عجلات تحمل صخورا إلى الوادي، وهؤلاء الناس لا ينون يتكلمون عن الفضيلة، وما الفضيلة في عرفهم إلا عبارة عن كابح عجلاتهم.
وهنالك قوم أشبه بالساعات يربط زنبركها فتسمعك تكتكتها، وهم يريدون أن تدعى حركتهم الآلية فضيلة. إنني ألهو بمشاهدة مثل هذه الساعات؛ لأنني ما صادفتها مرة إلا ربطت زنبركها بتهكمي وأكرهتها على تحريك رقاصها.
وهنالك المغترون بذرة من العدل ترتفع فيهم على جبل من الدعوى، فتراهم يجدفون على كل شيء إلى أن يغرقوا العالم بظلمهم، وما تخرج كلمة الفضيلة من أفواه هؤلاء الناس إلا وتحسب أنهم يتجشئونها، وإذا قال أحدهم: لقد عدلت. فكأنه يقول: انتقمت.
هؤلاء من يريدون أن يفقئوا أعين أعدائهم بفضيلتهم، وما يطلبون من الاعتلاء إلا إسقاط سائر الناس.
وهنالك من يدب إليهم الفساد كأنهم ماء آسن في المستنقعات، فهؤلاء الناس يعلنون أنهم لا ينهشون أحدا ويتحاشون الالتقاء بالناهشين، فإذا عرض عليهم أي رأي أخذوا به تفاديا لكل أخذ ورد.
وهنالك عشاق الحركات المعتقدون بأن الفضيلة نوع من الإيمان، فتراهم في كل حين جاثين على ركبهم وقد قبضت إحدى راحتيهما على الأخرى تمجيدا للفضيلة، وما يدرك قلبهم منها شيئا.
وهنالك من يرون الفضيلة في القول بلزوم الفضيلة، وهم لا يعتقدون إلا بلزوم ردع الشر بالقوة.
وبعض من امتنع عليهم إدراك ما في الإنسان من صفات عليا لا يذكرون الفضيلة إلا عندما ما يحدقون بما فيه من دنايا، وهكذا لا تنشأ فضيلة هؤلاء القوم إلا من عيوب عيونهم.
من الناس من يطلب المعرفة وتقويم ما التوى فيه فيدعو هذه النزعة فضيلة، ومنهم من يطلب قلب كيانه رأسا على عقب فيدعو هذه الرغبة فضيلة أيضا، وهكذا ترى الجميع يعتقدون بوجود الفضيلة في ناحية من نواحي كيانهم، وتراهم يتجهون إلى معرفة ما فيهم من خير وشر. غير أن زارا قد جاء إلى جميع هؤلاء المخادعين وإلى جميع هؤلاء المجانين؛ ليقول لهم إنهم لا يعرفون عن الفضيلة شيئا وأن ليس في وسعهم أن يعرفوها.
ما أتى زارا إلا ليشعركم بأنكم تعبتم من تكرار الأقوال القديمة التي علمكم إياها المخادعون والمجانين، فينفركم من كلمات المكافأة والمقابلة بالمثل والعقاب والانتقام في العدل؛ لتقلعوا عن القول بصلاح الأعمال عند تجردها عن الغايات.
لتكن ذاتكم متجلية في عملكم كما تتجلى الأم في طفلها، وليكن هذا التعبير ما تعرفون الفضيلة به.
والحق أنني انتزعت منكم كثيرا من أقوالكم وسلبتكم أعز ما تتلهون بمضغه عن الفضيلة؛ لذلك أراكم تزورون كالأطفال، وقد كنتم مثلهم تتسلون بألعابكم على الشاطئ فطغت موجة انتزعتها من بين أيديكم وحملتها إلى العباب، فها أنتم تعولون الآن كهؤلاء الأطفال، غير أن الأمواج ستكر راجعة حاملة إليهم ألعابا جديدة ناثرة بين أيديهم الأصداف المخططة، وأنتم أيضا أيها الصحاب ستسلون مثلهم حين تأتيكم التعزية ناثرة بين أيديكم الأصداف المخططة.
هكذا تكلم زارا ...
الوغد
ما الحياة إلا ينبوع مسرة، ولكن أيان شرب الوغد فهنالك جدول مسموم أحب كل ما هو نقي، ولكنني لا أحتمل رؤية الأشداق تتثاءب معلنة ظمأ الأرجاس، وقد جاءوا يسبرون أعماق البئر بأنظارهم فانعكست في قرارتها ابتسامتهم الشنعاء توجه سخريتها إلي.
لقد دنسوا المياه المقدسة بأرجاسهم، وما تورعوا فدعوا أحلامهم القذرة سرورا فدسوا سمومهم حتى في البيان.
إن اللهب يتعالى مشمئزا عندما يعرضون قلوبهم المائعة عليه، والروح نفسها تغلي وتتصاعد بخارا عندما يقترب الأوغاد من النار، والأثمار نفسها يفسد طعمها وتتراخى عندما يلمسونها بأيديهم، وإذا ما حدجوا بأنظارهم الأشجار المثمرة فإنها لتجف على أعراقها.
لكم من معرض عن الحياة لم ينفره منها سوي الوغد الزنيم، فعافها إذ لم يشأ أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وأثمار.
لكم من شارد لجأ إلى الصحراء متحملا السعار عائشا بين الوحوش؛ كيلا يجلس إلى بئر يدور بها حداة العيس بما عليهم من أقذار.
ولكم جاء الأرض من مكتسح أشبه بالبرد المتساقط من السحاب، ولا أمنية له سوى ضرب قدمه في أشداق الأوغاد ليسد حناجرهم.
ما صعب علي الاعتقاد باحتياج الحياة إلى العداء والقتل والاستشهاد كما صعب علي التسليم بضرورة وجود الوغد الزنيم فيها.
أمن ضرورة الحياة هذه الينابيع المسممة والنيران المشبوبة تفوح بالروائح الكريهة، وهذه الأحلام الرجسة وهذه الديدان ترتعي في خبز الحياة؟
ليس العداء ما قرض حياتي بل الكراهة والاشمئزاز، ولكم استثقلت الفكر نفسه عندما رأيت شيئا من الفكر في رأس الوغد الزنيم.
لقد وليت ظهري للحاكمين عندما أدركت معني الحكم في هذه الأزمان، وتأكدت أنه متاجرة بالقوة ومساومة الأوغاد عليها.
استولى اليأس علي فاجتزت مراحل الماضي والمستقبل وأنا أسد أنفي؛ إذ انتشرت علي منهما روائح البيان السخيف.
لقد عشت طويلا كالكسيح أصابه الصمم والعمى والخرس؛ كيلا أعايش أوغاد السلطة وزعانف الأقلام والمسرات.
ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني ولا عزاء له إلا بالغبطة، وهكذا مرت حياة الأعمى وهو يتوكأ على عصاه.
ما حدث لي يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إلى عيني؟ وكيف تمكنت من ارتقاء المرتفعات حيث الينبوع الذي لا يحيط به الأوغاد؟
أهي الكراهة نفسها استنبتت جناحي وأوجدت لي القوة للاهتداء إلى مفجر الينابيع ؟ والحق أنني ارتقيت الذروة، ولو لم أبلغها لما وجدت ينبوع الغبطة والسرور.
لقد وجدته، أيها الإخوة، فرأيته يتدفق على الذروة غبطة وحبورا، فاهتديت إلى المكان الذي يتاح فيه للإنسان أن يروي ظمأه دون أن يعكر عليه الأوغاد الأدنياء.
إنك لتسيل بشدة، أيها الينبوع المتفجر بالغبطة فتفرغ الكأس التي تملؤها دهاقا.
علي أن أتمرن على الاقتراب منك بتؤدة، أيها الينبوع، فإن قلبي يندفع بعنف إلى مسيلك. لقد استولى اليأس مع الحبور على هذا القلب الذي تمر عليه بحرها أيام صيفه، فهو يتشوق إلى مياهك تنزل عليه بردا وسلاما.
لقد انقضت أحزان ترددي في الربيع وأذاب الصيف ثلوج نقمتي، فأصبحت وكل جوارحي تتوق إلى الاصطياف. إن خير الراحة ما تنتجع في أعالي الجبال قرب الينابيع الباردة. إلي أيها الأصحاب لنحول هذه الراحة إلى غبطة وحبور فهذه ذروتنا، وهنا موطننا حيث نعتصم بالصخور فلا يبلغها الأرجاس ولا يصل إليها عطشهم المدنس.
أرسلوا أنظاركم الطاهرة على ينبوع مسرتي، أيها الأصحاب، فإنها لن تعكره بل تبقي على نقائه فيبتسم لكم.
هنا تتعالى دوحة المستقبل، فلنبن لنا عشا بين أغصانها فتجيء إلينا العقبان حاملة لنا الغذاء، نحن المنفردين.
ذلك عزاء لا يستطيع الأرجاس مقاسمتنا إياه، فهو النار تحرق أشداقهم، وما نعد هنا مساكن للمدنسين، فإن سعادتنا تلفح أجسادهم وأرواحهم، ونحن نريد أن نحيا فوقهم فنهب كالرياح في مسارح العقبان ومطالع الشموس.
إنني سأعصف كالريح الصرصر على الأرجاس فأخمد أنفاسهم بأنفاسي، ذلك هو المقدور. فما زارا إلا ريح عاصفة ترهق الأعماق، وهو ينصح أعداءه وكل متقيئ نافث بألا يبصقوا في وجه الرياح.
هكذا تكلم زارا ...
العناكب
هذا هو العنكب، فإذا كنت ترغب في مشاهدته فالمس نسيجه ليتحرك ويسرع بالظهور، أهلا بك أيها العنكب، إنني أرى على ظهرك شعارا أسود مثلث الزوايا، وما يخفى عني أيضا ما تضمر من النقمة في سريرتك.
إن لسعادتك بقعا فاحمة على الجلود، ولها سمها المضلل في النفوس، أيها العنكب، إنني أخاطبكم بالرموز، أيها العناكب المضللون المبشرون بالمساواة، فما أنتم في نظري إلا مستودع لعواطف الانتقام.
سأكشف عن مكانكم وأنا أواجهكم بقهقهة تسقط عليكم من الذري التي أتسنمها، وهأنذا أمزق نسيجكم حتى إذا تملككم الغضب خرجتم من مغاور أكاذيبكم، وتدفقت نقمتكم بكلمة العدل التي تتفوهون بها.
لقد وجب علي أن أنقذ الإنسان من عاطفة الانتقام، وهذا الواجب هو المعبر المؤدي إلى أشرف الآمال ينتصب فوقه قوس قزح بعد هبوب العواصف الكاسحات. ولكن إرادة العناكب لا تتجه إلى هذه الغاية، فهم يتناجون فيما بينهم قائلين: لا عدل إلا في عواصف انتقامنا تهب على العالم لتلقي العار على كل من ليس منا.
وهم يقولون أيضا: ما من فضيلة إلا في طلب المساواة، فلنرفع عقيرتنا ضد كل سلطان.
آي كهان المساواة! لقد تسلط عليكم جنون عجزكم، فهتفتم بهذه المساواة وقد كمنت شهوة عتوكم واستبدادكم وراء ما تعلنون من الفضائل.
إنني أرى فيكم الغرور المتمرمر والحسد المقيم، ولعل الحسد الذي رعى قلوب أسلافكم يتعالى منكم الآن لهبا يندلع بجنون الانتقام، وما الأبناء إلا مظهر ما أضمر الآباء، ولكم أفشى الابن سر أبيه!
إن لهؤلاء الناس مظهر المتحمسين، وما تلهب حماسهم المحبة بل الانتقام، وإذا ما بدت لك منهم رصانة ومرونة، فما مصدرهما فيهم العقل بل الحسد المهيب بهم إلى التفكير، ودليل حسدهم هو أنهم يندفعون دائما إلى أبعد من مراميهم؛ فيطرحهم العياء على وساد الثلوج.
وما تسمع لهؤلاء الناس أنينا يخلو من نبرات الانتقام، فكل ما يصدر عنهم من مديح ينطوي على أذية، فهم يرون منتهي السعادة في إقامة أنفسهم قضاة على العالمين، فأصغوا إلى نصيحتي أيها الأصدقاء: احذروا من تغلبت عليهم غريزة إنزال العقاب؛ لأنهم متحدرون من أفسد الأنواع وعلى وجوههم سيماء الجلادين.
احذروا من لا ينقطعون عن ذكر عدالتهم، فإن نفوسهم خالية من كل صفة حميدة، وإذا ما هم ادعوا الصلاح والإنصاف فلا تنسوا أنهم لم يتخذوا بين الفريسيين مقامهم إلا لما يشعرون به من عجز.
إنني أربأ بنفسي، أيها الصحاب، أن تنزلوها بين هؤلاء الناس فلا تميزون بيني وبينهم. فهنالك من يذيعون تعاليمي عن الحياة، وهم في الوقت نفسه ينادون بالمساواة وينتمون إلى العناكب المسمومة، هم يدافعون عن الحياة ولكنهم يعرضون عنها قابعين في مغاورهم؛ ليتمكنوا من اجتراح الشرور والإيقاع بمن يقبضون على زمام السلطة في هذا الزمان، وقد تعودوا إنذارهم بالسقوط، ولو أن السلطة كانت في يد العناكب لكانت تعاليمهم تتخذ شكلا آخر؛ لأنهم عرفوا فيما مضى أكثر مما عرف غيرهم؛ كيف يوقدون المحارق ويرهقون مخالفيهم اضطهادا وتعذيبا.
لا أريد أن أحسب من هؤلاء المنادين بالمساواة لأن العدالة علمتني: «أن لا مساواة بين الناس.» وأنه من الواجب ألا يتساووا، وليس لي أن أقول بغير هذا المبدأ وإلا فإن محبتي للإنسان تصبح ادعاء ومينا ...
على الناس أن يسيروا على آلاف الطرق وآلاف المعابر مسارعين نحو آتي الزمان، فتنشأ بينهم الحروب وتتسع شقة التفاوت بينهم على ممر السنين، ذلك ما ألهمني إياه حبي العميم.
يجب أن يقيم الناس في أعماق سرائرهم مثلا عليا وأشباحا يجاهدون في سبيلها، فيسير الصالح والطالح والغني والفقير والرفيع والوضيع إلى التصادم بجميع ما في الأرض من نظم؛ فتضطرم الحروب سلاحا لسلاح ورمزا لرمز، لأن على الحياة أن تتفوق أبدا على ذاتها.
إن الحياة تتجه إلى الارتقاء بدعائمها ودرجاتها، فهي تتطلع إلى الآفاق البعيدة ما وراء الجمال المقتعد عرش غبطته، لتبلغ مستقرها في أعالي الذرى.
إن الحياة بحاجة إلى ارتقاء المرتفعات، فلا غنى لها عن الدرجات والدركات؛ ليعارض المنخفضون المرتفعين، إنها لفي حاجة إلى التفوق على ذاتها وهي متجهة إلى الارتقاء.
انظروا، أيها الصحاب، ها هي مغارة العناكب وقد لاحت فيها خرائب هيكل قديم فأرسلوا عليه نظرات المستلهمين.
والحق أن من جمع أفكاره قديما ليرفعها صرحا من الصخر ينطح السحاب كان كأحكم الحكماء عارفا بأسرار الحياة.
إن الجمال نفسه ليقوم على التفاوت والمجالدة في القوة والتفوق، وهذا ما يعلمنا إياه هذا الحكيم بأشد الرموز إشراقا.
هنا تتدافع القباب والنوافذ في عراك جلل فتهاجم الظلمة النور ويهاجم النور الظلمة كأنهما إلهان ينازل أحدهما الآخر.
اقتدوا بهذا الرمز، أنتم أيضا في مجال الجمال والثقة بالنفس. لنكن نحن أيضا أعداء فيما بيننا أيها الصحاب.
وليحشد كل منا قواه ليحارب الآخرين.
ويلاه، لقد أصبت أنا أيضا بلسعة العنكبة عدوتي القديمة، فقد توصلت بثقتها بنفسها وبجمالها الإلهي إلى نوال بناني بلسعتها، وها هي تقول الآن: لا بد من إنزال العقاب، لا بد من أن يأخذ العدل مجراه، فإنك تغنيت بعظمة السرائر، فلن يذهب إنشادك جزافا.
أجل لقد انتقمت، ويلاه إنها ستوجه نفسي إلى عاطفة الانتقام.
تقدموا أيها الصحاب وقيدوني بهذا العمود كيلا أتحول عن مبدئي، فخير لي أن أصبح تمثالا جامدا من أن أهب كعاصفة منتقمة.
لن يكون زارا عاصفة وإعصارا، فما هو إلا رقاص ولكنه ليس رقاص عناكب
1 ...
مشاهير الحكماء
جميعكم أيها الحكماء المتمتعون بالشهرة قد خدمتم الشعب وما يؤمن به من خرافات، ولو أنكم خدمتم الحقيقة لما كرمكم أحد، ومن أجل هذا احتمل الشعب شكوككم في بيانكم المنمق؛ لأنها كانت السبيل الملتوي الذي يقودكم إليه، وهكذا يوجد السيد لنفسه عبيدا يلهو بضلالهم الصاخب، وما الإنسان الذي يكرهه الشعب كره الكلاب للذئب إلا صاحب الفكر الحر عدو القيود الذي لا يتعبد، ولا يلذ له إلا ارتياد الغاب.
إن ما حسبه الشعب في كل زمان روحا للعدل إنما هو العدو الكامن المترصد لروح الحرية يستنبح عليها أشد كلابه افتراسا، وقد قيل في كل زمان: «لا حقيقة إلا في الشعب، فويل لمن يطلبها خارجا عنه.»
لقد أردتم أن تؤيدوا الشعب في ما يبدي من خشوع وإجلال، فدعوتم هذه المذلة «إرادة الحق» فيا لكم من حكماء.
غير أنكم كنتم تقولون في أنفسكم، لقد نشأنا من الشعب وصوت الشعب هو صوت الله، فكنتم كالحمار الصبور المراوغ تعرضون وساطتكم على الشعب، ولكم من ذي سلطان أراد أن توافق عجلته ذوق الشعب فقطر لجرها حمارا صغيرا، حكيما مشهورا ...
فيا مشاهير الحكماء، إنني أطلب منكم أن تخلعوا عنكم ما تتلبسون به من جلود الأسود، وجلود الوحوش الكاسرة المخططة وفراء المستكشفين للمجاهل والفاتحين؛ إذ لا يسعني أن أومن بالحقائق التي تنادون بها ما لم تقلعوا عن بذل التبجيل والتعظيم، فما رجل الحق إلا الضارب في القفار ولا إله له؛ لأنه حطم بين جنبيه التبجيل والتعظيم، وإذا هو تلفت ورمال الصحراء تحرق قدميه إلى الواحات حيث يتدفق الماء الزلال، ويمتد وارف الظلال، وترتاح الحياة ملقية عصا الترحال، فلا يقتاده الظمأ إلى الاتجاه نحوها طلبا للاغتباط بين المغتبطين؛ لأنه يعلم أن لكل واحة أصنامها، وما يريد الأسد إلا الانفراد محررا من عبودية الأرباب ومن سعادة المستبدين، بعيدا عن الآلهة والمتعبدين وعن الخوف ومنزليه في القلوب، ذلك ما يصبو رجل الحق إليه، وما عاش رجال الحق إلا في القفار يسودونها بانطلاق تفكيرهم في مجالها الوسيع، وهل في المدن إلا مشاهير الحكماء يتناولون خير الغذاء كذوات الضرع تغذى لتحلب. إنهم يجرون عجلة الشعب وقد كدنوا بها كالحمير.
وما أنا بالناقم عليهم ولكن ليعلموا أنهم خدم مشدودون إلى عجلة، وما يرفع من ذلهم توهج الذهب على العجلة التي يجرونها.
ولطالما أخلص هؤلاء الناس في خدمتهم فاستحقوا الثناء؛ لأن الحكمة تقضي بأن يفتش الخادم عن سيد يستفيد من خدماته.
لقد وجب أن يتسامي عقل سيدك وتعلو فضيلته؛ لأنك بهما تعلو أنت.
والحق أنكم قد علوتم بارتقاء عقل الشعب وفضيلته، أيها الحكماء الخادمون للشعب كما اعتلى هو بكم، وما أعلن هذا لتمجيدكم، فإنكم قد بقيتم أنتم شعبا حتى في فضائلكم، وما تزالون شعبا لا بصيرة له ولا يدرك للعقل معنى.
إنما العقل حياة تمزق الحياة تمزيقا، وما تزداد الحياة معرفة إلا بما تتحمل من آلام، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
لا يسعد العقل إلا إذا مسح بالدموع وتوج بالتضحية، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إن عماء الضرير وتلمسه لطريقه إنما هو شهادة لقوة الشمس، التي حدق بها فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
على طالب المعرفة أن يتعلم البناء باستخدامه الجبال حجارة لإقامة صرحه، وما يصعب على العقل أن ينقل الجبال، فهل كنتم لهذه الحقيقة عارفين؟
إنكم لا تلمحون من العقل إلا ما يقذف به من شرر، فلا تعرفون أي سندان هو هذا العقل، ولا تعرفون أيضا قساوة المطرقة التي تتهاوى عليه.
والحق أنكم تجهلون كبر العقل، ويصعب عليكم احتمال تواضعه لو أراد تواضع العقل أن يعلن حقيقته.
إنكم ما تمكنتم في أي زمان من إرسال عقلكم إلى مهاوي الثلوج، فما بكم الحرارة الكافية لاقتحامها؛ ولذلك لا تدركون لذة من تنعشه لفحات هذه المهاوي، غير أنني أراكم بالرغم من هذا تتقدمون على مداعبة التفكير، وقد جعلتم الحكمة ملجأ ومستشفى للمتشاعرين ...
لستم عقبانا أيها الحكماء المشتهرون، فأنتم إذن لا تدركون ما يلد العقل من لذة في ارتياعه، فلا يحق لغير المجنح أن يخترق الهواء فوق الوهاد.
ما أنتم إلا فاترون أيها الحكماء، وفي كل معرفة عميقة يهب تيار من الصقيع؛ لأن ينابيع العقل الخفية باردة كالثلج، ولا تلذ ببردها غير الأيدي الملتهبة بحرارة جهادها.
إنني أراكم أمامي أيها الحكماء المشتهرون ملفعين بقساوتكم جامدين على غروركم، فما للريح أن تدفعكم ولا للإرادة أن تهيب بكم إلى الإقدام.
أما رأيتم على مضطربات الأمواج شراعا خفاقا يندفع وقد عصفت في ثنياته هوجاء الرياح. إن حكمتي تجتاز العمر خافقة كهذا الشراع، وقد ملأتها عواصف التفكير، تلك هي حكمتي الشاردة النفور، فهل لكم أن تجاروني في اندفاعي أنتم يا من تخدمون الشعب، أنتم مشاهير الحكماء.
هكذا تكلم زارا ...
نشيد الليل
لقد أرخى الليل سدوله فتعالى خرير المياه المتدفقة، ولنفسي أيضا ينبوعها المتفجر.
لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد. إن في داخلي قوة ثائرة تريد إطلاق صوتها، وهي شوق إلى الحب بيانه بيان المغرمين. أنا نور وليتني كنت ظلاما، وما قضي علي بالعزلة والانفراد إلا لأنني تلفعت بالأنوار، ولو أنني كنت ظلاما، لكان لي أن أرسل بركتي إليك أيتها النجوم المتألقة كصغيرات الحباحب في السماء فأتمتع بما تذرين علي من شعاع. غير أنني أحيا بأنواري فأتشرب اللهب المندلع من ذاتي وقد حرمت لذة الآخذين، وقد خطر لي مرارا أن في السرقة من اللذة ما ليس في الأخذ .
إن يدي لا تقف عن البذل، وذلك هو فقري فأنا أنظر أبدا إلى العيون يملؤها الانتظار وإلى الليالي تلهبها الأشواق، وذلك هو الحسد الذي يقض مضجعي.
يا لشقاء الواهبين ... يا لظلمة شمسي ويا لشوقي إلى الاشتياق ويا لشدة المجاعة في شبعي.
إنهم يأخذون ما أهبهم، ولكنني أبقى بعيدا عن أرواحهم فإن بين الباذل والآخذ هوة عميقة، ولعل أقرب الأغوار قعرا أصعبها ردما.
إن نوعا من الجوع ينشأ في أحشائي فيحفزني إلى إيلام من أرسل إليهم أنواري، فأتوق إلى سلب من أغدق عليهم هباتي، وهكذا أتعطش إلى إيقاع الأذية فأرد يدي بعد أن أكون مددتها، وأتردد تردد الشلال في تدفقه نحو مراميه.
إن مثل هذا الانتقام يراود عظمتي، ومثل هذا المكر ينشأ من عزلتي.
لقد فقدت السعادة في العطاء لوفرة ما أعطيت، وقد زهقت فضيلتي من نفسها ومن جودها. إن من يستمر على بذل الهبات مهدد بفقد الحياء، ولا بد أن تتصلب راحته ويتصلب قلبه.
لم تعد مآقي تذوق الدموع على خجل المسترحمين، وها إن يدي قست حتى امتنع عليها أن تشعر بارتعاش الأيدي إذا امتلأت.
أين هي دموع عيني وأين رقة قلبي، فيا لوحدة جميع الواهبين ويا لصمت كل متلفع بالسناء.
إن شموسا لا عداد لها تدور في قفار الأجواء مخاطبة بإشعاعها لبدات الظلام، وأنا وحدي محروم من حديث هذه الشموس وبيانها.
ويلاه! أية علاقة يمكن أن تربط الأنوار بالأجرام المنيرة من نفسها؟ فإن الأنوار تمر عليها وهي تحدجها بلفتات الجفاء وتمضي ذاهبة في سبيلها، وهكذا تسير جميع الشموس في أجوائها نافرة من كل جرم منير باردة لا تحس أخواتها بحرارتها.
إن الشموس تندفع كالعاصفات في أبراجها متبعة ما اختطته إرادتها الجبارة، وفي ذلك كتمان حرارتها وبرودتها.
هل غيرك أيتها الأجرام الملفعة بظلام الليل من يخلق حرارة من اللمعان؟ أنت وحدك ترضعين أفاويق القوة من أثداء النور.
ويلاه إن الصقيع يدور بي ويدي تحترق من لفحات الجليد، فأنا مشتعل بسعار لا يطفئ أواره غير عطشكم، لقد سادت الظلمة فلماذا قضي علي أن أكون نورا منفردا متعطشا إلى الظلام؟
لقد سادت الظلمة فتدفقت كالجداول أشواقي، وهي تريد أن تهتف بما تضمر.
لقد أرخى الليل سدوله، فتعالى خرير المياه المتدفقة ولنفسي أيضا ينبوعها المتفجر.
لقد أرخى الليل سدوله فتعالت الأناشيد من أفواه جميع المغرمين، وما روحي إلا نشيد من هذه الأناشيد.
هكذا تكلم زارا ...
نشيد الرقص
ومر زارا بالغاب يوما ومعه صحبه فاكتشف وهو يفتش عن ينبوع مرجا منبسطا بين الأشجار والأدغال، وكان هنالك رهط من الصبايا يرقصن بعيدا عن أعين الرقباء، وإذ لمحن القادم وعرفنه توقفن عن الرقص، ولكن زارا اقترب منهن وخاطبهن قائلا: داومن على رقصكن، أيتها الآنسات الجميلات، فما القادم بمزعج للفرحين وما هو بعدو للصبايا. أنا من يدافع عن الله أمام الشيطان، وما الشيطان إلا الروح الثقيل، فهل يسعني أن أكون عدوا لما فيكن من بهاء ورشاقة وخفة روح؟
وهل لي أن أكون عدوا للرقص الإلهي ترسمه مثل هذه الأقدام الضوامر الرشيقات ...؟
لا ريب في أنني غابة اشتبكت فيها قاتمات الأشجار، وساد الحلك على أرجائها، ولكن من يقتحم ظلماتي بلا خوف ليجدن تحت سرواتي الرهيبات طرقا تحف بجانبيها الورود، وليجدن أيضا الإله الصغير الذي تشتاقه الصبايا منطرحا بسكون قرب الينبوع وقد أغمض عينيه.
لقد نام في وقت الظهيرة، هذا الإله المتراخي، ولعله سعى طويلا ليصطاد من الفراشات عددا كبيرا.
لا يكدركن مني أيتها الراقصات الجميلات تأديبي لهذا الإله الصغير، ولعله يصيح ويبكي ولكنه إله يجلب المسرة حتى في بكائه، فلسوف أقتاده إليكن والدموع سائلة على خديه ليطلب إليكن أن ترقصنه، وإذا ما رقص فسأرافقه أنا بإنشادي فما تجيء نغماتي إلا هزيجا أصفع به الروح الثقيل، روح الشيطان المتعالي الذي يقول الناس إنه يسود العالم.
وهذه هي الأغنية التي رفع زارا صوته بها بينما كان «كوبيدون» إله الحب يرقص مع الصبايا الفاتنات:
لقد حدقت يوما في عينيك، أيتها الحياة، فحسبتني هويت إلى غور بعيد القرار، غير أنك سحبتني بشابك من ذهب وأطلقت قهقهة ساخرة عندما قلت إن غدرك لا قرار له، وأجبتني: هذا ما تقوله الأسماك جميعها، فهي إذ تعجز عن سبر الأغوار تحسبها لا قرار لها، وهل أنا إلا المتقلبة النفور؟ وهل أنا إلا امرأة، وامرأة لا فضيلة لها، لقد تقول الناس كثيرا عن صفاتي، ولكنهم أجمعوا على أنني غير المتناهية، المليئة بالأسرار.
أيها الناس، إنكم ترون فضائلكم في، فأنتم لا قبل لكم بإدراك شيء آخر غيرها أيها الفضلاء ...
هذا ما كانت تقهقه به في سخريتها تلك الحياة، غير أنني لا أثق بها، ولا أصدق ضحكها عندما تهجو نفسها.
وناجيت يوما حكمتي النفورة فقالت لي غاضبة: إنك تطلب الحياة وتشتاقها وتحبها، وذلك ما يحفز بك إلى بذل الثناء عليها.
ولولا أنني تمالكت نفسي لكنت رددت بعنف على حكمتي، وأعلنت الحقيقة لها وهي تغاضبني، وهل من جواب أشد وقعا على الحكمة من أن تهتك سرائرها.
ما أحب شيئا من صميم الفؤاد إلا الحياة، ولا يبلغ حبي لها أشده إلا حين أكرهها، وإذا ما أنا اندفعت إلى الحكمة، وأغرقت في الالتجاء إليها فما ذلك إلا لأنها تبالغ بتذكيري بالحياة، فإن للحكمة عيني الحياة ولها ابتسامتها، بل لها أيضا شابكها المذهب، فما حيلتي بهما إذا تشابهنا إلى هذا الحد؟
وعندما سألتني الحياة عن الحكمة أجبتها: هي الحكمة يشتهيها الإنسان بكل قوته ولا يشبع منها، فهو يحدق فيها ليتبين وجهها من وراء القناع ويمد أصابعه بين فرجات شباكها متسائلا عن جمالها وما يدريه ما هو هذا الجمال، ومع هذا فإن أقدم الأسماك لا تنفك عن الانجذاب إلى طعمة شباكها فهي متقلبة شديدة المراس، ولكم رأيتها تعض على شفتها وتسرح شعرها، ولعلها شريرة ومخادعة، بل لعل لها صفات المرأة بأجمعها فهي لا تبلغ أبعد مداها في اجتذاب القلوب إلا عندما تهجو ذاتها ...
وبعد أن قلت هذا عن الحكمة للحياة، مرت على شفتيها ابتسامة شريرة، وغيضت من جفنيها قائلة: عمن تتكلم ... لعلك تتكلم عني أنا ... وهل للإنسان أن يعلن مثل هذه الأمور بوجه من تعنيه حتى ولو كان محقا، فما قولك الآن في حكمتك يا هذا ...؟
وفتحت الحياة المحبوبة عينيها فحسبتني عدت إلى التدهور في الهاوية البعيدة القرار.
هذا ما تغنى به زارا وما انتهى الرقص وتوارت الصبايا عن أبصاره حتى تملكه حزن عميق فقال: لقد اختفت الشمس وترطب المرج وقد بدأ الغاب يرسل لفحاته الياردات. إن شيئا مجهولا يدور حولي ويحدجني قائلا: ألم تزل على قيد الحياة يا زارا؟ ولماذا أنت حي بعد؟ وما هي فائدة هذه الحياة؟ ما هو مصدرك وإلى أين مصيرك أفليس من الجنون أن تبقى في الحياة؟
ويلاه أيها الصحاب، إن ما يتناجى في إنما هو الغسق فاغتفروا لي شجوني لقد جاء المساء فاغتفروا لي قدوم المساء ...
هكذا تكلم زارا ...
نشيد القبور
هنالك جزيرة القبور، جزيرة الصمت والسكون، وهنالك أيضا أجداث شبابي، فلأحملن إليها إكليلا من الأزاهر الخالدات.
بهذا ناجيت نفسي، فقررت أن أقتحم الغمر.
يا لصور الشباب وأشباح أحلامه، يا للحظات الغرام! يا لأويقات الحياة الإلهية! لقد تراميت سريعا إلى الزوال، فأصبحت أستعرض ذكرياتك كما أستعرض خيال الأحبة الراقدين في القبور.
إن نفحات الطيب تهب منك يا أعز المضيعات فتروح عن قلبي وتستقطر مدامعي، إنها لنفحات تستنبض قلب العائم وحيدا على العباب.
أنا المنفرد أراني أغنى الناس وأجدرهم بالغبطة؛ لأنك كنت لي يوما أيتها الذكريات ولما أزل أنا لك، فقولي لي: علام تساقطت ثمراتك الذهبية عن أغصانها؟
إنني لم أزل منبتا لغرامك الذي أورثتنيه يا أيام الشباب، وبذكرك تنور فضائلي بعد وحشتها بعديد ألوانها الزاهية.
وا أسفاه، ما كان أولاك بألا تفارقينني أيتها الأيام الساحرات، فقد اقتربت إلي وإلى شهواتي لا كأطيار يسودها الذعر بل كأطيار تستأنس بالواثق بنفسه.
أجل لقد كنت معدة مثلي للبقاء على العهد إلى الأبد، يا أويقات الشباب، وليس لي أن أدعوك خائنة وقد وصفتك بالأويقات الإلهية. لقد مررت سراعا أيتها الأويقات الهاربات وما هربت مني ولا أنا هربت منك، فما أنا مسئول ولا أنت أيضا عن خيانتك وعن خيانتي.
لقد أماتوك طلبا لقتلي يا أطيار آمالي، وصوبت الشرور سهامها نحوك لتصل مخضبة بالدماء إلى قلبي فأصابت هذه السهام مقتلا مني؛ لأنك كنت أعز شيء لدي، بل كنت كل ما أملك، لذلك قضي عليك بالذبول في صباك والزوال قبل أوانك.
لقد صوبت السهام إليك وأنت أنعم من الحرير، وأضعف من ابتسامة تمحوها نظرة قاسية.
فليسمع أعدائي ما أقول: إن القتل أخف جرما من جنايتكم علي، فقد سلبتموني ما لا قبل لي بالاستعاضة عنه بشيء، ذلك ما أقوله لكم أيها الأعداء، أفما قتلتم أحلام شبابي وحلتم دون إتياني بمعجزاتي؟ لقد سلبتم مني تفكيري، وهأنذا أحمل هذا الإكليل لتذكاره حاملا معه لعنتي لكم أيها الأعداء؛ لأنكم قصرتم مدى أبديتي فانقطعت كأنها صوت ينقطع في الزمهرير تحت جنح الظلام فما تسنى لي أن أنظر إلى هذه الأبدية إلا لمحا؛ لأنها توارت عني بطرفة عين.
وأتت ساعة ناجتني فيها طهارتي قائلة: يجب أن تكون جميع الكائنات إلهية، وأنت أرسلت إلي الأشباح المدنسة، يا أيام الشباب، فانقضت تلك السانحة وعادت حكمة الشباب تقول لي: «يجب أن تكون جميع الأيام مقدسة في نظري.» وما هذه الكلمة إلا كلمة الحكمة المرحة، وعندئذ أتيتم أيها الأعداء فحولتم ليالي راحتي إلى أرق وهموم، فأين توارت هذه الحكمة المرحة؟
لقد كنت فيما مضى أتوقع السعادة فأرسلتم على طريقي بومة مروعة مشئومة؛ فتبددت أماني العذاب.
نذرت يوما أن أرجع عن كل كراهة، فحولتم كل ما حولي إلى قروح، فأين مضت مخلصات نذوري الطاهرات؟
لقد مررت على سبيل السعادة كفيف البصر، فرميتم على طريق الأعمى كوما من الأقذار؛ فأصبحت كارها للطريق القديم الذي تلمسته، وعندما توصلت إلى القيام بأصعب أعمالي، عندما تمكنت من الاحتفال بالانتصارات التي تغلبت فيها على ذاتي أهبتم بمن يحبونني إلى الهتاف قائلين بأنني أوقعت بهم أشد الآلام.
والحق أنكم لم تنقطعوا عن تشريد خير العاملات في قفيري وتحويل جناها إلى علقم مرير، ولكم أرسلتم إلى إحساني أشد المتسولين إلحاحا، ودفعتم أهل القحة ليطوفوا بإشفاقي، وهكذا نلتم من فضيلتي وهي ممنعة بإيمانها.
وكنت كلما قدمت أقدس ما عندي محرقة للتضحية تسارعون في تقواكم إلى إحراق أدسم ذبائحكم؛ لتتصاعد أبخرة شحمها مدنسة خير ما قدست.
وطمحت يوما إلى الرقص متعاليا بفني إلى ما وراء السبع الطباق، فأفسدتم علي أعز المنشدين لدي، فرفع عقيرته بأفظع الأناشيد وقرع أسماعي بنغمات الأبواق الحزينة الباكية.
لقد كنت قاتلا أيها المنشد البريء، إذا غدوت آلة في يد الغدر، فقضت نغماتك على خشوعي بينما كنت أتهيأ للقيام بأروع رقصي.
ما أنا بالمعبر عن أسمى المعاني بالرموز إلا عندما أدور راقصا؛ لذلك عجزت أعضائي عن رسم أروع الرموز بحركاتها، فأرتج علي وامتنع علي أن أبوح بسر آمالي. لقد ماتت أحلام شبابي وفقدت معانيها المعزيات.
إنني لأعجب لتحملي هذه الصدمات، وأعجب لصبري على ما فتحت في من جراح، فكيف أمكن لروحي أن تبعث من مثل هذه القبور؟
أجل إن في شيئا لا تنال منه السهام مقتلا، ولا قبل لأحد بدفنه؛ لأنه يزحزح الصخور عنه فتتحطم، وما هذا الشيء إلا إرادتي، والإرادة تجتاز مراحل السنين صامتة لا يعتريها تحول وتغير. إن إرادتي قديمة لا تني تدفع قدمي إلى السير فهي القوة المتصلبة المتعالية عن الفناء.
ليس في من عضو لا يصاب إلا قدمي السائرة إلى الأمام تدفعها هذه الإرادة الثابتة الصامدة المتجلدة، التي تخترق المدافن دون أن تنطرح تحت لحودها.
إن فيك وحدك يا إرادتي يصمد ما لا تبدده أيام الشباب، فأنت لا تزالين حية وفتية تملؤك الآمال، تجلسين على ركام المدافن وقد طبع الزمان عليها قبلاته الصفراء. إنك لن تزالي أيتها الإرادة هدامة لجميع القبور، فسلام عليك يا إرادتي؛ لأنه لا بعث إلا حيث تكون القبور. •••
هكذا تكلم زارا ...
الانتصار على الذات
ليست إرادة الحق في عرفكم، أيها الحكماء، إلا تلك القوة التي تحفزكم وتضطرم فيكم، تلك هي إرادتكم التي أسميها أنا «إرادة تصور الوجود» فإنكم تطمحون إلى جعل كل موجود خاضعا لتصوركم، وأنتم تحاذرون بحق أن يكون هذا الوجود قد أحاط به التصور من قبل، فتريدون أن تخضعوا لإرادتكم كل كائن لتتحكموا فيه بالصقل ليصبح مرآة تنعكس عليها صورة العقل .
هذا ما تطمحون إليه، يا أحكم الحكماء، وتلك هي إرادتكم تجاه القوة والخير والشر وتقدير قيم الأشياء.
إنكم تريدون خلق عالم يمكن لكم أن تجثوا أمامه، تلك هي نهاية نشوتكم وآخر أمنية لكم، ولكن البسطاء الذين يدعون شعبا يشبهون نهرا تخوضه أبدا ماخرة تقل الشرائع، وقد جلسن عليها بعظمة وأنزلن على وجوههن الحجاب.
لقد أرسلتم إرادتكم وشرعتكم على نهر الزمان، ولكن إرادة القوة مثلت أمامي وكشفت لي حقيقة الخير والشر في اعتقاد الشعوب.
وهل سواكم، أيها الحكماء، من أنزل بإرادته المتسلطة هذه الشرائع في هذه الماخرة، وقد حليتموهن بالجواهر وأسبغتم عليهن أروع الأسماء.
لقد سار النهر يحملهن بانسيابه وسهم الماخرة يشق أمواجه ومن يبالي بالموجة تقاوم عبثا في إرغائها إزبادها.
إن الخطر الذي يتهدد خيركم وشركم لا يكمن في النهر، أيها الحكماء، بل الخطر كل الخطر في إرادة القوة نفسها؛ لأنها الإرادة الحية الدائمة المبدعة.
إن ما سأقوله عن الحياة سيوضح لكم اعتقادي في الخير والشر عندما أتناول ببياني ما تفعل العادات في الأحياء.
لقد سايرت الكائن الحي على معابره وأشواطه؛ لأتعرف إلى عادته، وعندما كانت الحياة صامتة نصبت أمامها مرآة بألف ضلع؛ لأستنطق عينيها فكلمتني لحاظها.
في كل مكان عثرت فيه على حي. طرقت أذني كلمات الطاعة فما من حي يتعالى عن الخضوع، وعرفت أيضا أن ليس من محكوم في الحياة سوى من لا قبل له بإطاعة نفسه ... تلك هي عادة كل حي ...
وهذا ما سمعت أخيرا: إن تولي الحكم أصعب من الطاعة؛ لأن الآمر يحمل أثقال جميع الخاضعين له، وكثيرا ما ترهق هذه الأثقال كواهل الآمرين.
إن في كل أمر خطرا ومجاذفة، وكل مرة يصدر الحي فيها أمرا يقتحم خطرا.
وإذا ما تحكم الحي في ذاته فإنه يؤدي جزية لسلطانه؛ إذ يصبح قاضيا ومنفذا وضحية للشرائع التي يستنها.
وتساءلت عن علة هذه الأمور وعن القوة التي ترغم الحي على الانقياد والتحكم فتجعله خاضعا حتى إذا حكم، ولعني توصلت إلى سبر قلب الحياة إلى الصميم، فأصغوا إلى قولي أيها الحكماء .
لقد تيقنت وجود إرادة القوة في كل حي، ورأيت الخاضعين أنفسهم يطمحون إلى السيادة؛ لأن في إرادة الخاضع مبدأ سيادة القوي على الضعيف، فإرادة الخاضع تطمح إلى السيادة أيضا لتتحكم فيمن هو أضعف منها، وتلك هي اللذة الوحيدة الباقية لها فلا تتخلى عنها.
وبما أن الأضعف يستسلم للأقوى والأقوى يتمتع بسيادته على هذا الأضعف، فإن الأقوى يعرض نفسه للخطر في سبيل قوته؛ فهو يجاذف بحياته مستهدفا للأخطار.
إن إرادة القوة كامنة حتى في مجال التضحية والخدمة المتبادلة وبين نظرات العاشقين؛ لذلك يتجه الأضعف إلى السبل الملتوية قاصدا اجتياز الحصن والتربع في قلب الأقوى مستوليا فيه على قوته.
لقد أودعتني الحياة سرها قائلة: لقد تحتم علي أن أتفوق أبدا على ذاتي. وإنكم لتحسبون هذا الاندفاع إرادة إبداع أو غريزة تحفز بي إلى الهدف الأسمى والأبعد منالا بعديد جهاته، في حين أن ليس هنالك إلا وجهة واحدة وسر واحد، وإنني لأفضل العدم على التحول عن هذه الوحدة.
والحق أنكم حيث تشهدون انحدارا وسقوط أوراق من الأدواح، فهنالك تشهدون تضحية الحياة من أجل القوة.
لقد وجب علي أن أكون أنا الجهاد والمستقبل والهدف، وأن أكون في الوقت نفسه الحائل الذي يعترضني في انطلاقي إلى هدفي؛ لذلك لا يعرف الإنسان الطريق المتعرجة التي عليه أن يسلكها إذا هو لم يدرك حقيقة إرادتي.
مهما كان الشيء الذي أبدعه، ومهما بلغ حبي له فإن علي أن أنقلب له خصما، وأتحول عن حبي وحناني، ذلك ما قضته إرادتي علي.
وأنت، أنت يا من تطلب المعرفة ليس لك من سبيل غير سبيلي، فعليك أن تقتفي أثر إرادتي، وما تقتفي إرادتي إلا آثار إرادة الحق.
ما عثر على الحقيقة من قال بإرادة الحياة؛ لأن مثل هذه الإرادة لا وجود لها، وليس للعدم إرادة كما أن المتمتع بالحياة لا يمكنه أن يطلب الحياة.
ولا إرادة إلا حيث تتجلى حياة، ومع هذا فإن ما أدعو إليه إن هو إلا إرادة القوة لا إرادة الحياة.
إن هنالك أمورا كثيرة يراها الحي أرفع من الحياة نفسها، وما كان ليرى أشياء أفضل من الحياة، لو لم تكن هنالك إرادة القوة.
هذا ما علمتني إياه الحياة يوما، وأنا بهذا التعليم أهتك أسرار قلبكم، أيها الحكماء، فأقول لكم: إنه ليس هنالك من خير دائم وشر دائم؛ لأن على الخير والشر كليهما أن يندفعا أبدا إلى التفوق والاعتلاء.
وأنتم أيها الواضعون للقيم أقدارها بمقاييسكم وموازينكم، وبما تقولونه عن الخير والشر هل كان لكم أن تفعلوا هذا لو لم تكن لكم إرادة القوة؟ وما تطمحون في أعماق ضمائركم إلا إلى الشهرة والشعور بتأثركم وفيضان أرواحكم. إنكم تجهلون أن في الأمور التي تخضعونها لتقديركم قوة أعظم من تقديركم تنمو وتتفوق على ذاتها لتحطم غلافها وقشورها، فمن أراد أن يكون مبدعا سواء أكان في الخير أم في الشر، فعليه أن يبدأ بهدم ما سبق تقديره وبتحطيمه تحطيما. وهكذا فإن أعظم الشر يبدو جزاء من أعظم الخير، ولكن هذا الخير لم يعط إدراكه إلا للمبدعين.
لقد حق علينا القول، أيها الحكماء، مهما كلفنا الجهر به فإن الصمت أشد وطأة علينا؛ لأن كل حقيقة نكتمها إنما تتحول إلى سم زعاف فينا، فلنحطم الحقائق التي نجهر بها ما يمكنها أن تحطم فإن هنالك أبنية عديدة يجب علينا أن نرفعها.
هكذا تكلم زارا ...
العظماء
إن في بحرا هدأت أعماقه، فمن يظن أنه يخفي مسوخا دأبها المزاح؟ إن أغواري صامدة لا تتزعزع، غير أنها تتماوج بالمعميات وتتجاوب فيها من الضحك نبرات وأصداء.
رأيت اليوم رجلا من العظماء الأجلاء الذين يكفرون من أجل الروح؛ فاستغرقت روحي في ضحكها هازئة بقبحه. غير أن هذا العظيم لم يبد ولم يعد، بل انتفخ صدره كمن يتنفس الصعداء، فلاح لي بحقائقه المروعة وبأثوابه الممزقة غصنا كله أشواك وليس فيه ورود.
ما تعلم هذا القناص الضحك ولا عرف الجمال، فإنه راجع من غاب المعرفة أغبر الوجه بعد أن صارع فيها الوحوش فانطبعت صورهم على سيمائه، فهو كالنمر يتحفز للوثوب، وما أحب مثل هذه الأرواح المنقبضة على ما تضمر.
تقولون، أيها الصحاب ، إنه لا جدال في الذوق وفي الألوان فكأنكم تجهلون أن الحياة بأسرها نضال من أجل الأذواق والألوان.
ما الذوق إلا الموزون والميزان والوازن ... فويل لكل حي يريد أن يعيش دون نضال من أجل الموزونات والموازين والوازنين.
ليت هذا الرجل العظيم يتعب من عظمته؛ ليظهر الجمال فيه فإنه في ملاله من هذه العظمة يستحق أن أتذوقه فأجد له طعما.
إذا لم يتحول العظيم عن نفسه فلا يمكنه أن يقفز فوق خياله لتغمره أشعة شمسه. لقد تفيأ الظل طويلا هذا المفكر من أجل الروح، فشحب وجهه وكاد في انتظاره أن يموت جوعا، وهذه عيناه تشعان بالاحتقار وشفتاه تتبرمان بالاشمئزاز، إنه يلتمس الراحة الآن ولكنه لم ينطرح تحت الشمس بعد.
ليت هذا الرجل يتمثل بالثور فيفوح من سعادته عبق الأرض لا احتقار الأرض، ليته كالثور الأبيض يعج أمام المحراث فيرتفع عجيجه تسبيحا للأرض وما عليها.
لقد اكفهر وجه هذا العظيم؛ إذ تلاعبت على خديه أظلال يده فاختفت عيناه، وأعماله لم تزل كالخيال تلوح ولا تبدو عليه، فإن اليد ترسل ظلا قاتما على العامل إذا هو لم يتفوق على عمله.
إنني أقدر احتمال هذا الرجل لنير الثور، ولكنني أتمنى أن تشع نظرات الملاك في عينيه، ولن تشع هذه النظرات ما لم ينس ما فيه من إرادة الأبطال؛ لأن ما أريد له هو أن يصير رجلا ساميا لا أن يبقى في مرتبة الرجل العظيم حيث يفقد الإنسان إرادته فتتلاعب به أضعف النسمات.
لقد تغلب هذا العظيم على الجبابرة، وتوصل إلى حل الرموز، ولكن عليه الآن أن ينقذ هؤلاء الجبابرة وهذه الرموز؛ ليحولها إلى طفولة الألوهية.
إن معرفة هذا الرجل لم تتعلم الابتسام ولا الترفع عن الحسد، كما أن موجة شهواته لم تسكن في خضم الجمال، وما عليه أن يدفع بهذه الشهوات إلى سكون الشبع، بل عليه أن يغرقها في الجمال؛ لأن اللطف لا ينفصل عن مكارم من بلغوا الأوج بتفكيرهم.
على البطل ألا يستسلم للراحة ما لم يضع يده على رأسه يتفوق على راحته ، وما يصعب على البطل شيء كإدراكه الجمال؛ لأن الجمال لا يستسلم لأبناء العنف.
إن بين الإفراط والتفريط قيد أنملة، فلا تحتقروا هذا المدى لأنه بعيد وإن قصر، وفيه الأهمية الكبرى. ولكن عضلات العظماء لا تلجأ إلى السكون وإرادتهم لا تنضب، وما من جمال إلا في تنازل القوة إلى الرحمة وحلولها في المنظور.
إنني لا أطالب بالرحمة سواك، أيها المقتدر، فلتكن الرحمة آخر مرحلة تقطعها في انتصارك على ذاتك، وما كنت لأفرض الخير عليك لولا أنني أراك قادرا على ارتكاب كل الشرور، ولكم أضحكني أولئك الصعاليك يعدون أنفسهم رحماء وقد شلت يدهم ولا حول لهم ولا طول.
عليك أن تتمثل في فضيلتك بفضيلة الأعمدة التي تزداد بهاء ودقة وصلابة في لبابها كلما ازداد ارتفاعها.
أجل أيها الرجل العظيم إنك ستبلغ الجمال يوما، فترفع المرآة إلى وجهك لتتمتع برؤية جمالك وعندئذ تختلج روحك بالشهوات وعندئذ تتجلى العبادة في غرورك.
لا يقترب البطل في أحلامه إلى مرتبة البطل الكامل ما لم يغفل الروح ويتحول عنها.
هكذا تكلم زارا ...
في بلاد المدنية
ذهبت بعيدا طائرا في أجواء المستقبل فارتعشت وذعرت عندما نظرت ما حولي فما وجدت من معاصر لي غير الزمان. وليت الأدبار مسرعا حتى وصلت إليكم، يا رجال اليوم، ونزلت بينكم في بلاد المدنية، فألقيت عليكم أول نظراتي بصفاء نية؛ لأنني جئتكم بقلب مصدوع، ولا أعلم ما أهاب بي إلى الضحك بالرغم من ارتياعي، فإن عيني ما رأت من قبل مثل هذه الخطوط والألوان.
ذهبت في ضحكي وقد ارتعش قلبي واصطكت رجلاي، فقلت في نفسي: «لعل هذه مصانع الآنية الملونة.»
لقد برزتم أمامي يا رجال اليوم، وعلى وجوهكم وأعضائكم من الألوان عشرات الأنواع، وحولكم عشرات المرايا تعكس تموجات ألوانكم، والحق أنكم لا تستطيعون أن تجدوا ما تتقنعون به أشد غرابة من وجوهكم نفسها، فمن له أن يعرف من أنتم؟
لقد حفر الماضي في وجوهكم آثاره فألقيتم فوقها آثارا جديدة؛ لذلك خفيت حقيقتكم عن كل معبر وأعجزت كل بيان.
ولو كان لأحد أن يفحص الأحشاء فهل بوسعكم أن تثبتوا أن لكم أحشاء، وما أنتم إلا جبلة هباب وقطع أوراق ألصقت إلصاقا، وهذه جميع الأزمنة وجميع الشعوب تتزاحم مرسلة نظراتها وراء قناعكم كما تفصح جميع حركاتكم عن تراكم كل العادات والمعتقدات فيكم، فإذا ما نزعت أقنعتكم وألقيت أحمالكم ومسحت ألوانكم ووقفت حركاتكم فلا يبقى منكم إلا شبح ينصب مفزعة للطيور.
والحق، ما أنا إلا طائر مروع؛ لأنني رأيتكم يوما عراة لا تستركم ألوانكم؛ فاستولى الذعر علي إذ انتصبتم أمامي هياكل عظام تومئ إلي بإشارات العاشقين.
إنني أفضل أن أكون من عمال الجحيم وخدام الأشباح؛ لأن لسكان الجحيم ما ليس لكم من شخصية معينة، وأمر ما ألقاه هو أن أنظر إليكم سواء استترتم أو تعريتم، يا رجال اليوم ...
إن جميع ما يدعو إلى القلق في آتي الزمان، وجميع ما ارتاعت له في الماضي تائهات الطير، إنما هو أدعى إلى الاطمئنان والارتياح من حقيقتكم؛ لأنكم أنتم القائلون: «إنما نحن الحقيقة المجردة عن كل خرافة واعتقاد.» وبهذا تتبجحون وتنتفخون دون أن يكون لكم صدور.
وهل من عقيدة لكم وأنتم المبرقشون بجميع ما عرف الزمان من ألوان حتى اليوم؟ وهل أنتم إلا دحض صريح للإيمان نفسه وتفكيك للأفكار جميعها؟ فأنتم كائنات أوهام يا من تدعون أنكم رجال الحقائق.
لقد قامت العصور كلها تتعارك في تفكيركم، وما كانت هذه العصور في أحلامها وهذيانها إلا أقرب إلى الحقيقة من تفكيركم وأنتم منتبهون.
بليتم بالعقم ففقدتم الإيمان، وقد كانت للمبدع أحلامه وكواكبه قبلكم فوثق من إيمانه.
ما أنتم إلا أبواب فتحت مصاريعها لحفار القبور، وما حقيقتكم إلا القول بأن كل شيء يستحق الزوال.
إنكم تنتصبون أمامي كهياكل عظام متحركة، أيها المبتلون بالعقم، ولا ريب في أن أكثركم لم يخف عليه أمر عندما تساءل: «هل اختطف إله مني شيئا وأنا نائم؟ والحق أن ما سلب مني يكفي لإيجاد امرأة، فما أضعف أضلاعي!» هكذا يتكلم العدد الوفير من رجال هذا الزمان.
إن حالكم ليضحكني أيها الرجال، ويزيد في ضحكي أنكم لأنفسكم مستغربون، ولشد ما يكون ويلي لو امتنع علي أن أضحك من استغرابكم ولو اضطررت إلى ازدراد ما في أوعيتكم من كريه الطعام.
إنني أستخف بكم لما على عاتقي من ثقيل الأحمال، فما يهمني لو نزل عليها بعض الذباب فإنه لن يزيدها ثقلا، وما أنتم من يحملني أشد الأتعاب أيها المعاصرون.
وا أسفاه! إلى أية ذروة يجب علي أن أرتقي بأشواقي؟ فإنني أدير لحاظي من أعالي الذرى مفتشا عبثا عن مسقط رأسي وأوطاني، فأنا لا أزال في أول مرحلتي تائها في المدن أتنقل أمام أبوابها.
لقد اندفعت بعواطفي نحو رجال هذه الأيام، ولكنني ما لبثت أن تبينت فيهم قوما غرباء عني لا يستحقون إلا سخريتي، وهكذا أصبحت طريدا يتشوق إلى مسقط رأسه وأوطانه، ولا وطن لي بعد الآن إلا وطن أبنائي في الأرض المجهولة وسط البحار السحيقة؛ لذلك وجب علي أن اندفع بشراعي على صفحات المياه لأفتش عن هذا الوطن.
علي أن أكفر عن ذنبي أمام أبنائي؛ لأنني كنت ابنا لآبائي، علي أن أكفر عن حالي العتيد بكل جهودي في آتي الزمان.
هكذا تكلم زارا ...
المعرفة الطاهرة
عندما أطل القمر علي ليلة أمس خيل إلي أنه أنثى أثقلها الحبل، وكأن في أحشائها كوكب النهار، وقد جاءها المخاض وأنا أميل إلى تذكير القمر مني إلى تأنيثه وإن خلا من صفات الرجولة فإنه رائد ليل يمر على السطوح، وقد ساءت نواياه، فهو كالراهب المتدفق شهوة وحسدا يتمنى لو يتمتع بملذات جميع العاشقين.
لا، إنني لا أحب هذا الهر المتجول على مزاريب السطوح؛ لأنني أكره كل متلصص أمام النوافذ التي لم يحكم إقفالها.
إن القمر ليمر خاشعا متعبدا على بساط النجوم، وأنا أكره كل من ينساب في مشيته فلا تسمع وقعا لأقدامه، فإن خطوات الرجل الصريح تستنطق الأرض، وما يمشي الهر إلا متجسسا، وهذا القمر لا يتقدم إلا بخطوات الغدر كالهر.
ما أوردت هذا المثل إلا لكم وعنكم يا أبناء الخبث، وقد أرهقكم إحساسكم لطلب المعرفة الصافية، وما أنتم في نظري إلا عبيد الملذات؛ لأنكم أنتم أيضا تحبون الأرض وما عليها ومنها. لقد عرفت طويتكم فإذا في حبكم ما يخجل وما يفسد الأخلاق، فما أشد شبهكم بكوكب الليل!
لقد أقنعوكم بأن تحتقروا كل ما ينشأ من التراب، ولكن هذا الإقناع لم ينفذ إلى أحشائكم، وأحشاؤكم هي أقوى ما فيكم، وهكذا أصبح عقلكم خجلا من سيطرة أحشائكم عليه، فهو يتبع الطرق الخفية المضللة فزعا من خجله. أنصتوا إلى مناجاة عقلكم لنفسه فهو يقول: ليت لي أن أرتقي إلى حيث أنظر إلى الحياة محررا من الشهوة، فلا ألهث أمامها ككلب يدلي لسانه وقد شفه السغب من شهوته.
ليت لي أن أسعد بالتأمل متفوقا على إرادتي متحررا من خساسة الأنانية ومطامحها؛ فيسود علي السلام ولا يبقى لعيني سوى لحظات القمر الثملة.
إن عقلكم يطلب التملص من ذاته؛ لأنه طريد يشتهي أن يتعشق الأرض كما يتعشقها القمر فلا تتمتع إلا عيونكم بجمالها.
إن المعرفة الطاهرة لا تحتل عقولكم ما لم ينبسط أمام الأشياء دون امتلاكها مكتفيا بانعكاس أشباحها عليه كما تنعكس الأشباح على مرآة لها مئات العيون.
أيها الخبثاء المتحرقون بالشهوات، لقد خلت شهوتكم من الطهارة؛ فلذلك تجدفون على الشهوة، فأنتم لا تحبون الأرض كما يحبها المبدعون والمجددون الذين يسرون بما يبدعون وبما يجددون، فلا طهارة إلا حيث تتجلى إرادة الإبداع، فمن اتجه إلى خلق من يتفوق عليه فذلك عندي صاحب أطهر إرادة وأنقاها.
طلبت الجمال فما وجدته إلا حيث تنصب الإرادة بأكملها إلى المراد، وحيث يرتضي الإنسان بالزوال لتجديد الصور وتبديلها، فالمحبة والموت صنوان متلازمان منذ الأزل، فمن أراد المحبة فقد رضي بالموت. هذا ما أقوله لكم أيها الجبناء.
ولكن نظراتكم المنحرفة المؤنثة تحب الاستغراق في التأمل، فتريدون أن يدعى جمالا ما تحدجونه أنتم بعين الحذر والجبن، إنكم لتدنسون أشرف الأسماء.
إن اللعنة التي تحل بكم، أيها السائرون، وراء المعرفة الطاهرة إنما هي عجزكم عن التوليد في حين أنكم تلوحون كالحبالى المثقلات على الآفاق.
إنكم تحشون أفواهكم بأنبل الكلمات لإيهامنا بأن قلبكم يتدفق عطفا، وما أنتم إلا منافقون.
لقد أخشنت القول لكم فكلماتي مشوهة ذرية، غير أنني أتناولها من الفتات المتساقط من موائد ولائمكم فأستعملها حين أعلن الحقيقة للخبثاء، وهذا ما بيدي من حسك وأصداف يخدش آنافكم أيها الخبثاء.
إن الهواء الفاسد يهب بلا انقطاع حولكم وحول مآدبكم؛ لأنه مشبع من أفكاركم الدنسة وأكاذيبكم وخداعكم.
عليكم أن تبدءوا باطراح خوركم؛ لتتوصلوا إلى الوثوق بأنفسكم، فما ينقطع عن الكذب من لا ثقة له بنفسه.
لقد أخفيتم وجوهكم بأقنعة الآلهة أيها الرجال الأتقياء، فأنتم ديدان قبيحة تتشح برداء الأرباب.
إنكم لجد متبجحون يا رجال التأمل، حتى إن زارا نفسه أخذ بمظاهر جلودكم الإلهية فخفيت عنه الأفاعي الكامنة وراءها.
لقد كنت أرى في عيونكم روح إله أيها الطالبون المعرفة الطاهرة، قبل أن تكشف لي تصنعكم فعرفت أنكم أمهر المتصنعين.
لقد بعد المجال بيني وبينكم فما تميزت فيكم الثعبان القبيح، ولا وصلت إلي رائحته الكريهة، وما خطر لي أن أمامي حرباء تتلون بشهواتها، ولكنني عندما اقتربت منكم تبددت الظلمة حولي، وها إن الفجر يغمركم بأنواره فلكل قمر جنوح إلى الغياب في شهوته. انظروا إلى هذا القمر فهو في أفقه شاحب مذعور، وقد باغته الفجر بأنواره المرسلة، فكل شمس يتجلى حبها الطاهر في تشوقها إلى الإبداع.
أما ترون الفجر ينسحب على البحر وقد اهتاجه الشوق والحنين؟ إنما تشعرون بظمئه في حبه وحر أنفاسه، فكأنه يريد ارتشاف اللجج، وها هي ذي تتعالى نحوه بآلاف نهودها، واللجة نفسها متشوقة إلى وصال كوكب النهار ليرشفها ارتشافا فتتحول إلى سحب ومسالك أنوار، بل هي نفسها تفنى في النور متحولة إلى نور.
وأنا كوكب النهار أحب الحياة وكل لجة بعيدة الأغوار، تلك هي معرفتي. إنني أجتذب كل غور ليتعالى إلي ...
هكذا تكلم زارا ...
العلماء
وكنت نائما فإذا نعجة تتقدم فتقضم الغار المعقود إكليلا على رأسي، فكانت تعمل أنيابها فيه وتقول: لم يعد زارا من العلماء.
وذهبت بعد ذلك مزدرية متفاخرة، ذلك ما أخبرنيه أحد الأولاد.
أحب أن أستلقي على الأرض حيث يلعب الأطفال تحت الجدار المتهدم، وقد نبت في شقوقه العوسج والشقائق الحمراء، فإنني لم أزل عالما في عيون الصغار وفي عيون العوسج والشقائق الحمراء؛ لأنها طاهرة حتى في أذيتها.
أنا لم أعد عالما في نظر النعاج. تبارك حظي فهذا ما قضي به علي، والحقيقة هي أنني هجرت مسكن العلماء فخرجت منه جاذبا بابه بعنف ورائي.
لقد جلست روحي الجائعة طويلا إلى الخوان، وما أنا كالعلماء متطبع على المعرفة كمن اتخذ كسر القشور مهنة له، فأنا عاشق الحرية والسير في الهواء الطلق على الأرض الباردة، كما أفضل أن أتوسد جلود الثيران على افتراش أمجاد العلماء وألقابهم.
إن بي من الحماس ومن لهب الفكر ما يقطع علي أنفاسي، فلا يسعني إلا الاندفاع إلى رحب الفضاء هاربا من الغرف المكسوة بالغبار.
ولكن هؤلاء العلماء يتفيئون الظلال فلا يقتحمون السير على المسالك التي تلهبها حرارة الشمس، بل يكتفون بالاستكشاف كالمتفرجين يفتحون أشداقهم وينظرون إلى المارة في الشارع، هكذا يفتح العلماء أشداقهم وينتظرون اتقاد شرارة الفكر في أدمغة المفكرين، وإذا ما لمستهم بيدك تطاير الغبار ما حولهم كأنهم أكياس من الحنطة، ولكن لا يظنن أحد أن هذا الغبار المتطاير منهم هو دقيق السنابل الصفراء التي يتشح بها الصيف في زهوه.
إذا ما تظاهر العلماء بالحكمة، فإن حقائقهم وأحكامهم تهزني برعشة البرداء؛ إذ تنتشر منها روائح المستنقعات، ولكم أسمعتني حكمتهم نقيق الضفادع.
إن لهؤلاء العلماء مهارتهم ولأناملهم لباقتها، فليس من نسبة بين صراحتي وتعقيدهم، فأناملهم لا تني تغزل وتحيك ناسجة للعقل ما يستره؛ فهم كالساعات إذا ما أحكم ربط رقاصها دلت بضبط على سير الزمان وأسمعتك طقطقة خافتة. إنهم يعملون كحجر الرحى فيطحنون كل ما تلقي إليهم من حبوب، وكل منهم يراقب حركة أنامل الآخرين، وجميعهم يتلهون بالنكايات ويترصدون من يتعارج بعلومه، فهم أشبه بالعناكب في تلصصهم، ولكم رأيتهم يستقطرون سمومهم بكل حذر ساترين أيديهم بقفازات من زجاج، ولهم مهارة خاصة بلعب النرد المزور، ولكم انحنوا فوقه والعرق يتصبب من وجوههم.
لا صلة بيني وبين هؤلاء الناس؛ فإن فضائلهم تبعد عن فضائلي بأكثر مما تبعد عنها أكاذيبهم ونردهم المزور.
وما وجدت مرة بينهم إلا وكنت فوقهم؛ لذلك أبغضني هؤلاء العلماء، فإنهم لا يطيقون أن يسمعوا بمرور أي كان فوق رءوسهم، ولذلك وضعوا الأخشاب فوق رءوسهم، وأهالوا فوقها التراب والأقذار ليخنقوا وقع أقدامي، ولم يزل حتى اليوم أكثرهم علما أقلهم إدراكا لأقوالي.
لقد نصبوا بيني وبينهم حائلا كل ما في الإنسان من ضعف وضلال، وهم يدعون هذا الحصن لمسكنهم بالسقف المستعار.
ولكني بالرغم من كل هذا لا أزال أمشي فوق رءوسهم وأنا أنشر أفكاري، ولو أنني مشيت على عيوبي فلن أزال ماشيا فوق جباههم، ذلك لأنه لا مساواة بين البشر، وهذا ما يهتف به العدل، فما أريده أنا لا حق لهم بأن يتناولوه بإرادتهم.
هكذا تكلم زارا ...
الشعراء
وقال زارا لأحد أتباعه: منذ بدأت أعرف حقيقة الجسد لم تعد الروح روحا في نظري إلا على أضيق مقياس، وهكذا صرت أرى «كل ما لا يفنى» رمزا من الرموز.
فأجاب التابع قائلا: لقد قلت هذا من قبل يا زارا، ولكنك أضفت إليه قولك: «وكثيرا ما يكذب الشعراء.» فلماذا قلت هذا؟
فقال زارا: أنت تسأل لماذا، وما أنا ممن يحق عليهم أن يسألوا. ما أنا ابن الأمس وقد مر زمان طويل على إدراكي أسباب ما أرتئيه، وهل أنا خزانة تذكارات لأحفظ الأسباب التي بنيت عليها آرائي؟ إنما يكفيني عناء أن أحفظ هذه الآراء نفسها، أفليس في العالم عصافير تشرد من أماكنها، ولكم وجدت في قفصي من طير غريب يرتجف إذا ما أمررت عليه يدي، ومع ذلك فماذا قال لك زارا يوما؟ لقد قال إن الشعراء كثيرا ما يكذبون، وهل كان زارا نفسه إلا واحدا من هؤلاء الشعراء؟ أفتحسب أنه بهذه الصفة قد أعلن الحق؟ وما الذي يكرهك على تصديقه؟
فقال التابع: إنني مؤمن بزارا.
أما زارا فهز رأسه وابتسم قائلا: ليس الإيمان مما يرضيني حتى ولو كان هذا الإيمان معقودا علي، ولكن إذا قال إنسان بكل جد: إن الشعراء يكذبون، فإنه ليقول حقا؛ لأننا نحن الشعراء نكذب كثيرا، ولا بد لنا من الكذب ما دام ما نجده من العلم قليلا، ومن من الشعراء بيننا لم يغش شرابه وفي سراديبنا تستقطر السوائل المسمومة؟ ولكم فيها من أمور يقصر عن وصفها البيان. إن افتقارنا في المعرفة يهيب بنا إلى محبة مساكين العقول، وبخاصة إلى محبة مسكينات العقول الفتيات ... فنحن نعود بشهواتنا إلى الأمور التي تتحدث عنها العجائز في السمر، ونقول إن ما نبحث فيه إنما هو قضية المرأة الأبدية.
يخيل لنا أن أمامنا طريقا سويا يؤدي إلى المعرفة، وأن هذا الطريق لا ينكشف لمن يدركون الأمور بالعلم، فنحن لا نؤمن إلا بالشعب وبحكمته، فالشعراء جميعهم يعتقدون أن الجالس على منحدر جبل مقفر يتنصت إلى السكون يتوصل إلى معرفة ما يحدث بين الأرض والسماء، وإذا هم هزهم الشعور المرهف خيل لهم أن الطبيعة نفسها أصبحت مغرمة بهم؛ فيرونها تنحني على آذانهم لتلهمهم البيان الساحر والأسرار، فيقفون مباهين بإلهامهم أمام كل كائن يزول.
وا أسفاه! إن بين الأرض والسماء أمور كثيرة لا يحلم بها إلا الشعراء، وهنالك أمور أخرى كثيرة فوق السماء، فما جميع الآلهة إلا رموز أبدعها الشعراء.
والحق أننا منجذبون أبدا إلى العلياء، إلى مسارح الغيوم فنرسل إليها أكرا منفوخة ملونة ندعوها آلهة وبشرا متفوقين، والحق أنهم من الخفة على ما يجعلهم أهلا لاقتعاد مثل هذه العروش.
ويلاه! لكم تعبت من كل قاصر يطمح إلى جعل نفسه شيئا معدودا! ولكم أتعبني الشعراء!
وما نطق زارا بهذا الكلام حتى ثارت نفس تابعه، ولكنه كظم غيظه فسكت وسكت زارا أيضا وغيض نظره كأنه يستر أقاصي نفسه، ثم تنفس الصعداء وقال: أنا من الأمس ومن الزمن القديم ولكن في شيئا من الغد وبعده ومن الآتي البعيد، فقد أتعبني الشعراء الأقدمون منهم والمجددون، فما هم في نظري إلا رغوة لا صريح تحتها، بل هم أسرة بحار جفت مياهها. إن أفكارهم لم تنفذ إلى الأغوار، وقد وقف شعورهم عند أول جرفها، وخير ما ترى في تأملاتهم قليل من الشهوة وقليل من الضجر، فليست بحورهم إلا مجالات تنزلق على تفاعيلها الأشباح، فهم لم يدركوا شيئا بعد من القوى الكامنة في النبرات. لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكرون جداولهم؛ ليخدعوا الناس ويوهموهم أنها بعيدة الغور. إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفقين بين مختلف المعتقدات غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص السائرين على السبل المتوسطة الحائرة فهم يعكرون المياه بأقذارهم.
وا أسفاه لقد ألقيت شباكي في بحارهم آملا اصطياد خير الأسماك، ولكنني ما سحبت هذه الشباك مرة إلا وقد علق فيها رأس إله قديم، وهكذا كان يجود البحر بحجر على الجائع. ولعل الشعراء أنفسهم خرجوا هم أيضا من البحر وفيهم ولا ريب بعض اللآلئ، فهم أشبه بنوع من المحار الممنع بأصدافه، ولكم وجدت في داخلهم بدل الروح شيئا من الرغوة المالحة. إن الشعراء يقتبسون من البحر غروره، وهل البحر إلا أشد الطواويس غرورا؟ فهو حتى أمام أقبح الجواميس يدحرج أمواجه ويبسط أطالس مراوحه وأطراف وشاحه المفضض، فيحدجه الجاموس بنظرات الغيظ؛ لأن روحه المقتربة من الشاطئ لا تزال ملتصقة بمعلفه ومرعاه فما يبالي بالجمال وبالبحر وببهاء الطواويس. هذا هو المثل الذي أضربه للشعراء، والحق أن فكرهم لطاووس مغرور، بل هو بحر من الغرور، ففكر الشاعر يطلب من يشاهده حتى ولو كان المشاهد جاموسا.
لقد أتعبني هذا الفكر وسوف يأتي زمان - وهو قريب - يتعب فيه هذا الفكر من ذاته.
رأيت بعض الشعراء يتحولون عن الشعر، ويوجهون النقمة إلى ما كانوا عليه، ورأيت من يقدمون كفارة للفكر، وما نشأ هؤلاء المكفرون عن الضلال إلا بين الشعراء.
هكذا تكلم زارا ...
الحادثات الجسام
على مقربة من جزر زارا السعيدة، تقوم في البحر جزيرة فوقها بركان يقذف حممه عليها بلا انقطاع، ويقول الشعب وبخاصة العجائز فيه: إن هذه الجزيرة منتصبة صخرا يسد باب الجحيم، غير أن هنالك منفذا ضيقا يخترق البركان وينتهي إلى هذا الباب.
في ذلك الزمان، حين كان زارا يسكن جزره السعيدة ألقى مركب مرساته أمام الجزيرة التي يعلوها الجبل المشتعل، ونزل بحارته إلى البر ليقتنصوا بعض الأرانب، وما حان وقت الظهيرة واجتمع القبطان برجاله بعد أن لموا شعثهم حتى رأى هؤلاء الناس رجلا يخترق الفضاء بغتة إليهم ثم اقترب منهم وصاح بهم بصوت جلي قائلا: لقد حان الزمن، لقد اقترب كثيرا ...
ومر بهم الشبح مسرعا وهو يتجه إلى البركان، فتميزوا به شخص زارا؛ لأنهم كانوا رأوه من قبل جميعهم ما عدا القبطان، وأحبوه كما يحب الشعب من يخشى.
فقال شيخ البحارة: هذا زارا يسير إلى الجحيم.
وفي الزمن الذي نزل فيه البحارة إلى جزيرة اللهب، كان شاع اختفاء زارا بين الناس وقال صحبه لمن سألوا عنه: إنه أبحر على مركب تحت جنح الظلام، ولم يعرف أحد الوجهة التي يقصدها.
هكذا ساد القلق من اختفاء زارا، وبعد ثلاثة أيام زاد هذا القلق بعد أن أخبر البحارة بما رأوا، وشاع بين الشعب أن إبليس قد اختطف زارا، ولكن صحب زارا لم يأبهوا لهذه الإشاعة بل ضحكوا منها وقالوا: إن ما نعتقده هو أن زارا قد اختطف الشيطان.
غير أن اختفاء زارا كان يشغل بال صحبه، وما مضت خمسة أيام حتى عاد إليهم، فكان سرورهم عظيما.
وهذا ما نقله زارا لهم عن حديثه مع كلب النار. قال: إن للأرض جلدا ولهذا الجلد أمراضه، وأحد هذه الأمراض الإنسان وهنالك مرض آخر يدعى كلب النار، وقد كان هذا الكلب السبب في تناقل الناس الأكاذيب وتصديقهم لها، وما اجتزت البحار إلا لأكشف هذا السر فرأيت الحقيقة عارية من أخمص قدميها حتى عنقها، فما تخفى عني الآن حقيقة كلب النار، وحقيقة جميع أبالسة التمرد والأقذار التي لا تتفرد العجائز بالذعر منها.
لقد هتفت قائلا: اخرج من أغوارك أيها الكلب الناري وقل لي كم هي عميقة أغوارك ومن أين تأتي بما تنفثه علينا؟ إنك تكرع من البحر بشراهة، وذلك ما تنم عليه مرارة الملح في ثرثرتك، والحق أنك وأنت كلب الأغوار لا تستمد غذاءك إلا من الأماكن السطحية، فما أنت إلا كالمتكلم من بطنه؛ لأنني في كل مرة سمعت فيها أقوال أبالسة التمرد والأقذار تبينتهم أشبه بك في دناءتك وأكاذيبك، لقد اتفقت أنت معهم على النباح، واتفقتم جميعكم على ذر الرماد ونشر الظلام، فأنتم أعظم المتفاخرين وتعرفون كيف تدفعون بالأوحال إلى الفوران، وحيث تكونون لا بد أن تحيط بكم الوحول وكل ما هو إسفنجي مضغوط ضيق المسام، وما يطلب الانطلاق إلا من اتصف بهذه الصفات. والحرية هي الصرخة التي تفضلونها غير أنني فقدت إيماني بالحادثات الجسام منذ رأيت الصراخ والدخان يتعاليان حولها.
صدقني يا إبليس، الثورات الصاخبة الجهنمية ليست أعظم الحادثات في أكثر ساعاتنا ضجيجا بل هي في أعمقها صمتا، وما يدور حول موجدي الشغب الجديد بل هو يدور على محور موجدي النظم الجديدة.
لا بد لك أيها الشيطان من الإقرار بسخافة ما كانت تنقشع عنه قرقعتك وضباب دخانك، وهل من جسام الأمور أن تتحول مدينة إلى مومياء، وأن يتداعى عامود إلى الأوحال؟ وهذه كلمة أخرى أوجهها إلى هدامي الأعمدة: إن أقصى الجنون هو في إلقاء الملح إلى البحر وفي إسقاط الأعمدة إلى الوحول؛ لأن هذه الأعمدة كانت مطروحة على أوحال احتقاركم، وها هي ذي تنهض بسيماء الآلهة وقد انطبع عليها الألم الساحر، فهي والحق تدين لكم بالشكر؛ لأنكم أسقطتموها أيها الهادمون.
وهأنذا الآن أسدي النصح للملوك والكنائس، ولكل من أضعفته الفضيلة أو أهرمه الزمان فأقول: دع القوة تسقطك لتعود إلى الحياة فترجع الفضيلة إليك.
هكذا تكلمت أمام كلب النار، فقاطعني بهريره قائلا: «الكنيسة، وما هي هذه الكنيسة؟» فقلت: إن الكنيسة شيء أشبه بالدولة، بل هي من أكذب أنواع الدول، ولكن صه أيها الكلب، فإنك أخبر بنوعك من أي كان. إنما الدولة حيوان خبيث على شاكلتك؛ فهي تحب أن تتكلم فترسل بيانها دخانا وهريرا، لتخدع الناس وتجعلهم يعتقدون بأن أقوالها مستمدة من غور الأمور، فهي تريد أن تكون أعظم حيوان على وجه الأرض والعالم يراها على ما تريد.
1
وظهرت على وجه الكلب أفظع معاني الحسد فصاح: ماذا تقول؟ وهل يعتقد أحد أن الدولة هي أعظم حيوان على الأرض؟
قال هذا وخرجت من بين شدقيه إعصار من الدخان، وازداد هريره حتى حسبته مقتولا بغيظه، ولكنه ما لبث حتى استعاد السكون فقلت له: لقد تملكك الغيظ يا كلب النار، وذلك دليل على أنني أقول الحق عنك، وهأنذا استمر في إعلان الحقائق فأحدثك عن كلب آخر من أتباع النار وهذا الكلب يتكلم حقيقة من قلب الأرض، فلهاثه من ذهب، وما يحسب حسابا للرماد والدخان والزبد الحار فإن حوله ترتفع قهقهة تنتشر كأنها سحاب يزهو بعديد ألوانه، وهو عدو هريرك وزبد شدقيك وما في أحشائك من الاختلال. إن هذا الكلب يأخذ الذهب والضحك من قلب الأرض لأن قلب الأرض من ذهب، فاعلم هذا أنت.
وغلب الكلب على أمره عند سماعه هذه الكلمات؛ فأرخى ذيله خجلا وبدأ يعوي وهو يزحف زحفا إلى مغارته.
هذا ما سرده زارا لأتباعه، ولكن أتباعه ما كانوا يبالون بما يقول وقد اشتد شوقهم إلى إخباره عما حدث للبحارة والرجل الطائر في الهواء.
ولما سمع زارا ما قصوه عليه قال: ماذا عساني أظن بما قلتم؟ أفأكون شبحا من الأشباح؟ ولعل ما رأوه لم يكن سوى خيالي، ولعلكم سمعتم حكاية المسافر وخياله، غير أنه من الواجب علي أن أشدد النكير على خيالي فلا يذهب كما يشاء نائلا من شهرتي.
وهز زارا رأسه بتعجب متسائلا عما يقوله في هذا الحادث، وهو لا يدري لماذا هتف الخيال قائلا: لقد اقترب الزمان.
هكذا تكلم زارا ...
العراف
«... ورأيت الناس يستولي عليهم حزن عميق، وقد وهنت قوى خيارهم فيما يعملون، فانتشر تعليم يؤدي إلى الإيمان في أن كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال، فتجاوبت الأصداء في الهضبات مرددة: كل شيء باطل ومتشابه وقيد الزوال.
لقد حصدنا ولكن غلالنا أكمد لونها وتهرأت، فأي شيء تساقط تحت جنح الظلام من وراء كوكبه اللئيم؟
لقد ذهبت جهودنا سدى، وفسد خمرنا فاستحال سما زعافا، فكأن عينا حاسدة أصابت حقولنا وقلوبنا فأذوتها.
جففنا جميعنا فإذا نزلت بنا حارقة فلا يتطاير منا غير الرماد، لقد تعب منا كل شيء حتى لسان اللهيب.
غاضت الينابيع أمامنا وتراجع البحر عنا، وقد زلزلت الأرض تحت أقدامنا، ولكنها لم تفغر فاها لتوارينا، فمن لنا ببحر نغرق فيه، إننا نصرخ طالبين البحر فيذهب صوتنا بددا على سطوح المستنقعات.
والحق أننا بذلنا أقصى جهودنا طلبا للموت ولما نزل جثثا تحيا وعيونها جاحظة طي اللحود.»
هذا ما قاله أحد العرافين، فذهب قوله نافذا قلب زارا فبدله تبديلا، وأصبح زارا حزينا متعبا يضرب في الأرض شبيها بمن ذكرهم العراف في نبوءته.
وقال زارا لأتباعه: لن يمضي زمن طويل حتى ينسدل هذا الغسق القاتم على وجه الأرض، وأنا أحاذر ألا أجد وسيلة للعبور بنوري إلى ما وراءه فأنقذه من الانطفاء. هل من حافظ له بين هذه الأحزان وأنا قد أعددته ليضيء في العوالم البعيدة ويشع في طيات الظلام السحيق.
وسار زارا شاردا يحمل همه في قلبه، فأمضى ثلاثة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا ولا يعرف الراحة حتى وقف لسانه عن الكلام، فاستغرق في نوم عميق وجلس صحبه حوله يسودهم القلق طوال الليالي متوقعين أن يفيق ليردوه عن أحزانه.
وأفاق أخيرا فخاطبهم بصوت كأنه ترديد صدى بعيد قائلا: «أصغوا إلي، أيها الصحاب، لأقص عليكم ما رأيت في حلمي وساعدوني على تعبيره، فإن حلمي قد أغمض علي ولم يزل معناه كامنا فيه.
رأيتني هجرت الحياة واخترت مهنة حارس للقبور على الجبل المقفر حيث يرتفع قصر الموت، فكنت أحرس النعوش وهي أسلاب النصر تغص بها الدهاليز المظلمة، فكنت أرى الساقطين في معترك الحياة المسجين في التوابيت المغطاة بالزجاج يحدجونني بنظراتهم المروعة، وهنالك نشقت عرف الأبدية غبارا يتطاير على روحي فيرهقها، ولا أستطيع أن أنفض عنها هذا الغبار الثقيل.
وكانت أصداء الليل تدور بي ومعها شبح العزلة والانفراد، فكان رفيقي سكون الموت تتعالى فيه من حين إلى حين حشرجة المدنفين.
وكنت أحمل المفاتيح وقد علاها الصدأ أعالج بها أصلب الأبواب؛ فتصرف مصاريعها بصراخ أبح لئيم يذهب مدويا في الدهاليز كأن الدرفات أجنحة أطيار تنكمش وتنعق متململة ممن يريد تنبيهها من رقادها.
وعندما كان يخيم السكوت بعد هذا الدوي كان يبلغ رعبي أشده ، فأبقى وحدي محاطا بهذا الصمت الرهيب.
ومر الزمان متمهلا، لو صح أن في مثل هذه الرؤى زمان، إلى أن وقع ما أفقت له مذعورا.
قرع الباب ثلاث مرات بدوي كأنه الرعد القاصف، فهتفت الدهاليز ثلاث مرات بصدى كأنه الزئير، وتقدمت إلى القفل أعالجه فلم يتزحزح قيد أنملة، وهبت العاصفة بشدة فدفعت بالمصراعين ورمت إلي بنعش أسود، وقد تصدع الهواء بالصفير والولولة وسقط النعش فانحطم وخرجت منه آلاف من القهقهات، فرأيت آلافا من الأطفال والملائكة وطيور البوم والمجانين والفراشات الضخمة يطفرون حولي ساخرين.
واستولى الخوف علي فإذا أنا مطروح على الأرض أصرخ صراخا مريعا، فانتبهت لصوتي مذعورا.
وسكت زارا لحظة وهو حائر، فإذا بأحب أتباعه إليه ينهض ويقبض على يده قائلا: «إن تعبير رؤياك إنما هو في حياتك نفسها يا زارا، أفلست أنت النعش، وقد حشدت الحياة فيها سيئاتها وعبوس ملائكتها؟ أفليس زارا يجتاح اللحود مقهقها كالأطفال ساخرا بالساهرين على القبور الخافرين لها، مستهزئا بكل من تقرقع المفاتيح في أيديهم.
لسوف يذعر هؤلاء الناس منك فيطرحهم ضحكك أرضا فيغمى عليهم، ثم ينتبهون وبذلك يثبت عليهم سلطانك.
لقد اطلعت لنا كواكب جديدة في الآفاق ونشرت من الليل ما كنا نجهله من البهاء، والحق أنك مددت ضحك فوق رءوسنا فأظلنا بعديد ألوانه، فمنذ الآن ستتعالى قهقهة الأطفال من النعوش وستعصف من الجهود القاتلة الريح التي نتوقعها.
لقد مثلت نفسك أعداءك فأزعجتك رؤياك، ولكنك انتبهت منسلخا عنهم وعدت إلى روعك، وهم أيضا سينتبهون فيرجعون إليك.»
هكذا تكلم التابع، فدار سائر الأتباع بزارا يشدون على يديه محاولين إقناعه بالنهوض من فراشه والانسلاخ عن أحزانه ليعود إليهم، غير أن زارا بقي جالسا على فراشه وعيناه جاحظتان كأنه عائد من سفر بعيد لا يعرف ممن حوله أحدا، ولكن أتباعه رفعوه وأوقفوه؛ فانتبه فجأة وتغيرت سحنته فمد يده يداعب شعر لحيته ورفع عقيرته قائلا: كل هذا سيكون عندما يحين زمانه، فأعدوا لنا غذاء طيبا الآن لأكفر عن الرؤيا التي رأيت، غير أن العراف سيجلس إلى جنبي ليأكل ويشرب معي وسأريه بحرا يغرق فيه نفسه.
هكذا تكلم زارا ...
ولكنه حدق في وجه تابعه الذي عبر له حلمه، حدق به طويلا وهو يهز رأسه ...
الفداء
وسار زارا يوما على الجسر فأحاط به رهط من أهل العاهات والمتسولين، وتقدم إليه أحدب يقول له: التفت إلى الشعب يا زارا، فهو أيضا يستفيد من تعاليمك وقد بدأ يؤمن بسنتك، ولكن الشعب بحاجة إلى أمر واحد ليتوطد إيمانه بك: عليك يا زارا أن تتوصل إلى إقناعنا نحن أهل العاهات، وأمامك الآن نخبة منهم وما لك بعد مثل هذه الفرصة تنتهزها لتقوم باختبارك على مثل هذا العدد من الرءوس، بوسعك الآن أن تشفي العميان والمقعدين فتخفف الأثقال، وتريح المتعبين، تلك هي الطريقة المثلى لهداية هؤلاء القوم إلى الإيمان بزارا.
فأجاب زارا: من يرفع عن ظهر الأحدب حدبته فقد نزع منه ذكاءه. هذه هي تعاليم الشعب، وإذا أعيد النور إلى عيني الأعمى فإنه ليرى على الأرض كثيرا من قبيح الأشياء فيلعن من سبب شفاءه، ومن يطلق رجل الأعرج من قيدها فإنه يورثه أذية كبرى؛ إذ لا يكاد يسير ركضا حتى تتحكم فيه رذائله فتدفعه إلى غايتها. هذه هي التعاليم التي ينشرها الشعب، وهل على زارا إلا أن يأخذ عن الشعب ما أخذه الشعب عنه؟
غير أنني منذ نزلت بين الناس سهل علي أن أرى منهم من تنقصه عين، ومن تنقصه إذن، وآخر فقد رجليه، وهنالك من فقدوا لسانهم أو أنفهم أو رأسهم.
وهكذا رأيت أقبح الأمور، وهنالك أشياء أشد قبحا إن أعرضت عن ذكرها فلا يسعني السكوت عن أكثرها.
رأيت رجالا فقدوا كل شيء، غير أنهم يملكون شيئا يسوده الإفراط، فهم رجال كأنهم عين عظيمة أو فم واسع أو بطن كبير أو عضو آخر كبير لا غير، وما هؤلاء الناس إلا أهل العاهات المعكوسة.
وعندما عدت من عزلتي لأجتاز هذا الجسر للمرة الأولى وقفت مندهشا لا أصدق ما أرى فقلت: هذه أذن، أذن وسيعة كأنها قامة رجل، وتقدمت إليها فلاح لي وراءها شيء صغير لم يزل يتحرك ، وهو ناحل ضعيف يستدعي الإشفاق فإن الأذن الكبرى كانت قائمة على ساق دقيق، وما كانت هذه الساق إلا إنسانا، ولو أنك تفرست في هذا الشيء بنظارة لرأيت فوقه وجها يتقطب بالحسد، وينم عن روح صغيرة تريد الانتفاخ وترتجف على قاعدتها.
وقال لي الشعب: إن هذه الأذن ليست رجلا فحسب، بل هي أيضا رجل عظيم بل عبقري من عباقرة الزمان، غير أنني ما صدقت الشعب يوما إذا هو تكلم عن عظماء الرجال، فاحتفظت بعقيدتي وهي أن هذا الرجل ذو عاهة معكوسة؛ إذ ليس له إلا القليل من كل شيء والكثير من شيء واحد.
وبعد أن وجه زارا هذا الخطاب إلى الأحدب ومن تكلم بالوكالة عنهم اتجه نحو أتباعه، وقد تحكم الكدر فيه فقال: والحق أنني أسير بين الناس كأنني أمشي بين أنقاض وأعضاء منثورة عن أجسادها، وذلك أفظع ما تقع عليه عيناي فإنني أرى أشلاء مقطعة كأنها بقايا مجزرة هائلة، وإذا ما لجأت عيني إلى الماضي هاربة من الحاضر فإنها لتصدم بالمشهد نفسه، فهنالك أيضا أنقاض وأعضاء أشلاء وحادثات مروعة، ولكنني لا أرى رجالا ...
إن أشد ما يقع علي أيها الصحاب، إنما هو الحاضر والماضي وما كنت لأطيق الحياة لو لم أكن مستكشفا ما لا بد من وقوعه في آتي الزمان، وما زارا إلا باصرة تخترق الغيب فهو رجل العزم وهو المبدع، هو المستقبل والمعبر المؤدي إلى المستقبل، هو وا أسفاه ذو عاهة ينتصب على هذا المعبر.
وأنتم أيضا تتساءلون مرارا: من هو زارا؟ وبماذا نسميه؟ فلا تتلقون غير السؤال جوابا كما أتلقاه أنا.
أهو من يعد أم من ينفذ الوعد؟ أهو فاتح أم وريث أهو الطبيب أم هو الناقه؟
أشاعر هو أم رجل حقيقة؟ أمحرر أم متسلط؟ أصالح أم شرير؟
ما أنا إلا سائر بين الناس شطرة من المستقبل الذي يتراءى لبصيرتي وجميع أفكاري تتجه إلى جمع وتوحيد كل ما تفرق على أسرار وتبدد على الصدف العمياء.
وما كنت لأحتمل أن أكون إنسانا لو أن الإنسان لم يكن شاعرا محللا للأسرار ومفتديا لإخوانه من ظلم ما تسمونه صدفة ودهرا، وما الفداء إلا في إنقاذ من ذهبوا، وتحويل كل ما كان إلى ما أريد لو أنه كان ...
ما المخلص والمبشر بالغبطة إلا الإرادة نفسها، وهذا ما أعلمكم إياه يا أصحابي، ولكن اعلموا أيضا أن هذه الإرادة لم تزل سجينة مقيدة.
إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هي القوة التي تقيد المنقذ نفسه؟
إن داء الإرادة الوحيد إنما هو كلمة «قد كان» تقف الإرادة أمامها تحرق الإرم عاجزة عن النيل من كل ما كان، فالإرادة تنظر بعين الشر إلى كل ما فات، وليس لها أن تدفع بقوتها إلى الوراء، فهي أضعف من أن تحطم الزمان وما يريده الزمان، وهذا داء الإرادة الدفين.
إن الإرادة تنقذ، ولكن ما هو تصور الإرادة في عملها للتخلص من دائها وهدم جدران سجنها؟
وا أسفاه! إن كل سجين يصبح مجنونا، وما تنقذ الإرادة السجينة نفسها إلا بالجنون.
إن الزمان لا يعود أدراجه، ذلك ما يثير غضب الإرادة وكيدها، فهنالك صخر لا طاقة للإرادة برفعه، وهذا الصخر إنما هو الأمر الواقع.
لذلك تهب الإرادة وقد تملكها الغيظ مقتلعة الأحجار منتقمة من كل من لا يجاريها في كيدها وثورتها، وهكذا تصبح الإرادة المنقذة قوة شريرة تصب جام غضبها على كل قانع بعجزها عن الرجوع إلى ما فات، وهل انتقام الإرادة إلا عبارة عن كرهها للزمان؛ لأنه أوقع ما لا قبل لها برده؟
والحق أن إرادتنا مصابة بالجنون، وقد نزلت لعنة على البشرية منذ تعلم الجنون أن يتفكر. إن خير ما طرأ على الإنسان حتى اليوم إنما هو فكرة الانتقام، وهكذا سيبقى العقاب ملازما للألم في كل زمان وفي كل مكان، وهل فكرة الانتقام إلا العقاب بذاته، فما كلمة الانتقام إلا كلمة مكذوبة يقصد بها التعبير عن الضمير.
إن كل مريد يتألم لأنه لا قبل له بالرجوع إلى الماضي لرد ما فات، ولهذا لزم أن تكون الإرادة بل كل حياة على الإطلاق كفارة وعقابا.
بمثل هذه الاعتقادات تلفع العقل بالغيوم فانبثق منه الجنون هاتفا: كل شيء يزول، فكل شيء يستحق الزوال.
إن العدل نفسه يقضي بأن يفترس الزمان أبناءه، هذا ما أعلنه الجنون.
لقد وضع الناموس الأدبي وفقا للحقوق وللعقاب، فأين المفر من نهر الحياة الجارف؟ وما الحياة إلا عبارة عن عقاب، وهذا أيضا ما أعلنه الجنون.
ليس من حادث واحد يمكننا أن نزيله من الوجود، فهل للعقاب أن يمحو الحادثات؟ وهل من خلود لغير الأعمال في وجود لا ينفك يحول العمل عقابا والعقاب عملا؟ ولا مناص من هذه الحلقة المفرغة ما لم تتوصل الإرادة إلى الفرار من ذاتها فتصبح حينذاك إرادة منفية.
إنكم تعرفون، أيها الإخوة، هذه الأغاني التي يتشدق بها الجنون، وقد أقصيتكم من سماعها عندما علمتكم أن الإرادة مبدعة، كل ما فات يبقى مبددا منثورا كأنه أسرار ومصادفات رائعة إلى أن تقول الإرادة: إنني أنا أردت هذا، ثم تقول: وهذا ما أريده الآن وسأريده غدا.
هل نطقت الإرادة بمثل هذا حتى اليوم؟ وأي متى ستنطق به؟ هل هي تملصت من قيود جنونها فأصبحت تفتدي الحادثات بعزمها وتبشر بالحبور؟ هل هي اطرحت فكرة الانتقام وتوقفت عن حرق الأرم من كيدها؟ من ترى تمكن من تعليمها مسالمة الزمان بل ما يفوق هذه المسالمة؟
يجب على الإرادة ولا أعني سوى إرادة الاقتدار أن توجه مشيئتها إلى ما هو أعظم من المسالمة، ولكن أنى لها ذلك ومن سيعلمها أن توجه هذه المشيئة إلى ما فات؟
وتوقف زارا عن الكلام فجأة كأن رعبا شديدا حل به؛ فاتسعت حدقاته وشخص بأتباعه سابرا أفكارهم غير أنه ما لبث أن عاد إلى الضحك، فقال بكل هدوء: ما تهون الحياة بين الناس لأن الصمت صعب على المرء وخاصة إذا كان ثرثارا.
هكذا تكلم زارا ...
ولكن الأحدب الذي كان يصغي إلى هذا الحديث، وهو يستر وجهه بيديه سمع قهقهة زارا ففتح عينيه مستغربا وقال: لماذا يخاطبنا زارا بغير ما يخاطب به أتباعه.
فقال زارا: وهل من عجب في هذا؟ أفما يصح أن يخاطب الأحدب بأقوال لها حدبتان .
فقال الأحدب: ولا عجب أيضا في أن يخاطب زارا تلاميذه كمعلم أولاد، ولكن لماذا يخاطب أتباعه بغير ما يخاطب به نفسه؟
حكمة البشر
ليست الأعالي ما يخيف بل الأعماق، فعلى الجرف تحدق العين في الهاوية وتمتد اليد نحو الذرى فيقبض الدوار بالإرادتين على القلب.
أفتعلمون أيها الصحاب ما هي إرادة قلبي المزدوجة؟ إن الخطر المحدق بي على منحدري إنما هو اتجاه نظري إلى الذروة بينما تتلمس يدي مستندا في الفضاء، وما أعلق إرادتي إلا على الإنسان فتشدني إليه مرهقات القيود؛ لأنني منجذب منه إلى الإنسان المتفوق فإليه تندفع إرادتي الثانية، إنما أنا أحيا بين الناس كالضرير لا يعرف من حوله، كيلا تفقد يدي ثقتها من الوقوع على مستند مكين.
أنا لا أعرفكم أيها الناس، تلك هي ظلمتي أتلفع بها وتعزيتي ألجأ إليها.
فأنا جالس أمام الباب متوجها إلى الأوغاد صائحا بهم: إلي يا من يريد أن يخدعني.
إن أول حكمة بشرية أعمل بها هي أن أستسلم لخداع الناس، فلا أضطر إلى الوقوف أبدا موقف الحذر لأن في الناس من يخدعون.
ولو أنني وقفت هذا الموقف في العالم أكان يتسنى للإنسان أن يثقل منطادي فيمنعه من الانفلات والانطلاق إلى أبعد الآفاق؟
إن إغفالي للحذر إنما هو عناية تسهر علي لإيصالي إلى ما هو مقدور.
إذا أنت امتنعت عن الشرب من كل كأس فإنك هالك ظمأ، فإذا أردت أن تبقى طاهرا بين الناس فعليك أن تتعود الاغتسال بالماء القذر.
لكم ناجيت قلبي لأعزيه، فقلت له: صبرا أيها القلب الهرم، إنك لم تفلح بهذه النقمة فتنعم بها كأنها نعمة.
وهذه حكمتي البشرية الثانية: إنني أداري المغرور بأكثر مما أداري الفخور؛ لأن الغرور الجريح مبعث كل النائبات، في حين أن العزة الجريحة تستنبت جرحها ما هو خير منها.
إذا لم يحسن الممثلون لرواية الحياة أدوارهم فيها فخير لك ألا تشهدها، وليس أمهر من أهل الغرور في التمثيل؛ لأنهم يقومون بأدوارهم وكل إرادتهم متجهة إلى اكتساب رضى المشاهدين وإعجابهم، وهم لا يدخرون وسعا في سبيل خلق شخصيتهم وتمثيلها؛ لذلك يلذ لي أن أنظر من خلالهم إلى الحياة فهم خير دواء للسوداء، أنني أداري أهل الغرور لأنهم أساة أحزاني المقيمون الإنسان ممثلا أمام عياني.
وفوق ذلك فمن له أن يسبر الأعماق في تواضع المغرور؟ فأنا أريد الخير لمثله وأشفق عليه بسبب اتضاعه، فهو يريد أن يقتبس منكم ثقته بنفسه متغذيا من نظراتكم، متسولا الثناء من تصدية أكفكم، إن المغرور ليصدق أكاذيبكم إذا ما أحسنتم إيرادها عنه، فما هو إلا حائر يشك بأعماق نفسه في قيمة نفسه.
إذا كانت الفضيلة الحقيقية تجهل ذاتها، فالمغرور كذلك لا يعرف شيئا عن تواضعه.
أما حكمتي البشرية الثالثة فقائمة على أنني لا أدع لاستحيائكم سبيلا إلى تنفيري من مشاهدة الأشرار، فأنا أسر بالنظر إلى ما تخلق حرارة الشمس من عجائب المخلوقات كالنمور وأشجار النخل والأفاعي ذوات الأجراس، ولكم بين الناس من أمثال لهذه المخلوقات العجيبة أفقستها حرارة الشمس أيضا، وفي الأشرار من البدائع الشيء الكثير ...
إن أوفركم عقلا لا يبلغ في نظري منتهى الحكمة، كذلك لا أرى الشر إلا مبالغا في وصفه، ولكم تساءلت مشككا: لماذا لا تزال الأفاعي تطن بأجراسها؟
إن لكل شيء مستقبله حتى الشرور، فالظهيرة البالغة التناهي في إشراقها لم تنكشف للإنسان حتى اليوم، لكم من أمور تعتبر شرورا في هذا الزمان وهي لا تتجاوز الثلاث عشرة قدما حجما، ولا الثلاثة أشهر بقاء، وغدا سيولد ما هو أعظم منها، ولا بد من أن تخلق الحياة التنين المتفوق خليقا بالإنسان المتفوق، فإن شموسا محرقة ستدخل حرارة الإبداع في الغابات الغضة الرطبة التي لم تمسسها يد بعد.
لا بد من أن تصبح وحوشكم نمورا وعقاربكم تماسيح، فيجد القناص في الغاب ما يرضيه.
والحق أن فيكم كثيرا من المضحكات يا رجال العدل والصلاح، ولشد ما يضحكني خوفكم ممن دعوتموه إبليسا، لقد بعد المجال بين روحكم وكل عظيم، فإذا ما لاح لكم الإنسان المتفوق بصلاحه أورثكم خوفا ورعبا، فإنكم أيها الحكماء والعلماء، ستولون الأدبار إذا ما لفحتكم الحكمة المشعة على الإنسان المتفوق في غبطته وعريه.
لقد وقعت عيني عليكم، أيها العظماء، فأدركت هذا السر، وهأنذا أعلنه لكم: إنكم ستصفون الإنسان المتفوق الذي أنبئكم به بأنه شيطان الشياطين.
أتعبني هؤلاء العظماء، وأشدهم إرهاقا لي أوفرهم عظمة، فأنا أتوقف إلى اجتياز مرتبتهم فأفوتها وأنا أتجه إلى الإنسان المتفوق.
لقد عرتني هزة عندما شاهدت خيار العظماء في عريهم، فشعرت بجناحين استنبتهما ساعداي لأحلق بعيدا عنهم في آفاق الدهور الآتية. إنني أتوجه إلى الدهور البعيدة، إلى الظهيرات الغارقة بأنوار لم يحلم بها الفن من قبل، فهنالك تتجلى الآلهة خجولة من كل ما يقع من حادثات على الأرض.
ليتني أراكم متنكرين، أيها الإخوة والأقرباء، أهل الصلاح والعدل، فتبدون بحللكم وقد نفخها الغرور، وليتني أجلس بينكم متنكرا أنا أيضا، كيلا أعرف من أنا؛ لأن هذه آخر حكمة لي من حكم البشر.
هكذا تكلم زارا ...
أعمق الساعات صمتا
ماذا جرى لي يا صحابي؟ لقد سادني الاضطراب؛ فأضعت هداي وأراني مندفعا بالرغم مني إلى الرحيل والابتعاد عنكم وا أسفاه.
أجل، على زارا أن يعود إلى عزلته، غير أن الدب يرجع إلى مغارته كئيبا حزينا، ماذا جرى لي ومن ترى يضطرني إلى الرحيل؟
إنها «هي» مولاتي الغاضبة، لقد كلمتني فأعلنت لي إرادتها، وما كنت ذكرت لكم اسمها حتى اليوم، هي أعمق ساعاتي صمتا وهي نفسها مولاتي القاهرة، كلمتني أمس.
وسأقص عليكم ما جرى فلا أخفي عنكم شيئا؛ كيلا يقسو قلبكم علي وأنا أفاجئكم برحيلي عنكم.
أتعلمون ما هي خشية من يستسلم للكرى؟ إنه الذعر يستولي على الإنسان من رأسه إلى أخمص قدميه؛ لأن أحلامه لا تبتدئ ما لم تنسحب الأرض من تحته.
إنني أضرب لكم أمثالا، فأصغوا إلي: أمس عند أعمق الساعات صمتا خلت الأرض من تحتي وبدأت أحلامي.
وكان العقرب يدب على ساعة حياتي في خفقانها، وما كنت سمعت من قبل مثل هذا السكوت يسود حولي ويروع قلبي.
وسمعتها «هي» تقول لي، ولا صوت لها: إنك تعرف هذا يا زارا.
فصحت مذعورا عند سماعي هذه النجوى، وتصاعد الدم إلى رأسي .
فعادت هي تقول، ولا صوت لها: أنت تعرف هذا يا زارا، ولكنك لا تعلنه.
فانتفضت وأجبت بلهجة المتحدي: أجل إنني أعرف هذا، ولكنني لا أريد أن أعلن ما أعرف.
فقالت «هي» ولا صوت لها: أصحيح أنك لا تريد؟ لا تخف نفسك وراء هذا التحدي يا زارا.
فأخذت أبكي وأرتعش كالطفل قائلا: ويلاه، أريد أن أصرح، ولكن هل ذلك بإمكاني؟ أعفيني من هذه المهمة لأنها تفوق طاقتي.
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت يا زارا، قل كلمتك وتحطم.
فقلت: أهي كلمتي ما يهم، فمن أكون أنا؟ إنني أنتظر من هو أجدر مني بإعلانها، وما أنا أهل لأصطدم بالمنتظر فأنحطم عليه.
فقالت، ولا صوت لها: وما أهميتك أنت ما دمت لم تصل بعد إلى ما أريده من الاتضاع؟ وما أقسى ما يتشح الاتضاع به، وما أصلب جلده!
فقلت: لقد تحمل جلد اتضاعي كثيرا، فأنا ساكن عند قاعدة ارتفاعي، ولم يدلني أحد بعد على ذراه العاليات، ولكنني تمكنت من سبر أغواري ومعرفتها.
فقالت، ولا صوت لها: أي زارا، أنت المعد لنقل الجبال من مكان إلى مكان، أفما بوسعك أن تنقل أغوارك ومهاويك أيضا؟
فقلت: لم تنقل كلمتي الجبال بعد، فإن ما قلته لم يبلغ حتى آذان الناس، لقد أتيت إلى العالم غير أنني لم أتصل به بعد.
فقالت، ولا صوت لها: وما يدريك ...؟ إن الندى يتساقط على العشب في أشد أوقات الليل سكوتا.
فأجبت: لقد هزأ الناس بي عندما اكتشفت طريقي ومشيت عليها، والحق أن رجلي كانتا ترتجفان إذ ذاك، فقال لي الناس: لقد ضللت سبيلك يا زارا، بل أصبحت لا تعرف أن تنقل خطاك.
فقالت، ولا صوت لها: وأية أهمية لسخريتهم؟ لقد تخلصت من الطاعة يا زارا، فوجب عليك أن تأمر الآن، أفلا تعلم أن من يحتاج الجميع إليه بأكثر من احتياجهم إلى أي شيء إنما هو من يقضي في عظائم الأمور؟
إن القيام بالكبائر صعب، وأصعب من هذا أن يأمر الإنسان بها. إن ذنبك الذي لا يغتفر هو أنك ذو سلطان ولا تريد أن تتحكم.
قلت: ليس لي صوت الأسد لأصدر أوامري.
فقالت - كأنها تهمس همسا: لا يثير العاصفة إلا الكلمات التي لا صوت لها. إن من يدير العالم إنما هي الأفكار التي تنتشر كأنها محمولة على أجنحة الحمام. عليك أن تسير يا زارا كأنك شبح لما سيكون يوما في آتي الزمان، هكذا تندفع في سبيلك إلى الأمام وأنت تتولى الحكم.
فقلت: إن الخجل يتولاني.
فعادت تقول، ولا صوت لها: عليك أن تعود طفلا فيذهب خجلك عنك. إن غرور الشباب لما يزل مستوليا عليك؛ لأنك بلغت الشباب متأخرا، ولكن على من يريد الرجوع إلى طفولته أن يتغلب على شبيبته.
واستغرقت في تفكيري وأنا أرتجف، ثم عدت إلى تكرار كلمتي الأولى قائلا: لا أريد، وعندئذ ارتفع حولي صوت قهقهة مزقت قلبي وصدعت أحشائي.
وقالت «هي» للمرة الأخيرة: أي زارا، إن أثمارك ناضجة، غير أنك لم تنضج أنت لأثمارك، فعليك إذن أن تعود إلى العزلة لتزيد في قساوتك لينا.
وعاد الضحك يتعالى، فشعرت أنها انصرفت عني «هي» وعاد الصمت يسود بأعمق مما كان حولي، أما أنا فبقيت منطرحا على الأرض سابحا في عرقي.
والآن، وقد أعلنت لكم كل شيء أيها الصحاب، فهأنذا أعود إلى عزلتي وما أخفيت عنكم شيئا. أرحل عنكم بعد أن علمتكم أن تعرفوا من هو أشد الناس تكتما، ومن يريد أن يكون كتوما.
وا أسفاه، أيها الصحاب، إن لدي ما أقوله لكم أيضا، ولدي ما أبذله، فلماذا لا أبذله الآن؟ ألعلني أصبحت شحيحا؟
وما نطق زارا بهذا حتى أرهقه سلطان حزنه لاضطراره إلى الرحيل، فبكي منتحبا وما تمكن أحد من تعزيته، ومع هذا ما أرخى الليل سدوله حتى ذهب زارا وحده تحت جنح الظلام متخليا عن صحبه.
الجزء الثالث
إنكم تنظرون إلى ما فوقكم عندما
تتشوقون إلى الاعتلاء، أما أنا فقد
علوت حتى أصبحت أتطلع إلى ما
تحت أقدامي، فهل فيكم من يمكنه أن
يضحك وهو واقف على الذرى
من يحوم فوق أعالي الجبال
يستهزئ بجميع مآسي الحياة
ويستهزئ بمسارحها بل بالحياة نفسها.
زرادشت
القراءة والكتابة، الجزء
الأول
المسافر
وكان قد انتصف الليل عندما توجه زارا إلى أكمة الجزيرة، وهو يجد في السير ليبلغ الشاطئ الآخر عند بزوغ الفجر؛ إذ كان يقصد الإبحار من هذه الجهة حيث ترسو بعض المراكب لتقل طلاب المهاجرة من الجزر السعيدة.
وتذكر زارا الرحلات التي قام بها منفردا منذ صباه، فمرت بمخيلته رسوم الجبال والتلال والذرى التي تسلقها في حياته، فقال: «ما أنا إلا رحالة ومتسلق مرتفعات، وما تستهويني منبسطات الأرض ولا يستقر بي مقام، ومهما قدر علي ومهما وقع لي فلا تعدو الحوادث أن تكون في نظري رحلة واعتلاء، فما لي أن أرى من الآفاق إلا ما انطبع منها في نفسي، ولقد مضى الزمن الذي كان لي فيه أن أتوقع الحوادث من خطرات الحظ، وهل لي أن أنال من الدهر شيئا لم يستقر في نفسي من قبل؟
إن كل ما يطرأ علي بعد الآن إنما هو ذاتي العائدة تكرارا بعد انفراطها وتمازجها في الأشياء وتصاريف الزمان. غير أنني أصبحت الآن على مدرج آخر الذرى أمام أصعب مسلك ما اقتحمت مثله في حياتي، فأنا أبدأ الآن أشد رحلاتي عناء وأروعها وحشة.
وأنى لمثلي أن يتجنب مثل هذه الساعة التي تهتف قائلة: إنك على مبدأ طريق المجد حيث تتداخل الذرى في المهاوي. أنت تسير على هذه الطريق، وكنت تراها قبلا آخر ما تقتحم من أخطار، فأصبحت لديك آخر ملجأ تهرع إليه.
إنك تسير على طريق المجد فعليك أن تتذرع بالحزم الأوفى؛ لتقطع بنفسك خط الرجوع على نفسك.
إنك تسير على طريق المجد، فأنت منفرد عليها لا يزحمك أحد من ورائك، وقد محت أقدامك آثار خطاك على ما وراءك من المسالك، ولاحت كلمة المستحيل مخطوطة على آفاق هذه الطريق.
ولا بد لك إذا ما خلت المدارج تحت أقدامك أن تتسلق قمة رأسك؛ إذ لا سبيل لك للاعتلاء إلا إذا اتجهت إليه وإلى ما وراءه وأنت تدوس على قلبك، وهكذا سيشقيك ما كان يحلو لديك.
إن من أفرط في ادخار جهوده لا يلبث حتى يبتلى بالخمول، تبارك كل جهد يشد العزم، فلا خير في أرض تدر اللبن والعسل، ومن يطمح إلى الإحاطة بأمور كثيرة فليتدرب على إرسال أبصاره إلى ما وراء حدود ذاته، وعلى كل متسلق للذرى أن يتعزز بمثل هذا الحزم؛ إذ لا يسع من يتحرى الأمور متجسسا بفضوله إلا الوقوف عند أسهل الأفكار منالا، وأنت يا زارا تطمح إلى الإحاطة بالعلل وإلى نفوذ خفايا الأمور، فعليك أن تحلق فوق ذاتك فتجتازها متعاليا حتى ترى ما فيك من كواكب وهي تتصاغر في كل أفق دون أفقك الرفيع.
أجل إن ذروتي إنما هي حيث أقف ناظرا إلى الأعماق فأرى فيها ذاتي وكواكبها، تلك هي آخر هضبة أطمح إلى بلوغ قمتها.»
بهذا كان يناجي زارا نفسه، وهو يصعد المرتفع معللا بالتعاليم الصارمة ما في قلبه من جراح.
وعندما بلغ الذروة انبسط البحر أمام ناظريه، فوقف مبهوتا واستغرق في صمت طويل، وكانت السماء لا تزال تتألق بالنجوم والهواء يهب باردا على الأكمة.
وهتف زارا حزينا: «لقد تبينت ما قدر علي، وها أنا ذا مستعد للإقدام فهذه آخر عزلة أقتحمها.
سأنحدر إليك أيها البحر المظلم المنبسط عند أقدامي، أنت الليالي المفعمة بالأحزان، أنت القضاء والقدر أيها الخضم البعيد.
إنني أقصد أرفع جبالي مقتحما أبعد أسفاري فعلي إذن أن أهبط إلى مهاو أبعد في أغوارها من كل ذروة رقيتها حتى الآن.
علي أن أذهب من الأسى إلى أغوار ما رسبت في مثلها من قبل فأصل إلى قرارة ما في الأحزان من ظلمات. ذلك ما قدر علي فأنا على أهبة اقتحامه.
لقد تساءلت فيما مضى عن منشأ الجبال فعرفت أخيرا أنها نهدت من البحار، كما تشهد صخورها وجروف ذرواتها، فما يبلغ الأعلى مقامه إلا لانطلاقه من المقام الأدنى.»
هكذا تكلم زارا، وهو ماثل على قمة الجبل تدور به لفحات الصقيع، ولكنه ما بلغ الشاطئ ووقف بين نتوءات صخوره حتى حل عليه التعب وتزايدت أشواقه، فقال: «إن البحر هاجع أيضا فعينه الوسنى تحدجني بلفتات غريبة وأنفاسه الحرى تهب علي. إنه مستغرق في أحلامه يتقلب مضطربا على جافيات مسانده، إنني أستمع لهديره كأنه يئن بتذكارات مفجعات، وقد يكون هذا الهدير نذيرا بالشؤم في آتي الزمان.
إنني أشاطرك الأسى أيها المدى المظلم الوسيع، فأنا بسببك ناقم على نفسي أتمنى لو طالت يدي فأنقذك من أصفاد أحلامك.»
وانتبه زارا، فإذا هو يضحك ساخرا من ذاته فتمرمر وتساءل عما إذا كان سيبلغ به حماسه إلى إطلاق إنشاده لتعزية البحار، وعما إذا كان سيستمر مضعضعا في سكرة غرامه واستسلامه فقال: «لقد عرفتك في كل زمان يا زارا تقتحم الأمور الخطيرة بلا كلفة وبلا مبالاة، وقد رأيتك طوال حياتك تدغدغ الوحوش المفترسة، فكان يكفيك منها أن تهتاج حبك بأنفاسها الحرى وبنعومة مخالبها لتجتذبك إليها.
ليس من خطر أعظم من الحب يحدق بالمستغرق في عزلته، فإن المنفرد يحب كل شيء يتنسم فيه الحياة، وما أعجب جنوني بالحب وتساهلي فيه!»
هكذا تكلم زارا وقد عاد إلى الهزء بنفسه، غير أنه تذكر من هجر من خلانه، فخيل إليه أنه يسيء إليهم بتفكيره فيهم، فنقم على نفسه وانقلب من ضحكه إلى البكاء، فسالت دموعه مريرة يتمازج فيها الغضب والشوق.
الرؤى والألغاز
1
وعندما تناقل البحارة خبر وجود زارا بينهم - وكان بلغهم ذلك من رجل دخل السفينة معه قادما من الجزر السعيدة - ساد الجميع شيء من القلق وباتوا يتوقعون حدثا في وجوده، غير أن زارا بقي يومين جامدا تساوره أحزانه، تحدق فيه الأنظار فلا يلتفت، وتوجه إليه الأسئلة فلا يجيب، وأخيرا أصغى لما يقال حوله متوقعا سماع أبحاث لها خطورتها تدور على هذه السفينة القادمة من بعيد والمتجهة إلى أماكن سحيقة، وما كان زارا لينفر من الأسفار البعيدة ومن الأخطار، وبعد أن أصغى طويلا حلت عقدة لسانه فانطلق يقول: إليكم أيها الشذاذ الجريئون أيا كنتم، أيها المستسلمون للشراع الغدار على هائجات الأمواج.
إليكم أيها الثملون بخمرة الأسرار، المنجذبون بين خيوط الظلمات والأنوار إلى نغمات كل شبابة تنوح في المجاهل الخفية، إنكم تنفرون من تلمس طريقكم بيد مرتجفة على ما نصب من دليلات الحبال؛ إذ تفضلون الإدراك بالحس على الإدراك بالاستقراء.
إليكم دون سواكم أوجه الخطاب لأخبر بما تجلى من ألغاز وبما خطر من رؤى لأشد الناس استغراقا في عزلته.
لقد اجتزت الغسق في أشد فتراته وجوما، اقتحمته وقد تقلصت شفتاي وعلا وجهي الاغبرار، وكنت شاهدت من قبل شموسا كثيرة تجنح إلى الغروب.
رأيت أمامي طريقا يتسلل على جروف المرتفعات، طريقا وعرا تعرى جانباه من كل نبات فدفعت عليه أقدامي أتحداه فأسمع صريف حصاه تحتها.
مشيت صامتا أحاول تثبيت الحصى المتطايرة بخطواتي؛ لأنجو من الانزلاق عليها.
واعتليت فإذا بروح الكثافة وهو عدوي الألد يشد بي إلى الأعماق، واعتليت أيضا فإذا بهذا الروح المطبق علي كالقزم من الناس والخلد من سكان الأوجار يسكب في أذني ودماغي كلمات ثقيلة كالرصاص، فسمعته يقول لي متمهلا هازئا: أي زارا، أيها الحجر المدعي الحكمة، لقد رشقت نفسك إلى ما فوق، ولكن أي حجر ارتفع ولم يسقط عائدا إلى مصدره؟
أي زارا أيها الحجر الحكيم المنقذف إلى العلا ليزعزع الكواكب في مدارها ما أنت إلا القاذف والمقذوف معا، فلا بد لك من السقوط ككل حجر يرشق إلى ما فوق. لقد حكمت بالرجم فكان حكمك به على نفسك، وهذا الحجر الذي فوقته سيرجع ساقطا عليك.
وسكت القزم طويلا حتى ضاقت من سكوته أنفاسي، فالرفيق الصامت يشعرك بوحشة الانفراد أكثر مما تشعر بها وأنت وحدك لا رفيق لك.
وارتقيت أيضا وأنا تائه في تفكيري وأحلامي شاعر بتزايد الضيق في صدري كأنني عليل نبهته أضغاث أحلامه فاستفاق ليشعر بأوجاعه.
غير أنني أعهد بنفسي قوة أسميها شجاعة، وهي القوة التي أرغمت بها كل وهن في نفسي، بهذه الشجاعة تذرعت فصحت بالقزم قائلا: إن واحدا منا يجب عليه أن يتوارى.
ما من قاتل كالشجاعة التي تهاجم، وما من فيلق يتقدم إلا وفي طليعته الأنغام الحاديات.
إن أوفر الحيوانات شجاعة إنما هو الإنسان الذي قهر بشجاعته سائر الحيوانات، وتغلب على جميع الأوجاع ماشيا وراء حاديات الأنغام بالرغم من أن أوجاع الإنسان أشد ما في الكون من أوجاع.
وللشجاعة أيضا فضيلة ردع الدوار المستولي على الرءوس حين تحدق في الأعماق، وما من موقف للإنسان لا هاوية تحته وما عليه إلا أن يحدق ليرى المهاوي من أي موقف في مواقفه.
إن الشجاعة خير ما يقتل فإنها تقتل الإشفاق أيضا، وما من هاوية أبعد قرارا من الإشفاق؛ لأن نظر الإنسان ليذهب وهو يسبر الآلام إلى أقصى مدى يبلغه عند سبره الحياة نفسها.
إن خير ما يقتل إنما هي الشجاعة إذا هاجمت؛ لأنها ستتوصل أخيرا إلى قتل الموت نفسه؛ لأنها تقول في ذاتها: «يا للعجب! أهذا ما كانت الحياة؟ إذن لأرجعن إليها مرة أخرى.» إن في مثل هذه العقيدة أشد حداء يدفع إلى الإقدام، من له أذنان سامعتان فليسمع.
2
واستوقفت القزم قائلا: يجب أن يبقى أحدنا ويفنى الآخر. إنني أنا الأقوى؛ لأنك لا تدرك أعمق أفكاري، وما أعمقها إلا فكرة لا قبل لك باحتمالها. فارتمى القزم عن كتفي فخف حملي، فإذا بهذا القزم يجلس القرفصاء على حجر أمامي، وإذا نحن تجاه باب كأنه وجد صدفة هناك فقلت لرفيقي: انظر إلى هذا الباب فإن له واجهتين، وهنا ملتقى مسلكين لم يبلغ إنسان أقصاهما؛ أحدهما منحدر يمتد إلى أبدية، والآخر مرتفع يمتد إلى أبدية أخرى، والمسلكان يتعارضان متقاطعين عند هذا الباب، وقد كتب اسمه على رتاج واحد «الحين».
فقلت: أتعتقد أيها القزم أن من يتوغل في أحد هذين المسلكين يبقى معتقدا بأن اتجاه أحدهما معارض لاتجاه الآخر؟
فقال القزم بازدراء: إن كل اتجاه على خط مستقيم إنما هو اتجاه مكذوب فالحقيقة منحرفة؛ لأن الزمان نفسه خط مستدير أوله آخره.
فأجبته قائلا: لا تستخف بالأمر أيها الروح الكثيف، وإلا غادرتك فتعطب رجلك حيث أنت، ولا تنس أنني أنا حملتك إلى الأعالي. تفكر في «الحين» الذي نحن فيه الآن، فإن من بابه يمتد سلك أبدي لا نهاية له متراجعا إلى الوراء، فإن وراءنا أبدية يا هذا.
أفما كان لزاما على كل شيء معزز بمعرفة السير أن يجتاز هذا المسلك فيما مضى؟ أفما تحتم على كل شيء له طاقة الوصول أن يكون قد وصل فيما مضى فأتم سيره وعبر؟
وإذا كان كل موجود الآن قد وجد من قبل فما هو اعتقادك في هذا الحين؟ أفما كان لهذا الباب وجود سابق؟
أفما ترى الأشياء كلها متداخلة، وإن هذا «الحين» يجر وراءه كل ما سيكون، بل يجر نفسه أيضا؟
أفما يتحتم والحالة هذه على كل معزز بقوة السير أن يندفع مرة أخرى على هذا المسلك المتجه إلى ما فوق؟
انظر إلى هذه العنكبة التي تدب على مهل تحت شعاع القمر! انظر إلى شعاع القمر نفسه وإلى ذاتي وذاتك مجتمعتين تحت هذا الباب تتهامسان بأسرار الأبد! أفما تعتقد أنه لا بد أن نكون وقفنا جميعا من قبل في هذا المكان؟
أفليس علينا أن نعود لنندفع تكرارا على المسلك الآخر الذاهب أمامنا متصاعدا مستطيلا مروعا؟ أفما لزم علينا أن نعود تكرارا وأبدا؟
هكذا كنت أتكلم بصوت يتزايد انخفاضه، وقد أرعبتني أفكاري وما كمن وراء أفكاري، فإذا بي أسمع فجأة نباح كلب على مقربة منا.
خيل إلي أنني سمعت مثل هذا النباح من قبل، ورجعت بتذكاري إلى الماضي فإذا هو يسمعني هذا النباح في أبعد أيام طفولتي، ويمثل لي مثل هذا الكلب الذي أراه الآن وقد وقف شعره، ومد رقبته مرتجفا في أشد الليالي سكونا حيث يتراءى للكلاب أيضا أن في العالم أشباحا.
ونبه نباح الكلب إشفاقي؛ إذ تذكرت أنه عندما عوى منذ هنيهة كان القمر يطل من وراء البيت صامتا كالموت، ومنذ هنيهة كان هذا القمر يستقر فوق السطح كقرص ملتهب يراود ما ليس له، وذلك ما أثار غضب الكلب؛ لأن الكلاب تؤمن بالسارقين والأشباح.
عندما سمعت هذا النباح للمرة الثانية عاودني الإشفاق تكرارا.
أين توارى القزم الآن ومعه الباب والعنكبة وأحاديث المناجاة؟ أكنت في حلم فاستفقت، فأنا الآن وحيد بين جرداء الصخور لا سمير لي غير شعاع القمر المنفرد في السماء.
لكنني رأيت رجلا مسجى على الأرض، وكان الكلب يقفز وقد اقشعر جلده وهو يهدر هديرا، وإذ رآني قادما نحوه بدأ بالنباح فتساءلت عما إذا كنت سمعت من قبل كلبا ينبح بمثل هذا الصراخ المستغيث.
والحق أن ما رأيت في ذلك المكان ما كنت رأيت مثله؛ لأنني شاهدت أمامي راعيا فتيا ينتفض محتضرا، وقد ارتسم الروع على وجهه وتدلت من فمه أفعى حالكة السواد، فتساءلت عما إذا كنت رأيت قبل الآن مثل هذا الاشمئزاز والشحوب على وجه من الوجوه، لعل هذا الراعي كان يغط في رقاده عندما انسلت الأفعى إلى حلقه وانشبكت فيه.
وبدأت أسحب الأفعى بيدي، ولكنني شددت عبثا، فسمعت من داخلي صوتا يهيب بالراعي قائلا: عض عليها بأسنانك ولا تن حتى تقطع رأسها، وهكذا سمعت بهذا الهتاف أصوات رعبي واشمئزازي وضغينتي وإشفاقي كأنها صوت واحد يتعالى مني.
فيا أيها الشجعان المحيطون بي، أيها الشذاذ المكتشفون، يا من تقتحمون مجاهل البحار مستسلمين للشراع الغدار، وأنتم تسرون بالمعميات والألغاز، عبروا رؤى المنفرد وحلوا ما رأى من معميات وقد كمن فيها ما كان وما سيكون.
أي هذه الرموز يدل على ما فات وأيها يدل على ما هو آت؟
من هو الراعي الذي اندست الأفعى في فمه؟ ومن هو الإنسان الذي سيصاب بمثل هذه الداهية الدهماء؟
على أن الراعي بدأ يشد بأسنانه منفذا ما أشرت به، وما لبث أن تفل دافعا برأس الأفعى إلى بعيد، ثم انتفض ووقف على قدميه.
وتبدلت هيئة الراعي فلم يعد راعيا حتى ولا إنسانا؛ إذ جلله الإشعاع وضحك ضحكة ما سمعت حياتي مثلها.
لقد سمعت يا إخواني ضحكة ليست من عالم الإنسان، ولم أزل منذ ذلك الحين أحترق بشهوة لا أجد ما يطفئها. إن شهوة هذه الضحكة تنهش أحشائي فكيف أرضى الموت بعد الآن.
هكذا تكلم زارا ...
الغبطة القاسرة
وسار زارا يقطع أبعاد البحر تساوره مثل هذه الهموم، وتدور به مثل هذه الأسرار، حتى إذا تخطى مجال أربعة أيام عن الجزر السعيدة وما ترك عليها من صحبه، اشتدت عزيمته فتغلب على آلامه، وثبت قدميه في موقفه متجها إلى مقدراته مناجيا سريرته وقد عاد إليها مرحها وسرورها قائلا: لقد فزعت إلى عزلتي؛ لأنني تقت إليها، فأنا الآن منفرد أمام صفاء السماء ومدى البحار، وقد خطا النهار إلى عصره وما التقيت بأصحابي للمرة الأولى إلا في وقت العصر، وفي مثل هذا اليوم اجتمعت بهم للمرة الثانية، والعصر هو الساعة التي يهدأ فيها اضطراب الأنوار جميعها؛ لأن السعادة الذاهبة بددا منشورة على مسالكها بين السماء والأرض تتجه إلى الاستقرار في روح الضياء، وها إن السعادة تحول اضطراب النور إلى سكون.
فيا لعصر حياتي! إن سعادتي هي أيضا قد انحدرت يوما إلى الوادي تطلب مستقرا، فلقيت هذه الأرواح النيرة تفتح لها الملجأ الأمين.
يا لعصر حياتي! لكم تخليت عن أشياء في الحياة توصلا إلى مغارس أفكاري الحية، وإلى أنوار الصباح تدور في ذراتها أسمى أماني وآمالي.
لقد طلب المبدع يوما رفاقا له وفتش عن أبناء آماله، فأدرك أنه لن يجدهم إذا هو لم يخلقهم خلقا.
لقد أتممت نصف مهمتي باتجاهي نحو أبنائي وبعودتي إليهم، وقد وجب على زارا أن يبلغ نفسه الكمال من أجل هؤلاء الأبناء، وما يحب الإنسان من صميم قلبه إلا ابنه ونتيجة جهوده، وحيث يتجلى الحب الأشد فهنالك تكمن القوة المولدة، ذلك ما أدركته بتفكيري.
إن أزهار أبنائي لا تزال تتفتق في الربيع والريح تهب على صفوفهم فتهزها، فأبنائي أشجار حديقتي ونبت خير أراضي.
إن هذه الأشجار متراصة في منابتها على الجزر السعيدة، ولسوف أقتلعها واحدة فواحدة لأغرسها متفرقة فتتعلم احتمال العزلة وتنشأ فيها الأنفة والحزم؛ لينتصب كل منها تجاه البحر وقد تصلبت جزوعها وتعقدت أغصانها كمنائر حية للبقاء القاهر.
على كل شجرة أن تشخص في مهب العواصف المترامية إلى البحر حيث يتدافع الغمر إلى قاعدة الجبل، فلا تغفل ليلا ونهارا عن تفحص سرائرها، عليها أن تتحمل التجارب ليعلم أنها من سلالتي وأنها تحدرت من أصلي تعززها الإرادة المجالدة، فتبدو صامتة حتى عندما تتكلم، وإذا ما استسلمت تبدو معطية وهي آخذة، وهكذا يتحول من يمشي على أثر زارا بأضرابه وبإبداعه إلى شخصية تحفر شريعتي على الواحي فيكتمل بذلك كل شيء.
وهأنذا من أجل هذه الشخصية وأمثالها أسعى إلى تكوين شخصيتي؛ فأمتنع عن ورود السعادة مقتحما كل شقاء في آخر تجربة أتحملها لأدرك سريرتي.
لقد آن الأوان لرحيلي وقد نبهني إلى وجوب الرحيل خيال المسافر وأطول الأزمان وأعمق الساعات صمتا؛ إذ نفخ الريح في فتحة القفل فتراجعت درفة الباب قائلة: هيا.
ولكنني كنت مقيدا بحبي لأبنائي يأسرني تشوقي إلى هذا الحب لأصبح فريسة لهؤلاء الأبناء فأضحي من أجلهم نفسي، وما الشوق عندي إلا صورة ظاهرة لحقيقة فنائي. إن أبنائي لي وفي هذه التملك يجب أن يضمحل كل شوق مستحيلا إلى عقيدة مكينة.
وكان رأسي يلتهب بشمس محبتي فأتحرق بحرارة دمي، فرأيت أشباح الشكوك تدور بي من كل جهة فتمنيت أن يلفحني قر الشتاء حتى تصطك أسناني من رعشة الصقيع، وما عتم أن اكتسح نفسي ضباب الجليد، فشق الماضي لحوده وبعثت منه الآلام التي دفنت وهي حية فيها، وما تناولها الفناء لأنها كانت نائمة على أكفانها.
وكان كل شيء يشير إلي بأن قد حان زمن الرحيل، ولكنني كنت لا أنتبه إلى هذه الدعوة حتى تحركت أعماقي ولسعتني ثائرات أفكاري، ويا ليت لي القوة للتغلب على ارتعاشي عندما أشعر بقوة التفكير في أغواري تحاول أن تخترق لها منفذا، فإنني لا أزال أحس باختلاج قلبي عندما أتنصت لدبيب أفكاري وهي تحاول الانجلاء لي. إن في صمتك نفسه أيتها الفكرة ما يشد على عنقي وأنت أشد صمتا من أغواري، ولكم حاولت أن أستخرجك من الأعماق أيتها الفكرة فخانني العزم واكتفيت بإضماري إياك في ذاتي. إنني لم أتصل بعد إلى جرأة الأسد وإلى منتهى إقدامه.
إنك لجد ثقيلة في أغواري أيتها الفكرة، ولسوف أجد يوما قوة الأسد، وأتخذ لصوتي زئيره فأرفعك من الغور إلى المنبسط، حتى إذا ما تغلبت بذلك على نفسي تدرجت إلى انتصار أعظم أختتم به أعمالي، وإلى أن أبلغ هذا الظفر سأبقى تائها على بحار لا أعرف لها ساحلا تداعبني خطرات الأحداث فأتلفت إلى ما ورائي وإلى ما أمامي ولا أعلم أين المنتهى.
ألم تحن بعد ساعة جهادي الأخير أم هي ماثلة أمامي الآن؟ والحق أن البحر والحياة يحيطان بي بجمالهما الفتان ويعلقان أبصارهما علي.
فيا لعصر حياتي، يا للسعادة تتقدم ساعة المساء، يا للمرسى في وسط العباب، يا للسكون في قلب الارتياب، إنني أحاذركن ولا أثق بكن جميعا.
أما والحق إنني أخشى جمالكن الغدار كما يخشى العاشق ابتسامة تجاوزت حد التلطف في افترارها. إنني أدفع عني ساعة السعادة كالغيور يصد عن محبوبته، ولما يزل العطف يتجلى في قسوته وجفائه.
بعدا لك أيتها الساعة السعيدة! فقد اجتاحتني بحلولك غبطة قاسرة، وأنا أتوقع أعمق الأحزان. لقد جئتني في غير الأوان.
بعدا لك أيتها السعادة السعيدة! اذهبي واطلبي لك ملجأ هنالك في مقر أبنائي، سارعي إليهم وباركيهم قبل حلول المساء وأنيليهم سعادتي.
لقد اقترب الغسق وجنحت الشمس إلى الغروب فتوارت عني سعادتي.
هكذا تكلم زارا ...
وبات يتوقع نزول شقائه به طوال ليله، غير أنه انتظر عبثا؛ إذ بقي الليل منيرا ساكنا، واستمرت السعادة تخطو مع الساعات متقربة إليه، وما لاح الفجر حتى بدا زارا يتضاحك قائلا: إن السعادة تتأثرني لأنني لا أتأثر النساء، وهل السعادة إلا امرأة؟
قبل بزوغ الشمس
أيتها السماء الرافعة قبابها فوق رأسي نقية صافية، أيتها السماء السحيقة وقد غادرت في أبعادك الأنوار، إنني أشخص إليك فتتملكني رعشة الأشواق الإلهية.
أنا لا أسبر أغواري إلا إذا سموت إلى عليائك، ولا أشعر بطهارتي إلا حين يجللني صفاؤك.
إنك تحجبين نجومك كما يتلفع الإله بسنائه. أنت صامتة وبصمتك تذيعين لي حكمتك.
لقد تجليت لي اليوم في سكونك على زبد الآفاق فأعلنت لروحي المزبدة ما فيك من حب وعفاف. جئت إلي جميلة مقنعة بجمالك تخاطبينني بلا كلام، وتعلنين حكمتك وما كنت أعلم ما في روحك من عفاف. أتيت إلي قبل بزوغ الشمس أنا المنفرد في عزلتي.
أنا وأنت صديقان منذ الأزل فأحزاننا واحدة كارتياعنا، وعمق أغوارنا وشمسنا واحدة أيضا، وما نتناجى إلا لوفرة ما نعلم، ثم يسودنا الصمت فنتبادل ما أعرف وما تعرفين بلغة البسمات، أفما بعثت أنوارك من مكمن أنواري؟ أفليست فكرتك أختا لفكرتي؟
لقد تعلمنا كل شيء سوية، وتدربنا سوية على الاعتلاء فوق ذاتنا متجهين إلى صميمها مبتسمين بافترار لا تعكره الغيوم، وبلفتات صافية نغرقها في سحيق الأبعاد في حين تتدافع كالأمطار تحتنا النزعات المكبوتة وأهداف الخطيئة.
إلام كانت تتوق نفسي عندما كنت أذهب في الليل شاردا على مسالك الضلال؟ وماذا كنت أطلب في تسلقي الجبال نحو قممها؟ أفما كنت أنت مقصدي أيتها السماء؟ وهل كانت أسفاري جميعها إلا ذهابا مع حافز التدرب؟ وهل كان لإرادتي من هدف غير التحليق في الأجواء؟ وهل أبغضت شيئا بغضي الغمام وكل نقاب يلفع الضياء؟ لقد كرهت بغضي نفسه؛ لأنه يعكر صفاءك أيتها السماء.
إنني أنفر من هذه الغيوم تمر كأنها قطط برية تزحف زحفا؛ لأنها تختلس مني ومنك أيتها السماء الحقيقة الإيجابية الثابتة في كل شيء، فأنا وأنت ننفر من هذه الدخيلات المعكرات من هذه الغيوم الكاسحات، فما هي إلا كائنات مختلطة في نوعها يسودها التردد، فلا تعرف أن تلعن بإخلاص ولا أن تبارك بإخلاص، وخير لي أن ألجأ إلى مغارة أو أسقط في هاوية من أن أقف أمامك يا سماء الضياء، وقد عكرت صفاءك الغيوم الكاسحات، ولكم وددت لو أنني أسمر أردانها على آفاقك بسهام البروق الذهبية، ثم أنزل عليها الرعود تهود قاصفة على مراجل أحشائها أنني أود قرعها بعصا الغيظ؛ لأنها تحجب عني حقائقك أيتها السماء الممتدة بأغوار أنوارها فوق رأسي كما تحجب حقيقتي عنك.
لخير لي أن أسمع هزيم الرعود وولولة العواصف من أن أتنصت إلى مواء هذه الهررة الزحافة المترددة، ففي المجتمع أمثال لهذه الغيوم يسيرون مترددين بخطوات الذئاب، وقد وقفت أشد بغضي عليهم. «على من لا يعرف أن يمنح البركة أن يتعلم إنزال اللعنات.» ذلك ما ألهمتنيه السماء الصافية مبدأ ينير سمائي كالكواكب في أشد الليالي قتاما.
ما دمت فوقي أيتها السماء الصافية المتألقة بالأنوار فإنني لا أنقطع عن منح البركة وإيراد بياني إيجابا وتأكيدا؛ لأنير بعقيدتي جميع الأغوار المظلمة.
لقد جاهدت طويلا حتى أصبحت مباركا ومؤكدا، وما ناضلت إلا لأحرر ذراعي فأبسطهما للبركة، وتقوم بركتي على الاعتلاء فوق كل شيء كما تعتلي السماء والسقوف المكورة وقباب الأجراس والغبطة الدائمة، فطوبي لمن يبارك هكذا؛ لأن كل الأشياء قد تعمدت من ينبوع الأبدية وما وراء الخير والشر، وما الخير والشر إلا خيالات عابرة وأحزان بليلة وغيوم متراكضة إلى الفناء.
والحق أن من البركة لا من اللعنة أن نعلم بأن فوق كل شيء تمتد سماء الصدفة وسماء البراءة وسماء الحيرة وسماء الاضطراب.
إن كلمة الصدفة لأقدم ما في العالم من نسب للأشياء، وقد أرجعت كل الأشياء إلى هذا النسب النبيل فأنقذتها من عبودية المقصد والهدف، وهكذا رفعت الحرية والغبطة السماوية عاليا ونصبتها كالقباب فوق جميع الأشياء؛ إذ علمت أن ليس من إرادة أبدية تعلو بها لتبسط مقاصدها فوقها.
لقد وضعت حدا لهذه الإرادة بل لهذا الجنون وهذا الاضطراب عندما علمت أن الوقوف عند الحقيقة كان مستحيلا وسيبقى مستحيلا، فما هناك إلا قليل من التعقل وذرات من الحكمة تتلقفها الكواكب كخميرة امتزحت بالأشياء جميعها ولولا الجنون لما امتزجت بها.
ليس للإنسان أن يعطي من الحكمة إلا قليلا، غير أنني وجدت في كل مكان عقيدة لها سعادتها، وهي تفضيل الرقص على أرجل الصدفة العمياء.
فيا أيتها السماء الممتدة فوق رأسي، أيتها السماء الصافية المتعالية، لقد أصبح كل صفائك فيك قائما على اعتقادي بأن ليس في الكون عنكبة خالدة، وليس فيه من الحكمة ما تنسجه العناكب، فلتكن مجالاتك أيتها السماء مسرحا لخطرات الصدف الإلهية، أو فلتكن خوانا يدحرج عليه الآلهة نردهم، فلماذا يعلو أديم وجهك الاحمرار؟ أترى جاء بياني مبهما أم وردت بركتي لك لعنة عليك؟ أم أخجلك أن أنفرد بك فأردت أن أتوارى، وأكف عن الكلام؛ لأن الفجر قد لاح على الآفاق؟
إن في العالم من الأغوار ما لا يدركه النهار، ومن الأشياء ما يجب كتمانه أمامه، وقد باغتنا النهار، فلنفترق.
أيتها السماء الممتدة فوق رأسي بطهرها واضطرامها، أيتها الغبطة المتجلية قبل بزوغ الشمس، لقد باغتنا النهار فلنفترق.
هكذا تكلم زارا ...
الفضيلة المصغرة
1
ولما وطئ زارا اليابسة، لم يتجه توا إلى جبله وغاره، بل ذهب يضرب في الآفاق مستفسرا عن كل ما يرى فكان يقول عن نفسه: ما أنا إلا الجدول يتلوى على منعطفاته متجها إلى مصدره لا إلى مصبه، وما قصد زارا من تجواله إلا معرفة ما آلت إليه حالة الناس أثناء غيابه، وهو لا يدري أتعاظم الإنسان أم تصاغر، وسار زارا حتى أدى به المطاف إلى مسلسل من الأبنية الحديثة فوقف أمامها، وهو يعلن دهشته بقوله: إلام ترمز هذه المساكن؟ والحق أنها ليست من صنع روح جبارة تعلن ذاتها بما تصنع، ولعلها أخرجت من حقيبة طفل، فيرجعها طفل آخر إلى مستودع الألاعيب.
أبوسع الرجال أن يدخلوا هذه الحجر ويخرجوا منها وهي كأنها معدة لصغيرات الدمى الرافلات بالحرير أو لصغار الهررة النهمة التي تحشر ذاتها لتفترس فتصبح فريسة.
وشخص زارا مليا، ثم قال والحزن يهدج صوته: لقد أصبح كل شيء صغيرا، فإنني حيثما أوجه أنظاري لا أرى غير أبواب خفضت أرتاجها فإذا شاء أمثالي أن يجتازوها تحتم عليهم أن ينحنوا.
أيطول بي الزمان حتى أعود إلى وطني حيث لا أرغم على الانحناء أمام كل صغير. قال هذا وأرسل نظراته تخترق الآفاق البعيدة وهو يدفع بزفرة الشوق العميق.
وتمالك زارا نفسه فوقف يلقي خطابه عن الفضيلة المصغرة.
2
أمر بهذا الشعب مفتحا عيني منتبها إلى نفسي، فإن رجاله لا يغتفرون لي إغضائي عن فضائلهم، وترفعي عن حسدهم عليها.
إنهم يلحقون بي نابحين؛ إذ أقول لهم لا يليق بصغار الناس إلا صغيرات الفضائل. إنهم ينبحون إذ يقصر بي فهمي عن إدراك الفائدة من وجودهم في الحياة، وما أشبهني بديك غريب تثور الدجاجات عليه بمناقيرها، فلا أحقد عليها؛ لأنني تعودت على احتمال التافه من المزعجات، وما فوقت قط سهامي نحو أي صغير حقير فما ينتفش بريشه لأية حركة إلا القنافذ.
إن صغار الناس يتحدثون عني في سمرهم دون أن يفتكر أحدهم بي، فتذهب ضجتهم تحوك دثارا لتفكيري فأتمتع بنوع من السكون ما كنت أعرفه من قبل.
إن واحدهم يقول لرفيقه: ما له ولنا، إنه الغمامة الربداء وقد تحمل بأهدابها وباء كاسحا فلنحذرها.
وقد رأيت أمس امرأة تجتذب طفلها إليها لترده عن الاقتراب مني، شدت به وهي تصيح: أبعدوا الأولاد فإن هاتين العينين تحرقان روحهم الغضة.
إنهم يتكلفون السعال إذا ما تكلمت حاسبين أن سعالهم يقف بوجه العاصفات فيردها، وقد خشنت آذانهم فامتنع عليها أن تحس بنبرات السعادة في صوتي.
يقولون لا وقت نقفه على زارا، ولكن ما أهمية جيل لا يتسع وقته لزارا؟
وهب أن هؤلاء الناس جاءوا إلي لتمجيدي، فهل يسعني أن أستنيم إلى أمجادهم، وليس ثناؤهم علي إلا منطقة أشواك لو لمست حقوي لما تخلصت من آثارها حتى بعد طرحها عني.
لقد تعلمت بين هؤلاء الناس حقيقة أخرى، وهي أن من يسدي الثناء يتظاهر بإعادة ما بذل له، وهو لا يرمي في الواقع إلا إلى الاستزادة لنفسه من المديح والإطراء.
سلوا قدمي؛ هل غرهما مثل هذا التزلف؟ إن قدمي تمتنعان عن الأخذ بأي وزن مقيد حين يحلو لهما الرقص كما تشتهيان، إنهم يصورون فضائلهم الصغيرة بأروع بيان لاجتذابي إليها، كما ينقرون على دف سعادتهم الحقيرة استفزازا لرجلي إلى الرقص. وأنا أمر بهؤلاء الناس مفتحا عيني منتبها إلى نفسي؛ لأنهم صغروا ولا يزالون يتصاغرون وما أوردهم هذا الصغار إلا ما اتخذوه قاعدة لسعادتهم وفضيلتهم؛ لأنهم طلبوا الراحة في الفضيلة فحشدوها تواضعا، وهكذا تمرنوا على الإقدام كما يحلو لهم فمشوا متعارجين متماهلين، وأقاموا من زرافاتهم عقبة في سبيل من يقدمون على الإسراع في سيرهم.
إن من هؤلاء من يتجه إلى الأمام، ولكنه لا يفتأ يتطلع إلى الوراء متلعا عنقه معرقلا سير التابعين.
على الأعين وعلى الأرجل ألا تكذب ذاتها، وما أكثر الكذابين بين الوضعاء!
ولقد يكون بين هؤلاء الناس من يريد ولكن أكثرهم منقاد تعمل إرادة غيره فيه، ولقد ترى بينهم مخلصا غير أن أكثرهم من حثالة الممثلين، فمنهم من يمثل دون أن يدري، ومنهم من يمثل دون أن يريد، وما أقل المخلصين من هؤلاء القوم بخاصة بين فئة الممثلين منهم!
هنا تسترجل النساء لقلة ما يتصف بالرجولة الرجال، وما يحرر المرأة من خلالها ليخلق فيها المرأة الحقيقية إلا من تكاملت الرجولة فيه.
وأخبث ما رأيت بين هؤلاء الناس تظاهر حاكمهم بفضيلة محكومهم، فلا يزال أولو الأمر فيهم يترنمون بتصريف مصدر الخدمة: «خدم، خدما، خدموا؛ نحن نخدم.» وويل للسيد الأول بينهم إذا لم يقل إنه أول الخادمين.
لقد ذهب نظري المتجسس، وا أسفاه! يرود مكامن خبثهم فما خفيت عني سعادتهم؛ فإذا هي سعادة ذباب يترامى بطنينه إلى زجاج النوافذ تتكسر عليه أشعة الشمس، وما رأيت بين هؤلاء القوم إشفاقا إلا وتبينت إزاءه ما يوازيه ضعفا، فتراهم يتعاملون بالإنصاف والعطف كحبوب الرمال تعطف واحدتها على الأخرى.
وما رأيت رجلا فيهم إلا وهو يدعي القناعة فيما أصاب من نذر السعادة، غير أنه لا يني في قناعته يحدج بعين الشهوة قليلا من السعادة يضيفها إلى ما يملك، وما يطمع هؤلاء الناس إلا بأن يتقي بعضهم شر البعض الآخر، فهم لذلك يلجئون إلى التعامل بالحسنى، أما أنا فلا أرى إلا الخور والجبن في هذه الطريقة، وإن كانوا يعرفونها بالفضيلة فيما بينهم.
وإذا صدف وتخاطب هؤلاء الناس بشيء من الخشونة، فإنني لا أتميز في نبرات صوتهم إلا أثر التهاب الحلق، فإن أقل لفحة تصيب هذه الأعناق تبح أصواتها، وما أشد هؤلاء القوم حين يحتالون ويمكرون! ففي أناملهم كل الرشاقة، ولكن في قبضة يدهم شللا وليس لأصابعهم أن تنطوي على راحتها.
وما الفضيلة في عرفهم إلا ما يولد الضعة والتآلف، وبهذا المبدأ توصلوا إلى جعل الذئب كلبا، بل حتى إلى جعل الإنسان خير الدواجن الخاضعة لتسلط الإنسان.
إنهم لمغتبطون، إنهم يضحكون قائلين: لقد اتخذنا مقامنا على الحالة الوسطى بين مصارعي الثيران يردون المهالك وبين الخنازير سارحة لا تبالي.
وما هذه الحالة التي يدعونها اعتدالا إلا حالة انحطاط وخمول.
3
لقد ألقيت إلى هذا الشعب بكلمات كثيرة، فما وسعه إدراك كنهها ولا حفظها، وكل ما بدا منه هو استغرابه ألا أكون أتيت إليه بالمواعظ لمكافحة الفحشاء والرزائل، والحق إنني ما جئت نذيرا يدعو القوم إلى الاحتراس ممن ينشلون الأموال من الجيوب.
لقد استغربوا ألا أكون مستعدا لتنبيه الغافلين عن الحكمة وتسديد التفكير في الحكماء، فكأنهم لا يزالون بحاجة إلى مهرة المعلمين تخدش أصواتهم الآذان كأنها صريف أقلام الحجر على اللوحات السوداء.
فإذا صرخت بهم قائلا: أنزلوا لعناتكم على ما فيكم من جبناء الأبالسة الذين لا يحلو لهم غير الأنين وضم السواعد إلى الصدور للعبادة. هبوا منادين بكفر زارا وإلحاده، وارتفعت فوق أصواتهم أصوات من يعلمونهم الاستكانة والصبر، فلا أملك نفسي من أن أهمس في آذان هؤلاء المعلمين لأقول لهم: أنا هو زارا الكافر الملحد، ولولا شعوري بالاشمئزاز منهم لكنت أسحقهم سحقا؛ لأنهم أشبه بالقمل لا يدبون إلا حيث تبدو الحقارة وينتشر الجرب.
أجل لقد همست في آذان هؤلاء المعلمين قولي إنني أنا زارا الكافر القائل: أرشدوني إلى من هو أشد كفرا مني لأتمتع بتعاليمه وأسر بها.
أنا هو زارا الكافر، فأين أشباهي؟ وما أشباهي إلا من يهبون من ذاتهم لذاتهم إرادة مطرحين الصبر كارهين الاستسلام.
أنا هو زارا الكافر، أنا الصاهر في مرجلي كل ما يدعى صدفة، فلا أزال به حتى ينضج ليصلح لي غذاء، ولكم رأيت الصدف تتقدم إلي كأنها السيد المطاع فترغمها إرادتي على الركوع أمامي خاشعة مسترحمة طالبة إلي أن أجد لها مأوى عندي قائلة: ما يلجأ الصديق إلا إلى صديق.
ولكن لمن أوجه الخطاب إذا كانت كلماتي لا تطرق أسماعا تشبه أسماعي؟ غير أنني سأرسل صوتي في الفضاء لتهب به الرياح قائلا: أيها القوم الوضيع، إنك لتزيد حقارة من يوم إلى يوم، إنك سائر إلى الذوبان فالاضمحلال، وما يوردك الفناء إلا صغيرات فضائلك وتساهلك وصبرك.
إنكم تدارون كثيرا أيها الناس، وتتخلون عن الكثير، وما الأرض التي تنمون عليها إلا من تراب المداراة والضعف وهل يشتد جزع الدوحة فتتعالى إذا هي لم تنشب أصولها في الأرض القاسية ملتفة حول صلب الصخور؟
إنكم تنسجون بإهمالكم كفنا لمستقبل الإنسانية، فأنتم العناكب العاملة فيما لا يجدي وهي تتغذى من دم الأنسال المقبلة، فيا لكم من لصوص بما تأخذون، أيها المباهون بحقيرات الفضائل، إنكم تسلبون وتهدمون في حين أن للسارقين أنفسهم بقية من الشرف تقف بهم عند حد السلب إذا لم يكن من موجب للهدم والتحطيم.
إنكم تأخذون بمبادئ صبركم فتقولون إن ما تستولون عليه هو مما يعطى، وأنا أقول لكم إنه مما يؤخذ ويسلب، وما أنتم إلا سالبو أنفسكم لو تعلمون.
فعلام لا تقلعون عن هذا التذبذب في إرادتكم؟ ولماذا لا تختارون الذهاب إلى صميم الكسل أو إلى صميم العمل؟
ليتكم تفهمون ما أقوله لكم: افعلوا ما تريدون، ولكن تعلموا أولا أن تريدوا.
حبوا قريبكم كأنفسكم، ولكن حبوا أنفسكم أولا.
وهل بينكم من يحب نفسه بالحب الأعظم والاحتقار الأعظم؟
وهل يجدي القول وليس لكم الأذن التي أسمع بها أنا؟ إن ساعتي لم تحن بعد، وقد جئت بينكم بشيرا لذاتي فأنا الصبح وأنا الديك الصائح ولما يزل الظلام منتشرا على السبل.
إن ساعتكم تقترب باقتراب ساعتي، فإنكم تتصاغرون مع مرور الزمان فيزداد فقركم وتزدادون عقما، فما أنتم إلا أعشاب مسكينة على أرض أشد مسكنة من أعشابها.
لسوف لا يطول الزمان حتى تتعب هذه الأعشاب من نفسها، فتحترق وهي عطشى إلى النار لا إلى الماء.
إنها لأسعد ساعة تلك الساعة التي تنقض الصاعقة فيها، ويا لها من سر يستبق الظهيرة، فإنني سأرسل من هذا السر ومن تلك الصاعقة جداول من نار سأرسل أنبياء يتكلمون بألسنة اللهيب منذرين بالظهيرة العظمى.
هكذا تكلم زارا ...
على جبل الزيتون
لقد نزل الشتاء ضيفا ماكرا علي، فمددت يدي يلوحهما الازرقاق لمصافحته، ولكم أود أن أفلت من هذا الضيف بالرغم من محبتي له، ولا سبيل لي للانعتاق منه إلا بالجري على قدمي، فتدب الحرارة فيها وفي أفكاري، فأنا أتجه هاربا من الصقيع إلى حيث ينقطع هبوب الريح فأصل إلى جبل الزيتون، إلى مطرح شعاع الشمس، وهنالك أستقر ضاحكا من ضيفي القاسي الرابض في مسكن يتلهى بالقرقعة وقتل الذباب، وضيفي ينفر من طنين ذبابة واحدة أو ذبابتين فهو يطمح إلى جعل كل مكان مقفرا حتى يرى أشعة القمر نفسها ترتاع من ظلمات السبيل.
إنه لشديد الوطأة هذا الضيف، ولكنني أحترمه ولا أفزع منه إلى إله النار كما يفعل المخنثون؛ لأنه خير للإنسان أن تصطك أسنانه بردا من أن يلجأ إلى الأصنام، ذلك ما تقول به غرائزي فأنا عدو كل صنم ناري يضطرم في وجومه.
إذا ما أحببت أحدا فإن حبي له في الشتاء لأشد منه في الصيف، وفي الشتاء أراني أقوى على الاستهزاء بأعدائي، فأشعر بالشجاعة عندما ألتف بدثاري على فراشي؛ لأن سعادتي المولية تأخذ بالترنم ضاحكة فتضحك معها كاذبات أحلامي.
أي شيء يكرهني على الزحف، وما زحفت يوما سعيا إلى أقدام الأقوياء؟
وإذا كنت لجأت أحيانا إلى الكذب فما كان كذبي إلا وليد محبتي، وذلك ما يجعلني مرتاحا إلى نفسي حتى وأنا على فراشي والسماء معتكرة بالغيوم.
إنني لأدفأ على الفراش الوضيع البسيط بأكثر مما أدفأ على الفراش المزين الوثير، فأنا حريص على فقري وما يخلص الفقر لي في أي فصل إخلاصه لي في الشتاء، أفيق كل صباح للمشاكسة فأبدأ بالاستحمام بالماء البارد لأهزأ بالشتاء فيزمجر بوجهي هذا الصديق القاسي، وعندئذ يلذ لي أن أداعب ظلامه بأنوار شمعة ضئيلة لأهيب به إلى إرسال شرر النور من رماد آفاقه.
إن روح الأذية لا تنتبه بي في أية ساعة انتباهها عند الفجر عندما تحتك الآنية بالآنية أمام سبيل الماء، وتصهل الخيل وهي تضرب بحوافرها أرض الشوارع الدكناء.
عندئذ أقف شاخصا إلى السماء متوقعا انبثاق أنوارها، فتبدو كالشيخ تمازج السواد بالبياض في لحيته ونصعت بالشيب قمة رأسه.
فيا لسماء الشتاء من آفاق صامتة تتغلب أحيانا على الشمس فتدعها ملفعة بصمتها، فهل اقتبست من هذه السماء الانقباض على النور في السكون الطويل أم هي تعلمت ذلك مني؟ ولعل كلا منا أوجد هذا الوجوم الصامت لنفسه؟
إن للأشياء الحسنة مصادرها المتعددة لأنها تطفر مرحة في الوجود فلا يمكن أن تلوح وشيكا وتتوارى.
وما الصمت الطويل إلا في عداد هذه الأشياء الحسنة المرحة؛ لذلك صفا أديم وجهي كأديم السماء بعد إمطارها واستقرت اللحظات الهادئة في عيني، فأنا أحجب شمسي كما تحجب سماء الشتاء شمسها، فأخفي إرادتي وقد تعلمت هذا المكر من الشتاء، فبلغت من فني مرتبة منعت بها صمتي أن يفضح بالصمت نفسه، فأصبحت ألهو بمخادعة المتعظمين وإشغال انتباههم الصارم بالتكلم وباللعب بالنرد، وهكذا لن يتمكن أحد من سبر أعماق حكمتي وأقصى إرادتي، وذلك ما رميت إليه عندما أوجدت السكون الطويل.
ولكم رأيت من رجل ماكر يضع نقابا على وجهه، ويعكر المياه في أعماقه كيلا يتمكن أحد من نفوذ أقصى سريرته، فالتف حوله كبار الماكرين رواد المصاعب فاصطادوا جميع ما أخفى من أسماك في قعر مياهه.
إن من لا يفضحهم الصمت إنما هم من نقت نفوسهم وشفت قلوبهم، غير أن أقصى سرائرهم لا تنكشف للنظر وهي السحيقة الأغوار تحت أطباق المياه الشفافة الصافية.
إنك رمز لنفسي يا سماء الشتاء بأديمك الأبيض وعيونك البراقة الصافية، وورائك مثل ما تضمر هذه النفس من ثورة واضطراب، ولقد حق علي أن أحتجب كمن ابتلع الذهب كيلا أعرض روحي لمباضع المتجسسين، ولقد وجب علي أن أنتعل القباقب المرتفعة؛ لأخفي طول قائمتي عن أعين من يدورون بي من لؤماء الحاسدين، إنها لن تحتمل النظر إلى سعادتي هذه النفوس الجافة العتيقة المتهرئة المفسخة ...
من أجل هذا لا أظهر لهم غير شقائي والثلوج المكللة لذرواتي مخفيا عنهم أن جبلي تمنطقه الشمس بجميع أنوارها، وإذا هم سمعوا من مرتعي شيئا فلا يسمعون إلا ولولة الزوابع أدفع بها إليهم، فلا يخطر لهم ببال أنني أمر أيضا على الأمواج الحارة فأحمل منها لفحات ريح الجنوب.
إن هؤلاء الناس يشفقون علي لما يطرأ لي من الحادثات ومن تصاريف الزمان، في حين أنني أهتف قائلا دعوا الصدفة تأتي إلي فإنها طاهرة كالأطفال.
أكان لهؤلاء الناس أن يطيقوا تمتعي بالسعادة لولا أنني لم أحط سعادتي بحادثات الشتاء ومصائبه، ولم أتدثر بالفراء وعباءة الشتاء؟
إنني إن أشفقت لإشفاق هؤلاء المتألمين في كيدهم، وإن ارتجفت من البرد أمامهم، ورضيت بأن تدور رحمتهم بي فما ذلك إلا لحكمة مرحة في نفسي، لا تخفي ما يدور بها من عاصفات الشتاء ولا تستر ما ألم بها من قروح الصقيع.
إن بعض الناس يطلب العزلة بالهرب من المريض، والبعض الآخر يطلبها بالوقوف أمامه.
لأدعهم يصغون إلى أنيني وشكايتي لصقيع الشتاء، إنني بمثل هذا الأنين أفزع من غرفهم الدافئة، فليشفقوا علي وليقولوا إنني سأقضي بالصقيع في برد معرفتي. أما أنا فأركض برجلي الدافئتين على جبل الزيتون، وأطلق صوتي بالإنشاد في مطارح شعاع الشمس هازئا بكل إشفاق.
1
هكذا تكلم زارا ...
على الطريق
وكان زارا وهو يقصد كهفه وجباله يمر بشعوب عديدة ومدن كثيرة متمهلا في رحلاته حتى وصل فجأة إلى مدينة عظيمة، وإذ دخلها انتصب بوجهه مجنون فاتحا ذراعيه؛ ليصده عن التقدم والزبد يرغي على شدقيه، وما كان هذا المعترض إلا من لقبه أهل المدينة بسعدان زارا؛ لأنه كان يقلد حركاته ولهجته ويستعير شيئا من كنوز حكمته.
وخاطب المجنون زارا قائلا: إن هنا المدينة العظمى، وما لك أن تظفر منها بشيء، بل عليك أن تفقد فيها كثيرا.
ما الذي يضطرك في الانغماس في هذه الأوحال، فأشفق على قدميك، وقف عند بابها تافلا عليه وعد أدراجك.
هنا جحيم كل فكرة فريدة، هنا تصهر الأفكار السامية حتى تصبح مزيجا مائعا.
هنا تتهرأ كل عاطفة شريفة، ولا يسمح إلا للعواطف الجافة بأن تعلن عن نفسها بخشيش اصطدامها.
أفما بلغت أنفك رائحة المجازر حيث تنحر الأفكار ومطاعم السوقة حيث تباع بأبخس الأثمان، أفما ترى أبخرة العقول المضحاة تتصاعد منتشرة كالدخان فوق هذه المدينة.
أفما تلوح لك الأرواح معلقة معروضة كأنها خرق قذرة بالية، فإذا هي تنقلب صحفا تنشر بين الناس.
أفلا تسمع البيان الطلي يستحيل هنا إلى تلاعب ألفاظ وسخائف تغص بها جداول الصحف، فإذا هي مصارف أقذار.
إن بعضهم يتحدى البعض الآخر، ولا يعلمون على ما يختلفون، يأخذ بهم الغيظ كل مأخذ وقد غاب عنهم سببه، فلا يسمعونك إلا طقطقة فلوسهم ورنين دنانيرهم.
لقد استولى عليهم البرد فلا يدفئون إلا بكرع الخمور، وإذا ما دبت الحرارة فيهم لجئوا إلى مهب الأفكار الباردة، فهم أبدا مسوقون بالرأي العام مأخوذون بدرجة غليانه.
هنا مقام جميع الرزائل والشهوات، وهنا أيضا فضائل عديدة لها مهارتها ولها مشاغلها، ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة وأرداف من رصاص للمتحلين بها وسادات من الجلد علقت عليها الأنواط، ولهم أيضا بنات هزلت أردافهن فاصطنعن لهن من القش أردافا.
وإنك لتجد هنا كثيرا من الإشفاق والاحتشام وكثيرا من الاتضاع أمام رب الجيوش؛ لأن من مقامه الأعلى تتهاوى الكواكب ومعها النفثات، وكل صدر عاطل عن الكواكب يرسل نحو هذا المقام زفرات شوقه.
إن للقمر جوه وفي هذا الجو تدور أتباعه، والشعب المتسول لا يفتر مع الفضائل المتسولة يرفع الصلاة إلى كل ما يلتمع في مدار القمر، وما الصلاة إلا كلمات: خدم، خدما، خدموا، نحن نخدم. يترنم بها أهل الفضائل، وهم يتجهون إلى الحاكم الأعلى متوقعين سقوط الأنواط المتوهجة على صدورهم الضيقة، غير أن القمر نفسه يدور حول الأرض وما عليها من نتاج التراب، والحاكم أيضا يدور حول كل ما هو أرضي، وما من شيء أعرق في الأرض من ذهب بائعي السلع، إن رب الجيوش ليس ربا للسبائك فإذا ما الحاكم دبر، جاء بائع السلع فقرر.
أي زارا، أستحلفك بكل ما فيك من نور وقوة وصلاح أن تتفل على هذه المدينة، مدينة بائعي السلع وتكر راجعا إلى الوراء. إن الذي يجري في عروق سكانها إنما هو دم مفسود، فاتفل على المدينة الكبرى؛ لأنها المزبلة التي تتراكم فيها الأقذار.
اتفل على مدينة النفوس الضعيفة والصدور الضيقة، مدينة العيون الحاسدة والأنامل اللزجة، مدينة الوقحين والفجار والمعربدين والطامعين اليائسين، المدينة التي يتكدس فيها من تأكلهم سوس الفساد من أهل الشهوات المضروبين بالقروح المتآمرين.
ابصق على هذه المدينة وعد أدراجك.
ومد زارا يده مطبقا فم المجنون المزبد في حدته قائلا له: أما آن لك أن تصمت؟ لقد تحملت طويلا حركاتك وأقوالك، ما الذي دعا بك إلى الإقامة على ضفاف هذا المستنقع حتى أصبحت أنت أيضا ضفدعا وعقربا؟
أفما تسيل في عروقك أنت أيضا دماء المستنقعات الفاسد؟ فها أنت تحسن النقيق وتجيد اللعن.
لماذا لم تطفر إلى الغاب، لماذا لم تذهب لحرث الأرض؟ أفليس في كل جهة من البحر جزيرة خضراء؟
إنني أحتقر احتقارك، وقد كان عليك أن تبذل نصحك لنفسك قبل أن تجود به علي، فإن احتقاري وهو الطائر النذير لن يتعالى من أقذار المستنقعات، بل يهب من مواطن الحب والأشواق.
لقد لقبوك بسعدان زارا، أيها المجنون المزبد، أما أنا فأدعوك خنزيري، ألا فانقطع عن هذا الخوار وإلا دفعت بي إلى استنكار ما مدحت به سكرات الجنون.
ما الذي يهيب بك إلى رفع هذه الأصوات المنكرة؟ إن الناس لم يوجهوا إليك ما كنت تتوقع من ثناء؛ لذلك جلست إلى أكوام الأقذار مزمجرا صاخبا، مفتشا فيها على ما تسلح به انتقامك، أتظن أن أمرك قد خفي علي؟ وهل هذا الإزباد إلا من إرغاء الضغينة في قلبك؟
اصمت فإن كلماتك تلحق الضرر بي حتى ولو كمنت الحقيقة فيها، ولو انطوت ألف حقيقة في ما أقول؛ لأنك تسيء إلي بأقوالي نفسها.
هكذا تكلم زارا، وهو يتلفت إلى المدينة متنهدا، ثم صرخ بعد صمت طويل: لقد كرهت هذه المدينة العظمى أنا أيضا، وليس هذا المجنون من يثير كراهتي فحسب! فهي مثله وهو مثلها وليس فيهما ما يقبل إصلاحا أو زيادة فساد.
ويل لهذه المدينة العظمى، وليت تجتاحها أعاصير النار فتذريها رمادا؛ إذ لا بد من انطلاق مثل هذه الأعاصير منذرة بالظهيرة العظمى، ولكن انطلاقها مرهون بزمانها ومقدراتها.
أما أنت أيها المجنون، فإنني أستودعك بهذا التعليم: إذا امتنع على الإنسان أن يبذل حبه فعليه أن يذهب في سبيله!
هكذا تكلم زارا، وسار في سبيله متجاوزا المجنون والمدينة العظمى.
الآبقون
1
وا أسفاه! كل ما كان مخضلا وزاهيا بعديد ألوانه على هذه المروج أصبح الآن باهتا وقد عراه الذبول، ولكم جنيت هنا فيما مضى من عسل الآمال فحملته إلى قفيري.
لقد سطا الهرم على جميع القلوب الفتية، وما آن للهرم أن يتحكم بهؤلاء الفتيان، فما هم إلا متعبون يستسلمون للكسل وهم يبررون حالهم بقولهم: لقد عدنا إلى ممارسة التقوى.
ولكم نظرت إليهم عندما كانوا يندفعون إلى السير بأقدامهم الجريئة، أما الآن فقد تراخت معرفتهم مع أقدامهم فأمسوا وهم يهزءون بما كانوا عليه من الشجاعة في صبيحتهم.
لقد كان أكثرهم يختالون كالراقصين معلنين بضحكهم أنهم من أتباع حكمتي، فإذا هم يستغرقون فجأة بالتفكير، وها هم الآن أمامي وقد انحنت ظهورهم يزحفون على ركابهم نحو الصليب.
لقد كانوا فيما مضى يحومون حول النور والحرية كما تحوم الفراشات والشعراء، ولكنهم ما شعروا بشيء يسير من وقر الأيام ومن صقيعها حتى هرعوا إلى الموقد يصطلون كأصحاب القلانس وأدعياء الحكمة.
أفقد هؤلاء الشجعان إقدامهم لأنني تواريت عنهم في عزلتي فباتوا يتنصتون عبثا لدوي أبواقي وصيحات إنذاري؟
وا أسفاه! ما أقل القلوب التي تصمد بوجه الزمان! وليس في سواها ما يعزز الروح في حين يسطو الخور على سائر القلوب، وما أكثر الجبناء! فهم السوقة الدخلاء على الحياة.
لا بد لمن كان على مثالي أن يصادف في طريقه ما صادفت، ولا مناص له من أن يكون رفاقه الأولون أشلاء أموات ومتمرني ألعاب.
وإذا ما مر بهؤلاء أتته الفئة الثانية من رهط المؤمنين يسودهم كثير من الحب وكثير من الجنون وإجلال الطفولة وخشوعها. فليحترس من كان على مثالي أن يولي هذه الفئة عواطفه؛ لأن العارف بضعف الإنسانية وتقلبها لا يثق بدوام زهو المروج أيام الربيع.
ولو كان هؤلاء المؤمنون على غير ما هم عليه من غريزة لتبدلت إرادتهم، وليس للنقص أن يجاري الكمال، فعلام نشكو إذا صارت ناضرات الأوراق إلى الذبول؟
دع الأوراق تنتثر، دعها تذهب مع الريح، أي زارا، وكف عن الشكوى، فخير لك أن تساعد بزفيرك الرياح الهابة على أغصانها.
انفخ على هذه الأوراق، يا زارا، ليتبدد من حولك كل شيء عراه الذبول .
2
يقول الآبقون إنهم إلى التقى راجعون، وأكثرهم جبان لا يجسر حتى على التعلل بتقواه في خروجه، ولكنني أنظر إلى هؤلاء الخائفين، وأعلن لهم بوجههم أنهم قد عادوا إلى الركوع والصلاة، فأقول لكل منهم: إذا لم تكن إقامة الصلاة عارا على الناس فهي عار على أمثالك وأمثالي ممن تنبه شعورهم في تفكيرهم، إن صلاتك تعد منكرا عليك؛ لأنك تعلم أن الشيطان الكامن فيك الذي يحلو له كتف ذراعيه تائقا إلى حياة الرخاء يوسوس في روعك قائلا لك: إن الله موجود. فأنت آبق يهرب من النور؛ لأن النور يشغل تفكيره فاذهب الآن في ضلالك سادرا، وتوغل كل يوم في لبدات الظلام.
والحق أنك أحسنت اختيار الحين للانطلاق، وقد بسطت طيور الليل أجنحتها فهذه ساعة أبناء الظلام المضربين عن الأعمال. لقد حانت ساعة الاصطياد وما هذا الصيد الذي تقدم عليه مهاجمة وعراكا بل هو انزواء في كمين وتراخ وصمت لا يسمع فيه غير همسات الصلاة. ذلك هو صيد أدعياء الحكمة ينصبون فيه شراكا للقلوب فكلما هتكت سترا رأيت وطواطا صغيرا ينطلق من ورائه، ولعله كان مختفيا مع وطواط صغير آخر؛ لأنني في كل جهة أرى جماعات تستتر وما ينبعث عنها من رائحة التقى يستجلب إليها رهطا جديدا من المتقين، فهم يجتمعون لإحياء الليالي قائلين فلنعد إلى حالة الطفولة ولنناج الإله الصالح، يقولون هذا بعد أن تكون معدهم امتلأت بالحلوى من صنع أهل التقى، وهم يجتمعون أحيانا في أوقات السمر؛ ليشهدوا حركات عنكب محتال يقف وراء الكمين ملقيا على رفاقه العناكب مواعظ الحكمة قائلا لهم: إن خير ما يرتاح العناكب إليه إنما هو حبك نسيجها في ظلال الصليب.
أتراهم يقضون أياما طويلة يلقون الشباك في المستنقعات معتقدين أنهم يسبرون الأغوار، ولا يعلمون أن من يمضي الوقت بالصيد حيث لا أسماك لا يصح أن يدعو عمله حتى محاولة سطحية؟
وتراهم أحيانا يمزجون تقواهم بالسرور فيتلقون دروسا للعزف على القيثارة عند موسيقي يتلمس الطرق الموصلة إلى قلوب الصبايا وقد أتعبه ثناء العجائر.
أو يذهبون إلى حكيم لم يستكمل جنونه؛ ليتمرنوا على الرهبة والخوف فيقف معهم في غرفة مظلمة منتظرين ظهور الأرواح وقد طارت أرواحهم شعاعا.
أو هم يتنصتون إلى دجال هرم يتجول منشدا بنبرات لقنها الريح الأنين، فهو يقلد الريح داعيا إلى الحزن بصوته الحزين.
ولقد اتخذ بعضهم مهنة الحراسة في الليل، فتعلموا النفخ في الأبواق ليذهبوا في الظلمة ويبعثوا كل قديم طواه الزمان.
مررت أمس قرب جدران الحديقة وقد أخلقها الدهر فسمعت من حارسين خمس كلمات تدور على القديم البالي.
قال أحدهما: إن هذا الإله يعتني برعاية أبنائه، فالآباء من البشر أشد عناية منه بأبنائهم.
فأجاب الآخر: لقد أدركه الهرم فهو لا يهتم لهم. - وهل لهذا الآب من أولاد؟ - من سيثبت هذا إذا هو لم يثبته بنفسه، ولطالما تقت أن أراه آتيا ببرهانه عن جد. - أهو يأتي بالبرهان؟ وفي أي زمان أقام شيئا من الأدلة؟ إنه ليستصعب الإثبات ولكنه يتمسك بأن يؤمن الناس به. - أجل! إن الإيمان ينقذ هذا الأب، وإذا قلت الإيمان فإنما أعني إيمانه هو بنفسه، وتلك شيمة من بلغوا من العمر عتيا، أفما نحن شيوخ وكلنا أشباه؟
بهذا كان يتحدث حارسا الليل، وحراس الليل أعداء للنور، ونفخ كل منهما في بوقه بالنغم الحزين.
هذا ما شهدت أمس في الليل، وأنا سائر قرب الجدار القديم، فكنت أحس بقلبي يتفجر ضحكا ويهز أحشائي هزا، والحق أنني سأموت مختنقا بضحكي من النظر إلى الحمير الثاملين ومن سماعي أمثال حراس الليل يرتابون بالله.
أفما انقضى منذ زمان طويل عهد الوقوف عند مثل هذه الشكوك؟ ومن يحق له يا ترى أن يتقدم إلى هذه الأشياء المظلمة الثاوية ليبعثها من لحودها؟
لقد انقضى عهد قدماء الآلهة، فطوتهم الأحقاب وقد كان لهم الفناء بالمرح الإلهي الذي يليق بهم؛ لأنهم لم يمروا بالغسق ليتراموا إلى ظلمة الموت، وقد كذب من يدعي عكس ما أقول، فقدماء الآلهة انتحروا انتحارا وهم بضحكهم يختنقون، انتحروا عندما تلفظ أحدهم بآية الجحود الكبرى قائلا: أنا هو الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى أمامي . فكأن هذا الإله قد أخذ بغضبه وغيرته في شيخوخته فذهل هذا الذهول حتى أضحك جميع الآلهة، فتمايلوا على عروشهم هاتفين: أفليس في هذا النهي اعتراف بأن هنالك ألوهية لعدة أرباب، وليس هنالك رب واحد.
من له آذان صاغية فليسمع.
1
هكذا تكلم زارا في مدينة «البقرة العديدة الألوان» التي يحبها، وكان لم يبق أمامه سوى مسافة يومين سيرا ليصل إلى مغارته ويلتقي نسره وأفعوانه، فامتلأت روحه مسرة وحبورا.
العودة
أنت وطني، أيتها العزلة، لقد طال اغترابي في بلاد المتوحشين فها أنذا أعود إليك أيها الوطن وعيناي تذرفان الدموع.
ارفعي شاهدك وهدديني، أيتها العزلة، تهديد الأم وانظري إلي مبتسمة بابتسامتها، وسليني عن حال من هرب منك إلى بعيد كأنه العاصفة الجامحة، من أفلت منك وهو يصيح: لقد طال انفرادي فنسيت الصمت، سليني هل تعلمت الصمت الآن وقولي لي: أي زارا، لم تخف عني منك خافية فقد كنت تشعر أنك وحيد بين الجميع؛ فيسودك من الوحشة ما لم تعرفه وأنت في أحضاني.
إن الفرق بين الوحدة والوحشة لبعيد، هذه هي الحكمة التي تعلمتها الآن، فأدركت أنك ستبقى أبدا الغريب المستوحش بين الناس، حتى ولو بذلوا حبهم لك؛ لأنهم يطمعون منك بمداراتهم قبل كل شيء.
إنك هنا تأوي إلى مسكنك فيمكنك أن تقول ما تريد، ففي العزلة لا يخجل الإنسان من خطرات سريرته المتصلبة.
كل شيء هنا ينقاد إلى بيانك متحببا طائعا؛ لأن الأشياء كلها تقصدك لتعتليك وتعلو أنت رموزها كمطايا تذهب بك مطلوقة العنان نحو الحقائق جميعها.
ههنا، لك أن توجه خطابك إلى كل الأشياء؛ لأن كل كلمة إخلاص تقال لها تتلقاها حمدا لها وثناء عليها.
إن العزلة شيء والوحشة شيء آخر، وهلا ذكرت يا زارا صرخة طيرك فوق رأسك عندما كنت مضعضعا أمام جثة ميت في الغاب ولا تدري إلى أين المصير، فتتمنى أن يأتي نسرك وأفعوانك لهدايتك بعد أن لاقيت بين الناس أخطارا لم تشهد بين الحيوان مثلها، تلك كانت الوحشة بعينها!
أفما تذكر يا زارا زمنا توسطت فيه جزيرتك كأنك ينبوع خمر يتدفق بين الدنان الفارغة، فيملؤها موزعا خمره على العطاش بلا حساب، حتى أمسيت وحدك الظامئ بين المرتوين، فرفعت صوتك بالشكوى تحت جنح الليل متسائلا عما إذا لم يكن في الأخذ سعادة أوفر من سعادة العطاء، وإذا لم يكن من السعادة في السرقة ما ليس في الأخذ، تلك كانت الوحشة بعينها.
أفما تذكر الزمن الذي طردتك فيه من نفسك أعمق الساعات صمتا، وهي تقول لك همسها: تكلم واهدم، فدفعت بك إلى كره صبرك وسكوتك فقضت على ما فيك من شجاعة متواضعة. تلك كانت الوحشة بعينها.
أيتها العزلة لكم في صوتك من نبرات السعادة في عطفه وحنانه ليس بيني وبينك من شكوى ولا عتاب، فكلانا نمر صريحين من الأبواب المشرعة؛ لأن كل شيء لديك مضيء والساعات تمر فيك عجلى خفيفة، وما تتثاقل الساعات في النور تثاقلها في الظلام.
إنني أشعر ههنا بأن لكل شيء روحه ومعناه، فكل كائن يريد أن يعبر عن سريرته وكل ما سيكون يطمح إلى تعلم البيان مني، أما هنالك فكل قول عبث وهراء وخير حكمة للناس هي النسيان والفناء، وهذا ما تعلمته منهم، وإذا ما أراد أحدهم أن يفهم كل شيء وجب عليه أن يستولي على كل شيء، وما تمتد إلى الأخذ يداي الطاهرتان. لقد تولاني الاشمئزاز من رائحة أنفاسهم، فوا أسفاه على زمن طويل قضيته حيث يضجون ويتنفسون.
يا للعزلة السعيدة أتمتع بها، ويا للعرف الزكي يتضوع حولي. إنني أنشق بملء رئتي هذا الهواء النقي في هذا السكون المتنصت، أما هنالك فكل شيء يتكلم ولا سميع فإذا ما أذاع أحد فضائله بقرع الأجراس خنق الدوي في الساحات رنين الفلوس الكبيرة تقلبها أيدي البائعين. هنالك يتكلم الكل وليس من أحد يفهم ما يقال، فكل شيء يقع في المياه الجارية ولا ينسرب شيء إلى أعماق منابعها. هنالك كل شيء يتكلم ولا شيء يبلغ نجاحا أو تكاملا. كل يصيح وليس من يرضى باحتضان البيوض في الأعشاش، كل يتكلم وكل كلام متراخ مديد وما كان يقسو من البيان على أفواه أبناء الأمس أصبح لينا تلوكه الأشداق في هذا الزمان.
هنالك كل يتكلم ولم يبق من مستور لم يهتك؛ فما كان يعد بالأمس سرا كمينا في أعماق النفوس تتناوله اليوم مقارع الطبول وحناجر الصائحين، فيا للطبيعة البشرية، ما أنت إلا ضجة في المسالك المظلمة، لقد تجاوزتك فتركتك ورائي خطرا أنقذت منه، وقد كانت المداراة والرحمة أشد ما تعرضت له من أخطار، وكل كائن في البشر يطلب أن يتعامل بالمداراة والرحمة، وما عشت بين الناس إلا وأنا أحفظ حقائقي في قلبي ويداي وأحشائي ترتعش ارتعاش الجنون لأكاذيب الرحمة والإشفاق.
هكذا عشت بين الناس، جلست بينهم متنكرا أكاد أجحد ذاتي؛ لأحتملهم مقنعا نفسي بقولي إنني مجنون لا أدرك حقيقتهم.
إذا أنت عاشرت الناس فإنك لتنسى ما تعرفه عنهم؛ لأن ما ينطح بصرك من المشاهد الخارجية يصده عن سبر أبعادهم وأعماقهم.
لقد جهلوا حقيقتي فدفعني جنوني إلى مداراتهم بأكثر من مداراة نفسي؛ لأنني تعودت أن أقسو عليها فأصبحت هذه المراعاة انتقاما منها لها.
جلست بين الناس تلذعني حشراتهم السامة، وتنال مني شرورهم نوال قطرات الماء المتوالية الانسكاب على الحجر، فكنت أقول لنفسي: «إن الحقارة تحمل براءتها في ذاتها.»
وما رأيت بين الناس حشرات أشد فتكا بسمومها من الصالحين؛ لأنهم يغرزون حماتهم بكل صلاح، ويكذبون بكل صلاح فكيف أتوقع منهم عدلا وإنصافا.
إن الرحمة تعلم الكذب لمن يعيش بين أهل الصلاح، وهي تضغط بجوها الثقيل على الأرواح الحرة؛ إذ يمنع عنها أن تتفهم جهل الصالحين.
إن ما تعلمته هنالك هو أن أستر نفسي وأخفي ثروتي؛ لأنني رأيت كل غني بين الناس فقيرا بعقله، وقد أضلني إشفاقي فقادني إلى النظر في الخفايا وتقدير ما زاد وما نقص في عقل هذا وعقل ذاك، دعوت الحكماء المتعصبين حكماء ولم أزد، فتعلمت أن أقتضب كما تعلمت استبدال الكلمات فدعوت حفاري القبور منقبين وعلماء.
ولطالما مني الحفارون بالأمراض، ففي المثاوي ما ينبعث كريها قاتلا، وخير ألا نثير من المستنقعات كوامنها، وما الحياة الحياة إلا على القمم، وها أنذا أنشق الهواء الطلق على أعالي الجبل حيث لا أشتم روائح المجتمع الإنساني.
إن الهواء الحي يدغدغ معاطسي فتتسع لاستنشاق القوة والحياة.
الثلاثة الشرور
1
ورأيت في آخر أحلامي هذا الصباح أنني واقف على جرف ينهار إلى ما وراء هذا العالم، وقد نصبت بيدي ميزانا طرحت الدنيا بإحدى كفتيه.
أواه! ليت الفجر لم يباغتني بعنفه، فإنه لغيور علي من أحلام صباحي وعنف أشباحها.
لقد أراني حلمي أن لمن ملك الزمان أن يقيس الدنيا، ولمن أحسن الوزن أن يزنها، ولمن له جناحان جباران أن يجتاز مداها، وكل بصيرة حديدة تقتحم المعضلات بوسعها أن تدرك ما تضمر هذه الدنيا.
بأي صبر تذرع حلمي اليوم ليزن الدنيا، وهو المركب نصفه شراع ونصفه عاصفة، وهو السابح صامتا بجناح الفراش والمنقض متسارعا بمخالب الصقور؟
هل أسرت حكمة نهاري نجواها إلى هذا الحلم، وهي الحكمة الهازئة بكل «العوالم التي لا حد لها.» وأنا القائل: حيث توجد القوة فهنالك يتسلط الكم فالعدد هو الأقوى.
لقد أحاط حلمي بكل وثوق بهذا العالم المتناهي فما ذهب مع سائق الفضول ولا التجسس، وما ارتعد ولا توسل.
رأيت الدنيا على متناول يدي كتفاحة ناضجة ذهبية ناضرة المنظر ناعمة الملمس.
رأيت الدنيا على الجرف العالي المشرف على البحر كأنها شجرة تومئ إلي وقد انبسطت أفنانها والتوى جزعها كمتكأ للمسافر وقد أنهكه التعب.
رأيت العالم يتقدم لملاقاتي كأنه يدان تحملان طبقا نثر عليه كل ما تشتهي الأعين المتعففة الخاشعة.
إن العالم الذي طالما كان بغيضا مذموما تجلى لي اليوم طيبا في إنسانيته، فهو لا يصد الناس بانكماشه على أسراره، ولا يخدر حكمتهم بالإغراق في إبهامه.
أنا مدين بالشكر لحلم صباحي؛ لأنه وزن العالم في الساعة الأولى فبدأ لي العالم طيبا في إنسانيته وهكذا جاء الحلم معزيا لقلبي، وها أنذا أقتدي به وقد طلع النهار فأضع في الميزان الثلاثة الشرور العظمى.
إن الذي علم الناس أن يباركوا علمهم أيضا أن يلعنوا، فما هي الأشياء الثلاثة المستحقة اللعنة في الأرض. إنها الثلاثة التي أريد وزنها: الشهوة والتحكم والأنانية ، وهي التي استحقت أشد لعنات الناس حتى اليوم.
هذا هو الجرف الذي وقفت عليه في حلمي، وهو يشرف على البحر المتدحرج بقطعانه البيضاء نحوي، وما البحر إلا ذلك الكلب الهرم الأمين وذلك المسخ الرائع يشمخ بمئات الرءوس.
هنا أريد أن أنصب ميزاني فوق البحر الهائج، وأختار شاهدا علي هذه الشجرة المنفردة الوارفة الظلال المالئة الفضاء بعبيرها الشديد.
على أي جسر يتجه الحاضر إلى المستقبل، وما هي القوة التي تكره المرتفع إلى الانخفاض إلى الأدنى، وتدفع بالأرفع إلى مرتبة أعلى.
تساوت كفتا ميزاني فقد طرحت في إحداهما ثلاث مسائل ثقيلة فإذا في الكفة الأخرى ثلاث أجوبة تضاهيها ثقلا.
2
الشهوة هي للمتقشفين المتقمصين الصوف الخشن والمحقرين للجسد؛ الحافز والمعذب في وقت واحد، وهي للمستغرقين في بحران العالم الثاني لعنة هذا العالم الأول؛ لأنها تهاجم أهل الضلال فتقصيهم وتطردهم طردا.
الشهوة للئيم نار يتحرق فيها اللؤماء، نار بطيئة الإحراق يتصاعد منها أشد الروائح كراهة.
الشهوة للقلوب الحرة عاطفة بريئة حرة، فهي سعادة الجنة الأرضية، وعرفان المستقبل جميل الحاضر.
الشهوة سم حلو المذاق لكل من عراه الذبول، غير أنها شراب القوة وخمرة الخمر للآساد يكرعونها بثمل الخاشعين.
الشهوة أعظم لذة ترمز إلى السعادة والأمل الأسمى؛ لأن في الحياة أشياء كثيرة حق لها أن تتمتع بالاقتران بل بأكثر منه، فهنالك أشياء بعدت شقة الانفصال بينها بأكثر من انفراجها بين الرجل والمرأة، ومن ترى تمكن يوما من أن يدرك حقيقة تباعد أحدهما عن الآخر ومدى الشقة بينهما؟
إن الشهوة ... سأضع حصونا بين أفكاري، وأمتنع عن الكلام كيلا يجتاح جنتي الخنازير والمتهوسون.
أما الطموح إلى التحكم فسوط يلهب أشد القلوب قسوة، وعذاب استشهاد يعد للطغاة لهبا قاتما من محارق الأحياء.
إن الطموح إلى التحكم لجام قاس تراض به أشد الشعوب غرورا، فهو المداعب للفضائل الحائرة الممتطية صهوات الخيلاء.
إن الطموح إلى التحكم زلزال هدام لكل متداع قديم، فهو الثائر المحطم للقبور المكلسة يزمجر وينزل العقاب، وهو نبرة الاستفهام تتعالى تجاه كل جواب مبتسر.
إن للطموح إلى التحكم نظرات تحني هام الرجال فتجعلهم يزحفون زحفا، وتستعبدهم وتهوي بهم إلى دركة أحط من دركة الخنزير والأفعى إلى أن يأتيهم الاحتقار بالسكون.
ما الطموح إلى الحكم إلا المعلم المخوف يلقن الازدراء الأعظم صارخا بوجه المدن والممالك: أفسحي لي المجال ولا يزال يهتف حتى تنادي قائلة: إنني أفسح لك مجالا.
إن الطموح إلى الحكم يتعالى أيضا نحو الأتقياء والمنعزلين ليستهويهم فيذهب إلى ذرى الاعتزاز بالنفس كأنه غرام مشتعل يرسم في الخيال المسرات الحمراء الساحرة.
ومن له أن يدعو هذه الشهوة للتحكم طموحا، وما هي إلا اندفاع من الأعالي إلى الأعماق طلبا للقوة، وما أرى في مثل هذا الانحدار شيئا من حرارة الحمى ولا من أعراض الأدواء.
ليس للذري المنفردة أن تبقى أبدا منقطعة إلى نفسها، فلتنحدر الأنجاد إلى الأغوار ولتهب الرياح العالية في مناسف الأعماق.
إن مثل هذا الطموح لأسمى من أن يصفه بيان فهو «الفضيلة الواهبة» كما دعاه زارا من قديم الزمان، فكان بوصفه هذا يوجه الثناء لأول مرة إلى الأنانية، وما الأنانية إلا توكيد للذات يتفجر من الروح المقتدرة، من روح جبارة اتحدت بجسم متكامل في جماله وانتصاره، فأصبح كل ما حولها يستمد القوة منها ويعكس كالمرآة خيالها.
وما الجسم المرن الذي ينطوي على قوة الإقناع إلا كالراقص الذي يرمز بحركاته عن مسرة نفسه، وهل المرح الأناني في مثل هذه الأرواح والجسوم إلا الفضيلة بعينها.
ومهما يقل هذا المرح الأناني عن الخير والشر فإنه يحوط نفسه بما يقول بغابة مقدسة لوقايتها، فهو يتمتم بأسماء السعادة كتعويذة ترد عنه كل ما يستحق الاحتقار.
إنه ليقصي كل ما هو دنيء؛ إذ يعتبره شرا وما الدنيء المحتقر لديه إلا المتألم لا ينقطع عن الشكوى والأنين، ولا يتأخر عن التقاط أية فائدة مهما صغرت.
وهذا المرح يكره كل حكمة معولة؛ لأن من الحكمة ما لا تنور إلا في الظلام فتلوح كأشباح الليل هاتفة: كل شيء باطل.
وهو لا يحترم أبناء الريبة القلقة يطلبون من الناس الأيمانات المغلظة بدلا من النظرة الصريحة واليد الممتدة بإخلاص ، كما أنه لا يحترم الحكمة المدعية الحزم بسوء الظن؛ لأن بمثل هذا تنم النفوس عن خورها وجبنها.
وليست المجاملة بأقل دناءة في عينه، فهي كالكلب ينطرح متصاغرا على ظهره، ولكم من حكمة كهذا الكلب زحافة خاشعة متلاطفة.
ولكن ما يكرهه المرح الأناني فوق كل كره الرجل المستنيم للضيم، الممتنع عن الدفاع، المزدرد ما يتفل الناس على فمه من سموم وما يلقى عليه من النظر الشذر، الرجل الموغل في صبره المتحمل لكل شيء والقانع بكل شيء، تلك شيمة المستعبد المأجور.
إن هذه الأنانية السعيدة تتسفل في وجه كل عبودية، فتزدري بكل متصاغر أمام الأرباب يركلونه بأرجلهم وأمام الناس ووراء الناس.
إن هذه الأنانية تعد شرا كل متدن منكسر يستسلم للعبودية بعين منخفضة وقلب منسحق، وكل مصانع ينحني مقبلا الراحات بشفاه متراخية مرتجفة.
إنها لتدعو حكمة مضللة كل كلمة ناعمة يتلفظ بها المستبعدون ومن دب إليهم الهرم ومن أرهقتهم العلل، وتدعو بهذا الوصف أيضا ما يتفوه به الكهان في جنونهم وادعائهم.
إنما الحكماء الكذبة جميع الكهنة وجميع من سئموا الحياة، وكل من تجول فيهم أرواح النساء والمستخدمين، إن مثل هؤلاء الناس يدسون للأنانية ويتآمرون عليها، مدعين أن محاربتها هي الفضيلة بعينها، ولهذا طمح جميع الجبناء والعناكب المتعبة من الحياة إلى الادعاء بالتنزه عن كل مأرب في أعمالهم.
سيتدفق النور مكتسحا لهؤلاء الناس جميعا، وعندئذ يلمع سيف الظهيرة الكبرى، سيف الدينونة الفضاح.
أما من يمجد الذاتية وينادي بالأنانية فذلك وحده يقول بما يعلم عندما يهتف: لقد لاحت تباشير الظهيرة العظمى، ولن يطول الزمن حتى تتوهج أنوارها في الآفاق.
هكذا تكلم زارا ...
الروح الثقيل
1
ليس فمي إلا فم الشعب، فكلماتي قاسية تخدش أسماع المتأنقين، وهي أشد وطأة على أسماع زعانف الكتاب المسلحين بالأقلام.
ما يدي إلا يد مجنون، فويل منها لألواح الشرائع ومنيعات الحصون، وويل لكل ما يتسع لزخارف الجنون وغرائب سطوره.
وما قدمي إلا حافرا جواد يتراكضان على الأنجاد وفي الأغوار، فأحس بروح أبليس ينفخها المرح في وأنا أنهب أشواطي.
أما معدتي فلعلها حوصلة عقاب؛ لأن أفضل ما تشتهيه لحوم النعاج، وإن لم تكن حوصلة عقاب فهي على كل حوصلة مجنح من أبناء الفضاء؛ لأنني أتغذى من كل طاهر لذيذ فأتوق أبدا إلى الاختطاف والانخطاف، وكيف لا يكون في شيء من الطير وأنا أهفو إلى هذه الحياة.
كفاني أن أعادي كل روح ثقيل لأكون شبيها بالطيور، فأنا العدو الألد لروح الكثافة، بل العدو المقسم ألا يحول عن كرهه وقد تكون معه في رحم أمه، فتلك العداوة لن تطير ولن تتبدد.
لسوف أطلق صوتي بالإنشاد مترنما بهذه المعاني بالرغم من انفرادي في مسكني المقفر حيث لا يسمع أغاني غير أذناي.
لكم في الأرض من منشد لا ينطلق الصوت الشجي من حنجرته، ولا تطابق التوقيع حركة يده ولا تشع عيناه ولا ينتبه قلبه إلا إذا غص البيت بالسامعين، وما أنا من أمثال هذا المنشد.
2
إن من سيعلم الطيران للناس في آتي الزمان سيدفع كل ما ضرب حولهم من حدود، بل سيذري معالمها هباء ويبدل اسم الأرض باسم يدل على زوال كثافتها وثقلها.
إن النعامة تعدو بأسرع ما تعدو الخيول الضوامر غير أنها لا تزال كالإنسان تغرس رأسها الثقيل في التراب الثقيل، وما الإنسان بأفضل منها ما زال يجهل كيف يطير، وما زال يشعر أن الحياة ثقيلة كالأرض.
من يريد أن يشعر من نفسه بخفة الطير فعليه أن يتوسل بالأنانية للانعتاق من كثافته، ليحب الإنسان نفسه. هذا ما أعلم به أنا.
وما أدعو الناس إلى إثارة حب الذات بعاطفة المرضى والمحمومين، فإن رائحة السقام تنبعث من أنانية المريض والمحموم.
تعلموا الأنانية الصحيحة السليمة؛ لتتمكنوا من احتمال ذاتكم فلا تضلكم أنانيتكم. هذا هو تعليمي.
وما ضلال الأنانية إلا بذهابها إلى «محبة الغير» فإن القائلين بالغيرية قد أتوا بأمهر تمويه، وما أرهق الغير أحد بمثل إرهاقهم.
ليس القول بوجوب التمرن على الأنانية وصية من الوصايا تنفذ بين عشية وضحاها، فالتدرب على محبة الذات أدق الفنون وأصعبها، وما يملك زمامه إلا المتحيل الجلود؛ لأن روح الكثافة يجعل المالك في غفلة عما يملك ويعمي صاحب الكنوز طويلا عن مثاويها، فإننا لا نكاد نطرح على السرير حتى نجهز بالكلمتين الثقيلتين: «الخير» و«الشر» ذلك هو ميراثنا، بل تلك هي الوصية التي لا تغتفر لنا الحياة إلا باتباعها، وإذا ما قال قائل: دعوا الأولاد يأتون إلي، فما يدعوهم إلا ليمنعهم في الزمن المناسب من أن يحبوا ذاتهم. تلك هي مآتي الروح الثقيل.
أما نحن، فنذهب ساحبين ما أثقلت به كواهلنا الصلبة إلى الجبال الجرداء، حتى إذا شكونا اللغب والسغب قيل لنا: أنتم محقون بشكواكم فالحياة أعباء وأثقال.
والحق ليس في الحياة من أعباء على الإنسان غير الإنسان نفسه؛ لأنه يوقر كاهله بما لا طائل تحته، فهو نفسه قد استناخ كالجمل مسلما ظهره، فأثقل بأشد الأحمال، وأكثر الناس استسلاما الرجل الصلب الجلود يرفع على كاهله جما من الكلمات والوصايا الثقيلة فتنبسط الدنيا أمامه صحراء قاحلة مترامية الأطراف.
وما يثقل كاهلكم كل دخيل عليكم فحسب، فهنالك ما يرهقكم وهو منكم وفيكم فداخل الإنسان شبيه بحشوة المحار فهو قذر متراخ لزج ينزلق تحت أناملك إذا حاولت إمساكه؛ لذلك تتكفل القشور والظواهر المزخرفة بستر ما وراءها، وما يسهل على المرء أن يستنبت لنفسه قشورا متعاميا بحكمة عن دخائله، إن هذا إلا فن لا بد من التدرب عليه، ولكم على الناس من قشور تنم على المسكنة وقد وضح عليها التمويه، ولكم من قوة ومن صفة طيبة تبقى غائرة فلا يلمحها أحد، وكم من طعام شهي لا يرغب أحد فيه، وما خفيت هذه الحقيقة عن النساء فهن يعلمن أن بين المترهلة والنحيلة مجالا لتمني المتعنتين، وقد يتوقف حظهن من الاستغواء على شيء من الترهل وشيء من النحول.
إن اكتشاف خفايا الإنسان لمن صعاب الأمور، وأصعب الأمور أن يكتشف الإنسان نفسه فكثيرا ما يضلل العقل الشعور، وما ذلك إلا من تأثير الروح الثقيل.
ليس من مكتشف لحقيقة ذاته إلا من يقول في نفسه: هذا هو خيري وهذا هو شري، وبهذا القول يخرس الخلد والقزم القائلين بأن الخير خير للكل والشر شر للجميع.
والحق أنني أكره أيضا من يرون كل شيء حسنا، ويرون هذا العالم خير العوالم، إن هؤلاء إلا القانعون يرتاحون لكل شيء ويتذوقون كل شيء، وما بهذا يستدل على الذوق السليم، أما أنا فأجل الفم الحساس المتصعب الذي يعرف أن يقول: «أنا» وأريد ولا أريد.
وما من يلتهم كل شيء ويهضم كل شيء إلا من قطيع الخنازير، فكل ناهق بالرضى سائر حمارا بين الحمير.
أحب من الألوان الأصفر القاتم والأحمر الفاقع؛ لأنهما يدخلان لون الدم على جميع الألوان، ومن موه جدران بيته باللون الأبيض يدل على أنه موه نفسه بهذا اللون أيضا.
إنني أحب الدماء وما يتفق ذوقي وأذواق من يعشقون الجثث المحنطة من جهة ومن يعشقون الأشباح من جهة أخرى؛ لأن الفئتين معاديتان لكل ما هو لحم ودم، وأنا لا أريد الوقوف حيث يصيبني رشاش من بصاق الثرثارين، وما يسيل النضار من أشداقهم كما يدعون، وخير لي من المثول أمامهم أن أعاشر اللصوص والخونة.
وإذا ما كرهت الثرثارين فإنني أشد كرها لمن يتلقون رشاش بصاقهم، وما رأيت في الناس من تشمئز لهم نفسي كمن لا أجد لهم شبيها غير الطفيليات، فمثل هؤلاء يطلبون الحياة من الحب وهم لا يشعرون به.
إن من أدعوهم أيضا أشقياء في الحياة هم الألى لا خيار لهم إلا بين حالتين، فإذا لم يكونوا حيوانات مفترسة كانوا مذللين لها، وما أنا بالضارب خيامي في جوار هؤلاء الناس.
وأنا أدعو أشقياء أيضا من يكرهون على الانتظار أبدا، فما أحبذ حياة الجباة والتجار والملوك وكل من يقف حارسا لحانوت أو لقطر من الأقطار.
وأنا أيضا تعلمت الصبر والانتظار إلى زمان طويل، ولكن ما أنتظره إنما هو «أنا» وما تمرنت عليه هو أن أقف وأمشي وأركض وأقفز وأتسلق وأرقص؛ لأن تعليمي هو هذا: من يريد أن يتعلم الطيران يوما فعليه أن يتدرب أولا على الوقوف فالركض فالقفز فالتسلق فالرقص، وليس لأحد أن يطفر إلى الطيران طفرا.
ما تعلمت التسلق إلى النوافذ إلا بنصب الحبال، وما ارتقيت مرتفعات الصواري إلا بعد أن تقوت عضلات ساقي، إن أعظم اللذات هي اعتلاء صارية المعرفة، والاتقاد بلهب يتلوه لهب فإن في هذا الإشعاع المتردد هداية السفن الجانحة وأمل المشرفين على الهلاك.
لقد بلغت الحقيقة حقيقتي بسلوكي طرقا عديدة واتخاذي وسائل جمة، فما ارتقيت المدارج من سلم واحدة لأبلغ القمة التي أتسنمها الآن وأرسل منها نظراتي إلى بعيد.
وإذا كنت سألت أحيانا عن الطريق فما سألت إلا مكرها؛ لأنني فضلت في كل زمان أن أستنطق السبيل عن وجهته فأختبره بنفسي.
وهكذا كان تقدمي سؤالا وتلمسا وما يتوصل الإنسان إلى استنطاق نفسه وسبله إن لم يتمرن على ذلك، ولكل ذوقه وهذا هو ذوقي لا أراه خير الأذواق، ولا أراه شرها على أنني لا أخجل به ولا أخفيه.
هذا السبيل الذي أنتهج، فأين سبيلكم أنتم؟
بهذا الاستفهام كنت أجاوب من يسألونني: أين الطريق لأن لكل طريقه وليس هنالك جادة للجميع؟
الوصايا القديمة والوصايا الجديدة
1
ها أنذا جالس أنتظر بين ركام الألواح القديمة المحطمة والألواح الجديدة، ولما تستكمل كتابة الوصايا عليها.
فأي متى تأتي ساعتي؟ ساعة انحداري وجنوحي، فإنني أريد أن أنحدر إلى الناس ثانية، وذلك هو سبب انتظاري؛ إذ لا بد أن تعلن لي علامة اقتراب الساعة فأرى الأسد الضاحك وسرب الحمام الزاحف.
وإلى ذلك الحين أتكلم كمن له سعة من وقته فأخاطب نفسي وأقص عليها ما أعلم؛ إذ لا يقص علي أحد شيئا جديدا.
2
عندما أتيت إلى العالم وجدته جالسا على افتراضات قديمة، واثقا أنه عرف كل شيء وميز بين خير الحياة وشرها.
ورأيت الناس يعتقدون أن كل بحث عن الفضيلة قد انقضى زمانه، وبالرغم من هذه العقيدة كان كل منهم يأتي على ذكر الخير وهو متجه إلى سريره طلبا للنوم الهنيء.
فوقفت أنبه الغافلين وأنا أعلن أن ليس من أحد عرف حقيقة الخير والشر؛ لأن المبدع وحده يعرفها، وهو من يخلق أهدافا للناس ويولي الأرض معناها ومقدراتها، فليس سواه من يوجد لكل شيء خيره وشره.
وأمرت الناس بأن يهدموا كل قديم ، وأن يقفوا أمام كل عقيدة هرمة ضاحكين مستهزئين بمعلميهم وقديسيهم وشعرائهم ومخلصي عالمهم.
أمرتهم بأن يهزءوا بصرامة حكمائهم وحذرتهم من المفزعات السوداء المنصوبة على شجرة الحياة.
أمرتهم، واتخذت لي مقعدا عند حافة مضيقهم، وقد حفل بالنعوش والأشلاء وحامت فوقه الغربان، وبت أضحك هازئا بماضيهم المتداعي وقد تناثرت أمجاده، وأثور كمن أعطي سلطانا على الخير والشر وكمن مسه الجنون صابا جام الغضب واللعنة على كل كبائرهم وصغائرهم، وما هزئت إلا بأحقر ما في خيرهم وشرهم.
لقد كانت أشواقي تتدفق مني هتافا وضحكا، وما أشواقي إلا الحكمة المتوحشة التي نشأت في أعالي الجبال بجناحين يملأ حفيفهما الفضاء، ولكم تسامت هذه الأشواق بي إلى ما فوق الذرى، فاندفعت معها كالسهم المرتعش يهزه حنينه إلى مصدر النور، إلى مجاهل المستقبل التي لم تبلغها الأحلام، إلى الظهيرات التي لم يلمس الوهم حرارتها، إلى حيث يرقص الآلهة وقد استحيوا من الاستتار بأي رداء.
ليس لي أن أصف ما هنالك بغير الرموز؛ لذلك أجدني محفوزا إلى تمتمة ما أقول فأتذبذب كالشعراء، والحق أنني لأخجل من اضطراري إلى الأخذ ببيانهم.
لقد لاح لي كل شيء رقصا ونكات إلهية؛ لأن العالم قد انطلق هنالك من كل قيد فالتجأ إلى نفسه، فازعا إليها كما يفزع الآلهة أبدا إلى ذاتهم مفتشين عليها بإنكارها وبتكرار العودة إليها.
هنالك لاح لي الزمان سخرية بالأزمان المجزأة، ورأيت واجب الوجود عبارة عن حرية سعيدة تداعب الحرية نفسها.
هنالك وجدت شيطاني القديم وعدوي الحديث روح الكثافة، وما أبدع من قبور وشرائع وضرورة ونتائج وأهداف وإرادة وخير وشر.
وجدت كل هذا ميدانا ممهدا لأقدام الراقصين، فليس من مرقص بلا مسرح، وليس من روح خفيفة لا تزحف عند أقدامها الخلدان والأقزام.
3
هنالك أيضا ظفرت بكلمة «الإنسان المتفوق» وبالتعليم القائم على أن الإنسان كائن يجب أن ينشأ منه ما يجتازه، ليس الإنسان هدفا وغاية إن هو إلا عابر يدعي السعادة في ظهيرته ومسائه.
إن كلمات زارا عن الظهيرة العظمى وجميع ما رفعه فوق العالم إن هو إلا غروب أرجواني ثان ينفلق من ورائه الفجر الجديد.
لقد عرضت لأنظار الناس كواكب جديدة وليالي لا عهد لهم بها، ونثرت الضحك على غيوم الليل والنهار فضربت قبة زاهية بعديد ألوانها.
علمت الناس جميع أفكاري وأبنت لهم جميع رغباتي؛ إذ أردت أن أجمع وأوحد ما في الإنسانية من بدد الأسرار وتصاريف الحدثان، فقمت بينهم شاعرا أحل الرموز وأفتديهم من الصدف العمياء؛ لأعلمهم أن يبدعوا المستقبل وينقذوا بإبداعهم ما انصرم من الأحقاب.
لقد وجهت الناس إلى إنقاذ الإنسانية مما أدرج الماضي في أغوارها بتغيير كل «ما كان» إلى أن تنتصب الإرادات معلنة أن ما تم هو ما كانت تريد أن يكون، وأن هذا ما ستريده في كل زمان.
بهذا رأيت السلام للناس، وهذا ما علمتهم أن يدعوه سلاما.
وأنا الآن أتوقع السلام لي لأعود للمرة الأخيرة للناس؛ لأنني أريد أن أذهب من بينهم إلى الفناء، فأودعهم أثمن كنوزي أسوة بالشمس تلقي على البحار نضارها وهي تتوارى في الظلام، حتى ترى أفقر الصيادين يداعبون صفحة البحر بالمجاذيف المذهبة.
لقد تعلمت هذا الجود من الشمس عندما كنت أشخص إليها غاربة فتندفق الدموع من عيني.
هكذا يريد زارا أن يتوارى فيغرب كما تغرب الشمس، وها هو ذا جالس ينتظر بين ركام الألواح القديمة المحطمة والألواح الجديدة، ولما تستكمل كتابة الوصايا عليها.
4
انتبهوا، إنني آتيكم بلوح جديد، ولكن أين هم إخوتي يحملون معي هذا اللوح إلى الوادي؛ لتحفر وصاياه على أعشار القلوب.
إن محبتي لمن سيأتون فيما بعد تقضي بهذه الوصية: لا تدار قريبك؛ لأن الإنسان معبر يجب علينا اجتيازه للتفوق عليه.
وقد أعطي للإنسان أن يجتاز نفسه على طرق عديدة وبوسائل عديدة، فما عليك إلا أن تتجه للوصول، وليس غير الممثل المضحك من يقول بإمكان التفوق على الإنسان طفرا وقفزا.
تفوق على نفسك في ذات قريبك، فلا تدعه ينيلك حقا بوسعك أن تأخذه اقتدارا، فإن ما تفعله لا يبادلك إياه أحد؛ لأن ليس من مكافأة في العالم، ومن لا قبل له بحكم نفسه وجبت الطاعة عليه .
إن في العالم كثيرين يعرفون أن يتحكموا بأنفسهم، ولكنهم لا يعرفون كيف يطاوعونها.
5
إن النفوس النبيلة تأنف أن تأخذ شيئا بلا بدل فهي ترد الحياة قبل كل شيء إذا هي لم تكتسب عيشها، أما القطيع البشري فيريد أن يعيش دون أن يبذل شيئا.
لقد وهبت لنا الحياة فعلينا أن نفكر في كل حين بخير ما يمكننا أن نبذل لقاء هذه الحياة، وهل أشرف من أن نقول: يجب أن نحقق للحياة ما وعدتنا به.
ليس للمرء أن يتمتع بلذة إذا هو لم يبذل لذة، فما اللذة عبارة عن التوجه للتمتع بها؛ لأن التلذذ كالطهارة كلاهما حيي ممنع، وليس لأحد أن يفتش عليها إذا هو لم يملكها امتلاكا، وخير له أن يفتش في هذه الحال على الدنس والأوجاع.
6
كل طليعة تضحى، أيها الإخوة، وهل نحن إلا طليعة منذرة، تنزف جراحنا دما في هيكل الأسرار، ونقدم محرقة يذوب لحمها تمجيدا للأصنام القديمة.
إن خير ما فينا لم يزل غضا رطيبا، وذلك ما يهيج شهوة الأشداق الهرمة، فلحمنا طري وجلودنا جلود حملان، فكيف لا نثير جشع الكهان في هياكل الأوثان؟
إن كاهن الأوثان الهرم لم يزل يسكن ذاتنا الخفية، وهو يتهيأ لإقامة وليمة يبتلع فيها خير ما فينا، فكيف تسلم الطليعة، أيها الإخوة، من أن تصبح ضحية وقربانا؟
ولكن بهذا تقضي مهمتنا وأنا أحب من لا يتمسك بالبقاء، ومن يتوارون أرفقهم بكل عطفي؛ لأنهم يذهبون إلى الجهة الأخرى.
7
ما أقل من يعرفون الصدق والإخلاص! والعارف لحقيقة الصراحة لا يريد أن يكون صريحا، فأكثر الناس تمويها هم المشفقون؛ لأنهم لا ينطقون أبدا بالحق، ومثل هذا الإشفاق مرض كامن في العقل.
إن الرحماء يرضخون ويستسلمون للقلب يملي إرادته فيهم على العقل والعقل يمتثل دون ترو وإدراك، فما تتكون الحقيقة في الرحماء إلا من تراكم كل ما هو شر في عينهم، فهل لديكم من الشر ما يكفي لإيجاد مثل هذه الحقيقة أيها الإخوة؟!
لا تولد الحقيقة إلا من تزاوج الوقاحة وسوء الظن والرفض القاسي والكره والشقاق في الحياة ، وما أصعب أن تتوافق وتتحد جميع هذه المقدمات!
إن الضمير الشامل قد نشأ حتى اليوم قرب الضمير الشرير، فهيا أيها الإخوة إلى تحطيم الألواح القديمة إذا كنتم تفتشون عن مبدأ المعرفة.
8
إذا رأيت المعابر منصوبة فوق مجاري المياه، والجسور معقودة فوق الأنهار، فهل تصدق من ينادي بالثبور وينذر بالغرق إذا كان الحكماء أنفسهم يكذبونه؟!
إن كل ما يعلو النهر من معابر، كل ما هو خير وكل ما هو شر ثابت مكين، وعندما يجيء الشتاء المتسلط على الأنهار يرتاب في ثبات كل الأشياء أشد الناس فطنة، غير أن من يحبون الاستغراق في نوم الشتاء والاستسلام إلى بطالته يحلو لهم أن يعتقدوا برسوخ المعابر وسكون كل حركة في الأعماق، ولكن الهواء المذيب للجليد يكذب هذه الطمأنينة؛ إذ يهب كأنه الثور الهائج ضاربا الجليد بقرنيه، وإذ يتحطم الجليد تتداعي الجسور، وعندئذ تغرق في المياه كل المعابر فلا يجد أحد ما يستند إليه من الخير والشر.
يا لشقائنا، بل يا لسعادتنا! لقد هبت الأرياح تذيب الجليد، فاذهبوا يا إخوتي على الطرق مبشرين بهبوبه.
9
إن من الجنون جنونا قديما عرف بالخير والشر، فدار حتى اليوم على محور العرافين والمنجمين.
لقد ساد الاعتقاد فيما مضى بالعرافة والتنجيم؛ لذلك آمن الناس بالقضاء المحتوم فقالوا بالواقع وجوبا، وداخلهم الشك في الكشف فارتدوا إلى الإرادة الحرة ينادون بها قائلين: إذا أنت أردت فقد قدرت.
أيها الإخوة، كل ما بني حتى اليوم على استنطاق النجوم والمستقبل لم يكن إلا افتراضا يقوم على افتراض؛ لذلك لم يعرف أحد شيئا عن الخير والشر، وما قيل عنهما لم يتعد حدود الرجم بالغيب.
10
لا تسرق، لا تقتل: تلك كلمات كانت مقدسة في غابر الزمان، إذا سمعها إنسان جثا على ركبتيه، وأحنى رأسه وخلع نعليه.
غير أنني أسألكم فأجيبوا: هل وجد في الدنيا لصوص وقتلة أوفر سرقة وأشد فتكا ممن استفزتهم هذه الكلمات المقدسة؟
أفليست السرقة والقتل من طبيعة الحياة نفسها؟ وهل كان تقديس هذه الكلمات النافية إلا قتلا لحقيقة الحياة؟
أكان القصد من مغالطة الحياة والردع عنها إذن دعوة في سبيل الموت والفناء.
أي إخوتي، حطموا هذه الألواح القديمة ولا تترددوا.
11
إنني لأشعر بإشفاق على الماضي وقد أصبح متروكا مهملا، معرضا لما سينشأ في الأجيال الآتية من اعتبار وتفكير وجنون، فإن هذه الأجيال ستصطنع لنفسها جسرا من كل قديم مضى عهده.
لقد يجيء طاغية له روح إبليس يتسلط على الماضي بلطفه وعنفه فيعالجه حتى يصبح معبرا لإقدامه وشعارا له ومكانا يصيح عليه ديك فجره.
غير أن إشفاقي ينطوي أيضا على توقع الخطر: لأن تفكير من ينشأ من الغوغاء لا يذهب إلى عهد أبعد من عهد جده، وهنالك يتناهى في تقديره الزمان القديم.
إلا أن الماضي أصبح متروكا، وقد تسود الغوغاء يوما فتدفع إلى اللجج بميراث العصور.
لذلك وجب أن تقوم فئة لها نبلها الحديث تناوئ الغوغاء وتصد الطغاة، فئة نبيلة تنزل الشرف وصية محفورة على ألواح جديدة.
لا يقوم النبل إن لم يكثر عدد النبلاء، وقد أوردت هذا المبدأ ورمزت إليه عندما قلت: بتعدد الآلهة لا بالإله الواحد تقوم الألوهية.
12
إنني أوليكم النبل الجديد، أيها الإخوة، عندما أقتضي منكم أن تبدعوا وتعلموا وتلقوا بذوركم لآتي الزمان.
تلك كرامة لا يسعكم ابتياعها بذهب التعامل كالمتاجرين، وما أزهد قيمة ما يباع ويشرى!
لن يكون حسبكم بعد الآن مشرفا لكم، بل الهدف الذي تتجهون إليه أن شرفكم كامن في إرادتكم وفي الخطوة التي تندفعون بها إلى التفوق على أنفسكم واجتياز حدودها، ذلك هو شرفكم الجديد.
إن خدمتكم لأمير لا تنيلكم شرفا، وما هو قدر الأمراء، وهل يشرفكم أن تقفوا كالحصون حول ما هو كائن لتزيدوا في مناعته وتطيلوا بقاءه؟
انسحبوا من السلالة التي تعلمت التلون في القصور، وتعودت الوقوف أبدا أمام المياه الآسنة، إن علم الوقوف على القدمين يعد فضيلة لخدام القصور، وهم لا يتوقعون الحصول على لذة الاستراحة إلا إذا طرحهم الموت عن مواقفهم.
ليس شرفكم أيضا في انتسابكم إلى أجداد قذف بهم روح يدعونه روح القدس إلى أرض الميعاد، إلى الأرض التي لا أجد فيها ما يحمد، وهل تحمد تربة أنبتت أسواء الأشجار: عود الصليب.
1
وهل سارت فيالق الفرسان أيان كان يدفعها هذا الروح القدس إلا ومن ورائها قطعان الماعز والبط ورهط المجانين والمعتوهين.
أي إخوتي، ليس إلى ما ورائكم يجب أن يتطلع نبلكم، بل إلى ما هو خارج عن سبيلكم، عليكم أن تنفوا نفوسكم من جميع البلدان والمواطن التي سكنها أجدادكم.
لا تعلقوا قلوبكم إلا على أوطان أبنائكم، وليكن هذا الحب حسبكم النبيل الجديد، تلك هي الأوطان التي لم تطأها قدم بعد وراء البحار السحيقة، وأنا آمركم بنشر شراعكم للتفتيش على مراسيها.
عليكم أن تكفروا أمام أبنائكم عن ذنب تحدركم من آبائكم، وبغير هذه الكفارة لن تنقذوا الماضي.
هذه هي الوصية الجديدة أعلق لوحها فوق رءوسكم.
13
لماذا نحن نحيا، وكل شيء باطل! وهل الحياة إلا عبارة عن دق سنابل والاصطلاء قرب نار تحرق ولا تدفئ.
هذه هي الثرثرة القديمة لا تزال تحسب حكمة، والناطقون بها شيوخ تفوح منهم رائحة الانزواء، والتعفن يكسب نبلا فهؤلاء الشيوخ لتعفنهم يكرمون وما يقصر الأطفال عن الإتيان بمثل وصاياهم، لقد لذعتهم النار فهم يخافونها، إن كتب الحكمة القديمة مشحونة بكثير من الأوهام الصبيانية.
إن من يدق السنابل لا يحق له أن يهزأ بمن يستخرج القمح منها، إن هؤلاء المستهزئين لمجانين يجدر بنا تقييدهم، فأمثالهم يجلسون إلى الموائد دون أن يأتوها بشيء حتى ولا بشهية للطعام، فهم يجدفون قائلين: إن كل شيء باطل.
صدقوني أيها الإخوة، إن من يحسن الأكل والشرب لا يمتلك فناء باطلا حطموا، حطموا ألواح الوصايا التي كتبها من لا يزالون أبدا ساخطين متذمرين.
14 «إن الطاهر يرى كل شيء طاهرا.» هذا ما يقول به الشعب.
أما أنا فأقول لكم إن كل شيء خنزيري في عين الخنازير.
ولذلك يقف المأخوذون بالتواضع وانسحاق القلب داعين الناس إلى الاعتقاد بأن العالم مستنقع أوحال وأوضار، وما الأوضار إلا في عقول هؤلاء الوعاظ الذين لا يحلو لهم أن ينظروا الدنيا إلا مدبرة فما يستهويهم منها إلا قفاها ...
إلا أنني أصرخ بوجه هؤلاء المأخوذين وإن جنحت عن حدود اللياقة لأقول لهم: إن العالم لشبيه بالإنسان فله أيضا قفاه، وفي هذا العالم كثير من الأقذار أيضا، ولكنه ليس مستنقعا يغص بالأوضار على رحبه.
لقد أرادت الحكمة أن يكون في العالم أشياء كثيرة تنبعث الروائح الكريهة منها، فإن الكراهة تستنبت الأجنحة وتولد الشوق إلى صافيات الينابيع.
إن خير من في الحياة لا يخلون مما يوجب الاشمئزاز، بل في أرقاهم ما يجب اجتيازه والتفوق عليه، فمن الحكمة إذن، يا إخوتي، أن تكون الأقذار كثيرة في هذا العالم.
15
لكم سمعت الأتقياء المأخوذين بالعالم الآخر يناجون ضمائرهم بأقوال سداها الضلال ولحمتها الشر، يقولونها مصدقين بها لا مواربين ولا مازحين. «دع العالم على حاله ولا تحرك إصبعا لاعتراضه في سبيله، دع الناس يستسلمون لأية يد تشد على خناقهم، دعهم يتناحرون ويتضاربون ويتعاملون بالسوء ويتسالخون، إياك أن تحرك إصبعا لردعهم، دعهم وما يفعلون فإنهم بذلك ينتهون إلى الزهد بهذا العالم.» «احذر حكمتك؛ لأنها هي أيضا من هذه الدنيا وعليك أن تكبتها وأن تنحرها نحرا؛ لأنك بذلك تتعلم أنت أيضا الزهد بهذا العالم.»
أي إخوتي، تقدموا إلى هذه الألواح القديمة، ألواح وصايا الأتقياء وحطموها تحطيما، بل اقضموا بأسنانكم هذه الوصايا فلا تتفوه شفاهكم بها لأنها كلمات المشنعين بالحياة.
16
سمعت الناس يتهامسون في الأزقة المظلمة قائلين: «من يتعلم كثيرا يفقد شهواته العنيفة كلها.»
ورأيت ألواح وصية جديدة تعلق حتى في الساحات العمومية وقد كتب عليها: «الحكمة مرهقة، ولا شيء يستحق العناء، فلا تعلق شهوتك على شيء.»
سارعوا أيها الإخوة إلى تحطيم هذه الألواح الجديدة، وما علقها فوق الرءوس إلا من تعبوا من الحياة، ما علقها الإ كهان الموت وحراس المواخير، وهل هذه الوصية إلا دعوة إلى العبودية.
لقد تعلم هؤلاء الكهنة والحراس ولكنهم اتبعوا منهجا سيئا؛ فأغفلوا من العلوم خيارها، تعلموا قبل الأوان متسرعين، فازدردوا ما تناولوا حتى استحكم في معدهم الداء، وما عقلهم إلا معدة عليلة ساء هضمها ولهذا ينادي عقلهم بالفناء.
إن الحياة ينبوع مسرة، ولكن المنتصت إلى عقله الممعود وقد ساء التمثيل فيه وحكمته السوداء يخيل له أن في كل ينبوع سموما.
إن المعرفة مسرة لمن تعززه إرادة الأسد، وما المتعب تسيره إرادة سواه إلا قطعة عائمة تتقاذفها الأمواج، وهل الضعفاء إلا من أضلوا السبيل حتى إذا نفدت قواهم وقفوا متسائلين عمن دفع بهم إلى السير قائلين أن لا شيء يستحق الاهتمام، هؤلاء هم من يلذ لهم سماع الداعين إلى الاستعباد بقولهم: لا شيء يستحق الاهتمام، فعليكم أن تشلوا إرادتكم.
أي إخوتي، إن زارا يهب كالهواء اللافح مدغدغا معاطس كل من أتعبهم السير على طرقهم، وهذا الهواء الطلق يخترق حتى جدران السجون ويبلغ حتى سجناء التفكير.
لا مخلص إلا الإرادة لأن الإرادة مبدعة، هذا هو تعليمي، وعلى الإنسان أن يتعلم ليبدع، وعليه أن يأخذ عني دون سواي الطريقة التي تبلغه العلم.
من له أذنان سامعتان فليسمع.
17
لقد أعدت السفينة فهي متجه إلى بعيد، ولعلها سائرة إلى لجة العدم، فهل فيكم من يريد السفر إلى المجهول المفترض؟
ليس منكم واحد يريد أن يركب هذه العائمة، سفينة الموت فعلام تريدون إذن أن تسئموا الحياة؟
أيها المتعبون من الدنيا قبل أن يستعيدكم ترابها، ما عهدتكم إلا متشوقين للأرض عاشقين لمتاعبكم منها.
هذه شفتكم تتدلى بشهوة ترابية تعلقت فيها، وهذه نظراتكم تجول فيها خيالات ملذات أرضية لما نسيتموها بعد.
إن على الأرض مبدعات وفيرة بعضها للفائدة والبعض الآخر للتنعم، فأحبوا الأرض من أجل هذه المبدعات، وفيها ما جمع كنهود الكواعب بين ما يفيد الحياة ويبهج الحياة.
أما أنتم أيها المتعبون من العالم، أيها المتكاسلون، فقد حق عليكم أن تدغدغ جلودكم السياط لتشتد عزائمكم وقوائمكم؛ لأنكم إذا لم تكونوا ممن نفدت قواهم فتعبت الأرض منهم، فأنتم ولا ريب من فئة المحتالين المتكاسلين أو من المنتقمين المنقطعين إلى اللذات كالهررة الجشعة الخبيثة. إذا أنتم أصررتم على اختيار الجمود وامتنعتم عن الركض بفرح وحبور، فما لكم إلا أن تتواروا عن الوجود.
لا دواء للداء العقام، هكذا يعلم زارا، فاغربوا إذن عن الحياة.
ولكن الإتيان ببيت الختام في قصيدة أصعب من نظم بيوت جديدة فيها، ووضع حد للحياة يستلزم من الشجاعة ما لا يقتضيه البقاء فيها، وذلك ما يعرفه الشعراء ولا يجهله الأطباء.
18
أي إخوتي، لقد كتب التعب وصاياه كما كتب الكسل وصاياه أيضا، وبالرغم من أن نص كليهما واحد فإن معنى كل منهما يختلف عن الآخر، وهل كالكسل ما يدخل التعفن إلى النفوس.
انظروا إلى هذا الرجل وقد تراخت عزيمته، ولم يبق بينه وبين هدفه إلا قيد شبر واحد، ولكن التعب أضناه، فأصبح وهو الجسور المقدام منطرحا على الرمال متبرما حانقا.
ها هو ذا يتثاءب من لغبه، وقد سئم الطريق والأرض والهدف حتى سئم نفسه، فهو لا يريد أن يخطو خطوة واحدة بعد.
إن الشمس ترشقه بسهامها وقد دارت به الكلاب متحفزة؛ لتلغ ما تصبب من عرقه وهو لا يزال ممددا ممنعا بعناده مفضلا على النهوض أن تنثره الشمس رمادا.
يا للغرابة أن يفنى الإنسان وهو على قيد شبر من هدفه! تقدموا وجروا البطل بشعره لإبلاغه الجنة التي تاق إليها.
ولكن لا! خير لهذا الرجل أن تدعوه حيث انطرح ليأتيه الوسن المعزي ويتساقط عليه الرذاذ المبرد من السحاب.
دعوه يغط في نومه إلى أن ينتبه لنفسه، إلى أن يتغلب وحده على التعب وعلى كل ما علمه أن يتعب.
ولكن اطردوا من حوله الكلاب الخبيثة الكسولة وأسراب الذباب المالئة جوه بالطنين، وما هي إلا أرهاط المثقفين المتغذين مما تنضحه رءوس الأبطال.
19
إنني أرسم حولي خطوطا وأنصب التخوم حدودا مقدسة؛ لذلك يتناقص عدد من يتسلقون الجبال معي كلما ازددت ارتفاعا نحو الذرى، فحاذروا يا إخوتي، في أي مرتقى أن يندس بينكم الطفيليون، إن الطفيلي حشرة تتغذى من كل خلية عليلة فيكم، فهي تهتدي بالغريزة إلى مواطن ضعفكم وتدرك بسليقتها الزمن الذي تهي فيه عزائمكم، فلا تلبث أن تعشش في مكامن استيائكم ووهن معزتكم.
إن مثل هذه الحشرة لا تتخذ مقرها الكريه إلا في مكامن الضعف من الأقوياء وفي مواطن الإشفاق من النبلاء، وحيث تلوح لها علة حقيرة لعظيم فهنالك تتخذ مسكنا لها.
إن أدنى فئة وأحطها في أي نوع إنما هم الطفيليون وما يغذي هذه الفئة الدنيئة إلا أرفع فئة وأشرفها في ذلك النوع، وكيف لا يتراكم العدد الأوفر من الطفيليين على نفس طال سلمها فطال المدى بين أحط مدرج وأعلى مدرج فيها.
كيف لا يتراكمون على نفس رحب مداها؛ فتراكضت فيه تائهة مستسلمة للطارئات، على نفس تستغرق في آتي الزمان وتندفع إلى أغوار الإرادة والشوق، على نفس تفزع من ذاتها وتفزع إلى ذاتها مندفعة منجذبة في أفسح دائرة وأبعد مجال، على نفس تناهت في الحكمة فراودتها على مهل طلائع الجنون، وتلك هي النفس التي أحبت ذاتها فوق كل حب فبدت فيها مصاعد ومنازل لكل الأشياء، واتسعت لكل جزر ومد فكيف لا تعلق بأكبر النفوس أحقر فئات الطفيليين ...
20
ما أحسبني قاسيا عاتيا، ومع ذلك فإنني أقول لكم: إذا ما رأيتم متداعيا إلى السقوط فادفعوه بأيديكم وأجهزوا عليه.
إن كل شيء يتفسخ ويتداعى في هذا الزمان، فمن ترى يحاول دعم ما هوى؟ أما أنا فإنني أريد سقوطه.
وإذا كنتم لم تتذوقوا لذة دفع الصخور من ذرى المنحدرات فانظروا إلى رجال هذا الزمان يتدهورون إلى أغواري.
ما أنا إلا أول المدحرجين وسيأتي بعدي من تفوق مهارته مهارتي، فاقتدوا الآن بي.
كل إنسان تعجزون عن تعليمه الطيران علموه على الأقل أن يسرع بالسقوط.
21
إنني أحب الشجعان، وما يقنع إعجابي منهم بإحكامهم ضرب السيف؛ إذ عليهم أيضا أن يمهروا في اختيار من يضربون.
ولقد يكون الإقدام الأوفى في الإحجام أحيانا وفي الاحتفاظ بالقوة لمن يستحق أن تبذل له.
لا تتخذوا لكم من الأعداء إلا من يستحق البغضاء، وتجاوزوا عن عداء من لا يستحق إلا الاحتقار؛ إذ عليكم أن تباهوا بعدوكم وما هذه أول مرة آتيكم فيها بهذه الوصية.
احتفظوا بقوتكم، وما أكثر من يجب أن تمروا بهم متغافلين! وأحقهم بإغفالكم أولائك الزعانف الذين يخدشون آذانكم بما يتصايحون به عن الأمم والشعوب.
أعرضوا عما يهاجمون به من حجج، وعما يدافعون به من براهين ، فما أقوالهم إلا مزيج توافر حقه وباطله، ومن أصغى إليها لا يأمن ثورة غضبه، فإذا هو منقاد إلى إرسال ضرباته يمنة ويسرة في الجموع؛ لذلك سارعوا للالتجاء إلى الغابات ودعوا سيوفكم مرتاحة في أغمادها.
سيروا في طريقكم ودعوا الأمم والشعوب تتبع مسالكها، إنها لمسالك جللها الظلام فلن يلوح عليها بارق لأمل.
على تلك السبل لا يسود إلا المتاجرون بالسلع؛ حيث لا بارقة إلا من لمعان دنانيرهم، فقد انقضى عهد الملكية وما هذه الكتل التي يسمونها شعوبا لتستحق قيادة الملوك.
انظروا إلى هذه الأمم وقد أصبحت تمثل دور بائع السلع بمجموعها تروها تجمع حقيرات الأرباح من أقذار أية دمنة لاحت لها، لقد انتصبت كل أمة تترصد الأخرى وتقلدها وتدعي جميعها حرمة الجوار. فيا له عهدا سعيدا ذلك الزمان الذي كان يهب فيه شعب معلنا إرادته بأن يسود غيره من الشعوب.
أقول هذا يا إخوتي؛ لأن من حق الأفضل أن يحكم، ولأنه يريد أن يحكم، ولا تسود قاعدة غير هذه القاعدة إلا حيث لا أفضل منها يعمل بها.
22
ويل لهؤلاء الناس لو أن خبزهم يوزع مجانا عليهم، فإنهم لا يجدون من يصبون غضبهم عليه، بأي حديث يتحدثون إذا حرموا قساوة الحياة؟
إن هؤلاء الناس إلا وحوش كاسرة، في أعمالهم ترصد واختطاف، وفي أرباحهم مراوغة واحتيال، فكيف تلذ لهم الحياة إذا هي خلت من الشدة والقسوة، وهم يرون الارتقاء في التفوق على الحيوانات افتراسا ومراوغة؛ لأن الإنسان في اعتقادهم أفضل حيوان كاسر.
لقد اقتبس الإنسان صفات جميع الحيوانات؛ لذلك كانت حياته أوفر شدة عليه من حياة أية فئة منها، ولكن الإنسان لم يرتفع فوق الأطيار بعد، وويل له إذا هو تعلم الطيران أيضا؛ إذ لا نعلم إلى أي ارتفاع سيندفع بجشعه وحرصه.
23
إن ما أريده للرجل وللمرأة هو أن يكون أهلا للكفاح وأن تكون أهلا للتوليد وأن يكونا كلاهما أهلا للرقص برأسيهما وأرجلهما.
لنعد كل يوم يمر بنا دون أن نرقص فيه ولو مرة واحدة يوما مفقودا، ولنعتبر كل حقيقة لا تستدعي ولو قهقهة ضحك بيانا باطلا.
24
انتبهوا لكل زواج تعقدونه واحذوا العقود الفاسدة؛ لأنكم إذا تسرعتم بها لا تجنون غير حلها. على أن فسخ الزواج خير من تحمله بالمصانعة والمخادعة.
قالت لي امرأة: «ما حطمت قيود زواجي حتى حطمت هذه القيود حياتي.»
ما رأيت زوجين لا تكافؤ بينهما إلا وتبينت فيهما عاطفة الانتقام؛ إذ يتحول نفور كل منهما إلى عداء للناس، وقد امتنع عليه أن يسير طليقا لوحده.
لذلك وجب على أهل الإخلاص أن يثقوا بصدق ما يشعرون به، وأن يوجهوا قواهم للاحتفاظ بعواطفهم؛ كيلا ينخدعوا بما يعاهدون عليه، وليطالبوا بالاتحاد إلى حين ليثقوا من إمكان اتحادهم إلى أمد طويل فليس من هينات الأمور أن يجتمع اثنان إلى مدى العمر.
ذلك ما أوصي به المخلصين؛ لأنني إن قلت بغير هذه الوصية عدمت محبتي للإنسان المتفوق ولكل ما أتوقعه لآتي الزمان.
ليس ما فرض عليكم أن تتناسلوا وتتكاثروا فحسب، بل عليكم أن ترتقوا أيضا، فلتكن جنة الزواج مدخلكم إلى المرتقى.
25
ليس إلا لمن اختبر حادثات الزمان القديم أن يدرك في الينابيع العتيدة ما سيندفق منها من حادثات لمستقبل الأزمان.
لن يطول الزمن، أيها الإخوة، حتى تنشأ شعوب جديدة وتبدأ ينابيع جديدة بالهدير في مجاهل الأغوار.
تزلزل الأرض زلزالها فتكرع المياه الدافقة فيكثر عدد الظامئين، ولكنها في الوقت نفسه تقذف من باطنها إلى النور بالقوى الخفية وبكثير من الأسرار، وهنالك زلازل تفجر من الأعماق على الأرض ينابيع جديدة، فإذا ما انخسفت البسيطة بالشعوب القديمة تدفقت تلك الينابيع.
في ذلك الحين إذا ما وقف رجل يدعو الناس هاتفا: تعالوا! ههنا عين تروي كثيرا من العطاش فتشدد القلوب الواهية وتخلق العزم فيمن فقدوا إرادتهم. يهرع الشعب إليه طالبا أن يجرب وما يطمح الناس في تجاريبهم إلا إلى التمييز بين من له أن يأمر ومن عليه أن يطيع، ولكم ستقتضي هذه المحاولة من تفتيش واستقراء ومشاورة واختبار.
إن ما يرسو عليه المجتمع الإنساني إنما هو المحاولات لا النظام المبرم بالعقود، هذا ما أعلمه أنا، وما هدف هذه المحاولات إلا وجود من يحسن الحكم.
فأعرضوا يا إخوتي عن كل قول آخر مصدره القلوب الخائرة والأفكار العاجزة عن وجود الطرق الحاسمة.
26
أين يكمن الخطر الأعظم المهدد لمستقبل الإنسانية يا إخوتي؟ إنني أراه كامنا في نفوس أهل الصلاح والعدل، وهم القائلون في نفوسهم: «إننا نعرف ما هو صلاح وعدل وهو كائن فينا، فويل لمن يريدون أن يوجهوا أبحاثهم إليه.»
إن ما يرتكبه الأشرار من المآتي لا يوازي بضره ما يرتكبه الأخيار، فإن وطأتهم لأشد على العالم من وطأة المفترين عليه.
أي إخوتي، لقد تطلع يوما أحد الناس إلى قلوب أهل الصلاح والعدل قائلا: «هؤلاء هم الفريسيون.» فما فهم أحد قوله، وما كان الصالحون العادلون ليفهموه أيضا؛ لأن عقلهم سجين في ضميرهم. إن حماقة الصالحين حكمة لا يدرك كنهها أحد، ولكن لا مفر لهم من وصفهم بالفرنسيين، وقد قضي عليهم أن يصلبوا كل من يبتدع لنفسه فضيلتها. تلك هي الحقيقة لا مرية فيها.
لقد جاء رجل آخر فاكتشف مواطن الصالحين والعادلين، وما خفيت عنه أرضهم ولا قلوبهم، فأورد سؤاله وأجاب عليه: أي إنسان يصب عليه هؤلاء الناس أشد كرههم؟
إنهم لا يكرهون أحدا كرههم للمبدع؛ لأنه في نظرهم المجرم الهدام لتحطيمه ألواح الوصايا القديمة.
ذلك لأن أهل الصلاح عاجزون عن الإبداع، وما هم إلا بداية النهاية، فلا بدع إذا صلبوا من يحفر وصايا جديدة على ألواح جديدة، وإذا ضحوا المستقبل لأنفسهم، والمستقبل للعالمين أجمعين.
هل كان أهل الصلاح في كل حقبة من حقب الزمان إلا بداية النهاية.
2
27
أفهمتهم يا إخوتي هذه الكلمة، وما قلته لكم أولا عن الإنسان الأخير؟
أفما اتضح لكم أن الخطر الأكبر المهدد مستقبل الإنسانية إنما هو كامن في مبادئ أهل الصلاح وأهل العدل.
هيا! حطموا الصالحين والعادلين.
وعساكم تدركون معنى هذه الكلمة أيضا.
28
أراكم تذهبون بددا من حولي، أراكم ترتعشون فكأن كلمتي هذه أدخلت الرعب إلى قلوبكم.
أي إخوتي، إنني ما دفعت بسفينة الإنسان نحو الغمر إلا عندما أهبت بكم إلى تحطيم الألواح وإسقاط الصالحين، وها إن الرعب الأعظم يستولي على من دفعت إلى اجتياز الغمر فقد غارت عيناه وحكمه دوار البحار.
لقد أراكم أهل الصلاح وجهات الأمور الخادعة، وعللوكم بحالات أمن كاذب، وكنتم واجهتم أكاذيبهم وأنتم أطفال فما انقطعتم عن الالتجاء إليها.
لقد شوهوا كل شيء وأفسدوه حتى في أصوله.
ولكن من اكتشف الإنسان لم يفته اكتشاف مستقبل الإنسانية، فكونوا لي أيها الإخوة البحارة الشجعان المجالدين، وهيا بنا إلى الأمام نشق عباب البحر مقتحمين أمواجه الصاخبة، تعلموا السير على الوجهة المستقيمة فإن كثيرين يحتاجون إلى الاقتداء بكم.
البحر هائج وفي البحر كل شيء، فإلى الأمام أيتها العزائم، عزائم البحارة القدماء.
ما يهمنا ما يدور بنا، إننا ننشر الشراع قاصدين وطن أبنائنا ما وراء الغمر حيث ترغي وتزبد أشواقنا الهائجات.
29
قال الفحم يوما للماس: من أين لك هذه الصلابة؟ أفما نحن نسيبان.
وأنا أقول لكم: أفما أنتم إخوتي، فمن أين جاءكم هذا الخور؟
لم هذه الليونة لم هذا الميعان؟ أين توكيد الذات في قلبكم وأين غارت سطور مقدراتكم فلا تلوح في أحداقكم؟
إذا أنتم اطرحتم العزم الحاسم فكيف تتوقعون الظفر يوما إلى جانبي؟ وكيف يتسنى لكم أن تشاركوني بالإبداع إذا لم يكن لعزمكم لمعان الجراز ومضاؤه؟
هل يكون المبدع إلا صلبا شديدا؟ وهل من غبطة لكم أعظم من أن تطبعوا يدكم على صفحات القرون فترتسم عليها كارتسامها على قطعة من الشمع؟
إنها لأعظم غبطة أن يكتب الإنسان على إرادة ألوف الأجيال والأجيال أقوى من الصلب وأسمى شرفا؛ لأن أصلب الأشياء أشرفها.
إنني أعلق فوق رءوسكم لوح هذه الوصية: اتصفوا بالصلابة وتشددوا.
30
أي إرادتي، لقد آن لنا أن نضع حدا لكل الصغائر، وما لي من مطلب سواك؛ لأنك وحدك سؤلي ومقصدي. أنقذيني من كل انتصار حقير.
وأنت أيتها الصدفة التي أدعوها مقدراتي، أنت القائمة في ذاتي فوق ذاتي احفظيني وأعدي للعظائم نفسي.
احتفظي أيتها الإرادة للخاتمة بآخر عظمة فيك، كيلا يهي عزمك عند نوالك الظفر؛ لأن ليس من أحد لا يسقط عندما يبلغ الانتصار.
وا أسفاه! أية عين لم يغشاها الظلام في سكرة الظفر، سكرة الغسق، وا أسفاه! أية قدم لم تتعثر ولم تتحول عن مسلكها ساعة الانتصار.
إنني أعد نفسي لأكون ناضجا للظهيرة العظمى، فألقاها صلبا ألانته النار للانطباع، وغمامة تتمخض بالبروق، وضرعا يتفجر بدره.
أريد أن أهيئ ذاتي وصميم إرادتي فأصبح كالقوس ألتوي شوقا لاحتضان سهمه، وكالسهم يطير شوقا نحو كوكبه.
أريد أن أكون الكوكب المتألق بأنواره في الظهيرة العظمى، وقد هزته الغبطة والسهم السماوي يخترقه ليفنيه.
أريد أن أتحول شمسا وإرادة شمس لا تتزعزع، فأكون مهيأ للاندثار في أفق الانتصار.
هذا ما أطمح إليه، فلنضع حدا يا إرادتي لكل الصغائر، أنت مقصدي، فاحفظيني للظفر الأعظم.
النقاهة
1
وما كانت مضت أيام طويلة على عودة زارا واستقراره في غاره، حتى هب يوما من رقاده كالفاقد الرشد، وأخذ يصيح ويعربد مشيرا إلى مرقده كأن عليه شخصا غريبا يحاول طرده، وساد القلق حيواني زارا؛ فدارا حوله وحكم الرعب جميع الحيوانات الأخرى، فإذا هي تدب وتزحف وتتطاير هاربة إلى بعيد.
وبقي زارا في موقفه قائلا: هيا! انهضي أيتها الفكرة الرائعة المنبثقة من أعماق ذاتي، لقد كنت لك فجرا وأعلنت انجلاءك كالديك الصائح، وأنت لا تزالين منطرحة كالتنين، افتحي أذنيك واسمعي؛ لأنني أريد أن تطلقي صوتك أنت، انهضي فإن هنا من الصواعق ما يعلم حتى القبور أن تصيخ سمعا.
افركي أجفانك واسمعي بعينيك ما أقول لك، فإن صوتي يهب النظر حتى لمن ولدوا عميانا، فإذا ما انتبهت مرة فلن يعاودك الرقاد؛ لأنني ما تعودت إيقاظ الجدود الأقدمين لأسمح لهم بالرجوع إلى نومهم العميق.
أراك تتحركين وتتثاءبين، فانهضي وتكلمي، إن زارا يدعوك، إن من يهيب بك للنهوض إنما هو الكافر زارا.
أنا هو زارا مؤكد الحياة، مؤكد الألم، مؤكد الدائرة الأبدية، أدعوك يا أعمق فكرة بين أفكاري.
يا لابتهاجي! إنني أراك قادمة، فها أنذا أسمع صوت هاويتي لقد نفضت نحو النور آخر أغواري.
يا لسروري! تقدمي إلي ... هاتي يدك.
لا ... لا ... أرجعيها ... يا للكراهة ... ويا لشقائي!
2
وما نطق زارا بهذه الكلمات حتى سقط على الأرض كالميت، وطالت غيبوبته حتى إذا ثاب إليه روعه حكمه ارتعاش شديد، وشحب وجهه وانطرح سبعة أيام على فراشه لا يتناول طعاما ولا شرابا، وكان تابعاه من الحيوانات لا يبارحانه، ولكن نسره كان يذهب في طلب الغذاء ويعود حتى كدس أنواع البقول والفاكهة حول المرقد، وطرح أمامه نعجتين اختطفهما بكل عناء من القطعان السارحة وقد نام عنها رعاتها.
وبعد سبعة أيام جلس زارا على مرقده وأخذ تفاحة ينشق نكهتها، فخيل لحيوانيه أن الزمن قد حان فقالا له: لقد مرت سبعة أيام يا زارا، وأنت مثقل الأجفان أفما آن لك أن تنهض، اخرج من غارك فإن كل شيء يتشوق إليك؛ فالهواء يهب بالعطور نحوك والغدران تتسارع إلى لقياك، وكل شيء يتوق إلى معالجتك وشفائك.
هل أتاك يقين جديد، فأرهقك بثقله وفعلت خميرته فعلها فيك؟ فقد رأيناك ساكنا كالعجين المنتفخ باختماره، وشعرنا بروحك تتدفق من جنبيك.
فأجاب زارا: اذهبا في ثرثرتكما، يا حيواني ودعاني أشدد عزمي بالإصغاء إلى هذه الروح. إن الثرثرة لتبسط العالم كله أمامي كحديقة مترامية الأطراف.
إن العذوبة كلها كامنة في الكلمات والأصوات، فما هي إلا جسور من الوهم ممدودة بين الكائنات المنفصلة إلى الأبد.
لكل نفس عالمها فهي تجد في كل نفس أخرى عالما آخر، وكلما ازداد التشابه بين الأشياء ازداد خداع السراب بينها، وأصعب المآزق اجتيازا أضيقها.
إنني لا أدرك كيف يمكن أن يوجد شيء ليس في أنا؛ لأن نفي الذات ممتنع، غير أن جميع الأصوات تنسينا هذه الحقيقة وخير لنا أن نتمكن من نسيانها.
ما أعطيت الأسماء والأصوات إلا لتشديد عزم الإنسان، وهل اللغة إلا جنون له لذته؟ أفما ترى الإنسان يرقص بيانه على كل شيء.
ما ألذ الكلمات وما أحلى خداع الأصوات! فإنها ترقص حبنا على جميع ما في قوس قزح من الألوان.
فأجاب الحيوانان قائلين: «إن من له عقليتنا يرى الأشياء متراقصة لنفسها؛ لأن كل الأشياء تتقدم إلى مسرح الوجود فتتصافح وتضحك وتنسحب ثم تعود.
الكل يذهب والكل يرجع وعجلة الكون تدور إلى الأبد، كل شيء يموت، وكل شيء يعود فتنور أزهاره ودوائر الوجود لا انتهاء لها.
تتحطم الأشياء فتتبدد، ثم تعود فتلتئم لتجديد بناء الوجود، يتفرق الشمل على وداع، فإذا بعده تسليم فحلقة الكون أمينة لذاتها إلى الأبد.
إن الوجود يبدأ في كل لحظة، فعلى محور «هنا» تنفتح دوائر الأجواء «هنالك» فالمحور مرتكز في كل مكان وطريق الأبدية كله تعاريج.»
وعاد زارا إلى ابتسامه قائلا: يا لطيشكما! إنكما تعلمان جيدا ما وجب أن يتم في سبعة أيام، ويا للمسخ الذي زحف إلى داخل عنقي ليكتم أنفاسي، غير أنني قضمت عنقه بأسناني فقطعت رأسه ولفظته إلى بعيد، فأتيتما تعيدانه إلى نصابه.
أنا الآن متعب مما قضمت ولفظت، ولا أزال مريضا من إجهاضي.
لقد شهدتما كل هذا، فهل أردتما التلذذ بأشد أوجاعي أسوة بالناس؟ والإنسان أقسى حيوان في الوجود؛ لأنه لا يجد ارتياحا على الأرض إلا بمشاهدة المآسي ومصارعة الثيران والصلب، وما تمتع بلذة الجنان على أرضه إلا يوم اخترع الجحيم.
إذا ما صرخ رجل عظيم سارع صغير إلى نجدته والحسد يكاد يدلي لسانه من فمه، ولكنه يسمي هذا الحسد رحمة وإشفاقا.
انظر إلى صغار الناس وأخص منهم الشعراء بأي بيان ملتهب يشكون الدهر وتصاريفه، وإذا ما أصغيت إلى هذا الأنين الشاكي فلا يفوتنك أن تنصت لنبرات اللذة في كل شكوى.
إن الحياة تقول لمن يشكو، وهي تتحكم فيه بغمزة من عينيها: إنك عاشقي فانتظرني لحظة لأتفرغ لك.
ما يقسو حيوان على نفسه قساوة الإنسان، فإذا ما سمعت أنين من يدعون أنهم مرتكبو آثام وحملة صلبان وتائبون فتنصت إلى أنينهم وشكواهم تسمع فيها شهقات الشهوة المتلذذة.
وهل أقصد أنا الآن بما أقول أن أشكو الإنسان؟ أي نسري وأفعواني، إن الشر الأعظم ضروري للخير الأعظم بين الناس. هذا ما تعلمته وما تعلمت سواه حتى الآن.
إن الشر الأعظم لخير ما في قوة الإنسان؛ لأنه الحجر الأشد صلابة لنحت المبدع، وعلى الإنسان أن يتكامل في خيره وفي شره.
لم أحمل على عاتقي صليبا لأذهب مفتشا عما إذا كان الإنسان شريرا، بل وقفت هاتفا بما لم يهتف سواي بمثله فقلت: «يا للأسف! أن يكون أعظم شر في الإنسان وأعظم خير فيه لا يتجاوزان هذه الصغارة.»
إن هذا الاحتقار العظيم للناس هو الثعبان الذي تغلغل في حلقي، فكاد يخنقني كما كاد يخنقني أيضا ما أنبأ به العراف إذ قال: كل الأشياء متساوية ولا شيء يستحق العناء، فالمعرفة تخنق طلابها.
وهكذا رأيت الغسق ينسحب متعارجا أمامي، وسمعت صوتا حزينا متعبا كأنه نبرات سكران يراوده الموت يقول لي: «سيعود دورا فدورا إلى الأبد الإنسان الذي يرهقك؛ الإنسان الصغير.»
ذلك كان حزني المتعارج غسقا طال انسحابه؛ فأورثني الأرق ورأيت أرض البشر تستحيل أمامي إلى مغارة اتسع صدرها ضاما إليه كل حي، فلاح لي كل شيء ركام أقذار وأكوام عظام وردوم قرون.
ذهب زفيري يجول بين المدافن متراميا على لحود الناس ملتصقا بها، وقد حكم عليه إلا يغادرها؛ فبات هنالك منتحبا يشكو ويردد ليلا ونهارا: «وا أسفاه إن الإنسان سيعود، سيعود الإنسان الصغير دورا فدورا إلى الأبد.»
ولقد رأيت الناس من قبل، رأيت كبيرهم وصغيرهم، فما أشبه الأكبر بالأصغر فيهم فكلهم مستغرق في بشريته.
ما أصغر الأكبر بين الناس! ويا للشقاء في أن يعود الصغار أبدا. إن هذا ما يرهقني من الوجود.
واندفع زارا يردد قوله: يا للكراهة ... يا للكراهة، وهو يتنهد ويرتعش متذكرا داءه وأوجاعه.
وقاطعه نسره وأفعوانه قائلين: توقف عن الكلام، أيها الناقه، اخرج من هنا واذهب إلى حيث تنتظرك الدنيا في حدائقها، إلى الورود والنحل والحمام، وقف عند أسراب الأطيار المترنمة لتتعلم أناشيدها، وما أجدر الناقهين بالإنشاد! فإن المتمتعين بالعافية يتكلمون وإذا هم تغنوا فبغير ما يتغنى به الناقهون.
فقال زارا: اسكتا أيها الأحمقان أراكما عرفتما السلوى التي أوجدتها لنفسي في سبعة أيام، ولسوف أعود إلى الإنشاد الذي أوجدته للسلوى فيكون لي منه الشفاء، أفتريدان أن أعدل عن هذا أيضا.
فصاح الحيوانان: انقطع عن الكلام أنسيت أنك ناقه؟ أعد قيثارة جديدة لنفسك، فما تجاري القيثارة القديمة إنشادا جديدا .
أطلق أغنيتك، يا زارا، ولتذهب داوية كالعواصف، أشف نفسك بها لتنهض بما قدر لك وما قدر لأحد قبلك.
إن حيوانيك يعرفان من أنت، يا زارا، وما ستكون، فما أنت إلا النبي المعلن تكرار عودة الأشياء إلى الأبد، وهذا ما قدر عليك القيام به منذ الآن: أن تكون أول من ينشر هذا التعليم وكفاك بهذا العمل علة وأخطارا.
ما غرب عنا تعليمك يا زارا، فأنت تقول بأن جميع الأشياء تعود أبدا، ونحن معها عائدون وبأننا وجدنا من قبل مرارا لا عداد لها ومعنا جميع الأشياء أيضا.
أنت تقول بالسنة العظمى المتكررة، وهي كالساعة الرملية تنقلب كلما فرغ أعلاها ليعود أدناها إلى الانصباب مجددا، وهكذا تتشابه السنوات كلها بإجمالها وتفصيلها كما نعود نحن مشابهين لأنفسنا إجمالا وتفصيلا في هذه السنة العظمى.
إذا ما شئت أن تموت الآن يا زارا، فإننا نعلم ما ستناجي به نفسك، ولكن نسرك وأفعوانك يرجوانك ألا تضع حدا لحياتك الآن.
إذا أنت عزمت على الرحيل، فإنك لتدفع بزفرة الارتياح لا بأنين الألم؛ إذ تطرح عن عاتقك وأنت الصلب الجلود وقرك الثقيل وكربتك المضنية، قائلا: ها أنذا أموت وأتوارى، وعما قليل أصبح عدما، فإن الأرواح تفنى كما تفنى الجسوم، غير أن شبكة العلل الدائرة بي ستعود يوما فتخلقني مجددا، فما أنا إلا جزء عن علل العودة الأبدية لكل شيء.
سأعود بعودة هذه الشمس وهذه الأرض، ومعي هذا النسر وهذا الأفعوان سأعود لا لحياة جديدة ولا لحياة أفضل ولا لحياة مشابهة، بل إنني سأعود أبدا إلى هذه الحياة بعينها إجمالا وتفصيلا، فأقول أيضا بعودة جميع الأشياء تكرارا وأبدا، وأبشر أيضا بظهيرة الأرض والناس وبقدوم الإنسان المتفوق.
هذه هي كلمتي نطقت بها وقد حطمتني هذه الكلمة، ذلك ما قدر علي أبدا، فأنا أتوارى منذرا وبشيرا.
لقد حانت الساعة الآن، الساعة التي يبارك فيها نفسه من يتوارى، وهكذا ينتهي جنوح زارا إلى المغيب.
قال النسر والأفعوان هذا وتوقعا أن يجيبهما زارا بشيء، ولكن زارا لم يعلم أن حيواناه سكتا عن الكلام ؛ لأنه كان قد استغرق في مناجاة نفسه فظهر كأنه نائم وما كان نائما.
ووجم النسر والأفعوان أمام سكون زارا، وذهبا على مهل من قربه.
الأمنية العظمى
أي نفسي! لقد علمتك أن تقولي كلمة «اليوم» كما تتلفظين بكلمتي «أمس وما قبله» وأن ترقصي فوق كل مندثر أينما كان.
أي نفسي! لقد حررتك من كل قيد خفي وطهرتك من الأدران، وأقصيت عنك العناكب وكل نور يخالطه ظلام.
أي نفسي! لقد نفضت عنك صغائر حيائك وكمينات فضائلك، وأقنعتك بالخروج عارية أمام عين الشمس.
لقد نفخت عاصفة الفكر على بحرك المضطرب، وجلوت الغيوم السوداء من آفاقك، وقضيت فيك على الإثم القاتل.
أي نفسي، لقد أوليتك الحق بأن تقولي «لا» كما تقول العاصفة، وأن تقولي «نعم» كما تقول صافيات الآفاق، فأصبحت هادئة كالنور يجتاز العواصف النافيات المانعات.
أي نفسي، لقد أطلقت لك الحرية تتسلطين بها على ما هو كائن وعلى ما لم يتكون بعد، فما شعرت نفس بمثل ما تشعرين من ملذات آتي الزمان.
أي نفسي، لقد علمتك أن تحتقري احتقارا لا ينخر كالسوس، علمتك الاحتقار الذاهب إلى أقصى المحبة أو إلى أقصى التحقير.
أي نفسي، لقد علمتك الإقناع حتى خضعت الأسباب والمقدمات لما ترتئين، فأصبحت كالشمس تقنع البحار بأن تتعالى إلى مدارها.
أي نفسي، لقد نزعت منك كل خضوع وخنوع ومتابعة واستعباد حتى رأيتك سائدة لكل شقاء، ومتحكمة في الدهر لأنك أنت هي المقدور.
أي نفسي، لقد منحتك أسماء جديدة، ومتعتك بألعاب متنوعة فدعوتك المقدور ومحيط المحيط وقطب الزمان ومئذنة الآفاق.
أي نفسي، لقد أغدقت الحكمة كلها على مملكتك الأرضية، وأترعت كئوسها بخمرة المعرفة المعتقة منذ أقدم العصور.
أي نفسي، لقد غمرتك بجميع الأنوار والظلمات، وكل ما في الكون من سكنات وشهوات، فرأيتك تنمين أمامي كما تنمو الجفنة في الكروم.
أي نفسي، ما أنت الآن إلا دالية في الكرمة أثقلك جنيك، ونهدت أثداؤك عناقيد يلوح سمرتها النضار، لقد أرهقتك السعادة الكامنة فيك فأنت صابرة خجولة من صبرك.
أي نفسي، ليس في الكون من نفس أشد منك حبا ورحابة وحنانا، فأين يتقارب الماضي والمستقبل إن لم يتقاربا في مجالك.
أي نفسي، لقد وهبتك كل ما ملكت يدي، والآن أراك تبتسمين قائلة: على أي من كلينا حقت كلمة الشكران؟
أفليس على الواهب أن يشكر من تفضل بقبول هبته؟ وهل العطاء إلا حاجة في نفس من أعطوا، والأخذ إلا إشفاق في نفس الآخذين؟
أي نفسي، إنني أدرك مغزى ابتسامتك ومعنى شجونك، فأنت الآن تمدين راحات إقبالك مترعة بشهوة العطاء، وتمدين أبصارك على البحار المزبدة وقد ابتسم في عينيك صفاء السماء.
من له أن يرد دموعه عن الفيضان، إذا لاحت له ابتسامتك يا نفسي؟ إن ما في هذه البسمة من العطف والحنان ليستهوي الملائكة للبكاء.
إن عطفك وقد تجاوز حده يمتنع عن النواح والعويل في حين أن ابتسامتك تتشوق إلى البكاء ونحرك يتهدج بالنحيب.
إنك تتناجين قائلة: إن كل دمعة فيها أنين وفي كل أنين شكاية؛ ولذلك تفضلين الابتسام على الجهر بما تتحملين من خيراتك، ومن شوق يهز جوارحك بارتعاش الكرمة تتوق إلى مقاطع القاطفين.
فإذا ما كنت تمتنعين عن البكاء، يا نفسي، مغضية بأجفانك الحمراء، فعليك أن ترفعي صوتك بالإنشاد.
انظري إلي في ابتسامي وأنا منبئك بأنك ستطلقين أناشيدك بصوت مرعد يجعل البحار تتنصت لنبرات شهوتك، إلى أن تسبح عليه العائمة المذهبة والمحلاة بكل ما هو حسن في روغانه وغرابته، حيث ينتصب السيد المجمل بالعزم وفي يده المقطع الماسي لعناقيد الكروم، ذلك هو مخلصك ومحررك يا نفسي، ذلك هو الكريم الذي أضمر اسمه في أناشيد المستقبل، والحق أن في أنفاسك شيئا من أريج هذه الأناشيد، فأنت الآن مستسلمة للأحلام تنقعين غليلك من الآبار حيث يدوي السكون وتلقين بأشجانك إلى أناشيد آتي الزمان لتجدي فيها الراحة من العناء.
أي نفسي، لقد وهبتك كل شيء حتى فرغت يداي، وآخر ما وهبتك إهابتي بك للإنشاد، فقولي لي الآن من منا وجبت عليه كلمة الشكر؟
تغني يا نفسي «أطلقي أناشيدك من أجلي ودعيني أوجه إليك آيات شكراني.»
هكذا تكلم زارا ...
نشيد آخر للرقص
1
أرسلت نظراتي إلى أعماق عينيك الساهدتين، أيتها الحياة، فوقف نبضان قلبي؛ إذ رأيت الذهب متوهجا فيهما ورأيت مركبا ذهبيا يشع على بحر الظلام يشد بمهد مذهب مشرف على الغرق.
ورشقت قدمي المصابتين بجنون الرقص بنظرة مسكرة مذيبة ضاحكة مستفهمة، وما قرعت يداك الصغيرتان ضربتين على دفك حتى تحفزت قدماي للوثوب وتنصت عقب كل منهما لأوزانك، وأذن كل راقص مفتوحة في عقب قدمه.
وثبت إليك، أيتها الحياة، ولكنك تراجعت عني وتوليت، فإذا بغدائر شعرك المتطاير تسمعني فحيح الأفاعي وتريني من ألسنتها نصالا.
قفزت متراجعا عنك وعن أفاعيك، فإذا بك متعالية تتحولين مقبلة علي، وقد تدفقت بالشهوات عيناك، مشيرتين إلي بنظراتهما المنحرفة أن أتبع السبل الملتوية، وهكذا تعلمت قدماي المراوغة على منعرجات الطريق.
إنني أخشاك قريبة وأحبك بعيدة، أيتها الحياة، فيجذبني إعراضك عني ويوقفني إقبالك نحوي، فأنا معذب بك وأي عذاب لا أتحمله من أجلك، أنت المحرقة ببردك، الساحرة بكيدك، الجاذبة بإدبارك المحيرة بسخريتك.
أي إنسان لا يكرهك، أيتها الآسرة الغامرة الساحرة التي لا يفوتها مقصد تتجه إليه، ومن لا يحبك وأنت البريئة الرعناء المسارعة إلى المعصية والإثم وفي عينيك لفتات الأطفال؟
إلى أين تقودينني الآن أيتها الطفلة المهذبة الشاردة؟ أراك تفرين من أمامي حلوة طائشة أيتها الجاحدة الفتية، وها أنذا أتبعك راقصا حتى إلى المآذق التي لا أعرف لها منفذا.
أين أنت؟ مدي إلي يدك أو إصبعا من كفك، فليس أمامي إلا مغاور ومضائق، قفي ... أفلا ترين البوم والوطاويط تتطاير حولنا.
مهلا يا طير الظلام، أفأنت ساخر بي؟ أين نحن الآن؟ لقد تعلمت من الكلاب نباحهم فأراك تكشر عن أسنانك الصغيرة، وتحدجني بنظراتك المتقدة من وراء لبدتك الصغيرة الجعداء.
أية رقصة تريد أن أرقص، أجبلية أم بحرية؟ أنا هو الصياد، أفما يحلو لك أن تكون كلبي أم تفضل أن تكون طريدتي؟
أنت هذا الطير أيتها الحياة فتعالي إلى جنبي الآن أيتها القفازة الشريرة، ارتفعي وسيري إلى الجهة الأخرى.
ويلي لقد قفزت فوقعت، فانظري إلي طريحا يتوسل إليك أفما كان خيرا لي أن أتبعك على مسالك أجمل من هذه؟ على مسالك الحب بين الشجيرات الزاهية بعديد ألوانها أو على شاطئ البحيرة حيث تتراقص الأسماك المذهبة.
لقد أضناك التعب الآن وهنالك خرفان ترعى عند الغروب، أفلا يلذ لك أن نرقد حيث تصدو شبابة الراعي.
إنني سأحملك إلى هناك فمدي معصميك إلي، لعلك عطشى ولقد أجد ما أروي به ظمأك ولكن شفتيك تتحولان عن كل شراب.
لقد انقلبت أفعى، هذه الساحرة الرشيقة الوثابة الزاحفة، فلا أدري في أي الأوكار تغلغلت، بعد أن صفعت وجهي وأبقت عليه طابع يدها الحمراء.
لقد تعبت من رعايتك والسير وراءك أيتها الساحرة، لقد أسمعتك أغاني حتى الآن فلسوف تسمعينني صراخك، هيا ارقصي على نقرات سوطي ألهبك به، فإنني ما نسيت سوطي.
2
وسدت الحياة أذنيها، وأجابتني قائلة: «لا تقعقع بسوطك، يا زارا، فأنت تعلم أن الضجة تشل التفكير، وقد بدأت تتوارد علي الخواطر، فما أنت وأنا إلا من زمرة المتكاسلين، لقد وجدنا جزيرتنا ومروجنا الخضراء ما وراء الخير والشر، وما اكتشفها معنا أحد؛ لذلك وجب علينا أن يحب أحدنا الآخر، وهب أن حبنا لا يخرج من صميم القلب، أفيحق لنا أن نتبادل من أجل هذا عاطفة النفور.
أنت تعلم أنني كثيرا ما أحبك وأتجاوز الحد في حبك، وما ذلك إلا لغيرتي من حكمتك فيا ويلاه من هذه الحكمة المجنونة الهرمة، ولكن إذا ما هجرتك هذه الحكمة يوما فلا يطول الزمن حتى تهجرك محبتي أيضا.»
وأدارت الحياة أنظارها ما وراءها وما حولها وقالت: لست بالأمين الوفي يا زارا، فمحبتك أبعد من أن تصل إلى الحد الذي تصف بأقوالك، وأنا أعلم أنك تفكر في هجري عما قليل.
إن على المرتفع جسرا ضخما قديما يدق ساعات الظلام فيصل رنينه إلى أعماق غارك، وعندما يؤذن بانتصاف الليل يخطر لك أن تغادر في مدى الساعة الأولى من الهزيع الثاني، إنني أعلم ذلك يا زارا، فأنت مصمم على هجراني.
فأجبت مترددا: «أجل» ولكنك تعرفين أمرا آخر، وتقدمت أسر في أذنها كلمة أخرى بين غدائر شعرها الذهبية المتطايرة، فقالت: «إذن، أنت تعرف هذا يا زارا! وليس من يعرفه سواك.»
وتراشقنا اللحظات وعدنا نسرحها على المروج الخضراء، وقد دغدغها نسيم المساء البليل واستخرطنا كلانا بالبكاء، وعندئذ شعرت أن الحياة أعز علي من حكمتي.
هكذا تكلم زارا ...
3 (1)
كن على حذر أيها الإنسان. (2)
ماذا يقول نصف الليل في غوره؟ (3) «لقد نمت، لقد نمت.» (4) «ثم أفقت من حلم عميق.» (5) «إن العالم عميق.» (6) «فهو أعمق مما يعتقد النهار.» (7) «وآلامه عميقة.» (8) «وأعمق من أحزانه أفراحه.» (9) «تقول الآلام للعالم اعبر وانقض.» (10) «ولكن الأفراح تطلب الأبدية.» (11) «تطب الأبدية العميقة.» (12) «!»
الأختام السبعة أو نشيد البداية والنهاية، الألف والياء
1
أنا العراف الممتلئ بالروح الكاشفة الذاهب صعدا على السلسلة المتعالية بين بحرين، السائر بين ما مضى وما سيأتي كغمامة كثيفة متملصة من جميع الأعماق الخانقة والمعادية لكل متعب ليس له أن يحيا، وليس له أن يموت.
أنا تلك الغمامة المعدة صدرها المظلم للمعات الأنوار المنقذة، المتمخضة بالبرق المثبتة الضاحكة مما تثبت، أنا الغمامة الحاملة للصواعق الكاشفة، ويا لسعد من تمخض بمثل هذه الصواعق! ولكنه ملزم بأن يلتصق طويلا بالذروة كما تلتصق الغمامة المثقلة؛ إذ عليه أن يشعل يوما أنوار مستقبل الزمان.
كيف لا أحن إلى الأبدية؟! وكيف لا أضطرم شوقا إلى خاتم الزواج إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء؟!
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية!
إنني أحبك أيتها الأبدية.
2
إذا كنت تهجمت بغضبي على القبور فانتهكت حرمتها، ونبذت قصيا معالم الحدود، وألقيت بألواح الشرائع فحطمتها على مهاوي الأغوار.
وإذا كنت بسخريتي نثرت الكلمات المتداعية، وهببت كالريح أكسح نسيج العناكب، وأطهر مغاور الموت المتعفنة القديمة.
وإذا كنت جلست مرحا مسرورا حيث دفنت آلهة الأزمان المنصرمة لأبارك العالم وأغمره بالحب قرب أنصاب من افتروا عليه، فما ذلك إلا لأنني أتوق إلى رؤية المعابد ومدافن الآلهة عندما تخترق عين السماء الصافية قبابها المحطمة، فأجس على الركام المتهدمة كالعشب الأخضر والشقائق الحمراء.
فكيف لا أحن إلى الأبدية ولا أضطرم شوقا إلى خاتم الزواج! إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
3
إذا كانت هبت علي نسمة من نسمات الإبداع الإلهية التي تكره حتى الصدف العمياء على الدوران راقصة كتراقص الكواكب في الأفلاك.
إذا كنت ضحكت بقهقهة البرق المبدع يصحبه إرعاء العمل.
وإذا كنت تراشقت الزهر مع الآلهة على نرد الأرض حتى ارتجفت الأرض، وتشققت قاذفة لهاث النار في الأجواء، فما ذلك إلا لأن الأرض نرد إلهي يرتعش لوقع الكلمات المبدعة الجديدة ولتساقط الأزهار الإلهية.
فكيف لا أحن إلى الأبدية، ولا أضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها، لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
4
إذا كنت كرعت ما في هذه الكأس من دواء تمازجت جميع العقاقير فيه، وإذا كنت مددت يدي فضممت الأبعد إلى الأدنى وجمعت بين النار والتفكير، وبين المسرات والأحزان مازجا أقبح الأشياء بأحسنها.
وإذا كنت أنا ذرة مفتدية في بحر الرمال أعمل على مزج الأشياء في كأس العقاقير، فما ذلك إلا لأن في الوجود ملحا يلتحم به الخير مع الشر، وما الشر إلا أحد التوابل التي تزبد الكأس فترغي طفاحا.
فكيف لا أحن إلى الأبدية ولا أضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
5
إذا كنت أحببت البحر وكل ما يشبه البحر وما اشتد هيامي به إلا عند مقاومته لي بزوابعه، وإذا كنت أحمل في نفسي غبطة المستكشف، الغبطة التي تدفع بالشراع إلى المجاهل وتملأ رواد البحار حبورا، وإذا كنت قد صرخت في حبوري: لقد توارت أواخر الشواطئ عن عياني، فتحطمت بتواريها آخر حلقة من قيودي، فها أنذا الآن في وسط المدى الفسيح الصاخب بعيدا عن توالي الأمكنة والأزمان، فهيا بنا، يا قلبي الهرم إلى الأمام!
أواه! كيف لا أتوق إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حتى يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
6
إذا ما كانت فضيلتي فضيلة الراقصين، وإذا كنت كثيرا ما رقصت مأخوذا بإشعاع الزمرد والنضار وإذا كان شري شرا ضاحكا يأنس إلى حقول الزنابق وأغصان الورود، فذلك لأن كل ما هو شرير يتحد بالضحك ولكنه يتحد مبررا ومحررا بغبطته نفسها.
إن الألف والياء عندي هما أن تتحول كل كثافة إلى لطافة فيصبح كل ثقيل خفيفا وكل جسم راقصا وكل فكر طائرا، والحق أن في هذا كل بداية وكل نهاية.
فكيف لا أتوق إلى الأبدية وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية.
7
وإذا ما كنت بسطت فوقي سماوات يسودها السكون، وأطلقت جناحي في مجالات سماواتي، وإذا ما كنت سبحت في أعماق مدى الأنوار فملكت حكمة الطيور في حريتي، فما ذلك إلا لأن حكمة الطيور تقول: «ليس في الكون فوق ولا تحت، ألق بنفسك هنا أوهناك، اذهب إلى الأمام أو تراجع إلى الوراء ما دمت خفيفا، أطلق صوتك بالتغريد ولا تتكلم بعد، أفليس التكلم شيمة أهل الكثافة والثقل، وهل يتصاعد كل قول إلا نحو الخفيف اللطيف، غرد ولا تتكلم بعد.»
أواه! كيف لا أحن إلى الأبدية، وأضطرم شوقا إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء ابتداء.
إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أما لأبنائي إلا المرأة التي أحبها؛ لأنني أحبك أيتها الأبدية.
إنني أحبك أيتها الأبدية! ...
الجزء الرابع
أين تجلى الجنون في الأرض بأشد
مما تجلى بين المشفقين، بل أي ضرر
لحق بالناس أشد من الضرر الناشئ
عن جنون الرحماء، ويل لكل محب
ليس في محبته ربوة لا يبلغها إشفاقهم
قال لي الشيطان يوما: إن
للرب جحيما هو جحيم محبته للناس
وقد سمعت هذا الشيطان يقول أخيرا: لقد مات الإله وما أماته غير رحمته.
زرادشت
الرحماء، الجزء
الثاني
تقدمة العسل
وكرت الأشهر وتوالت السنون على زارا وهو لا يشعر بها، مع أنها جللت بالبياض ناصيته وفوديه.
وجلس زارا يوما على حجر أمام غاره، وأرسل نظراته إلى بعيد ترود تعاريج الأودية وقد ظهر شيء من أفق البحر عند منتهاها السحيق، وبينما هو مستغرق في تفكيره دار حوله نسره وأفعوانه ثم مثلا أمامه قائلين له: علام ترسل نظراتك يا زارا، أتراك تفتش على سعادتك؟
فأجاب: ما لي وللسعادة، لقد انقضى الزمان الذي كنت أتوقع السعادة فيه، فما أتشوق الآن إلا إلى أعمالي.
فقال الحيوانان: إنك تتكلم كمن تغلغل الخير فيه، أفما أنت عائم على بحيرة من السعادة ينعكس على صفحتها أديم السماء؟
فأجاب زارا وهو يبتسم: لقد أجدتما التشبيه، ولكنكما تعلمان أيضا أن سعادتي ثقيلة، ولا شبه بينها وبين الأمواج هجوما وتراجعا، فهي تزحمني ولا تبتعد عني وتلتصق بي كأنها الراتنج المذوب.
ودار الحيوانان مرة ثانية حول زارا وعادا يتفرسان به قائلين له: لقد عرفنا السبب إذن في اصفرار لونك واكمداده وتحول لون شعرك إلى لون القنب، أفلا ترى أنك غارق في المادة الراتنجية اللزجة وفي شقائك؟
وتضاحك زارا قائلا: والحق أنني جدفت عندما ذكرت المادة الراتنجية، فما حدث لي إلا ما يحدث لكل ثمرة يتداركها النضوج أن العسل هو ما يخثر دمي، ويزيد نفسي استغراقا في صمتها.
وتقرب النسر والأفعوان من سيدهما وقالا: إن الأمر كما تقول ولكن أفلا تريد اليوم أن تصعد إلى الجبل العالي فالهواء نقي يشعرك بلذة الحياة.
فقال: إنكما تعربان عن مشتهاي فأنا أتوق اليوم إلى تسلق المرتفع، ولكن عليكما أن تتداركا لي عسلا من القفير الذهبي، عسلا أصفر وأبيض من أجوده وأبرده؛ لأنني أريد أن أبذله تقدمة إلى الذرى.
ولما وصل زارا إلى القمة وأطلق للحيوانين سراحهما رأى نفسه منفردا، فابتسم وأدار لحاظه ما حوله قائلا: لقد تعللت بتقدمة العسل لأتمكن من الانفراد بنفسي فأتكلم حرا طليقا على القمة بعيدا عن منازل النساك وحيواناتهم.
عندما كنت أذكر التضحية كنت أبدد ما وهب لي بألف راحة منبسطة، فكيف أجسر أن أدعو هذا العمل اليوم تضحية؟
إنني عندما طلبت العسل لم أطلب سوى طعمة للشرك، فأردت أخذها من القفير المذهب الذي تتشوق إلى التلذذ به الأطيار والدببة.
طلبت خير طعمة يستعملها الصائدون على اليابسة وفي البحر، فإن الدنيا عبارة عن غابة تغص بالحيوانات وحديقة يتنعم بها كل صائد وحشي، ولعلها أشبه ببحر زاخر لا قعر له، فهي والحق بحر محتشد بالأسماك على أنواعها وعديد ألوانها مما يثير شهية الآلهة أنفسهم حتى إنهم ليصبحوا صيادين يرمون بشباكهم إلى هذا العالم المليء بالعجائب والغرائب كبيرها وصغيرها، وأخص من الدنيا عالم الناس برهم وبحرهم فأنا أرسل في مجالاته شبكتي المذهبة هاتفا: انفتحي أيتها الأغوار البشرية.
انفتحي واقذفي إلي بأسماكك اللامعة، فلسوف أتمكن اليوم بخير طعمة أستهوي بها الأسماك البشرية من اصطياد خيارها، وما هذه الطعمة إلا سعادتي نفسها أنشرها إلى الأبعاد بين المشرق والجنوب والمغرب، وأنظر ما إذا كان العدد الغفير من الأسماك البشرية يتعلمون تذوق سعادتي والاشتباك بها، حتى إذا تغلغلت في حناجرهم طعمتي يضطرون إلى الارتفاع نحو مستواي، وهكذا يرتقي أشد الأسماك تعلقا بالأغوار إلى قرب أشر صياد يصطاد بني الإنسان، وما أنا إلا ذلك الصياد منذ نشأتي وفي أعماق روحي فأنا الجاذب المستهوي المزحزح الرافع والمثقف المعلم. أنا من قال من قبل: يجب عليك أن تصير من أنت.
فليرتفع الناس إلي الآن لأنني أنتظر الإشارات التي تعلن لي أن زمن نزولي قد حان، فإنني لم أنزل بين الناس بعد كما وجب علي أن أنزل؛ لذلك أنتظر هنا على قمة الجبل مراوغا مستهزئا دون أن أعيل صبري ودون أن يعيل هو، أنتظر كمن نسي الصبر؛ لأنه لا شفقة فيه .
لقد أوسعت مقدراتي مجال الزمان أمامي، فهل هي تناستني فشغلت باصطياد الذباب مستظلة وراء صخر كبير؟ والحق أنني ممتن لما قدر الأبد علي؛ لأنه لا يزحمني بل يترك لي متسعا من الدهر لأتلاعب وأرتكب الشرور حتى إنه أجاز لي اليوم أن أتسلق هذا الجبل لأصطاد عليه الأسماك، وهل سمعتم بإنسان يصطاد الأسماك على الذرى؟ لقد يكون ما طلبته جنونا على أنه خير لي أن يحكمني الجنون من أن يسودني الجمود فأتلون بالاخضرار والاصفرار وأنا ساكن على الانتظار في الأعماق، فأنا لا أريد أن أكون كهؤلاء المتحرقين في غيظهم لطول انتظارهم كأنهم عاصفة مقدسة تصيح بالوديان: أصغي إلي، وإلا فإنني أجلدك بسياط الله.
ما يكيدني مثل هؤلاء الثائرين فإنني أقف باعتباري لهم عند حد الاستهزاء، ولا يفوتني سبب غضبهم؛ لأنني أعلم أنهم إن لم يقرعوا طبولهم اليوم فلن يقرعوها إلى الأبد.
أما أنا ومقدراتي فما نوجه خطابنا لا إلى اليوم ولا إلى الأبد، وبوسعنا أن نصبر على الصمت؛ لأن أمامنا مدى طويلا وسيأتي زمن لن يكون فيه للقادم أن يعبر ويتوارى، ومن هو هذا القادم؟ إن هو إلا الصدفة العظمى أي ملك الإنسان؛ إذ يحكم فيه زارا ألف عام.
وإذا كان هذا الملك لم يزل بعيدا، فما يهمني هذا البعد وأنا الواثق من أنه لا بد قادم. إنني أستند من هذه الثقة إلى الأسس الأبدية، إلى هذه الصخور والجبال القديمة المنتصبة بين الرياح مترصدة ما كان وما سيكون.
فاضحك أيها الشر الكامن في، وأرسل قهقهتك الهازئة من أعالي هذه الجبال، وألق بشباكك لاصطياد خير الأسماك البشرية، اذهب رائدا جميع البحار فإن كل ما فيها هو لي، التقط الجميع وارتفع به إلي. إن هذا ما يتوقعه أوفر المتصيدين شرا.
اذهبي في عرض البحار أيتها الطعمة وغوري في الأعماق لاصطياد سعادتي، واقطر أحلى قطراتك المعسولة أيها القلب طعمة شهية تحل في أحشاء المصائب المروعة الدكناء.
إن أنظاري تمتد إلى أعمق الآفاق فيا للبحار تتسع أمامي ويا لمستقبل الإنسانية يفلق الضحى وما فوقي ينبسط السكون على تورد الآفاق، فيا للصفاء لا تكدره الغيوم.
استنجاد
وفي صبيحة اليوم التالي، جلس زارا على مقعده الحجري أمام غاره، وسار نسره وأفعوانه يتجولان في الأرض لتدارك أطعمة جديدة وعسلا جديدا؛ لأن زارا كان بدد حتى آخر قطرة من العسل القديم.
وبينما كان مستغرقا في تفكيره وهو متكئ على عصاه يتفرس في ظل جسده، انتفض فجأة؛ إذ لاح له ظل آخر يرتسم قرب ظله، ووقف متلفتا إلى ما وراءه فإذا بالعراف واقفا على مقربة منه، وهو من قاسمه الغذاء يوما على مائدته فأهاب إلى الخمول قائلا: «إن كل الأمور متشابهة ولا شيء يستحق العناء؛ لأن لا معنى للوجود، والحكمة خانقة قاتلة.»
ولكن ملامح هذا العراف كانت تبدلت منذ ذلك العهد، وما أمعن زارا النظر فيه حتى استولى عليه زعر مما رأى على سحنته من طلائع الشؤم.
وأدرك العراف ما يمر في خاطر زارا؛ فبسط كفه ماسحا وجهه كأنه يريد محو ما ارتسم عليه، ومسح زارا وجهه أيضا حتى إذا عاد الاطمئنان إلى كليهما تصافحا فقال زارا: أهلا بك يا بشير التراخي والجمود، ولعلك استفدت شيئا من نزولك ضيفا علي فيما مضى، فاجلس اليوم أيضا إلى مائدتي واسمح أن أجالسك أنا الشيخ الممتلئ غبطة وحبورا.
فهز العراف رأسه قائلا: يخيل إليك أنك شيخ يتدفق غبطة وحبورا، ولكنك على أي حال كنت وأيا كنت يا زارا، لن يطول زمن حبورك على هذه الذرى فلسوف تجتاح سفينتك العواصف عما قليل.
فقال زارا: وهل أنا بمأمن من هبوبها؟
فقال العراف: إن الأمواج تدور بجبلك من كل جانب، فهي تعلو وترتفع دون انقطاع وعما قليل ستبلغ هذه الأمواج، أمواج الشقاء والآلام، هذه الذرى فتذهب بسفينتك وتذهب بك أيضا.
وصمت زارا متعجبا.
فاستطرد العراف: أفلا تسمع الآن شيئا؟ أفما يبلغ أذنيك صخب الأغوار وهديرها.
وبقي زارا باهتا يتنصت فإذا به يسمع صوتا مديدا تتلقفه أصداء المهاوي كأن لا هاوية منها تطيق الاحتفاظ بمثل هذا النداء الفجيع!
فصاح زارا بالعراف: أجل يا نذير الشؤم، إنني أسمع صوت استنجاد يصرخ به إنسان، ولعله آت من بحر الظلمات، ولكن ما لي ولمدد الناس! أفما تعلم ما هي آخر خطيئة قدرت علي؟
فأجاب العراف: بلى إنها الرحمة.
وتدفق قلبه سرورا فرفع ذراعيه هاتفا: لقد جئت لأسقطك في هذه الخطيئة.
وعاد الصوت يدوي أوسع امتدادا وأشد ارتياعا، كأن مصدره يقترب.
فقال العراف: أتسمع يا زارا، إن النداء موجه إليك، تعال، تعال ... فقد لا تصل إلا بعد فوات الأوان.
وبقي محتفظا بصمته ولكنه شعر باضطراب زعزع إرادته فسأل مترددا: ومن ذا يناديني من بعيد؟
فأجاب العراف: إنك تعرف فعلام تتجاهل؟ ذلك هو الإنسان الراقي يناديك مستنجدا.
وارتعش زارا قائلا: ماذا يريد مني؟ ماذا يطلب الإنسان الراقي هنا؟
وبدا جلده يتصبب عرقا.
أما العراف فلم يأبه لاضطراب زارا، بل انحنى فوق الهاوية متنصتا، وإذ طال السكوت في الغور أدار ظهره فرأى زارا لم يزل منتصبا مكانه وهو يرتجف فقال له بصوت حزين: لا يلوح لي أنك الرجل الراقص لسعادته، فارقص إذا شئت إلا تقع على الأرض، ولو أنك رقصت بكل حركاتك أمامي الآن فإنني لا أصدق أنك آخر من يتمتع بالسعادة بين الناس، وإذا ما تسلق أحد هذه الذرى آملا أن يجد آخر السعداء فإنه ليفتش عبثا عليه؛ إذ لا يجد سوى المغاور يختبئ فيها من يحب الاستتار، إن مكامن السعادة ليست في هذه الأرجاء، وهل من سعادة ترتجى بين من دفنوا أنفسهم وتنسكوا؟ فهل وجب علي أن أفتش على السعادة في الجزر السعيدة بعيدا وراء البحار؟
ولكن ما لي ولهذا ما دام لا شيء في الوجود يستحق العناء والاهتمام، وعبثا نفتش فإن الجزر السعيدة قد توارت من الوجود.
وبعد أن أنهى العراف خطابه ودفع آخر زفرة من صدره عادت الغبطة إلى زارا، فإذا به ينتفض كمن يخرج من الظلمة ليستقبل النور ويقول وهو يلعب بلحيته.
لا وألف لا ... إنني أعلم منك، فالجزر السعيدة لا تزال مكانها فاصمت أيها النداب، ما أنت إلا غمامة تمطر على بسمة الصباح وقد بللتني دموعك ، ولكنني أنفضها عني وأفزع منك إلى بعيد، أفما تراني أعاملك بالحسنى؟ لا تعجب لهذا لأنك نازل في مملكتي.
ها أنذا ذاهب إلى مصدر صوت الاستنجاد في هذا الغاب؛ لأفتش على الإنسان الراقي فلعله معرض للخطر بين الوحوش الضارية، وأنا أحاذر أن يلحق به ضرر في مملكتي، وما أكثر الضواري فيها!
وما تحفز زارا للسير حتى قهقه العراف ضاحكا وقال: أي زارا، ما أنت إلا مراوغ محتال، إنك تقصد التخلص مني فتفضل مطاردة الوحوش، ولكن هربك لن يجديك شيئا فلسوف تجدني محتلا غارك عند رجوعك، ستراني متربعا فيه كحزمة حطب ثقيلة.
فقال زارا وهو سائر نحو الغاب: ليكن ما تريد إن كل ما في غاري هو لك أيضا لأنك ضيفي، وإذا ما وجدت فيه شيئا من العسل فلك أن تلحسه لتخفف ما في نفسك من المرارة أيها الدب المزمجر؛ لأننا سنفرح ونطرب سوية هذا المساء لانقضاء هذا اليوم فتشترك معي بالغناء والرقص دبا مثقفا.
أراك تهز رأسك كأنك لا تصدق ما أقول، فاذهب في سبيلك إذن أيها الدب الهرم، ولكن اعلم أنني عراف أنا أيضا.
هكذا تكلم زارا ...
محادثة مع الملكين
1
وما مضت ساعة على سير زارا وتوغله في جباله وأحراشه حتى اعترضت طريقه قافلة غريبة، فرأى ملكين كل منهما متوج وممنطق بالأرجوان، يسوقان أمامهما حمارا محملا، فقال زارا في نفسه: ماذا يطلب هذان الملكان في أراضي، وأسرع إلى الاختفاء وراء عوسجة حتى إذا اقتربت القافلة من مكمنه تمتم بصوت خافت: يا للغرابة! إنني أرى ملكين ولا أرى غير حمار واحد.
وتوقف الملكان وهما يبتسمان ويلتفتان إلى مصدر الصوت الخافت، فقال ملك الميمنة: إن مثل هذه الأفكار تمر في الخاطر عندنا ولكن لا يعبر أحد عنها.
فهز ملك الميسرة كتفيه وقال: لعل المتكلم راع أو ناسك عاش طويلا بين الصخور والأشجار فالابتعاد عن المجتمع مفسد للأخلاق المهذبة.
فقال الملك الآخر - وقد ظهرت عليه إمارات الكدر: الأخلاق المهذبة! وهل غادرنا مجتمعنا إلا هربا من أخلاقه المهذبة؟ لخير لنا أن نعيش بين النساك والرعاة من أن نعيش بين قومنا وقد اتشحوا المذهبات واستعادوا من الطلاء ملامحهم الكاذبات، ما تجدي الأنساب العريقة إذا كان من يباهون بها قد تهرءوا وغدا أفسد ما فيهم دمهم لما عاث فيه من أمراض قديمة، ولما أدخله عليه الأساة الجاهلون.
لخير من هؤلاء القوم الفلاح السليم، فهو بخشونته واحتياله وصبره ومجالدته أشرف أنواع الإنسان في هذا الزمان.
إن فلاح هذا الزمان خير ما في المجتمع، وطبقته أولى بالحكم ولكن الشعب هو الحاكم، وما أنخدع به بعد الآن فهو عبارة عن غوغاء من جميع الطبقات يختلط فيه القديس والسافل والصعلوك المغرور واليهودي، فكأنك منهم تجاه ما جمعت سفينة نوح.
كيف نذكر العادات الحسنة وليس عندنا إلا الرياء والفساد، وقد نسي الجميع معنى الاحترام. لقد أردنا أن نهرب من كل هذا فلا نعود نرى الكلاب يقتلها الجشع والفضول وتبهرها السعف المذهبة.
لقد بلغ الاشمئزاز مني مداه؛ لأننا نحن أيضا أصبحنا كاذبين نرفل ببرود أجدادنا وقد أخلقها الزمان، ونتقلد الأنواط لنبهر أجهل القوم وأشدهم احتيالا ولنمالئ جميع من يتعاملون بالربا الفاحش مع كل سلطة.
لسنا أول المالكين فعلينا ألا نكون على ما كانوا، لقد تعبنا وشبعنا مخادعة واحتيالا.
لقد أعرضنا عن الشعوب وتولينا عن هؤلاء المشاغبين وهذه الهوام القابضة على الأقلام، فهربنا من رائحة الحوانيت الكريهة ومن الأنفاس الخانقة تحشرج في صدور الجهود القاصرة.
أف للحياة بين الشعوب ويا لشقاء من يمشون في طلائعها، أية أهمية للملوك! ما لك ولهم.
فقال ملك الميسرة: لقد عاودك داؤك القديم، لقد استولت نوبة الاشمئزاز عليك يا أخي، ولكنك نسيت أن هنا من يسمع حديثنا.
وخرج زارا من مكمنه وقد سمع كل ما دار من حديث بين الملكين فتقدم إليهما وقال: إن من أصغى إليكما فراقه ما سمع إنما هو رجل يدعى زارا، وأنا هو زارا القائل: أية أهمية للملوك بعد.
فاغتفرا لي مسرتي لسماعي منكما ما قلته من قبل.
أنتما الآن في مملكتي وتحت سلطاني، فماذا عساكما تطلبان فيها؟ لعلكما وجدتما في طريقكما من أفتش عليه ، فأنا أفتش على الإنسان الراقي.
وقرع الملكان صدريهما قائلين: لقد كشف أمرنا، فقد اخترقت بكلمتك هذه أعماق قلبنا وأدركت سبب بلوانا. نحن ذاهبون للعثور على الإنسان الراقي، الإنسان الذي يفوقنا بالرغم من أننا في مرتبة الملك، وقد أتينا إليه بهذا الحمار؛ لأن على الإنسان الأعلى أن يكون المعلم الأعلى.
إن أقسى ما يجتاح الأرض من نوازل أن لا يكون أصحاب السلطان على الناس أفضل الناس، كيلا يسود الكذب والفظائع فتلتوي الأمور ذاهبة على غير مجاريها؛ لأنه عندما يكون أرباب السلطان من زعانف القوم بل ومن حيواناته يتعالى الشعب ويتعالى حتى ليسمعك صوته قائلا إنني أنا هو الفضيلة.
فهتف زارا: ماذا أسمع أعند الملوك مثل هذه الحكمة؟! لقد أثارت هذه الكلمات قريحتي، ولسوف أنظم مقطعا بما أوحته إلي، ولعل ما سأنظم لا تقبله آذان الكثيرين، ولكنني منذ زمان طويل نسيت مداهنة الآذان الطويلة.
ونهق الحمار كأنه يحتج، فقال زارا: «في ذلك الزمان، في السنة الأولى من التاريخ الجديد، هتفت آلهة الأقدمين دون أن تكرع خمرا، فقالت: الويل ... الويل ... لقد ساءت الحال!
يا للانحطاط، إن العالم لم يسقط إلى مثل هذه الدركة قبل الآن؟
فقد استحالت روما إلى عاهرة،
وتدنى قيصرها إلى مرتبة الحيوان،
حتى إن الله نفسه استحال يهوديا ...»
2
واستحسن الملكان نشيد زارا، وقال ملك الميمنة: لقد كان من حظنا أن خرجنا على الطريق فلقيناك، وقد كان أعداؤك عكسوا لنا صورة منك على مرايا نفوسهم فرأيناك شيطانا ضاحكا ساخرا أدخل الرعب إلى قلوبنا، ولكن كلماتك ومبادئك كانت تخترق آذاننا لتهز أحشائنا فتغلبت على ما أدخلت صورة وجهك من الاضطراب في روعنا، فقررنا أن نجيء إليك وأنت القائل: «عليكم أن تحبوا السلم كوسيلة توصلكم إلى حروب جديدة، وأن تفضلوا فترة السلام القصيرة على الهدنة الطويلة الأمد.» وما نطق أحد قبلك بآية حربية كقولك: «لا خير يضاهي الشجاعة وغاية الحرب الحسنى تبرر كل واسطة.»
أي زارا، إن دم أجدادنا قد ثار في عروقنا عندما سمعنا آيتك فكأنه الخمر المعتق يغلي في الدنان لسماعه همسات الربيع، وهل كان أجدادنا يشعرون بلذة الحياة إلا عند اشتباك النصال اشتباك الأفاعي تقطر دما، وهل كانت شمس السلام في أعينهم إلا نورا خاسئا، فكل هدنة طويلة الأمد كانت تلفعهم بالعار.
لكم من زفرة دفعها آباؤنا وهم ينظرون إلى النصال المرهفة تتدلى صابرة على جدران القصور، فإنهم كانوا يشعرون في أحشائهم بظمأ النصال نفسها، وما لمعان الحديد إلا وهج شهوته وتحرقه إلى شرب الدماء.
وبينما كان الملكان يتحدثان بحرارة عن سعادة آبائهما، ثارت عوامل التهكم في زارا وهو ينظر إلى ملامح الملكين التي تنم على الدعة والسكون غير أنه امتلك حوافزه وقال: هيا بنا إلى الذروة، إلى غار زارا فسيعقب هذا النهار سمر طويل، وأنا مضطر لمغادرتكما؛ لأن صوت مستنجد يدعوني من المدى البعيد.
ستنال مغارتي الشرف من نزول ملكين فيها، حيث لا بد لهما من الانتظار طويلا، ولن يصعب الانتظار عليكما وقد تعودتماه في بلاطيكما، وهل بقي للملوك من فضيلة سوى فضيلة الصبر والانتظار؟!
هكذا تكلم زارا ...
العلقة
وتابع زارا طريقه وهو مستغرق في تفكيره فانحدر من الأعالي حتى بلغ المستنقعات، فإذا به يصطدم وهو ذاهل برجل هزته الصدمة فصرخ متألما، وأتبع صرخته بالشتائم تترى قبيحة سمجة، وبوغت زارا في استغراقه فرفع عصاه على الرجل، ولكن روعه عاد إليه فسخر من نفسه وقال: أرجو عفوك وأستميحك أن أضرب لك مثلا عما وقع لنا:
بينما كان رجل سائرا في طريق مقفر وقد سرحت أفكاره في مجالات بعيدة عثر بكلب نائم تحت شعاع الشمس، فوقفا الواحد بوجه الآخر كعدوين لدودين يرتعشان خوفا وحذرا، ولو أن الصدف تحولت قيد أنملة لكان تداعب الكلب والمنفرد، أفما هما في القفر فريدان.
فقال الرجل المصدوم والغضب لا يزال آخذا منه مأخذه،: كن من تشاء يا هذا، فما أنت إلا معتد علي بمثلك بأكثر مما اعتديت بصدمتك، انظر إلي، أفكلب أنا؟!
وكان هذا المتكلم جاثما على الأرض، وقد غرس ذراعه في المستنقع كأنه يتصيد منه شيئا فنهض ساحبا ذراعه العاري من الأوحال.
ورأى زارا دما غزيرا يقطر من ذراع الرجل فصاح به: ماذا جرى لك أيها التعس، هل لسعك حيوان.
فأجاب غضوبا هازئا وهو يدير ظهره ليذهب في سبيله: ما يعنيك يا هذا، إنني مقيم في ملكي وليس علي أن أرد على أهوج.
وأمسك زارا بالرجل وقد أشفق عليه فقال له: لقد أخطأت فلست في ملكك بل أنت في ملكي حيث يجب أن لا يضار أحد. ادعني بالاسم الذي تشاء فما أنا إلا من يجب أن أكون وقد أسميت ذاتي زارا. تعال اتبعني إلى مغارتي لأضمد جراحك، فما أنت إلا تعس خانك الحظ، لقد لسعك الحيوان ثم جاء الإنسان بعد ذلك يدوس عليك.
وما سمع الرجل اسم زارا حتى تبدلت سحنته وهتف قائلا: أي شيء أهتم له في الحياة غير هذا الإنسان الفريد «زارا» وغير هذا الحيوان الفريد الذي يعيش من غب الدماء «العلقة».
ما انطرحت على الأرض إلا طلبا لهذا الحيوان فقرصت يدي عشر مرات وإذا بزارا نفسه يقرصني أيضا.
يا لسعادتي؛ إذ قضي لي أن أكون اليوم في هذا المستنقع لأبارك خير حجام بين الأحياء، لأبارك زارا أعظم من علق على الضمائر ليمتص منها.
وفرح زارا لسماعه هذه الكلمات، فقال للرجل وقد مد إليه يده ليصافحه: من أنت يا هذا؟ إن ما بيننا أمورا كثيرة يجب أن نجلوها، غير أنني لا أجد مشقة في الإيضاح وها قد وضح بيننا النهار.
فأجاب الرجل: أنا «ضمير الفكر»، وليس من عامل أشد صلابة وأكثر تقيدا مني غير زارا معلمي، وقد تعلمت منه أنه خير للإنسان أن يكون مجنونا في عين نفسه من أن يكون حكيما في نظر الناس.
أنا هو الذاهب إلى الأعماق ولا أبالي بضيق المدى أو باتساعه، ولا فرق عندي أكان الغور مستنقعا أم سماء، وإنه ليكفيني من الأرض سعة الكف إذا جمدت وصلحت مستقرا للقدم فليس أمام العلم الموالي للضمير من شيء يعده صغيرا أو كبيرا.
فقال زارا: لعلك إذن من يحاول إدراك منشأ العلقة، فتذهب إلى الغور في بحثها حريا مع ضميرك .
فأجاب: لا يا زارا، كيف لي أن أقوم بهذا العمل الفظيع ولا معرفة لي إلا بدماغ العلقة، وفي دماغها ينحصر الكون في نظري، أفليس هذا الحيز كونا بنفسه؟ أرجو عفوك إذا ما أظهرت كبرياء بقولي إنني أنا الأستاذ في هذا المطلب، ولذلك قلت لك إن هنا ملكي، لقد مر علي زمان طويل وأنا أحصر اهتمامي في بحث دماغ العلقة كيلا تفوتني الحقيقة في دقائقها، إن في هذا المطلب تمتد سلطتي وقد أعرضت عن كل ما عداه؛ لذلك يتمشى علمي موازيا لجهلي، وقد قضى علي ضمير تفكيري أن أعرف شيئا وأجهل سائر الأشياء، فأصبحت كارها لكل عمل فكري لا يتعدى نصف مرحلته، ولكل إنسان اعتكر فكره في حماسه وتردده.
إن عماوتي تبدأ حيث يتناهى إخلاصي لعقيدتي، وأنا راض بالعمى، وإذا ما أردت معرفة شيء انصرفت إليه قاسيا طالبا متعصبا لا ألوي على شيء في سبيل محجته.
أفما أنت القائل يا زارا: إن الحياة نفسها مبضع يشق الحياة.
إن قولك هذا قد جعلني تابعا لتعليمك، فتمكنت بذلك من اكتساب معرفتي ببذل دمي.
فقال زارا: إن الواقع يثبت قولك.
وأشار إلى ساعد الرجل وهي تدمي، وعليها عشر علقات تمتص منها، وأردف قائلا: إن في حالك عبرا، أيها الإنسان، فأنت بنفسك تعليم، ولن أقدم على إسماعك كل تعاليمي.
لنفترق هنا، غير أنني أود أن ألقاك بعد الآن، إن هذه الطريقة المرتفعة تؤدي إلى غاري فانزل فيه أهلا هذا المساء بين ضيوفي؛ لأنني أريد أن أسترضيك عما ألحقته بك من إهانة عندما دست عليك بقدمي، فأنا أفكر بهذه الترضية الآن ولكنني مضطر إلى مبارحتك إلى حيث يستنجدني الصوت البعيد.
هكذا تكلم زارا ...
الساحر
1
وما دار زارا بالصخر على منعطف طريقه حتى لاح له رجل يأتي بحركات غريبة، ثم يدور كالمجانين وينطرح زاحفا على الأرض، فوقف وقال في نفسه: لعل هذا هو الإنسان الراقي الصارخ المدد، ولعلني أوفق إلى نجدته، وإذ وصل إليه رآه شيخا ارتجفت أعضاؤه وجحظت عيناه، فهرع إليه محاولا رفعه عن الأرض ولكنه حاول عبثا، فبقي هذا الشيخ كأنه في غيبوبة لا يحس بوجود أحد قربه، واستمر يتلفت إلى ما حوله ويبدي إشارت اليائس المتروك، وبعد أن تململ وانطوى على نفسه بدأ يرسل أنينه وشكواه قائلا: من يدفئني؟ من يحبني بعد؟!
إلي بالأيادي الحارة، إلي بالقلوب المتقدة.
أنا المحتضر المحتاج إلى أكف تفرك رجلي الباردتين.
أنا المنتفض تتأكلني الحمى الخفية، المرتعش تهب علي الرياح اللوافح.
أنا طريدك أيها الفكر الذي لا اسم له، أيها المحجب المخوف الملفع بالغمام عينا تحدجني في طيات الظلام.
ها أنذا طريح أتلوى بعذاب الأبد تحت ضرباتك، أيها الصياد العاتي، أنت أيها الإله المجهول ... •••
انزل علي بأشد ضرباتك، اضرب أيضا، اخرق هذا القلب وقطع نياطه تقطيعا.
ما لك تطيل تعذيبي فلا ترشقني إلا بسهام فلت حرابها.
علام تطيل النظر، وفي عينيك الساخرة بريق الألوهية أفما مللت عذاب بني الإنسان؟
أنت تمتنع عن القتل ولا تقصد إلا التعذيب، لماذا تعذبني أيها الإله الساخر المجهول؟ •••
آه، أراك تقترب مني زاحفا في الليل.
ماذا تريد؟ تكلم.
أراك تزحمني وتدفعني، ها أنت تلاصقني.
إنك تتنصت إلى حشرجة أنفاسي وخفقان قلبي.
فيا لك من حسود! وعلام تحسدني؟
اذهب عني ... اذهب عني ...
ما هذه السلم تحملها إلي؟ أتريد أن تعلو عليها لتلج قلبي؟
أتريد أن تنفذ إلى أغوار أفكاري؟
ارجع أيها المتطاول المجهول ... أيها السارق. •••
ما الذي تريد اختطافه؟ وما الذي تطلب سماعه؟
ما الذي تريد اختلاسه، أنت أيها المعذب؟
أنت أيها الإله الجلاد؟
أتريد أن أترامى كالكلب على قدميك؟
أتريد أن أتقدم ثاملا لا أعي زاحفا أحمل إليك غرامي؟ •••
إنك تضرب عبثا، فاضرب يا أقسى العتاة!
أنا لست كلبا! أنا لست فريسة لك، أيها الصياد!
أنا لست أسيرك، أيها اللص الملفع بالغمام.
تكلم أيها المتواري وراء السحب، تكلم أيها المجهول!
قل، ما الذي تطلبه مني، أيها الكامن لعابري السبيل؟ •••
أتطلب فدية؟ يا للغرابة!
وما هي الفدية التي تقتضيها؟
إن عزة نفسي تشير عليك بأن تطلب كثيرا.
غير أن عزتي الثانية تشير عليك بالإيجاز فيما تقول.
آه! إن ما تطلبه هو أنا بكليتي! •••
يا لجنونك! إنك ترهقني بتعذيبك، إنك تعذب عزتي.
أعطني المحبة ... من يدفئني ... من يحبني بعد؟
إلي بالأيادي الحارة ... إلي بالقلوب المتقدة.
أعطني ... أنا المنفرد المتشوق في الصقيع حتى إلى أعدائه.
أطلب إليك أن تستسلم لي، وأنت أقسى من يعاديني.
ولكنه توارى! توارى رفيقي الوحيد، أكبر أعدائي، الكائن المجهول، الإله الجلاد ... •••
لا ... لا تذهب، ارجع ... عد إلي بتعذيبك.
عد إلى آخر المنفردين فإن دموعي كلها تنهمر شوقا إليك، وآخر أشعة من فؤادي تترامى نحوك.
آواه. عد إلي يا إلهي المجهول، يا ألمي يا منتهى سعادتي!
2
وبلغت الثورة في زارا حدها؛ فرفع عصاه وأخذ يقرع بها الرجل الذاهب بنواحه وشكواه، قائلا له بضحكة ملؤها الغضب: توقف أيها المشعوذ، أيها المزيف، أيها الكذاب، لقد عرفت من أنت.
سألهب ساقيك فأنا أعرف كيف أعامل أمثالك، فانتصب الشيخ وصاح: توقف عن ضربي يا زارا، فإن ما شهدته مني لم يكن إلا مزاحا ولعبا، وما اللعب إلا فن من فنوني. لقد أردت أن أعرضك للتجربة، والحق أنك نفذت إلى أعماق سريرتي، فأبنت لي أيضا ما تنطوي أنت عليه، إنك لحكيم قاس يا زارا، وعصاك ذات العقد تضطرني إلى أن أقول لك إنك تجلد الناس بحقائقك جلدا.
فقال زارا - وهو لا يزال على حنقه: لا تداهن يا مشعوذ الأرواح، ما أنت إلا مظهر لا ينم على حقيقته فليس لك أن تذكر الحقائق بفمك.
بأي دور كنت تقوم أمامي يا طاووس الطواويس، أيها البحر الزاخر بالأباطيل، أيها الساحر المشئوم، أظننت أنني كنت مصدقا أنينك وشكاياتك؟
فقال الشيخ: كنت أمثل دور كفارة العقل، أفما أنت المخترع لهذا التعبير؟ فتكلمت بلسان الشاعر الساحر الذي ينقلب عليه عقله بعد تبدله لإدراكه فساد عمله وفساد ضميره.
أفما خدعت بتمثيلي يا زارا؟ وهل تكشف لك خداعي قبل أن آمنت بشقائي وألقيت راحتيك على رأسي؟ وقد سمعتك تقول آسفا: «لم يمتع من الحب إلا بالنذر اليسير.» فرقص شري حبورا في داخلي.
فقال زارا: لا ريب في أنك خدعت من قبلي من هم أقوى فراسة مني، وما أنا من يتحوط لنفسه تجاه المخادعين؛ لأن من واجبي ألا أحاذر أحدا، هكذا قضي علي.
أما أنت فقد قضي عليك بأن تخدع الناس، فما يخفى أمرك علي فأنا أعرفك وأعرف أن لكل كلمة من كلماتك معنيين بل ثلاثة وأربعة معان، حتى إن ما اعترفت به الآن ليس فيه الصدق كله ولا الكذب كله.
وهل بوسعك أن تكون على غير ما أنت عليه أيها الشرير الكاذب أيها المزيف، وأنت إذا ما وقفت عاريا أمام طبيبك يوما، فإنك لتجعل داءك نفسه يتنكر عليه، هكذا موهت أمامي كذبك نفسه ونكرته عندما قلت لي: إن ما شهدته مني لم يكن إلا مزاحا ولعبا، فقد ضمنت كذبك شيئا من الحقيقة وأنت شبيه من بعض الوجوه بالمكفر عن ذنوب العقل.
لقد تكشفت لي سريرتك، فأنا أراك بلغت من السحر ما تستهوي به الناس، ولكنك لا تجد من الكذب والرياء ما تستهوي به نفسك، لقد انكسر خيالك وعثرت آمالك؛ لأنك لم تجن غير الكره حقيقة لا حقيقة لك سواها، فأصبحت ولا كلمة صادقة عندك، فكل شيء مزيف فيك إلا شفتاك أو بالأحرى ما التصق بهما من كره أو اشمئزاز.
وصاح الساحر بصوت جلجلت الكبرياء فيه: من أنت يا هذا ليحق لك أن توجه إلي مثل هذا الخطاب، وأنا أعظم الأحياء في هذا الزمان؟
ونزل الساحر على زارا بنظرة التمعت بأشعتها الخضراء، ولكنه وجم بغتة وأردف قائلا بصوت حزين: آي زارا ... لقد تعبت من كل هذا ... لقد كرهت جميع فنوني فما أنا بالعظيم وما يجدي التظاهر شيئا، ولكنني طلبت العظمة كما تعلم، أردت أن أمثل دور الرجل العظيم؛ فتمكنت من اكتساب ثقة الكثيرين ولكن أكاذيبي تجاوزت طاقتي ووقفت دوني حائلا اصطدمت به فانحطمت.
أي زارا ... إن كل ما في أكاذيب بأكاذيب ... ولا حقيقة عندي سوى انحطامي.
فأجاب زارا وهو ينكث الأرض بنظراته: لقد كان طلبك للعظمة مشرفا لك وقد خانك مقصدك فما أنت بالعظيم.
إن ما أكرم فيك وما أراه خير صفة لديك هو تعبك من نفسك وهتفتك: «إنني لست عظيما.» لذلك أكرمك كمكفر عن العقل، وهب أن تكفيرك هذا لم يدم إلا لحظة واحدة فإنك كنت في هذه اللحظة صادقا.
ولكن قل لي ما أتيت تطلب هنا في غاباتي وبين صخوري، وإذا كنت انطرحت على طريقي لتلقاني فأي برهان قصدت نواله مني؟ بأية وسيلة أردت أن تنصب شرك تجربتك لي؟
هكذا تكلم زارا وعيناه تقدحان شررا، فوجم الساحر الشيخ، ثم قال: وهل حاولت تجربتك؟ ما كنت إلا مفتشا، وما أفتش عليه هو الإنسان الصادق المستقيم الإنسان الذي لا يظهر إلا ما يضمر، إن ما أطلبه هو إناء الحكمة الصادقة هو الرجل العظيم.
أفما تعلم يا زارا أنني أطلب زارا.
وساد السكوت على المتخاطبين، وأغمض زارا عينيه مستغرقا بالتفكير، ثم قبض على يد الساحر وقال له بكل تأدب: هنالك على المرتفع الطريق المؤدي إلى مغارتي، وفي هذه المغارة ستجد من تطلب، فإذا ما بلغتها سل نسري وأفعواني ليساعداك بالتفتيش في طولها وعرضها.
لا أكتمك إنني ما رأيت الرجل العظيم حتى الآن؛ لأن العيون لا تزال في خشونتها قاصرة عن تفحص أية عظمة، فإننا في عهد سيادة الشعوب.
ولكم رأيت من متعاظم يتمطى وينتفخ، والشعب يصيح حوله هذا هو الرجل العظيم، ولكن ما يفيد منفخ الحداد تمدده إذا كان الهواء لا يلبث فيه.
هكذا يخرج الهواء أيضا من الضفدع حين ينتفخ لينشق، وليس من لعبة أشد تسلية من غرز منصل في جلد منتفخ فاسمعوا هذا يا أبنائي: إن يومنا هذا يوم الشعوب فمن له أن يميز بين الكبير والصغير فيها، ومن له أن يطلب العظمة فيظفر بها غير المجانين، وهل من ظافر غير من فقد رشده.
أراك تفتش على الرجل العظيم أيها المجنون الغريب، فمن ترى أوعز إليك بهذا؟
أفي مثل هذا الزمان يوجد العظيم، أيها المراوغ؟
لماذا تحاول نصب شراكك أمامي؟
هكذا تكلم زارا وقد سلا همومه؛ فضحك وسار في طريقه.
المعتزل
وما سار زارا شوطا في طريقه حتى لاح له رجل كبير الهامة يتشح السواد جالسا على جانب السبيل وعلى وجهه نحول وشحوب، فأزعجه هذا الشبح، وقال في نفسه ويل لي إنني أرى قناع الأحزان، فهذا الرجل من طغمة الكهنة، وما يطلب هؤلاء الناس في مملكتي؟
لقد تخلصت من ساحر لأقع على مناج للأموات، على ساحر آخر يأتي بالعجائب بنعمة الله وهو يذم الحياة! فليت الشيطان يختطفه، ولكن الشيطان متغيب أبدا عند الحاجة إليه، وإذا ما لبى هذا الملعون الطلب جاء متأخرا.
وكان زارا يتمتم بهذه الكلمات وهو يفكر في وسيلة تمكنه من المرور أمام الرجل الأسود دون أن تقع أنظاره عليه، ولكن هذا الرجل لمح زارا من بعيد فنهض كمن يظفر بما يتوقع، وأسرع إلى ملاقاته قائلا له: أيها المسافر المتجول أيا كنت، أنجد هذا التائه الشيخ المعرض للمخاطر في هذه الأرجاء، إنني أسمع زئير الوحوش من كل جانب، وقد كان هنا رجل بوسعي أن ألجأ إليه ولكنه توارى وعبثا فتشت على مستقره، وهذا الرجل هو آخر الأتقياء، هو الناسك الصالح الذي لم تبلغ أذنيه الكلمات التي ذاعت بين الناس في هذه الأيام.
فقال زارا: وما هي هذه الكلمات؟ لعلها قولهم بأن الإله القديم الذي كانوا يؤمنون به من قبل قد مات.
فأجاب الرجل بلهجة حزينة: لقد قلتها وأنا قد خدمت هذا الإله حتى الساعة الأخيرة من حياته، وها أنذا أعتزل الآن ولا سيد لي ولكنني لم أنل حريتي؛ لذلك أصبحت ولا أمل لي بالسعادة إلا إذا تلمستها بأيامي الماضيات، وقد أتيت إلى هذه الجبال لأقيم شعائر الدين وأحتفل بالعيد على ما يليق برئيس أعلى وأب من آباء الكنيسة الأقدمين، فأنا هو آخر «البابوات».
ولكن الناسك الذي كان هنا، القديس الذي كان يسبح الله بصلواته وأناشيده قد مات، وقد فتشت عليه في كوخه فما وجدت إلا ذئبين يعويان أمام بابه نادبين، فقد كانت جميع الحيوانات تحن إليه في حياته، لذلك ذهبت في طريقي تائها وأنا مصمم ألا أعود بصفقة المغبون؛ فبدأت أفتش على رجل آخر هو في تقديري أتقى الجاحدين، بدأت أفتش على زارا.
قال الشيخ هذا وهو يحدج مخاطبه بنظرات حادة، فمد زارا يده وقبض على راحة الشيخ، وبعد أن قلبها وتفرس فيها مليا قال له: ما أجمل يدك أيها المحترم فإنها والحق يد تعودت أن تبارك، وها هي ذي الآن في يد زارا نفسه.
أنا هو زارا الجاحد القائل: أين أجد من يفوقني جحودا لأفرح بتعاليمه.
وأرسل زارا نظرا كالسهم يخترق عيني الشيخ سابرا أفكاره وما وراء أفكاره إلى أن قال الشيخ: ما فقد الله أحد بأكثر مما فقده من تناهى في حبه له وفاق الكل بامتلاكه انظر إلي، أفما ترى أنني أشد جحودا منك، ولكن من منا أشد سرورا بذلك من الآخر؟
وفكر زارا لحظة ثم قال: أخدمته إلى آخر حياته؟ إذن قل لي بأية ميتة قضى، أصحيح ما يقال من أن الرحمة قد قبضت على عنقه فأردته مخنوقا؛ إذ رأى الإنسان معلقا على الصليب فثقل عليه أن يصبح حبه للناس جحيما يورده الفناء؟
وسكت الشيخ وهو يتلفت ما حوله مرتعشا وقد اكفهر وجهه وبدت دلائل الألم عليه.
فاستمر زارا في كلامه: دعه وشأنه، دعه يذهب، فإنه هالك لا محاله، وأنت تعلم، وإن حق ألا يذكر الأموات إلا بالخير، إنه كان يتبع مسلكا غريبا.
فقال الشيخ: إذا لزم أن نتكلم بين ثلاثة عيون - وكان المتكلم أعور - عن أحوال الله وأموره، فأنا أحق بذلك لأنني أخبر من زارا بهذه الأمور بعد أن خدمت الله سنوات طويلة واستسلمت لمشيئته، وكم يعلم الخدام من أحوال ساداتهم ما يخفونها هم عن أنفسهم ...
لقد كان إلها خفيا ملفعا بالأسرار، وفي الحقيقة إن ابنه لم يأت إليه إلا عن الطريق الملتوي، لذلك كان الزنا أول مرحلة من مراحل الإيمان به.
1
من يسبح الله كأنه رب المحبة فقد قصرت مداركه عن بلوغ مرتبة الحب السامية، أفما أراد هذه الإله أن يقيم نفسه قاضيا؟ والمحب يجتاز أي حد من حدود العقاب والثواب.
لقد كان هذا الإله الشرقي في شبابه قاسيا تجول فيه روح النقمة فأوجد جحيما لتسلية صحبه، ولكنه شاخ مع الأيام فأصبح متراخيا رحيما وانقلب جدا بعد أن كان أبا، بل انقلب جدة هرمة تتداعى.
وجلس يوما قرب الموقد يصطلي وقد تجعدت أسارير وجهه وتقطب جبينه لشعوره بوهن رجليه، فأحس بتعبه من إرادته ومن العالم وما عتم حتى قضى مختنقا بعميم رحمته.
فاستوقفه زارا قائلا: أرأيت ذلك بعينك؟ فلقد يكون قضى على هذا الوجه كما يكون قضى بصورة أخرى، فإن الأرباب إذا ماتت تموت بأسباب متنوعة.
وعلى كل فأيا كان السبب، فإنه قد قضى، وشر ما أذكره به هو أنه كان يشوش علي أبصاري وأسماعي، فأنا أحب كل من صفت نظراته وكلماته، وقد كان هو - كما تعلم - على شيء مما تتصف به أنت أيها الكاهن الشيخ، وما يتصف به كل كاهن، فقد كان مبهما غامضا.
أفما كان في تفكيره كثير من الإبهام؟ ولكم ثار علينا بغضبه؛ لأننا لم ندرك غوامض أقواله، وكان الأجدر به أن يأتي ببيان صريح لا يحتمل تأويلا.
وإذا كانت آذاننا هي التي أساءت سماع أقواله فعلام جهزنا بآذان لا تحسن السمع؟ وإذا كان في آذاننا طين يسدها فمن ترى وضع هذا الطين فيها؟
ولكم انحطم من إناء تحت يد هذا الخزاف الذي لم يتم تعلمه ولم يتقن صنعته، فعلام ينتقم من مخلوقاته التي أبدعها، إذا كانت خرجت مشوهة من بين يديه؟
أفما كان هذا العمل خارجا على ما يليق؟ حتى إن اللائق نفسه في الرحمة هتف قائلا: أنقذوني من هذا الإله فخير لي ألا يكون لي إله فأتحكم في مقدراتي، خير لي أن أصاب بالجنون فأقيم نفسي إلها ...
عندئذ صاح الحبر القديم قائلا: ما أسمع منك يا زارا والحق أنك بلغت من التقوى ما لا تدرك مداه، فلا بد أن تكون لقيت إلها هداك إلى كفرك؛ لأن إيمانك نفسه قد صدك عن الاعتقاد بالله، ولسوف يقودك إخلاصك أخيرا إلى ما وراء الخير والشر.
لقد قدر لك أن تأتي بالبركة الأبدية بعينيك وبيدك وفمك، فليست اليد وحدها أداة للبركة.
إنك تحاول الظهور أمامي كأشد الناس كفرا، ولكنني أشتم منك عطر البركة المستمرة فأشعر منها بلذة يخامرها الألم. دعني أنزل ضيفا عليك ولو ليلة واحدة فليس في الأرض مكان أرتاح فيه ارتياحي بقربك.
واستولت الدهشة على زارا فقال: ليكن ما تريد، فهناك على القمة الطريق المؤدي إلى مغارة زارا، وكنت أود أن أذهب بك إليها، أيها المحترم، فإنني أحب جميع الأتقياء ولكنني مضطر إلى الإسراع نحو صوت تعالى مستنجدا بي.
اذهب إلى مغارتي حيث لا يتعرض أحد لضرر فهي ميناء السلام لكل قاصد، وأنا أود أن يستقر على أرضها الجامدة كل حزين.
ولكنني أرى نفسي أضعف من أن أبدد أحزان روحك، ولقد يمر زمان طويل قبل أن يجيء أحد بوسعه أن يقيم إلهك من الموت، وقد مات هذا الإله القديم ولن يحيا بعد.
هكذا تكلم زارا.
أقبح العالمين
وعاد زارا يتوغل في الأحراش وبين الجبال مرسلا أبصاره إلى كل جهة دون أن يعثر على الصارخ المستنجد، غير أنه كان يقفز في سيره فرحا وهو يقول: لقد كفر هذا النهار عن سيئات صباحه، فما أغرب من تحدثت إليهم في طريقي، ولسوف ألوك كلماتهم وأمضغها حتى أزدرها غذاء لنفسي.
ولما وصل زارا إلى منعطف سبيل تصده صخرة عالية انكشف له مشهد جديد رأى فيه نفسه في مملكة الموت؛ إذ صدمت أبصاره مهاو حمراء دكناء ليس عليها شجرة ولا نبتة ولا يسمع فيها صياح طير أو زقزقة عصفور، وقد نفر من ذلك الوادي كل ذي حياة حتى الوحوش فما كان يرتاده من حين إلى حين إلا الأفاعي الجسيمة الخضراء عندما كانت تحس بالهرم وتطلب الفناء، ولذلك دعى الرعاة هذا الوادي مقبرة الأفاعي.
وراودت مخيلة زارا تذكارات قديمة وشعر بأنه قد مر بهذا الوادي فيما مضى، فأثقل دماغه وبدا يتباطأ في سيره حتى امتنع عليه نقل قدميه فإذا به يفتح عينيه فجأة، فيرى على حافة الطريق شخصا له وجه إنسان وليس له من هيئة البشر شيء كائنا لا اسم له بين أسماء الكائنات، واستولى على زارا نوع غريب من الخجل، فاستحت عيناه مما رأتا فاحمر وجهه حتى منابت شعره الأبيض، فتولى وأراد أن يبارح هذا المكان فإذا به يسمع صوتا كالهدير أو كبفية المياه إذا سدت مجاريها، وما عتم حتى استحال هذا الصوت إلى نبرات تشبه الكلام وهي تقول: أي زارا ... أي زارا ... حل رمزي إذا قدرت وأعلن الحقيقة عن «الانتقام من الشاهد».
قف مكانك وتراجع إلى الوراء فالأرض متجلدة أمامك، حاذر أن ينزلق غرورك عليها فتنكسر قوائمه.
أنت تحسب نفسك حكيما يا زارا، فحل الرمز المعروض عليك، إذا كان لك أن تكسر أصلب القشور لاكتشاف نواتها فقل لي من أنا.
وما سمع زارا هذه الكلمات حتى هزه الإشفاق هزا؛ فهوى على الحضيض كشجرة توالت على جزعها ضربات الفئوس، ولكنه ما هوى حتى نهض وقد ارتسمت القساوة على وجهه فقال: لقد عرفتك يا هذا، فأنت قاتل الإله، دعني منك فأنا متول عنك، لقد ثقل عليك أن يكون هنالك من لا يزال ينظر إليك ويتفرس في قبحك، وأنت أقبح العالمين، فأقدمت على الانتقام من هذا الشاهد.
قال زارا هذه الكلمات وتحفز للسير، ولكن الكائن الذي لا اسم له تمسك برجليه وصاح به متمتما: لا تذهب، ابق هنا فقد عرفت ما هي الصدمة التي ألقتك صريعا، مرحى لك لأنك تمكنت من النهوض، لقد أدركت ما يشعر به قاتل إلهه، تعال واجلس إلى جانبي، إنك لن تضيع أوقاتك معي سدى؛ لأنني إذا لم أتوجه إليك فإلى من أتجه، اجلس ولكن لا تنظر إلي، فإنك لتكرم قبحي بإغضائك عنه.
إنهم يطهدونني، وقد أصبحت أنت الآن ملجئي الأخير، إنهم يطهدونني لا بحقدهم ولا بقوة جندهم وما تهمني هذه القوة، بل إنني لأفخر بمصادمتها لي وأسر، وهل في العالم نجاح يضاهي نجاح المطهدين مجدا؟ إن المطارد ينتهي بالمتابعة وهو الراكض دوما وراء متبوعة. إن ما يؤلمني منهم هو أنهم يطهدونني بإشفاقهم، وما أهرب إلا من هذا الإشفاق طالبا ملجأ في أكنافك، فاحمني يا زارا! إنك ملجئي الوحيد وقد نفذت سريرتي وعرفت ما يشعر به قاتل إلهه، ابق هنا وإذا ما أردت الارتحال أيها الرحالة اللجوج فلا تنصرف من الطريق التي اتبعتها أنا لأصل إلى هذا المكان، إنها لبئس الطريق.
لعلك لا تنقم علي لتوجيهي هذه الكلمات إليك ولإسدائك نصحي. إن أنا إلا أقبح العالمين، إن رجلي أضخم الأرجل وأثقلها فما مررت على طريق إلا ودمرتها.
لقد رأيتك متجها نحوي وأنت تقصد المرور بي خلسة ولاح الاحمرار على وجهك فعرفت أنك أنت زارا، ولو أن غيرك مر بي لكان نفحني بصدفة أو بذل لي إشفاقه بنظرة أو بكلمة، ولكنني كما عرفت لم أصل من التسول إلى درجة أرضى فيها بتصدق الناس علي.
إن لدي ثروة وافرة من العظائم بل من أقبحها وأفظعها؛ لذلك شرفني خجلك يا زارا.
وما توصلت إلا بشق النفس إلى التخلص من إزعاج الرحماء لأجد الإنسان الوحيد القائل في هذا الزمان بأن الإشفاق نقمة وليس نعمة، وهل من قائل بهذا سواك، يا زارا؟
إن الإشفاق إهانة للكرامة سواء أصدر من الناس أم من إله الناس، ولعل في حبس المعونة من النبل ما ليس في المسارعة إلى بذلها.
ولكن صغار البشر يحسبون أن في هذه المسارعة إلى الإشفاق فضيلة لا تضاهيها فضيلة، فهم لا يحترمون الشقاء إذا تعاظم ولا القبح إذا تناهى ولا التشويه إذا لم يبق ولم يذر.
إن أنظاري تمر على هؤلاء الرحماء كما يمر نظر الكلب على ظهور الأغنام المتزاحمة، فما أراهم إلا صعاليك ترمد صوفهم وامتلأت رءوسهم بأفكار الأنعام.
إنني أقف كالبجعة تحدج المستنقعات بنظرات الاحتقار لأرسل أنظاري على تدافع صغيرات الأمواج وكل إرادة واهية وكل نفس حقيرة.
لقد طال زمن الاعتقاد بهؤلاء الأصاغر، وأولاهم الناس الصواب حتى تولوا القوة وأصبحوا يقولون بأن لا خير إلا ما يرونه هم خيرا.
إن ما يعتبر حقيقة في هذا الزمان إن هو إلا ما علمه ذلك البشير الذي نشأ بين هؤلاء الصعاليك، ذلك القديس الغريب الأطوار الذي وقف مدافعا عن قومه وهو يشهد لنفسه قائلا : «أنا هو الحق.»
إن هذا المدعي قد أفسح المجال منذ زمان طويل لهؤلاء الصعاليك؛ فتطاولوا منتصبين على أظلافهم، إن هذا القائل أنا الحق قد علمهم ضلالا عظيما.
لقد أورد قوله هذا فما تلطف أحد تلطفك بالرد عليه يا زارا؛ إذ مررت أمامه وصحت به: لا ... لا ... وألف مرة لا ...
لقد حذرت الناس من ضلاله، فكنت أول المحذرين من الإشفاق، وما وجهت خطابك للمجتمع ولا للفرد، بل وجهته لنفسك ومن هم من مرتبتك، فأنت تبدي استحياءك من خجل الآلام العظمى فتقول: «كونوا على حذر أيها الناس، إن الغمامة الواسعة تمتد من منشأ الإشفاق.»
ثم تقول: «إن المبدعين قساة، والمحبة العظمى تتعالى فوق إشفاقها.»
أي زارا، لقد كنت مدركا إنذارات زمانك عندما نطقت بهذا.
ولكن عليك أن تحاذر أنت أيضا ما فيك من إشفاق؛ لأن كثيرين خرجوا على طريقهم يقصدونك، وما أكثر الغارقين ومن جمدهم الصقيع!
ولأدعونك حتى إلى الاحتراس مني، فإنك قد حللت لغزي من وجهتي حسنه وقبحه، وعرفت من أنا وما فعلت فعرفت من ذلك ما يمكنه أن يصدمك ويصرعك.
وعلى كل، فقد وجب على الإله أن يموت؛ لأنه كان يحدق بعين نافذة لا تخفى عليها خافية فيسبر أعماق الإنسان وأغواره مستكشفا جميع ما كمن فيه من قبح وعيوب.
لقد كان إشفاقه خاليا من الحياء، فكان يذهب هاتكا الأستار عن قبائح ذاتي، أفما حق على هذا الفضولي الرحيم أن يموت، أفما كان لي أن أنتقم ممن تحرش بخفاياي أو أختار الموت تخلصا منه.
إن إلها يرى كل شيء حتى الإنسان لأجدر به أن يفنى وما يحتمل الإنسان مثله شهيدا.
هكذا تكلم أقبح العالمين، فنهض زارا وقد أحس بالصقيع في أحشائه وقال: يا من لا يعرف ولا يسمى، لقد حولتني عن اتباع طريقك وأنا أدعوك مكافأة لك إلى اتباع طريقي، انظر إلى الذروة، هنالك مغارة زارا.
إن مغارتي متسعة مديدة كثيرة السراديب يجد فيها طالب الخفاء خباء، وعلى مقربة منها حفر وأوجار لكل حيوان من الزحافات والدبابات والأطيار، فاقتد بي يا من هجرت العالم وكرهت الحياة بين الناس، وأرهقك إشفاق الناس تعلم كما تعلمت أنا فلا يتعلم إلا العامل المختبر.
ليكن أول ما تتعلمه التحدث مع نسري وأفعواني؛ فالأول أعظم الحيوانات كبرا، والثاني أشدهم مكرا، فليكونا لك ولي خير من نستشير.
هكذا تكلم زارا وسار في طريقه وقد ازداد تفكيره إسراعا ومشيته تمهلا؛ إذ كان يسائل نفسه عن أمور كثيرة فلا يجد لها جوابا.
وقال في قلبه: ما أشقى الإنسان وما أقبحه مليئا بالضغينة والعيوب الخفية!
قيل لي إن الإنسان محب لذاته، فأية درجة يجب أن تبلغ الأنانية لتتغلب على ما في الذات من صفات حقيرة؟
لقد مررت الآن بكائن يحب ذاته وهو يحتقرها، فهو في نظري متناه في عشقه واحتقاره؛ لأنني ما عثرت قط من قبل بمثله كائنا يحتقر ذاته إلى هذا الحد، إن في مثل هذا الاحتقار تعاليا وسموا، ولعل هذا الإنسان هو الإنسان الراقي الذي أرسل بصرخة الاستنجاد.
إنني أحب رجال الاحتقار العظيم لأن على الإنسان أن يفوت ذاته ويتفوق عليها.
مختار التسول
وعندما بارح زارا أقبح العالمين أحس بوحدته، ومشى الصقيع في أعضائه لما مر في رأسه من أفكار غريبة لافحة، ولكنه ذهب يجد السير تارة على المراعي المخصبة المشرفة على البحر وطورا وراء الجبل حيث جف النهر، فانكشف مسيله الموحش تحف به الصخور، فتشددت عزيمته وعادت إليه حرارته فقال في نفسه: «لعلني على مقربة من إخوان لا أعرفهم يدورون في هذه الأرجاء، ولعل ما أحس به من أنس بعد الوحشة ومن حرارة بعد الصقيع يهب من أنفاسهم فتهش لها نفسي.»
وتطلع من موقفه إلى ما حوله فإذا به يرى قطيعا من الأبقار على مرتفع، فأدرك أن ما ضاع من لهاث هذه القطيع قد كان السبب في إنعاش قلبه.
وما أحست الأبقار بقدومه؛ إذ كانت موجهة انتباهها إلى خطاب كان يلقى عليها، وما تقدم زارا بضع خطوات حتى سمع صوت إنسان يرتفع من وسط الحلقة، وقد أدارت الأبقار رءوسها إلى مصدر الصوت فأسرع زارا إلى اختراق الحلقة ، فإذا برجل جالس على الحضيض يتكلم محولا كل جهده لإقناع الأبقار بألا تنفر منه.
وكان المتكلم أحد أنصار السلام ومن وعاظ الجبال المتصفين باللطف، وقد أشع العطف من عينيه.
وتقدم زارا وسأله بدهشة عما يفعل، فأجاب الرجل: إنني أطلب هنا ما تطلبه أنت، فأنا أفتش على سعادة الحياة، وقد أردت أن تعلمني الأبقار حكمتها، فمضت نصف الصبيحة وأنا أهيب بها إلى التكلم حتى كادت تنطق فأتيت أنت تكدر صفونا.
إذا نحن لم نرجع فنصير مثل هؤلاء الأبقار فلن ندخل ملكوت السماء ... لأن علينا أن نقتبس من الأبقار اجترارها.
والحق لو أن الإنسان ربح العالم كله، ولم يتعلم الإمعان في تفكيره كما تمعن الأبقار في مضغها، فأية فائدة له من الحياة؟ لأنه إذا لم يجتر بتفكيره فلا شفاء له من أشد أدوائه، وداء الإنسان العقام اليوم إنما هو داء الاشمئزاز، ومن من أبناء هذا الزمان لا تتقزز نفسه وعيناه وفمه، أفما أنت كسائر الناس يا هذا؟ انظر إلى الأبقار.
قال واعظ الجبل هذه الكلمات ثم أمعن النظر في زارا بعد أن كان يعلقه على أبقاره، فتغيرت سحنته وهتف قائلا: من هو من أخاطب؟
ونهض عن الأرض فجأة وهو يقول: هذا هو المتعالي عن كل اشمئزاز، هذا هو زارا بعينه، هذه عينه وهذا فمه وهذا قلبه.
وسارع إلى تقبيل يدي زارا وعيناه تفيضان بالدموع كأنه لقي كنزا أرسلته السماء، ووقفت الأبقار تنظر إلى الرجلين مندهشة حائرة.
وتباعد زارا قائلا: ما لك والتكلم عني، تحدث عن نفسك، أفما أنت من اختار التسول متخليا عن ثروته الكبرى، أفما أنت من رأى العار في الغنى وأربابه ففزع إلى الفقراء ينشر عليهم نعمته، ويجود عليهم بقلبه، فرده الفقراء خائبا؟
فأجاب المتسول: أجل لقد عدت بالخيبة فلجأت إلى هذه الأبقار، وأنت تعرف ذلك يا زارا.
فقال زارا: وهنا تعلمت فعرفت أن الإجادة في العطاء أصعب من الإجادة في الأخذ، وأن العطاء فن يتوقف إتقانه على إدارة العطف والتحكم في خطراته.
فقال المتسول: بخاصة في هذه الأيام التي ثار فيها كل سافل نفور متكبر مباهيا بطبقة الغوغاء التي ينتمي إليها، وما خفي عليك أن الساعة قد دنت لثورة طبقات المستبعدين وهي ثورة سيطول أمدها ومداها.
إن الصغار يتمردون على كل ما هو إحسان وتصدق، فلينتبه أرباب الثراء وليحذروا.
الويل لكل وعاء متضخم لا يتسرب ما فيه إلا قطرة فقطرة من فوهته الضيقة، فإن أعناق هذه الآنية معرضة للكسر في هذه الأزمان، وقد اصطدمت بالحسد الفاحش والشهوة الغاضبة والظمأ الدافع إلى الانتقام وبكل ما في الغوغاء من غرور، لقد كذب من قال: إن السعادة سائدة بين الفقراء من الناس، فما يتمتع غير الأبقار بملكوت السماء.
وسأل زارا: ولماذا لا يتمتع الأغنياء بالملكوت.
فأجاب المتسول: لماذا تجربني يا هذا وأنت أدرى بالأمر مني، وهل فزعت إلى الفقراء إلا كرها لأغنيائنا؟ وهم أسرى أموالهم وعبيدها وهم ذوو العيون الباردة والقلوب التي تقرضها شهوة الإثراء فتوحي إليهم بكل وسيلة يستغلون بها أية كومة من كوم الأقذار، أفما هربت من هؤلاء الناس وسفالتهم الصارخة بوجه السماء، كما هربت من الطبقة الموشاة بالذهب والمزورة تزويرا المتحدرة من جدود كانت أصابعهم مخالب من حديد فعاشوا عقبانا أو جامعي خرق، من الطبقة التي ماتت النخوة في رجالها فسرحت نساؤها فاحشات سائبات لا فرق بينهن وبين البائحات في المواخير.
لقد رأيت الغوغاء في الطبقة العليا كما رأيتها في الطبقة الدنيا، فلا فرق بين الأغنياء والفقراء في هذا الزمان؛ لذلك هربت وأمعنت في الهرب حتى أدى بي المطاف إلى هذه الأبقار.
هكذا تكلم رسول السلام والعرق يتصبب منه لاندفاعه بتيار خطابه، فوجمت الأبقار مضطربة، غير أن زارا كان لا يزال يحدق بالمتسول وهو يبتسم حتى إذا وقف عن الكلام قال له: لقد أجهدت نفسك بعنف خطابك فما لفمك أن يتفوه بهذه الكلمات الجافية وما لأذنيك أن تسمعاها، وما أرى معدتك نفسها قادرة على هضمها وتحمل مثل هذا الغضب المتدفق، فمعدتك بحاجة إلى غذاء أخف وما أنت بالرجل الشره، ولعلك من أكلة الأعشاب والبقول تحب مضغ الحبوب ولعق العسل .
فقال المتسول: لقد أصبت فأنا أحب العسل وأمضغ الحبوب فأفتش على ما لذ طعمه وطابت نكهته، وما يساعد بمضغه على إمرار الزمان شأن الكسالى وليس أمهر في الاجترار من الأبقار فهي التي اخترعته كما اخترعت التمدد تحت شعاع الشمس فتخلصت من كل تفكير جدي عميق مضخم للقلب.
فقال زارا: إذن عليك أن تشاهد نسري وأفعواني فليس لهما على الأرض نظير، تلك هي الطريق المؤدية إلى مغارتي فانزل فيها ضيفا علي هذا المساء لتتحدث مع النسر والأفعواني عن سعادة الحيوانات، وهنالك تنتظرني إلى أن أعود لأن صوتا استنجدني من بعيد وأنا ذاهب إلى مصدره، ولسوف تجد في المغارة عسلا جديدا أخذ من القفران الذهبية وهو بارد كالثلج فلك أن تأكله.
استأذن أبقارك الانصراف أيها الرجل الغريب، فإنها خير من أخلص لك وأصدق من علمك الحكمة.
فقال المتسول: ما هي أخلص وأصدق منك يا زارا، فأنت بطيبة قلبك خير من الأبقار.
فقال زارا: سحقا أيها المداهن! لماذا تقصد إفسادي بمعسول القول والثناء؟
اذهب بعيدا عني.
ورفع زارا عصاه غاضبا فأسرع المتسول بالهرب.
الظل
وما توارى المتسول وشعر زارا بانفراده، حتى سمع صوتا آخر يهتف به من ورائه قائلا له: توقف وانتظرني، أنا ظلك يا زارا.
ولكن زارا لم يصخ سمعا وقد أزعجه أن تكون جباله آهلة بمثل هذا العدد من الناس، وتساءل عما آلت إليه عزلته فقال: إن مملكتي ليست من هذا العالم فلأذهبن مفتشا على جبال جديدة.
ها إن ظلي يدعوني، ولكن ما يهمني هذا الخيال وعليه هو أن يتبعني، أما أنا فأهرب منه.
ومشى زارا فإذا به يرى المتسول يركض أمامه وظله يجد في السير من ورائه، غير أن زارا أدرك أن الجنون كاد يستولي عليه، فوقف فجأة ينفض عن نفسه ما علق بها من كيد واحتقار، وهو يقول: أفما يتعرض أمثالي القديسون الشيوخ إلى أغرب الحادثات؟
والحق أن جنوني قد تزايد في هذه الجبال، وها أنذا أسمع قرقعة ستة أقدام حكمها الجنون.
لا حق لزارا أن يخاف من خيال فيسطو عليه الوهم حتى يرى رجلي خياله أطول من رجليه.
ووقف بغتة والتفت إلى ورائه، فإذا بظله يصطدم به فيكاد يسقط إلى الأرض، وتفرس في هذا الخيال فساده الرعب كأنه يرى شبحا من وراء القبور لما رأى من هزاله وهرمه، وصرخ قائلا: من أنت؟ ولماذا تدعي أنك ظلي، ومنظرك لا يروقني؟
فأجاب الظل: اعذرني إذا أصررت على ما أدعي، وإذا كان حالي لا يروق لك، فإنني أهنئك على حسن ذوقك، ما أنا إلا جوابة آفاق أقتفي خطواتك منذ زمن بعيد فأذهب على طريق لا تنتهي عند حد، ولا مسكن لي فكأنني اليهودي التائه إلى الأبد بالرغم من أنني لست يهوديا ولا خالدا.
لماذا قضي علي أن أبقى دائما على سفر دون قرار فتحملني عواصف جميع الأرياح، حتى تعبت من ذرع هذه الكرة الأرضية التي لا أول لها ولا آخر.
ليس من سطح لم أنطرح عليه كالغبار المتهاوي بعد ثورته على المرايا وزجاج النوافذ، وكل شيء ألمسه يختلس مني، ولا آخذ منه شيئا فها أنذا ناحل وأكاد أكون هباء.
أنت يا زارا متبوعي الذي سرت وراءه ولم يرني، خفيت عنك ولكنني كنت أصدق ظل لك فما حططت رحالك مرة إلا وحططت قربك رحالي، ثم هببت معك أجول في أبعد العوالم وأشدها صقيعا كالأشباح يلذ لها أن تنطرح على السطوح المثقلة بالثلوج.
ذهبت في إثرك متشوقا إلى كل محظور بعيد وإلى كل شر، فإذا كنت اكتسبت من الفضائل شيئا فما اكتسبت إلا اقتحامي كل ممنوع، وفي إثرك حطمت كل ما كان يعبده القلب، وقلبت كل معالم الحدود ومحوت كل الصور وأنا أتهافت على أشد الشهوات خطرا، والحق أنني ارتكبت هذه الجرائم كلها، وفي إثرك أيضا فقدت ثقتي في معاني الكلمات وفي الشرائع المقدسة وفي الأسماء العظمى، أفما يبدل الشيطان اسمه كلما استبدل جلده، وهل الأسماء إلا جلود، بل لعل الشيطان نفسه جلد ليس إلا.
وكنت أحث نفسي على السير فأقول: «لا حقيقة في الوجود وكل شيء جائز.» فاندفعت أشق برأسي وقلبي أشد المياه صقيعا، ولكم خرجت بعدها عاريا، وقد لوح الصقيع جلدي بناره.
ويلاه! ماذا فعلت بالعطف وبالحياء وبالإيمان بالصالحين؟ وأين توارى الطهر الكاذب الذي كنت أتشح به من قبل، طهر الصالحين في أكاذيبهم الشريفة؟
لكم اتبعت الحقيقة وأنا أترسم خطاك فرجعت الحقيقة إلي لتصفعني على وجهي، وما لمست الحقيقة حين لمستها إلا عندما كان يلوح لي أنني أقول الكذب.
لقد انجلت أمور كثيرة أمامي لذلك لم يعد لي شيء، وكل ما أحببته قد مات فكيف يسعني أن أحب نفسي بعد؟!
إن ما أريده هو أن أعيش كما أشتهي وإلا فخير لي ألا أعيش، وتلك هي أيضا إرادة أقدس الناس ولكن أنى لي أن أجد لذة بعد، وقد اضمحلت مقاصدي وأهدافي وليس أمامي من ميناء ينطلق إليه شراعي.
ما تهمني الريح المناسبة؟ وهل لمن لا يعرف وجهته أن يراقب مهب الرياح؟!
لم يبق لي غير قلب متعب وقح، وإرادة لا قرار لها، وجناح مهيض، وظهر تفككت فقراته.
لقد فتشت على مسكني فأشقتني محاولتي، وأنت تعلم يا زارا، أي شوق أكابده من أجله!
أين هو هذا المقر؟ لقد طلبته فما وجدته، فهو أبدا في كل مكان وأبدا لا مكان له، بل هو العبث الأبدي.
هكذا تكلم الظل فارتسم الأسى على وجه زارا فقال: أنت هو ظلي، وما الذي تقتحمه من هينات المخاطر، أيها الروح المطلق المتجول، لقد كان يومك ثقيلا عليك فاحذر أن يكون مساؤك أشد إرهاقا.
إن التائهين أمثالك يعثرون على سعادتهم أخيرا ولو في سجن من السجون، أفما رأيت كيف يرقص السجناء على جرائمهم وقد بلغوا الأمان.
احذر أن يتسلط عليك إيمان جديد يضيق عليك المجال بأوهامه القاسية؛ لأنك منذ الآن معرض لاستهواء كل ضيق شديد.
لقد غاب هدفك عنك، فكيف تقدر على الذهاب في حزنك أو بلوغ السلوان وقد ضللت طريقك، فيا لك من خيال تائه وفكر شريد، فإذا ما أردت الراحة في ملجأ هذا المساء، أيها الفراش المنهوك، فاصعد إلى مغارتي.
ذلك هو الطريق المرتفع المؤدي إليها، وها أنذا أبتعد عنك؛ لأنني أشعر بشيء كالظل يثقل علي.
سأذهب راكضا وحدي لأتبين النور ما حولي، فإلى مغارتي هذا المساء؛ لأننا سنحيي ليلة راقصة هناك.
هكذا تكلم زارا.
في الظهيرة
وذهب زارا راكضا في سبيله فلم يصادف عليه أحدا، فلذ له الانفراد بنفسه واستغرق مفكرا ساعات طويلة بما يسره وإذ تكبدت الشمس السماء مرسلة أشعتها عموديا على رأس زارا رأى أمامه شجرة هرمة تعقدت أغصانها وقد التفت عليها جفنة كرم طوقتها من كل ناحية حتى اختفى جزعها، وتدلت من أعاليها العناقيد صفراء ناضجة فأهاب الظمأ به ليمد يده ويقتطف عنقودا يطفئ أواره، ولكنه أحس بحافز آخر يدعوه إلى التمدد تحت ظل الدالية طلبا للراحة والنوم، فانطرح على العشب وما عتم حتى نسي ظمأه فاستسلم للوسن ولكن عينيه بقيتا مفتوحتين تحدقان بجفنة الكرم والشجرة وقد شاقه عشقهما، فقال في نفسه: سكوتا ... لعل العالم قد أكمل الآن فإنني أشعر بما لا عهد لي به من قبل.
أحس بالوسن يهب علي كنسمات تخطر على مويجات البحر اللامعة، فهو لا يغمض أجفاني بل يترك لروحي انتباهتها، ولكنه يتوغل فيها فكأنها تتمدد وتتسع مجالاتها وقد أضناها التعب فهل حان مساء يومها السابع في وسط النهار؟
إن روحي الغريبة تنطرح ممددة بطولها فكأنها بعد أن ذاقت ألذ الأشياء لا يحلو لها الأسى بعد فهي تبدي امتعاضها.
وها هي تلتصق بالتراب كقارب دخل فرضته متعبا من أسفاره على البحار المجهولة، أفليست اليابسة أصدق من غادرات البحار؟
إنها تستغني عن حبل يشدها إلى مرساها فخيط عنكبة يكفيها ليصلقها بترابها.
ها أنذا كالقارب في فرضته أرتاح على التراب الأمين مشدودا إليه، بأوهى الخيوط.
يا لسعادتي! علام لا ترفعين صوتك بالإنشاد يا نفسي وأنت منطرحة على العشب في الساعة التي لا يعزف فيها راع على شبابته؟
لا ... لا تنشدي! إن حر الظهيرة يرتاح على المروج فاحفظي الصمت يا نفسي؛ لأن العالم قد أكمل.
لا ... لا تنشدي! إن عصافير المروج نفسها صامتة لا تزقزق، انظري! هذه الظهيرة الهرمة راقدة تحرك شفيتها، أتراها ترتشف قطرة من السعادة؟ قطرة معتقة من الخمر الذهبي تحمل السعادة إلى هذه الظهيرة فتبتسم! سكوتا، إنها لابتسامة الآلهة.
كنت أعتقد من قبل وأنا أحسبني حكيما أن السعادة تنشأ من أقل الأسباب، ولكن الزمان علمني أنني كنت مجدفا وأن مجانين الحكماء لا يرتكبون مثل هذا الخطأ.
لقد عرفت الآن أن على الأقل من القليل يتوقف خير الشعور بالسعادة؛ لأنها تقوم على ألطف الأشياء وأعمقها صمتا، على حركة حرباء بين الأعشاب، على لفحة نسيم، على لحظة سكوت، على طرفة عين.
ماذا جرى لي؟ تنصتي يا نفسي؛ هل توارى الزمان؟ أتراني أهوي ساقطا في غور الأبد.
أحس بطعنة في صميم قلبي: فانحطم أيها القلب، خير لك أن تقف عن نبضاتك بعد أن شعرت بهذه السعادة وبعد أن نزلت الطعنة النجلاء عليك.
يا للعجب ألم يكتمل العالم الآن أفما أتم استدارته ونضوجه؟ إلى أين تطير هذه الأكرة المذهبة؟ وهل أنا ذاهب وراءها؟
سكوتا ...!
وعندها أحس زارا بأنه نائم فتثاءب وشدت به عضلاته، فقال في نفسه: انهض أيها الكسلان النوام! أف لكما أيها الساقان الهرمان، لقد دهمنا الوقت وأمامكما شقة طويلة بعد.
لقد نمت مدة تبلغ نصف الأبد يا هذا فانهض، انهض أيها القلب الشيخ، فلقد تحتاج إلى زمن طويل لتعود إلى انتباهك بعد هذه الرقدة.
وتسلط النعاس على زارا ثانيا فانطرحت روحه بالرغم منه تطلب الراحة قائلة: اسكت ودعني أفما أكمل العالم! يا لجمال هذه الكرة المذهبة.
وصاح زارا بروحه: انهضي أيتها الكسولة، أيتها المختلسة، ما لك تتثاءبين وتزفرين وتتهاوين إلى الأغوار.
من أنت أيتها الروح؟
وانتفض زارا مذعورا؛ إذ وقعت أشعة من الشمس على وجهه.
وصاح: أيتها السماء المنبسطة فوقي، إنك تنظرين إلي وتصغين إلى روحي الغريبة.
أي متى تتشربين قطرة الندى التي تساقطت على كل شيء في هذا الوجود؟ أي متى تتشربين هذه الروح الغريبة؟
أيتها الأغوار الأبدية، أيها القاع المليء جزلا، أيتها الظهيرة التي يرتعش لها كل شيء، أما آن لك أن تتشربي روحي فتندغم فيك؟
هكذا تكلم زارا ونهض من مرقده تحت الشجرة كأنه يفيق من سكره، فإذا بالشمس لا تزال في كبد السماء فعرف أنه لم ينم إلا زمنا قصيرا.
السلام
وكان العصر قد خطا خطوة كبرى نحو المساء عندما بلغ زارا مغارته بعد طول المسير، وبعد أن ذهب جهده في التفتيش على المستنجد عبثا.
ولكنه ما أصبح على قاب عشرين قدما من مسكنه حتى وقف مذعورا؛ إذ سمع صوت الاستنجاد يدوي في أذنيه وازدادت دهشته؛ إذ تأكد أن الصوت خارج من مغارته نفسها، غير أن الهتاف كان يصل إليه كأنه هتافات عديدة يدفعها فم واحد.
وأسرع زارا فولج مغارته فإذا هو ماثل أمام جميع من التقاهم في طريقه: ملك الميمنة وملك الميسرة والساحر الشيخ ورئيس الأحبار والمتسول والظل وضمير العقل والعراف الحزين والحمار.
وكان أقبح العالمين واضعا تاجا على رأسه وملتفا بدثارين من القرمز؛ لأن هذا الرجل كان يحب أن يتنكر ويتجمل ككل قبيح.
وكان نسر زارا منتصبا بين هذا الجمع، وقد انتفش ريشه ولاح الاضطراب عليه لاضطراره إلى إبداء الجواب على مسائل تنال من غروره وكان الأفعوان ملتفا حول عنقه.
ودهش زارا مما رأى وذهب نظره يتفرس في كل وجه من وجوه ضيوفه ويطالع صفحات نفوسهم، وكان هؤلاء الضيوف وقفوا عن مقاعدهم وكل منهم ينتظر بخشوع خطاب زارا.
وبعد صمت قصير قال زارا: ما كان صوت الاستنجاد إلا صوتكم إذن ... فأنا أعلم الآن أين يجب أن أفتش على الإنسان الراقي.
إنه جالس في مغارتي هذا الإنسان، وما أعجب لهذا لأنني أنا دعوته، وأهبت به للحضور وقد وعدته بالعسل والسعادة، ويلوح لي أنكم لا تتصلون إلى الاتفاق فيما بينكم، فكل منكم يسبب الكدر لرفاقه وأنتم مجتمعون هنا في حين أنكم تستنجدون بصوت واحد فأنتم بحاجة إلى من يعيد ضحككم إليكم، إلى رجل مرح رقاص استولى عليه الجنون.
اغتفروا لي هذه اللهجة التي لا تليق بضيوف مثلكم يستسلمون لليأس، ولكنكم لا تعلمون ما يشدد العزم في قلبي، إن مشهد اليائسين يدفع بكل إنسان إلى محاولة مواساتهم وتعزيتهم وهذا ما أشعر به الآن، وأنا مدين لكم بهذا الشعور؛ لذلك أقدم لكم ما أملك، فانزلوا على الرحب في مغارتي هذا المساء وليقم نسري وأفعواني بخدمتكم.
ولكن عليكم أن تردوا عنكم كل يأس فأنتم في منزلي حيث يسود الاطمئنان والسلام.
فأنا إذن أقدم لكم الأمان أولا، ثم أقدم لكم خنصر يدي؛ لأنكم إذا ما قبضتم عليه تقبضون على ساعدي، فأنا لا أتردد في تقديم قلبي لكم، فأهلا وسهلا بكم.
هكذا تكلم زارا وهو يضحك ضحكة الحب والشر، فانحنى الضيوف يردون السلام بإجلال واحترام وتكلم ملك الميمنة باسم الجميع قائلا: لقد عرفنا أنك أنت زارا من طريقة تقديم يدك، وإهداء سلامك لقد تواضعت أمامنا حتى كدت تخجل حرمتنا لك، وما سواك من يعرف التواضع فيقف منه عند حد العزة، فقد أتيتنا بقدوة تصلح من أخلاقنا فتسدد نظرنا وتشدد قلبنا.
إننا لن نتردد في تسلق جبال أعلى من هذا الجبل؛ إذ كان من اعتلائنا ما يبسط أمامنا مشاهد تقشع الغشاء عن العيون وتجعل بصرها حديدا.
لقد انقطعنا الآن عن الصراخ في طلب النجدة؛ لأن قلوبنا قد تفتحت وامتلأت حبورا ونكاد نستعيد قوانا وشجاعتنا.
أي زارا، ليس في الأرض شيء أدعى إلى السرور كالإرادة القوية السامية، فهي أشرف ما ينبت التراب، فإذا ما نمت دوحة واحدة من هذا النبات سرت القوة في كل ما حولها من حدائق ومروج.
إن من يعلو مثلك يا زارا لشبيه بشجرة الصنوبر ترتفع صامتة فريدة صلبة العود وتمد فروعها القوية الخضراء كأنها تريد اللحاق بما تنشر من سيادة، وكأنها تستنطق الرياح والعواصف وكل ما يبدو على الذرى العاليات، وإذا ما أرسلت جوابا أرسلته بنبرة عالية ظافرة آمرة.
من يتردد في تسلق الذروة ليشاهد مثل هذه الدوحة؟ إن كل من يسوده الأسى القاتم يطرح عنه الاستسلام إليه إذا هو نظر إلى دوحتك يا زارا، وفي النظر إليك طمأنينة من لا قرار له وشفاء القلوب الحائرة.
والحق أن عيونا كثيرة تتجه اليوم نحو جبلك ودوحتك، وقد تنبهت الأشواق إليك وقد تساءل الكثيرون عن حقيقة زارا، وجميع من وصلت معسولات أناشيدك إلى آذانهم، جميع المنفردين أفرادا وأزواجا يقولون: أترى لم يزل زارا في الحياة؟ إذا نحن لم نعش معه كانت الحياة باطلة لا خير فيها، لماذا لا يجيء إلينا بعد أن أعلن قدومه طويلا، أذهب فريسة عزلته، أم علينا أن نسعى نحن إليه.
إن العزلة نفسها قد تراخت وتفككت في هذا الزمان فكأنها قبر ينشق عمن ثوى فيه، ففي كل بقعة بعث ونشور.
وها إن الأمواج تتعالى حول الجبل وبالرغم من ارتفاع ذروتك لقد حق على الكثيرين أن يرقوا إليك، وقد حان الزمن لإطلاق سفينتك من مأواها.
إذا كنت ترانا الآن أمامك نحن من حكمنا اليأس فتغلبنا عليه الآن، فما ذلك إلا دليل على أن من هم خير منا قد خرجوا إلى طريقهم متجهين إليك، إن البقية الأخيرة من أتباع الله بين الناس يسيرون إليك أيضا وهم من تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا، هم من لا يريدون الحياة إلا إذا أعطي لهم أن يتدربوا على الأمل، إلا إذا تعلموا منك الأمل الأعظم يا زارا.
هكذا تكلم ملك الميمنة وقد قبض على راحة زارا قاصدا تقبيلها، ولكن زارا تراجع عنه، وابتعد عن الجميع في صمته العميق، ثم عاد إليهم يحدجهم بلفتاته الخارقة لسرائرهم فقال: أيها الرجال الراقون، أيها الضيوف، أصغوا إلي إنني سأخاطبكم بالألمانية وبكل صراحة فأقول لكم: إن من أنتظر قدومه إلى هذه الجبال ليس أنتم.
فقال ملك الميسرة: إنه سيخاطبنا بالألمانية وبصراحة ... أفلا يتضح أن هذا الحكيم الشرقي لا يعرف من هم الألمان، وكان الأجدر به أن يقول سأخاطبكم بالألمانية الخشنة، وما هي بأقبح ما في هذا الزمان.
فأردف زارا قائلا: لقد تكونون جميعكم رجالا راقين أما أنا فلا أراكم بلغتم ما يستلزمه التفوق من العظمة والقوة، هكذا أنتم في تقديري أو بالحري في تقدير الإرادة الصارمة الكامنة في نفسي وهي صامتة الآن ولكنها لن تسكت أبدا. لقد تكونون من أتباعي ولكنكم لستم مني في مقام ساعدي الأيمن؛ لأن من يمشي على أرجل مريضة كأرجلكم يحتاج إلى عناية ومداراة سواء أعرف نفسه أم خفيت حاله عليه، وأنا لا أداري ساعدي ولا رجلي ولا أداري المجاهدين تحت إمرتي، فكيف تقتحمون ما أصلي من معارك؟!
إذا أنا اعتمدت عليكم عرضت للفشل انتصاري؛ لأن أكثركم ينطرح صريعا لأول قرعة تهدر بها طبولي.
ما أنتم من البهاء على ما أرجو، ولا من النسب على ما أطلب، وأنا أطلب المرايا الصافية لأعكس عليها تعاليمي، فإذا ما انعكست صورتي على مراياكم جلتها مشوهة للناظرين.
إن كواهلكم مثقلة بعديد الأحمال وبخيالات الزمان المنصرم، وفي خباياكم شرور كثيرة ففيكم من الغوغاء خصال مستترة، فأنتم وإن صلحتم وحسن أصلكم لا تزال فيكم عيوب عديدة وأمهر حداد لا يسعه تقويم اعوجاجكم.
ما أنتم إلا جسور يعبر عليها من هم خير منكم، ما أنتم إلا مدارج يرقاها المتجه إلى الاعتلاء فوق ذاته، وعليكم أن تلينوا له ظهوركم، لقد يولد منكم يوما من يصبح وارثا لي، ولكن هذا اليوم لا يزال بعيدا في مجال الزمان، أما أنتم فما لكم أن تحملوا اسمي ولا أن ترثوا خيراتي في هذه الحياة.
لستم أنتم من أنتظر هنا في هذه الجبال، لستم أنتم من سأستصحب عندما أهبط بين الناس للمرة الأخيرة، فما أنتم إلا طليعة القادمين إلي وهم أعظم منكم؛ لأنهم من غير من تناهى فيهم الشوق والكره والتخمة من الدنيا ومن غير الفئة التي تدعونها البقية الأخيرة من أتباع الله على الأرض.
لا ... وألف لا ... إنني أنتظر سواكم هنا على جبالي العالية، ولن أتحرك للخروج إلى العالم قبل أن يصلوا إلي، فهم أرفع منكم وأقوى، هم رجال المرح الأصحاء من رأسهم إلى أخمص أقدامهم، ولا بد أن يأتي إلي هؤلاء الأسود الضاحكون.
أفما بلغكم أيها الضيوف خبر أبنائي وهم قد خرجوا على طريقهم يقصدون مقري؟
حدثوني عن حدائقي وجزري السعيدة، حدثوني عن نوعي الجديد، لماذا لا تحدثونني عن كل هذا؟
أستحلفكم بحق ضيافتي لكم أن تذكروا لي أبنائي، فما جمعت الثروة إلا لهم، وما تحملت للفقر إلا من أجلهم فامتنعت عن العطاء.
إنني أفدي بكل شيء هؤلاء الأبناء وهم النبت الحي، أدواح الحياة المجسمة لأعز آمالي.
وتوقف زارا فجأة عن الكلام لتغلب شوقه عليه فأغمض عينيه، وأطبق فمه متنصتا لخفقان فؤاده.
وساد الصمت جميع من في الغار غير أن العراف الشيخ أخذ يرسم بيديه إشارات غريبة.
العشاء السري
وتقدم العراف كمن عيل صبره وقبض على يد زارا قائلا: ولكن ... أفما أنت القائل: إن بعض الأمور مقدم على بعض، أفما دعوتني إلى تناول الطعام وهنا من قطعوا شوطا بعيدا للوصول إليك، فهل ترى أن تشبعنا كلاما؟
لقد تحدثتم كثيرا عن الموت بردا وغرقا واختناقا، ولكن لم يذكر أحد منكم بليتي أنا وهي الخوف من الموت جوعا.
وما سمع النسر والأفعوان هذا الكلام حتى سادهما الرعب فهربا؛ إذ تأكدا أن كل ما جمعاه منذ الصباح حتى المساء لن يكفي لإشباع العراف وحده.
وأردف العراف قائلا: ولم يذكر أحد منكم الخوف من الموت عطشا، أما أنا فبالرغم من أنني سمعت تدفق الفصاحة كالنهر فإنني لا أرتوي منها بل أطلب خمرا؛ لأن الخمر وحده يرتجل الصحة ارتجالا ويقضي على المرض بالشفاء العاجل.
وبينما كان العراف ذاهبا في كلامه يطلب خمرا كان ملك الميسرة يقول: لقد تداركت الخمر فأحضرنا منه حملا ولكن الخبز ينقصنا.
فضحك زارا وقال: إن المنفردين لا خبز لديهم، ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بلحم الخراف أيضا ولدي خروفان، فليذبحا وليعدا ليعطرا فإنني أحب لحم الخروف معطرا، ولدي أيضا أعشاب وأثمار تكفي أهل الشراهة، وأهل الذوق وعندي من الجوز وسائر المغلقات ما يشغلنا كسره وكشف خفاياه.
سنجلس عما قليل لنتناول خير غذاء، ولكن على الجميع أن يمدوا سواعدهم للعمل وليشتغل الملكان كالآخرين؛ لأن زارا وهو ملك يمكنه أن يكون طباخا أيضا.
وفرح الجميع بهذا الاقتراح ما عدا المتسول المتطوع الذي كان يأنف من اللحوم والخمور والتوابل، فقال: اسمعوا ما يقول زارا في شراهته! فهل يتسلق الإنسان الجبال ليتنعم بوليمة؟ وإنني لأفهم الآن ما كان يقصد بتعليمه؛ إذ قال: ليكن الفقر مباركا، وأدرك لماذا يريد إفناء المتسولين.
فقال زارا: كن مرحا مثلي يا هذا واحتفظ بما تعودته امضغ حبوبك واشرب ماءك وامتدح طبخك إذا كان هذا يورثك الحبور، فما أنا أمثل الشريعة إلا لأتباعي ولي، ولست شريعة للناس أجمعين، ولكن من أراد أن يتبعني فعليه أن تقسو عظامه وتخف رجلاه، عليه أن يكون فرحا في الولائم فيطرح عنه الهموم ويبقى مستعدا لاقتحام الصعاب قويا صحيحا.
إن خير ما في الأرض لي ولأتباعي وإذا منع عنا أخذناه عنوة واقتدارا، لنا ألذ غذاء وأنقى سماء وأقوى الأفكار وأجمل النساء.
هكذا تكلم زارا، ولكن ملك الميمنة أجابه قائلا: أليس من الغريب أن يقول حكيم بمثل هذا القول الصواب؟! والحق لمن الغرابة بمكان أن يجمع الحكيم بين الأمرين ولا يكون حمارا.
هذا ما قاله ملك الميمنة وهو يبدي دهشته فأمن الحمار على قوله بالنهيق، وهكذا بدأت هذه الوليمة الطويلة التي دعيت بالعشاء السري في كتب التاريخ، وما دار حديث أثناء هذا العشاء إلا على الإنسان الراقي.
الإنسان الراقي
1
عندما جئت إلى الناس لأول مرة أتيت الجنون الأعظم الذي يرتكبه المنعزلون، فوقفت على الساحة العمومية، ووجهت الخطاب إلى الكل فكأنني ما كلمت أحدا، غير أنني أمسيت ورفاقي حبال وجثث أموات، بل كنت أنا نفسي جثة باردة.
ولكن عندما انبثق الصبح الجديد تبلجت لعيني حقيقة جديدة علمتني أن أقول: «ما لي وللساحة العمومية ولعامة الناس ولضجتهم وآذانهم الطويلة!»
أيها الرجال الراقون، تعلموا مني قولي: لا يؤمن أحد في الساحة العمومية بالإنسان الراقي، وإذا شئتم أن تتكلموا على هذه الساحة كما تشتهون فإن العامة تتغامز قائلة: «إننا جميعنا متساوون.»
أيها الرجال الراقون، إن طبقة الشعب تنكر الإنسان الراقي فهي ترى الناس على اختلاف طبقاتهم إنسانا واحدا أمام الله.
أما المساواة أمام الله فما لنا ولها ما دام هذا الإله قد مات! ولكن العامة كائنة ونحن نأبى المساواة أمامها، فأعرضوا عن العامة أيها الرجال الراقون، وابتعدوا عن ساحاتها.
2
أمام الله! ... ولكن الله قد مات في هذا الزمان أيها الرجال الراقون، وقد كان عليكم الخطر الأعظم، ولولا اندراجه في لحده لما كنتم أنتم تبعثون.
في هذا الزمان تعود الظهيرة إلى ذر أنوارها، ويصبح الإنسان المتفوق سيدا.
أفهمتم معنى كلمتي هذه يا إخوتي؟ أراكم ترتعشون فهل أصيب قلبكم بالدوار؟ وهل فغرت الهاوية فاها أمامكم أيضا؟ أيعوي كلب الجحيم في إثركم يا ترى؟
إلى الأمام أيها الراقون، لقد آن لطود المستقبل الإنساني أن يلد.
لقد مات الله، ونحن نريد الآن أن يحيا الإنسان المتفوق.
3
إن أوفر الناس اهتماما في هذا الزمان يتساءلون عما يحفظ حياة الإنسان، أما زارا فهمه أن يعرف كيف يتفوق الإنسان على إنسانيته.
إن الإنسان المتفوق قبلة أنظاري وعواطفي، وما أهتم للإنسان ولا للقريب ولا للفقير ولا للمحزون ولا لخيار الناس.
أي إخوتي، أنا لا أحب من الإنسان إلا كونه مرحلة وجنوحا، وفيكم أيضا أجد صفات عديدة تحببكم إلي وتبعث الآمال في قلبي.
لقد عرفتم الاحتقار أيها الراقون، وذلك ما يشدد بكم أملي لأن عظماء المحتقرين هم أيضا عظماء الحرمة والجلال.
لقد بلوتم اليأس وذلك ما أكرمه فيكم؛ لأنكم لم تتمرنوا على الاستسلام وعلى دناءة الاحتياط.
إن زعانف القوم هم سادة هذا الزمان الداعون إلى التجلد والصبر والتواضع والتحذر والثبات وإلى ما هنالك من حقيرات الفضائل.
إنهم لأشباه الرجال يتصفون بصفات النساء والمستخدمين ويقودون الغوغاء طامحين إلى التسلط على مقدرات الدنيا، فيا للكراهة! ... وأف لهؤلاء القوم أشباه الرجال، فإنهم لا ينون يتساءلون عما يطيل حياة الإنسان متلذذا متنعما، وبهذا يسودون هذا الزمان.
اعتلوا فوق هؤلاء الناس يا إخوتي فإنهم ألد أعداء الإنسان المتفوق.
اعتلوا أيها الراقون فوق صغائر الفضائل والمحاذرات ومراعاة ذرات الرمال وأكوام النمل وملذات الذات وطلب السعادة للعدد الأوفر بين الناس.
وخير لكم أن تتمنعوا بيأسكم من أن تستسلموا، إنني أحبكم لأنكم لا تعرفون أن تحيوا في هذا الزمان، أيها الراقون، وبذلك تتمتعون بأفضل ما في الحياة.
4
أشجعان أنتم أيها الإخوة؟ ولا أعني تلك الشجاعة التي لا تنجلي في الإنسان إلا أمام شهود، بل شجاعة المنفرد الذي لا يراه أحد: شجاعة النسور التي لم يعد لها من إله شهيد!
إن الأرواح الجامدة والبغال والعميان والسكارى لا تعرف ما هي قوة القلب وما ثبت الجنان إلا من عرف الخوف فتغلب عليه ومن سبر أعماق الهاوية، فما نالت الأعماق جنانه بروعة واضطراب.
الشجاع من حدق في القاع السحيق بمقلة النسر، ومن قبض على الأغوار بمخلبه، ذلك هو الشجاع.
5
لقد قال الحكماء إن الإنسان شرير طلبا لتعزيتي، ويا ليت هذه الحقيقة تنطبق على أحوال هذا الزمان، فإن الشر قد أصبح خير ما في الإنسان من قوة، فعلى المرء أن يزداد ارتقاء في خيره وفي شره أيضا، هذا هو تعليمي أنا ... فإن أعظم شر إنما هو أعظم خير للإنسان المتفوق.
إن الدعوة إلى احتمال العذاب وحمل خطايا العالم كانت تليق ببشير الطبقة الحقيرة بين البشر، أما أنا فإنني أسر بالخطيئة العظمى كأعظم تعزية.
على أن مثل هذه الأقوال لا تبذل لمن استطالت آذانهم، وما تليق كل الكلمات بجميع الأفواه، فإن من الحقائق ما تدق عن الأفهام العادية فتتوارى وراء الأبعاد، وليس لأرجل الخرفان أن تتراكض للحاق بها.
6
أيها الراقون، أتعتقدون أنني أتيت لأصلح ما شوهتم بأخطائكم؟ أو لأهتم بتهيئة المراقد الوثيرة للمتألمين منكم أو لأدل التائهين في الجبل على المغاور ليخرجوا من مآذقهم؟
لا ... فليذهب إلى الفناء الخيار في نوعكم؛ إذ يقتضي أن يتزايد ضيقكم مع كرور الأيام؛ لأن بهذا الضيق وحده يتعالى الإنسان إلى الذرى حتى يبلغ مرامي الصاعقة المحرقة القاتلة.
أنا لا أتوجه بتفكيري وأشواقي إلا نحو العديد القليل ونحو الحادثات الدائمة البعيدة في مجال الأزمان وما يهمني شقاؤكم وآلامكم الحقيرة الزائلة.
إنكم لا تزالون مقصرين في مجال الشقاء، وما بلغت آلامكم ما عليها أن تصل إليه؛ لأنكم من أجل ذاتكم تتألمون لا من أجل الإنسان، وإن ادعيتم بتحملكم هذا العذاب فأنتم كاذبون، فليس بينكم واحد تحمل ما تحملت من أوصاب وآلام.
7
إنني لن أرضى بتوقف الصاعقة عن إنزال الأذى، ولا أريد أن تتحول عن مسلكها حين تنقض، بل أريد أن تسدد مرماها وتخدم مقاصدي.
لقد تجمعت حكمتي طويلا، وتكاثفت غمامة يتزايد اربدادها وسكونها ذلك شأن الحكمة التي قدر لها أن تقذف بالصاعقة يوما من الأيام.
أنا لا أريد أن أكون نورا لأبناء هذا الزمان، ولا أن أدعى نورا ما بينهم؛ لأنني أريد إيراثهم العمى، فلتنزل على أعينهم صاعقة حكمتي.
8
لا تطلبوا شيئا يفوت قواكم إدراكه، فمن طلب ما لا طاقة له به فقد كذب نفسه؛ لأنه إذ يطلب العظائم وهو مزور ومقلد تنفر منه العظائم حتى يرى ذاته زائغ البصر جمادا مطليا في فمه كلمات كبرى وبين يديه قرقعة لا جدوى لها.
كونوا على حذر من طلاب العظائم أيها الرجال الراقون، فالقناعة خير الكنوز.
أفليست العامة من يسود هذا الزمان؟ وهي مع ذلك لا تميز بين العظيم والحقير والطريق السوي والمسلك الملتوي، فالعامة متقلبة كاذبة دون أن تشعر بجريمة كذبها.
9
تمنعوا بالحزم أيها الراقون، يا رجال الشجاعة وحرية الضمير فهذا الزمان زمان العامة، وما تعلمته العامة وقبلت به دون تعليل لا يسعكم هدمه بالبرهان في عقيدتهم.
إن الإقناع لا يقوم في الساحة العامة على المعقول بل على الحركات والنبرات، ولا شيء يلقي بالنفور في روع العامة كالبرهان.
وإذا انتصرت الحقيقة مرة هنالك فتساءلوا بكل ارتياب عن الضلال الذي دافع عنها فأولاها انتصارها.
احذروا العلماء أيضا فإنهم يكرهونكم لعلة عقمهم، وعيون العلماء باردة جافة لا تلقي نظرها على طير حتى تعريه عن ريشه، إنهم يباهون بامتناعهم عن الكذب، فاحذروا من هذه المباهاة؛ لأن المجال بعيد بين من عجز عن الإتيان بالكذب ومن أحب الحقيقة.
إن فقد الحرارة شيء ورزانة الحكمة شيء آخر، ولا ثقة لي بالعقول الباردة، فمن لا يعرف أن يكذب لا يعرف ماهية الحقيقة ولا كيفيتها.
10
إذا أردتم بلوغ الذرى فتسلقوها بأرجلكم، ولا تطلبوا أن تحملوا إليها حملا على ظهور الغير ورءوسهم.
قل لمن يمتطي جوادا ويسير خببا نحو هدفه، لا تنس أن رجلك العرجاء راكبة معك، ولسوف تترجل في آخر الشوط فتهوي على ذروتك إلى الحضيض.
11
أيها الرجال الراقون، أنتم المبدعون ولا تحمل المرأة في أحشائها إلا ابنها، لا ترتكبوا شططا، اعلموا من هو القريب ولا تظنوا أن بإمكانكم أن تفعلوا من أجله شيئا كما لا يمكنكم أن تبدعوا بالنيابة عنه.
أعرضوا عن كلمة «من أجل» وتناسوها أيها المبدعون؛ لأن فضيلتكم تتوقف على ألا تفعلوا شيئا من أجل أحد وبسبب أحد أو لأية علة، أصموا آذانكم دون هذه الأدوات الكاذبة.
إن العمل من أجل القريب فضيلة صغار القوم، وقد جرى بينهم القول بالتبادل وبأن إحدى اليدين تغسل الأخرى، ومثل هؤلاء لا حق لهم بأنانيتكم ولا قوة لهم على الاتصاف بها.
إن في أنانيتكم، أيها المبدعون، حزم الحبلى ومحاذرتها؛ لأن محبتكم تحيط بالثمرة التي لم ترها عين بعد، فتحفظها وتمدها بالغذاء، فإذا ما كان حبكم كله منصبا على ولدكم تجلت في ذلك كل فضيلتكم؛ لأنه هو واجبكم وإرادتكم فلا تضللكم كاذبات الشرائع.
12
اعلموا أيها الراقون المبدعون أن كل من سيلد مريض، وأن كل من ولد قد تنجس.
سلوا النساء لتعلموا أن لا لذة في التوليد؛ فالدجاج تبيض صائحة والشاعر يبدع متألما.
لقد حل بكم نجس الوالدات أيها المبدعون.
كل مولود جديد يأتي برجس إلى العالم، فعلى كل مبدع أن يطهر نفسه.
13
إياكم وممارسة الفضائل بما لا طاقة لكم به، ولا تكلفوا نفوسكم ما يستحيل حكما.
اقتفوا ما أبقت فضائل آبائكم من آثار؛ إذ كيف يتسنى لكم الارتقاء إذا لم ترتق معكم إرادة آبائكم، ولكن ليحذر الطامح إلى بلوغ الطليعة أن يصبح آخر السائرين، احذروا أن تدخلوا أية قداسة على رزائل آبائكم، فمن العبث أن يطالب بالعفة من تمرغ آباؤه بالنساء وكرعوا الخمر والتهموا لحم الخنازير.
إنكم لتطلبون كثيرا إذا اقتضيتم العفاف من مثل هذا الرجل؛ فحددتم له امرأة أو اثنتين أو ثلاث، أما أنا فلا أصدق بارعوائه حتى ولو أنشأ ديرا وكتب على بابه: «هذه طريق القداسة.» إن هذا الدير إلا ملجأ ومقر لمحاولات الجنون، فما ينمو في العزلة من الإنسان إلا ما استصحبه إليها من حوافز، وهنالك المجال لنمو الحيوان الكامن.
من الخير أن نردع الكثيرين عن العزلة والانفراد.
هل على وجه الأرض في هذا الزمان من يفوق دنسا القديسين المتنسكين في الصحراء يدور حولهم الشيطان من جهة والخنزير من جهة أخرى؟ ...
14
ما رأيتكم مرة تنتحون مكانا قصيا عن الناس وقد بدت عليكم دلائل اليأس والخجل، أيها الرجال الراقون، إلا وتمثلتكم كالنمر فات فريسته أو كاللاعب خانه الزهر على صفحة نرده.
ولكنكم لا تبالون فإنكم ما تعلمتم إجادة اللعب والتحدي! وهل نحن في الحياة إلا جلاس مائدة كبرى للسخرية والمقامرة.
ألأنكم أخطأتم وفاتتكم المقاصد العظمى تريدون أن تفوتوا أنفسكم، ولأنكم فشلتم تريدون أن يفشل الإنسان؟
15
كلما تعالت المثل صعب تحقيقها، أفما أنتم أيها الرجال الراقون نماذج فاشلة للمثل الأعلى؟
ولكن لا تبالوا بهذا بل أقدموا واضحكوا من أنفسكم؛ إذ لا عجب في أنكم نماذج فاشلة أو نصف فاشلة؛ لأن نصفكم منحطم، ومستقبل الإنسان يسير سيره البطيء وهو يتكامل فيكم.
أفما يتدافع ويغلي في مراجلكم أبعد وأعمق ما في الإنسان؟ أفما يكمن فيكم اعتلاؤه إلى السهى وقوته العظمى؟
وهل من عجب إذا تصدعت مراجل عديدة من بني البشر؟ فاضحكوا يا أهل الرقي فما أكثر الممكنات في مستقبل الإنسان!
أفما نجحت محاولات عديدة فيما مضى، ولكم على الأرض من أمور بلغت كمالها وإن صغرت.
أحيطوا نفوسكم بهذه الأشياء الصغيرة المتكاملة فإنها تنيل قلوبكم الشفاء بنضوجها، فلا شيء يعلمنا الأمل إلا ما بلغ الكمال.
16
إن أعظم ما ارتكب في العالم من أخطاء هو قول القائل: «ويل للضاحكين في هذه الدنيا.» فإن من جاء بهذا الإنذار قد قصر في التفتيش فما وجد على الأرض شيئا يستحق الضحك في حين أن الأطفال يجدون ما يضحكهم.
لقد كان حب هذا النذير قصير المدى فما اتصل إلينا منه شيء نحن الضاحكين، بل إنه أبغضنا ووجه إلينا لعنته وهو يتهددنا بالبكاء وصريف الأسنان.
أفليس من فساد الذوق أن يندفع الإنسان إلى اللعن إذا هو لم يحب؟ هذا ما فعله ذلك النذير لأنه ابن العامة المتعصب، ولو أنه عرف الحب لما كان احتدم غضبا لأنه لم يحب، فكل محبة تتناهى لا تطلب محبة ... بل تطلب أكثر من المحبة.
ابتعدوا عن جميع هؤلاء المتعصبين فهم نوع من الإنسانية مريض فقير، هم من العامة التي تزوغ نظراتها من الحياة وتصيب الأرض بسم أعينها.
ابتعدوا عمن لا يعرفون التساهل فإن خطواتهم ثقيلة على التراب، وقلوبهم مثقلة في الصدور، إنهم لا يعرفون الرقص فكيف لا يثقل عليهم التراب.
17
إن جميع الأشياء الحسنة تسير نحو أهدافها على منعرجات السبيل فترفع ظهورها كالهررة هادرة لما تتوقع من سعادة قريبة المنال، فالأشياء الحسنة تضحك أبدا.
لك أن تعرف من خطوات الناس إذا كانوا ظفروا بطريقهم السوي، فانظر إلى خطواتي تدرك حالي، وإذا رأيتني راقصا فاعلم أنني اقتربت من هدفي.
والحق أنني ما استحلت تمثالا ولا انقلبت عامودا لا حياة ولا حس فيه، فأنا أحب الجري في المجال البعيد؛ لأن في الأرض مستنقعات كثيرة ومعاثر لا تجتازها إلا الأرجل الراقصة المنزلقة.
ارفعوا قلوبكم إلى ما فوق أيها الإخوة، ولكن لا تنسوا أرجلكم؛ إذ عليكم أن ترفعوها أيضا وإذا أردتم إجادة الرقص فعليكم ألا تأنفوا من الانقلاب على رءوسكم.
18
أنا المتوج نفسي ملكا على الضاحكين بإكليل ضفرته من الورود يداي، وليس سواي من يقوى على تطويب ضحكة كما فعلت.
أنا زارا الرقاص، الخفيف الخطوات الضارب بجناحيه متحفزا للانتفاض إلى الأعالي مشيرا إلى جميع الطيور بنشر أجنحتها، أنا من بلغ الرشاقة الإلهية.
أنا زارا العراف، أنا الضاحك الصبور المتسامح المحب للوثوب وتجاوز المحدود، أنا المتوج نفسي بنفسي.
19
ارفعوا قلوبكم إلى العلا، إخوتي، ولا تنسوا أن ترفعوا أرجلكم أيها الراقصون المجيدون، بل انتصبوا على رءوسكم أيضا.
إن بين طلاب السعادة حيوانات ضخمة ثقلت حركتها، وبينهم من ولد كسيحا فمثل هؤلاء يحاولون الرشاقة كالفيل يجرب أن ينتصب على قمة رأسه، غير أن المجانين بالسعادة خير ممن يجنون بالشقاء، والراقص متثاقلا أفضل ممن يتعارج في مشيته.
تعلموا الحكمة مني، إن لأقبح الأشياء وجهتين لهما حسنهما، ولشر الناس رجلين للرقص فتعلموا أيها الرجال الراقون أن تقفوا سويا على أقدامكم.
أعرضوا عن أشجان العامة وأحزانهم، فإن للمهرجين بينهم في هذا الزمان سيماء الغارقين في الأحزان؛ ذلك لأن هذا الزمان زمان العامة من بني الإنسان.
20
كونوا كالهواء المندفع من مغاور الجبال فهو يهب راقصا على هواه فيرتعش البحر متراقصا لدغدغة نسماته.
تبارك من يستنبت أجنحة للحمير ومن يمد أنامله لضرع اللبؤة فيحتلبها، إن هو إلا الروح الطيب الثائر يهب كالعاصفة من أجل ما هو عتيد ومن أجل ما سيكون، إن هو إلا عدو الرءوس الشائكة والرءوس المنثلمة عدو كل الأعراش الذابلة وكل ما دب فيها الفساد.
تبارك روح العاصفة روحا وحشيا طيبا حرا طليقا يرقص على مستنقعات الأحزان كأنه يتمايل منها على ناضرات المروج. تبارك من روح يكره الغوغاء المستكلبين الفاقدين الصواب وكل ناقص يتعزز بالعبوس.
تبارك روح العاصفة من قوة تهب الحياة لكل فكرة حرة، تبارك من زعزع يذري الرمال وهو ضاحك على عيون مقروحة لا ترى في الوجود إلا قتاما.
أيها الرجال الراقون، إن شر ما فيكم هو أنكم لم تتعلموا الرقص على أصوله؛ لتتوصلوا إلى الانطلاق بخطواتكم فوق رءوسكم، وما يضيركم ألا تتوفقوا إذا حاولتم.
إن الممكنات كثيرة، أيها الراقون، فتعودوا أن تضحكوا ولو علا ضحككم فوق رءوسكم.
ارفعوا قلوبكم أيها الراقصون المجيدون إلى ما فوق، ولا تنسوا أن تضحكوا ضحكا جميلا.
إنني ألقي إليكم بإكليل الورود فهو تاج الضاحكين، لقد طوبت الضحك أيها الرجال الراقون فتعلموه ...
نشيد الأشجان
1
وعندما لفظ زارا الكلمات الأخيرة من خطابه رأى نفسه أمام مخرج غاره فترك ضيوفه وانطلق يستنشق الهواء النقي هاتفا: يا للنفحات الطيبات ويا للسكينة السعيدة، تعاليا إلي يا نسري وأفعواني وقولا لي أراقتكما رائحة هؤلاء الرجال الراقون. إنني أشعر الآن بمقدار حبي لكما.
إنني أحبكما يا نسري وأفعواني.
ودار الحيوانان حول زارا وحدقا به طويلا، وبقي الثلاثة يستنشقان هواء بليلا لا يظفرون بمثله في مجلس الرجال الراقين.
2
وما خرج زارا من الغار حتى وقف الساحر الشيخ مرسلا نظرات التجسس ما حوله وهو يقول: لقد أخلي المكان.
فيا أيها الرجال الراقون وما أدعوكم بهذا النعت إلا تشبها بزارا في ثنائه عليكم، فإنه ما كاد يخرج هو حتى عاد فاستولى علي روحي الخداع الماكر الساحر وما هو إلا شيطان أشجاني. العدو اللدود لزارا فلا تلوموا هذا الشيطان إذا طمح إلى إبداء ضروب سحره أمامكم وقد اجتاحته نوبة من نوباته ولطالما حاولت مقاومتها بلا جدوى.
إن روحي الشرير عدو لزارا وهو صديقكم جميعا، سواء أدعيتم رجال الفكر الحر أم رجال الحق أم رجال كفارة العقل أم رجال الثورة أم رجال الشوق الأعظم أنتم المصابين بما أصبت به من الكراهة العظمى، أنتم المؤمنين بأن الله قد مات دون أن يكون على أحد الأسرة إله آخر تشده الأقمطة في طفولته.
إنني أعرف من أنتم يا أهل الرقي، وأعرف أيضا من هو زارا الذي أتوجه إليه بحبي مرغما؛ لأنني أحس بأن قديسا سينبثق منه، ويلوح لي أحيانا أنه هيكل يسكن فيه شيطان الأشجان فأحبه أيضا لحلول روحي الشرير في سريرته.
لقد أوشك هذا الروح أن يستولي علي، وها هو ذا يصرعني، فيا له من شيطان يتقمص أشجان الغسق!
افتحوا أعينكم أيها الراقون، إن هذا الروح يتجسد ولا أدري أيظهر عاريا في هيئة رجل أم في هيئة امرأة.
لقد بدأ ستار العتمة ينسدل حتى على خير الأشياء.
أعيروا سمعكم وحدقوا، أهو رجل أم امرأة هذا الروح، روح أشجان المساء.
هكذا تكلم الساحر الشيخ، ثم أدار لحاظه فيمن حوله وقبض على قيثارته.
3
عندما يعتل الهواء، ويتساقط الندى المعزي دون أن تراه العيون، وما تسقط الأنداء إلا خفية ككل عزاء.
أفما تذكر أيها القلب الملتاع كم ظمئت إلى دمع السماء، إلى قطرات الأنداء؟
لقد كنت منهوكا يرهقك السغب والشمس تلقي أشعتها على الأعشاب الصفراء متراكضة حولك من خلال الأدواح القاتمة فتبهرك في روغانها، وتلقي في روعك أنك تائق إلى الحقيقة، وما هي إلا خادعة ساخرة.
لا ... ما أنت إلا شاعر ولست إلى الحقيقة متطلعا مشوقا.
ما أنت إلا حيوان وحشي زحاف عليه أن يتفوه بالكذب، حيوان مفجوع بالغنائم، يسدل على وجه قناعا تعددت ألوانه، وهو نفسه قناع لقناعه وغنيمة لفجعته.
أأنت يا هذا طالب حقيقة وحق؟
لا ... ما أنت إلا مجنون، ما أنت إلا شاعر.
إنك تتكلم بالاستعارات والتشابيه، وترتفع عقيرتك مقنعا بوجه معتوه متراكضا على معابر من كاذبات البيان تائها على أقواس قزح مزيفة تحت آفاق لا حقيقة لها.
إنك تائه يتراكض في كل مكان.
ما أنت إلا مجنون، ما أنت إلا شاعر! •••
أأنت طالب حقيقة وحق؟
ما أنت إلا مسخ تمثال إلهي يلتمع في صقيعه، وليس له جلال هذا التمثال ولا صمته منصوبا على مدخل بيت الله.
ما أنت إلا عدو كل هيكل مشيد للفضيلة فمسرحك القفار حيث تشب حرا طليقا، وإذا ما حصرت في مسكن قفزت من نوافذه مستسلما لتصاريف الحدثان ذاهبا بهدير شهوتك في مجاهل الغاب بين الوحوش الكاسرة الرقطاء الجميلة كالمعصية وقد قطرت أشداقها شبقا ودماء فتسرح بينها متوحشا زحافا كاذبا.
أو أنت أشبه بالنسور التي تحدق طويلا في الأغوار حتى إذا لاحت الخرفان في مراعيها انقضت عليها. إنها لعدوة الخراف وكل من له نظراتها وصوفها ووداعتها. •••
ما شهوة الشاعر إلا شهوة النسر والنمر.
تلك هي شهوتك المقنعة بألف وجه أيها المجنون، أيها الشاعر!
لقد نظرت إلى الإنسان كأنه نعجة فمزقت الله فيه كما مزقت النعجة وأنت تقهقه ضاحكا.
تلك هي لذتك، أيها الشاعر، إن هي إلا لذة نسر ونمر، لذة شاعر ومجنون.
لقد جنحت يوما في الهواء البليل جنوح الهلال الحسود على وهج أنوار الغروب، هاربا من النهار عدوه اللدود متواريا عن شجيرات الورود إلى أن يغمرها الظلام ماحيا أشباحها.
أجل لقد جنحت فيما مضى جنوح الهلال هاربا من جنون الحقيقة وشهوة النور، تعبت من النهار ومن أضوائه فانحدرت عليلا نحو المغرب إلى مطارح الظلام، وقد أحرقتني الحقيقة بسعارها.
أفما تذكر أيها القلب الملتاع محنة تعطشك في ذلك الحين؟
ما لي وللحقائق جميعها، سحقا لها.
ما أنا إلا مجنون ما أنا إلا شاعر.
المعرفة
هذا ما أنشده الساحر، موقعا في شراك نغمه الغدار الحزين جميع من حوله ما عدا صياد العلقة المقيد بضمير العقل، فإنه لم يقع كالآخرين بل نهض واختطف القيثارة من يد الساحر صارخا: لقد سممت هواء الغار يا هذا.
جددوا الهواء، أدخلوا زارا إلينا.
إن سحرك أيها المراوغ يدفع بالناس إلى الشهوات ومجاهل القفار، ويا لشقائنا إذا كان أمثالك يتكلمون عن الحقيقة ويولونها أهمية، وويل للأفكار الحرة إذا كانت لا تحذر الساحرين، إنها لتفقد حريتها بإهمالها.
إنك تدعو للرجوع إلى السجون وتقتاد الناس إليها أيها الشيطان الحزين، ففي أنينك دعوة مستترة، فما أشبهك بمن يمجدون العفاف فيجيء تمجيدهم دعوة إلى الملذات!
هكذا تكلم صاحب ضمير العقل، غير أن الساحر كان يجيل أبصاره في من حوله، وهو يتنعم بظفره فتتغلب لذته على حنقه من خصمه، وأخيرا نظر إليه قائلا بلطف: إن الأغاني الجميلة تثير خير الأصداء ولذلك يجب أن يعقبها السكوت الطويل، أفما ترى هؤلاء الرجال الراقين يتنصتون، ويلوح لي أنك لم تفهم شيئا من نشيدي؛ لأن تفكيرك محصور في دائرة السحر.
فأجاب صاحب الضمير: إنك تثني علي بالإقرار بالفرق بينك وبيني، وحسنا فعلت، ولكن أنتم أيها الراقون، ما لي أراكم وأنتم ذوو النفوس الحرة ساكتين كمن تطلع طويلا إلى رقص غانية عارية متهتكة، فإذا بروحه ترتقص في داخله؟!
أفليس فيكم أيها الراقون القوة التي لا تنال منها خزعبلات الساحرين؟!
ولكنني أراكم في واد وأنا في واد، لقد تسنى لي أن أتحدث إليكم طويلا قبل أن عاد زارا إلى مغارته فعرفت أنني معكم على خلاف، فأنتم لا تطلبون ما أطلب عن عقيدة راسخة، وما جئت إلى زارا إلا لأنني أعلم أنه معقل الإرادة الثابتة التي لا تتزعزع في هذه الأزمان التي يتصدع فيها كل شيء ويتداعى.
أما أنتم فإن نظراتكم تدل على أنكم تطلبون الريبة وتتشوقون إلى الشك، فتودون لو يزيد الارتعاش وتعم الزلازل الأرض لتزداد حياتكم اضطرابا، فما أتخوف منه أنا تتوقون أنتم إليه فتستهويكم حياة الوحوش في الغابات والمغاور.
إنكم لتنفرون ممن يدعوكم إلى اجتناب الأخطار فلا تأنسون إلا إلى المضللين الساحرين.
ولكن اعلموا أن هذه الأماني الكامنة فيكم لن يكون لها أن تتحقق؛ لأن الخوف شعور غريزي أولي في الإنسان يفسر كل شيء، ويجلو حقيقة الخطيئة الأصلية والفضيلة الأصلية، وفضيلتي أنا قد نشأت عن الخوف واسمها «العلم».
لقد عاش الإنسان طويلا يسوده الفزع من الحيوانات الكاسرة وبينها الوحش الكامن فيه والذي يدعوه زارا «الحيوان الداخلي»، وقد استحال هذا الخوف مع كرور الزمان إلى ذعر روحي يدعى «علما».
هكذا تكلم صاحب ضمير العلم، وكان زارا قد عاد إلى الغار وسمع نهاية الخطاب، فأخذ ينثر أوراق الورد على رأس صاحب الضمير وهو يهزأ به قائلا: ماذا أسمع؟ والحق أنك مجنون وإلا كنت أنا مجنونا، لذلك أبادر إلى إنزال الحقيقة على رأسك دفعة واحدة، فاعلم أن الخوف شذوذ في الإنسان؛ لأنه ما نشأ في الأصل إلا مفطورا على الشجاعة طماحا إلى تقلبات الحدثان مأخوذا بلذة الشك، مدفوعا لاقتحام المجهول، فالشجاعة أولى عواطف الإنسان؛ إذ استهوته فضائل الضواري وأشد الحيوانات عزما وإقداما، فما عتم حتى غنم هذه الفضائل منها وهكذا صار إنسانا.
ويلوح لي أن هذه الشجاعة الراقية الوثابة إنسانية بجناح النسر وروغان الأفعى تدعى اليوم ...
فضحك جميع الحاضرين وهتفوا بصوت واحد: تدعى زارا.
وارتفع من بين الحشد شيء أشبه بالغمامة السوداء وتوارى، فبدأ الساحر بالضحك أيضا وهو يقول: لقد خرج روح الشرير مني، أفما دعوتكم إلى الحذر منه عندما أعلنت لكم أنه روح مكار مخادع كذاب، ويتناهى مكره بخاصة عندما يتجلى عاريا، ولكنني أعجز من أن أقاوم سحره، فما أنا من خلقه وما أنا من خلق العالم.
فلنعد الآن إلى صلاحنا وسرورنا. انظروا إلى زارا فإن في عينيه قتاما وأراه ناقما علي، غير أنه لن يثبت على نقمته حتى يجيء الظلام فسوف يسترجع حبه ويعود مثنيا علي؛ لأنه لا يستطيع البقاء طويلا دون أن يرتكب مثل هذا الجنون.
إن زارا يحب أعداءه وهو بين من صادفت في حياتي أقدرهم في هذا الفن، ولكنه في سبيل حبه لأعدائه ينتقم من أصدقائه.
هكذا تكلم الساحر الشيخ فصفق له الحاضرون حتى اضطر زارا إلى الدوران في غاره وهو ينفض راحتيه متبرما من أصحابه بعاطفة تمازج شرها بحبها، فكأنه يحاول عذر الناس والاعتذار إليهم في آن واحد، وعندما وصل إلى مخرج الغار شاقه الهواء الطلق وتذكر نسره وأفعوانه فاندفع طالبا الخروج.
بين غادتين في الصحراء
1
وعندئذ صاح المسافر الذي دعا نفسه خيال زارا قائلا: لا تذهب ابق بيننا؛ لئلا تكر علينا أحزاننا بعد أن تولت عنا، فقد أغدق علينا الساحر شر ما عنده حتى إن رئيس الأحبار الوافر التقوى بدا يسكب الدمع من عينيه ويتوه في بحر الشجون، وليس بيننا من احتفظ بحزمه غير هذين الملكين لتعودهما التحكم بسيمائهما، ولو أنهما كانا على انفراد لكانت تبدو عليها ألاعيب الغيوم وتعصف ريح الخريف باكية فوقهما فنسمع إعوالا ونواحا. ابق هنا يا زارا، لا تذهب فهنا ويلات خفية تريد أن تتكلم، هنا ظلمات وغيوم وهواء كثيف يضغط على الصدور.
لقد بذلت لنا الغذاء الإنساني وأتيتنا بالآيات تتدفق قوة وأملا، فلا تسمح أن تجتاحنا في ختام هذه الوليمة روح التراخي والكسل.
ليس لسواك أن ينفخ حولنا هواء القوة والنقاء، فإنني ما نشقت في العالم ما يهب علي في غارك من لفحات صافيات، وقد جبت الأقطار ومررت بمعاطسي على أجواء وأجواء فما راقني شميم إلا حيث تقيم.
لأصدقن القول، لقد راقني مرة مثل هذا الشميم من قبل عندما أنشدت ما أوحي إلي بين غادتين في الصحراء حين ملأت صدري من نسمات الشرق المشبعة عطرا في صفائها وأنا بعيد عن أوروبا الهرمة تكدر جوها الغيوم وترهقها رطوبتها وأشجانها.
ذلك زمان عشقت فيه غادتي الشرق في صحرائه، فهنالك سماء غير هذه السماء لا تتلبد فيها الغيوم ولا تعتكر على أديمها الأفكار.
إنكم لأعجز من أن تتصوروا سحر هاتين الغادتين وهما معرضتان عن الرقص جالستان وفي سكونهما أجمل حركات الفنون، وقد كمن الفكر في صدرهما فكأنهما أسرار وألغاز تتماوج أشكالا وألوانا فلا يعروها قتام، وهكذا الألغاز المستسلمة لمن يحل مكنونها.
لقد أوحي إلي هذا النشيد للتشبيب بغادتي الصحراء.
هكذا تكلم المسافر المدعو خيال زارا، ولم يدع مجالا ليجاوبه أحد فقبض على قيثارة الساحر، ولف ساقا على ساق وهو يحدج من حوله بنظرات تشع حكمة ووقارا، وقد انفتحت أرنبتا أنفه تنشقان الهواء مليا، فكأنه غريب في بلاد بعيدة يتنسم أجواءها.
وبدأ ينشد بصوت يزأر زئيرا:
2
إن الصحراء تتسع وتمتد فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء.
يا للمهابة: يا للبداية تليق بمهابة صحراء إفريقيا.
تليق بأسد أو بنذير يهيب بالناس إلى مكارم الأخلاق.
إنها لروعة لم تسط عليكما يا صديقتي عندما اتيح لي أنا ابن أوروبا أن أجلس عند أقدامكما تحت ظلال النخيل. حيا على الصلاة! •••
يا للعجب!
أراني ماثلا أمام الصحراء، ولكنني عنها جد بعيد، وما ابتلعتني الواحات الصغيرة، بل انفرجت أمامي كأطيب الثغور نكهة فارتميت فيها، وها أنذا عند أقدامكما يا صديقتي العزيزتين. حيا على الصلاة! •••
إنني أمجد تلك الواحة إذا كانت عززت من نزل فيها ...
وأنتما تدركان ما في رموزي من الحكمة.
طوبى لأحشائها إذا كانت كهذه الواحة، ولكنني أشك في ذلك فأنا قادم من أوروبا، أشد العرائس جحودا.
أصلحها الله إنه السميع المجيب. •••
ها أنذا جالس في ظلال أصغر الواحات فما أشبهني بتمرة سمراء مذهبة، تتشوق إلى ثغر كاعب يفتر عن أسنان محددة ناصعة كالثلج، وهل تحلم قلوب التمر الملتهبة إلا بمثل هذه الثغور؟ حيا على الصلاة. •••
ما أشبهني بهذه التمور عند الظهر، تتطاير حولها الهوام المجنحات وتدور بي شهوات أصغر من هذه الهوام وأشد منها جنونا وشرا، وإلى جانبي «دودو وزليخا» صامتتين كأبي الهول.
إنني أنشق نسمات الجنان والهواء حولي مفضض بأشعة ما أرسل القمر مثلها في الأجواء، فهل أرسلها صدفة أم عن قصد كما قال الشعراء الأقدمون؟
أما أنا فأشك فيما قيل لأنني آت من أوروبا، وهي أشد العرائس جحودا أصلحها الله إنه السميع المجيب.
إنني أنشق الهواء ملء معاطسي وليس لي أمس ولا غد، فأجلس معلقا أبصاري على النخلة وهي تتأود وتتثنى وتهز ردفها، فكأنها راقصة دارت طويلا على رجل واحدة، حتى لا يسع من يراها إلا أن يقلدها، ولعلها نسيت أن لها رجلا ثانية.
وقد فتشت عبثا على هذه الرجل الصغيرة الساحرة تحت الأردان الخافقة، صدقاني يا عزيزتي، إن هذه الرجل الأخرى قد ذهبت في سبيلها.
ويلاه! أين استقرت تلك الرجل التائهة؟ وأين حطت رحالها؟ ولعلها الآن وحيدة منفردة ترتجف فرقا من هجمات وحش كاسر أو أسد أصفر تجعدت لبدته ولعلها الآن ممزقة إربا. حيا على الصلاة! •••
لا تبكيان يا عزيزتي فقلبكما رقيق وصدركما يدر حنانا.
أي زليخا، كوني كالرجال وتشددي، وأنت دودو الشاحبة لا تذرفي الدمع بعد.
ولكن لا بد في هذه الأرجاء من قوة تشدد القلوب، لا بد من آيات تفوح عطرا وتتسامى جلالا. •••
ارتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة.
ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضا أمام غادات الصحراء فزئير الفضيلة يا بنات الصحراء، أقوى ما ينبه أوروبا ويحفز بها إلى النهوض.
ها أنذا ابن أوروبا، لا يسعني إلا الخشوع والانتباه لدوي هذه الآيات البينات.
وقد توكلت على الله.
إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء ...
الانتباه
1
وبعد أن أنشد كل من المسافر والخيال نشيده ضج الغار بالحركة والضحك، فأخذ الجميع يتكلمون في آن واحد حتى الحمار نفسه، فوقف زارا غاضبا ساخرا بضيوفه بالرغم من تسرب شيء من فرحهم إلى قلبه؛ إذ رأى في هذا الحبور أول أعراض الشفاء، فانسحب إلى خارج الغار، وبدأ يخاطب نسره وأفعوانه قائلا: أين ذهب يأسهم، أراهم نسوا ذلك اليأس عندي ولكنهم لم ينسوا الصراخ بعد.
وسد زارا أذنيه؛ إذ تعالى نهيق الحمار يزيد في جلبة هؤلاء الرجال الراقين.
وقال: إنهم فرحون ولعلهم تعلموا مني، ولكن ضحكتهم ليست ضحكتي.
لا بأس فهم شيوخ يمثلون إلى الشفاء بالذهاب على سبيل تخيروه، ولقد احتملت أذناي من قبل أشد من هذه الجلبة وهذا الصخب.
إنه ليوم انتصار هذا اليوم؛ لأن الروح الكثيف يتراجع إلى الوراء وهو عدوي اللدود، لقد بدأ هذا النهار شؤما ولعله ينتهي إلى خير.
ها إن المساء قادم ممتطيا جواده قاطعا البحار على سرجه الأرجواني.
إن السماء تحدجه بلفتات الحبور والأرض تتراخى على أسرارها، فالحياة تستحق الاهتمام قربي أيها النازلون ضيوفا علي.
وإذ دارت الجلبة في الغار أردف زارا قائلا: إنهم تعلموا الضحك لنفسهم فقد فارقهم الروح الكثيف، وهذا تأثير غذائي وآياتي، والحق أنني ما قدمت لهم من الأغذية ما تنتفخ به الأحشاء، بل ما يليق بالمجاهدين فنبهت فيهم شهوات جديدة.
ها إن سواعدهم وأقدامهم تمتلئ أملا جديدا، وقد تمددت قلوبهم فوجدوا بيانا جديدا يولد المرح في تفكيرهم.
وما أجهل أن مثل هذا الغذاء لا يبذل للأطفال ولا للنساء المتراخيات سواء أكن عجائز أم صبايا، فإن للأطفال والنساء علاجات غير هذا العلاج لإقناع أمعائهم وما أنا بطبيبهم ولا بالقوام عليهم.
لقد تخلى هؤلاء الراقون عن اشمئزازهم وفي ذلك ما أعده ظفرا لي، لقد أحسوا أنهم في مأمن عندي فتعروا عن كل حياء سخيف، وها هم يعربون بإخلاص عما يشعرون.
إنهم يفتحون قلوبهم ويعودون إلى أويقات الصفا، ويجترون ممتنين والامتنان خير دليل على الرجوع إلى الصواب، فلن يطول الزمان حتى يرفعوا الأنصاب لذكرى أفراحهم القديمة.
إن هم إلا ناقهون!
هكذا تكلم زارا وقد استولى عليه الفرح ودار حوله نسره وأفعوانه محترمين سعادته وسكونه.
2
وبعد هنيهة اضطربت أذنا زارا لانقطاع الجلبة من الغار وقد ساد فيه سكوت الموت، ولكن رائحة عطرية انتشرت منه كأن هنالك مجمرة تحرق فيها رءوس الصنوبر.
وتساءل زارا عما يفعل القوم في غاره، وتقدم نحو الباب فإذا به يشاهد أمرا من أغرب الأمور فصاح: لقد عادوا إلى التقى، فهم يؤدون شعائر الدين ويصلون، لقد جنوا!
وكان جميع من في الغار جاثين على ركبهم كالأطفال والعجائز يعبدون الحمار.
وبدأ أقبح العالمين يهدر ويتلوى ويستعد للترنم، وما عتم حتى بدأ ينشد قائلا: المجد والحكمة والمنة والثناء والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين.
فجاوبه الحمار بنهقة مستطيلة . - إنه يحمل أثقالنا ويقوم بخدمتنا، فهو الجلود الصبور الذي لا يرد طلبا، ومن أحب إلهه أدبه بصرامته.
فجاوبه الحمار بنهقة. - إنه صموت لا ينهق إلا إيجابا لطلبات العالم الذي أبدع، فهو يمتدح عالمه وإذا سكت فما سكوته إلا لمكره؛ لأنه لا يستهدف للخطأ.
فجاوبه الحمار بنهقة. - إنه يمر ولا من يأبه له في الحياة، فلون جلده رمادي يستر به فضيلته، وإذا كان له عقل فهو يستره لذلك يؤمن الجميع بأذنيه الطويلتين.
فجاوبه الحمار بنهقة. - يا للحكمة الخفية! ويا لصاحب الأذنين الطويلتين! لا يجيب إلا بالإيجاب، ولا يرد طلبا أفما خلق العالم على صورته ومثاله فجاء العالم على أشد ما يكون حماقة وسخافة؟
فأجاب الحمار بنهقة. - إنك تتبع طرقا مستقيمة وطرقا ملتوية، وما يهمك ما يدعوه الناس استقامة والتواء، فإن ملكوتك قائم ما وراء الخير والشر فبراءتك هي جهلك للبراءة.
فأجاب الحمار بنهقة. - انظر كيف أنك لا تدفع أحدا عنك، فتقبل الصعاليك كما تقبل الملوك، وتدع الأطفال يأتون إليك، وإذا ما جاءك الخطاة استقبلتهم بنهقة الترحيب.
فأجاب الحمار بنهقة. - إنك تحب الأنثى والتين الناضج فلست متصعبا في غذائك فلا تأنف من قضم الشوك إذا جعت، وفي هذا كمنت حكمتك الإلهية.
فأجاب الحمار مصدقا بالنهيق.
عيد حمار
1
وعند هذا المقطع من المدائح عيل صبر زارا؛ فبدأ ينهق هو أيضا، واندفع إلى وسط ضيوفه وقد استولى عليهم الجنون صارخا: ماذا تفعلون يا أبناء الناس.
وتقدم يرفعهم الواحد بعد الآخر عن الحضيض قائلا: الويل لكم لو رآكم أحد غير زارا، إذن لحكم الكل عليكم بأنكم في دينكم الجديد من أفظع المجدفين أو من أشد العجائز تخريفا وجنونا.
أنت يا رئيس الأحبار كيف تسني لك دون أن تجحد نفسك وأن تعبد حمارا كأنه إله؟!
فأجاب الحبر الكبير: عفوك يا زارا، إنني أعرف منك بأمور الله، ومن الحق أن أكون هكذا، وخير لنا أن نعبد الله في حمار من ألا نعبده مطلقا، تمعن في كلمتي هذه أيها الصديق العظيم يتضح لك أن فيها كثيرا من الحكمة .
إن من قال: «إن الله روح.» قد خطا الخطوة العظمى نحو الجحود، وليس من السهل إصلاح ما تفسده مثل هذه الكلمة في العالم.
إن فؤادي يرتقص فرحا؛ إذ بقي على الأرض شيء يمكننا أن نعبده.
اغتفر يا زارا لرئيس أحبار تقي ما يشعر به.
والتفت زارا إلى المسافر والخيال قائلا: وأنت يا من تدعي الفكر الحر، بل من تتصور إنك فكر حر، كيف تمثل هذا الدور الغريب وتتعبد للوثن؟!
إنك تفعل الآن ما لم تفعله بين الغادات السمر ذوات الدلال يا من اتخذ لنفسه عقيدة جديدة!
فأجاب المسافر والخيال: الأمر محزن وأنت مصيب، ولكنني عاجز عن الإتيان بأي عمل فإن الإله القديم قد بعث فقل ما تشاء يا زارا.
إن السبب في هذا كله هو أقبح العالمين؛ فهو باعث الإله ولو قال إنه هو قاتله فليس موت الإله إلا عقيدة لا ترتكز على شيء.
فقال زارا: وأنت أيها الساحر القديم المراوغ ماذا فعلت؟ من سيؤمن بك بعد الآن في أزمنة الحرية هذه إذا كنت تؤمن بمثل هذه الحماريات الإلهية.
لقد أتيت حماقة فكيف أقدمت عليها وأنت على ما تعلم من المهارة والاحتيال؟!
فأجاب الساحر: لقد أصبت فما أتيت إلا حماقة، ولقد كلفتني جهدا كبيرا.
فقال زارا: وأنت يا ضمير العقل، تفكر وضع إصبعك في أنفك، أفما يبكتك ضميرك على ما فعلت، أفما تدنس فكرك من هذه العبادة ومن هذا البخور المتصاعد؟!
فوضع ضمير العقل إصبعه في أنفه وأجاب: إن في هذا المشهد شيئا يرتاح له ضميري، وقد لا يكون لي الحق بأن أعبد الله غير أنني أرى أن إلها على هذه الشاكلة يستحق الإيمان.
يجب أن يكون الإله خالدا بحسب ما شهد به الأتقياء، فمن كان له مثل هذا الزمان الطويل له أن يمنح نفسه خير الأزمان، وأن يعيش على مهل وبالسخافة التي تحلو له، فيبلغ الهدف الذي يريد ومن له الفكر المتجاوز حده يميل إلى السخافات وإلى الجنون.
أفلا ترى يا زارا أنك معرض بإفراط حكمتك إلى أن تصير حمارا.
أفلا يتجه الحكيم إلى السبل المتعرجة، وهلا تجد في نفسك ما يثبت هذه الحقيقة؟
ونظر زارا إلى أقبح العالمين فإذا به لم يزل منطرحا على الأرض وهو يقدم للحمار خمرا ليشرب، فقال له: ماذا أنت فاعل؟ لقد تبدلت يا هذا فعينك تشع نورا، وقد اتشح قبحك برد الجلال. أصحيح ما يقوله رفاقك؟ أأنت بعثته من الموت؟ وما الذي أهاب بك إلى إحيائه؟ فهل كنت على خطأ عندما قتلته وألحقته بغابر الزمان؟
إنني أراك أنت راجعا إلى الانتباه بعد غفلتك، فماذا فعلت ولماذا هديت نفسك؟ تكلم أيها السر الغامض.
فقال أقبح العالمين: ما أنت إلا لئيم يا زارا، وأنا أسألك فأجب من منا أعلم فيما إذا كان هذا الإله لا يزال حيا أم أنه مات حقيقة.
غير أنني أعلم كما علمتني فيما مضى أن من يريد أن يقتل قتلا لا حياة بعده يلجأ إلى سلاح الضحك فالغضب لا يقتل، أفما قلت هذا يا زارا أنت المستتر، أنت الهادم بلا غضب والقديس الخطر فما أنت إلا لئيم.
2
ودهش زارا لما سمع من أجوبة فاندفع إلى باب غاره، ووقف هنالك يصيح بأشد نبراته: لماذا تخفون سرائركم أمامي، أيها الطائشون، أفما ارتعشت قلوبكم في صدوركم لأنكم عدتم أطفالا أي من أهل التقى، ففعلتم فعل الأطفال وضممتم أكف الضراعة قائلين: «أيها الإله الصالح العزيز.»
ألا فاخرجوا الآن من غرفة الأطفال، إن مغارتي قد شهدت اليوم جميع ألاعيبهم، اذهبوا وتأملوا خارجا في طيش طفولتكم وفي نبضات قلوبكم.
لا ريب في أنكم إذا لم تعودوا أطفالا فلا تدخلون ملكوت السماوات (قال هذا ورفع إصبعه نحو السماء.)
فقالوا: لا ... لا نريد أن ندخل ملكوت السماوات؛ لأننا وقد أصبحنا رجالا لا نطلب في غير الأرض ملكوتا.
3
واستأنف زارا الخطاب فقال: أي أصدقائي الجدد، أيها الرجال الغريبو الأطوار، أنتم أيها الراقون إنني لأعجب الآن بكم، لقد عاد سروركم إليكم فتوردت وجوهكم، وقد حق لكم كأزهار جديدة أن تعيدوا فأقمتم للحمار حفلة؛ إذ أردتم أن تسروا وأن يجيء زارا المرح بجنون شيخوخته لينير أرواحكم.
لا تنسوا هذه الليلة وهذا العيد، أيها الرجال الراقون فقد أبدعتم فيما اخترعتم وما يوجد مثل هذه الأعياد إلا الناقهون؛ لأنها نذير الشفاء.
فإذا ما احتفلتم بهذا العيد عيد الحمار، فاصنعوا هذا محبة بأنفسكم ومحبة بي، اصنعوا هذا لذكري ...
هكذا تكلم زارا ...
نشيد الثمل
1
وبينما كان يتكلم خرجوا الواحد تلو الآخر إلى الهواء الطلق وقبض زارا على ذراع أقبح العالمين، وخرج به ليريه مشاهد الليل والشلالات المتدفقة قرب غاره مفضضة بشعاع القمر، وأمام هذه الشلالات وقف جميع هؤلاء الشيوخ وقد تسرب العزاء إلى قلوبهم فشدد عزائمهم، وكان كل منهم معجبا بذاته، وقال زارا في نفسه، لكم تشوقني رؤية هؤلاء الراقين الآن.
وعندئذ وقع أغرب حادث شهده القوم طوال يومهم؛ إذ رأوا أقبح العالمين يهدر مفتشا على كلمات لبيانه، فإذا به يتناول مسألة خطيرة ذهبت تهز أحشاء السامعين.
قال: أيها الأصحاب، هذه لأول مرة أحيا فيها الحياة كلها بيوم واحد، فقد كفاني هذا العيد بصحبة زارا لأتعلم محبة الأرض، فيمكنني الآن أن أقول للموت: أهذه هي الحياة؟ إذن أعدني إليها مرة أخرى.
أفلا تريدون أيها الأصحاب أن تقولوا للموت ما أقوله له أهذه هي الحياة إذن أعدنا إليها من أجل محبة زارا مرة أخرى.
هكذا تكلم أقبح العالمين وكان الليل قد قارب الانتصاف.
وأحس الرجال الراقون عندئذ بأنهم تحولوا عما كانوا عليه، وقاربوا الشفاء وعلموا أن زارا قد بدل من حالهم فأقبلوا عليه يلثمون راحتيه حبا واحتراما فضحك بعضهم وبكى البعض الآخر، وكان الساحر القديم يرقص طربا، ولعله كان مأخوذا بالسكر، على ما ينقله بعض الرواة، ولكنه ولا ريب كان ثاملا من حياته الجديدة بعد أن تخلى عن حياة التراخي والكسل، وقال بعض الرواة: إن الحمار نفسه بدأ يرقص متأثرا مما سقاه أقبح العالمين، وقد لا يكون الحمار استسلم للرقص في ذلك المساء فليس للأمر أهمية ما دامت الحوادث الجسام التي وقعت حينذاك تفوت ما لرقص الحمار من شأن.
إن من آيات زارا قوله: وأية أهمية لهذا .
2
وعندما نطق أقبح العالمين بما ذكرنا كان زارا في حالة اضطراب شديد؛ إذ انعقد لسانه وارتجفت ركبتاه وتماوت نظره، ومن يدري ما كان يدور حينذاك في خلده، فكأنه كان يذهب بفكره مدا وجزرا ويتحفز للطيران، وقد شخص إلى الأبعاد مطلا من الذروة على بحرين أو سائرا كغمام كثيف بين الدابر والمقبل من الزمان.
وأحاط الراقون بزارا يسندونه بسواعدهم إلى أن ثاب رشده إليه فدفع عنه القوم المسارعين إلى تمجيده دون أن يقول شيئا، ولكنه شخص كما يسمع صوتا، فوضع سبابته على شفتيه وصرخ: تعالوا ...
وساد الصمت ودوت من بعيد رنة جرس، فتنصت زارا ومن معه، ثم عاد يقول وقد وضع سبابته على شفتيه ثانية: تعالوا ... تعالوا ... لقد اقترب نصف الليل.
وتغيرت نبرات صوته، ولكنه ظل في موقفه.
وعاد السكوت يثقل على الكل حتى على الحمار والنسر والأفعوان والغار والقمر الباهت والليل نفسه.
ورفع زارا سبابته للمرة الثالثة إلى شفتيه وقال: تعالوا ... تعالوا ... هيا فقد دنت الساعة، هيا بنا إلى الليل.
3
أيها الرجال الراقون لقد انتصف الليل، ولسوف أسر إليكم بما أسره إلي الجرس القديم في رنينه.
سأناجيكم بالرهبة والإخلاص الذين ناجاني بهما جرس نصف الليل القديم البالغ من العمر ما لا يبلغ الإنسان الفرد.
لقد عد هذا الجرس من قلوب آبائكم نبضاتها فهو يزفر ساعة نصف الليل زفيرا، ويرسلها ضحكا في قلب الظلام.
أنصتوا! إن من الأشياء ما لا تعلن في نور النهار أما في هذه الساعة وقد اعتل الهواء، وسكنت ضوضاء قلوبكم فإن الأشياء تتناجى وتتفاهم وتتسلل إلى أرواح السمر فيمتد بها ويطول، فاسمعوا زفير ساعة الليل وضحكها في أحلامها.
أفلا تسمعها أنت تناجيك برهبة وإخلاص، أفلا تسمع ما تقول ساعة نصف الليل في قدمها وعمقها؟
أيها الإنسان كن على حذر!
4
ويل لي! أين تسرب الزمان؟ أفما وقعت في آبار لا قعر لها.
لقد نامت الدنيا، ويلاه إنني أسمع هرير الكلب، وأرى لمعان القمر، إنني لأفضل الموت على أن أبوح لكم بما يعتقده فؤادي عن نصف الليل.
لقد مت وقضي أمري!
لماذا تمدين نسيجك حولي أيتها العنكبة، أتطلبين دما؟ ويلاه لقد تساقطت الأنداء ودنت الساعة، الساعة التي سأرتجف فيها بردا وأتحول منها إلى جليد، الساعة التي تسأل وتسأل ولا تكف عن السؤال قائلة: من سيجرأ على هذا؟ من سيكون سيد العالم، من يرضى ويريد أن يهتف بالأنهار كبيرها وصغيرها، سيري على ما أقرر لك.
لقد دنت الساعة أيها الإنسان الراقي، فكن على حذر إن هذا الخطاب موجه إلى مرهفات الأسماع، إلى أسماعك.
ماذا يقول نصف الليل في أعماقه؟
5
إنني محمول إلى هنالك، وروحي ترقص في كل يوم! من سيكون سيد العالم يا ترى؟
لقد نور القمر وسكن الهواء، وا أسفاه، هل تسنى لكم أن ترتفعوا بطيرانكم، لقد رقصتم ولكن الساق ليست جناحا.
أيها المجيدون في رقصكم، لقد انقضى زمن الحبور فاستحال الخمر إلى خميرة، لقد فرغت الكئوس وعلت همسات القبور.
إنكم لم تبلغوا الأعالي في طيرانكم لذلك تنادي القبور: «أنقذوا الأموات، لماذا طال بنا الليل؟ فهل أسكرنا شعاع القمر؟»
فيا أيها الراقون أنقذوا القبور، ما لكم لا تنهضون الأموات، كفى الديدان ما رعت! لقد دنت الساعة.
لا يزال الجرس يدوي برنينه فالقلب يزفر زفرات الاحتقار، إن سوس القلب ينخر شغافه.
ويلاه! ما أعمق هذا العالم.
6
أيتها القيثارة! لكم أحب نغمات أوتارك كأنها تتعالى من بعيد ومن الزمان المنصرم عن ضفاف نهر الغرام.
ما أنت أيها الجرس إلا هذه القيثارة المشجية فلكم قرعت قلبك الأحزان، أحزان الآباء والأجداد والسلفاء الأقدمين، حتى أنضجت دعوتك الأزمان فغدت كالخريف المذهب وكقلبي المنفرد، فأصبح صوتك كلاما والعالم نفسه قد نضج كالعناقيد لوحها الاسمرار فهو يريد أن يموت مكفنا بحبوره.
أفما تنشقون يا رجال الرقي عبيرا يضوع خفيا، إن هو إلا عبير الأبد، رائحة خمرة السعادة المعتقة، السعادة الثاملة بشوقها إلى الموت المطلقة إنشادها في نصف الليل قائلة: إن العالم عميق، إن العالم أعمق مما كان يظن النهار.
7
دعني ... دعني، إنني أطهر من أن تمسني يدك وقد أكمل عالمي، دعني أيها النهار الأحمق العبوس الثقيل ، أفليست ساعة نصف الليل أشد منك إشراقا؟
يجب على الأطهار أن يسودوا العالم وهم المجهولون الأقوياء تكمن فيهم أرواح نصف الليل المشعة بأنوار أعمق وأصفى من أنوار النهار.
أيها النهار، إنك حولي وتراود سعادتي؛ لأنك تجد في أنا المنفرد ينبوع كنوز لا تفنى.
أنت تطلبني، أيها العالم، وما أنا بالعالمي ولا بالديني ولا بالإلهي، ما أثقلك أيها النهار وما أثقلك أيها العالم!
لتذهب أيديكما على هدى، لتذهب قابضة على سعادة أعمق وشقاء أعمق، لتذهب مستولية على أحد الآلهة ولتدعني وشأني.
أيها النهار، إن سعادتي عميقة وشقائي عميق، ولكنني لست إلها ولست حتى جحيم إله، وما أعمق أوجاع العالم!
8
أيها العالم الغريب، إن أوجاع الإله أعمق من أوجاعك فاقبض على أوجاع الإله ودعني وشأني، فما أنا إلا قيثارة تفيض عذوبة وسحرا.
أنا قيثارة نصف الليل، أنا جرس لا يفهم أحد بيانه وعليه أن ينطق أمام الصم، وأنتم أيها الراقون لا تفهمون ما أقول.
لقد قضي الأمر وتوارى الشباب مع الظهيرة والعصر، فحان وقت المساء وأقبل الليل ونصف الليل، وهذا الكلب وهذا الريح كلاهما يعوي.
وهل الريح إلا كلب يئن ويعوي، فيا لصوت الريح من زفير وضحك وحشرجة عند انتصاف الليل.
إنها لشاعرة سكرى تجاوزت حدود النشوة وطال سهدها، هذه الساعة القديمة تداعب أوجاعها عند نصف الليل وتداعب أيضا مسراتها، والمسرة عند اشتداد الألم تفوق الألم شدة وعمقا.
9
لماذا تمتدحينني، أيتها الكرمة، أفما قطعت جفنتك بقساوة؛ فقطرت دما فما لثنائك يتجه إلى قسوتي الثاملة؟
أسمعك تقولين: كل شيء بلغ كماله ونضوجه يطلب الموت تبارك منجل الكرام، فما يتمسك بالحياة إلا ما لم يبلغ النضوج بعد.
إن الألم يقول لنفسه مر وانقض، ولكن المتألم يطلب الحياة قاصدا أن ينضج ويصبح مرحا مليئا بالشهوات متشوقا إلى الأبعد والأعلى والأشد صفاء، فكل من يتحمل العذاب يصيح: «أريد ورثة لي، إنما مقصدي هو أولادي لا أنا.» في حين أن المسرة لا تطلب ورثة ولا أولادا. لا تقصد المسرة إلا ذاتها ولا تتشوق إلا إلى الخلود ، إلى عودة الأشياء بعد عبورها وإلى كل ما يشبه ذاته مستقرا إلى الأبد.
يقول الألم: انحطم يا هذا، اقطر دما أيها القلب اذهبي أيتها الساق وتطاير أيها الجناح بعيدا نحو الأعالي فما أنت إلا آلام وأوجاع.
فهيا إذن يا قلبي الهرم ما دامت الآلام تقول لك مر وانته ...
10
أيها الرجال الراقون ما تراكم تحسبونني؟ أنبي أنا أم متوهم أم ثامل أم معبر أحلام أم جرس يدوي في نصف الليل؟
أأنا ندى أم بخور من الأبدية؟
أفما سمعتم؟ أفما شعرتم بأن عالمي قد اكتمل؟
إن نصف الليل هو الظهيرة أيضا.
إن الألم لذة واللعنة بركة والليل شمس مشرقة.
ابتعدوا كيلا يقال عنكم أيضا إن الحكيم مجنون.
إذا كنتم أحسستم بفرح فقد أحسستم أيضا بجميع الأتراح، فجميع الأشياء متسلسلة متداخلة متعاشقة.
أفما اشتهيتم أن تعود المرة مرتين فهتفتم ارتياحا للذة لحين من الدهر ولطرفة عين؟ إنكم بهذا التمني وددتم لو تعود الأشياء جميعها متسلسلة متداخلة متعاشقة، وهكذا أحببتم العالم، أيها الخالدون، فكان حبكم أبديا لا نهاية له. قلتم للآلام أن تنقضي ولكنكم دعوتموها لتعود؛ لأن كل لذة تطلب الخلود.
11
إن اللذات تطلب الخلود لكل شيء، فتريد عسلا وخميرا وساعة ثاملة في نصف الليل، تريد قبورا وتريد الدموع تنسكب مؤاسية على القبور والشمس الجانحة بنورها الذهبي إلى الغروب.
وأي شيء لا تتشوق اللذة إليه؟! فهي أشد ظمأ وجوعا من الألم وفيها ما ليس فيه من روعة وأسرار، فاللذة تطلب ذاتها وتنهش ذاتها، فهي إرادة تناضل في حلقة مفرغة، تريد حبا وتريد بغضا، تتمتع بالسعة فتجود وتقذف بما تبذل، تتسول تسولا لتهب نفسها وتشكر من يأخذها، فهي تشتهي أن تقابل بالبغضاء.
اللذة المتمتعة تشتهي الأوجاع والاحتراق في الجحيم والعار وكل ما عراه التشويه، فهي تلتهب بظمأ الحياة، وما خفيت عنكم الحياة في هذا العالم.
إن اللذة الثائرة السعيدة تشتاقكم أيها الراقون، وتحن إلى آلامكم أيها الفاشلون؛ لأن اللذة الأبدية تتشوق أبدا إلى كل محاولة فاشلة، فهي تطلب ذاتها إذ تطلب الألم.
انحطم أيها القلب فأنت اللذة وأنت الألم.
تعلموا هذا أيها الراقون: إن اللذة تطلب الخلود.
إن اللذة تطلب الخلود لجميع الأشياء، خلودا لا نهاية له.
12
أتعلمتم نشيدي الآن! أأدركتم مغزاه؟
هيا إذن أيها الرجال الراقون، ترنموا بهذا النشيد، فهو نشيدي وعنوانه «مرة أخرى» ومعناه «مدى الأبد».
تغنوا جميعا بنشيد زارا
أيها الإنسان، كن على حذر
ماذا يقول نصف الليل؟
لقد استسلمت طويلا للوسن
وها أنذا انتبه من رقادي
إن العالم جد عميق
فهو أعمق مما يعتقد النهار
وآلامه عميقة
واللذة أعمق من الآلام
يقول الألم: مر يا هذا وانقض
ولكن ليس من لذة لا تطلب الخلود
خلودا لا نهاية له!
النذير
وفي صبيحة اليوم التالي نهض زارا من مرقده فشد حقويه بنطاق، وخرج من غاره ملتهبا قويا كالغزالة التي كانت حينذاك تذر قرنها من وراء الغمام.
وانتصب زارا يناجي الشمس كما ناجاها من قبل قائلا: «لو لم يكن لك من تنيرين، أكانت لك غبطة أيتها المقلة المتوهجة بأنوار السعادة.»
أفما يعز عليك أيها الكوكب العظيم أن يبقى من تنير في مكامنهم وأنت طالع لتهب الأنوار وتنشرها على العالمين.
لقد نهضت أنا أما هؤلاء الرجال الراقون فلا يزالون مستغرقين في نومهم، أفيكون هؤلاء الرجال رفاقي الصادقين؟ لا ليسوا هم من أنتظر بين هذه الجبال.
أريد أن أبدأ عملي من أول نهاري وهم يجهلون نذير صباحي وصوت أقدامي لا ينذرهم بالشروق.
إنهم راقدون في غاري ولم تزل أحلامهم ترتوي من نشيدي في نصف الليل، فليست آذانهم بالآذان المرهفة لسماع أقوالي.
وكان زارا ذاهبا في نجواه والشمس تصعد في الأفق فإذا به يسمع صرخة نسره على الذرى فقال: لقد انتبه معي نسري وأفعواني للتسبيح أمام الشمس في شروقها، فالنسر يقبض بمخلبه على النور الجديد، إنني أحب الحيوان الصادق ولكن أين رجالي الصادقون؟!
وفي ذلك الحين أحس زارا كأن زرافات من الطيور تدور به، واشتد حفيف الأجنحة حول رأسه حتى اضطر إلى إغماض عينيه، فإذا به يشعر بوقع سهام عليه كأنها مفوقة من قوس عدو جديد، وما كانت تلك الوخزات إلا مداعبة طغمات الحب للحبيب الجديد.
فقال زارا في نفسه وقد استولت الحيرة عليه: ما ألم بي يا ترى؟
وقعد باحتراس على الحجر الكبير أمام باب غاره، وبدأ يلوح بيديه ليرد عنه الطيور المتدافعة بحنانها إليه، ولكنه شعر بأن راحتيه تغوران في لبدة وسمع من ملمس يديه زئير أسد، زئيرا ملؤه اللطف والحنان.
فصاح زارا: لقد جاء الإنذار.
وأحس بقوة تبدل من قلبه، ففتح عينيه فإذا بوحش ضخم أصفر اللون ممدد عند قدميه، وقد أسند رأسه على ركبتيه كأنه كلب وجد صاحبه القديم فلازمه لا يريد عنه انفكاكا.
وكانت أسراب الحمام لا تزال تتطاير حول زارا، وإذا أصاب جناح أحدها أنف الأسد كان الأسد يهز رأسه مندهشا ويستغرق في ضحكه.
عند هذا المشهد لم يقل زارا غير كلمة واحدة: «لقد اقترب أبنائي.» وصمت صمتا عميقا، غير أنه أحس بسقوط حمل ثقيل عن قلبه فانهمرت دموعه غزيرة تبل راحتيه، وذهل عن كل ما حوله لا يبدي حراكا فجاءت طيور الحمام تقع على كتفيه وتداعب شعره الأبيض ولا تني تغدق عليه عطفها وحنانها، وكان الأسد مستمرا في إرسال لسانه على راحتي زارا مجففا ما عليهما من دموعه وهو يزأر متمهلا خاشعا.
وطال هذا الموقف ولعله لم يطل فليس لمثله على الأرض من زمان.
وكان الرجال الراقدون نهضوا من رقادهم في هذه الأثناء وتهيئوا للخروج إلى زارا ليقدموا له تحية الصباح، ولكنهم ما أطلوا من باب الغار حتى وثب الأسد وهجم عليهم، وهو يزمجر فصرخوا جميعا والذعر يملأ روعهم وتراجعوا ثم اختفوا عن العيان.
ونهض زارا عن معقده وقد استولى عليه الذهول فأدار لحاظه في كل جهة وهو يتساءل عما جرى له وعما رأى وسمع، ثم ثاب إليه رشده فانجلت أمامه حوادث يومه فقال وهو يمر أنامله على لحيته: في صبيحة الأمس كنت جالسا على هذا الحجر فتقدم العراف إلي، وسمعت لأول مرة صراخ الاستنجاد فيا أيها الرجال الراقون، إن ما أنبأني العراف به أمس إنما كان فشلكم لا غير وقد أراد أن يقودني نحوكم لتجربتي فقال لي: أي زارا، لقد أتيت لأوقعك في آخر أخطائك.
وقهقه زارا ضاحكا غاضبا من كلمة «آخر أخطائك» وتساءل عما تحتفظ هذه الخطيئة له!
وعاد فاستوى على الحجر الكبير واستغرق في تفكيره، ثم نهض بغتة وهو يهتف: «هي الرحمة! الرحمة للرجال الراقين!»
وظهرت قساوة الفولاذ على سيمائه فقال: «لقد كان للرحمة زمانها.»
أية أهمية لشهواتي ورحمتي، ما أنا طالب سعادة، إن ما أسعى إليه هو المهمة التي وضعتها نصب إرادتي.
والآن وقد جاء الأسد، فقد اقترب زمان أبنائي، أما أنا فقد بلغت النضوج ودنت ساعتي!
هذا هو الشفق يلوح على صبيحتي وقد طلع نهاري، فأشرقي بأنوارك أيتها الظهيرة العظمى.
هكذا تكلم زارا وهو يبارح مغارته مليئا بالعزم والقوة كشمس الصباح المنبثقة من وراء الغيوم.
ملحق
لقد أخذت الشذرات التي خصص هذا الملحق لها من مفكرات فريدريك نيتشه الخاصة، ولعله دونها ليكتب رسالة يوضح فيها ما يجلو الإبهام في بعض أقوال زرادشت، وقد رأينا إلحاقها بهذا الكتاب تكملة لها شأنها لإدراك نظريات هذا الفيلسوف.
1
لقد تزعزعت الأهداف جميعها، وذهبت التقديرات في ميادين التفكير متصادمة متناقضة.
يدعى صالحا من يتبع ما يوحي إليه قلبه، كما يدعى صالحا أيضا من لا يصيخ إلا لصوت الواجب.
يدعى صالحا الرجل اللطيف المسالم، كما يدعى صالحا أيضا الرجل الجسور العنيد القاسي.
يدعى صالحا من لا يكبت نزعاته، كما يدعى صالحا أيضا من يتحكم فيها.
يدعى صالحا من يطمح إلى الحقائق مطلقا، كما يدعى صالحا أيضا من يموه مظاهر الأشياء.
يدعى صالحا من يجاري نفسه كما يدعى صالحا أيضا من يتصف بالخشية والتقوى.
يدعى صالحا الرجل الممتاز النبيل، كما يدعى صالحا أيضا الرجل الذي لا يحتقر أحدا ولا يترفع علي أحد
يدعي صالحا الرجل الطيب الذي يتقي الجدل، كما يدعي صالحا أيضا الرجل المتشوق أبدا إلى العراك والظفر.
يدعى صالحا من يطمح إلى المقام الأول، ويدعى صالحا أيضا من لا قبل له بالانتفاع مما يلحق الضرر بسواه.
2
إن في الإنسان قوة عظمى من الحوافز الأدبية غير أنها لا تجد لها هدفا واحدا تتجه بأجمعها إليه، فهي تذهب متعاكسة متناقضة؛ لأنها نشأت من شرائع تعددت ألواحها.
في العالم قوة أدبية لا حد لها، ولكن العالم قد حرم من مقصد واحد تبذل هذه القوة في سبيله.
3
لقد هدمت الأهداف جميعها، فعلى الإنسانية أن تقيم لها هدفا، ومن الخطأ أن نعتقد بوجود غاية ترمي الإنسانية إليها حيث لا هدف، لقد أقامت جميع الفرق لنفسها غايات غير أن هذه الغايات اضمحلت جميعها بتبدل حالاتها الأصلية.
إن العلم يهدي السبيل ولا يدل على الهدف غير أنه يورد من المبادئ ما يصور الغاية تصويرا.
4
عقم القرن التاسع عشر.
ما صادفت حتى اليوم رجلا أتى بمثل أعلى جديد، غير أن الموسيقى الألمانية فتحت مجالا لآمالي وأولتني الاعتقاد بأنها ستوحد بين القوى.
إن نظرة واحدة تكفي المتأمل ليرى أن كل شيء يتداعى، فيجب أن يعمل الهادمون بطريقة تدع للأقوياء مجالا لإقامة الحياة على شكل جديد.
5
إن انحلال المبادئ الأدبية ينتج عنه بالفعل تفكك الشخصية في الفرد وفي المجموع؛ فيسود الاضطراب كل شيء، لذلك لا بد من وجود غاية يتجه الاستقرار نحوها، لا بد من محبة جديدة.
6
لقد كنت أتنفس بحشرجة المختنق ومبادئكم الأدبية معلقة فوق رأسي فعمدت إلى قتلها كما تقتل الأفاعي، أردت الحياة فوجب علي أن أموت.
7
ما دمنا في حاجة إلى العمل والقيادة، فليس لنا أن نستغني عن الشخصية الأدبية، ولا بد لنا من الرضى بالواقع؛ لأن القائد لا يسير إلى ما وراء هدفه إذا هو لم يجد لذة في عمله.
8
ليس من أحد يرضى بتحمل تبعة العمل، إذا لم يصدر به أمر، ولكن الناس يهرعون جميعا إلى القيام بأصعب الأعمال إذا أمرتهم أنت.
9
لمن صعاب الأمور أن يتغلب الإنسان على ما كمن فيه من ماضي الزمان فينظم الحوافز لدفعها متحدة إلى هدف واحد، ذلك لأن هذا العمل لا يقوم على إلغاء الغرائز الشريرة فحسب بل يستدعي منك أيضا أن تمحو الغرائز الطيبة لتعود إلى بعثها.
10
حذار من الطفرة على مسلك الفضيلة، فعلى كل فرد أن يسير في طريقه وإن جنح عن طريق الآخرين دون أن يطمح إلى بلوغ الذروة وحده؛ إذ على كل سائر أن يكون جسرا للمتقدمين وقدوة للمتأخرين.
11
قد يصبح الإنسان العادي السطحي محتملا، ولا بأس به إذا هو اتجه بإرادته إلى إعانة سواه والإشفاق عليه راضيا بالطاعة مبتعدا عن التهجم، فاحذر أن تزعزع اعتقاد مثل هذا الإنسان بأن هذه الصفات إنما هي الفضيلة بعينها.
12
إذا أمكن للإنسان أن يجعل للعمل قيمة، فكيف يتسنى للعمل أن يجعل الإنسان ذا قيمة.
13
إن المبادئ الأدبية تشغل من لا قبل لهم بالاستغناء عنها فهي جزء من أسباب حياتهم، ولا يمكن لأحد أن يدحض أسباب الحياة ... إلا إذا كانت معدومة أصلا.
14
لو صح أن ليس في الحياة ما يستحق التمسك فيه، لكان ذو المبادئ الأدبية يلحق الضرر بأبناء جنسه من جراء غيريته وفضيلة إحسانه ليستفيد من هذا الضرر لنفسه.
15
إن الأمر بمحبة القريب معناه لا تهتم لقريبك، وعدم الاهتمام بالقريب إنما هو أصعب ما تقضي به الفضيلة.
16
إن الإنسان الشرير إنما هو طفيلي، وليس من النبل ألا يحيا الإنسان إلا ليتمتع بالملذات.
17
إن العاطفة النبيلة تصدنا عن أن نحيا للتمتع بالملذات فقط؛ إذ علينا أن نقوم بشيء لقاءها، ولكن طبقة العامة تعتقد بأن للإنسان أن يحيا دون أن يتقاضى الحياة شيئا وفي هذه العقيدة علة انحطاطها.
18
إن الإنسان المنحط يخضع للسنن المتناقضة، فإذا شئت أن تزرع الفضيلة فيه وجب عليك أن تسلخه عن حياته إرغاما وتسوده طغيانا.
19
الحق المطلوب: يجب أن تتم الشرعة الجديدة، ولن تتم إلا بزوال الشرائع العليا وزرادشت ينتصب بوجهها لإلغاء شريعة الشرائع وهي الآداب.
إن الشرائع في مقام السلسلة الفقرية من المجتمع؛ لذلك وجب أن نوحدها بالقضاء منها على ما كان يخضع له الإنسان حتى اليوم بسائق العبودية.
20
يجب أن يكون زرادشت في الانتصار على نفسه قدوة تتبعها الإنسانية للانتصار على نفسها في سبيل الإنسان المتفوق لذلك وجب على الإنسانية أن تتغلب على المبادئ الأدبية .
21
ما هي سيماء المشترع وما هو ارتقاؤه وما هي آلامه؟ وما هو معنى الاشتراع بوجه عام؟
ليس زرادشت إلا نذيرا بمشترعين عديدين.
22
عناصر مختلفة: (1)
الحاكمون، وهم من لا يتوقون إلا إلى الصور التي يبدعونها؛ لأنهم غزيرو المادة مطلقون يتفوقون على ما هو كائن. (2)
المطيعون، وهم المتحررون الذين يجدون سعادتهم في الحب والاحترام ويدركون معنى الرقي، وعليهم أن يتجهوا بالتأمل إلى إلغاء ما فيهم من عيوب. (3)
المستعبدون، وهم الطبقة المستخدمة، وعليهم تأمين رغد العيش وإيجاد الرحمة بين أفرادهم.
23
الواهب والمبدع والمعلم ثلاثة ينذرون بقدوم من سيسود.
24
كل فضيلة وكل انتصار على الذات ليسا إلا تمهيدا لطريق من سيسود.
25
كل ضحية يقوم بها السائد تحتسب له مائة ضعف.
26
إذا ما قام قائد الجند أو الأمير أو المسئول تجاه نفسه بتضحية، فقد حق له أن يمجد على ملأ الأشهاد.
27
إن خارقة السائد الذي يثقف نفسه هي أنه يقيم فيها صورة للشعب الذي يطلب السيادة عليه، حتى إذا تجلت هذه الصورة للشعب أسلس له قياده.
28
يعمل المثقف الكبير عمل الطبيعة في ما يعترض سيرها، فيدع للحوائل مجالا للتراكم حتى يتغلب عليها.
29
ليس المعلمون المجددون إلا الخطوط الأولى يضعها الرسام الأعظم فتبقى هذه الخطوط مطبوعة على غرارهم.
30
إن ما يؤسسه عظماء الأفراد يبقى مجسما لشخصيتهم إلى أن ينمو ويأتي بثماره.
31
يحاول الناس أبدا أن يستغنوا عن الأفراد والعظماء فيتوسلون بإنشاء الجمعيات والهيئات، ولكنهم يبقون مطلقا تابعين لهؤلاء الأماثل فينسجون على منوالهم.
32
إن الأهداف الاجتماعية ترجع بالإنسان القهقرى، فهي توجد طبقة عاملة وتخلق نوعا من الناس لا بد من عبوديته في المستقبل.
33
ليس من ظلم أروع من حق المساواة بين الجميع؛ لأنه يقيم نظاما ينزل الإرهاق الأشد بأهل الرقي.
34
ليس في الكون ما يصح أن يسمى حق الأقوى، لأن الأقوى والأضعف متساويان في أن كلا منهما يمد سلطانه على قدر استطاعته.
35
تقدير جديد للإنسان: السؤال أولا:
عن عدد القوى الكامنة فيه.
عن عدد الغرائز المختلفة.
عن مؤهلاته المؤثرة ومؤهلاته المتأثرة.
ما هي مميزات رب السيادة ؟
36
إن زرادشت مرتاح إلى انتهاء العراك بين الطبقات واستتباب النظام على أساس الميزة الفردية، وقد كانت الخطوات الأولى نحو التمهيد للشعبية مليئة بالأحقاد، فلم يبق الآن بعد اجتياز هذه المرحلة الموفقة إلا القيام بعمل آخر فيه حل المشكل الاجتماعي.
إن تعاليم زرادشت قد وجهت إلى الطبقة المعدة للسيادة في آتي الزمان؛ لأن على من سيحكمون الأرض أن يقوموا مقام الآلهة ليخلقوا في الطبقة المحكومة الثقة التامة الأصيلة، فعليهم أولا أن يمهدوا سبل السعادة لمن هم دونهم بتضحية لذاتهم وراحتهم وعليهم أن ينقذوا من لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال، ثم ينشرون أديانا وطرائق تتوافق وكل حلقة من سلسلة المجتمع.
37
إن جهاد السائد إنما يكون في توفيقه بين محبته لمن حوله ومحبته لمن سيأتون في المستقبل البعيد.
إن صلاح المبدع لا يتحمل التجزئة فهو صلاح واحد، ولكنه يتناول الأقربين من جهة ويمتد إلى الأبعدين من جهة أخرى.
38
يقوم الشعور بالسلطان على نضال بين أقانيم الذات للاهتداء إلى الفكرة التي تتعالى كالنجم على سهى الإنسانية وما الذات إلا الأولية المتحركة.
39
إن زرادشت يدعو إلى الكفاح للاستفادة من السلطان المتجلي في البشرية.
40
إن بلوغ المثل الأعلى إنما يقوم على الكفاح في سبيل السلطان على منهج لا يناقض هذا المثل.
41
إن سنة الرجوع إنما هي مدار القطب للتاريخ.
42
إن مجال الحقيقة ينفرج بغتة أمام البصائر، فالمعرفة الصعبة المنال تتحصن في السريرة وتكفل مناعتها بالتحوط والتخفي، وقد عشت حتى الآن ونفسي تواري شيئا عن نفسي، غير أن ما بذلته من جهد مستمر في رفع الصخور أولى غريزتي قوة لا حد لها، وها أنذا أقلب الصخر الأخير، وها أنذا أمام الحقيقة وجها لوجه.
استغاثة الحقيقة من أعماق اللحود، لقد أوجدنا الحقيقة ببعثها من مرقدها فكان في ذلك أشد مظهر للشعور بالسلطان فيجب علينا احتقار التشاؤم على ما فهم الناس منه حتى اليوم.
إننا في عراك مع الحقيقة، وقد رأينا أن لا سبيل للصبر عليها إلا بإيجاد الإنسان الذي يقدر على احتمالها، وإلا فلا بد من أن نعود إلى الوقوف أمامها مبهورين حتى تورثنا العمى، وليس بوسعنا أن نقف هذا الموقف بعد الآن.
لقد أوجدنا الفكرة التي كلفتنا أوفر الجهود فلنبدعن الآن إنسانا يستخف حملها فتوليه السعادة.
وإذا ما أردنا التمتع بسلطان الإبداع وجب علينا أن نمنح أنفسنا من الحرية ما لم تمنحه في أي زمن من الأزمان، ولن نبلغ ما نرجو ما لم نطرح عبء المبادئ الأدبية ونكتسب الرشاقة بالحبور، يجب علينا أن نشعر بما نتوقع لآتي الزمان ونمجد المستقبل دون الماضي، علينا أن نصور بأجمل بيان شعري أسطورة المستقبل فنحيا بجميل الأمل نعيش به زمنا رغدا، ثم نسدل الستار ونحول تفكيرنا إلى الأهداف القريبة المعينة.
43
على الإنسانية أن تنصب هدفها ما وراء مجالها الحالي لا في عالم الأوهام بل في امتداد كيانها نفسه.
44
كلما أوجدت إرادة تندفع إلى الآتي وجدت حولها بيئتها، ولزم أن نتوقع حدثا عظيما.
45
إن ما فطرنا عليه هو أن نخلق كائنا يتفوق علينا، تلك هي غريزة الحركة والعمل، وكما أن كل إرادة تستلزم افتراض هدف لها هكذا يدعو وجود الإنسان إلى افتراض كائن لم يوجد بعد وهو هدف حياة الإنسان نفسه.
إن في الهدف مستقرا للحب وللاحترام، وفيه مكمن للشوق ومنه تنبعث رؤى الكمال.
46
إن ما أطالب به هو خلق أناس يعتلون فوق كل نوع إنساني، وعلينا أن نضحي في هذا السبيل أنفسنا وأبناء جنسنا.
إن للآداب التي سادت حتى اليوم حدودها في مجال الزمان والمكان فقد كان لها نفعها؛ لأنها سارت جميعها بالجنس البشري إلى حالة الاستقرار المطلق، ولهذا وجب أن يقتلع الهدف لتركيزه على موقع أرفع.
ولا أجد فائدة من العمل على إيجاد المساواة بين الناس، بل أدعو بعكس ذلك إلى تقوية الفروق وتعميق المهاوي لإلغاء المساواة وخلق الرجال الأشداء، وبهذا يولد الإنسان المتفوق.
وما نقصد أن تصير الإنسانية إلى حالة يتسلط المتفوقون فيها على المتقهقرين، بل يجب أن تبقى الفئتان مفترقتين قدر المستطاع فلا تهتم إحداهما بالأخرى، فيستتب الأمر على مثال ما تصوره أبقراط لآلهته.
47
إن للإنسان المتفوق في دائرته العليا ما يقابله في الدائرة السفلى من جنسه، فقد أوجدت المتفوق والمتقهقر في آن واحد.
48
كلما ازدادت حرية المرء وانجلت إرادته، ازدادت مطالب شوقه حتى تؤدي به إلى مرتبة التفوق؛ إذ يصبح كل ما هو دون هذه المرتبة عاجزا عن إرضاء محبته.
49
في وسط الشوط يولد الإنسان المتفوق.
50
لقد سادني الاضطراب بين الناس فكنت أود الحياة بينهم ولا أجد ما يرضيني فيهم، فذهبت إلى العزلة حث انفردت بنفسي وأبدعت الإنسان المتفوق، ملقيا عليه ستار التحول تشع فوقه أنوار الظهيرة.
51
إننا نريد أن نخلق كائنا نحوطه بالحب جميعا ونحنو عليه، لذلك وجب علينا أن نحترم أنفسنا.
لنضع نصب أعيننا هدفا نتبادل الحب من أجله، ولنعرض عن سائر الأهداف فإنها أولى بالهدم.
52
إن مبدأ زرادشت هو أن خير الناس أقواهم جسما وروحا، فيجب أن نستثمر منهم الآداب العليا: آداب المبدعين. إن زرادشت يريد استعادة خلق الإنسان على صورته ومثاله. وإرادته هذه تنم عن إخلاصه.
53
إن العبقرية لتجد في زرادشت مجسم تفكيرها.
54
إن العزلة إلى حين ضرورية لاتساع الذات وامتلائها، فالعزلة تشفي أدواءها وتشدد عزمها.
يجب أن تبنى الجماعات على أساس العراك والنضال وإلا فمصيرها إلى الإقدام على الملاهي والتراجع أمام كل هجوم. إنني أدعو إلى الحرب حربا لا حديد فيها ولا نار تتقارع فيها المبادئ ويتبارى أصحاب الأفكار في ميدانها.
يجب إيجاد فئة النبلاء بانتخاب الأصلح واختيار مراسم جديدة لتأسيس الأسرة.
تقسيم النهار تقسيما جديدا، ونشر الرياضة بين الجميع كبارا وصغارا، واعتبار النضال مبدأ أوليا.
النظر إلى المحبة الجنسية كجهاد من أجل من سيأتون بعدنا.
تعليم التسلط قساوة ولطفا، وعند نوال قوة التحكم في حالة، السعي إلى نوالها في الحالة التي تليها.
اقتباس ما يمكن اقتباسه عن الأشرار وفتح مجال للنضال أمامهم؛ إذ يجب استخدام المنحطين أيضا.
يجب أن يرسو حق العقاب على اتخاذ المجرمين أدوات للتجارب العلمية - ومنها التجارب لإيجاد طريقة جديدة للتغذية - وبذلك يبرر استخدام الفرد لخير المجموع.
إننا نعامل بالمداراة مجتمعنا الجديد؛ لأنه معبر يؤدي إلى المثل الأعلى في آتي الزمان، وما نعمل نحن وندفع بالآخرين إلى العمل إلا في سبيل هذا المثل الأعلى.
55
وجود الطرق والوسائل للاندفاع إلى ما وراء الإنسانية، وعلينا أن نجد من الإنسان نوعه الأعلى والأشد.
يجب أن نتمثل أبدا بما في الأصاغر من نزوع إلى الأفضل، إلى التكامل والنضوج، إلى الصحة وإشعاع القوة.
يجب أن يعمل كل واحد عمله اليومي بعاطفة الفنان؛ لإبلاغ ما يقوم بصنعه حد الكمال، والنظر إلى ما يجب صنعه بدون مغالاة كما يليق بأهل الاقتدار.
56
تذرعوا بالصبر فإن الإنسان المتفوق مرتبتكم التالية، فيجب عليكم أن تتصفوا بالاعتدال والرجولة.
لنرفعن الإنسان فوق مستواه أسوة باليونان، فلا نطمح إلى الخوارق العقلية، وخير لنا أن نستبعد العقل الراجح إذا قيده الخلق الضعيف والأعصاب المتهدمة، وليكن هدفنا إنماء الجسد كله لا الدماغ وحده.
57
ما الإنسان إلا كائن يجب التفوق عليه، نظرة إلى خطوات اليونانيين المتزنة بلا تسارع ولا إبطاء.
نظرة إلى طلائعي: هرقليت وأمبيدوكل وسبينوزا وغوته.
58 (1)
التضجر من الذات. ترياق ضد الندم. تحول الأمزجة «الوسائل الغير العضوية». الإرادة في عدم الارتياح. يجب أن يصل عطشنا إلى أشد حالاته قبل أن نحاول اكتشاف ينبوع لإروائه. (2)
تحويل الموت ليصبح وسيلة للظفر والمجد. (3)
المرض وما يتخذ تجاهه. حرية اختيار الموت. (4)
الحب الجنسي كوسيلة لبلوغ المثل الأعلى «التشوق إلى الفناء في القوة المعاكسة.» محبة الألوهية المتألمة. (5)
التوليد كأقدس الأعمال، الحبل. إبداع الرجل والمرأة الذين يتجهان بإيجاد الطفل إلى التلذذ بوحدتهما ورفع هيكل لاتحادهما. (6)
الإشفاق كخطر. إيجاد الأحوال الملائمة ليتمكن كل فرد من معونة نفسه ومن التمتع بحريته في قبول المساعدة أو رفضها. (7)
الثقافة في اتجاه الشر ليثير الإنسان شيطانه الكامن. (8)
الجهاد الداخلي كوسيلة للرقي. (9)
حفظ النوع وفكرة العودة المستمرة.
59
سنة أولية: تخطي المراتب دون طفرة، وبلوغ الكمال في كل مرتبة بالشعور بالارتياح فيها.
العمل أولا في التشريع. إن فكرة العودة المستمرة فكرة بعد الوعد بالإنسان المتفوق مروعة ولكنها أصبحت مقبولة الآن.
60
إن الحياة نفسها قد أوجدت فكرة هي أصعب ما تحتمل الحياة؛ لأنها تطمح إلى تذليل أعظم عقباتها، وهي أن يطلب الإنسان العدم ليتمكن من العودة إلى الوجود يوما.
لتكن حياتك عبارة عن تحول في ألف روح، وليكن هذا ما قدر عليك، فتصبح إرادتك منصبة على قبول هذه الحلقات المتوالية.
61
إن أعظم ما نطمح إليه هو أن نرضى بخلودنا ونتحمله.
62
إن الفترة التي أتيت فيها بفكرة العودة المستمرة إنما هي فترة خالدة، أحتمل من أجلها هذه العودة.
63
إن مبدأ العودة المستمرة يرهق النبلاء لأول وهلة؛ لأن هذه العودة تؤدي في الظاهر إلى القضاء عليهم للاستبقاء على مخلوقات سخيفة أقل ضررا، ولعل النبلاء يقولون: «يجب إبادة هذا المبدأ وقتل زرادشت.»
64
يتردد أتباع زرادشت ويقولون: «سنتوصل إلى الاعتياد على هذا المبدأ، غير أنه سيدفع بنا إلى القضاء على العدد الأوفر من الناس.»
يضحك زرادشت ويقول: «لقد وضعت المطرقة في يدكم وعليكم أن تستعملوها.»
65
إنني لن أخاطبكم كما أخاطب الشعوب؛ لأن كل شعب يقضي على نفسه باحتقارها، ويتبادل الشعوب الاحتقار فيفني أحدهم الآخر.
66
إن طموحي إلى فعل الخير يضطرني إلى الصمت غير أن إرادتي المتجهة إلى إبداع الإنسان المتفوق تأمرني بأن أتكلم وأضحي حتى من أحب.
علي أن أتطبع وأتحول فأطبعكم وأحولكم، ولا سبيل لنا بغير هذا إلى احتمال هذا الإنسان المتفوق.
67
منشأ الإنسان الراقي. إن ثقافة الرجل الأفضل تقوم على الألم الأشد. بيان عن المثل الأعلى الذي يتجه إليه زرادشت ويستدعي ما تحمل من تضحية في سبيله؛ إذ ترك مسقط الرأس والأسرة والوطن. الحياة عرضة لتحقير الفضيلة السائدة. آلام التجاريب وصدمات اليأس، التخلي عن الملاذ التي تتاح للإنسان عند اتجاهه إلى المثل الأعلى القديم، وهي ملاذ يتذوق منها الحر طعم الأشياء المضرة أو يشتم منها نكهة غريبة.
68
إن القلب المبدع قد أولى الأشياء قيمتها ومعناها، ثار شوقه فعمد إلى الابتداع موجدا اللذة والألم، ثم طمح إلى إشباع شهوته ألما.
فعلينا أن نتحمل كل ما أحس به الإنسان والحيوان من آلام فيما مضى، وعلينا أن نجعل لهذه الآلام صفة مثبتة، وأن نقيم لنا هدفا يبرر احتمالنا لها.
69
من الأوليات «إن بوسعنا أن نعتبر الألم نعمة والسم غذاء. نظرة في إرادة الألم.»
70
إن الإعداد للآتي يستلزم بطولة، ولا سبيل لأن يحتمل الإنسان نفسه إذا هو لم يتشوق إلى الرقي المطلق.
علينا ألا نكتفي بالاتجاه نحو الرقي في حالة واحدة؛ إذ من الواجب أن نطمح إلى مجاراة الحياة فنصير إلى إعداد أنفسنا لتكرار الرجوع في حالات متعددة.
علينا ألا نهتم بآراء الغير؛ لأننا نعرف ما هي مقاييسهم وموازينهم، وإذا كنا نحن موضوع هذه الآراء وجب علينا أن نتلقاها بالإشفاق على أربابها.
71
على الأتباع العاملين لنشر المبادئ أن يتصفوا بثلاث صفات: الإخلاص والقدرة على التفاهم والتساوي في المعرفة.
72
وصف الإنسان الراقي على مختلف أنواعه، وما يعتوره من انحطاط وما يهدده من عوامل الفناء. إيراد أمثلة عديدة «كدوهرين» الذي أردته العزلة.
ذكر ما قدر على أهل الرقي في هذا العصر واتجاههم إلى الانقراض. صوت الاستنجاد الموجه إلى زرادشت. أنواع التدني في الرقي.
73
الرجال الراقون اللاجئون في محنتهم إلى زرادشت
محاولة التقهقر قبل الأوان بالدعوة إلى الإشفاق. (1)
جوابة الآفاق التائه المضطرب المتناسي حب شعبه في حبه لشعوب عديدة؛ الأوروبي الحقيقي. (2)
ابن الشعب العبوس الطموح اللاجئ إلى العزلة كيلا يعمل على الهدم؛ إنه عدة للعمل. (3)
أقبح العالمين، الذي يجد نفسه مضطرا للتزين والتفتيش أبدا على أساس جديد، فهو يطمح إلى الظهور بمظهر لا يورث النفرة، ولكنه يلجأ إلى العزلة أخيرا كيلا يراه أحد؛ إنه يستحيي نفسه. (4)
عاشق ما يقع تحت الحس: «دماغ العلقة» إنما هو الضمير الفكري المرهق داؤه التطرف؛ فهو من يطلب إنقاذ نفسه من نفسه. (5)
الشاعر الطامح إلى لذة الحرية، يختار العزلة أخيرا طلبا للمعرفة القاسية. (6)
مخترع العقاقير المسكرة، إنه الموسيقي الساحر الذي ينتهي به حاله إلى الانطراح أمام قلب محب هاتفا: «لا تأت إلي فإنني أريد أن أقودك إلى غيري.»
وهنالك أيضا الزاهدون الذين يشتهون السكر ولا قبل لهم به؛ لأنهم قد تجاوزوا حدود الزهد. (7)
العبقري - باعتبار العبقرية إغراق في الجنون - إنه الإنسان المستحيل إلى جليد لفقدانه الحب. «ما أنا بالعبقري ولا بالإله.»
الحنان الأعظم بازدياد الحب. (8)
الغني الذي يهب كل ما يملك، ثم يدور قائلا لمن يصادف: «إذا كنت ثريا فأعطني نصيبي.» ذلك هو الغني المتسول. (9)
الملكان يتخليان عن الملك قائلين: «إننا نفتش على من هو أليق للحكم منا.»
لا وجود للرجل العظيم فلا وجود إذن للتعظيم. (10)
المتظاهر بالسعادة. (11)
العراف المتشائم الذي يرى الضيم أيان اتجه. (12)
مجنون المدينة العظمى. (13)
الشاب على الجبل. (14)
المرأة المفتشة على الرجل. (15)
العامل وحديث النعمة الناحل الحسود. (16)
الصالحون.
جنونهم في سبيل الله أو بالحري في سبيل أنفسهم. (17)
الأتقياء.
جنونهم في سبيل الله أو بالحري في سبيل أنفسهم. (18)
القديسون.
جنونهم في سبيل الله أو بالحري في سبيل أنفسهم.
74
لقد بذلت لكم الفكرة الثقيلة المرهقة المؤدية إلى فناء الإنسانية فهل تبعث هذه الإنسانية يا ترى بعد تذليل عقباتها والقضاء على العناصر القاتلة للحياة؟
لا تذموا الحياة بل وجهوا الذم إلى أنفسكم.
ما يجب أن يستقر عليه الإنسان الراقي بصفته مبدعا تنظيم جماعة الراقين وتثقيف من سيئول الحكم إلى يدهم يوما.
لتفوقكم أن ينعم بما يأتيه من تحكم ومن تبديل.
إن الإنسان سيعود تكرارا وأبدا، وليس هو العائد فحسب بل الإنسان المتفوق أيضا.
75
إن العزلة بأنواعها السبعة إنما هي المحنة الخاصة بالمصلحين، وهي تعزيتهم أيضا فالمصلح يتعالى فوق الأزمنة وارتفاعه يقيض له الاتصال بجميع المصلحين والمجهولين في كل زمان، وليس له من وسيلة للدفاع عن نفسه إلا جماله، فهو يقبض على آلاف السنين الآتية ويزداد حبه كلما امتنع عليه أن يفعل الخير بدافع هذا الحب نفسه.
76
إن زارا لا يتململ في صبره وهو ينتظر قدوم الإنسان المتفوق، بل يتوقع هذا الحدث مطمئنا وقد اتجهت كل حركة شطر هدفها متكاملة مسددة الخطى.
إن النهر العميق هادئ في سيره، ولأصغر الأمور ما يبررها.
في القسم الثالث من زرادشت، يجب استعراض كل اضطراب وكل شهوة جامحة وكل اشمئزاز والتغلب عليها.
ما كان اللطف والحنان في القسمين الأول والثاني إلا دليلا على القوة التي لم تتوصل إلى الوثوق من ذاتها.
عند بلوغ زرادشت الشفاء ، يتجلى «القيصر» بكل صرامته وكل خيره وحنانه، وعندئذ يتهدم الحائل ما بين قوة الإبداع والحنان والحكمة، فيسود الجلاء والطمأنينة وتضمحل الشهوات الجامحة وهكذا تبلغ السعادة الخلود؛ إذ يحسن الإنسان التمتع بها.
77
زرادشت «القسم الثالث».
لقد بلغت السعادة بنفسي.
عندما ابتعد عن الناس عاد إلى نفسه، فكأن غمامة انقشعت من جوه.
الحياة التي يجب على الإنسان المتفوق أن يتمتع بها إنما هي حياة إله «أبقراطي».
إن ما يرد في هذا القسم الثالث إنما هو وصف الآلام الإلهية، ولم تذكر أحوال المشترع الإنسانية إلا على سبيل المثال، فإنه يرى أخيرا أن محبته لأصحابه علة يشفى منها فيعود إلى الراحة والسكون، وعندما تأتيه الدعوة ينسحب على مهل.
78
يجب أن يؤتى في القسم الرابع بإيضاح مفصل عن سبب إشراق الظهيرة العظمى في حينها، فلا بد إذن من وصف الحقبة الملائمة للظهور على أن يتولى زرادشت تأويل هذا الوصف.
ويجب أن يبين في الفصل الرابع السبب الحقيقي لوجوب خلق الشعب المختار أولا، وهو شعب يلائم رجاله زمانهم فيأتون أضدادا لمن لا تتفق أحوالهم مع الزمان، ولا يعهد زرادشت بحل القضايا إلا لمن يظهرون أخيرا فيدعوهم إلى العمل على تحقيق نظرياته، وهي نظريات صحيحة ولا محاباة فيها والنبل من أخص مميزاتها.
وهكذا يتسلم هؤلاء الناس المطرقة التي ستتولى الملك في العالم.
79
التكافؤ في القدرة بين المبدع والعاشق والعارف.
80 «للحب وحده أن يتولى القضاء.» فالحب يبدع ويجحد نفسه في ما يبدع.
81
لا سعادة في اتباع شرعة زرادشت إلا حين يستتب نظام التسلسل، وهو ما يجب تعليمه قبل كل شيء نظاما تقوم عليه الحكومة في العالم؛ إذ توجد طائفة جديدة للسيادة فيه، ومن هذه الطائفة يخلق في كل مكان إله أبقراطي هو الإنسان المتفوق الذي يغير صفحة الوجود ويبدل الحياة تبديلا.
إن العالم الذي يتفوق على الإنسانية إنما يعود بها بعد هذا الجنوح إلى بذل حبه للأصاغر والمتضعين.
زرادشت يموت وهو يبارك جميع حوادث حياته.
82
لقد كفانا أن نكون أناسا يصلون فعلينا أن نصبح أناسا يباركون.
Unknown page