ولم أتحرج حين الحديث عن معاونته صديقتي في أن أصفها بما أعتقد أنها أهل له، وأن أذكر أن صلاته بها أوحت بها الأهواء، ولم توح بها المروءة ولا الإنسانية! كما أنني ذكرت له أنه سبني سبا قبيحا حين تكلم عن صديقنا وزعم أني دبرت معه أن يتحدث إليه في أمر طلاقي منه لغرض في نفسينا، وأعدت في خاتمة الكتاب أنني لن أراه، ولن أسمح له بأن يراني، وأنني لن أبقى في بيت يسميه بيته، وأنه لن يعرف لي مقرا، وأنني أحتقر نفاقه حين يزعم لي أنه لا يزال يحبني، وأنا أعلم علم اليقين أن قلبه لغيري، هذا إن كان قلبه يعرف الحب، أو يملي عليه عاطفة كريمة صادقة!
ماذا كان شعوره حين قرأ هذا الكتاب؟ لا أدري، لكن صديقنا جاءني بعد أيام يقول لي إنه التقى بزوجي مصادفة، وإنه رآه في حال من الهم والأسى تثير الشفقة، وإنه تحدث إليه محاولا أن يخفف عنه فإذا عيناه تدمعان، وإذا هو يخرج من جيبه خطابي ويدفعه إليه، ويطلب إليه أن يقرأه. قال صديقنا: «وقد تصفحت بعض صحفه فأدهشني أنه لم يحضر إليك ولم يضربك ولم ينتقم لنفسه من بذاءة لم أقرأ ولم أسمع قط مثلها من سيدة أو امرأة من السوقة أو سواد الدهماء، ولو أنه فعل لما استطعت إلا أن تعتذري له عن هذا الطيش الجنوني الذي أملى عليك ما كتبت، أنت حرة في أن تكرهيه أو تحبيه، لكنك لست حرة في أن تهينيه وتسبيه.»
قلت: «أتراك عاودتك نزواتك السابقة حين أردت أن تتزوج من صديقتي، وأن هذه النزوات هي التي دفعتك للتطاول علي الساعة؟!»
نظر الرجل إلي في صمت حين سمع مني هذا الكلام نظرة تأنيب وعتاب، ثم استدرك هذه النظرة بعد برهة وقال: «وماذا يعنيك أنت من أن تعاودني نزواتي أو لا تعاودني؟ أم تريدين أن تسمعي مني مرة أخرى أني لن أتزوج صديقتك؟ إذن فاعلمي أني لن أتزوجها، نعم، لن أتزوجها، وليس ما تتوهمين من نزواتي هو الذي دفعني لأخاطبك بهذه اللهجة التي خاطبتك بها، لكنك أسرفت في إهانة رجل لا يسوغ لك أن تهينيه وأنت لا تزالين زوجته وله عليك حقوق أولها احترامه، فالزوجة قد لا تستطيع أن تحب زوجها، ولكنها لا حق لها بحال أن تهينه، أفهمت الآن سبب ما سميته تطاولي عليك؟»
هذه كلمات قاسية لم أسمع من قبل مثلها، لكنها نزلت علي بردا وسلاما، أكان ذلك لأنه أكد من جديد أنه لن يتزوج صديقتي؟ أم لأنه خالف بزجره إياي ما ألفت من جمود زوجي؟ لا أدري، لكني ابتسمت حين أتم كلامه، وقلت: «ما أظرف حديثك، وما أرق فلتات لسانك!» ثم نظرت إليه في خبث نظرة حرصت عيناي على أن تكذب بها لساني وأضفت: «وأي شأن لي إن أنت تزوجت صديقتي، اللهم إلا أن تكون حريصا على أن تجيء معك لزيارتي؟» وازدادت ابتسامتي وضوحا ونظرتي خبثا وزدت: «هذا إلا أن تخشى أن يكون عندي قريبي الذي رأيته معها في السيارة.»
وكان كل جواب الرجل: «دعيني من صديقتك فقد انقطع ما بيني وبينها كما انقطع ما بينك وبينها، لكنك ذكرت في خطابك لزوجك أنك لن تبقي بهذا البيت، فإلى أين تذهبين؟ وهلا تخشين ما يتقوله الناس عليك وأنت لا تزالين في عصمة زوجك، ولا يزال هو مصرا على إمساكك؟»
قلت: «أما أني سأترك هذا البيت فذلك أمر قررته ولا رجعة فيه، ولست أخشى ما يقوله الناس؛ لأنهم لا يعلمون ما قاسيت هنا، فقلوب الناس كالحجارة ما دام الأمر لا يمسهم، وإن أوقف هذا الأمر من يعنيه على حافة اليأس ودفعه إلى الانتحار، لقد دبرت أمري في سر، ولعلي لا أضن عليك أنت بسري، يوم يصبح أمرا مقضيا، فأنت وحدك الذي أجد في التحدث إليه السلوى عن بلواي، ومنقذي من عزلة يحاول زوجي أن يضرب نطاقها حولي بما يذكره إلى أصدقائنا عني، فأنا أعلم أنه تحدث إلى غير واحد من هؤلاء الأصدقاء عن الخطاب الذي بعثت به إليه، وذكر لهم شر ما فيه، لكن ما يقوله لم يعد يعنيني، وقد انحسم ما بيننا، ولم يبق سبيل إلى غير انفصالنا.»
وتركني صديقنا بعد حديث حاول به أن يردني إلى ما سماه الصواب، فلما خلوت إلى نفسي أخذت أقلب صفحاتها وأنا مضطربة الخاطر حينا، هادئة حينا، وعدت بذاكرتي إلى حديث زوجي الأخير معي، ووقفت منه عند كلامه عن مرضي وعلتي، وأن الغرور والغيرة هما مصدر هذه العلة، عند ذلك ثارت نفسي، وسمعت بأذني صوتي وأنا أقول: «يا بؤسى لهذا الرجل! أولو صح ما يزعم أفلا يرضيه أن أغار عليه؟! أم يريد أن أصنع صنيعه فأختار رجلا غيره أصفيه مودتي وأهبه قلبي؟ أم تراه يحسبني بعض متاع هذا المنزل، يسكن إليه متى شاء، ويدعه متى شاء، ويركله برجله أو يلقيه من النافذة إن أراد؟ إن يكن ذلك رأيه فليبحث عمن توافقه عليه، ولألقين عليه درسا لن ينساه ما عاش.»
وشغلت بالتفكير في ترك هذا البيت الذي يسميه بيته، فأين أذهب؟ وكيف أنفذ ما ذكرته له من أنه لن يعرف لي مقرا؟ ليس ذلك يسيرا إن أنا بقيت بالعاصمة، وليس يسيرا كذلك في مدينة صغيرة تثير أتفه الحوادث فيها طلعة ساكنيها، فهم يتحدثون عنها، وتلوكها ألسنتهم ويتناقلونها، فلا يبقى فيهم صغير ولا كبير لا يعرفها، إذن فليكن مقري الجديد بالإسكندرية، ولأذهب إليها أبحث فيها عن سكن لي وللطفلين؛ فالإسكندرية مدينة فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، وحسبي يوم أقيم بها ألا أختلط بأهلها، وأن أجعل مقامي في حي ناء من أحيائها، وسأستحلف صديقنا يوم أبوح إليه بسري ألا يبوح به لأحد، ولن أقبل منه إلا أن يقسم بقبر أمه، فذلك قسم لا يحنث هو به أبدا.
فلما صح مني العزم ترددت على الإسكندرية، ثم اخترت في ضاحية من ضواحيها النائية بيتا صغيرا أنيقا تحيط به الأشجار، وكأنما بناه صاحبه للغرض الذي أقصد إليه، وبعد أيام مر بي صديقنا فأخبرته بما فعلت بعد أن أقسم لي بقبر أمه أنه لن يبوح بسري، وبعد أيام جاءت إلى المنزل عربة من عربات نقل الأثاث حين كان زوجي في عمله، فنقلت ما أخذت إلى الإسكندرية، وقبل أن يحضر زوجي كنت قد سافرت أنا والمربية والطاهي إلى مقرنا الجديد.
Unknown page