وانتقلت من حجرة خلوتي إلى غرفة نومي، فلما دخلت سريري وأطفأت الأنوار ذكرتني غيرة زوج ابنتي بما كان من غيرتي أيام شبابي، وما كان لهذه الغيرة من أثر في حياتي، وما أدت إليه من انفصالي بالطلاق عن زوجي، وأن طفولة ولدينا لم تمنع يومئذ الانفصال، ولم تشغلني عن هذه الغيرة، على أنني دفعت ما أثارته هذه الذكرى من مخاوفي بأن غيرة المرأة ليست كغيرة الرجل؛ حسب الرجل من المرأة أن يؤمن بوفائها له، ومحافظتها على عهده؛ ليطمئن قلبه، وليستريح إلى أن مجاملة الرجال لامرأته بالثناء عليها، بل بتمليق مزاياها ومواهبها، لا أثر لهما في وفائها وإخلاصها له ولأسرتهما. أما غيرة المرأة فمرجعها إلى أن الرجال لا وفاء لهم إلا ما ندر؛ لأن تعدد النساء في طبعهم، ولأن عدم وفائهم لا يدخل على أسرتهم من ليس منها، فمن حق المرأة أن تكون دائمة اليقظة دفاعا عن نفسها، ولها عذرها إن دفعتها الغيرة إلى مثل ما دفعتني إليه، مع ما في ذلك من مضرة بها وبأبنائها، وأقنعتني هذه الحجة بأن ابنتي ليست معرضة لمثل مصيري ما وفت هي لزوجها، فاطمأننت لهذا المنطق، وذهبت بي الطمأنينة إلى عالم النوم.
تنصف شهر شعبان، فأديت لزوجي واجبه، فذهبت إلى قبره، ووضعت عليه الورود وأغصان الشجر، وتلا قارئ القرآن هناك ما تيسر منه، ووزعت الطعام على الفقراء، ثم عدت إلى بيتي، ولا يزال أثر البكاء في عيني، وفي الأيام الباقة من هذا الشهر أخذت أعد لسهرة رمضان، وأفكر في نظام حياتي بعد نهايته.
وكان هذا التفكير في سهرة رمضان جديدا علي، فلم يعتد زوجي - ولا اعتاد زوجي الأول قبله - إحياء هذه السهرة، ولا أخالني كنت أفكر في إحيائها لولا ما عاودني من تقوى صباي مما دفعني بعد ذلك للحج وللمقام بالمدينة، ولولا وفاة زوجي وفاة حزت في كبدي. فلما بدأ رمضان، وأخذت القارئة التي اخترتها ترتل القرآن بصوتها الرخيم، شعرت لسماعه بطمأنينة النفس إلى قضاء الله وقدره، وازددت يقينا بمغفرة الله للتائب الذي صدقت توبته وإنابته، وإن أيقنت كذلك بأن التوبة الصادقة تقتضي صاحبها التكفير عن خطاياه بصدق الندم عليها، والإيمان بأن ما أصابه وما يصيبه من جرائها ليس إلا الجزاء العدل عنها جزاء يجب أن نتقبله شاكرين.
وقضيت رمضان في العبادة والتهجد، أقوم الليل، فإذا تناولت طعام السحر وصليت الفجر، أويت إلى مضجعي لأستيقظ لصلاة الظهر، أو للجمع بين الظهر والعصر، وقبيل المغرب تجيء القارئة تتلو ما تيسر من القرآن، فإذا غابت الشمس صليت ثم أفطرت، ثم صليت العشاء وبدأت السهرة، فجاءني بعض صديقاتي وزارني أبنائي، وأقمنا نستمع للقرآن ونتداول الحديث، حتى إذا انصرفوا قبيل موعد السحر أقمت أتحدث مع القارئة حتى نتناول طعام السحر معا، ثم ذهبت إلى حجرة خلوتي، وأقمت بها حتى أصلي الفجر لأذهب بعد الصلاة إلى مضجعي.
وانقضى رمضان وأديت في فترة العيد واجباته لزوجي ولزوجي الأول، فذهبت إلى قبريهما ومعي أولادي، وهناك قمنا بالمراسم المألوفة في هذه المواسم.
وأخذت أفكر في المستقبل القريب وما أصنع فيه؛ ذلك أنني جال بخاطري غير مرة في أثناء رمضان أن أحج البيت وأهب حجي لزوجي لعل الله يغفر له، وأن أحج العام الذي يليه وأهب حجي لزوجي الأول عسى الله أن يرحمه. وإنني لكذلك إذ تناولت مع البريد رسالة فضضتها فتولتني الدهشة، وأخذ مني العجب، فهي مكتوبة بالألمانية، ونظرت في التوقيع فإذا هي من زوج السفير الألماني الذي عرفت منذ أكثر من عشرين سنة، والتي اعتزت يوما بمركزها وجنسيتها فنال ذلك من كبريائي ومن قوميتي، فأتقنت الألمانية وقرأت أمهات أدبها، حتى لا تزعم أنها خير مني في المجتمع مكانا، وابتسمت لهذه الذكرى، ذكرى الشباب وكبريائه وغروره، وتلوت الرسالة فإذا صاحبتها تذكر سابق معرفتنا، وأنها جاءت إلى القاهرة إثر وفاة زوجها تتسلى عن شجنها بذكريات سعيدة نعمت بها في عاصمة مصر مع ذلك الزوج الذي كان يحبها من كل قلبه، وتطلب إلي أن نلتقي في الموعد الذي أحدده لنجدد بالتقائنا عهدا تنافسنا فيه، ثم تصافينا ولم يطرأ بعد ذلك على صفائنا ما يشوبه.
وابتسمت بعد أن فرغت من تلاوة الرسالة، فقد أثارت أمام خاطري عهد الشباب ونضارته، ورسمت أمام كهولتي تلك المرأة الشابة الجذابة الساحرة الحديث التي كنتها، والتي أثارت إعجاب المعجبين، وتمليق المملقين، وذكرتني لغة الخطاب بذلك الألماني الذي عرفت في الأقصر، والذي زارني بعد ذلك في القاهرة، بعد أن بلغ إعجابه بي أن قال إنه يراني على الأرض كما يرى الله في السماء، ألا ما أجمل الشباب وبراءة غروره! ما أجمل تلك الأيام التي يشعر الإنسان فيها بأنه محور الوجود، وأن كل ما في الكون يتجه بنظره نحوه ويتحدث إليه! بل ما أجمل أخطاء الشباب وخطاياه وأوزاره! إنها مصدر سعادتنا في شبابنا، والتكفير عنها والتوبة منها مصدر نعيمنا في كهولتنا. ترى لو أن الشباب لم يندفع مع غروره إلى الخطأ وإلى الخطيئة، فهل تكون الكهولة وهل تكون الشيخوخة إلا فراغا ثقيلا لا معنى له، إلا أنه غرفة انتظار للأجل المحتوم؟!
ترى كيف حال هذه السيدة الألمانية زوج السفير الذي سبقها إلى العالم الآخر؟ ألا تزال فيها بقية من ذلك الجمال الذي كانت تتيه به، وتلك الكبرياء القومية التي كانت تدفعها إلى التعالي على الناس؟! وما لي أسأل نفسي عن ذلك وحسبي - لأراه رأي العين - أن أضرب لها موعدا كما طلبت في كتابها، وعندئذ يصبح الخبر خبرا، إذ أراها وأتحدث إليها، وأذكر معها عهدا سعدت به ثم شقيت، ونعمت به ثم استغفرت الله عنه.
وكتبت إليها أدعوها لتناول الشاي معي في يوم قريب عينته، وجاءت لموعدي فكدت أنكرها لأول ما رأيتها؛ لقد ابيض شعرها، وتجعد وجهها، وأطفأ منظارها الأزرق بريق عينيها، وأثقلت سمنتها جسمها، وبدت وكأنها تكبرني بأكثر من عشرين سنة، وحمدت الله حين رأيتها لما أنعم به علي، ثم أخذت أحدثها عن سالف أيامنا وفتوة شبابنا، فتنهدت ثم قالت: «وا رحمتاه لذلك العهد السعيد! لم أكن أصدق ما قيل من أن مصرية في عهد الفراعنة كتبت على قبر ولدها: «من انتهك حرمة هذا القبر فليكن آخر من يموت ممن يحبهم»، وكنت أحسب أن الحياة لذاتها أحب إلينا من كل من نحب، لكني رأيت أمي وأبي وإخوتي وأعز صديقاتي وأصدقائي يتهاوون إلى قبورهم كما تهوي ريح الخريف بورق الشجر إلى الأرض، فكنت أشعر لكل صدمة بجانب من نياط قلبي ينقطع، وبنفسي تساقط أنفسا، وبحيويتي يغيض معينها، وكأنما يذهب جزء منها مع كل واحد منهم إلى مثواه الأخير، فلما مات زوجي العام الماضي كانت الضربة القاضية، حتى لقد شعرت بأن حياتي كلها تذبل وتذوى، وأنني أصبحت كالشجرة التي سقط عنها كل ورقها، وانحدر منها ماء حياتها، فهي تجف وتجف لتسقط مع أول ريح تعصف بها، وقد جمعت كل قوتي لأقاوم أحزاني ومصائبي، وجئت إلى هنا ألتمس في الذكريات السعيدة الماضية ما يزيد في هذه القوة لأتمكن من مغالبة الحياة، والتغلب على همومها، أتراني أنجح فيما قصدت إليه؟ أم أن لعنة هذه المصرية القديمة ستحل بي بعد موت أحبتي، وسيكون ما بقي من حياتي بعدهم أنشودة بؤس وشجن؟!»
قلت: «لا تذهب نفسك حسرات على الماضين يا صديقتي، وليكن لك في إيمانك بالله وعفوه ومغفرته لك ولهم ما تتسلين به عن همك وشجنك.»
Unknown page