فهز ابن صفوان رأسه وتنهد وقال: «أسأل الله لكما السلامة.»
وما لبث حسن وليلى أن ابتعدا عن بيت ابن صفوان وخرجا من مكة حتى لقيهما رجال الحجاج، فعرفوا ليلى ولم يعترضوهما، فواصلا السير حتى أقبلا على معسكر الحجاج.
نظر حسن إلى المعسكر والأعلام تخفق فوقه والخيام ممتدة على مسافة بعيدة، فعظم أمر الحجاج في عينيه وقال: «يا ليلى إن الأمر صائر إلى هذا العاتي لا محالة، وإني لينفطر قلبي كلما تصورت مصير عبد الله بن الزبير. أتظنينه مغرورا بنفسه؟»
قالت: «كلا، ولكنه يعتقد أنه على الحق.»
قال: «ما الذي أراه على جبل أبي قبيس؟»
قالت: «ألم تر وقوع الأحجار على الكعبة. إن الحجاج نصب منجنيقاته على الجبل وهو يرمي الحجارة منها على الكعبة. ومع المنجنيقات فصيلة من الجند.»
قال: «وأين خيام النساء التي تقيم بها سمية؟»
فقالت: «نحن سائرون الآن إلى خيمة الحجاج، وهي الكبيرة القائمة في وسط هذه الخيام، وسأدخل أنا ثم أخرج وأسير بك إلى مكان أعرفه، وأذهب إلى هند بنت النعمان فأرى سمية هناك وأقص عليها قصتك، وأتفق معها على موعد تلتقيان فيه خارج المعسكر.» وما زالا سائرين حتى أقبلا على خيمة كبيرة قائمة على بضعة عشر عمودا أمامها أناس بالحراب ، وآخرون بالسيوف، وهم أشبه بالحراس عند الروم - وكان بنو أمية قد اقتبسوا نظام الحرس من الرومان وتوخاه عمالهم إرهابا للناس - وقبل وصولهما إلى الباب أناخا الجملين، ونزلا فمشت ليلى والناس يوسعون لها وحسن يسير في أثرها حتى وقفت بباب الخيمة، فدخل أحد الحراس يستأذن لها ثم عاد يدعوها إلى الدخول، فدخلت وظل حسن مع الواقفين بالباب وهو في شوق شديد لرؤية الحجاج، وقد طالما سمع به وبعظم أعماله، فوقف بحيث يستطيع رؤيته من باب الخيمة. فإذا هو جالس في صدرها على سجادة ثمينة وقد تربع ووضع السيف على فخذيه تحت مطرف من خز ألقاه على كتفيه وأداره على جنبه. ورآه لما دخلت ليلى رحب بها بصوت أرق مما كان يتوقعه، وكان الحجاج رقيق الصوت إلا إذا استفاض في الخطابة فيرتفع كثيرا. وتفرس حسن فيه وهو يخاطب ليلى فإذا هو أخفش العينين، مقطب الوجه، ولم يجد في وجهه قبولا للابتسام أو الضحك. •••
لاحت من حسن التفاتة إلى جلساء الحجاج، فرأى رجلا لم يكد يتبينه حتى اضطربت جوارحه واستعاذ بالله من رؤيته؛ فقد كان عرفجة أبا سمية، وقد جلس بجانب الحجاج يقضي ويمضي وله الحول والطول. وأدرك حسن أن عرفجة لم ينل هذا المنصب إلا بتضحية ابنته سمية، فهاجت عواطفه وحدثته نفسه بأن يفتك به انتقاما منه، ولكنه ما لبث أن عاد إلى رشده وعلم بما يحيط به من الأخطار، فأشاح بوجهه إلى خارج المعسكر لئلا يلاحظ أحد عليه شيئا. كما خشي أن يراه عرفجة فيعرفه ويدبر له مكيدة أخرى، فمشى متظاهرا بأنه يسير على غير هدى حتى بعد عن خيمة الحجاج.
ثم سمع ليلى تناديه فسار إليها وتبعها والجراب معلق في كتفه بوصفه راويتها. وبعد أن قطعا مسافة في المعسكر قالت: «انظر إلى هذه الخيمة بجانب هذه الراية إنها خيمة القادمين من الشعراء وغيرهم، فأقم بها ريثما آتيك أو أبعث إليك.»
Unknown page