وفي هذه القصيدة، يصور حافظ حالته النفسية، واشتداد عذابه داخل السجن، لدرجة أن الأمر اختلط عليه: أيشكو أمره لله أم للناس؟! وهذا استفسار تعجبي، يعكس مدى حيرة حافظ. فقد لازمته الهموم، لدرجة أنه أصبح سلعة لها تباع وتشترى! ويا ليتها سلعة ثمينة، فقد أصبح عبدا ثمنه أقل من درهم، بسبب ما به من عيوب! لذلك يقضي الليل بطوله ينعي حظه، حتى يأتيه السجان فيجبره على النوم بالسوط. وفي الصباح يبدأ حافظ يوما جديدا من عذاب الفكر في الهموم والأحزان، فيتمنى الموت في هذا اليوم وفي كل يوم! فقد صبر بما يكفي، لدرجة أن الصبر مل من صبره!
ولم يبق له في الحياة أي صديق، فقد أنكره كل الأصدقاء، ممن استفادوا من فضله، وأصبحوا يعيرونه بذله وسجنه! ولو كان قدم هذا الفضل إلى كلب لكان الكلب حفظ الجميل وأصبح أفضل من الصديق! ولو قدم هذا الفضل في واد، لظهرت نتيجته في نباته اليانع، أو ظهرت خصوبته لو كان واديا مقفرا! ولو قدمه إلى وحش، لاستأنس هذا الوحش، وتحدث بأفضال حافظ نجيب عليه وسط الوحوش! ولكن بكل أسف قدم حافظ هذا المعروف إلى الإنسان الجاحد! الذي يتشبه بالأعمى، الذي لا يرى نور الشمس. وهذا الإنسان الجاحد، ما هو إلا الحاقد الحاسد على حافظ بسبب همته واقتداره ونبوغه!
فعلى سبيل المثال عندما كان حافظ يقول الشعر، كان يظن الناس أن هذا الشعر كلمات مقدسة، فيصلي به البعض، والبعض الآخر يكبر به! فلولا حبه وما جره عليه هذا الحب من مهانة وإذلال في السجن، لكان نجما لامعا من نجوم المجتمع، ولكان في منزلة عنترة بن شداد! ولكن هذا هو حكم الحب الذي يذهب بعلم العالم، وبقيمة الإنسان! وعلى الرغم من ذلك فحافظ نجيب، رغم أنه في السجن، إلا أنه كالذهب المدفون في المناجم، ما أن يظهر للإنسان حتى يبهره ببريقه، مهما كان متسخا بالأتربة والرمال! فعندما يتخلص حافظ من سجنه، سيعلم الجميع مقداره الحقيقي، وكم هو مظلوم بسبب حكم قاض، حكم بالأدلة الظاهرة.
ومن سجن الحضرة أيضا، قال:
8
طال البعاد على السجين المغرم
فتندم الرجل الذي لم يندم
ما نام في ليل على مهد الأسى
إلا وقلبه النوى كالمجذم
تزكو به نار الغرام مكرها
Unknown page