لا ريب أن عمتي لن تلبث أن تغادرنا إلى قريتها وتترك أمر البيت وتدبيره إلى الزوجة الجديدة التي حلت محل أمي، وأصبحت ربة البيت ومن فيه، وستغادرنا عمتي بعد أن دبرت هذا الزواج مع أبي، وبعد أن علمت به منذ عدنا من الإسكندرية، ثم كتمته عني كل هذا الزمن.
وطال احتباسي في غرفتي، ولم يدعني أبي ولم تدعنى زوجه للانضمام إليهما، ولم تفكر عمتي في الدخول علي لمواساتي، وأغلب الظن أنهم رأوا الخير في تركي أسلس العنان لعواطفي في هذه اللحظة الأولى؛ تقديرا منهم لما أثاره هذا الموقف في نفسي من ذكر أمي وذكر مرضها وموتها، لكنني لم أقدر الأمر على هذا النحو في هذه اللحظة، فقد أيقنت أن العزلة أصبحت نصيبي، وأن هذه الزوج الجديدة قد اختطفت أبي كما اختطف الموت أمي، وأني لم يبق لي إلا أن أعتصم برحمة الله وأنزل على حكم قضائه القاسي.
ولم يدر بخاطري أن زوج أبي لم تلبث بعد أن اطمأنت إلى مكانها من بيتها الجديد أن قامت تدور في أرجائه لترسم في ذهنها صورته، ولترسم بعد ذلك أسباب تدبيره، وإنني لفي مجلسي من غرفتي وقد جف دمعي، وإن ظلت عيناي محمرتين من أثر البكاء، إذ فتح الباب ورأيت الأب والزوج والعمة يدخلون علي ثم يقول أبي موجها الكلام إلي: أنت هنا يا ابنتي! وسرعان ما أقبلت زوجه نحوي وأخذت تطري نظام الغرفة وحسن ذوقي في تنسيقها، وكان صوتها رقيقا فيه من الحنان ما لم تتكلفه، فلما آن لهم أن يتركوا الغرفة أخذتني من يدي، وأخذت تسألني عن شأني سؤال من يعنيه أمري ويحرص على راحتي، ونظرت إليها ألتمس مبلغ الصدق في كلامها فسحرني جمالها، وخلتها ملاكا كريما بعثت به السماء ليضمد جراحي، ويأسو كلوم قلبي!
وسرت إلى جانبها وهي ممسكة بيدي، فلما كنا في البهو وأخذنا مجالسنا منه رأيتها تفتح حقيبة وتخرج منها عقدا جميلا تثبته حول عنقي، ثم تخرج من حقيبة يدها مرآتها الصغيرة لأنظر جمال العقد على صدري، ونظرت في المرآة فأعجبني العقد، وكان أول مصاغ تحليت به من نوعه، وأدرت عيني إلى ناحية أبي، فإذا على ثغره ابتسامة راضية تشهد باغتباطه لما يرى.
غادرتنا عمتي بعد ثلاثة أيام إلى قريتها، وانخرطت أنا في نشاطي المدرسي، وفي الدروس الخاصة التي كنت أتلقاها في اللغة العربية وفي الديانة، وأنا أحسب أن شيئا ما لم يتغير في حياتي المنزلية، ترى هل كان للجمال البارع الذي اختصت به زوج أبي أثر في هذا الحسبان؟ فقد تخطت الثلاثين وكانت في نظرتها مع ذلك براءة الطفولة، وفي ضحكتها سذاجة الصبا الذي تتفتح عنه هذه الطفولة، وكانت قسمات محياها كأنما صورها فنان أدق تصوير مر بخياله، وكان شعرها الناعم الفاحم المنسدل على كتفيها خير إطار يزيد حديث عيونها بلاغة، وجمال قسماتها روعة وسحرا، وكان قوامها بهجة للنظر باعتداله ودقته، وكان كل شيء فيها يقف الناظر إليها مسبحا بقدرة الخالق الذي أبدع هذه الفتنة الباهرة، وكانت حركاتها وسكناتها طبيعية، وتبدو مع ذلك وكأنما درست بعناية لم تذر للمصادفة حظا في شيء منها، وكنت كلما رأيتها سحرت بها وازددت إيمانا بالله بارئها وشعرت بأن لجمالها من السلطان على جناني ما كان لحنان الأم الرءوم من السلطان على وجودي كله.
تنصفت السنة الدراسية ثم قاربت نهايتها وأنا منكبة أشد الانكباب على دروسي، ووالدي يحضر كعادته درسي الخاص مع الشيخ موضع ثقته، وإنني لكذلك إذ مرضت وانقطعت عن المدرسة قرابة عشرة أيام، فلما أبللت وأردت الإقبال على الدرس لأستعيض ما فاتني في أثناء علتي، دعاني والدي إليه وقال لي: «لقد رأيت يا ابنتي خوفا على صحتك أن تنقطعي عن المدرسة ولا تذهبي إليها منذ غد.»
ولم يكن لي عهد بأن أناقش قرارا اتخذه، فخرجت من عنده وآويت إلى غرفتي وقد عرتني الدهشة، صحيح أنني كنت أسمع زوج أبي تبدي من البرم بتعليم البنات الشيء الكثير، وتذكر أن البنت خلقت للبيت وللأمومة، لا لممارسة الأعمال والوظائف الحكومية، وأن الخير لذلك كل الخير في أن تتدرب منذ صباها الباكر لتتقن ما ستقوم به في مستقبل حياتها.
لكني لم أكن أعير حديثها في هذا الشأن بالا؛ لأني كنت أعلم أن أبي على غير هذا الرأي، وأنه يرى أن تعليم الفتاة تعليما عاليا بعض ما يجب لكمال وجودها الإنساني، واحتياطا لمستقبلها حتى يكون لها فيه من الحرية ما يرفع عنها ذلة العبودية للرجل، أيا كان مصدر هذه الذلة، فماذا حدث؟ ما الذي دفع والدي ليبلغني هذا القرار ولم أبلغ بعد من التعليم غاية مرحلته الثانوية؟ وهل للمرأة من الأثر على الرجل، وإن كان حصيفا حصافة أبي، أن تبدل تفكيره كما تشاء؟ أم أن السلطان كان لهذا الجمال الساحر الذي اختصت به زوج أبي؟ أيا كان الأمر لقد أيقنت من اللهجة التي أبلغ بها هذا القرار إلي أنه قرار مبرم، لا رجعة فيه.
وكان لهذا القرار أسوأ الأثر في حياتي، فقد أنشأ عندي عقدة نفسية لازمتني، ولم أنج قط منها ، وقد كان الأثر الأول لقرار أبي أن بدأت أعرف ما كنت أجهل، بدأت أعرف الكراهية، وكان قلبي لا يعرف غير الحب، كنت أحب الناس على اختلاف طبقاتهم، وكنت أحب الطبيعة وفتنة جمالها، وكنت أحب الحيوان والطير، وكنت أحب الحياة ونعمتها حبا جما؛ ذلك بأنني لم أشعر منذ ولدت بما يزهدني في الحياة، بل كان المتاع بها وبكل ما فيها بعض حظي. لقد كنت وحيدة بين أمي وأبي، وكانا يفيضان علي من حنانهما وبرهما ما يجعل الهواء الذي أتنفسه كله الحنان والرحمة، وكله المحبة والود، وكله نسمات السحر وبسمات الزهر وأغاريد الطير والشذا المتضوع بأرق العواطف وأحلاها، لكني ما لبثت حين سمعت هذا القرار يبلغه إلي أبي أن شعرت بأن زوجه صاحبة الوحي به، وأن ما أسمعه عن زوج الأب وبرمها بأبناء زوجها صحيح، وشعرت لذلك بهذه العاطفة الكريهة عاطفة الكراهية تندس إلى قلبي، وتجد منه مكانا لم يكن لها من قبل فيه موضع.
وعجبت كيف ينطوي هذا الجمال الفاتن الذي صوره الله في هيئة هذه المرأة على روح خبيثة كل هذا الخبث، وكيف تستر هذه النظرات البريئة قلبا آثما كل هذا الإثم! وأيقنت في قرارة نفسي أن برمها بتعليم البنت لم يكن رأيا تؤمن به وتبديه، بل كانت البنت أنا، وكانت برمة بتعليمي أنا، ولهذا لجأت إلى كل وسائلها وكل حبائلها وكل شباكها، فانتشرت بسلطان جمالها في دخيلة أبي، وحملته على أن يتخذ قراره فيحرمني نعمة كانت لذتي وسلواي، وكانت صارفي عن أن أرى ما في الحياة من قبح وسخف.
Unknown page