وكثيرا ما كان يبدي دهشته ويقول: هذا أعجب ما رأيت! امرأة تقاوم سلطان الأمومة ، وتأبى أن تحمل وتلد، وأب يريدها أن تنجب فتقاوم إرادته، لقد رأيت عكس ذلك غير مرة إشفاقا من الآباء على أولادهم في مستقبل حياتهم وعيشهم، أما أن تقف امرأة هذا الموقف، فلا تفسير له عندي إلا من أنانيتها وحرصها على شبابها وحريتها.
ولم يكن هذا الهجوم يزعجني، بل كنت أقاومه بسلاح المرأة، كنت أبتسم وأعانق زوجي، وأقول له: هب هذا الاتهام الذي توجهه إلي صحيحا، فلمن أحتفظ بهذا الشباب؟! ألست أحتفظ به لك؟ وأنت تعلم أن حريتي كقلبي في ملكك، وكنت أسوق إليه من معسول القول ما يذيب اعتراضه وغضبه، وما يرده إلى حال من الرضا لا سبيل له إلى مقاومتها؛ لأنه يحبني بقلبه وعقله وكل وجوده.
على أن ذوبان غضبه لم يكن ينقله إلى معسكري، فقد كان عنيدا في إصراره على رأيه، لا تزحزحه عنه حجة، ولا يصرفه عنه برهان، وكان برغم ذلك ضعيفا أمامي كل الضعف؛ ضعف الأم لابنها، فكنت أنا طفله المدلل، يعمل جهده إلى إجابة رغباتي وإن لم تعجبه، ما دام لا يرى فيها مضرة ولا شنعة. وقد انتهى بعد المناقشات التي دارت بيننا إلى الاقتناع بأن أمومتي من شأني، وأنه لا يستطيع أن يرغمني فيها على شيء لا أريده.
وشاءت الأقدار أن تعاونني على التشبث بعزمي والوفاء بعهدي، فقد كان في مقدمة ما أدت إليه مظاهرة السيدات السياسية من تطور اجتماعي أن رفعت الحجاب، وأباحت للمرأة أن تخرج مع زوجها أو أبيها أو أخيها أو الأقربين من محارمها، وأن تتحدث إلى من يلقونهم في هذه الحال من الرجال، وكانت المرأة من طبقتنا لا تملك إلى ذلك العهد أن تحادث رجلا غير محرم، فإذا خرجت إلى الطريق مع زوجها وصادفا رجلا يعرف الزوج، وأراد أن يتبادل معه مجرد التحية، انتحت المرأة جانبا وأدارت وجهها حتى لا يراه هذا الأجنبي؛ لأن وجهها كصورتها كانا عورة لا يجوز أن يطلع عليهما الرجال. وكان لزوجي أصدقاء من رجال السلك السياسي الأجانب لا أدري كيف ولا متى عرفهم ، فلما حدث ذلك التطور بدأ زوجي يدعوهم وقريناتهم لتناول الشاي عندنا، وكان طبيعيا أن أقابلهم وأن أتحدث إليهم كما كان هو يقابل زوجاتهم ويتحدث إليهن.
وصادف ذلك التطور الاجتماعي تطور سياسي يقابله؛ ذلك أن اعترفت إنجلترا باستقلال مصر، وأن أعيدت وزارة الخارجية المصرية، وكانت قد ألغيت منذ بداية الحرب العالمية الأولى، وترتب على عود وزارة الخارجية لدولة مستقلة أن بدأت تلك الوزارة تنظم التمثيل السياسي والقنصلي للبلاد في الخارج، وبدأت أسمع أنهم يرشحون لهذه المناصب من فئات مختلفة كانت فئة الأطباء من بينهم، ثم علمت أن أطباء من معارفنا رشحوا بالفعل لهذه المناصب.
قلت فيما بيني وبين نفسي: ولم لا يعين زوجي في لندن أو باريس أو روما، فنستمتع بالحياة في هذه العواصم الكبرى بما فيها من آثار الفن والجمال، ويكون بيننا وبين الدبلوماسيين والقنصليين من كل الأمم علاقات طيبة نستريح إليها، وتفيد مصر منها؟! فإذا تحقق هذا الأمل كان أوجب علي أن أستمسك بعهدي، وأن أقف بأمومتي عند ابني وابنتي.
وداعبني الأمل، ثم تحكمت في رغبة الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، فأفضيت لزوجي بخلجات نفسي، وذكرت له أسماء الأطباء المرشحين لهذا السلك، وطلبت إليه أن يعمل جهده ليرشح كما رشحوا، وكنت أظن أنه سيرحب بهذه الرغبة ويطير لتحقيقها، ولشد ما كانت دهشتي عندما أبدى لي الرغبة عن كل تفكير في هذا الأمر، وكانت حجته أن الأطباء الذين رشحوا للسلك ليست لهم في عالم الطب مكانة، وليس لهم بين الأطباء مثل اعتباره، فإذا هو بذل من جانبه أي مسعى لتحقيق رغبتي جنى ذلك على مركزه وعلى عمله، وهو - بعد - طبيب ناشئ استطاع أن يبلغ في فنه بمجهوده مقاما محمودا، فمن سوء الرأي صرفه عن الطب إلى غيره إرضاء لنزوة طارئة.
وعبثا حاولت أن أعدل به عن رأيه، فقد بلغ من تشبثه به أن طلب إلي ألا أعود إلى مخاطبته في الأمر، أو إظهار الأسف على رغبته عنه، وزارني والدي يوما فأبديت له رغبتي، وذكرت له عناد زوجي، فابتسم وقال: إن زوجك رجل عاقل، وهو يعلم كما يعلم كثيرون أن هذه المناصب لا تعطى اليوم للشبان المتزوجين مجانا، فهل أنت مستعدة لدفع الثمن؟ وأجفلت فزعة لسماع هذه العبارة، ولم أحر جوابا، ولم أعاود الحديث مع زوجي في هذا الموضوع من بعد.
ثم إنني قدرت بعد أن رويت في هذا الأمر أن أبي أراد بعبارته المزعجة أن يصدمني ليصرفني عن التفكير في أمر لا يرغب فيه زوجي، وذلك إبقاء على مودتنا وما يعرف من حبنا المتبادل.
وتمكن هذا التفكير من نفسي، ودس إلى قلبي جرثومة أخذت تعبث بعاطفتي نحو زوجي، وعملت هذه الجرثومة عملها بتوالي الأيام، حتى توهمت أن ما يقوله زوجي عن مكانته في الطب لا حقيقة له، وأنه من قبيل الخداع النفسي؛ اعتذارا عن عجزه عن أن يسعى لينال المنصب الذي أصبو إليه، وأن هذا العجز ضعف غير لائق بالرجال.
Unknown page